صحيفة المثقف

أقلام حرة

عندما نقرأ كتابًا قديمًا أو نستمع إلى حكمة من الماضي، غالبًا ما نرتكب خطأ شائعًا: نحاكمها بمعايير حاضرنا. ننظر إلى أفكار الأقدمين من خلال عدساتنا الحديثة، فنراها غريبة، أو ساذجة، أو حتى خاطئة. نقيس عقولهم بمسطرة عقلنا، وننسى أن كل عقل هو ابن زمانه، ابن عالمه الخاص. هذا التعالي يمنعنا من فهم أعمق حقيقة: أن العقل نفسه ليس شيئًا ثابتًا، بل هو كائن تاريخي يتغير ويتطور.

الفهم الحقيقي لا يكمن في فرض أفكارنا على الماضي، بل في القيام برحلة متواضعة إلى هناك. أن تحاول خلع حذائك الفكري، وأن تمشي حافي القدمين في أرض عقل آخر. أن تسأل: كيف كان العالم يبدو من خلال عيني هذا الشخص؟ ما هي المسلّمات التي كان ينطلق منها دون أن يشعر؟ ما هي الأسئلة التي كانت ممكنة في عصره، وتلك التي لم تكن كذلك؟

هذا ليس مجرد تمرين تاريخي، بل هو أساس الحوار الإنساني الحقيقي. عندما تتحدث مع شخص يختلف معك اليوم، فإنه يعيش أيضًا في "عالم" مختلف قليلاً عن عالمك، له افتراضاته ومسلماته الخاصة. إذا حاولت فقط أن تثبت له "صحة" عالمك، فسينتهي الحوار إلى صراع. أما إذا حاولت أن تقوم برحلة قصيرة إلى عالمه، وأن ترى المشهد من منظوره، عندها فقط يمكن أن يبدأ التفاهم.

تخيل أنك وجدت خريطة قديمة لمدينتك. قد تبدو لك غير دقيقة، بأسماء شوارع مختلفة ورسوم غريبة للمباني. يمكنك أن ترميها وتصفها بأنها "خاطئة". أو، يمكنك أن تستخدمها كآلة زمن. أن تتخيل نفسك تمشي في تلك الشوارع كما كانت، أن تفهم لماذا رُسم هذا الطريق بهذا الشكل، وماذا كان يوجد مكان هذا المبنى الحديث. عندها، لن تكون الخريطة "خاطئة"، بل ستصبح نافذة تطل على تاريخ مدينتك، وستفهم حاضرها بشكل أعمق.

كل فكرة هي خريطة لعالم ما. ولكي تقرأها بشكل صحيح، لا يكفي أن تنظر إليها، بل يجب أن تتعلم كيف تسافر عبرها. هذه القدرة على إعادة بناء عقل الآخر، على السفر عبر الزمن والثقافات، هي جوهر التواضع الفكري. وهي ما يحول تراكم المعرفة إلى حكمة حقيقية.

"لكي تفهم فكرة، افهم عقل صاحبها. عندما تقرأ نصًا قديمًا، لا تسأل فقط 'ماذا يقول؟'، بل اسأل السؤال الأعمق: 'كيف كان يفكر؟'. حاول أن تتخيل عالمه وافتراضاته. لا تفرض عليه قوالب تفكيرك الحديثة، بل سافر أنت إلى عالمه. هذه القدرة على إعادة بناء عقل الآخر هي جوهر التأويل الصحيح، وهي ما يسمح بحوار حقيقي ومثمر عبر العصور."

***

مرتضى السلامي

 

نحن نولد في عالم منسوج من القصص. قصص تخبرنا من نحن، وما هو الصواب والخطأ، وكيف يعمل العالم. بعض هذه القصص قديمة، نسميها أساطير وتقاليد. وبعضها حديث، نسميها إعلانات، أو أخبارًا، أو شعارات سياسية. تشترك هذه القصص في شيء واحد: أنها تقدم لنا عالمًا بسيطًا ومريحًا، عالمًا لا يتطلب منا عناء التفكير. إنها تمنحنا الأمان، لكنها في المقابل تسلبنا حريتنا.

الفلسفة هي إعلان التمرد على هذا الأمان المزيّف. إنها اللحظة الجريئة التي يقرر فيها الإنسان أن يتوقف عن تصديق القصص الجاهزة، وأن يبدأ في استخدام أداته الخاصة والفريدة: عقله. هذا التحول ليس سهلاً، فهو يتطلب شجاعة هائلة. شجاعة أن تقف وحيدًا وتقول: "أنا لا أقبل هذا، أريد برهانًا". شجاعة أن تفضل الحقيقة الصعبة على الوهم المريح.

كانت هناك قرية تعيش في وادٍ عميق، ولم تعرف نورًا سوى ضوء نار عظيمة لا تنطفئ في وسطها. أخبرهم الكهنة أن النار مقدسة، وأن الظلام الذي يحيط بالوادي هو وحش سيبتلع كل من يجرؤ على الخروج. عاش أهل القرية لأجيال في خوف من الظلام، وكرّسوا حياتهم لخدمة النار. في يوم من الأيام، قررت فتاة صغيرة أنها تريد أن ترى هذا الوحش بنفسها. أشعلت غصنًا صغيرًا من النار المقدسة، ومشت نحو الظلام. لم تجد وحشًا، بل وجدت نجومًا وأنهارًا وأشجارًا، وجدت عالمًا أوسع وأجمل بكثير من قريتها الصغيرة. لم تكن شجاعتها في مواجهة الوحش، بل في مواجهة القصة التي خلقته.

أن تكون فيلسوفًا هو أن تحمل مصباح عقلك الصغير وتجرؤ على المشي في ظلام الأفكار المقبولة. هو أن تفحص كل قصة تُعرض عليك، وتسأل: هل هي حقيقية؟ ما هو دليلها؟ من المستفيد من تصديقي لها؟ هذا النقد ليس فعل هدم، بل هو أعظم فعل بناء، لأنه يحرر مساحة في عقلك لتكتشف الحقيقة بنفسك، وتبني فهمك الخاص للعالم.

"كن فيلسوفًا، أي كن شجاعًا في استخدام عقلك. العالم من حولك مليء بـ 'الأساطير' الحديثة. لا تقبلها. مارس 'الشجاعة الفلسفية': شك في 'الروايات' الجاهزة. اسأل عن 'الأسباب' الحقيقية. ابحث عن البرهان. إن 'استخدام عقلك بنفسك'، و'رفض' كل أشكال 'الوصاية' الفكرية، هو 'الواجب' الأول للفيلسوف."

***

مرتضى السلامي

 

(الماضي) محطة ٌ مبكرة ومهمة ٌ في مسيرة حياتنا ولصيق بنا شئنا أم أبينا، والقفز عليه والتنكر له بمثابة خطيئة يصفها الشاعر رسول حمزاتوف في استهلال كتابه "بلدي" (اذا انت اطلقت نيران مسدسك على الماضي، أطلق المستقبل نيران مدافعه عليك)، ولا غرابة ان تتعدد الأقوال والأوصاف بشأن الماضي ومنها التي تنصح أن لا تغوص فيه عميقا ولا تبالغ في حلمك بالمستقبل انما ركزّ على حاضرك وهي حكمة ترجمها الشاعر عمر الخيام في قوله (لا تشغل البال بماضي الزمان.. ولا بآت العيش قبل الأوان.. واغنم من الحاضر لذاته.. فليس في طبع الليالي الأمان)، ومن الطبيعي ان يتباين الناس في تقييمهم للماضي بحسب طبيعة الفترة التي عاشوا فيها وكذلك نتيجة الفارق الذي بينهم في المستوى الثقافي والاجتماعي، فهناك من يراه جميلا منطلقا في رؤيته من الرفاهية التي عاشها والبعض الأخر يجده سيئا بسبب ما عاناه خلال فترة طفولته وصباه من ظروف معيشية وسياسية صعبتين، ومثلما هو الماضي مختلف في ايقاعه وهيمنته كذلك هو الحاضر قد لا تجري سفنه بما تشتهي النفس لكنه في نظر البعض افضل من المستقبل الذي قد يخبيء لك ما لا تتمناه على حد وصف الشاعر الهادي آدم (قد يكون الغيب حلوا، إنما الحاضر أحلى).

مؤخرا صار البعض ينزعج عندما يسمع من أحدهم وصف الماضي بـ " الزمن الجميل " اذ ان هذا البعض يختزل الماضي بعهد الدكتاتورية التي وان كانت حقبة مظلمة ذقنا مرارتها واكتوينا بجمر سياستها لكنها لا تمثل كل ماضينا ذلك ان ماضينا قد سبق عهد الدكتاتورية بكثير واقصد به الزمن الذي ساد في الوئام والاستقرار بين مكونات المجتمع العراقي، فعلى الصعيد الشخصي ينتابني حنين جارف الى الماضي وذكرياته الطيبة حيث بساطة الحياة والعيش واصدقاء الطفولة وأزقة المحلة التي ترعرعتُ فيها وشهدت مشاكساتنا البريئة والعابنا الشعبية الممتعة، وقد يشاركني هذا الشعور جمهور واسع من العراقيين، فما زالت مشاهدة الافلام بالتقنيات الحديثة تأخذ بي الى دور السينما هذه النافذة الثقافية التي نهضت بوعينا وهذبّت ذائقتنا من خلال ما قدمته من روائع الأدب العالمي، في ماضينا حرصنا ان نعبد طريقنا بالجمال والمعرفة حيث تربت ذائقتنا على اغاني ام كلثوم وصقلت ثقافتنا الكتب وافلام السينما فما زال الاستماع الى اغاني ام كلثوم يمثل لي طقسا ممتعا يعيدني الى بساطة ذلك الماضي عندما كنا نسهر ونحن بعمر الزهور ونستمع من راديو العائلة ورديفه صندوق الشحن الى حفلاتها الشهرية، الماضي الجميل أخذ بي في مرحلة الشباب الى قراءة امهات الكتب العظيمة قرأت مسرح شكسبير وبرتولد بريخت وبيتر فايس وموليير وشعر السياب والمتنبي ومظفر النواب ونجيب محفوظ وفي الفكر ماركس وسارتر وجان جاك روسو وعبد الرحمن الكواكبي وفي علم الاجتماع علي الوردي وابن خلدون وغرامشي وغيرهم من اعلام الفكر والأدب، اشعرُ انني محظوظ عندما عشت وشهدت حلاوة ذلك الزمن، حيث الوئام المجتمعي في محلتي الشعبية (محلة الجديدة) ـ أعرق محلات مدينة الديوانية ـ التي جمعت وتعايشت فيها بحب ومودة اطياف الشعب العراقي من الصابئة واليهود والمسيحيون والأكراد، لم نعرف العنف ولا الحقد ولا امراض الطائفية، قلوبنا ظلت بيضاء لم تنشغل بالاختلافات القومية والمذهبية والطبقية، المدرسة كانت بيوتنا والمعلمون كانوا اشبه بآبائنا والمحلة بيتنا الكبير وهذا الحاضر بكل ما حمل لنا من تطور في التكنولوجيا ووسائل الرفاهية المتعددة قد لا يصل بنا الى تلك السعادة التي عشناها في ذلك الماضي الفقير.

***

ثامر الحاج امين

تعودت قبل لقاء أي شخص لم ألتقه من قبل سواء إن طلب هو لقائي أو سعيت أنا للقائه خاصة إن كان من الشخصيات الجديدة في الساحة، أن أقرأ عنه كل ما تقع عليه عينيّ من معلومات من صفحته الخاصة بالفيس أو من غيرها، وحينما لا أجد ما يمكنني من تحليل شخصيته قبل اللقاء فإني ألجأ الى الخطة البديلة والتي تعتبر من سيئاتي، وتتلخص الخطة بتحليل شخصية الرجل والدخول الى دهاليز دماغه وقراءة أفكاره من خلال نوع وشكل وشخصية وحذاءه !! .لذلك أحتاج الى كسب الوقت في أول خمس دقائق من اللقاء اذ نظرات عينيّ تطير بإتجاه حذائه مباشرة !!، ولكوني مهّوس بتحليل الشخصيات فقد قرأت وتدربت على تحليل شخصية الرجل من خلال نظرية التحليل النفسي الثلاثية ألابعاد، وهذه النظرية تقوم على تحليل ثلاثة عناصر لآي شخص من خلال تحليل حركات يديه ونظرات عينيه ونوع حذائه الذي في قدمه، وبذلك تصبح عندي فكرة عن طبيعة الرجل ولتجنب أي خصال غير حميدة قد تبدر منه تجاهي !!. وشخصيا إكتشفتُ أنها أفضل طريقة علمية، فتحليل الشخصية عبرّ الحذاء تعطي مؤشرات واضحة لا تقبل الخطأ والشك عن شخصية صاحبه،لا يمكنك أن تستنتجها من حركات يديه أو عينيه أو ملامح وجهه حيث الحذاء لا يكذب ولا يخدع ولا يراوغ كما تفعل العينان واليدان واللسان !!. ولكن ما يزعجني في بعض المرات أنني لا أتمكن من رؤية الحذاء كون صاحبه يجلس خلف مكتبه الخشبي الضخم في غرفته، فتضيع مني فرصة إستكشاف أسراره، فأحاول أن أتحرك في مقعدي بإتجاهات مختلفة تمكنني من رؤية ما بقدمه، بالرغم من أن حركاتي هذه قد تثير ريبة وشكوك البعض منهم، وإن عجزت فأضطر إلى إسقاط مفاتيحي من يديّ، فأقوم بإلتقاطها من ألارض حتى أتمكن من تغيير زاوية الرؤية للنظر عن قرب الى الحذاء وقراءة شفراته، ومن سوء حظي فقد لازمني النحس في بعض مقابلاتي، حيث كان نوع بعض ألاحذية في أقدام مرتديها من النوع الباهظ الثمن ذات الماركات التجارية العالمية وهو أمر سيئ لي لآنه وحسب ما جاء في نظرية التحليل النفسي للحذاء والنعل فأن ذلك يدل على أنني سأتعامل مع شخصيات متذبذبة ومضطربة عاطفيا وتمتاز بالوصولية والأنانية وطموحها العالي للإرتقاء بأدائها حتى على حساب غيرها، وبعضهم وصل حذاؤهُ الى الكاحل وهو علامة مزعجة تشير الى عدوانية مفرطة ومحاولة التسلط على الغير للتغطية على عقدة نقص سابقة تعرضوا لها في طفولتهم، وفي إحدى المقابلات المهمة لي مع أحدى الشخصيات، جلست أمام الرجل وكان يخفي أقدامه أسفل المكتب الأنيق، فتحركتُ يمنة ويسرة وصارت رقبتي كرقبة الزرافة لعلي ألمحُ حذاءه ولكني فشلت في مسعاي، ولم تبق محاولة إلا وفعلتها، وفي النهاية تعمدت إسقاط مفاتيحي أسفل مكتبه فنزلتُ وألتقطتها ولكنني تفاجأت به وهو حافي القدمين !!

 وفورا إنتبه الرجل الى دهشتي كونه حافيا، فعلل ذلك أنه يعاني من تشققات في كعوب أقدامه مما يضطره لخلع حذائه  أثناء العمل ووضع المراهم في شقوق الكعبين، وأنها حالة وراثية، ورثها عن أبيه وجده، وهنا تزاحمت الاسئلة في سري، أيُعقل أنه تأثر بأغنية كاظم؟ أو أن أحدا وشى له عن طريقتي في التحليل النفسي وخلع حذاءه قبل دخولي عليه؟؟

أم أنه فعلا مريض ؟، وكيف سأحلل شخصية رجل حافي القدمين مشقوق الكعبين ؟؟ ولكن السوأل ألاهم الذي ضرب كل مراكز الوعي والادراك في قشرة مخي وسبّب شللها وجعل أعصابي القحفية تلعن كل أنواع الاحذية هو: كيف وصل هذا الحافي إبن الحافي الى هذا المركز؟

***

د. محمد علي شاحوذ

 

نحن نعيش محاطين بجدران نبنيها كل يوم، جدران من الألفة والاعتياد. نستيقظ، نشرب القهوة، نذهب إلى العمل، ونعود. نرى نفس الشجرة في الطريق، ونستخدم نفس الكوب، ونسمع نفس الأصوات. مع مرور الوقت، تتوقف هذه الأشياء عن الوجود الحقيقي، وتتحول إلى مجرد خلفية باهتة لحياتنا. لقد فقدنا دهشتنا، وتلك هي الخسارة الصامتة التي نعيشها كل يوم.

الدهشة ليست مجرد شعور عابر، إنها بوابة الوجود الأولى. الطفل هو أعظم فيلسوف لأنه يرى العالم للمرة الأولى. كل شيء بالنسبة له هو معجزة تستدعي السؤال. "لماذا السماء زرقاء؟"، "من أين يأتي المطر؟". أسئلته ليست بحثًا عن معلومات، بل هي تعبير عن صدمة الوجود الأولى، عن مواجهة سر لا يمكن الاعتياد عليه. أما نحن، الكبار، فقد استبدلنا السؤال بالإجابة الجاهزة، والدهشة باللامبالاة.

الفلسفة تبدأ في تلك اللحظة التي ينهار فيها جدار الألفة. عندما تنظر إلى كوب الماء الذي تشربه كل يوم، وتسأل حقًا: "ما هذا الشيء؟ ما هو الماء؟ لماذا هو شفاف وسائل؟". في هذه اللحظة، أنت لا ترى مجرد كوب ماء، بل ترى لغزًا كونيًا هائلاً يتجسد في أبسط الأشياء. لقد توقفت عن قبول العالم كما هو، وبدأت تسأل عن أساسه.

تخيل رجلاً عاش حياته كلها في مدينة سقفها سماء رمادية ثابتة. لم يتساءل عنها قط، فهي ببساطة "موجودة". في يوم من الأيام، ظهر شرخ صغير في هذا السقف الرمادي، ومن خلاله تسرب شعاع أزرق لم يره من قبل. لم يعد السقف مجرد "سقف"، بل أصبح شيئًا له حدود، وله ما وراء. الشرخ الصغير لم يكشف له عن السماء الزرقاء فحسب، بل كشف له عن سقفه هو، عن الحدود التي كان يعيش داخلها دون أن يدري.

أن تتفلسف هو أن تبحث عن تلك الشروخ في جدران عالمك المألوف. أن تتعلم كيف تندهش من جديد أمام المطر، أمام كلمة، أمام وجه إنسان. إنها ليست مهارة فكرية، بل هي موقف وجودي، قرار بأن تعيش بعيون مفتوحة، وأن ترى في كل شيء دعوة للتساؤل والتعجب.

"لكي تتفلسف، تعلّم أن تندهش من جديد. انظر إلى أبسط الأشياء من حولك (شجرة، كوب ماء، كلمة) كما لو كنت تراها لأول مرة. لا تقبلها كأمر مسلم به. اسأل السؤال الفلسفي الأول: 'لماذا هي على ما هي عليه، وليست على نحو آخر؟'. إن إعادة إيقاظ دهشتك أمام سر الوجود، هو الخطوة الأولى والضرورية للدخول في عالم التفكير الفلسفي."

***

مرتضى السلامي

 

الجدل في صفحات الفيسبوك حول تدني مستوى التعليم في العراق، لم يحسمه بيان وزارة التعليم العالي التي لا يزال اصحابها يصرون على ان جامعاتنا تنافس كبرى جامعات العالم، ان لم تتفوق على هارفارد وجامعة سنغافورة وستانفورد وأكسفورد وكامبريدج وجامعة بكين .

قبل ما يقارب الخمسين عاما بدأت الصين عملية الإصلاح الكبرى والتي قادتها إلى مصاف الدول الكبرى بعد أن كانت تعاني من مشاكل في السياسة والتنمية، وكان اول اهداف هذه النهضة هو التعليم حيث اعتبر قادة الصين ان التقدم في التعليم يجب ان يكون ركيزة أساسية للتنمية الشاملة، فعملت الصين على تطوير المدارس والجامعات ايمانا منها بان النهوض بالبلاد يتم العلم والتعليم، في الوقت الذي لاتزال فيه بلاد الرافدين مهمومة بغياب الخدمات والكهرباء والماء الصالح للشرب.

عندما قرر الحزب الشيوعي الصيني عام 1978، ان يعين دنغ شياو بينغ قائداً أعلى للحزب والدولة، بدأت آنذاك حركة إصلاحية كبرى غيرت مسار الصين المعاصرة بصورة جذرية.

كان شياو بينغ قد أدرك أن التنمية هي فرصة بلاده الوحيدة، فتبنى مبدأ العمل المتواصل ريثما تلحق الصين بركب الدول. لكن المعجزة الصينية لم تتحقق نتيجة عمل قلة متربعة على القمة، بل إن الشعب الصيني كله شارك في العزم والتعليم لإثبات قدرته على النجاح. ليست أسطورة أو خرافة أن الصينيين يعملون كفريق أو شركة واحدة، فلكل فرد دوره المحدد ومكانه الدقيق والمناسب. يقول توماس فريدمان: "إن المشكلة التي تقلق الأمريكان، أنهم يواجهون شعباً من المهرة والمتعلمين جيداً ".

اعتقد الكثيرون في الصين ان دينغ شياو بينغ لن يكون إلا شخصية عابرة. ولكنه خيب ظنهم، عندما أطلق حملة كبرى تهدف إلى تحديث البلاد، حيث أبدى تأييده لحزمة جديدة من الإصلاحات الاقتصادية قضت على نمط الاقتصاد الاشتراكي، واستبدلته بنمط من اقتصاد السوق يخضع لسيطرة الدولة. وعندما رحل عن عالمنا عام 1992، كانت أصبحت الصين قد تحولت الى عملاق اقتصادي .

في شبابه تعرض دينغ شياو بنغ إلى الإقصاء والسجن، لكن ما إن سنحت له الفرصة أن يشارك في بناء بلاده، وليخرج على الشعب قائلاً: "سوف نكمل بناء الصين ولكن من خلال العمل فقط، لا من خلال المنشورات".. لم يشتم ماو الذي سجنه وأقصاه.. ولم يطالب باجتثاث كل من عاش في زمن ماو.

قال دينغ شياو بنغ أول خطاب له بعد استلامه السلطه إن الخطر الأكبر الذي يواجه الصين هو أن يتوهم بعض قادة الحزب بأن المال العام يمكن أن يتحول إلى مال خاص، في الوقت الذي لا يعرف المواطن العراقي حتى هذه اللحظة كيف تحولت موازنات الدولة إلى مصرف جيب لقادة العراق.

***

علي حسين

يكشف تفاعل الواحد منا نحن القراء مع ما يقرأه ويدفعه للتعقيب عليه، عن العديد من الأمور، التي سنتعرض لها فيما يلي، فالمرء لا يتفاعل في العادة إلا مع ما يفهمه أولّا وما يثيره ثانيًا وما يهمه ثالثًا. أقول هذا وأنا أفكّر في تلك المواد التي تمر دون أن يقرأها أحد، او بالأحرى دون أن تجد رد الفعل المرجو والمنشود من صاحبها على الأقل، ولنبدأ من النهاية.

