صحيفة المثقف

صالح الفهدي: كَبِّرْ الصورة

صالح الفهديوصلتني صورةٌ لو أنني نظرتُ إليها بتعجِّل لرأيتُ على رأسِ الشَّابِ فيها تقليعةَ شعرٍ غريبة الأطوارِ، ولأصدرتُ حكميَ المتسرِّعَ عليه، لكنني نظرتُ إليها بمهل، وكبَّرتُ الصُّورة، فرأيتُ أن وراءَ رأس صاحب الصورةِ قمَّة نخلةٍ بدت أشبه بتقليعة شعرٍ في سَعَفِها!!

استدعت هذه الصورة في ذهني فكرة "الصورة الكبيرة big picture" في علم "التفكير المنظومي System Thinking" والتي تهدفُ إلى العلاقات المترابطة للأشياء لتشكِّل في نهايتها الصورة الكبيرة، وهذا العِلْم هو عبارة عن عملية يتم من خلالها الإلمام بجميع جوانب الموقف أو المشكل، وأخذها في الاعتبار بهدف فهم النظام ككل، وهو ما يساعد على رؤية الأسباب الجذرية للمشكلات والعلاقات والروابط والأجزاء بينها، مما يساعد على تقديم نظرة شاملة لهذه المشكلات للوصول إلى حلول شاملة.

وتأمَّلتُ في القرآن الكريم فوجدتُ أن الله سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى رؤية (الصورة الكبيرة) في قول الحق سبحانه وتعالى "وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(آل عمران/191)، من أجلِ فهم الأسباب والنتائج، والارتباط والعلاقة، والجزء والكل.

هذه واحدةٌ من أكبر الإشكالات في مجتمعاتنا وهي النظرة المحدودة للأمور، مما ترتَّب على ذلك إصدار الأحكام المتهوِّرة، وانتشار الشائعات بصورة واسعة..! فالذين لا يملكون مهارة "تكبير الصورة" أو لا يريدون أن يُجهدوا أنفسهم في تفعيل هذه الخاصيَّة ثم يجادلون الآخرين بأنهم يملكون الصواب هم أشبهُ بقصَّة العميان مع الفيل، فقد ورد في كتاب "أودانا" أن أحد الملوك السابقين أمر لمدينة سافاتي أمر بجمع رعاياه العميان وتقسيمهم إلى مجموعات، وبعد ذلك أُخذت كل مجموعة إلى أحد الأفيال ووضعت أمام جزء معين من جسد ذلك الحيوان، كالرأس والخرطوم والذيل والأرجل وهكذا. وفيما بعد طلب الملك من كل مجموعة أن تصف له طبيعة ذلك الحيوان. فأما الذين لمسوا رأس الفيل فوصفوه بأنه جرَّة ماء، وأما الذين لمسوا أذن الفيل فشبهوهُ بمروحة ذرِّ الغلال، وأما أولئك الذين لمسوا قدم الفيل فقالوا إنه يشبه العمود، وأما الذين لمسوا نابه فأصروا على أن الفيل يشبه الوتد، فأخذت تلك المجموعات تتناقش فيما بينها، وتصرُّ كل مجموعة على أن تعريفها هو الصحيح وأن الآخرون مخطئون..!

هذه صورةٌ تنطبق على كثيرين لا يرون الصورة الكبيرة فيصدرون أحكامهم المجتزءة التي لا تكشفُ عن بقية الأجزاء الأُخرى، لهذا تعظم الخلافات، وتكثر المشاحنات، وتقطع العلاقات،ويعلو سوءُ الفهم، وتُصدر الأحكام من كل فردٍ أو مجموعةٍ وكلٌّ يدَّعي أن الحق إلى جانبه، والصواب لصالحه، في حين أن الجميع مخطيء لأنه لم ير أحد منهم الصورة الكبيرة، ولم يفهم العلاقات المترابطة والأسباب والنتائج..!

إن "تكبير الصورة" يحتاجُ إلى عاملٍ مهم قبله وهو "تكبير العقل" وفي الحالتين لا نعني المساحات وإنما نعني الوعي فهو المفتاح الأساسي لفهم الأمور في عمقها ومخابرها، وليس في قشورها ومظاهرها، وتكبير العقل يحتاجُ بدوره إلى ترقية الوعي، وتوسعة المدارك، وهذا يحتاج إلى تعلُّم ما يسمَّى بـ"الفكر الناقد critical Thinking" الذي يعلِّم الإنسان أن يكون حرَّاً ومستقلاً في تفكيره حينما يتأمل فيما يراه البعضُ حقائقَ، ومسلَّمات.

خُلاصةُ القولِ: أن مجتمعاتنا العربية بحاجة إلى "تكبير الصورة" من أجل التفكير بعمق في الأمور، ووضع الرؤى السديدة، وإصدار القرارات المدروسة، من أجلِ أن تتقدَّمَ في طُرقِ تفكيرها، وأنماطِ عيشها، ووسائلِ تقدِّمها، إذ لا يمكن لها أن تظلَّ محصورةً في الصور المحدودةِ، التي تعايشها بنظراتٍ عابرة، فذلك مما يبقيها في موضعِ قدمها إن لم يعيدها إلى الوراء..!

 

د. صالح الفهدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم