قراءة في كتاب

محمود محمد علي: جاك ماريتان" الفيلسوف الملهم لـ "جو بايدن" (2)

محمود محمد عليتستند فلسفة عائلة "ماريتان" إلى أدلة مستمدة من الحواس المكتسبة من خلال فهم المبادئ الأولى. دافع ماريتان عن الفلسفة بأنها علم معارض لأولئك الذين يحطون منها، وروج ذلك للفلسفة باعتبارها "ملكة العلوم". أكمل "جاك ماريتان" في عام 1910 مساهمته الأولى في الفلسفة الحديثة، مقال يتكون من 28 صفحة بعنوان "العقل والعلوم الحديثة" نشر في مجلة "مراجعة الفلسفة" (عدد يونيو). حذر في مقاله من أن العلم أصبح اليوم إلاها، يغتصب منهجه دور العقل والفلسفة. حل العلم محل العلوم الإنسانية في الأهمية (15).

أما بالنسبة للفلسفة التومائية فيقول ماريتان " أن التومائية ترى أن حياة العقل ينظر إليها من جانبها العقلي الخالص والاستنباطى ومن وجهة نظر الترابط بين التصورات بعضها البعض و أن هذه الحياة تقدمية فى جوهرها وانتقال من الغير إلى الغير فى الروح (16). وفي رأيه أنه لا صدام بين الإيمان والعقل, وأن المعتقد عقلاني، ومع ذلك فان القانون المتحكم في الطبيعة البشرية مشتق من القانون الإلهي, وأن الخير الخاص متسق مع الخير العام الذي يحدده المجتمع. ومع ذلك فثمة خير آخر يتجاوز الخير العام وهو ما يسميه "ماريتان" الخير الروحي، وعلي الجماعات السياسية، أن تعترف بذلك الخير وتمارسه؛ وتأسيسا علي ذلك كله يرفض "ماريتان" الأنظمة السياسية التي ليست محكومة بسلطان الله، أو بالأدق بمركزية الله (17).

ومن منظور تومائي دافع "ماريتان" عن ميتافيزيقا الوجود، والتصور الطبيعي للعقل، وعن قيم الفضيلة الأرسطية، ورفض بشدة التصورات الوضعية والتاريخانية الحديثة، بل أدان بشدة النظم العلمانية المعاصرة وما يرتبط بها من قيم مدنية، وإن انتهى في آخر محطات مساره الفكري إلى قبول أطروحة الفصل بين الدين والدولة، مع التشبث بمكانة الدين الثابتة في النسق الأخلاقي العام (18).

كان الباباوات الثلاثة الذين سبقوا بابا الفاتيكان الحالي من أشياع وأتباع ماريتان، بدءاً ببولس السادس الذي كان شديد القرب من الفيلسوف الكاثوليكي الفرنسي، وبينهما مراسلات طويلة تتمحور حول النزعة الإنسانية الجديدة التي بشّر بها البابا في مقابل الإنسانية التنويرية الملحدة، والنزعة الماركسية المتعارضة مع الضمير الأخلاقي للمسيحية (19).

أما البابا يوحنا بولس الثاني، فقد اعتمد على فكر ماريتان في نزعته العقلانية ذات الخلفية الطبيعية التومائية، بما يبدو جلياً في ثلاثيته المتعلقة بالحرية والحقيقة والخير. وقد عبّر البابا "يوحنا بولس" عن الدَّين الذي يشعر به إزاء ماريتان خلال المناسبة الاحتفالية التي أقيمت للفيلسوف الراحل في الفاتيكان عام 1982 بمناسبة مئوية ميلاده، معتبراً على الخصوص أن ماريتان جدد الفلسفة التومائية وطرحها بديلاً فلسفياً ناجعاً للقرن العشرين من منظور يفتح العقل على المُفارِق والمطلَق وعلى رسالة الخلاص الأزلي المسيحية (20).

أما البابا السابق بنديكت السادس عشر الذي هو دون شك من أكبر العقول الفلسفية اللاهوتية المسيحية المعاصرة، فقد ركز اهتمامه على إشكالية العقل والإيمان، التي هي إشكالية تومائية تقليدية، استأثرت بجانب كبير من مشاغل "جاك ماريتان". وفي هذا السياق، نجد لدى البابا المتنحي أطروحة ماريتان حول "العقل المتسع"، أي قدرة الإيمان على تنشيط العقل وإخراجه من عزلته الضيقة، ليكتشف الجوانب العقلية في الوجود في أبعاده المختلفة (21).

قد تكون اهتمامات البابا الحالي فرنسيس بعيدة عن المنحى الفلسفي لماريتان في لغته الميتافيزيقية العتيقة، وأقرب للتيارات الاجتماعية في الكاثوليكية التي انتشرت في أمريكا اللاتينية (وعرفت بـ"لاهوت التحرير")، لكنه كغيره من اللاهوتيين الكاثوليك تظل مرجعيته تومائية، وبالتالي يبقى في صلة تأثر وقرابة بماريتان (22).

إن هذه الأطروحة ذات الخلفية اللاهوتية البعيدة هي ما يجعل من ماريتان فيلسوف اللحظة الراهنة في المجتمع الأمريكي  ؛ خاصة بعد أنُشئ معهد جاك ماريتان بجامعة نوتردام في عام1958 ومعه أنشئت عشرون جمعية تنشغل بدراسة فلسفة جاك ماريتان. وقد امتد تأثيره إلي أمريكا الجنوبية وماريتان في هذا التأثير مروج لمعاداة العلمانية والتنوير بحكم التزامه بفلسفة توما الأكويني المتناقضة مع الرشدية اللاتينية (23).

وحول فلسفته الاجتماعية ففى عام 1926 أصدر البابا قرارا بإدانة الحركة، أو الحزب اليمينى المنتمى إليه ماريتان، فتخلى ماريتان عن ارتباطه بالحركة ثم أصدر عام 1936 كتابه " النزعة الإنسانية الكاملة " وانتقد غزو إثيوبيا وهاجم الملكية بعد تولى زمام الأمور فى فرنسا للاشتراكيين والشيوعيين، وأخذ يغازل الديمقراطية ، وأصبح ماريتان رغم انتقاده لأسس الفلسفة الليبرالية، ولكنه أصبح يقف جانبها فيما يتعلق بالسياسة العملية، وصار من اشد المدافعين عن التقليد الجمهورى فى فرنسا، ولكن من وجه نظر الدين الكاثوليكى؛ حيث حرص ماريتان على توضيح دور الدين فى الحياة، فهو يرى أن مع اهتمامه بالعلم والفلسفة ، ولكن ذلك يكون فى نطاق الدين أيضاً، وأن كان الدين فى حاجة للقديسين، فذلك يعنى أن الدين هو الأساس (24).

ويرى ماريتان أن المجتمع المدني يقوم على أساس المصلحة المشتركة والعمل المشترك ، وهما شيئان ذوا صفة أرضية، أو زمنية، أو دنيوية؛ وفى العصر الحديث جرت محاولة لتوطيد أسس الحياة الدنية على أساس العقل فحسب منعزلاً عن الدين ، وقد انتعشت هذه المحاولة ولكن سرعان ما أخفقت ونظراً لتهميش دور الدين، ومن خلال ذلك يرى "ماريتان" أن تقوم ديمقراطية جديدة ليست علمانية، بل تضع الدين ضمن إطارها ، وبالتالى يكون ممكناً لبناء مجتمعا سليما، ويرى ماريتان أن كل مجتمع بشرى، إنما هو بناء قائم على السلطة؛ أى يحتوى على تنظيم لتسلسل السلطة، فبعض الناس يأمرون والآخرون يطيعون، وان كان المجتمع متساوياً، فلا بد من وجود فوانيين يرضخ لها الجميع، وذلك الخضوع قد يكون بالإكراه، أو الرضا، وأن كان بالرضا، فلا بد للخاضعين أن تكون لهم قيم يؤمنون بها (25).

وقد صرح مؤخراً الرئيس الأمريكي "جو بايدن" ، بأن فيلسوفه المفضل الذي يستمد منه برنامجه السياسي والاجتماعي هو "جاك ماريتان"، وهو لم يكن أغلب الناس قد سمع باسم هذا الفيلسوف الفرنسي المسيحي المتوفى سنة 1973. صحيح أنه تقريباً غير معروف في بلاده باستثناء حضوره في الأوساط اللاهوتية المسيحية، لكن له سمعة واسعة وتأثير كبير في أمريكا الشمالية والجنوبية. كان إذن من الطبيعي أن يعلن الرئيس الأمريكي الكاثوليكي عن إعجابه بهذا الفيلسوف الذي نشأ في بيئة بروتستانتية غير متدينة، لكنه اعتنق الكاثوليكية وأصبح من أهم المدافعين عن خط التومائية (فلسفة اللاهوتي الكبير توماس الإكويني) التي لا تزال هي المرجعية الأساسية لدى المؤسسة الدينية الكاثوليكية (26).

وبطبيعة الأمر، ليست هذه الجوانب الميتافيزيقية، هي التي يعني "جو بايدن"، حين يتحدث عن تأثره بفكر جاك ماريتان، بل إنه يعني فلسفته الاجتماعية التي تتمحور حول فكرتي التضامن الإنساني والعلاقة العضوية بين الفرد والمجموعة المدنية والأخلاقية (27).

إن "ماريتان" الذي يهم الرئيس بايدن هو مؤلف كتاب "الإنسانية الكاملة" الذي يدافع فيه عن حداثة ليبرالية تستبطن قيم التراحم والتعاضد التي نادى بها توماس الاكويني، وهو النهج الذي شكّل الإطار المرجعي للنزعات الديمقراطية المسيحية الأوروبية ومجموعات اليسار الكاثوليكي التي كانت نشطة في الأوساط النقابية العمالية (28).

إنها إذن كاثوليكية مختلفة عن المؤسسة اللاهوتية الأميركية المحافظة التي لم تتحمس للرئيس الكاثوليكي الثاني في تاريخ الولايات المتحدة، رغم إظهاره لانتمائه الديني وتردده الدائم على الكنيسة واستشهاده بنصوص القديس أوغسطين وتوماس الاكويني، ورغم علاقة الصداقة القوية التي تربطه بالبابا الحالي فرنسيس (29).

في كتابه "الإنسان والدولة" الصادر في بداية الخمسينيات، يبلور ماريتان تصوراً جديداً لعلاقة الدولة بالفرد في إطار نقد صارم لفلسفة الدولة المطلقة الكلية لدى هيغل، معتبِراً أن الشرط الأساس لحماية الإنسان من قبضة الدولة الحديثة هو الرجوع إلى نظرية "القانون الطبيعي" التي تكرس الأولوية الأخلاقية والقيمية الإنسان على السلطة العمومية. وفي هذا الباب، يوجه نقداً مزدوجاً للماركسية التي تلغي حرية الإنسان باسم المثالية الاشتراكية ولليبرالية التي وإن أعلنت أولوية حرية الإنسان فإنها تنتهي إلى نفيها باسم مركزية السياسة وهيمنة الدولة (30).

وقد أفاد المؤرخ الكنسي “مسّيمو فاجيولي” (Massimo Fagioli) في مؤلفه الذي صدر في أوائل هذا العام حول: “الوضع الديني في أمريكا”، أنّ بايدن هو كاثوليكي، لكنه ليس مُتمسّكاً بالتقاليد الكنسية. وقد ترسّخ إيمانه، وتأثّر بشخصية البابا يوحنا الثالث والعشرين (1958-1963)، ونتائج المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، الذي أصدر قرارات مهمة في تحديث الكنيسة، والإنفتاح على كل المذاهب المسيحية والإسلامية واليهود. وقد حلّل فاجيولي مقاربة الكاثوليك في أمريكا، حيث أنّ هناك بعض الأساقفة التقليديين يتحدّى سلطة البابا فرنسيس في ما يتعلق بمفاهيم المجتمع الحديث، وانفتاح الكنيسة على “الضالّين” من المؤمنين المُثليين، المُطلّقين (31).

وقد أشار فاجيولي إلى أنّ أساقفة عديدين تأثّروا بالبابا يوحنا بولس الثاني (1978-2005) والبابا بنديكتوس السادس عشر (2005-2013). وقد اعتنقوا التوجه المحافظ في الكنيسة، علماً أن الأخير شجّع على تبنّي الحركة المحافظة التي تميل إلى الليبرالية (Neointegralisme).؛ وقد دعا فاجيولي هذا الجناح من الكاثوليك ب”حزب الشاي الكاثوليكي”، حيث كان قسمٌ منهم من الموالين للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. وبالمقابل، فإنّ بايدن دافع عن الكاثوليكية المسكونية، والتعاون مع الكنائس المسيحية الأخرى (32).

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

(15) عبد الرحمن بدوي : موسوعة الفلسفة ، الجزء الثاني، بيروت، ص 280.

(16) د. رمضان الصباغ: المرجع نفسه، ص 17.

(17) عبد الرحمن بدوي: المرجع نفسه، ص 283.

(18) السيد ولد أباه: بايدن والكاثوليكية الاجتماعية/ نشر في: 17 أغسطس ,2021: 10:50 م GST.

(19) المرجع نفسه.

(20) المرجع نفسه.

(21) المرجع نفسه.

(22) المرجع نفسه.

(22) المرجع نفسه.

(23) المرجع نفسه.

(24) د. رمضان الصباغ: المرجع نفسه، ص 17.

(25) المرجع نفسه، ص 18.

(26) السيد ولد أباه: المرجع نفسه.

(27) المرجع نفسه.

(28) المرجع نفسه.

(29) المرجع نفسه.

(30) المرجع نفسه.

(31) عزالدين عناية: المرجع نفسه.

(32) المرجع نفسه.

 

 

في المثقف اليوم