*لنبدأ من الامر او السبب الثالث المذكور وهو ما يهم القارئ: لا شك في ان الانفجار المعلوماتي الذي ترافق مع انتشار وسائل الاتصال الاجتماعي تحديدًا، بات يفرض على القارئ ان يختار ما يود قراءته، فنحن عادة ما نقرأ حين دخولنا الى ملكوت هذا الموقع الالكتروني او ذاك، ما نراه مهما بالنسبة لنا، وفي حين انه يوجد هناك من يُفضّل المادة القصيرة ومن لا يهمه طول هذه المدة او قصرها، فانه هناك من لا يهمه هذا الامر ممثلا في القصر والطول، ويتوقّف عند أهمية المادة بالنسبة له. نحن باختصار نتوقف عند ما يهمنا من مواضيع وكثيرا ما نتجاوز سواها متعمّدين او مؤجلين قراءته، اما في العمق فان كل واحد منا انما يتوقف عند ما يهمه ويلفته من المواضيع، فادا كان هذا الموضوع دائرا حول كتاب في موضوع ما او رواية لهذا الكاتب الذي سبق وقرا له، او حتى عن مجموعة قصصية لكاتب سبق وقرا له ولفت اهتمامه، اقبل على قراءة ما كُتب ونشر. بناء على هذا نقول اننا نقرا في العادة ما يهمنا لكن دون ان نتجاهل ان ما يهم الجميع عادة ما يكون معروفا، لهذا اعتقد ان من يريد ان تحظى كتابته بالاهتمام المنشود، ان يحسن اختيار الموضوع الذي سيكتب فيه، وذلك دون ان يتنازل عما يراه متناسبا ومتلائما مع ذائقته الشخصية.

*ما الذي يثير القارئ فيما يكتب وينشر؟.. سؤال جوهري اعتقد انه يقلق كل انسان مفكر ويريد ان يساهم في اثراء الحياة الثقافية عامة والأدبية خاصة، وهنا أحاول ان أدلى برأي اراه خاصا في هذا الموضوع الحسّاس. اعتقد أولا ان ما يثير القارئ عامة هو ان ما يتناوله الكاتب في مطروحة الآني، غير ان التجارب تعلّمنا ان الموضوع وحده لا يمكن ان يكون هو عامل الجذب الأول، وان بدا للوهلة الأولى كذلك، وكما اجمع النقاد الادبيون والثقافيون في اكثر من فترة تاريخية وفي اكثر من كتابة وتصريح، فان الموضوع وحده لا يكفي، فالمواضيع والأفكار عادة ما تكون متوفّرة لدى كل الناس، وان الصياغة والشكل، هما ما يمنحان الموضوع أهميته، بمعنى ان الموضوع قد يكون مُهمًا جدًا غير أن طريقة صياغته قد تكون نيئة وفجة، الامر الذي يدفع القارئ للانصراف عنه قبل الانتهاء من قراءته له. صحيح ان عددا من المنظّرين رفضوا الفصل بين الشكل والمضمون، غير ان تمكن كاتب الموضوع زائد ميوله لا بدّ من ان تمكنه بالتالي من التفاعل المتعمّق، الامر الذي يمنحه تميّزًا لا بدّ له من ان يتمثل بالفرق بين كاتب وآخر، ونحن إذا ما ذكّرنا بأهمية التجربة المتعمّقة فيما نكتبه ونقدّمه لقرائنا، كما يذكر الناقد المبدع ليون ايدل في كتابه عن "القصة السيكولوجية"، بات من الواضح أن ما يثير القارئ في العادة هو الموضوع ذو الشكل المتقن والقائم على تجربة ومعايشة متعمقة للحياة وسابرة لأغوارها السحيقة.

*مع أي من المواد المنشورة يتفاعل القارئ في العادة؟.. سؤال هام جدًا طالما اقلق الكتاب، المتابعين والمهتمين، كما افعل حاليًا، لقد لاحظت من متابعات متواصلة ودائبة لما يُكتب ويُنشر في مواقع الكترونية، لصحف ورقية تحديدًا، ان التعليقات عادة ما تقلّ عما لا يفهمه عامة القراء، لا سيما عما يكتبه وينشره متخصصون او مدعو تخصّص في هذا الموضوع او ذاك، وهنا أتساءل عن علاقة الكاتب بالجمهور، فهل يمكث هذا مقيما في برج تخصصه العاجي؟.. ام يوجد الأسلوب الذي يمكنه من الوصول الى أكبر عدد ممكن من القراء، لا أدعو بهذا لأن يبسّط الكاتب المتخصّص مواضيعه الى درجة التسطيح الفجّ، بقدر ما ادعو الى اخذ من سيقرأ لنا من عامة القارء بعين الاعتبار، وعدم قطع العلاقة معه، ذلك ان من شان هذا القطع ان يعيدنا الى حيث مكثنا قبل الكتابة.. في عالم الغموض والغياب، يزيد في هذه النقطة تعقيدًا ما لاحظناه من متابعات يومية ومتواصلة لما يكتب وينشر يوميًا، ان هناك منشورات تقترب من قارئها وفي المقابل أخرى تبتعد عنه، اما كيف يتجلى هذا القرب وذاك البعد، فانه يتضح في كثرة التعقيبات على موضوع ما وانعدامها في الفراغ الأخير لموضوع ما.

ماذا اريد ان أقول من هذا كله؟.. أريد أن أقول ما سبق وقاله عدد من النقاد، اذكر منهم الناقد المصري المرحوم غالي شكري في كتابه "شعرنا الحديث إلى أين؟". وهو أن الكاتب الشاعر يُفترض ان يحافظ على علاقته بقارئه وألا يقطعها، لأن هذه العلاقة هي ما تُبقى حبل التواصل بين الاثنين، الكاتب الشاعر والقارئ، مشدودا مثل وتر يستقبل اليد العازفة بإبداع لا مثيل له، الى هذا أؤكد أهمية المحافظة على هذه العلاقة بين الاثنين لأن غيابها لا يعني الا دمارها واندثارها ولا مجّانيتها، وهذا ما يرفضه أي انسان عاقل، فكيف يكون الامر اذا كان الحديث يدور حول كاتب مثقف ويريد ان ينير مناطق معتمة في المعرفة الإنسانية وفي عقول المحيطين به ورؤاهم.

***

ناجي ظاهر

الملخص: ليست كربلاء مجرد واقعة، بل هي مجرّة مشتعلة داخل الوعي البشري، ما إن تحدّق بها حتى يحترق زمنك. فالإمام الحسين لم يكن بطلًا مهزومًا على صحراء، بل كان فكرة انتصرت على التاريخ نفسه. هذه الورقة ليست رثاءً، بل وقوف دامٍ في محراب الحقيقة، حيث ينزف الوعي بدل الجسد، ويصرخ العقل على أطلال أمة خانت وعدها مع الله

مقدمة: الحسين الذي لا يموت

الحسين ليس شخصًا نبجّله، بل هو سؤال أزلي يحرجنا كلما صمتنا أمام الظلم.

لم يكن الحسين شهيدًا عابرًا في التاريخ، بل كان معيارًا كونيًا للحق، كلما ملنا انحرفنا عن ظلّه. لم يأت الحسين ليُبكي الناس، بل ليستفزّ أرواحهم حتى تفيق من خدر الدين المعلّب والطاعة العمياء.

كربلاء لم تكن حدثًا في القرن الأول الهجري، بل هي جرح مفتوح في كل قرن، في كل ضمير حيّ، في كل ساحة يُذبح فيها العدل باسم الله.

أولًا: الحسين ودم الوعي

الحسين ليس مأساة للبكاء، بل ملحمة للفهم… فإن لم نفهمه، بكينا قاتلنا ونحن نحسبه شهيدًا. قال المفكر الإيراني علي شريعتي: كل من لا يرى في كربلاء إلا الدموع، فقد خان دم الحسين.

ما معنى أن نبكي ولا نغيّر؟ ما جدوى أن نلطم الصدر ونحن نطأطئ الرأس للطغاة؟. البكاء الذي لا يوقظ الفكر.. هو بكاء على الذات لا على الحسين. الحسين هو الوعي حين يتنزّه عن مصالحه. هو الضمير حين ينتصر على فتاوى البلاط. هو النداء الذي يخترق القرون: هيهات منا الذلة

ثانيًا: الطقوس والهاوية – كيف نخذل الحسين باسم حبّه؟

نطبر الرؤوس ولا نطبر العقول،

ننزف الدم ولا ننزف الأسئلة…

أليست هذه خيانة ناعمة تُمارس كل محرّم؟

قال نيتشه: الدين الحق لا يُفرز القطيع، بل يُنبت الأفراد الأحرار

حين تصبح الطقوس بديلاً عن الفكر، وحين يتحول حبّ الحسين إلى مناسبة موسمية، نكون قد حوّلنا الحسين من صوتٍ للثورة إلى رمزٍ للتخدير الجماعي

ثالثًا: بين يزيد الزمان، وصمت الأمة

لم يكن الحسين يواجه يزيد كشخص، بل كان يحارب فلسفة كاملة تشرعن الظلم باسم السماء

يزيد ليس رجلاً مات. يزيد هو المبدأ حين ينتصر الباطل بلغة القرآن. هو حين يُلبس الظلم عمامة، ويُصدَّر للناس باسم الشرع

والأخطر من يزيد… هم أولئك الذين قالوا نصلي خلف من غلب. أولئك هم القتلة الحقيقيون، لأنهم صمتوا حين كان الموقف فرضَ عين

رابعًا: كربلاء كفلسفة: الحسين هو الإنسان حين يقول لا

كربلاء ليست تاريخًا دينيًا، بل واقعة أنثروبولوجية في صراع الإنسان مع الاستبداد.

في الحسين تجتمع سقراط الذي شرب السم، وغاليليو الذي صرخ أن الأرض تدور، والحلاج الذي قال أنا الحق فصُلب، لكنهم جميعًا لم يذهبوا إلى الموت كما فعل الحسين… بل ذهب إليهم الموت، أما هو، فمشى إليه وهو يبتسم. هذا هو الفرق بين الشهادة الصدفة… والشهادة المشروع

خامسًا: في الحسين شيء من الأزل

الحسين لا يموت، لأنه ليس كائنًا… بل قانون منقوش على جبين الخلود. كلما وُلد طفل وقال كلمة حقّ، كان الحسين حيًا. وكلما ماتت فكرة في سرير الخوف، سقطنا من الحسين خطوة نحو العدم

فالحسين ليس ذاكرة، بل هو ضمير أزلي، لا يُقيم في الماضي بل يُقيم في اللحظة التي نقرر فيها أن نكون أحرارًا أو عبيدً

خاتمة: دمعة لا تكفي… وصمت لا يُغتفر

يا من تقيمون مجالس العزاء، هل الحسين في دموعكم، أم في مواقفكم؟ هل تنادونه يا مظلوم وأنتم تظلمون صمتكم؟ هل تلبسون سوادًا خارجيًا… وتعيشون بياضًا داخليًا يُصالح الطغيان؟ ما فائدة الحداد على الحسين، إذا كان يزيد ما زال يحكم العقول؟

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

إتقي شر من أحسنت إليه..

ليس غريبا ان يتم التركيز على (تلك الأيام) وليس على (هذه الأيام).. لأن الحديث عن الأولى له هدف، وكذلك الحديث عن الثانية.. فما الفرق بين الحديثين وما هو مغزى التركيز على تلك الايام؟ ليس ذلك من باب التاريخ ومن باب الحياد في الموقف ولا من باب سردية الحديث الصحفي، إنما من باب السياسة.

إذاً، ما هو الهدف الذي يختفي وراء برنامج (تلك الايام) والصمت المطبق حيال هذه الايام المزرية والكوارث وتراكماتها وسياسات الفوضى المتعمدة اقليمياً بتشجيع ومساعدة خارجية وما الهدف من التعمد والاصرار على البقاء في برناهج تلك الأيام والحديث عن السلبيات وتضخيمها والنيل من صناعها الوطنيين: ؟!

- إن نبش الماضي والغوص في تفاصيله يجعل ذهنية الناس (محشورة) في تلك الايام و(محبوسة) في نقاشاتها و(أسيرة) لجدالاتها.. وهو هدف مركزي يمنع الناس من معرفة ما يجري الآن وإلهائهم عن المطالبة بحقوقهم الراهنة.

- إن الصمت المطبق عن إيجابيات تلك الأيام التي بنت دولة حديثة وعصرية والتركيز على السلبيات البسيطة التي رافقت تلك المشاريع العملاقة غرضه خبيث بتوجيه خارجي؟

- ينتج عن ذلك نشر الفوضى العامة وخلط الاوراق، أوراق الماضي بإيجابياته وأوراق الحاضر بسلبياته.

- تكريس بيئة يسودها الشك والتربص والفوضى.

- العمل على إفراغ البلاد من كامل عناصر قوتها الحيوية.

- تدمير البنية التحتية التي تعتبر قاعدة أساسية لأي بناء مستقبلي.

- جعل البلاد تعتمد على دولة واحدة أو عدة دول من أجل إضعافها وإستنزافها.

- تصفير البلاد من أية مشاريع إنتاجية تمهيداً لإبتلاعها على مراحل.

- التهديد بإشعال النيران في الفناء الأمامي لتلك الدولة الاقليمية التوسعية لمنع التدخل الخارجي.

هذه البيئة المفروضة على العراق، تستدعي التساؤل، لماذا تلك الأيام وليس هذه الايام.. لماذا هذا الاسلوب المراوغ وغير الوطني، ألم يكن نفعياً ورخيصاً..؟!!

***

د. جودت صالح

3 / 7 / 2025

في الثالث من تموز عام 1963 شهد العراق واحدة من أغرب الحركات الانقلابية الجريئة ليس في تاريخه فحسب وانما في تاريخ المنطقة كلها تلك هي حركة الشيوعي الثائر " حسن سريع "، وتكمن غرابة هذه الحركة في طبيعة قيادتها وظروف قيامها وتطوراتها الدراماتيكية، فحسن سريع قائد الحركة المذكورة عسكري برتبة نائب عريف وكما هو معروف ان هذه الرتبة تقع في اسفل تسلسلات الرتب في العسكرية العراقية وهو ذو تعليم بسيط لكنه كان يتمتع بالشجاعة والاقدام وبروح ثورية قل نظيرها علاوة على الجرأة والمغامرة والايمان العالي بعدالة قضيته حيث تمكن هذا الثائر مع مجموعة قليلة من رفاقه التخطيط والتنفيذ لثورة كادت تغير وجه العراق السياسي، حيث استطاع السيطرة على معسكر الرشيد وثم أسر الرموز السياسية واصحاب المناصب العليا في الحكومة العراقية آنذاك وذلك عند حضورها الى معسكر الرشيد للوقوف على حقيقة ما حدث، وكادت الحركة ان تحقق اهدافها وتنتزع السلطة من أيدي انقلابيي شباط 1963 لولا تردد حلقة صغيرة في تنفيذ الواجب الموكل اليها والتي تسببت في اجهاض تلك الانتفاضة التاريخية، كما ان الحركة وقعت في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد حيث جاءت وسط جو مشحون بالخوف والاحباط نتيجة الترويع وحمامات الدم التي شهدها العراق عقب انقلاب شباط 1963 . وطيلة عقود طويلة ظلت اسرار هذه الحركة خافية على الكثير من العراقيين والعالم ولكن بعد عام 2003 أخذت المنظمات السياسية والقوى الديمقراطية تقيم الجلسات المخصصة لاستذكارها وتستضيف الرجال الذين ساهموا فيها وعاصروا احداثها، وصادف ان كنت حاضرا جلسة اقامتها منظمة الحزب الشيوعي في الديوانية كانت مخصصة لاستذكار حركة حسن سريع وأثار انتباهي حديث احد الشيوخ الذين عاصروا احداثها وكان يتحدث عن ابرز رجالات الديوانية الذين شاركوا فيها وذكر من بين المشاركين اسم أخي (احمد امين 1942 ــ 2014) وقد فوجئت بهذه المعلومة التي ظلت سرا لم يتحدث عنها يوما أخي الكبير الذي كنت قريبا منه جدا وسرعان ما قدحت ذاكرتي واستحضرت وقائع  ذلك اليوم الحزين من عام 1963 وكنت حينها صبيا في الثامنة من عمري حيث تجمعت العائلة في البيت الكبير وقد علا وجوهها الوجوم والقلق وهي تترقب اخبار الاخ الذي اعتقل وهو عسكري في معسكر الرشيد ولأسباب لم أدركها في ذلك الحين بسبب صغر سني وبعد انتهاء الجلسة المذكورة سارعت الى دفتر خدمته العسكرية فتأكد لي صحة المعلومة حيث ثبّت فيه تاريخ الاعتقال واسبابه، وما أثار حزني بعدها انه في حياته لم يذكر او يتحدث لي عن طبيعة مشاركته في تلك الحركة كي استطيع الحصول منه على وقائع حقيقية من شاهد كان احد ابطالها لكن للأسف رحل أخي حاملا معه اسرار تلك الملحمة البطولية التي حجزت لها صفحة مضيئة من تاريخ العراق  .

***

ثامر الحاج امين

يشكل الإرهاب أحد المخاطر الجسيمة التي تقوض مسيرة التنمية السياحية المستدامة، إلى جانب كونه أهم وأبرز التحديات التي هددت وما برحت تهدد صناعة السياحة والسفر عالميا وعلى المستوى الوطني لكثير من الدول التي أستهدفت مرافقها ومنشآتها السياحية والفندقية من منتجعات وقرى سياحية ومدن ألعاب ومطاعم ومتنزهات ومراسي ومحال بيع التحف والعاديات ومراكز خدمات الغوص وغيرها. كما استهدفت ضيوفها من السياح والزوار بالقتل والاختطاف والتهديد، بغض النظر عن انتماءاتهم وجنسياتهم، ورغم من الجهود الدولية والمحلية الحثيثة التي بذلت وما زالت تبذل في سبيل طرد واقصاء هذا الدخيل المقيت البغيض الذي أرخى بظلاله الثقيلة على اقتصادات هذه البلدان، وهدد الكثير من أبناء شعوبها في مصادر عيشهم ووسائل ارتزاقهم. وتسببت في أزمات اقتصادية وسياحية وأمنية ثقيلة الوطأة، دفع ثمنها غاليا من إيراداتها ومكاسبها، وعلى حساب الجهود المبذولة على طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستدامة. ويعزى استهداف صناعة السياحة والسفر من قبل قوى الإرهاب المظلمة إلى: أولا – الأهمية الاقتصادية لهذه الصناعة والدور الريادي الذي تلعبه في قيادة مسيرة التنمية الاقتصادية الشاملة في هذه البلدان، ودورها في تعزيز الناتج المحلي الإجمالي ورصيد الدولة من النقد الأجنبي الضروري لترسيخ قواعد وأسس هذه المسيرة وديمومتها واستمرارها على نحو مخطط ومدروس ومستدام، ولمساهمتها في توفير فرص العمل الدائمية والمؤقتة، والقضاء على مشكلة الهجرة من القرى والأرياف إلى المدن والمناطق الحضرية وغيرها. وعليه فإن استهداف السياحة من قبل القوى الإرهابية المظلمة يعني استهداف عموم الاقتصاد الوطني، وإيقاع الكثير من الخسائر بقطاعاته ونشاطاته. فالخسائر التي لحقت بقطاع السياحة المصري من جراء العمليات الإرهابية خلال الأعوام (1993 – 1998) قد بلغت (3،2) مليارات دولار وفقا للاحصائيات الرسمية. وقد خسرها الاقتصاد المصري في فترة كان في أمس الحاجة إليها في سبيل تنفيذ خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية. و(1) مليار دولار تكبدتها السياحة الإندونيسية عام 2003 إثر تفجيرات جزيرة (بالي) الأولى في شهر تشرين الأول من عام 2002، والتي أودت بحياة (202) شخص معظمهم من السواح الأجانب. و(144) مليون دولار أمريكي تكدبتها السياحة اليمنية قي عام 2009 بسبب النشاطات الإرهابية على الأراضي اليمنية، و(400) مليون دولار خسرتها السياحة الباكستانية خلال الفترة (2007 – 2009) لنفس الأسباب. ثانيا: حساسية هذه الصناعة تجاه التغيرات السياسية والأمنية، وطبيعتها التفاعلية مع بقية النشاطات والقطاعات المكونة للاقتصاد الوطني. ف ( الأزمة السياحية) التي شهدتها مصر طيلة ثلاثة أعوام إثر حادث مذبحة (حتشبسوت) الفرعوني عام 1997، والتي أودت بحياة (62) شخصا، منهم سواح أجانب (58) من سويسرا واليابان والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وكولومبيا، قد ساهمت في تفاقم أزمة العملة الوطنية (الجنيه المصري)، مثلما أثر تراجع عائدات قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين خارج البلاد وغيرها من الأسباب. وهذا ما ذهب إليه (ليون وزميلته أرانيا 2008) بقولهما (إن الطلب على السياحة حساس بشكل خاص للهجمات الإرهابية، لأن اختيارات السياح تقدر الأمان والهدوء والسلام). مع ضرورة الاشارة إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية الموجهة لقطاع السياحة والسفر في مثل هذه البلدان على نحو ملحوظ، وهي استثمارات مهمة جدا بالنسبة للاقتصاد الوطني في أكثر من جانب. ثالثا: صعوبة تصليح وتدارك الخسائر والأضرار الواقعة على المدى القريب والبعيد، وعلى نحو مباشر وغير مباشر، وجسامة التكاليف التي تترتب على ذلك، وطول المدة التي تستغرقها العملية. ف (الأزمة السياحية) التي شهدتها إسبانيا إثر (تفجيرات مدريد) (ام. 11) في 11 آذار 2004 وأودت بحياة (191) شخصا وجرح (1755)، قد امتد أمدها حتى مطلع عام 2005، وأدت إلى انحسار شديد في أعداد السياح الأجانب إلى هذا البلد الجميل المهم على خارطة السياحة العالمية، مع تراجع (العائدات السياحية) وحصول انخفاضات في أسعار أسهم شركات الطيران والشركات السياحية. ووفقا ل (سونميز 1998) فإن (الإرهاب وعدم الاستقرار السياسي هما أكثر التهديدات التي يخشاها السياح). أما في حالة إقليم (الباسك) الإسباني الذي شهد أحداثا دامية حتى وقف اطلاق النار من قبل منظمة (إيتا) في عام 2011 لتعود الأمور إلى حالتها الطبيعية، فانتعشت فيه السياحة من جديد وسجلت معدلات نمو جيدة. رابعا: التغطية الواسعة والمستمرة لنشاطات وفعاليات هذا القطاع الحيوي إعلاميا وعلى مختلف المستويات. وكذلك تناول أخبار الفعاليات والنشاطات الإرهابية في وسائل الإعلام على نحو واسع، وبما ينعكس سلبا على تفكير واختيارات السياح للوجهات السياحية ول (شوشاني وسلون 2008) دراسة قيمة حول هذا الجانب، وجاء فيها (إن التغطية الاعلامية السلبية للهجمات الإرهابية قد يخلف انطباعا سلبا في أذهان هؤلاء السياح وعلى نحو دائم). خامسا: ولضمها الكثير من المجذبات والمغريات الثقافية (المهرجانات، الاستعراضات، الاحتفالات.. الخ) والتاريخية (المدن القديمة، موجودات المتاحف، التماثيل والنصب) والطبيعية (السواحل، المحميات الطبيعية، الشلالات والمساقط المائية، الجزر الصغيرة، التشكيلات الطبيعية مرجانية كانت أو غيرها) والاصطناعية (مخيمات، مسارح، دور سينما، مدن ملاهي، المولات ومراكز التسوق) التي تشكل مراكز جذب وتجمع السياح والزوار من العديد من البلدان، وعلى نحو كثيف. وإن استهداف مثل هذه المشوقات يعني إيقاع الكثير من الخسائر البشرية والمادية، وبنوعيات مؤثرة، مع إساءة مؤكدة إلى سمعة البلد اقتصاديا وحضاريا وثقافيا واجتماعيا، واحتمال التسبب بالاحراج السياسي والدبلوماسي للدولة المستهدفة، كما حدث لجمهورية مصر العربية مع سويسرا بسبب خلافهما في موضوع تعويض أهالي الضحايا ال (36) من الأخيرة في مذبحة الدير البحري (معبد حتشبسوت الفرعوني). (للمزيد من الاطلاع ينظر (السياحة والإرهاب) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2011).

***

بنيامين يوخنا دانيال

....................

* عن (مقالات في السياحة) للباحث، مطبعة بيشوا، أربيل – العراق 2012

 

صناعة المشاهير الحمقى؛ ظاهرة يعاني منها الغرب ومجتمعاتنا العربية بشكل متزايد وبمعدل يدعو للقلق، فبتنا نصنع من حمقى مجتمعاتنا مشاهير ونجوم نحتفي بحماقاتهم، تفاقمت هذه المشكلة مع تطور واستحداث مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي، مما فتح الباب على مصراعيه لفارغي وفقيري المحتوى والمغزى للوصول الى أعلى قمم الشهرة، لا أعتقد أننا نختلف في حب الشهرة على اختلاف صورها لدى البعض؛ فمنهم من يشتهر لعلمه وأخر لكرمه والبعض لموهبته والقليل من يشتهر لاختراعاته، بيد أنهم اجتمعوا على توظيف شهرتهم لإفادة غيرهم. فكانوا مثال لقولٍ جميل "الشهرة وسيلة وليست غاية". أما المشاهير الحمقى فغايتهم هي الشهرة وأي وسيلة تحقق لهم ذلك يتّبعونها مهما كلّف الأمر فليس من الضروري أن يملكوا موهبة أو علم أو اختراع أو حتى فائدة عامة قد يُستفاد منها

صدقوا أو لا تصدقوا.. نحن من صنعناهم

وسائل التواصل ساعدت على إبراز هؤلاء التافهين لكنا نحن من صنعناهم وجعلنا لهم قيمة وقدرا من خلال متابعتنا لهم وليومياتهم ومقاطعهم التي لا تقدم أي فائدة أخلاقية أو دينية أو ثقافية!،، وسائل التواصل الاجتماعي بمختلف أنواعها، هي وسيلة هؤلاء في البحث عن الشهرة وتحقيق النجومية والثراء السريع من خلال أساليبهم القائمة على الاستخفاف بالعقول، وكلما ازداد عدد المتابعين ازدادت تفاهتهم ليجتذبوا المزيد والمزيد حتى تصل أرقام المتابعة لمئات الآلاف وربما الملايين. وهنا تبدأ نجوميتهم في السطوع فتنهال عليهم طلبات الاستضافة في المهرجانات والحفلات ليضمن القائمون عليها اجتذاب الزوار وتحقيق الأرباح المادية المرتفعة، كما تبدأ بالتهافت عليهم طلبات الإعلانات عن المنتجات وتسويقها بأسعار خيالية، وفي خضم كل هذا سيترسخ في أذهان أجيالنا من الشباب والمراهقين المتابعين لهم أن تحقيق الأهداف والشهرة والنجومية والثراء يكون عن هذا الطريق الذي سلكه مثل هؤلاء الأغبياء-- وهنا تكمن الكارثة الأخلاقية وهو في جعل التفاهة صناعة،،واعتياد الأجيال على التفاهة التي يصنعها هؤلاء سيسهم في إدارة عقول الشباب نحو تحقيق "الأنا" بعيدا عن أي نفع مجتمعي أو إنساني وستدفعهم نحو تحقيق الشهرة بأي وسيلة غير عابئين بالأعراف والتقاليد والأخلاق

لقد أصبحت الشهرة معيارًا مستقلًا للنجاح، لا يشترط معها أي إنجاز حقيقي أو قيمة مضافة؛ فمجرد الظهور المتكرر، أو إثارة الجدل، أو ركوب موجة (الترند)، قد يجعل من الشخص قدوة أو مرجعًا شعبيًا، حتى لو خالف المنطق، أو أهان الذوق العام، أو أسهم في ترسيخ الرداءة كسلوك مقبول ومُحتفى به،، والحقيقة التي نتجاهلها أننا نحن من نصنع هؤلاء المشاهير الفارغين بمتابعتنا لهم، وإعطائهم من وقتنا وانتباهنا ما لا يستحقون.. إن كل مشاهدة، وكل تفاعل، وكل مشاركة تسهم في تضخيم صورتهم وإبرازهم كنجوم، حتى وإن كانوا مجرد واجهات خالية من المعنى، فنحن من نرفعهم إلى القمة، ثم نتذمر من تفاهة القمة، دون أن نراجع دورنا في صناعتها

المحتوى الهابط – وباء تفشى في المجتمع، ربما من اسبابه انعدام وسائل الترفيه في مجتمعاتنا للشباب بوجه خاص على اختلاف طبيعته، وهو تضليل واستخفاف بعقول الشباب والاطفال، فلا اريد ان اتابع امرأة متخلفة لمجرد انها تملك ذوق رفيع في انتقاء ملابسها، تقلد حياة الاغنياء بالترف والسيارات الفارهة، نحن امة ماخلقنا لهذا ولم نخلق لنعيش بالظلام، ليس هذا طموحنا وهدفنا بالحياة – يجب ان نؤمن أننا نحن من نصنع من أنفسنا مذنبين في جريمة ضياعنا وضلالنا من جهة وفي جريمة صناعة مشاهير حمقى،، هذه الظاهرة في نظري هي وباء اجتماعي قاتل، ينتشر كالسرطان في الجسد، لا يُشعر به أحد؛ بحثت في أسبابه، فإن عرف السبب بطل العجب. البعض أعزى هذه الظاهرة لاختلال العدالة وتكافؤ الفرص في مجتمعاتنا العربية وأحيانا انعدامها، فصاحب الموهبة والعلم والفائدة لا يملك منبراً أو من يدعمه، وصاحب "اللاشيء" يُدعَم ويُحفّز ويُشَجّع لكونه محظوظ بمعارفه من الأشخاص ذوي النفوذ

دعونا نقول بلسان واحد///" ابدأ من نفسك" توقف عن متابعة الحمقى و توقف عن مشاركة صورهم، توقف عن إبداء إعجابك بكل ما ينشروه - أنت وكيانك وعقلك ومستقبلك وعائلتك ومجتمعك أولى بما تنفقه من وقت ومال ودعم واقتداء بحمقى من دونك أنت لا يملكون شيء لنتوقف عن جعل الحمقى مشاهير

***

نهاد الحديثي

 

يقول علماء النفس ان في الانسان غرائز خفية مكبوتة تجعله يشعر بالقلق الدائم وهذا السبب جعل الانسان البدائي يقدم القرابين البشرية للألهة والاصنام تقربا اليها لذلك اخذ (القربان) هذا الاسم لأنه يعني التقرب من الاله.

نشوء فكرة القربان

نشأت فكرة تقديم القرابين من اعتقاد الانسان الأول ان الكون تحكمه مجموعة قوى غير منظورة تمثل ظواهر الطبيعة سماها (الالهة) واطلق عليها تسمية (مجمع الالهة) وان مقرها في السماء وهي برئاسة الاله (آنو) كبير الالهة الذي تقول عنه الاساطير انه خلق السماء والأرض والانسان، لقد اثارت اعمال الانسان وكثرة ذنوبه غضب هذه الالهة فاتخذت قرارا بمعاقبته بالكوارث والامراض والحروب وقد ادرك الانسان سر هذه العقوبات فلجأ الى تقديم القرابين للآلهة بهدف الاسترضاء وطلب المغفرة والرحمة.

المسلسل التاريخي لتقديم القرابين

في بلاد الرافدين كان القربان أولا من البشر وبالتدريج تحول نحو الحيوان ليقدمه مذبوحا محروقا فداء لنفسه ويقول (فرويد) ان السومري بدا بأبنائه ثم احل محلهم الحيوان لأنه اكتشف ان الالهة سترضى بشخص واحد وهكذا حلت الفدية الحيوانية محل الفدية البشرية داخل المعبد وبأشراف مباشر من (الكاهن الأعظم) وصغار الكهنة الذين يشرفون على تقديم القرابين حيث ان كل مدينة تحتوي على معبد وكل معبد تكون فيه (دكة) هي عبارة عن مذبح لنحر القرابين من الابقار والمواشي التي تقدم الى المعبد كهدية للاله الذي يتوسط تمثاله الحجري في باحة المعبد .

وفي بابل كان يجري احتفال كبير في عيد رأس السنة البابلية (الاكيتو) يحضره الملك والكاهن الأعظم والكاهنة العظمى وقادة الجيش حيث تنحر القرابين في المعبد وتقام وليمة كبرى تسمى (المائدة القربانية) ويقدم فيها الطعام المكون من اللحم المشوي والخبز والعسل واللبن والبيرة، وبعد ان يتناول الجميع الطعام يرسل الذي يفضل منه الى الفقراء الجالسين في باب المعبد الذين ينتظرون ماتجود به ايدي الكهنة.

وفي مصر الفرعونية تجري نفس المراسيم داخل المعابد فتذبح القرابين وتقام الولائم بأشراف الكهنة كمعبد الكرنك ثم تقرأ التراتيل الدينية والادعية الخاصة بالاله (آمون) والاله (رع) وبعد ذلك يجري احتفال يتخلله الرقص على انغام الموسيقى. وفي مصر طقس اخر لا يوجد في العراق حيث يعتقد المصريون ان نهر النيل هو (اله) وعندما تقل مياهه يتصور المصريين انه غضب عليهم لذلك يجري اختيار فتاة جميلة من المدينة وتلقى في النهر كقربان له ليتم استرضاءه وسمي هذا الطقس ب(عروس النيل) ويعاد في كل عام.

ويأخذ الامر طابعا اخر في بلاد اليونان حيث يؤخذ (العبيد) أي اسرى الحروب الى المعبد وينحرون في مذبحه جماعات جماعات ويقدمون قربانا للاله (زيوس) كبير الالهة في اليونان ويسمى (اله السماء).

وفي روما جرت العادة ان يقدم الاب فلذة كبده (ابنه الأكبر) الى كبير الهة الرومان (جوبيتر) اله السماء قربانا مقابل رضى هذا الاله عنه أولا وثانيا ان يرشحه الى دخول (الفردوس) وهي كلمة رومانية تعني (الجنة)التي يقول عنها الرومان بانها بستان كبير فيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب والنساء...والامر يكون هكذا في الهند والصين وفارس.

القربان في بلاد العرب

عرف العرب تقديم القرابين فقد ذكرت المصادر التاريخية ان (المنذر)ملك الحيرة في العراق اقدم عام 529م على ذبح (400) راهبة قربانا للنجم (فينوس) مما اثار الرعب في الدول المسيحية.

وقصة عبد المطلب ونذره معروفة وهي انه نذر اذا بلغ عدد أولاده الذكور عشرة ان ينحر احدهم قربانا لرب الكعبة وقد اقتبست القصة من كتاب (بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب) لمؤلفه (محمود شكري الآلوسي) اقتبستها مع الاختصار والتصرف يقول الآلوسي (.. انه لما استكمل أولاده العدد دعا الذي يعمل (القداح)أي ما نسميه اليوم (القرعة) فوقعت القرعة على (عبد الله) وهم ان يذبحه ولكن أبو طالب امسك يده ومنعه من ذبحه ثم اقترحت بني مخزوم الاحتكام الى كاهنة بني سعد التي اقترحت بدورها ان يحصر القداح بين عبد الله وعشرة من الابل وبعد 10 محاولات وقع القداح على الابل فاصبح عدد الابل التي يجب ان تقدم قرباناً مائة فتم التضحية بها بدلا من عبد الله ) ولذلك نسب الى النبي محمد قوله (انا ابن الذبيحين) أي النبي إسماعيل ووالده عبد الله .

ولايزال تقديم القرابين مستمرا في موسم الحج الى مكة حيث تنحر الملايين من الضحايا التي تسمى (الهدي) قرابينا لآله الكعبة، وفي البلدان الإسلامية تقدم القرابين الي العتبات الدينية والاضرحة والمقابر...

وهكذا ذهبت الملايين من القرابين الحيوانية والالاف من القرابين البشرية ضحايا لتلك الالهة القابعة في السماء والمتحصنة خلف اسوار الغيب.

***

غريب دوحي ناصر

 

في هذا الوقت العصيب من الصراع العقائدي بين المد الفكري التنويري ضد الخطاب الديني التابع للموروث الديني والتراثي الذي يقوده مجموعة من المفكرين في العالم العربي والإسلامي الذي بدوره يحاول إعادة الفكر العقائدي للدين وخصوصا المحمدي وإعادة طريقة الفهم الإسلامي والمنهج العقائدي والشعائري له . ينبري لنا مجموعة من بعض رجال الدين المحسوبين على المؤسسات الدينية بآراء ما أنزل الله بها من سلطان مخالفة للعقل والمنطق والذوق العام واستهانة بالعقول وهم الذين يرتقون المنابر الدينية ومواقع التواصل الاجتماعي الذي أصبح مرتعا واسعا وخطرا لبث سمومهم وآرائهم المنحرفة البعيدة عن الواقع الفكري العقلاني  للإسلام والعقائد الدينية والمذاهب الإسلامية حيث حولوها إلى روايات وأحاديث المتوارثة عن الأجداد وموروث شعبي تأريخي والبعض وصل   إلى حد الاستعانة بالأحلام واعتمادها كمصدر رئيسي للطرح وهذا بات يشكل خطرا على الفكر الإسلامي وعقيدته وتشويه منهجه أمام المتربصين والمتصيدين بالمياه العكرة اتجاه الإسلام والمسلمين إذا تُرك الحبل على الغارب وعدم التصدي له عن طريق المؤسسات الدينية التي تُخرج هكذا رجال دين محسوبين عليها . لذا تقع المسئولية عليها كاملة في الوقوف أمام هذا التيار المدمر المقصود من بعض المؤسسات المشبوهة للنيل من عقيدة الإسلام وشعائر بعض المذاهب وطرد كل من يسعى في تشويه الفكر الإسلامي الذهبي وخصوصا مذاهبه المتعددة بعد ظهور رجال دين شباب على الساحة للمنابر الحسينية خصوصا والمنافذ الاجتماعية يبثون الفكر المنحرف أو المغالي في ظل غياب المسائلة وعدم وجود نظام وضوابط تنظم عملهم والإشراف عليهم وعلى خطبهم وطرحهم للمواضيع من قبل المرجعيات الدينية الرصينة وخصوصا المنابر الحسينية التي تطرفت في طرحها كثيرا وغيرت مسار الشعائر الحسينية النقية ونهضته المباركة التي قدم فيها الحسين بن علي عليه السام دمه الزكي وذريته وأرواح أصحابه الميامين حيث أشبعوها خزعبلات أساءت لشخصية الحسين عليه السلام بنقل التراث والأحلام بعيدا عن البحث المنهجي الفكري وبعيدة عن العقيدة المنحرفة التي خرج ضدها الحسين وبعيدا عن التدبر العقائدي للإسلام والرسالة المحمدية والقرآنية وأفاضوا فيها من خلال مخاطبة العقول الساذجة والبسيطة للناس والمتحجرة التي لا تريد فهم دينها ورسالته وتحترم الموروث الديني وتراثه الموزون وهذه دعوة صادقة خالية من التعصب لجميع الأطراف وبدون استثناء أن تقوم المؤسسات الدينية الحكومية والمرجعيات لوضع حدا لهذه التجاوزات على الشعائر الإسلامية من خلال الاختيار الأمثل والأصلح لتمثيل هذه المرجعيات ويكون لها الإشراف المباشر وعلى المنابر الخطابية والمحاضرات الدينية والاجتماعية والتثقيفية والتاريخية بالاعتماد على المصادر المعتبرة التي ترتقي إلى العقل السليم والفكر الحقيقي المنطقي لمبادئ ديننا وعقيدتنا وشعائرنا بعيدا عن الخطاب الطائفي والمظلل الذي لا يتناسب مع العقل والنقل وعقلية الجيل الحالي والتالي والذوق العام وعدم استغلال العقول البسيطة والعاطفة لبعض الناس البسطاء الذين جبلوا على تقبل ما هو موروث ومتعارف عليه لتمرير الفكر والشعائر المنحرفة وهذا يتم عن طريق توحيد الجهد الديني المؤسساتي والمسائلة للمرجعية المباركة على أسس ومنهج والدين المحمدي والقرآن الكريم والسنة الصحيحة المباركة الموثقة بالسند والتمسك بتراث وفكر أهل البيت للنبي محمد صلوات الله عليهم وأصحابه الكرام

***

ضياء محسن الاسدي

 

هل أنت سعيد لأن الشاعر عبد الحسين الحاتمي خرج من دار القضاء منتصرا، وان الشيخ عداي الغريري سيعود من جديد الى الفضائيات ليقدم فقراته الاستعراضية .

في مواقع التواصل الاجتماعي عشنا مع حملة تضامن مع الشاعر الحاتمي، وايضا قرأنا مطولات في مديح الشيخ الغريري، لتكشف لنا عن أزمة أخلاقية كبيرة، يجب علينا أن نعرف من خلالها، كيف بنت الكراهية قواعدها في العراق ؟ سيقول البعض ماذا تكتب عن حادثة قال فيها القضاء كلمته، وتنسى عشرات الحوادث التي يلعب اصحابها على الخطاب الطائفي ؟ .

في حكاية الكراهية، هناك الكثير ما يمكن التوقف عنده.. كيف تجد مبررا للاساءة، وأنت تشعر بأنك حققت انتصارا على أعداء خارجين على إرادتك الطائفية ؟ أحاول هنا أن أسير خلف الحكايات، لأكتشف من خلالها، كمّاً كبيرا من المتناقضات، ففي الوقت الذي يجمع البعض كل همتهم في الدفاع عن الشاعر او الشيخ، نراهم عاجزين امام المسؤول عن غياب الخدمات والعدالة الاجتناعية والرفاهية.

في حكاية الكراهية، هناك طرف يريد من الناس أن يخافوا بأي طريقة.. مطلوب منهم أن يعيشوا في أغلال الكراهية، يريدون مواطنا طائفيا بامتياز، لا يسأل عن عدد الذين تم اضطهادهم أو قتلهم، وإنما يستنكر الخروج على إرادة أمراء الطائفة، الذين بيدهم مفاتيح الدنيا.. مواطن يكره جاره لأنه لا ينتمي إلى طائفته.. ومن أجل هذا فلابد من إقامة نظام يحدد لك من هم أعداؤك، ومن المسموح لك بمصافحتهم.. ولأنك مواطن ضعيف، فلابد من حمايتك من تأثير الغرباء الذين يتآمرون على قيم المجتمع، لذلك عليك أن تخاف من كل ما لا ينتمي لعقيدتك.. والأهم عليك أن تتخندق في مواجهة الجميع.

الخائفون يسهل تدجينهم، ويسهل ملء عقولهم بسيناريوهات المؤامرات، يسهل إقناعهم بالخطر الذي يتهددهم في الدنيا والآخرة .

الخائفون مطلوب منهم ألا يصدقوا تقارير المنظمات العالمية من أن العراقيين في مقدمة قائمة الشعوب الأكثر تعاسة، لأن مطلوب منهم أن يحمدوا الله، لانهم يعيشون في عصر " نواب الطوائف " .

استئصال المختلفين معك عقيدة يريد أمراء الطوائف تثبيتها في أذهان الناس، وعلى الإعلام والقضاء الانضمام إلى جوقة "السمع والطاعة"، هكذا يراد منا أن نعيش في ظل دولة الكراهية التي تصرّ على أن تجعل من الطائفة هوية، بديلا للمواطنة.. وتفسير الفشل في الخدمات والأزمات السياسية بأنه نتيجة المؤامرات الخارجية.. بضاعة الكراهية هي كل ما تبقى عند مسؤولينا وسياسيينا.. كراهية تقوم على التمييز بين أبناء هذا البلد على أساس مدى قربهم من هذا الحزب ودفاعهم عن تلك الطائفة .

***

علي حسين

إن العقل الذي ينشد الحرب، ويأبى الحوار في أفق عقلاني، هو عقل متوحش دموي، ذو نزعة تسلطية، تغيب عنه شمس القيم الإنسانية الكونية.

كلما حاول الإنسان تحرير نفسه من آلام الماضي وجراحاته هبت عليه رياحه برماده المشتعل سوادا، فتنتقي ذاكرته منه ما يخدم غليان حاضره بحطب الذذكريات، وذلك لأن نوازعه تفضل بالأحرى إحياء الفترات التي تشعره بالتفوق، فيطمس عن طريقها الفترات المشينة وقيود الذكريات الأليمة. فهويتنا عامة مستمدَّة من ماضينا الذي كلما تخلينا عنه فقدنا البوصلة، وأضعنا مفتاح الوجود، ومن ثمة نكون قدفسحنا للخوف المجال ليسيطر علينا، وأحسسنا بأن الخطر يحدق بنا من كل حدب وصوب. وعليه، فإننا نتشبث بهذه الهوية الخاصة، ناسين أننا نعيش في مجموعات بشرية مختلفة، فننجر ـ تحت ضغط هوَس الهوية ـ إلى الدفاع عن حقنا في الوجود، حتى ولو أدى ذلك إلى العسف على حقوق الآخرين أيضاً في الوجود.

إن الذكريات المسمومة التي تأتينا من الماضي هي التي تحثنا على الثأر، وعلى إشعال الحروب، إما طمسا لسواد الماضي وانكساراته، وإما إعلاء لنغمة زهو، لم يعد الزمن يستسيغها، ويستحبُّ العيش فيها. وكيف ما كانت الذرائع المرفوعة لشرعنة الحرب، تبقى أوْهَى من خيوط العنكبوت. فالحرب في حد ذاتها جريمة لا تعلو عليها جريمة، ولا تغرَّنك التسميات التي تُبدَع لتصرف السوء عن هذه الجريمة العظمى المسماة بالحرب، ولنعتبرْ الهدفَ الأول والأخير من توثيق فظاعاتها وما يُرتكب فيها من قتل لكلِّ ما هو إنساني وجميلٌ فينا ليس تعزيزا لقدرتنا، بل هو تذكير بما ينبغي أن نحذَر منه ونحن نسير في طريق المستقبل.

فدعاة الحرب كامنون في كل الطرق التي تؤدي إلى مستقبل الإخاء، والتعاون على جعل الأرض تُشرق سلاما ورخاء، ينظِّرُون لها، وكأنهم ينظِّرون لحدائق الموت بلغة العسل، وكمْ هو مشين لوجه الفكر أمرُهم هذا، وأسطعُ وجه عن هذا المنحى هو (كلاوز فيتز)، الذي حاول في كتابه(في الحرب) أن يصوغ فلسفة الحرب، ويؤسس لها أقانيم تجعلها أكثر من مجرد فنٍّ، لأنها أقوى ارتباطا بالحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل هي نتيجة لهذه كلها. فهذا المنظٍّر للحرب كان يستمتع بها ويستلذ استلذاذ مشاهد لشريط سينمائي عن روعة العشق، ويَنظُر إليها كظاهرة وكعلم وكتصوُّر فلسفي، ويعتبرها شكلا من أشكال الوجود الاجتماعي، ونِزاعا بين المصالح الكبرى، لا يُسَويه إلا الدم.وغير خاف أن السياسة هي الرحم التي تنمو فيها الحرب وتولد مجنونة.

فالحرب هي مسألة عنف ضارٍ، لا مجال فيها إلا لسفك الدماء، وهدمِ البناء، ولا مجال فيها لرد أي حق كان بخطاب الرصاص قبل خطاب العقل. وكاذبٌ ذاك الذي يُوهم الآخرين بأنه سينتصر دون سفك دماء. فالشراسة والعدوانية والعنف والوحشية سمات من سمات أي حرب، إن اختلَّت اختلَّ مفهوم الحرب، إذ بحساب الاحتمالات تُثبِت الحربُ واقعيتها المريرة، ولا إنسانيتَها بأي وجه من الوجوه، حتى ولو حاول (كلاوز فيتز) إلباسها قناعا إنسانيا في بعض الوجوه.فهي في المحصلة تبقى مولودا بشعا تلده الساسةُ فيُزهق أرواح المحكومين، ويُبدد ممتلكاتهم وأموالهم، أما الرؤوس التي ولدته فإنها في منجى من كل هذا، بل تُحصِّل منه لنفسها على منافع ومصالح ما كانت لتحصل عليها في فترة السلم.

إن العقل الذي ينشد الحرب، ويأبى الحوار في أفق عقلاني، هو عقل متوحش دموي، ذو نزعة تسلطية، واستيهامات تَؤزُّها كاريزما مفقودة، تغيب عنه شمس القيم الإنسانية الكونية، وتشرق فيه ظلمات بعضها فوق بعض، حتى أنه لا يرى غير ظله . وإنه لا يمكن للكلمات أن تصف الشجاعة التي يحتاجها المرء كي ينسى الألم والمعاناة التي عاشها بسبب الحرب، كما أن كل الأعذار والاعتذارات والمحاكمات لا تساوي قطرة دم إنسان قتلته حرب أشعلها إنسان آخر.

ليست الشجاعة هي الانتصار في حرب، وإنما الشجاعة في أن نخطو خطوة أولى نحو مستقبل منسوج أفقُه بالسلام، وأن نتعرف بالجرائم التي اجترحناها في الماضي تحت مظلة الحرب، وذلك لأن الماضي لم يعد له أي حق علينا، بل هو الآن مجرد كتاب نأخذ منه العبر لنعيش حاضراً أفضل يقوم على العدالة.

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

 

إعتقدَ بعض المفكرين ان العمل والاضطرار الى العمل هو استلاب لحرية الانسان وتقييد لقدرته على التحرك..

لذلك كانوا يعتقدون ان ترك العمل والذهاب الى العيش في الطبيعة والاعتماد على ماتقدمه الطبيعة من مصادر للعيش سيكون بمثابة انعتاق للانسان..

البعض ذهب الى آلاسكا للعيش في البرد القارص والبعض ذهب الى اواسط الغابات والجبال لتحقيق نفس الهدف..

لكنهم لايستطيعون التحرر من الحاجات الغريزية التي تستعبد الانسان...

الذي يدفع الانسان للعمل (بيع قوة عمله) هو ضرورات العيش له ولعائلته، إن كانت له عائلة،..

ولطالما شتمتُ ولعنت ضرورات العيش عندما ارى بشراً يمارسون اعمالاً فيها اذلال واهانة وخوف وتملق وتحمل الاعتداءات..

وماذا يحصل لحاجاته عندما يعتزل الحياة المدنية ويتخلى عن الحاجات الكمالية ويذهب للعيش في البراري ؟؟

هل سيتوقف عن تناول الطعام وهل سيعيش عارياً وبدون تدفئة وبدون سقف؟؟

شاهدت افلاماً وثائقية عن حياة هؤلاء الذين يزعمون التحرر من قيود العمل، وهم يكافحون في البرد الشديد ويقاتلون الحيوانات البرية الخطيرة من اجل اصطياد سمكة او غزال او دب او التقاط فاكهة برية..

انهم يكافحون بشدة من اجل تشييد كوخ خشبي او صيانته واصلاح زوارقهم وقطع الاخشاب للتدفئة بعد سحبها في المياه المتجمدة..

بعضهم يقول انه يعاني من اوجاع الظهر واليدين والروماتيزم بسبب العمل الشاق والتعرض للبرد..

النتيجة كما اراها، انهم تخلصوا فقط من سلطة المدير وسلطة ساعات الدوام الصارمة، لكنهم وقعوا تحت سلطة الحاجة وسلطة الطبيعة التي لاترحم..

ابتلاء الانسان يرافقه حتى ذهابه الى القبر..

لقد ابتلي بالحاجات والتي يستطيع تقليصها فقط لكنه لايستطيع التخلص منها الا عن طريق الانتحار، وهذا ليس حلاً بالطبع !!

انه ابتلاء لادور له فيه، انه يشبه ابتلاء الولادة وابتلاء الموت الحتمي الذي لافرار منه..المسافة التي تتوسط الفترة بين الولادة والموت سوف تكون مشغولة برحلة من الكفاح والشقاء

والخوف من مجريات الحياة وتحدياتها من جانب ومن قلق الموت الذي قد يداهم الانسان في اي لحظة وفي اي مكان ولأي سبب.

***

د. صلاح حزام

ليست الكلماتُ التي تُقالُ في حضرة الخوف سواءً، فبعضها يموتُ حال خروجه، وبعضها - حين يُقال في وجه الطغيان - يُصبحُ حياةً أبدية. التاريخ ليس حكايةً تُروى، ولا سِفرًا يُطوى، بل هو الوجدان الجمعي الذي يسكنُ ذاكرةَ الشعوب، يشتعل في ضمائرهم، ويتوهّج في مسيرتهم الطويلة صوب النور. هو مرآة الوجود، نرى فيها انعكاسَ صراعٍ أبدي بين النور والظلمة، بين العدل والظلم، بين الحرية التي ترفرف بجناحي الكرامة، والطغيان الذي يحاول قصّهما. في كل سطرٍ من أسطره، يرتسم وجدان الإنسان في سعيه لفهم ذاته وتحرير روحه. كما قال هيجل، "تاريخ العالم ليس سوى تقدم وعي الحرية"، فهو ليس سرداً للأحداث، بل نهوضٌ دائم من رماد الضعف إلى شعلة الإدراك.

وحين تشتدّ العواصف، ويتسلّط الجبابرة، لا يعود التاريخ مجرد قاضٍ بل يصبح ساحةً للمواجهة. فكم من طاغيةٍ امتطى صهوة القوة، ظنًا منه أنه قادرٌ على ليّ عنق الحقيقة، غير مدرك أن الحقّ، وإن كبا، لا يُكسر. تلك القوى الطاغية التي عبرت الوجود، كانت تمضي عمياء لا تبصر غير أطماعها، لا تكترث للعدل، لا تنحني للقيم، تسعى لفرض سطوتها ولو على أنقاض الأرواح. الطغيان، بطبيعته، لا يعرف سوى مسارين: سحق الأحرار أو استعبادهم، لكنه في كل مرةٍ يخطو، يكتب عن غير قصدٍ بداية نهايته.

ورغم ما يُبنى من تماثيلٍ من صخرٍ وهياكلَ من رخام، فإن ما يبقى في ذاكرة الأمم أعمق وأعظم: تماثيلٌ من نورٍ شُيّدت في العقول، منبطحةً في القلوب، تروي سِيَر أولئك الذين وقفوا وحدهم بوجه العواصف، ورفضوا أن يبيعوا إنسانيتهم بثمن السلامة. المسيح لم يخشَ صليب الطغاة، والحسين لم يساوم على عزّته في وجه السيوف. لقد استقى من نور جدّه الرسول الثبات واليقين، إذ صدع بكلمة لا تعرف المساومة: "لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الأمر... ما تركته". وهكذا، حين وقف في كربلاء، لم يكن صوته صدى لحظته، بل نداءَ كلِّ زمان: "لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد“.

تلك الكلمة ليست مجرد رفض، بل إعلانُ ولادةٍ جديدةٍ للكرامة. إن الإنسان، كما قال روسو، حين يتنازل عن حريته، يتنازل عن إنسانيته، عن ذاته وواجبه معًا. والحسينُ، إذ رفض التنازل، لم يُنقذ نفسه، بل أنقذ روح الإنسان من خنوعها، ونفخ فيها من عزيمته ما يجعلها عصيّةً على السقوط.

ورغم تعاقب القرون وتعفّن الذاكرة لدى بعضهم، بقي الحسين حقيقًة نابضة، لا يمحوها التراب ولا تُطفئها السنون. فـكربلاء لم تكن نهاية، بل بدءٌ جديد لرحلة الحقّ في وجه الباطل. تماثيله لا تزال تُنصب في الضمائر، تسكن أرواح المظلومين، وتشدُّ على أيادي المقاومين. هنا يُصدَق نيتشه حين تحدّث عن "التاريخ الفعّال" – ذاك الذي لا يُروى ليُنسى، بل يُستحضر ليُغيّر.

أما يزيد، فقد خلّفه الزمنُ في مزبلة النسيان، تحرسه لعنات الأحرار، وتحاكمه أجيالٌ لم تعرفه، لكنها عرفت طغيانه. ظنّ أنه انتصر حين أسكت صوت الحسين، ولم يدرِ أن الصوت الذي يسكن في الضمير، لا يُخرس، وأن الدم حين يُسكب من أجل الحقّ، لا يجفُّ بل يزهرُ في وجدان البشرية قيماً خالدة.

هكذا يبقى التاريخ ضميرًا لا ينام، يحفظ الذاكرة ويغرس فينا المعنى، ويهمس لنا كلما تهددنا الظلم: قفْ، فثمة من قال "لا" قبلك، وبقي خالدًا.

***

حميد علي القحطاني

لا شيء أصعب على الإنسان من شعوره بالعجز وعدم القدرة على الجري في ميدان البهجة، لما في هذا الشعور من خذلان للنفس واحساس بالاستسلام للشيخوخة والركوع امام جبروت الزمن، فهي لحظات مدمرة للذات الانسانية ان يشعر الانسان انه لم يعد قادرا على انجاز فعل مع وجود الرغبة والارادة لإنجازه، ويبدو ان الدراسة النمساوية التي توصلت اليها " جامعة فيينا " والتي تفيد (ان نوم الرجل بجوار زوجته يومّيا يزيد نسبة غبائه تدريجيا) جاءت بشارة للعاجزين عن تلبية حاجة الطرف الاخر، فهي طوق نجاة لمن أدركته الشيخوخة مبكرا وبات سكينه أعمى لا يقطع ورقة، حيث تعد هذه الدراسة بمثابة حقنة مهدئة لحقيقة مرّة تصرخ داخل البعض ممن يعيش القلق والعذاب النفسي جراء تخلفه عن مواصلة الصهيل مثل فرس جامح على الرغم من ان نتائج هذه الدراسة تتقاطع مع ما يقوله الشاعر الفرنسي "مالكولم دو شازال" ان (نوم اثنين معاً يجعل الليل أقل عتمة)، فالعجز كما يصفه علم النفس هو مشكلة خطيرة يؤثر على نفسية الانسان فهو يسبب الاكتئاب والغضب والانعزال الاجتماعي والافتقار الى الثقة بالنفس والتشاؤم يضاف الى الحرج الاجتماعي الذي يسببه العجز لارتباطه بموضوع الفحولة المهيمنة على العقلية العربية .

لقد اتصفت كنايات العرب عن العجز بحسن الاستعارة والبلاغة الوافية المعبرّة، فالجرجاني يقول في كناياته عن الخذلان ان امرأة تزوجت من شيخ فقالت فيه:

عذبنّي الشيخ بألوان السهر

 بالشّم والتقبيل منه والنظر

*

حتى اذا ما كان في وقت السحر

  وصوّب المفتاح في القفل انكسر

وشاعر عباسي من القرن الثالث الهجري هو ابي حكيمة شداد بن اسحاق كتب الكثير من شعره عن معاناته من العجز، ففي اشعاره لم يبك على الاطلال كما تفعل العرب عادة بل كان بكاؤه على اطلال " عدة الجنس " التي خذلته في كبره حيث يرثي حاله:

لا يوحشنّك فقدُ الحيّ إن رحلوا

دعْهم لكلّ فقيدٍ منهمُ بَدَلُ

*

ولا تقف بين أطلالٍ تسائلها

فلن يردّ جواب السائل الطللُ

*

ولتبكِ عينك (....أً) لا حراك به

لا اللمس يُنشطه يوماً ولا القُبَلُ

***

ثامر الحاج أمين

 

مأساة الإمبراطوريات العابرة

إنَّ في أعطاف التاريخ عبرًا لا تنضب، وفي طياته ملامحَ لإمبراطورياتٍ اعتقدت، في عنفوان سطوتها، أنّ كسب المعاركِ هو الضمانة الأبدية للبقاء، وأنّ زخَّات النصر الجزئي تُغني عن عمق الرؤية وشمولية الغاية، لكن سرعان ما انطفأت نجومها، وانكسرت تحت وطأة ما لم تحسب له حسابًا: إنها الهزيمة الكبرى، لا في ساحة القتال، بل في ميدان البقاء الوجودي والرسالي، في اختبار الأخلاق والتاريخ والوعي الجمعي.

فالإمبراطوريةُ التي تكسب المعارك وتخسر الحروب، هي كيانٌ يبدو جبارًا في لحظة، هشًّا في المصير، تتكدّس لها الانتصارات الصغيرة كما تتكدّس الغيوم في الأفق، لكنها غيومٌ بلا مطر، تصنع برقًا بلا ديمومة، وتملأ الأرض هديرًا لا يغيّر المجرى.

بين كسب المعركة وخسارة الحرب

إنَّ الفرقَ بين المعركة والحرب ليس مجرّد فارقٍ اصطلاحي، بل هو فارقٌ في المعنى الجوهري للتاريخ.

المعركة قد تُخاض في ميدانٍ محدود، وتُكسب بفضلِ خطّةٍ محكمة أو تقنية متفوقة أو حتى صدفةٍ مواتية، بينما الحرب هي مجموع الرؤى والاستراتيجيات والمآلات، هي امتحان التاريخ للنية والمنهج والهدف.

فما أكثر الإمبراطوريات التي تغنّت بسجلها العسكري، وملأت كتبها بانتصاراتها الكمية، ثم لم تلبث أن سقطت، لا لأنها هُزِمت على الأرض، بل لأنها خسرت الأرضية الأخلاقية، وانفصلت عن شعوبها، وعن رسالتها، وتحولت من مشروعٍ إلى جثة ترفل بوشاحٍ مزيّف.

أمثلة من التاريخ:

روما كسبت معارك كثيرة ضد أعدائها، لكنها ما إن تفسّخت أخلاقيًا، وتحولت إلى مسرحٍ للنزوات والانقسامات الطبقية، حتى غابت شمسها، وتهدّمت على يد قبائل لم تبلغ نصف قوتها العسكرية.

النازية ربحت معارك عديدة، وجابت مدرّعاتها أوروبا من أقصاها إلى أقصاها، لكنها خسرت الحرب لا بسبب بندقية، بل بسبب فكرة، إذ لم تستطع أن تُبرّر وجودها إلا بالقمع، ولا أن تسوّغ تفوقها إلا بالإقصاء، فسقطت كما يسقط كائن بلا روح.

الاتحاد السوفيتي أذهل العالم بسباق التسلّح وبقوة الاستخبارات وبانتصاراته الاستراتيجية، لكنه خسر الحرب الوجودية لأنه خسر الإنسان، سحق الفرد لحساب الدولة، فانهارت الجدران التي رفعها حول وهم القوة.

عندما تغرب الشمس

حين تغرب شمسُ الإمبراطورية، لا تغرب فجأة، بل تبدأ الغيوم بالتراكم في سمائها من حيث لا يُرى:

في الأخلاق المتداعية،

في النخب المنعزلة،

في ازدراء الشعوب،

في غياب الغاية الجامعة،

وفي تحوّل الانتصارات العسكرية إلى غنائم نسي فيها المنتصر لماذا بدأ.

فما فائدة أن تكسب الإمبراطوريةُ ألف معركة، وقد خسرت معركة المعنى؟

وما نفع أن تزرع في كل مدينة تمثالًا لقائدٍ عسكريّ، وقد ماتت القيم التي قامت عليها أول مرة؟

إنّ الإمبراطورية التي تنتشي بسجّل المعارك، ولا تلتفت إلى عمق المآلات، هي عربةٌ تسير فوق سكّةٍ مقطوعة، مهما بدا الموكبُ مهيبًا، فإنَّ النهاية حتمًا إلى هاوية.

الأخلاق هي الخيط الأخير:

لا تنتصر الإمبراطوريات بالسلاح وحده، ولا بالدبلوماسية ولا بجبروت الاقتصاد، بل تنتصر حين تتّسق مع روح الإنسان، وتحمل قيمة عليا تتجاوز القوة نحو المعنى.

وإذا سقطت القيم من مشروعها، فإنّ كل نصرٍ عسكري يتحول إلى خرافة، وكل معركة رابحة تتحول إلى دليل على عمى البصيرة.

قلْ إذًا، في لحظةٍ فارقة:

إذا كسبت الإمبراطوريةُ المعاركَ وخسرتِ الحروب، فقلْ: غربت شمسها.

فالشمس لا تشرق على صليل السيوف فقط، بل على المعنى، والعدل، والرسالة.

ومن خسر ذلك، خسر كلّ شيء، وإن انتصر في كلّ شيء.

***

بقلم : عماد خالد رحمة - برلين

 

يأخذ مفهوم الردع المتبادل شكلا تقييمياً يتمحور حول معيار القيمة ومعيار الجدوى عند إحتدام الصراع.. هذان المعياران مهمان في وضع تفسير او تحليل لقيمة الفعل السياسي والعسكري والجدوى منه، طالما بات الردع متبادلا في التصعيد، ولكن إلى أين؟

التكافؤ في القوة أحد أهم المعايير، تسبقها عناصر القوة (المساحة وعمقها الجغرافي وتضاريسها ومكوناتها وثرواتها ومعادنها وحشدها المالي والبشري فضلا عن تحالفات القوى الداخلية والقوى الخارجية.

فالردع التقليدي يعتمد على القدرات التقليدية، أما الردع غير التقليدي (النووي والكيميائي والجرثومي) فأسلحته محرمة دولياً، طالما تعد من اسلحة الإبادة.

فإمتلاك القدرات النووية خطوة على طريق التطور السلمي.. وترتبط سلمية هذا التطور بسياسة الدولة ونهجها.. فإذا كان نهج الدولة السياسي غير عدواني ولا يرمي إلى التطلع بغائية عدوانية نحو الخارج وإن تاريخه السياسي لا يشير إلى العدوان والهيمنة، فإن إمتلاك القدرات النووية حق مشروع من اجل التطور، أما إذا كان تاريخ الدولة فيه ما يكفي للإدانة، فإن امتلاك القدرات النووية والكيميائية والجرثومية يعد خطرا يتوجب إحتوائه واحكام الطوق عليه وعزله نهائيا ومنعه عن بناء هذه القدرات في غفلة من الزمن.. فالحياة الاقليمية والدولية لا يجب أن تتحكم بها أهواء دولة إقليمية تعرض أمن المنطقة واستقرارها إلى الخطر

***

د. جودت العاني

 

دخلت ذات يوم في مكتبة عريقة للتراث (في جامع الملك عبد الله في عمان)، ورحت أتصفح ما تحتويه من أمهات الكتب والمجلدات، وأمضيت أسابيعَ متواصلة أغوص في كتبها، حتى وجدتني في حيرة ودهشة أمام العطاء المتنوع والشامل على مدى قرون من الحضارة، والتعمق الفكري والفلسفي والمعرفي الكوني الأبعاد والتطلعات.

وكنت قبلها أحسبني قد عرفت وأستطيع أن أقول وأبدي رأيا وأناقش حالة أو موقفا، كأي عربي يتكلم اللغة وينسب إلى نفسه فهم الدين ووعي مفرداته، لكنني وأنا في المكتبة أدركت ضآلة القدرات الفردية وعجزها مهما حاولت أن ترتقي إلى إستيعاب هذه الغزارة الإبداعية الفياضة، المتناوِلة لكل ما يخطر على بال من مفردات الحياة والموت والكون.

وأدركت بأن العطاء الإبداعي للأمة لا يستطيع أن يحيط به عقل فرد واحد بكفاءة وتمكّن مهما حاول، ولو أفنى عمره في الدراسة والبحث والفهم.

فهذا التراث المنير الخلاق بحاجة إلى جمهرة عقول ذكية، يدرس كل منها شأنا وعليها أن تتفاعل بروح علمية وإنسانية راقية، لكي تقرر أمورا معينة في زمن الثورة المعلوماتية الهائلة.

إن العلوم المعرفية الفكرية والإنسانية والدينية من الغزارة والعمق والدقة والشمول ما لم يحصل في تأريخ البشرية من قبل.

هذا الفيض المعلوماتي النابع من الثقافة القرآنية والأحاديث النبوية ومسيرة الصحابة والأولياء والصالحين وإجتهادات مفكري أبناء الأمة على مر القرون، يطرح سؤالا على أبناء الجيل الحاضر والأجيال القادمة عنوانه: كيف يتم الإلمام العلمي والواقعي الصحيح بهذا الجهد الفكري الفياض؟

وكيف يتم التعبير عنه في أزمنة متجددة وتطورات بشرية حاصلة؟

إن النظرة الفردية للموضوع لا أظنها ستكون عادلة وموفية بالأغراض العلمية والشرعية والفقهية، بل أنها ستحقق أضرارا وإنحرافات، لأن الفرد عليه أن يستوعب العلوم الإلهية وجوهر مكنونات العلوم الكونية ويكتسب درجة معرفية عالية، ويحيط بالعلوم المعاصرة المتجددة، وهذا لا يتحقق بسهولة في أيامنا المتدفقة بثوراتها العلمية والمعرفية.

 إن أبواب الإجتهاد والإبداع الفكري مفتوحة ومطلقة، على أن تكون ذات إسنادات فكرية ومعرفية واضحة شأنها شأن أي بحث علمي.

والذي ننساه هو أن المفكرين في مسيرة الأمة، وعبر مراحلها  ومنذ بداية تدوينهم لأفكارهم، قد إنتهجوا نهجا بحثيا وعلميا لا يختلف كثيرا عن مناهج البحث العلمي التي نتبعها اليوم.

فيكون الإجتهاد عبارة عن إستنتاج بحثي رصين يمتلك الأهلية للحياة في مكانه وزمانه.

وعليه فالأمة بحاجة لجمهرة عقول عاملة تتفاعل فيما بينها، ومن خلال وعيها ومعرفتها في حقل إختصاصها وتفكيرها تستطيع أن تعطي ما ينفعها .

فالعقل الفردي لا يمكنه ومهما إدّعى درجة العلمية والدراية أن يكون صحيحا ومنصفا، إن لم يتفاعل مع عقول مماثلة له، لكي يتحقق الوصول إلى إستنتاج معقول، وفيه درجة متوازنة من الصحة والصواب.

لأن الفرد لو أمضى عمره كله في التبحر بالعلوم المتراكمة لا يمكنه أن يلم بها، لأنها نتاج أجيال متعاقبة من العلماء والمفكرين، فالفرد دون ذلك الوعي والإدراك بكثير، لأنه لا يمكنه أن يرى إلا جزءا صغيرا ووفقا لما إستوعبه وتمثله في عقله ورؤاه وإستحضرته له زاوية نظره.

ولهذا يكون من المفيد أن يبحث فريق عمل من جيل متعلم ومتفقه في جوانب الدين المختلفة للإحاطة المعقولة والوعي المنصف.

إن الحياة المعاصرة تتطلب من أبناء الأمة برؤاهم وتصوراتهم أن يجلسوا مع بعضهم في مجلس شورى، لكي يكونوا بمستوى رسالة الدين وعظيم شأنه وعمق إدراكه ورؤيته للحياة والوجود البشري.

إن مشكلة الأمة في هذه الغزارة الإبداعية والعطاء الكثير، الذي يجعل أبناءها يتحولون إلى فرق وجماعات كل حسب ما أدرك ووعى، وما وعى إلا القليل القليل، وبقي الكثير الكثير، الذي هو بحاجة إلى وعي وإدراك حكيم وعاقل.

والمصيبة الكبرى في غزارة الجهل والأمية، أمام هذه الغزارة المعرفية الواسعة.

وكأنها تعيد للأذهان صرخة جبريل عليه السلام بمحمد (ص) "إقرأ..إقرأ" فهل نحن نقرأ أو نتوهم القراءة والمعرفة ونتصورها؟!!

كما أن إبداع الأمة يتناول كل كبيرة وصغيرة، ويمضي إلى أعماق المجهول، ويستند على حقائق وإفتراضات حكيمة، لكن التمسك بالفروع والإبتعاد عن الأصول يحوّل البحار إلى أنهار،  والأنهار إلى سواقي، والسواقي إلى ترع يتنازع عليها من يدّعي أنها ذات شأن يعنيه.

وهكذا فإن الفرد لا يمكنه بسهولة الإحاطة بفضاءات المعرفة الشاملة.

وفي الزمن الذي نعيشه تفرض عليه الحياة ما تفرض من متطلبات وقيود وحدود، وهذا قد يدفعه إلى القول بما لا يعرف ظنا منه أنه يعرف.

كما أن من الضروري الإطلاع على الديانات البشرية الأخرى، لكي يدرك المسلم قيمة دينه ودوره السامي في الحياة، بدلا من الإنخراط في رؤى وتوجهات سلبية لا تنفعه وتضر بدينه.

أدعو الله أن يفقه المسلمين في دينهم، ويلهمهم سواء السبيل، ويوحد كلمتهم ويرفع راياتهم، ويعلي كلمة أمتهم، بكل مدارسها ومذاهبها، ويسعى الجميع للحفاظ على هذه الخيمة الإلهية المباركة التي تستظل بها الأجيال.

فالإسلام خيمة كبيرة أعمدتها وأوتادها المدارس والمذاهب والفرق، التي تولدت بسبب غزارة العطاء الفكري، وتعاظم البحث والإجتهاد على مر العصور،  وهي مصادر قوة وإثراء للدين، وليست ضعفا كما يتوهم البعض، بل أنها من ضرورات التفاعل الصحيح ما بين الدين والحياة.

والحقيقة الجوهرية أن الكتاب واحد، والتأويل والتفسير يتنوع، وهو من باب الإجتهاد والرأي المطلوب للتواصل مع الزمان والتفاعل مع المكان، فلنختلف فيما نرى ونجتهد ونؤول ونفسر، وعلينا أن لا ننسى أن ربنا واحد وكتابنا واحد ونبينا واحد.

"إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون"

"وقل ربي زدني علما"

"وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"

***

د. صادق السامرائي

بعد الحرب العالمية الأولى توجب محق مفهوم الأمة، وتأمين أسباب الفرقة والصراعات البينية والتفاعلات السلبية لدولها المغفلة المضللة بأنها لن تكون إلا بالوحدة، فطرحت شعاراتها السرابية للنيل منها وتمزيق كينوناتها الوطنية، وتعزيز عوامل التشظي والتنافر والتفتت الذي يوقده الطامعون بها.

دول الأمة تناست الإتحاد أو نأت عنه رغم أنها لم تغفله على لسان قادتها الأوائل، لكنها راحت تهرول وراء كلمة وحدة، وهي لا تستوعب شروطها وعناصر تحقيقها فحولتها إلى نكسات، ورمتها قي فضاءات الخيال البعيد.

الوحدة وفقا لمفاهيم العواطف الثورية بعيدة المنال، والإتحاد بمفهومه الواقعي العملي المنطقي ممكن التحقق والإنطلاق النافع لدول الأمة، ولأجيالها الوافدة إلى ميادين الحياة الحرة الكريمة.

ويبدو أن الطامعين بالأمة، يعملون وفقا لرؤيتهم القائلة بأن ما صنع الأمة يدمرها، ويقصدون بذلك الدين، ولهذا وُجدت الأحزاب الدينية اللازمة لتأمين وتكريس الفرقة والتناحر البيني، ومن ثم الأحزاب القومية اللازمة لتأجيج الصراع، فصارت مجتمعات الأمة بين صراعات دينية - دينية، وتحزبية – تحزبية، دينية – تحزبية، حتى وصلت إلى ما هي عليه من مراتب الضعف والتبعية والإمتهان.

ولن تستعيد دولها هيبتها ودورها وقيمتها، إن لم تترك مفاهيمها الفاسدة وتتحرر من قبضة كان وقال، وتتفاعل مع مفردات عصرها بعقل منفتح، وجرأة معرفية ذات قدرة على إحداث التغيير اللازم لصناعة الحياة الأفضل للأجيال.

وعليها أن تحترم دينها، لا أن تهينه بالتحزبيات والأوهام السياسية والسلطوية الغاشمة، التي زعزعت أركان الدين وحولته إلى ميادين لسفك الدماء والجور والظلم والمفاسد والإنحطاط القيمي والأخلاقي، فالدين دين والسياسة سياسة، والخلط بينهما جناية عليهما.

فهل وجدتم دينا لا يفرق؟

إسألوا الكنائس والمعابد والحركات المؤدينة بأنواعها، فعندهم الخبر اليقين!!

توحدنا خيالٌ لا يكونُ

فهل نجحت شعاراتٌ تصونُ

أكاذيبٌ بها الأجيال خابت

فكل حروبها فيها جنونُ

بنا عبثت وما جلبت مفيدا

إرادتنا بما وعدت تهونُ

إذا اتحدت رؤانا إستفقنا

ودامت في مناعتنا الحصونُ

***

د. صادق السامرائي

 

هل يمكننا تعريف السياسة بأنها مهارات تحقيق السعادة؟.. قد يبدو السؤال غريبا، لكنه يمتلك رصيدا معقولا من الواقعية ويستحق النظر والتفكير. فالمجتعات السعيدة عندها أنظمة سياسية مستقرة، وساسة مرموقون يجيدون فنون الإرتقاء بمجتمعاتهم إلى حالات متقدمة ومتواكبة مع زمنها، وربما متقدمة عليه.

والمجتمعات التعيسة، لا تمتلك أنظمة سياسية واضحة، ولا يوجد فيها ساسة محنكون قادرون على أخذها إلى آفاق التقدم والنماء.

فبعض المجتمعات برغم ما عندها من الثروات، تتميّز بالتعاسة والمآسي والويلات، وقلة الفرح وإنعدامه، وتستلطف الحزن واللطم على الأموات، والتغني المأساوي بما فات.

مجتمعات فيها كل ما تحتاجه لتحقيق السعادة، ولا تعرفها ولا تقترب منها، ومنشغلة بالصراعات الفتاكة، وبإستحضار أسباب ومولدات التعاسة والويلات.

وهذا يشير إلى أن أهم سبب في هذه المعادلة الدامية هو غياب المهارات السياسية، وفقدان البوصلة الوطنية الإجتماعية، وعدم وجود الحنكة السياسية، والنظريات التي يسترشد بها القادة في الحياة.

وعليه فأن الجهل السياسي يؤدي إلى التعاسة، والمعرفة السياسية والفهم المعاصر لمهاراتها ونظرياتها يساهم في بناء السعادة.

ولهذا فأن العديد من المجتمعات برغم محدودية ثرواتها ومصادرها، إستطاعت أن تبني سعادتها، بينما مجتمعات غنية بثرواتها وتأريخها وتراثها لكنها تتميز بتعاسة واضحة، ويعشعش القهر والحرمان والإستلاب في أركانها.

وهذا يشير إلى أن العيب الأساسي يكمن في المهارات السياسية، وليس بغيرها.

قد يقول قائل ما يقول، ويحلل ويستنتج ويأتي بنظريات وتفسيرات وما يشاء من الرؤى والتصورات، لكنه ينسى بأن المشكلة الحقيقية أصلها في غياب النظام السياسي الناضج الصحيح المناسب القادر على تحقيق السعادة الإجتماعية والوطنية، التي تبدو واضحة على قسمات وجوه أبناء المجتمعات المتقدمة.

بينما لا نرى هذه الملامح على وجوهنا، رغم الثراء الطبيعي والغني الفاحش قي بلداننا المحكومة بالنفط، والذي عجزنا عن إستثماره من أجل سعادتنا، وحققنا بواسطته أعلى درجات التعاسة الممكنة في حاضرنا ومستقبلنا.

ولا نملك أملا في بناء السعادة الوطنية، إلا بتسليم القيادة للشباب الوافد الذي نرجو أن يحررنا من تعاستنا، ويعلمنا كيف نبني آفاق السعادة الوطنية المنشودة.

فساستنا وأحزابنا وحركاتنا خبيرة في إرساء دعائم المشاريع المولدة لمزيد من التعاسة والعناء، ولا يوجد نظام حكم في بلداننا يتكلم بلغة الفرح والأمل، وإنما جميعها تتحدث بمفردات التهديد والوعيد والخراب التعذيب والحرمان والقتل والتغييب في المعتقلات والسجون.

وتسعى بجد ونشاط من أجل تعويق حركة الناس وأسرهم في أصفاد الحاجات المتفاقمة، وتسمي هذه الأساليب التعسفية سياسة وحكما، وهي إمتهان وتفريق وتبديد للطاقات ومحق للبشر الذي لا يمكنه أن يكون يوما سعيدا.

ويبدو أن من حقنا أن نقيّم أنظمة الحكم وفقا لمقياس السعادة والتعاسة، فإذا كانت السعادة سائدة في المجتمع فهي مقبولة وناجحة، وإذا كانت التعاسة متفوقة فعلينا أن نقول لها بوضوح: " الشعب يريد تغيير النظام".

يا كراسي يا ينابيع المآسي

أنتِ عنوان دمارٍ وافتراسِ

لا سعيدٌ في ديارٍ من وجيعٍ

وعذابٍ وامتهانٍ واندراس

وسعيدٌ سيّد الأيام فيها

يجعل الأوطان في بئر انتكاسِ

***

د. صادق السامرائي

 

الزراعة والصناعة مرتكزان أساسيان للقوة والإقتدار، فمن لا يزرع ولا يصنع عليه أن لا يتمنطق بالقوة، ويعرف قدر نفسه وسط مسيرة التفاعلات الأرضية المحتدمة، والساعية منذ الأزل نحو مصادر الطاقة بأنواعها ومقتضيات تطورها.

المتوهمون بأن القوة عسكرية بحتة، وتكنولوجية خالصة بعيدون عن واقع الحياة، فأساس القوة توفر المواد الغذائية وإزدهار الزراعة وتطورها، لتوفر الطعام للبشر لكي يعمل ويستثمر وقته بنشاطات إبداعية خلاقة.

والمعروف أن الحضارات بدأت في وادي الرافدين والنيل، لأنهما وفرا أسباب الأمن الغذائي، وأصبح للناس وقتا للتفكير والإبداع، فكانت مرتكزات الإنطلاق الكبرى.

تخيلوا لو أن الدول القوية عسكريا وتكنلوجيا، عانت من أزمات توفير الطعام، فهل ستبقى قوية؟

إن ما تغفله العديد من المجتمعات المضللة أن الزراعة أساس كل قدرة فردية أو جماعية، فعندما تمتلئ البطون تتفاعل العقول وتنتج مبتكرات، وتستحضر أفكارا ذات تأثير في مسيرة الحياة.

فهل وجدتم جائعا يبتكر ويصنع؟

إن من أهم أسباب تردي بعض المجتمعات هو آفة الجوع، التي تنخر وجودها وتحطم أخلاقها وقيمها وتدفعها إلى جحيمات التباغض والتصارع المبيد.

فحاربوا الجوع والفاقة لتصنعوا الحياة.

إذا تزرع بها تصنع جديدا

ولا تصنع إذا قتلت حصيدا

حرائق عزنا منا ذكاها

تجوّعنا وترهننا عبيدا

هي الأرض التي منها أتينا

ستأكلنا وتجعلنا قديدا

***

د. صادق السامرائي

 

ليس وهما أو هذيانا أو من وحي الخرافات والأساطير، إنها حقائق كونية وإرادات أرضية، فأمنا الدوّارة كائن حي وكل ما عليها حي، وفيه نبض الحركة والتفاعل مع عناصرها ومفردات ديمومتها الخلاقة المتجددة، المحكومة بطاقات الدوران.

والأنهار أوردة وشرايين الأرض، التي تضخها بقوة دفع قلبها الناري الدفاق.

والعلاقة بين الأنهار وما حولها، تبادلية تفاعلية ذات مردودات متباينة، وتأثيرات متنوعة، وهي تستجيب لما حولها وتعبر عما يحتويه من المشاعر والأفكار.

والبشر من أهم مفردات التفاعل مع الأنهار، وبعده الشجر والأطيار، وأي إضطراب في العلاقة بين البشر والنهر تتسبب بتداعيات وخيمة على البيئة.

وعندما نقارن بين الأنهار الجارية في الأرض، نجد منها السعيد والنكيد، فنهر السين مثلا، تشعر بسعادته وبهجته وقوة تدفقه، وتبختره كتعبير عن منبع الحياة وروعتها، فالفرنسيون يحترمونه ويعتنون بضفافة ويزيدونها جمالا وفتنة، فما أروع ضفاف نهر السين.

وفي المقابل تتأمل أنهارنا كالنيل ودجلة والفرات، فتجدها حزينة بائسة متثاقلة الجريان، وتتساءل عن السر في هذا التباين، وتكتشف أن البشر حولها لا يحترمها، ويهين ضفافها، وينكر عطاءها ولا يحرص على مياهها،  فينأى عن التفاعل الإيجابي معها.

هي الأنهار منطلق الحياةِ

إذا نضبت تواصت بالممات

ومن حسب المياه بلا قلوبٍ

سيشقى في معاينة النبات

فعش أملا لأنهار ارتقاءٍ

وعنوانا لراعية الفرات

كأنا من جهالتنا بخسرٍ

وأناتٍ بأقبية العُناةِ

***

د. صادق السامرائي

الكون الشاسع كالبحار والمحيطات فيه كواسر خطيرة تبتلع الأحياء من حولها، وفي الكون ثقوب سوداء تشفط المجاميع الشمسية كلما إقتربت منها، وتهضمها وتعيد تصنيعها بعد أن تتمثلها وتلدها من رحمها المتجدد المعطاء.

ولا يعرف كم عدد ما تبتلعه في وقت معين، فهي تبدو ذات نشاط دائب، ولا تشبع من أكل الأجرام السماوية ومجموعاتها الشمسية أو الكوكبية.

وهذا يعني أن مجموعتنا الشمسية ستكون ذات يوم قريبة من فم ثقب أسود فيلتقطها كلمح البصر، وينتهي كل شيئ بلا سابق إنذار، وهذا اللحظ الموعود قادم لا محالة، ولا يمكن معرفة وقته، وربما سيدرك ذلك أقوام القرون الآتيات.

سيأتي دور مجموعتنا الشمسية لا محالة، وسيسرطها ثقب أسود ويحيلها هباءً منثورا، وهذا يعني أنها القارعة التي ستخطف الأبصار والأرواح فورا.

وإذا البحار سجرت، فمياه الأرض بحاجة لقدحة لتتحول إلى سعير.

أعاصير تباغتنا بكيدِ

تدمرنا وترمينا لوغدِ

تسائلنا الليالي عن منانا

فتعتلج الهواجس حين صدِّ

مصائرنا لأفواهٍ تلاقت

تمزقنا وتهضمنا كفرد

***

د. صادق السامرائي

 

الصحافة والثقافة.. وجهان لعملة واحدة، لخدمة الشعب

الصحافة والثقافة وجهان لعملة واحدة، فالصحافة هي أداة لنشر الثقافة، والثقافة بدورها تشكل مادة أساسية للصحافة. الصحافة الثقافية تتطلب من الصحفيين معرفة واسعة بالثقافة، وقدرة على تحليل الأحداث الثقافية وتقديمها للجمهور بأسلوب شيق ومفهوم.، الصحافة تقوم بنقل المعرفة والأفكار والقيم الثقافية من جيل إلى جيل، ومن مكان إلى آخر. تنشر الصحافة الأخبار والأحداث الثقافية، وتحلل وتشرح الظواهر الثقافية، وتساهم في تشكيل الرأي العام حول القضايا الثقافية.،، لصحافة الثقافية أداة تطوير للإبداع ورؤية المجتمع لحاضره ومستقبله-- توسعت التغطية الثقافية في وسائل الإعلام الإخبارية سواء المغربية أو العربية أو العالمية لتتجاوز أقسام الفنون والأدب أو الثقافة، إلى أقسام الأخبار والأعمال والتعليقات والرأي والسفر وأسلوب الحياة، ولو بتفاوت، لكن يبقى للصحافة الثقافية في العشرين عاما الأخيرة، مساهمة هامة في صناعة المعرفة والتنمية ودعم الفنون والإبداع ونقل القيم وتطوير فهمنا للثقافة ودورها في المجتمع، وذلك رغم ما تعانيه من مصاعب جمة.

ينصب الاهتمام الأساسي للصحافة الثقافية على الفنون والعمل الإبداعي بكل تفريعاتهما التي أصبحت تتسع لتشمل كل ما يتعلق بالأدب والفنون البصرية والموسيقى والأفلام والمسرح والرقص والتصوير والهندسة المعمارية والتصميم وألعاب كمبيوتر، ولا يخرج الأمر على الشركات والمؤسسات والسياسات التي أضحت تصنع وتؤثر في محتوى الإعلام الثقافي.

وقد أدت كل التطورات التي تعرفها مجالات الإنتاج الثقافي وما وراء الخطاب إلى ولادة نماذج محترفة من الصحافة الثقافية رغم ظروف العمل وتحديات دور وظيفة الصحافي الثقافي،

إذا كانت الصحافة الثقافية تشمل مجالا واسعا وغير متجانس من الموضوعات حيث لا يمكن فصلها في الوقت الحالي عن سياق الصناعات الثقافية والصناعات الإبداعية، وكذلك عن التقنيات الجديدة التي تتطلب إعادة تعريف وتوسيع الصحافة الثقافية ومهارات جديدة للصحافيين، بالتالي لا يمكن اعتبار هذا الجنس من الصحافة مجالًا صغيرًا ومحدّدًا نسبيًا للممارسة الصحافية، بل أضحت ركيزة في صناعة القصة الخبرية كونها تشتغل في التقاطع بين الإعلام السياسي وكل الأشكال الثقافية والصناعات الإبداعية بشكل عام، كما يدخل في نطاق اهتمام الإعلام الثقافي بكل أشكال التعبير الثقافي التقليدي والجديد مثل السينما وفن الفيديو والأدب وفن الشارع والتصوير الفوتوغرافي والموسيقى، وما إلى ذلك، وتأثير التكنولوجيا

وإذا كانت الصحافة الثقافية تساعد على فهم الروابط بين الأحداث الثقافية والمجتمع والحاضر والماضي، فإن هذه العلاقة بين الصحافة والثقافة والمجتمع يمكن تصنيفها علاقة تكافلية، لهذا نجد الفلاسفة، يتفقون على أن الصحافة والثقافة تربطهما علاقة عضوية، وأن الصحافي الجيد لا يمكنه أن يتطور دون ثقافة جيدة تسنده، مشيدا بالأدوار التنويرية التي لعبتها الصحافة من خلال متابعتها للأحداث وتحليلها، والتي لم تسقط في التفسير الأسطوري عند تناولها لبعض الاحداث، بل كانت أميل إلى التفسيرات العقلانية لبعض الظواهر وعملت على إشاعتها والتبشير بها ضمنيا.

لم يعد متاحاً إيجاد فضاء إعلامي يلقي الضوء واسعاً على التعريف الوافي بالأدباء وسيرة الكتّاب، ويهتم بإبراز تجاربهم الإبداعية، ويتناول أعمالهم نشراً وتحليلاً ونقداً. ولم يعد ممكناً اتخاذ مقياس لفهم طبيعة تحولات المسألة الثقافية وتحديد اتجاهاتها الحديثة. ولم يعد مقبولاً أن يبقى الإعلام بعيداً عن التفاعل الإيجابي مع مشاريع الأنظمة السياسية وعن دعمها، وإلا تعرضت كل مؤسسة إعلامية تقدم دوراً ثقافياً للتهميش وللتوقف.

لقد ضاق مجال النشر الثقافي وهامش الإبداع الأدبي بعدما صار الفعل الثقافي مرتبطاً بالأيديولوجية السياسية وتحول إلى مروج لها، وطبيعي أن يكون مجاله الحيوي الجديد هو الصحف والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، وساعد في ترسيخ هذا الوضع حالة الفوضى بسبب غموض الخطاب السياسي وإصابة الخطاب الثقافي تبعاً لذلك بالضبابية، وكذلك تعرض مجال النشر للتعثر حيث سيطرت اعتبارات الولاء والانتماء على اعتبارات الإبداع الأدبي بعدما غاب الاحتكام إلى معايير الجودة، وبعدما نحت الصفحات الثقافية والفقرات التلفازية المتخصصة منحى الخبر الصحفي، بدلاً من نشر إبداعات المثقفين والدراسات النقدية والتحليلية. يرى البعض أن مجال الصحافة هو عالم مجاور للكتابة الأدبية، وأن للصحافة فضلاً كبيراً في تسليط الضوء على النصوص الأدبية وعلى الفعاليات الثقافية، والواقع أن للصحافة دوراً في جعل الكاتب نجماً جماهيرياً مضيئاً أو أن تتغاضى عنه فيقبع في ركن مظلم، وعليه يبدو الوضع قاتماً بعدما أصبحت الصحافة الثقافية تعيش أزماتها بسبب التصحر الثقافي وتراجع الحراك الفكري والثقافي، هذا برغم بزوغ بعض التجارب الجادة والحقيقية على استحياء في المشهدين الثقافي والإعلامي تعكس وجود محاولات محتشمة تريد أن تعمل بفعالية لذا تجد الصفحات الثقافية نفسها مكتفية بنشر المتاح في مناخ يفتقد إلى الزوايا النقدية البنّاءة، وإحجام الإصدارات عن اكتشاف المواهب المبدعة وتقديمها، والمتفق عليه هو أنه يجب انتظار صحافة ثقافية تلعب دوراً فكرياً وحقيقياً أكثر عمقاً

وسائل الإعلام اليوم الورقية منها والإلكترونية تعد من الأدوات الثقافية المهمة؛ لأنها تشكل وسيلة في الحصول على الثقافة والاطلاع على جميع أشكال الإبداع؛ لإثراء الزاد الثقافي لدى المواطنين وإكسابهم الخبرة الثقافية، ومن هنا تبرز مسؤولية وسائل الإعلام في توصيل ونشر الثقافة وفي التأثير في قرائها وعلى اهتمام المتتبعين لما تنشر بحكم سهولة اتصالها اليومي السريع بكل أطياف الشعب وعلى نطاق واسع، وكذلك بحكم اعتبارها وسيلة إعلامية مهمة بالنسبة للقارئ تتيح له فرصة قراءة الأخبار بتمعن وهدوء وتتبع أهم الأحداث من أي مكان وفي أي زمان، وهي بذلك تساهم في تشكيل الرأي العام سواء من خلال ما تقدمه من الأخبار أو تفيد به من المعلومات الثقافية -- يرى بعض المتشائمين أن تسييس المجتمع وانصراف شبابه عن مصادر المعرفة وتفضيله التوجه المحموم للارتماء في أحضان مصادر الثراء السريع قد حول المجتمع إلى وسط غير معرفي وغير منتج للأفكار؛ لذلك لم يكن من الممكن أن تحتل الثقافة الواجهة بل بقيت الصحافة الثقافية هي الأضعف، والمتفق عليه أن الفعل الثقافي لا يخلق الإعلام لكنه ينمو بالإعلام، فتأسيس فعالية ثقافية يمكن أن يكون حدثاً مهماً بصحافة ثقافية مهمة.لقد ترسخ لدى الكثير من العاملين بقطاع الإعلام أن الأدباء هم الأقدر على العمل في مجال الصحافة الثقافية لجعلها عملاً خلاقاً، وقد ظهر بناء على ذلك مصطلح (ثقافة الصحافة) كأيديولوجية مهنية مشتركة بين العاملين في مجال الأخبار، تعكس وجود توافق شامل بين الصحفيين تجاه فهم مشترك للهوية الثقافية للصحافة، ويتسع هذا المصطلح ليشمل التنوع الثقافي لأخلاقيات الصحافة والممارسة الإعلامية، لذلك قد يطلق كذلك تسمية الثقافة الصحفية أو ثقافات الصحف أو ثقافة إنتاج الأخبار، وهي تسميات يراد منها تبليغ رسالة تأكيد فضل الثقافة على الرسالة الإعلامية بجعل النشاط الصحفي من صفات الثقافة، أو بإضافة الثقافة إلى العمل الصحفي كنشاط أولي ورئيسي. كثيراً ما يخضع التناول الإعلامي للشأن الوطني ونشر الأخبار الوطنية للمراقبة وللمراجعة بالتغيير وبالإضافة والحذف وذلك لمراعاة بعض الحساسيات المذهبية والحسابات السياسية التي تحددها السلطة الحاكمة، في حين يزهو الأدباء بأن هموم الوطن وقضايا الوطن يكشفها الشعر والرواية والقصة بشكل مفصل ومؤثر.

***

نهاد الحديثي

في السنوات القليلة الماضية، لم يكن الإحساس العام بالحياة سوى ركامٍ من الخرسانة الباردة. كلمات كثيرة، تحاليل كثيرة، ضجيج أكاديمي وفكري يثرثر عن "هوة الأجيال"، وكأن المشكلة مجرد خلافٍ بين ذوقٍ قديم في الجينز وآخر جديد في تكنولوجيا "العمل عن بعد". ولكن خلف هذا الركام، تنام جثة مهجورة تُدعى الطموح، وخلفها شبحٌ يتسكع على أطراف المدن الكبرى، يُدعى الخيبة.

لقد اعتدنا، نحن الذين تنفسنا في السبعينيات والثمانيات وما قبلها بالتأكيد، أن نُجلد بالسياط في بداياتنا المهنية ونحن نردد كالبلهاء: "التضحية تثمر". أما اليوم، فقد أدرك شباب ما بعد 2008 – ولا سيما بعد جائحة 2020 – أن هذا القول لا يساوي ثمن الحبر الذي كُتب به.

يقول ألبير كامو: "العمل الذي لا تراه يوصلك إلى شيء، هو نوعٌ من العبودية، ولو بدا حراً."

هؤلاء الشباب لا يرفضون الحياة، بل رفضوا الحياة التي لا تعترف بهم. فهم لم يقرروا يوماً أن يعيشوا في مساكن مؤجرة إلى سن الأربعين، ولا أن يعيدوا تسخين المعكرونة الصينية في أفران ميكروويف مستأجرة. لقد طُردوا من جنّة "الاحتمالات"، ووجدوا أنفسهم في جحيم "الواقعية".

فمنذ العام 2008، انقطع الحبل السري الذي كان يصل بين التضحية والترقي. لم تعد السنوات المديدة في الزمالة الأكاديمية أو الوظائف الهامشية تعني شيئاً سوى مزيد من الإجهاد العقلي والراتب الضئيل. لم يعد السعي إلى الكفاءة هو المعيار، بل القدرة على التحمل الصامت تحت وطأة منظومة لا تراك ولا تسمعك.

في زمنٍ كانت فيه الشركات تطلب كل شيء مقابل لا شيء، أصبح الطموح رفاهية لا يجرؤ عليها إلا من ولد وفي فمه ملعقة من تأمين صحي وسكن مملوك. أما الباقون، فكتب عليهم أن يُحبِطوا، وأن يحترقوا في صمت.

ومع ذلك، هناك من يسمّيهم "كسالى"، أو يصفهم بأنهم "مدلّلون". وهناك من يراهم نرجسيين لأنهم لا يضحون بما يكفي لأجل الشركة التي لا تقدم لهم شيئاً سوى "قيم المؤسسة" المطبوعة على كوب قهوة بلاستيكي.

أين ذهبت البرجوازية المتوسطة التي وُعدنا بها؟ أين ذهبت الشقق الصغيرة في المدن الكبيرة التي كانت تشبه بداية فيلم فرنسي عاطفي؟ لقد تحولت إلى أوهام مؤجلة، ثم إلى نكتة، ثم إلى غضب مكبوت في صدور شباب لا يثقون في أحد، حتى أنفسهم.

لا عجب أن يصبح "الطموح الهادئ" الصيغة الجديدة للحلم: حلمٌ لا يُسمع له صوت، ولا يصنع فرقاً. لكنه في جوهره، ليس سوى كذبة مغلّفة بأدب، محاولة لخداع الذات بأن الإنسان ما زال سيد مصيره. والحقيقة أن "المصير" نفسه صار مدير موارد بشرية في شركة قابضة لا يعرف حتى اسمك.

وفي ظل هذا الانهيار الجماعي للقيم والمردودية، لا يمكن أن نلوم الشباب على انكسارهم، بل يجب أن نلوم المنظومة التي باعتهم "رؤية" بلا مستقبل، ومكاتب بلا معنى. من يعيش ليأكل أرزاً سريع التحضير تحت مصباح فلوريسنت، لا يمكنه أن يكتب قصيدة، ولا أن يربي طفلاً، ولا حتى أن يحلم بحديقة.

الاستنتاج المرّ؟ أن هذا الجيل لم يفشل في تحقيق الطموحات، بل فهم متأخراً أن الطموحات نفسها صارت "منتجاً مزيفاً". لم تعد النية الطيبة والجد والاجتهاد تثمر شيئاً سوى الإنهاك المزمن وفتور الروح. والكارثة أن "العمل" الذي لطالما ادّعى أنه يمنح الإنسان معنى، صار أداة لتجريده من المعنى ذاته.

يقول دوستويفسكي: "الذين يعيشون بلا أملٍ في الخارج، لا يمكن أن تُطلب منهم فضائل في الداخل."

لذا، حين نرى جيل اليوم وهو ينكمش، ويتقوقع على نفسه، لا يجب أن نراه ضعيفاً. بل يجب أن نراه جريحاً... ومرهقاً من الكفاح ضد طواحين هواء لم يُمكن له أن ينتصر عليها.

لن يعيش هؤلاء على الهواء. ولن يواصلوا السير في طريقٍ سدّته خيانات العصر. وإذا أردنا مستقبلاً أفضل، فإن البداية لن تكون في مكاتب الموارد البشرية، بل في خطاب الاعتراف بالفشل البنيوي، والسعي الجماعي لإعادة تعريف العمل كفعل إنساني، لا كعقوبة اقتصادية.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

الجواهري في رسائل وشهادات.. ملحق (3)

هل كان الحصري والرصافي طائفيين مع الجواهري؟ كيف ذلك والرصافي يصف الجواهري بأنه "ربُّ الشعر"، والحصري عيَّن الشيعي مصطفى جواد في وظيفة الجواهري بعد فصله وساعده في الحصول على منحة لدراسة الدكتوراة في فرنسا؟

هل المواطنة درجات حسب الطائفة فعلا؟ أما القول إنَّ: "قانون الجنسية العراقية رقم42 لسنة 1924م عَدّ في فقراته ضمناً "أنَّ حامل شهادة التبعية العثمانية من أبناء السنة مواطن من الدرجة الأولى، وحامل شهادة التبعية الإيرانية الذين هم في الغالب من العرب الشيعة والأكراد الفيليين مواطن من الدرجة الثانية، على الرغم من كونهم مواطنين عراقيين عاشت أصولهم في العراق منذ مئات السنين"، كما يكتب د. نصير كريم كاظم، الباحث في المركز العراقي لتوثيق جرائم التطرف التابع للعتبة العباسية المقدسة، فهو قول فيه الكثير من الشطط والاعتساف. فإذا كان ثمة تفريق بين حملة شهادة التبعية العثمانية وذوي التبعية الإيرانية فهو تفريق إداري بحت بين حملة جنسية الدولة السابقة في العراق أي العثمانية بغض النظر عن طائفتهم وأصلهم القومي والذين سيحملون الجنسية العراقية تلقائيا وبين غيرهم ممن يحملون تبعية دول أخرى وليس بناء على التصنيف الطائفي. ولو افترضنا وجود عثمانيين من الشيعة فهم سيستحقون الجنسية الأساس تلقائيا بموجب القانون وهو قانون دولي وليس عراقي فقط. وهذا الكلام لا يعني قطعا انعدام حالات من التمييز وحتى الاضطهاد الطائفي الذي يمارسه موظفون أفراد هنا وهناك فمجتمع الملائكة لا وجود له على سطح الأرض!

وبناء على ما سبق فإن الأسرة الجواهرية يكون قد سرى عليها ما سرى على آلاف الأسر التي كانت تحسب نفسها على التبعية الإيرانية سواء كانت تحمل الجنسية الإيرانية أو لا تحملها والأرجح أنها كانت تحمل الجنسية الإيرانية بديل حيازة عدد من أفراد الأسرة لهذه الجنسية منهم شقيق الشاعر الجواهري الأكبر عبد العزيز الجواهري المولود في النجف والمتوفي في إيران سنة 1976، وما قاله الجواهري في مذكراته عن حصوله على الجنسية العراقية قبل تعيينه في وظيفته كما سيرد ذكره.

وفي هذا الصدد، تذكر بعض المصادر إنَّ هناك رسالة من الشاعر الجواهري إلى ساطع الحصري يعرض عليه فيها أو يخبره فيها بتخليه عن جنسيته الإيرانية والحصول على العراقية لضمان قبوله في وظيفة المعلم. ولكنني لم أتوصل الى نسخة من هذه الرسالة التي قيل إنها نشرت في تلك السنوات في مجلة "المعهد العلمي العراقي". ويمكن لهذه الرواية أن تحسم الجدل نهائيا حول موضوع حيازة الجواهري للجنسية الإيرانية من عدمها وبانتظار الحصول على هذا المصدر / الوثيقة سيبقى هذا القول مجرد استنتاجات مبنية على تحليلات ووقائع استعرضناها في الفقرات السالفة. وعموما فلدينا أدلة جديدة ومهمة من مذكرات الجواهري تفيد أنه تحصل فعلا على الجنسية العراقية قبيل تعينه معلما في الكاظمية وأمثلة أخرى تؤكد أنه افتخر بعروبته وعراقيته في أكثر من موضع في تلك المذكرات وسوف نتوقف عندها في موضع آخر من هذا النص.

شهادة أخرى مضادة من شاهد آخر:

ذكر د. رعد مقبل محمد حسن العبيدي في تعقيب له على مقالتي الأخيرة، بخصوص جنسية الجواهري والأزمة التي حدثت بينه وبين الحصري الآتي، وبحسب المعقب فقد وردت هذه المعلومات بصيغ متقاربة في عدد من مذكرات ذلك العهد ومنها مذكرات طه الهاشمي وجعفر العسكري وغيرهما: "إن الجواهري لم يكن يحمل الجنسية العراقية وإنما الإيرانية. وطلب ساطع الحصري من الجواهري ان يتجنس بالجنسية العراقية ليتمكن من تعيينه معلماً، لأن ساطع الحصري كان مدير المعارف العام. وبعد مجادلة بين الجواهري والحصري وافق الجواهري على طلب الجنسية العراقية وبعد حصوله عليها بتدخل والحاح وزير المعارف عبد المهدي المنتفكي عينه الحصري معلماً ولم يمض اسبوع واحد على تعيينه واذا به ينشر في جريدة الفيحاء بالحلة قصيدة شعوبية واضحة فاحتج مفتش المعارف نوري ثابت (حبزبوز) واشتكى عند الحصري فسأل الحصري الشاعر معروف الرصافي فأكد انها قصيدة شعوبية وتمجد الفرس فطلب الحصري من الجواهري ترك التعليم والانتقال الى وظيفة أخرى فرفض الجواهري مستندا الى دعم وزير المعارف عبد المهدي المنتفكي ونشأت ازمة بين الحصري ووالمنتفكي وانتهت بتدخل الوزير رشيد عالي الكيلاني الذي طلب من الحصري اعادة الجواهري الى الوظيفة على ان يقدم استقالة وبعد تدخل شخصيات دينية شيعية وتوسطها لدى الملك فيصل الذي وعد الجواهري بإعادة تعيينه في البلاط الملكي وهذا ما حدث، وانتهت المشكلة وكانت في سنة 1924.

وفي ستينيات القرن الماضي نشر ساطع الحصري كتابه (مذكراتي في العراق) وجاء على ذكر واقعة تجنس الجواهري وسبب فصله من التعليم فجن جنون الجواهري ونشر قصيدة سب فيها وشتم الحصري واتهمه بانه طائفي ولم يرد عليه الحصري وانما الذي رد عليه (الدكتور مصطفى جواد وكذب رواية الجواهري جملة وتفصيلا وقال الحصري كان علمانيا وما كان طائفيا ابدا بدليل انه عَينني (انا الشيعي) مكان الجواهري ولم يكتف بذلك بل هو الذي رشحني لمنحة دكتوراه في الادب العربي في فرنسا ولولا الحصري لما حصلت على المنحة ولما درست في فرنسا وكل ما ذكره الحصري عن واقعة تجنس الجواهري صحيح موثق في جلسات مجلس الوزراء سنة 1924 وقد اعاد ذكر تفاصيل ذلك اكثر من وزير في مذكراتهم منهم الهاشمي والعسكري) وكل ما ذكره د . مصطفى جواد جاء على لسانه في برنامج تلفزيوني كان يظهر فيه د. مصطفى جواد اسبوعياً".

إن هذه الشهادة للعبيدي تؤكد ما ذكرناه حول حصول الجواهري على الجنسية العراقية ولكننا لم نحصل بعد على دليل أو شهادة مؤكدة تؤكد أنه كان يحوز الجنسية الإيرانية وإنه تخلى عنها، وقد يفهم أن التخلي قد تم فعلا في سياق الحصول على الجنسية العراقية، وهذا محتمل جدا ولكني لا أجزم به دون دليل. ويخلص العبيدي في تعليقه المنشور على صفحتي إلى القول: "هذه الشهادة تفند اتهامات الجواهري للحصري جملة وتفصيلا وتنسف أقوال من اتهم وما زال يتهم ساطع الحصري بالطائفية ومحاربة الجواهري ولو لم تكن شهادة د. مصطفى صحيحة لرد الجواهري على د. مصطفى جواد ولكنه آثر السكوت ولم ينبس ببنت شفه فلماذا هذه الاتهامات الباطلة للحصري يعاد اجترارها من وقت لآخر"؟ انتهى الاقتباس.

 حين سألت الدكتور العبيدي عن توثيق ما قاله نقلاً عن مصطفى جواد أجابني: "كان دكتور مصطفى جواد وفؤاد عباس ودكتور حسين أمين يظهرون في برنامج تلفزيوني أسبوعي وفيه يقدمون موضوعا ويردون على أسئلة المشاهدين ولم يكن التلفزيون يصل إلا الى مناطق قريبة من بغداد وكنتُ في الثانوية وكنا نذهب مجموعة اصدقاء الى بغداد لمشاهدة برنامج د. مصطفى وفي يوم آخر نذهب لمشاهدة برنامج د. علي الوردي. وفي البرنامج سألنا هم على الزوبعة التي أثارها الجواهري بقصيدة السبِّ والشتم لساطع الحصري وكان رد مصطفى جواد ما ذكرته لك".

وتبقى هذه الشهادة معلقة لعدم تمكني من الوصول إلى توثيق ملموس لها كسابقتها في الوقت الحاضر، ولهذا سأضعها جانبا بشكل مؤقت بموجب منهجيتي البحثية. ولكن تبقى تحفظات مصطفى جواد التي نقلها د. العبيدي على اتهام الحصري بالطائفية، وهي الاتهامات التي وجهها له أيضا رفيقي الراحل هادي العلوي، تبقى هذه التحفظات ذات قيمة نقدية بينة وأهمية واضحة لناحية صحتها الفعلية أي الوقائعية في التاريخ؛ فمصطفى جواد نفسه هو فعلا عراقي شيعي "تركماني"، وإنه عين في التعليم في عهد الحصري وإنه أرسل لمنحة دكتوراة في الأدب العربي في فرنسا، وهذا ما يمنح هذا الجزء من شهادته صحة واضحة في الواقع التأريخي المعاش.

 ومثلها وصلتني شهادة أخرى من شخص قانوني عراقي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب تخصه وأتفهمها وأخبرني أنه تدخل قبل سنوات في نزاع بين أسرة الجواهري وأسرة نجفية أخرى على عقار في مدينة النجف. وخلال متابعته للموضوع واطلاعه على الوثائق الرسمية الخاصة بالملف وجد أن أسرة الجواهري تحمل الجنسية الإيرانية فعلا، ومثلها كانت أسر نجفية أخرى منها أسرة الحكيم تحمل هذه الجنسية، ولكن هذه الأسر النجفية الإيرانية الجنسية تبقى أقل كثيرا من الأسر المثيلة الكربلائية بسبب كثافة الوجود العشائري العربي في النجف. وللأسف، هذه الشهادة لا يمكنني أن آخذها على محمل البحث المنهجي الدقيق لافتقارها للدليل الملموس أولا، ولأن الشاهد رفض إعلان شهادته على الرأي العام ثانيا. ولكني أوردتها على سبيل العلم بها والرد عليها مع الاحترام والتقدير لمن قدمها. في الجزء القادم نستعرض "عروبيات الجواهري" في شعره، وما ذكره هو عن أصله العربي في نثره في مذكراته وهل كان الحصري فعلا قوميا على الطريقة النازية أم تلك كانت افتراءات وشنشنة هجائية أنتجها غضب الجواهري ومحبيه.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

فى التاسع عشر من شهريونيو، رحل، عن دنيانا الفانية العالم الثبت النحرير بروفيسور عبدالله الطيب، بعد أن ملأ صرير قلمه مسامع الزمان، وسار صيتة فى كل صقع وواد، رحل مبدع اللغة العربية، والمهيمن على تراثها الثمين، وبموته فقد السودان والعالم العربي والإسلامي، أديبا يعتبر بلا جدال، امتداداً لذلك النفر، الذى حمل لواء اللغة فى العهود الغابرة من العرب الأقحاح، الذين كانت قصائدهم لا تبارى فى صدق العاطفة، وخصوبة الخيال، وجودة السبك، وطلاوة .الأسلوب، وعذوبة المعاني

أمضى صاحب "المرشد الى فهم أشعار العرب وصناعتها'، حياته الحافلة موغلاً فى البحث، ممعناً فى التنقيب، حريصاً على الاحاطة بأصول وفروع اللغة، حتى صار من أقطابها الذين يشار لهم بالبنان، وصارت مؤلفاته غاية ليس وراءها مذهب لطالب، ولا ُمراغُ لمستفيد، ولا ُمردٌ لباحث.

كان لقريع دهره، جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، لسعة علمه، ولنبل فطرته، ولأنه أفاض الله عليه سجال رحمته، متجاف عن مقاعد الكبر، متحلياً بمكارم الاخلاق، مبتعداً عن ضجيج السياسة وصخبها،

كما كان يؤنس جلاسه بوجهه المتهلل ،واذكر أني كنت غاية فى الحرص لمتابعة الحلقات التى يبثها التلفزيون القومى منذ صغرى، رغم أن الكثير من عباراته ومفرداته التي يهضب بها، كنت اجهل الكثير منها، وكانت تحتاج إلى بوارق من الضياء بالنسبة لي، وأنا في طراءة تلك المرحلة، نعم أيها السادة، لقد ترك الغطريف عبدالله الطيب "قبساً من نار المجاذيب" فى صدري، وكان له صدى عظيماً فى حياتي، شأنى فى ذلك، شأن كل سوداني، يسعى أن تعانق نفسه الثريا، إذ ينتمي هو وصاحب اللسان البليل، والخاطر الحافل، لبلد واحد ،لذا تراني شغوفا بأدبه ،هائما بسيرته ،مترسماً خطاه، حتى أنال ما ناله من مآثر يبقى ذكرها فى الأعقاب.

***

د. الطيب النقر

 

عن أسباب التخلّف وجراح الأوطان

في ليالينا الطويلة، حين نجلسُ بصمتٍ نتأملُ حالنا وحال أوطاننا، يطرقُ بابَ الروحِ سؤالٌ مرير: لماذا وصلنا إلى ما نحنُ فيه؟ لماذا تعثرت خُطانا، وتأخرنا عن ركب الحضارة والنور، بينما انطلق الآخرون؟ إنه سؤالٌ موجع، كالجرحِ المفتوحِ في خاصرةِ الوجود، نبحثُ لهُ عن جوابٍ يريحُ القلب، أو بلسمٍ يهدئُ من لوعته.

وفي رحلة البحث عن هذا الجواب، نجدُ أنفسنا أمام طريقين. طريقٌ سهلٌ، قديم، ومُريحٌ للوهلة الأولى، يقولُ لنا إن سبب تخلفنا هو ابتعادنا عن الدين، وكثرةُ ذنوبنا، وتقصيرنا في اتباعِ ما قالهُ الأجداد. إنه جوابٌ يُلقي باللومِ على ضمائرنا الفردية، ويشعرنا بالذنب، لكنه في الوقت ذاته يُعفينا من عناء البحثِ عن الأسباب الحقيقية، الأعمق والأكثر تعقيداً.

أما الطريقُ الثاني، فهو طريقُ الشجعان، طريقُ من يجرؤ على النظرِ في وجه الحقيقة، مهما كانت قاسية. هذا هو الطريق الذي يدعونا إليه المفكر عبد الجبار الرفاعي ببصيرةٍ ثاقبةٍ وشجاعةٍ نادرة، حين يضعُ يدهُ على أصل الداء في كتابه "مقدمة في علم الكلام الجديد"، قائلاً:

"أدواتُ النظر ومناهج الفهم القديمة للدين ونصوصه تفضي إلى ربط كلّ واقعةٍ في حياة الناس بالدين... وينتهي هذا الفهم إلى تعطيل الأسباب الطبيعية والبشرية المتنوّعة. فمثلاً يخضع تفسير تخلّف المجتمعات الإسلامية، لدى أكثر كتاب الجماعات الدينية والخطباء والوعاظ، إلى عدم تمسكها بما قاله السلف... مع أن تقدم وتخلّف المجتمعات بالمعنى الاقتصادي والثقافي والسياسي يعود لأسباب دنيوية مختلفة... سوء أحوال الناس المعيشية في الدنيا، أفراداً ومجتمعات، لا يعود لكثرة الذنوب بالمعنى الديني، ولا يعود لأسباب غيبية، بل ينشأ من الجهل، والفقر، والمرض، والاستبداد، والظلم." (الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد، ص ١٠٨ - ١٠٩).

كم هي دقيقةٌ وموجعةٌ هذه الكلمات! إنها دعوةٌ لأن نكفَّ عن تعليقِ فشلنا في هذه الدنيا على شماعةِ السماء، وأن نبحثَ عن العللِ الحقيقيةِ هنا، على هذه الأرض التي نعيشُ فوقها. إنها دعوةٌ لنعترفَ بأن المجتمعاتِ لا تتقدمُ أو تتأخرُ بنسبةِ تدين أهلها أو ابتعادهم عنه، فكم من مجتمعٍ متقدمٍ لا يكترثُ كثيراً للدين، وكم من مجتمعٍ غارقٍ في الطقوس الدينية لكنه يرسفُ في أغلالِ التخلف!

إن سوء فهم معنى الدين ومعنى الطاعة والمعصية، كما يقول الرفاعي، هو الذي يقودُنا إلى هذا التشخيص الخاطئ. فنعتقدُ أن فقرنا هو عقوبةٌ إلهيةٌ على ذنوبنا، بينما هو في حقيقتهِ نتاجُ سياساتٍ اقتصاديةٍ فاشلة، وفسادٍ ينهشُ في جسدِ الوطن. ونعتقدُ أن انتشار المرض بيننا هو ابتلاءٌ من السماء، بينما هو في حقيقتهِ نتيجةُ إهمالٍ للنظامِ الصحي، ونقصٍ في الوعي. ونعتقدُ أن تخلفنا العلمي هو قضاءٌ وقدر، بينما هو ثمرةُ نظامٍ تعليميٍّ مترهلٍ يُعلّمُ التلقين ويقتلُ الإبداع.

والأدهى من كلِّ هذا، أننا نرى بأعيننا كيف تجتمعُ علينا أمراضٌ خمسة، وصفها الرفاعي بدقة، وهي التي تهدمُ صرح أي أمة: الجهل الذي يُطفئُ نور العقول ويجعلنا فريسةً سهلةً لكل خرافةٍ ولكلِّ فكرٍ مُضلل. الفقر الذي يكسرُ ظهر الكرامة ويجعلُ الإنسانَ مشغولاً بلقمةِ عيشهِ عن بناءِ مستقبله. المرض الذي ينهكُ الأجساد ويُضعفُ من قوةِ المجتمع وعافيته. الاستبداد الذي يكممُ الأفواه، ويُحطّمُ الأقلام، ويخنقُ كلَّ صوتٍ حرٍّ يطالبُ بالإصلاح. الظلم: الذي يقتلُ الشعورَ بالانتماء، ويغرسُ بذور الحقدِ واليأس في القلوب.

هذه هي أمراضنا الحقيقية، وهذه هي "ذنوبنا" الدنيوية التي يجبُ أن نتوبَ منها، لا بالاستغفارِ فقط، بل بالعملِ الدؤوبِ على علاجها.

فهل من الإنصافِ أن نتركَ هذه الأسبابَ الحقيقية، ونتهمَ علاقتنا بالله؟ أليسَ الأجدرُ بنا، إن كنا مؤمنين حقاً، أن نرى في محاربةِ هذه العللِ أسمى أشكالِ العبادة؟ إن بناءَ مدرسةٍ لمحوِ أميةِ جاهل، هو صلاةٌ في محرابِ العلم. وإن إيجادَ فرصةِ عملٍ لفقير، هو صدقةٌ لا تعدلُها كنوزُ الأرض. وإن إقامةَ العدلِ بين الناس ورفعَ الظلمِ عن المظلوم، هو أقدسُ أشكالِ التقربِ إلى الله.

إن هذه الكلمات ليست دعوةً لتركِ الدين، بل هي دعوةٌ لفهمهِ فهماً أعمق وأكثرَ نضجاً. دعوةٌ لنؤمنَ بأن الله قد منحنا العقلَ لنُعمّرَ بهِ الأرض، لا لنُعطلهُ وننتظرَ الحلولَ من السماء. إنها دعوةٌ لنحولَ إيماننا من حالةِ السكونِ والاتكال، إلى طاقةٍ جبارةٍ من العملِ والبناءِ والإصلاح. فالإيمانُ الحقيقيُّ ليس في أن ندعو الله ليُغيّرَ حالنا، بل في أن نعملَ نحنُ بالأسبابِ التي وضعها لتغييرِ حالنا، واثقينَ من أن رعايتهُ ستكونُ حليفةَ الساعينَ والمُصلحين.

***

مرتضى السلامي

لقد ظل الفكر الإصلاحي الذي هو نقيض الفساد وهو محرك لتغییر الحال الراهن نحو الازدهار والرقي وهو غیر الثورة رغم وجود عدة مغالطات و خلط في مفهومه وهناك فوارق جوهرية بين محركاته ومناهج عمله و الذي ' يدعو إلى إصلاح أي نظام او مؤسسة قائمة بشكل جزئي  او العودة الى الاصل بدلاً من تغييرها جذريًا عندها يعتبر اصلاحاً عند أصحابه' والفكرة الإصلاحي نشأ كميل سياسي وفرضية اجتماعية من معارضة للاشتراكية الثورية والتي أسست على فكرة  الثورة التي هي 'علم تغییر المجتمع تغییرا جذریا و شاملا أو الانتقال من مرحلة تطویریة معینة الى أخرى أكثر تقدما مما یتیح للقوى الاجتماعیة المتقدمة في هذا المجتمع أن تأخذ بیدها مقالید الأمور فتصوغ الأكثر ملائمة و تمكنها من سعادة ورفاهية الانسان' والتغيير الشامل للنظم و الاضطرابات الثورية شرط مسبق وضروري للتغييرات الهيكلية اللازمة لتحويل النظام  الرأسمالي إلى نظام اقتصادي اشتراكي مختلف نوعيا على سبيل المثالً'

الإصلاح يعتبر منهجًا سياسيًا واجتماعيًا يقاوم الثورة والتغيير الشامل، ويؤمن بأن التغيير يمكن أن يحدث تدريجيًا من خلال الإصلاحات التدريجية دون حسابات الوقت والظرف. مفتقرًا إلى مخططات عملية وواقعية تراعي خصوصيات الحاضر وتستهدف المستقبل، دون ان يكادون يعرفون الشيء الكثير عن مجهودات بعضهم البعض مع ما يستلزمه ذلك من الصبر الطويل وعدم استعجال النتائج، ولم يجد واضعوها أنفسهم ملزمين بالإشراف والعمل على تنزيل ما نظَّروه من أفكار ونظريات ورُؤى، فكانت محاولاتهم نوعًا من الترف الفكري الذي يأتيه المصلِح باعتباره صاحبَ فكْرٍ عالِم تتحدَّد وظيفته في مجرد التنظير والتفكير، وعلى الآخرين تلقّي هذا الفكر والتعلَّق به والعمل على تنزيله، وقد صنع هذا الإحساس موانع بين المفكِّر وعموم أفراد المجتمع ممن لا ينتمون إلى الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها المفكر نفسه، بل يمكن القول إن مشاريع الإصلاح في العالم والعالم الثالث كانت مشاريع تُقدِّم نفسها على أنها هي البلسم الذي يشفي كل الأمراض، وتخيَّلت النتائج نظريًّا وحبرًا على ورق، بل بَنَت الحضارةَ وسيطرت على العالم وهي لم تبرح بعد مهدها الورقي، ويمكن القول بأنها ظلّت مجرد مغامرة أدبية يَصنع أبطالها المستحيل، وعلَّة ذلك هو عدم استحضار الشروط الواقعية التي يتحكَّم فيها السياسي والتاريخي والتحوُّلات الاجتماعية والثقافية وصراع المصالح، وغيرها.

إن الله  سبحانه وتعالى خلق الكون بما فيه في نظام مُحكمٍ دقيق، متكاملٍ صالح للإعمار، وجعله بما فيه مسخَّرا للإنسان الذي هو خليفة الله في أرضه، وأمره بالإصلاح في الأرض، وحذَّره من الإفساد فيها، وصدِّ الناس عن دين الله، وحثَّهم على التأمل في مصير الظالمين المفسدين، الذين تجاوزوا قوانين الله في كونه، ونهاه عن سلوك طريق الذين طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، حتى صبَّ عليهم ربهم سوط عذاب، حيث كان لهم بالمرصاد، فقال سبحانه وتعالى : وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)  الاعراف.

***

عبد الخالق الفلاح – كاتب واعلامي

الخبال: إختلال العقل

الخيال: إحدى قوى العقل التي يتخيل بها الأشياء.

الجنون فنون، وربما الإبداع جنون، والعقول التي إخترعت عبرت عن خبلها، وتواصلت مع أفكارها وحررتها من كونها المتصور وألقت بها متحركة فوق التراب، ومسيّرةً للبشر عبر الأجيال.

لو قال الأخوان رايت بأنهما سيطيران بالدراجة الهوائية، لأجزم المستمع إليهما بأنهما مجنونان.

ولو واجهنا أصحاب المخترعات العولمية عند بداياتهم، لرأينا أن ما يذهبون إليه نوع من الخبال، لكنهم تفاعلوا مع أفكارهم، وأصبحت الناس رهينة لمبتكراتهم.

ذات يوم جاءتني إمرأة مع إبنها الشاب مدعية بأنه مجنون، وتقول: هذا المجنون يخترع أشياء لا تخطر على بال.

وعندما سألته عما يفعله، تبين بأنه لديه قدرات فائقة على معرفة أي خلل يصيب المكائن في المعامل والمصانع، ويبتكر قطع غيار لتصليحها.

ولديه مشاريع لتصنيع مكائن وآلات متنوعة الأغراض.

إحترت في أمره وما تدّعيه أمه!!

لو كان في مجتمع آخر لأعطى للحياة ما يعجز عن وصفه الخيال، لكنه في مجتمعنا من المجانين.

وفي مدينتنا كان أحدهم من المخترعين الأفذاذ، ويصفونه بالمجنون، وهو مبدع خلاق ومبتكر متميز، وتم نسيانه ومنعه من العطاء.

وعند الإطلاع على تراث الأمة العلمي، تظهر قدرات أبنائها وما إبتكروه وتوصلوا إليه من المخترعات الأصيلة، التي أذهلت الناس في زمانها، ولعدم توفر قدرات الإنتاج الوفير بالجملة، كانت بالمفرد النادر، وضاعت مع توالي النواكب والخطوب والزمن الغضوب.

فالأجيال تحمل موروثات الإبداع الفائق الأثيل، وتحتاج إلى بيئة صالحة لتنطلق براعمها الواعدة.

فهل لنا أن نؤمن بقدراتنا ونتواصل مع أجدادنا؟!!

أفكارنا تسحقنا، أيامنا تلعننا، ما عندنا يرهقنا، حياتنا في جهلنا، نطيعها أوهامنا، وندّعي بأننا، نوابغٌ في عصرنا، وإننا نمشي على رؤوسنا، صولاتنا تحجرنا، وبعضنا يأكلنا، جديدنا جنوننا!!

***

د. صادق السامرائي

كيف ولدت المواطنة في عراق ما بعد العثمانيين، وما العلاقة بين التبعية العثمانية والأخرى الإيرانية وبين التبعية وحيازة الجنسية؟

استدراك من الجصاني: أبدأ هذا الجزء باستدراك مهم ورد في الرسالة الرابعة التي وردتني من الصديق العزيز رواء الجصاني عملا بحق الرد والتعقيب والاستدراك وكان قد نشرها كتعقيب أيضاً على الجزء السابق من هذا الملحق وليس لدي تعقيب عليه: "جاء في إحدى خلاصاتي وملاحظاتي التي نقلها الصديق اللامي بنصها وهي "ان الجواهري كان يترفع عن الاشارة الى "أصله" العربي، باعتبار ذلك تحصيل حاصل، كما احسب". وقد استدركت لاحقا بإضافة جملة "جهد ما استطاع". وأضيف هنا ولكن يبدو أن الامر احتاج الى استدراك أو اضافة أخرى أكثر وسعا، وخلاصتها أهمية ما جاء في "ذكرياتي" للجواهري / الجزء الاول / دمشق 1988 الذي يحرص الاستاذ اللامي، كما احرص، على التوثيق له، والاستنتاج بشأنه للحقيقة والتاريخ..".

التبعية والمواطنة والجنسية: أهدف من خلال هذا المداخلة التخليلية التاريخية إلى محاولة توضيح وإثبات أن التبعية العثمانية أو الإيرانية في عراق العشرينات لا تعني دائما وبالضرورة أي تبعية قومية أو مواطنة لحائزها في دولة أجنبية أخرى نظرا لغياب الكيانية الجغراسياسية العراقية باسم العراق، هذا أولا. وثانيا، فأن التبعية الإيرانية شيء قد يكون رمزيا وغير مسجل إداريا أحيانا أما حمل الجنسية الإيرانية فشيء آخر ويعني المواطنة لدولة أخرى بغض النظر عن الأصل القومي لحاملها. وإذا كانت هناك أسر وقبائل عربية شيعية كثيرة في العراق ذات تابعية للدولة الإيرانية القاجارية فهذا لا يعني أنها إيرانية أو فارسية بل هي تتمتع ببعض الحماية ومعفاة من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني. وإذا كانت قبائل عربية سنية أخرى ذات تابعية عثمانية فهذا لا يعني بالضرورة إنها تركية قوميا بل عثمانية انتقلت إلى المواطنة والجنسية العراقية بزوال السلطنة العثمانية وقيام الدولة العراقية تلقائيا لكونها لم تكن لها تبعية لدولة أخرى.

كان العراق في العهد العثماني مقسماً إداريا إلى ثلاث ولايات هي الموصل وبغداد والبصرة. وكانت بغداد بمثابة العاصمة لإقليم العراق القديم وغير المتشكل في وحدة إدارية موحدة كإقليم واحد ضمن الدولة العثمانية اللامركزية واقعاً كسائر البلدان العربية!

وقد بدلت بغداد التي لم تكن في الأوان العثماني أكثر من ثكنة "قشلة" لقواتهم العسكرية الجاهزة دائما للقيام بغزوات وحملات موسمية أو مفاجئة ضد القبائل العربية العراقية في الوسط والجنوب شبه المستقلَين عمليا، أقول لقد بدلت بغداد محتليها عدة مرات فتارة يسيطر عليها الصفويون القادمون من بلاد فارس وأخرى يغزوها العثمانيون الترك القادمون من هضبة الأناضول لتعود المدينة إلى السلطنة العثمانية. وبعد سقوط هذه السلطنة وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني. ثم جاءت الثورة العراقية الكبرى سنة 1920 التي أطلقت شرارتها وقادتها قيادات دينية وقبائلية عربية شيعية ومعها بعض الزعامات السنية ممثلة بالشيخ ضاري المحمود الزوبعي فاضطرت بريطانيا إلى إيجاد شكل من أشكال الاحتلال غير المباشر وأقامت دولة ملكية في العراق سنة 1921 واستجلبت لها الملك الهارب من مملكته قصيرة العمر في سوريا فيصل بن الشريف حسين.

وحين قامت الدولة العراقية، كانت المهمة الأولى للقائمين عليها حل مشكلة المواطنية في الدولة الجديدة ومنحهم جنسيتها التي تسمى في القانون العام "الجنسية الأساس" في دولة جديدة: ومن الطبيعي أن تكون المواطنة في آخر كيان سياسي في العراق أي الدولة العثمانية هي الأساس. وعلى هذا "نصت المادة (3)  من قانون الجنسية العراقي رقم 42 لسنة 1924 الملغي على انه " كل من كان في اليوم السادس من اب 1924 من الجنسية العثمانية وساكنا عادة في العراق تزول عنه الجنسية العثمانية و يعد حائزا على الجنسية العراقية ابتداءً من التاريخ المذكور " ولذلك تعد هذه المادة الاساس القانوني لأحكام الجنسية العراقية، وأكد هذا المبدأَ قانونُ الجنسية رقم 43 لسنة 1963 الملغي في المادة الثانية منه، و اشار لذلك و فق المادة الثانية قانون الجنسية العراقي النافذ رقم 26 لسنة 2006، و عليه من خلال الاحكام أعلاه فأن جنسية التأسيس تفرض على أساس توافر الشرطين التاليين : أولا، ان يكون الشخص عثماني الجنسية في 6 / اب / 1924و هو تاريخ بدء سريان معاهدة لوزان على العراق التي خولت الدولة وفقا للمادة 30 منها بتحديد "مواطنيها" ضمن حدودها الإقليمية.

والشرط الثاني، أن يكون الشخص العثماني ساكنا في العراق عادة، حيث اشارت المادة ( 2/ 5 ) من قانون الجنسية العراقية رقم 42 لسنة 1924 على "كل من كان محل اقامته في العراق منذ يوم 23 / اب / 1921 و لغاية 6 / اب / 1924 و العثماني الذي غادر العراق قبل هذه المدة لا يستفيد من هذه المادة ".

ابتكار شهادة الجنسية: هنا بالضبط، برزت مشكلة العراقيين العرب وغير العرب الذين كانوا يحسبون أنفسهم على التبعية الإيرانية، مع إنهم ليسوا إيرانيين ولا جذور لهم فيها غالباً. علماً، أن بعض هؤلاء وخصوصا من الميسورين وذوي الأصل الإيراني فعلا كانوا يحملون الجنسية الإيرانية وبعضهم الآخر لا يحملونها، وكان بعضهم فرساً ولم يكن البعض الآخر كذلك، وإلى هذا النوع من حملة الجنسية الإيرانية رجحنا انتماء الشاعر الجواهري وأسرته.

ولحل هذا الإشكال وإشكالات أخرى مرادفة لتطبيقات قانون الجنسية للدولة الفتية رقم 42 لسنة 1924، ابتكرت الإدارة العراقية الملكية وثيقة تسمى "شهادة الجنسية"، التي تؤكد عراقية المواطن. ولم تكن هذه الوثيقة تُمنح بسهولة لجميع الناس. ولكني ومن خلال تجربتي الشخصية والعائلية لاحظت أن العرب من قبائل الجنوب والفرات الأوسط كانوا يحصلون عليها بسهولة نسبية أسوة بمواطنيهم من عرب المنطقة الغربية والشمال. وربما يكون ثمة تمييز طائفي في هذا الصدد ولكنه يرتبط على الأغلب بحالات فردية ولم يكن ممنهجاً ومدفوعاً بالخوف من مزاحمة العرب الشيعة للعرب السنة على حكم العراق أو على الوظائف والمناصب كما يقول البعض. إذْ أن خوفاً من هذا القبيل لا أساس له فالعرب الشيعة كانوا يقاطعون الدولة العراقية الجديدة أصلا على اعتبار أنها غير مستقلة وتابعة لبريطانيا ما يعني أن تضحياتهم في ثورة العشرين ذهبت سدى، وهو اعتبار صحيح تماماً من ناحية جيوسياسية وتاريخية.

وإذا أردنا أن نضع هذه المخاوف والهواجس في سياقها التأريخي الصحيح، لكي نفهمها فهماً يقربنا من حقيقة ما حدث فعلينا التذكر بأن استقلال الدولة العراقية كان هشا ومهددا في السنوات والعقود الأولى. وكانت إيران وتركيا الجمهورية قد وقفتا ضد استقلال العراق عن بريطانيا. وادعت كلتاهما الحق في إلحاقه بهما. وماتزال للدولتين أطماع معلنة في أراضي ومياه العراق حتى الآن. وكمثال على هذه العنعنات في تلك السنوات نذكر أن رجل دين من حملة الجنسية الإيرانية كان يعيش في العراق يدعى الشيخ حسين يزدي وقف صراحةً ضد استقلال العراق ودعا علنا في بيان نشر في الصحف العراقية سنة 1925، وقال فيه إنَّ العراق "يجب أن ترعاه مربيته القديمة تركيا وأمه فارس إلى أن تظفر باستقلالها. ص186 من كتاب "شيعة العراق - إسحق نقاش". في حين وقف رجال دين إيرانيون آخرون مقيمون في إيران ذاتها موقفاً مؤيداً لاستقلال العراق ومنهم آيات الله محمد حسين النائيني أحد قادة الثورة الدستورية "الحركة المشروطة" سنة 1905، والأصفهاني والخُراساني.

ومثلما لا يمكن تفسير تاريخ العراق الحديث بالتمييز الطائفي الذي كان هامشياً "وشبه فولكلوري" آنذاك، فلا يمكن تفسير عدم وجود تمثيل شيعي عراقي مناسب لحجمهم السكاني في الدولة العراقية الملكية الجديدة بالتمييز الطائفي السني ضدهم، بل لأن هناك عدة عوامل لعل أبرزها وأقواها مقاطعة القيادات المجتمعية القبائلية والدينية الشيعية للدولة العراقية التي اختلقها البريطانيون للالتفاف على ثورة العشرين الاستقلالية. ومع ذلك فقد خُرقت هذه المقاطعة جزئيا وعدم وجود كوادر من العرب الشيعة في الدولة العثمانية ينتقلون تلقائيا منها الى الدولة الجديدة كما حدث من أقرانهم العرب والكرد السُّنة. ومع ذلك فقد سارع بعض السياسيين من الشيعة إلى خدمة الكيان الوليد الذي قرر قادة ثورة العشرين مقاطعته. وكان الوجيه والتاجر الشيعي عبد الحسين الجلبي أول من خرق المقاطعة، وأصبح وزيراً فيه، وقد هجاه الشاعر الشعبي الساخر مُلا عبود الكرخي بقصيدته الشهيرة "وعدتنا من الوزارة تستقيل.. وعدلت عنها لماذا يا محيل؟ ".

الوزير المذكور، سليل عائلة الجلبي المغرقة في الولاء والتبعية للبريطانيين " وكانت هذه العائلة تمثل حالة نموذجية أخرى، إذْ كانت واحدة من العائلات الشيعية القليلة التي حافظت على علاقات ممتازة مع الحكومة العثمانية. وكان سلفهم علي الجلبي جابياً لضرائب الكاظمية وكان غاية في القسوة، وعنده حرس شخصيون من العبيد المسلحين وسجن خاص بتصرفه. وعندما مات تنفس أهل الكاظمية- وهم من الشيعة- الصعداء. أما ابنه عبد الحسين، الذي أصبح رئيساً لمجلس إدارة شركة ترام الكاظمية / بغداد، فقد كانت له، منذ العشرينيات، حقيبة في كل وزارة تقريباً لأنه كان (قابلاً للاعتماد عليه ولين العريكة..)  كما جاء على لسان السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني " جيرترود بيل" والمعروفة اختصارا لدى العراقيين بـ " مس بيل / أم سبيل ". وأما حفيده عبد الهادي فقد حظي في العام 1938 بعطف عبد الإله الذي سيصبح وصياً على العرش لأنه ساعده بالقروض"، كما كتب حنا بطاطو، العراق- الكتاب الأول، ص352. وهذا نموذج على الصعيد الأسري مع وجود استثناءات لشخصيات وطنية حتى ضمن هذه الأسرة تجعل التعميم غير وارد. ولكن هل فعلا يقسم هذا القانون العراقيين إلى درجة أولى وثانية على أساس طائفي؟ فهذا ما سنتوقف عنده وعند شهادات أخرى ترفض اتهام الحصري بالطائفية وتقدم دليلا قويا على نفيها، وأخرى تبرئ الرصافي مما نسب إليه من أقوال ومواقف ضد الجواهري وقصيدته "بريد الغربة" في الجزء القادم من هذا الملحق.

***

علاء اللامي

 

لو كان التوتر رجلا لقتلته، فضحاياه اليوم يزيد عددهم عن قتلى هيروشيما أو بركان فيزوف. إن أصابع الاتهام لا تكف عن الإشارة إليه كسبب رئيسي في وفاة ثمانية ملايين شخص كل عام. لا فرق في ذلك بين مالك أسهم في البورصات الدولية، وبين من لايملك قوت يومه.

كان الإنسان حتى وقت قريب يؤَمّن احتياجاته من الطعام، ثم يعود إلى بيته مساء لينسج حكايات عن الأمير وابنة الحطاب، والأميرة والراعي، والصياد الذي عثر في بطن سمكة على عقد من اللؤلؤ. كانوا يجدون في الحكايات لذة تحقيق الأمنيات البعيدة، فلم يعانوا من ضغوط نفسية رهيبة، كالتي يئن تحت وطأتها إنسان الوفرة والاستهلاك، ومخترع الطائرة والثلاجة والحواسيب. هذا المخلوق الذي تخلص من الجاذبية ليصعد إلى القمر، لكنه لم يتخلص من الوحش الذي بداخله لينعم بالسعادة.

يُولّد الإيقاع اللاهث للحياة المعاصرة جملة من التحديات والظروف الصعبة التي تُلزم الإنسان بالتكيف معها. ونتيجة لذلك يتراكم بداخله ما يسميه علماء النفس " التوتر الكامن"، أو ما نعبر عنه في حياتنا اليومية بالمزاج السيء، وفقدان حس الدعابة، والعجز عن مواجهة الأخطاء والمشكلات.

لعل إحدى أكثر مسببات التوتر شيوعا اليوم هي الرغبة الجارفة في التفوق، وتأكيد الذات، وتحقيق الإنجاز العالي. فالنماذج المجتمعية التي يروج لها الإعلام بشكل مفرط، يتم تقديمها على أساس أنها مرتفعة الأداء؛ مما يستحث دوافع الأفراد ويُحفزهم لإيجاد موقع في دائرة الضوء. وهو بالتأكيد شيء طيب، لولا أنه يتجاهل المعايير المرتبطة بالثقافة الأسرية، والبيئة الاجتماعية.

ويرجع السبب الثاني إلى السعي المتواصل لتحقيق السعادة خارج الذات، بينما تؤكد التجارب والوقائع اليومية أنها شعور داخلي، يتحقق من خلال مجموعة من الفضائل التي تتجاوز الزمان والمكان، والتي صار بالإمكان قياسها من منظور تحليلي علمي لإثراء القوى الإنسانية. وماذا يملك إنسان الميديا الذي تداهمه آلاف الرسائل الإعلامية والإعلانية لإقناعه بأن السعادة لا تتحقق سوى خارجه، وأن حياته هي رحلة بحث مضن عن الشيء أو الشخص الذي يملك المفتاح؟ تجيب لويس ليفي مؤلفة كتاب (اِخلع رداء التوتر):" إذا قررت أنا أن الأمر يتطلب شخصا آخر ليجعلني سعيدة، فإنني إذن وضعت سعادتي في يد هذا الشخص الآخر. فهل حقا أتوقع أن يفعل شخص آخر ما أود أن يفعله بالضبط حتى أصبح سعيدة؟".

سبب آخر يستدعي التوتر، وهو المتعلق بهوس التملك وتكديس الأشياء، وما يستلزمه ذلك من حاجة مستمرة للمال، حتى أن أحدهم عبّر ساخرا بأن السعادة اليوم ليست في المال بل في الأموال. وما يضاعف النشوة المفرطة للاقتناء أنها أصبحت رمزا للمكانة، ومدخلا لتأكيد الذات والقوة والسلطة؛ بل وهيمنت مشاعر الملكية حتى على العلاقة مع الآخر، من خلال عبارات متكررة في التداول اليومي من قبيل " طبيبي، محامي، جمهوري..".

إن للتملك جذوره المتأصلة في الطبيعة البشرية، إذ لابد للإنسان أن يملك بعض الأشياء للبقاء على قيد الحياة؛ أما ما يسميه آيريش فروم ب "لتملك التطبعي" فهو سلوك مصطنع، يغذي إحساسا زائفا بالهوية والمكانة والصحة العقلية. يقول فروم في كتابه (الإنسان بين الجوهر والمظهر):" في نمط التملك لا توجد علاقة حية بيني وبين ما أملك. فأنا وما أملك أصبحنا جميعا أشياء.. إن نمط الملكية لا يقوم على صيرورة حية ومثمرة بين الذات والموضوع، وإنما هي علاقة تجعل من الذات والموضوع أشياء، والعلاقة بينهما علاقة موات وليست علاقة حياة".

وتضيف لويس ليفي سببا رابعا للتوتر المتزايد، وللضغوط التي باتت تهدد حياتنا النفسية والجسدية، وهو المتعلق بالحضور المتسلط للآلات، ومحاولاتنا المتكررة للتلاؤم مع سرعتها. فنحن ابتكرنا التكنولوجيا، لكن أجسادنا ليست مهيأة لمواكبتها. لقد اعتدنا قديما أن نستجيب للتوتر في المواقف المثيرة من خلال ضخ الأدرينالين اللازم للهروب أو القتال؟ أما اليوم فلا يمكننا فعل نفس الشيء ونحن نتعامل مع عطل في السيارة، أو أمام الصراف الآلي. وهذا الضغط الذي تمارسه الآلات بشكل يومي لا يمكن لأجسادنا أن تتحمله.

ما الحل إذن؟

وكيف نتخلص من هذا الثقب الهائل الذي يمتص راحتنا وسعادتنا، وآمالنا في عيش أفضل؟

تلقي دور النشر في الآونة الأخيرة بعدد كبير من الإصدارات التي تندرج تحت ما يسمى بالتطوير الذاتي. ومن خلال العناوين يظهر شبه إجماع على أن التوتر هو سمة العصر، والعابث الأول بأعصابنا. تلك الموصلات التي ترزح اليوم تحت ظلمات الهم والقلق والأرق.

تدور أغلب العناوين حول ضرورة تبسيط حياتنا. وتتنوع المسميات بين فن العيش، وفن الغفران، وفن الحياة البسيطة، بل حتى فن اللامبالاة. أما الحلول والبدائل فأغلبها مستقاة من النصوص الدينية القديمة، ومن معطيات علم النفس والبيولوجيا وفسيولوجيا الأعصاب. وهي في مجملها دعوة للضحك الذي يجلب الأوكسجين، ويخفف الشد الموجود في عضلاتنا، ولإجراء تمارين الاسترخاء والتنفس، والعودة إلى الطبيعة التي تُذكرّنا برحم الأم، حيث بدأنا الحياة في سائل محاط بموجات دافئة ومغذية.

 يحرمنا التوتر بهجة الحياة فيفقد الإنسان الاهتمام بصحته وجماله، وتعتريه شيخوخة مبكرة. ولو تأمل في الأسباب كما يقول ماركوس أوريليوس، لوجد أن الألم والضغوط ليست نتيجة لتلك العوامل نفسها، بل لتقييمه لها؛ وهو الأمر الذي يمكنه إيقافه في أية لحظة. وبعبارة تولستوي الرشيقة:

" إذا أردت أن تكون سعيدا، فكن سعيدا! "

***

حميد بن خيبش

أبو المظفر يوسف بن المقتفي (518 - 566) هجرية، تولى الخلافة (555 - 566)، ولمدة (11) سنة، وفي عمر (37)، وصار وليا للعهد في عمر (29)، وتوفى في عمر (48). وكان متسما بالعدل والرفق وشديدا على الفاسدين. ويقول إبن الجوزي: "كان المستنجد موصوفا بالفهم الثاقب، والرأي الصائب والذكاء الغالب، والفضل الباهر، له نطم بديع ونثر بليع، ومعرفة بعمل آلات الفلك والإسطرلاب".

من شعره:

"عيرتني بالشيب وهو وقار

ليتها عيرت بما هو عار

*

إن تكن شابت الذوائب مني

فالليالي تزينها الأقمار"

ومضت الدولة في الإضطرابات والنزاعات بين الملوك والسلاطين، والخليفة ينأى بنفسه عنها، ولهذا بقي في الخلافة حتى وفاته، ولم يتعرض للإذلال كغيره.

وفي زمانه كان لصلاح الدين الأيوبي ونور الدين وأسد الدين صولاتهم في مصر وما جاورها ومواجهاتهم مع الغازين.

ويُقال أن محظية أبيه أم علي قد تآمرت عليه، يوم تشييع جنازة أبيه، وكانت تريد قتله وتولية إبنها علي، لكن المؤامرة كشفها أحد غلمانه، فتقلد سيفه وأحبطها، فسجن أخاه وأمه، وأغرق الجواري المشتركات في محاولة الإغتيال.

ويذكر أن وزيره وحاجبه وطبيبه ربما تآمروا عليه فأدخلوه الحمام ثم أغلقوا الباب عليه فمات خنقا.

كن قويا سوف تحيا عادلا

وبها الإنصاف يبقى ماثلا

لا تكن سهلا مطيعا تابعا

أو جهولا في حماها غافلا

هذه الدنيا كغابٍ صاخبٍ

وأسود الغاب تهوى العاجلا

***

د. صادق السامرائي

 

من يصنع التأريخ لا يكتبه، لأن وقته مستثمَر في تلك الصناعة، والذين يكتبون التأريخ يدوّنون أحداثه، فتختلط مواقفهم منها ووجهات نظرهم عنها بما يدونون، فتكون المدونات التأريخية مؤشرات أو دالات على أن الحدث قد حصل، أما تفاصيله وآلياته وتفاعلاته فتكون في قبضة الرؤى والتصورات والمواقف للكاتب.

وكلما تمادت القوة في صناعة التأريخ، قلت فرصة تدوين ما أنجزته، وهذا ينطبق على الدولة الأموية التي كانت كالإعصار المتوثب، الذي إنطلق مدويا في رحاب الأرض، فتحققت الفتوحات وبلغت ذروتها.

وعندما جاء العباسيون بقيادة أبو مسلم الخراساني، وتسنم أبو العباس السفاح الخلافة، كاد أن يقضي على الدولة الشاسعة ويمزقها، لإنشغاله في إبادة الأمويين، ولولا تدخل الأقدار وموته المبكر، وتولي أبو جعفر المنصور الخلافة، الذي إستطاع أن يحافظ على معظم أرجاء الدولة ويزيد في إحكام السيطرة والإنطلاق بها إلى مديات جديدة، فهو المؤسس الحقيقي لها.

وفي عصره بدأت الجهود الحثيثة للتنوير الفكري من الترجمة والتدوين إلى إنبثاق العلوم الأخرى وتطورها وسيادتها على الوجود الإنساني.

وكانت الدولة الأموية تعتبر غير العربي من الموالي، أما الدولة العباسية فللموالي دورهم القيادي المؤثر في مسيرتها، وهم الذين دوّنوا ما إستطاعوه من الماضي والمعاصر في زمانهم ، ولهم ربما يعود الفضل في الثورة المعرفية المشرقة التي قادتها بغداد والبصرة والكوفة.

فالعباسيون نقلوا الشفاهي المتداول إلى الورق. ومضت الحالة في تصاعدها حتى إنتقال العاصمة العباسية من بغداد إلى سامراء سنة (222) هجرية، فإنكمشت النشاطات المعرفية، خصوصا عند مداهمة الفوضى للحياة بعد مقتل المتوكل سنة (248) هجرية، وحتى إنتقال العاصمة إلى بغداد سنة (279) هجرية، وهذا يفسر قلة المدونات عن النشاطات العلمية والثقافية التي جرت في سامراء، أثناء دورها كعاصمة للدولة العباسية، كما أن الأتراك هيمنوا على مقاليد الأمور، وإنهمكوا في صراعات داخلية وحروب خارجية أبعدتهم عن التدوين والعلم، وكانوا يكتبون بالسيف والدم، ويجيدون صناعة المحن والأحزان، وهم الذين أسهموا في تخريب قصورها الفيحاء!!

فصانع الأمجاد لا يدونها، وذووا الأقلام لا يشاركونها، فيكتبون عما تصوروه عنها، فتكون المسافة شاسعة بين المدون والمنجز.

دماءٌ في مداد الخط تسعى... بما نظروا إليها سوف تُدعى، إذا صنعوا الملاحم جاوزوها... وأغرابٌ بها جادوا كصرعى، مدوّنة بأيامٍ خطاها... فمَن أدرى بمن فيها سيُنعى!!

***

د. صادق السامرائي

كنت قد وعدت القراء بنشر أية تعقيبات موثقة ورصينة يتكرمون بها، ورحبت خاصة بتلك التي قد تأتي من أقارب الشاعر الراحل الجواهري. وكان الصديق الأستاذ رواء الجصاني ابن أخت الشاعر الراحل والقيم والوصي الرسمي على تراثه ومؤسس مركز الجواهري وهو أيضا صحافي وناشر يدير دار نشر بابليون في العاصمة التشيكية براغ. قد كتب لي الصديق الجصاني بعد نشر الحلقة الثانية من مقالتي مرحبا بما نشرت ومبديا رأيه في بعض التفاصيل واعدا بأنه سيكتب لي بعد اكتمال نشر المقالة.

وقد برَّ الأستاذ الجصاني بوعده وكتب لي رسالة أخرى وأرسل معها بعض الوثائق والصفحات ذات العلاقة من مذكرات الشاعر الراحل. وقبل أن اقتبس ما أراه مهما ومفيدا من رسائل الجصاني سأكرر هنا وعذرا خلاصة مركزة لرأيي في موضوع قومية الشاعر الجواهري والتي كنت قد طرحها في مقالتي المنشورة. وسأنشر روابط تحميل بعض كتب المذكرات ذات الصلة ومنها مذكرات الجواهري بجزأين، والجزء الثاني من مذكرات ساطع الحصري وأرجو ممن لديه رابط لتحميل الجزء الأول، وهو الأهم، أن ينشره في التعقيبات أو يرسله لي على الخاص ومذكرات:

تذكير بخلاصة بحثي: الجواهري شاعر عراقي عظيم، بل هو أكبر شاعر معاصر من شعراء العربية في الشعر العمودي "القريض" في القرن العشرين ولعدة قرون خلت وصولا إلى قرن صفي الدين الحلي في القرن الثالث عشر وهو أحد شوامخ السردية الشعرية العربية العراقية الكلاسيكية، ولكني لا أرجح أن الجواهري عربي، وأما أمر جذوره الإيرانية فمحسوم بماضي أسرته طوال خمسة قرون في إيران قبل مقدمهم إلى العراق، وقد تكون أصوله القومية فارسية وقد لا تكون، وقد تكون أصول العائلة الجواهرية عربية قبل مقدمها إلى إيران من جبل عامل في لبنان وقد لا تكون، فهذان أمران لا سبيل لإثباتهما إلا على سبيل الترجيح والظن في الوقت الحاضر. فإذن، مسألة عراقية الشاعر الجواهري ليست موضع تشكيك أو قدح، فهي صفة أكيدة وأصيلة له وفيه، أما الأصل القومي له أو لغيره سواء كان فارسيا أو عربيا أو غير ذلك، فهو مسألة شخصية بحتة، شأنها شأن المذهب والدين، ولا ينبغي أن تهم أحدا سوى حاملها والمؤرخين والنقاد الذين يتصدون لكتابة سيرته أو أبحاث عنه. وصاحب الشأن هو مَن يمكنه ويحق له أن يؤكدها أو ينفيها كمعلومة، ومن حقنا نحن أن نبحثها نقدياً في محاولة لمقاربة الحقيقة بغض النظر عما يقوله هو وفي ضوء المنهج البحثي العلمي وما يتوفر من وثائق صحيحة.

رسائل وريث الجواهري رواء الجصاني:

بالعودة إلى رسالتيِّ السيد رواء الجصاني، الأولى والثانية، نجده يعرض وجهة نظره بوضوح. وخلاصتها حرفيا أنه يرى أن محمد مهدي الجواهري شاعر عراقي من أصل عربي ولكن الجواهري "كان يترفع عن الاشارة الى "أصله" العربي، باعتبار ذلك تحصيل حاصل، كما أحسب.. غير أن العشرات من أبيات شعره الثري تؤرخ لما كتبه بهذا الشأن". ثم يورد الجصاني عددا من الأبيات سوف أناقشها في موقع آخر من هذا النص.

وتعليقا على ذلك أقول: من وجهة نظر بحثية منهجية فإنَّ ما يقوله الجصاني يدخل في باب الشهادات ووجهات النظر والاعتقادات الظنية بدلالة عبارته "كما أحسب"، هذا أولا، وثانيا فهي شهادة ليست مدعومة بوثيقة أو دليل ملموس آخر، ولكنها تبقى وجهة نظر وشهادة لها قيمتها المعلوماتية الترجيحية لأنها تأتي من قريب عائليا ورسميا من الجواهري وقد عاش جزءا مهما من حياته برفقته.

وفي رسالة الثالثة الجوابية ردا على بعض استفساراتي أوضح الأخ الجصاني الآتي:

بخصوص حيازة الجواهري "الجنسية الايرانية": على ما تابعت فإنه لم تكن هناك شهادة جنسية عراقية لمن سكن العراق وعاش فيه، عهد ذاك، فالكل عثمانيون.. إلا من سجل "تبعية لإيران" كقادمين منها، أو من الرعية المسؤولة إيران عنها.

* ويضيف الجصاني: "ومما يروى عن مصادر بعض أسرة ال الجواهري، القدامى، ان الزعيم الاجتماعي للأسرة، الشيخ جواد (وهو حفيد الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، إمام عصره عند الشيعة، وزعيم الحوزة في النجف) قد سجل الاسرة كــ "تبعيـة" لإيران، للخلاص من شمول ابنائها بالجندرمة والعسكرية العثمانية، عشية وخلال خلال الحرب العالمية الثانية. وفي ضوء ذلك، ونسبة اليه، ومع إقرار قانون الجنسية العراقي بعد الحكم الوطني، ووفق المعروف/ انه كان يُرمز لأبناء وبنات آل الجواهري، بـكلمة "تبعيـة" عندما منحت / تمنح الجنسية العراقية لهم بـ" التبعيــة" وليسوا اصلاء (!!) ... مع استثناءات.   وعلى حد علمي - وأنت أعرف- أن هناك أيضا الكثير من العوائل والأسر النجفية "تبعية" ومنها "الرضي" أسرة الشهيد سلام عادل "حسين الرضي"، وآل الخليلي.

ويضيف الجصاني: "وحتى اليوم هناك أبناء عمومة وخؤولة من آل الجواهري في طهران وغيرها يحملون الجنسية الايرانية، وهم مقيمون هناك منذ أمد طويل، يقرب من القرن، على الأقل. منهم خالي الآخر، عبد العزيز صاحب الجواهر (أي الجواهري) وهو "الشقيق" الأكبر من محمد مهدي، هاجر من النجف الى إيران في مطلع عشرينات القرن الماضي، وحمل الجنسية الايرانية، وتوفي هناك في السبعينات الفائتة، وهو فقيه وشاعر ومترجم بارع، واستاذ لغوي زائر في جامعة طهران".

يختم الأستاذ الجصاني رسالته بهذه المعلومة: " وللمعلومات أيضا، تم تهجير جمع من أبناء وبنات من الأسرة الجواهرية، أوائل الثمانينات الماضية الى الحدود مع إيران، ومنهم السيد صادق بن الشيخ ابراهيم، الجواهري، وأطفاله الاربع، كما اعتقل في النجف وأخفي (أعدم) الشيخ محمد تقي ابن الشيخ "اية الله" عبد الرسول، وهو خال الجواهري، في الثمانينات الأخيرة لتابعيته الى السيد الصدر الاول ودوره في زعامات حزب الدعوة الاولى.  والشيخ حسن ابنه الان (ابن محمد تقي) بدرجة "اية الله" يقيم في النجف حاليا بعد ان هُجر او هاجر الى قم وبقي هناك أكثر من ثلاثة عقود، وعاد بعد عام 2003. وهو الزعيم الديني حاليا للأسرة الجواهرية ".

  نستخلص من كلام الأستاذ الجصاني في رسالته الأخيرة الخلاصات التالية والتي يمكن أخذها بنظر الاعتبار كشهادة من قريب للشاعر الراحل وقيم ووصي على تراثه رسميا:

* إن العائلة الجواهرية كانت تحسب فعلاً على التبعية الإيرانية. ولكن وجود عدد من أفراد الأسرة ومنهم عبد العزيز صاحب الجواهر (أي الجواهري) الشقيق الأكبر لشاعر الجواهري في إيران وعيشهم فيها حتى وفاة بعضهم يؤكد أن الأمر يتعلق بما هو أكثر من التبعية الإيرانية، وقد يصل إلى حيازة الجنسية الإيرانية وهو أمر أكدته شهادات أخرى سنأتي على ذكرها لاحقا. والتبعية لا تعني فقط حاملي الجنسية بل غيرهم أيضا فقد كانت تشمل أسرا وغالبية العشائر والقبائل العربية العراقية لأنها شيعية واختارت التبعية لإيران القاجارية حتى لا يُشمل أبناؤها بالخدمة العسكرية العثمانية بموجب اتفاق إيراني عثماني بين الدولتين المتحاربتين آنذاك.

هنا، ثمة خلط تقليدي بين أمرين؛ الأول التبعية لإيران والثاني حمل جنسيتها من قبل ذوي الأصول الإيرانية من الفرس وغير الفرس. ولأن موضوع التبعيتين طويل ومعقد فسأتطرق له باختصار شديد على أمل العودة إليه في مناسبة أخرى بإسهاب أكثر.. يتبع قريبا.

***

علاء اللامي

أحمد أبو العباس أحمد بن المستضيئ بأمر الله (553 - 622 ) هجرية، عاش (69) سنة، وإستمر بالخلافة (47) سنة، (575 - 622) هجرية، وتولاها في عمر (22). ولم يل الخلافة أحد أطول منه. ويبدو أنه قد تميز بذكاء فطري عن سابقيه ولاحقيه فتمكن من البقاء بالخلافة ما يقرب من نصف قرن دون أن يتعرض لهوان أو إذلال، بل كان مهابا مطاعا، وصاحب حيل ومراوغات معقدة تنم عن ذكاء فائق.

وتميزت سياسته بالقضاء على التعصب المذهبي الذي كان يستثمر فيه الملوك والسلاطين للنيل من الخليفة، وقرّب العرب وأبعد الأغراب عن الحكم، فتآلفت القلوب وتفاعلت بإيجابية، وقلت الفتن والإضطرابات، وكانت علاقته بصلاح الدين الأيوبي وطيدة.

وتمكن من القضاء على السلاجقة وإزالة آثارهم في بغداد، وإهتم بعمارة المدينة وتحصين أسوارها.

قال إبن النجار: "دانت السلاطين للناصر، ودخل في طاعته من كان من المخالفين، وذللت له العتاة والطغاة، وإنقهرت بسيفه الجبابرة، واندحض أعداؤه، وكثر أنصاره، وفتح البلاد العديدة، وملك من الممالك ما لم يملكه أحد ممن تقدمه من الخلفاء والملوك، وخطب له في ببلاد الأندلس والصين".

وقال إبن واصل: " كان الناصر شهما، شجاعا، ذا فكرة صائبة، وعقل رصين، ومكر ودهاء، وله أصحاب أخبار في العراق وسائر الأطراف، يطالعونه بجزئيات الأمور"

وقال الذهبي: ".....وكانت له حيل لطيفة ومكائد غامضة وخدع لا يفطن لها أحد، يوقع الصداقة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون، ويوقع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون"

وقال إبن جبير الأندلسي: "وهو مع ذلك يحب الظهور للعامة، ويؤثر التحبب لهم، وهو مأمون النقيبة عندهم،  قد إستسعدوا بأيامه رخاءً وعدلاً وطيب عيش، فالكبير والصغير منهم داعٍ له"

والبعض يرى أنه كان رديء السيرة في الرعية، مائلا للظلم والتعسف، وكان يفعل أفعالا مضادة.

مؤلفاته: كتاب روح العارفين في الحديث النبوي الشريف.

وأطروحة العلامة مصطفى جواد لنيل الدكتوراه كانت عنه في جامعة السوربون.

ويمكن القول بأن الناصر لدين الله هو الخليفة الوحيد الذي أعاد للخلافة هيبتها وللدولة قوتها، بعد أن فقدتها منذ مقتل المتوكل على الله، فقد تمتع بدهاء سياسي وذكاء فاعل في تدبير شؤون الدولة، لم يتمكن أحد من بني العباس القيام به قبله.

وبسببه إستعادت الخلافة عزتها وكرامتها وتذلل لها الملوك والسلاطين، وأعلنوا الخطب بإسمها في كافة الأرجاء.

وهو يقدم مثلا على أن الأمة يمكنها أن تنجب منقذيها مهما طالت فترت إمتهانها والعبث بمقدراتها، فهو الخليفة الذي جاء بعد (328) سنة من  مقتل المتوكل، فأحيا الخلافة وأعاد لها روحها وجوهرها.

مما يعني أن الأمة لا تنمحق ولا بد لليلها الطويل أن ينجلي.

أمة تحيا وتبقى مشعلا

ودليلا ساطعا أو منهلا

إنها عاشت سموّا خالدا

وأجادت بحياةٍ أجملا

نصرها يهفو إلى أرجائها

بزمان بسُراةٍ إبتلى

***

د. صادق السامرائي

20\2\2021

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم