أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

في البداية وقبل كل شيء؛ لست انا بناقد وليس في نيتي ان  اكونه، إنما حين اقرأ عمل ما واجد من ان هذا العمال يستحق تقديم قراءة له؛ اكتب قراءة له. رواية احدب نوتر داب كنت قد قرأته في بداية السبعينيات من القرن الماضي؛ من ثم اعدتُ قرأتها قبل ايام. في هذه القراءة وجدت فيها الكثير من العلامات والدلالات، كما الكثير من الاسئلة عن حقبة ظلام وظلم القرون الوسطى التي كانت فيها اوروبا تحت هيمنة وظلام وظلم الكنيسة؛ خلال ما يقارب العشرة قرون الى نهاية القرن الخامس عشر، وبداية القرن السادس عشر. انها اي هذه الرواية قد قالت الكثير عن بدايات انهيار قرون الظلم والظلام. من رحم هذا الظلم وهذه العتمة؛ بدأ عصر النور والانوار الذي شكل اللبنة التي منها من وبينها ومن وسطها؛ انفجر في فرنسا وفي عموم اوروبا عصر النهضة. رواية احدب نتوردام تصور بصورة مؤلمة وواضحة في آن واحد؛ الحياة في باريس في نهاية القرن الخامس عشر؛ وكيف يجري تماما استخدام او استثمار الدين من خلال تحكم الكنيسة في كل ما يجري على الارض من حياة الناس الى الاحكام التي تطال الناس وتسلب منهم حياتهم وحريتهم وكرامتهم وانسانيتهم. فقد استخدمت الكنيسة محاكم التفتيش في كل من يقف بالضد منها، او يحاول ان يفند اراءها سواء في السياسية او في الدين او في كل ماله علاقة بحياة الناس. رواية احدب نتوردام تعكس بصورة جلية؛ واقع الحياة في تلك العصور، عصور القرون الوسطى، وفي نهاية اخر قرن من القرون الوسطى المظلمة في اوروبا، وبداية عصر النهضة والاستكشاف والتنوير. كما انها ترجمت ما يمور في المجتمع الباريسي وبالتالي في كل المجتمع الفرنسي، بل الاوروبي وبالذات في غرب اوروبا وفي وسطها؛ من حركات مضادة لكل طروحات الكنيسة في تلك الفترة اي في اواخر القرن الخامس عشر. انها حقا ملحمة انسانية مؤلمة وموجعة في ان واحد؛ فقد كانت الكنيسة لا تتحكم بالمجتمع فقط، بل انها تتحكم ايضا بالقصر الرئاسي في فرساي، اي ان الحكم في القصر الرئاسي يستمد شرعيته؛ من موافقة الكنيسة وليس من الشعب. في ظل هذه الاجواء والظروف سواء ما كان منها سياسيا او دينيا، او اي ملمح اخر من ملامح الحياة كل الحياة؛ تخضع كليا لإرادة الكنيسة، ومحاكم التفتيش، محاكم تفتيش القرون الوسطى. كانت هناك حركة مضادة لها، لها فعلها في المجتمع الفرنسي. في وقت كان هناك على الجانب الثاني في باريس؛ مجتمع الظل او مجتمع المهمشين الذين يرزحون تحت ظل الفقر والعوز والحرمان وانتشار بيوت الدعارة؛ في احياء كاملة في الضواحي. الغجرية الراقصة والمغنية والتي تتقن فن الغناء والرقص بطريقة مذهلة كما انها تتمتع بجمال اخاذ؛ كانت قد خرجت من مجتمع الدعارة هذا بطريقة مؤلمة جدا. والدتها كانت تعرض نفسها او جسدها للبيع في اسواق بيع الجسد في تلك النواحي المهملة جدا، والتي ترزح تحت فقر مدقع. فقد حملت وهي لا تعرف من والد الطفلة التي سوف تولد لاحقا، والتي حين  وضعتها كانت على قدر كبير جدا من الجمال. الوالدة تعلقت بها كثيرا حتى صارت لا تفارقها ابدا. في احد المرات من سوء الصدفة؛ كانت لشغل ما غادرت البيت لبعض الوقت. حين عادت لم تكن الطفلة في مكانها، بل كان هناك شبح مخيف جدا، فلا هو بإنسان ولا هو بحيوان هو في مكان بين الاثنين، بين الانسان والحيوان. وجه قبيح جدا، وحدبة في الظهر. في قارعة الطريق او في مكان على قارعة الطريق؛ وضعته هناك، مع اطفال اخرين في ساحة اعدتها الكنسية مسبقا لهذا الغرض، اي لعرض هؤلاء الاطفال او هؤلاء الرضع؛ لمن يريد من الناس ان يتبنى اي منهم. ظل الطفل الشبح او الطفل المخيف والمرعب جدا، ظل هو الوحيد الذي لم يتبناه اي احد. لكن في النهاية تبناه راهب عرف في المجتمع بالتقوى والاحسان. تتركز هنا بؤرة الرواية في الاحدب والراقصة والراهب والذي هو واحد من اعضاء محاكم التفتيش. تحمل الرواية مع انها رواية كلاسيكية؛ الكثير من الرموز والدلالات التي اراد الروائي بها او من خلال شخوصها الرئيسية؛ ان يقول رؤيته وأراءه في تلك المرحلة التاريخية المهمة والتي لاحقا هي من رسمت الحياة المستقبلية في فرنسا بل في كل اوروبا؛ بعد تخلص فرنسا من نفوذ وهيمنة الكنيسة، وانتهاء تحكمها في المجتمع والحكم والسياسة والناس. الراقصة الغجرية والتي هي ليست غجرية بل انها ابنة شابة فقيرة في احياء بيع الجسد، لكنها عاشت في احضان الغجر الى ان شب طوقها. حين كانت طفلة؛ قام الغجر بسرقتها ووضعوا مكانها، الطفل الرضيع الاحدب. كانت تعيش من عروضها في الغناء والرقص في الساحات. في احد المرات كان هناك عرض موسيقي غنائي؛ في مسرحية غنائية؛ لمخرج وموسيقي وشاعر وكاتب في وقت واحد؛ في بداية مشواره في التأليف والانتاج المسرحي؛ حين قام بعرض مسرحيته في الساحة التي تم اعددها لهذا الغرض؛ جاءت هي الغجرية وقامت بعرضها الغنائي مما ادى الى ان ينصرف الجمهور عنه إليها. لكنه في ذات الوقت كان قد تعلق بحبها، وتزوجها زواجا دراماتيكيا. كيف حدث هذا الزواج؛ هذه هي بؤرة الرواية؛ بشخوصها الرئيسية؛ الراقصة والاحدب والراهب.. الزمن الروائي للرواية حيث؛ تدور احداثها في هذه المرحلة التي سبقت عصر النهضة الاوروبية والتنوير؛ والتي فيها اختمرت كل عناصر الانفجار الذي لاحقا كانت هذه العناصر؛ هي الاسس الذي تم البناء عليها؛ في بداية التخلص تماما من نفوذ وسيطرة الكنيسة.. تخرج الراقصة الغجرية في ظلام الليل وحيدة تماما في دروب ضيقة ليس فيها اي حركة لبشر في ساعة متأخرة من ليل غاطس كاملا في الدمس. تتفاجيء بشلة من لصوص الليل يقودهم شبح مخيف كأنه حيوان خرج من غابة كثة؛ يجندلها الشبح حتى انها لم تتمكن من الصراخ. في هذه اللحظة ومن حيث لا تتوقع؛ يخرج من اعماق الظلام فارس شاب من سلاح الفرسان الملكي؛ ينقذها من عصابة اللصوص وقطاع الطرق. تقع في حبه بسرعة ومن دون ادنى تفكير، كما هو الأخر كان قد وقع في حبها على الرغم من ان له خطيبه من طبقته. في التوازي الزمني والمكاني تقوم العصابة بزعامة وحش الليل؛ باختطاف المخرج والكاتب والذي هو الأخر كان قد وقع في حبها؛ كما انه كان هو السبب في انقاذها حين ارشد وبسرعة الفارس الشاب الى ان هناك على مقربة قريبة جدا؛ ثمة اختطاف للراقصة الغجرية. لكن الذي حدث لاحقا حين انصرف الفارس الشاب؛ قامت العصابة بقيادة وحش الليل بتنظيم جلسة محاكمة للمخرج والكاتب؛ ووضعوه امام خيار وحيد؛ وهو ان تقبل به الراقصة الغجرية كزوج لها  وان لم تقبل فان مصيره الموت. جيء بها، بعد ان تركها الفارس وحيدة في الليل، ظانا من انها قد نجت منهم؛ الى دهليز المحكمة التي هي من صناعة الراهب من دون ان يظهر هو في الصورة، إنما سياق السرد قدم لنا هذه الصورة وبوضوح بالكلمات؛ وقاموا بتوجيه السؤال لها؛ هل تقبل بالكاتب زوجا لها؛ المفاجأة كانت هي قولها نعم اقبل به. ان كل هذا الذي  حدث هو بتخطيط من الراهب والذي هو احد اعضاء محكمة التفتيش. فقد وقع هو الأخر في حبها. الرهب الذي كان قبل سنوات قد تبنى الطفل الشبح او الذي هو في مكان بين الانسان والحيوان حتى سيطر عليه سيطرة تامة، اذ اوكل عليه دق نواقص الكنيسة عندما يحين وقت الصلاة. الاحدب الشبح المخيف والذي يشبه الحيوان اكثر مما يشبه الانسان؛ كان يتمتع بقوة خارقة جدا. اراد الراهب الحصول عليها باي ثمن، فقد كان قد احبها بطريقة جنونية. من بين تلك الوسائل هو اختطافها من قبل الوحش المطيع له مع عصابة اللصوص. لكن هذه الوسيلة قد فشلت تماما. فما كان منه الا ان قام بتحريض العناصر التي تتبع محكمة التفتيش والتي هي الأخرى تابعة الى الكنيسة. فقد اتهمت بالهرطة والتدليس. ليتم سجنها، لكنها تمكنت من الهروب قبل ان يتم تقديمها الى المحكمة ومن ثم حتما الى المقصلة. كان السبب في تهريبها هو الراهب الذي طلب منها ان تكون له هو وحده مقابل ذلك ان يخلصها من المحكمة كليا. لكنها رفضته بإصرار وقالت له انها تحب الفارس الشاب الذي انقذها. في هذا الوقت او في كل السنوات التي مضت كانت الام حبيسة في غرفة مغلقة؛ بحجة من انها مجنونه؛ لا ترى العالم الا من كوة صغيرة في الجدار. لكنها لم تأييس ابدا من انها ذات يوم لسوف ترى ابنتها. قصة الغجرية ما كان لها الا ان تنتشر في الاحياء الفقيرة، والتي اعتبرت او انهم اعتبروها واحدة منهم، وعلهم ان يهبوا لإنقاذها. لتفجر غضب الجماهير المهمشة من اتون محاكم التفتيش. هنا يتجلى تماما علاقة الكنيسة مع القصر الرئاسي في فرساي، إنما الامبراطور او الملك الفرنسي، لويس الحادي عشر؛ كان حينها في زيارة الى باريس. عندما علم بالغضب الجماهيري وبثورة هؤلاء الناس من الكادحين والعمال وما هو يقع في خانتهم او في تصنيفهم. حتى كادت هذه الجماهير ان تسيطر على باريس. قال لمن ابلغه هذه الاخبار؛ وهو ايدها كليا ظنا من انها كانت ضد قاضي باريس الذي يكن له كرها شديدا، وليس ضد الكنيسة؛ ومباركا لثورة المظلومين ومشجعا عليها. لكن حين علم من انها كانت ضد الكنيسة؛ امر الدرك وسلاح الفرسان بالتصدي لهذا التمرد وقبره قبل ان ينتشر الى بقاع اخرى من فرنسا. هنا يصبح لنا الامر واضحا كل الوضوح وهو علاقة القصر الرئاسي بالكنيسة؛ علاقة تخادمية ومنافع متبادلة بين الاثنين الكنيسة ومحكمة التفتيش(القاضي يشرف على ادارة باريس وليس له علاقة بمحكمة التفتيش) والقصر الرئاسي. حين يسجن ويعذب الوحش او الغول الوحشي الذي شكل ويشكل الخادم المطيع للراهب؛ للجريمة التي قام بها باختطاف او محاولة اختطاف الراقصة الغجرية، وبأمر من الفارس الشاب من سلاح فرنسان القصر الملكي، وقبل اتهام الراقصة بالتدليس والهرطة والتي كان وراء هذا الاتهام هو الراهب؛ عندما مرت بالقرب منه وهو يُعذَب قامت بسقيه بالماء واطعامه بما كان عندها منه حينها. في اثناء مطاردة الراقصة الغجرية من قبل سلاح الفرنسان، وهو يحاول اخماد ثورة الجياع والعمال والمهملين من الناس، وبعد تحرير الغول او الوحش المطيع للراهب، قام هذا الوحش بإخفائها في الكنيسة كي لا يصل إليها سلاح الفرنسان؛ لأن لكنيسة من الاماكن المحرمة الوصول إليها واعتقال من يلوذ بها طلبا للنجاة. هنا يتمكن الراهب من الوصول إليها على الرغم من تحفظ الوحش عليها واخفاء سرها عن الراهب، ويساومها بالقبول به مقابل ان يخلصها من سلاح الفرنسان وايضا من محكمة التفتيش. لكنها ترفض رفضا قاطعا. من كوة في جدار الكنيسة تبصر الفارس الشاب من سلاح الفرنسان فتنادي عليه بأعلى صوتها. في النهاية يتم اخراجها من مخبئها بحيلة شارك فيها الراهب. تم بعدها سوقها الى المقصلة. قبل ان تصعد إليها ابصرت امها؛ التي خرجت من محبسها حين عملت من ان الراقصة هي ابنتها التي كانت قبل سنوات خلت قد فقدتها. تعرفت عليها من القلادة التي حملتها الراقصة الغجرية خلال سنوات. قدمها لها الوحش وهي في سجنها، واعلمها بكل ما جرى ولسوف يجري لأبنتها. امام المقصلة يجتمع الراهب والحدب والام والراقصة التي تدفع من قبل الجلاد الذي يأتمر بأمر الراهب؛ كي تصعد سريعا الى المقصلة. تنادي امها. تحضنها امها في اخر مرة لها في الحياة؛ اذا تفارق الحياة وهي تحضن ابنتها. يقطع رأس الراقصة الغجرية. لتسدل الستار على حياتها الى حين.. الراهب يقذف به الاحدب من على برج الكنيسة حين اراد ان يتسلل الى الغرفة التي تضم الراقصة؛ قبل اعتقالها من قبل سلاح الفرنسان الملكي؛ ليموت ممزقا، كما ان الوحش الاحدب يموت هو الأخر عند ارض المقصلة، موتا طبيعيا هو اشبه بالانتحار وليس الانتحار تجسيدا. ان الرمز والدلالات والعلامات التي قالتها الرواية عبر شخوصها الرئيسة؛ الراهب الذي يمثل تماما فساد الكنيسة وسيطرة رجال الدين فيها على مقاليد والاوضاع والظروف واحوال  وحياة الناس؛ بإدانته التي جاءت له، من الكنيسة ذاتها نزولا عند رغبة الناس وخوفا من غضبهم لاحقا؛ يمثل بداية تراجع دور الكنيسة في حياة الناس وفي سياسة الدولة، في المستقبل القريب؛ وهذا هو ما حدث بعد سنوات اي في بداية القرن السادس عشر او اخر سنوات القرن الخامس عشر. الاحدب الوحش على الرغم من اطاعته للراهب، لكنه في نهاية الامر كان قد تمرد عليه واصطف الى جانب الراقصة، والى جانب ثورة الكادحين من ابناء الشعب الذي كان يئن تحت وطأة الظلام والظلم والجهل. الاحدب على الرغم من قبحه الا انه في الداخل منه؛ فيه الكثير من الرقة والعطف والانسانية. حين اكتشف حجم الظلم والقسوة التي كان يمارسها الراهب والذي يمثل كل من الكنيسة ومحاكم التفتيش؛ انحاز الى جانب الراقصة والى جانب ثورة الجياع والمظلومين الذي اتخذوا من مطاردة سلاح الفرنسان للراقصة سببا لهم للثورة. ان رواية احدب نتوردام؛ زمنها الروائي هو نهاية القرن الخامس عشر؛ الذي شكل نهاية قرون من ظلام القرون الوسطى في فرنسا واوروبا. لقد تلت بعد سنوات من زمن هذه الرواية التي كتبت من قبل شاعر وروائي فرنسي، فكتور هوجو؛ انها كانت في سرديتها تحمل نبوءة بداية عصر الانوار والتنوير وانتهاء عصر الظلام. فقد تلت سنوات هذه الرواية؛ ثورات فرنسية عديدة؛ استمرت لقرنين حتى السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، وقبلها، في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر؛ الذي حدثت فيهما على التوالي؛ كمونة باريس الثانية والاولى.  الكلمة الحرة هي من تسلط الاضواء الساطعة على الظلام والعتمة؛ لتعري وتكشف؛ رجالهما وادواتهما.. رواية احدب نتوردام من اصدار المركز الثقافي العربي في المغرب؛ تقع الرواية في 411صفحة من القطع المتوسط. ملاحظة ضرورة القول بها في هذه السطور المتواضعة: ان البعض من الاعمال سواء في الرواية او في الشعر او في اي جنس أخر؛ تظل صالحة ومفيدة للقراءة ومن ثم في الاستفادة منها في التحليل والاستنتاج للواقع المعيش في الاطار العام وليس في التطابق الكلي؛ لعدة عقود وحتى لعدة قرون..

***

مزهر جبر الساعدي 

 

عزيزي يونس اللجوج!

يا للجاجتك وإلحاحك!

لا تزعلْ منّي! طلباتك صارت كثيرةً! لكن مع ذلك أحاول أن أجيبك باختصار.

طلبتَ مني يا صديقي العزيز أن أكتب لك عن احتفالات رأس السنة هنا في هذا البلد الغني الصغير الجميل، وقتَها كانت الشمس تفتخر بإشراقها المتواصل حتى التاسعة مساءً، نعم كانت تشبه ليلة من الليالي البيضاء في عاصمة روسيا الشمالية: "لينينغراد" عفواً، "سانكت بطرسبورغ"، في نهاية يونيو وبداية يوليو، كما أتذكر، وإلا فأنا ضعيف بالأنواء الجوية. المهم، إني أجبتك آنئذ، وأنا "أدق" صدري قائلاً لك: تدلّل! غالٍ وطلب رخيص! صحيح، والله صحيح، أعترف بذلك، نعم وعدتك بالكتابة لكن كلام الليل يمحوه النهار، وأنا رجل، عفواً أقصد إنسان، متقاعس، أو بالأحرى مزاجي، يوم هيك وآخر كيك، وثالث ن ... ، عفواً، سامحني، هكذا هي الأمور هنا، كل شيء يجري حسب الطقس، أعتذر لك كثيراً لتأخري عن طلبك اللحوح اللجوج وأنت تعاني من الحصار، ومع ذلك وجدتُ نفسي اليوم منغمراً في رغبة الكتابة إليك، منخرطاً ومنهمكاً، في  الرد على سؤالك، وأحاول قدر الإمكان التركيز على سؤالك، وكما كانوا يقولون لنا في المدارس: فهم السؤال نصف الجواب، فأنا فهمتُ منك أنك تريد أن "تنفّه" عن نفسك وتستمتع بقراءة رسالة بلا نكد، كلها أفراح واتراح! أليس كذلك؟ وطبعاً سأتذكر دوماً ما طلبته أو "أمرتني" به: عدم التشعب وتقليب المواجع والانتقال إلى موجات أخرى، كما عهدتني أو شخّصتني و"اتهمتني" تقريباً! ولا يهمك سأسعى وأبذل كل ما بوسعي! إليك الرسالة!

الدنمرك دولة علمانية ديمقراطية، نعم، لكنها ذات خلفية مسيحية، إنهم يحتفلون بكل الأعياد الدينية المسيحية، لكن كما كان الناس عندنا في السبعينات يقولون ممازحين "مسلم بالجنسية".

الناس هنا يعشقون شجرة عيد الميلاد، يزينوها ويرقصون حولها في ليلة الكريسمس لكنهم ليس بالضرورة كلّهم متدينين. وأقول لك: لم يتقبل الناس هذا التقليد الجديد أو الموضة مباشرة وبدون اعتراض على الشجرة!

تقوم مؤسسات الدولة بتزويق أماكنها كل حسب اجتهاده، البلدية تنظف الشوارع وتعلّق الأعلام الملونة والشراشيب، تنصب شجرة كبيرة حقيقية مزيّنة ومزوّقة في ساحة المدينة الرئيسة، غالبًا ما تكون في مركزها كما هو الحال في كوبنهاجن. وتُخصّصُ محطاتُ التلفزيون برامجَها لهذا الغرض. هناك برنامج خاص للأطفال يبدأ من بداية شهر كانون الأول حتى رأس السنة اسمه "مفكرة عيد الميلاد" مكرس لهذه المناسبة مستوحى من الثقافة المسيحية، يُعرض فيلمٌ عن حياة سيدنا عيسى المسيح، فتصَوّر يا صديقي، مثلاً، كيف سيكون رد فعل عائلة ملتزمة باعتقادٍ آخر غير النصرانية، تريد تربيةَ أطفالهم عليه.

إنه أمرٌ متعبٌ بالتأكيد في البداية، وليس دائمًا سهلاً على آباء وأمهات غير مسيحيين، أو تابعين لكنائس أخرى، تقبّل ذلك! المسلمون يعترفون بكل الأديان السماوية السابقة ويَعتبرون المسيح نبيًا، لكن الرسول محمد خاتم الأنبياء، هذا ما لا يراه الآخرون! بل يغيظهم! هنا يكمن الصراع!

فيلم "الرسالة" عن حياة الرسول أهم بالنسبة للعائلة المسلمة من برنامج آخر عن الأديان!

عمومًا يبدأ الناس بالحديث عن عيد الميلاد والتحضير له منذ بداية شهر كانون الأول أو منتصفه، يفكرون بكيفية الاحتفال، أين وكيف وماذا يأكلون ويشربون، ولو في حقيقة الأمر أن الطعام معروف.

وكالعادة فإن أفراد العائلة يحتفلون بهذه المناسبة بأكل ما لذَّ وطاب من الوجبات والشراب والرقص حول شجرة عيد الميلاد المزينة بأحلى التزيينات اللّماعة بمختلف الألوان وصور الأقزام وهم يتدلون على أغصانها، وهدايا كثيرة مخفية تحتها توزع فيما بعد على الأطفال والكبار وهم يُقَبّلون ويحتضنون بعضهم بعضًا.

الأمر الآخر هو ان الكريسمس إذا جمعته مع "دورة" السنة ونهاية الأسبوع يصبح إجازة لا بأس بها، يسافر فيها بعض الناس. بدأنا نأخذ هذا الخيار أو يأتي أصدقاء مقربون جداً لنا ونحتفل معًا بهاتين المناسبتين، لكن هناك الكثير من المغتربين المسلمين الأصوليين، بالذات الجدد، وحتى الدنمركيين المورمونيين وشهود يهوه لا يبالون لهما وأطفالهم لا يشعرون بهما.

أتذكّر أني قلت لسْتين العامل "الروبوت" أو "الماكنة" كما أسمّيه، الطيّب، المشرف على بنايتنا السكنية، الجثيث، الطويل الضخم، عملاق من أحفاد القراصنة، "مبروك بعيد الميلاد"، ردّ عليّ ببرود أو جفاء :

- "إنكم لا تحتفلون بهذه المناسبة"،

أجبته:

- مع ذلك مبروك!

قال مبتسمًا ابتسامةً صغيرةً باهتةً بانت من طرف شفته:

- شكرًا.

تسائلتُ بين نفسي، من أين له هذه الأحكام النمطية؟ بالتأكيد بعد معايشته لبعض النزلاء من الأديان الأخرى بمن فيهم المسلمون وشهود يَهوه والمورمونيون ممن لا يُحيون هذه المناسبات، ولا يجاملون ويخشون على أطفالهم من التماهي مع الآخرين.

لكنها عطلةٌ لا يُستهانُ بها، يستغلها الناس بمن فيهم المغتربون للتزاور والسفر إلى ذويهم الى مدن او دول أخرى قريبة منهم. احتفلنا مع عائلة اخرى من أصدقائنا جاؤونا من السويد، قضينا ليلة جميلة بالذات مع الأطفال، لولا محاولة قتل "غسلاً للعار" حدثت هنا، أفسدت علينا أمزجتنا الجميلة واسترخاءنا.

دعني هنا أنقل لك مقاطعَ قصّةٍ كتبها صحفي مكرّسة لهذا الحدث، من جريدة محلية، وأعذرني إن كانت سلبيةً، يقول الكاتبُ:

- " أنا فعلاً متأثر وحزين لحد الآن على ما حدثَ، أعرف الرجلَ المسنَّ شخصيًا، اعتدى على "ضحيته" في لحظة غضب، لم تمتْ والحمد لله، أجل، بَقيتْ على قيد الحياة، اغرورقت عيناه بدموع الفرح والندم لسماعه هذا الخبر، كُتبتْ لها حياة أخرى جديدة، بشرى سارّة له، فقد أحبّها كثيرًا كما يحب ابنته وتمنى لو لم يرتكب هذه الجريمة.

وُلدَ هذا الرجل الفلاح الطيب في بلد "يحج" إلى سواحله الدافئة ملايين الأوروبيين سنويًا، حيث الجبال الشاهقة الجميلة الخضراء، قَدِمَ إلى ألمانيا ومنها إلى الجزر الدنمركية الباردة منذ الستينات للعمل حالمًا بالسعادة، وصار هذا المسكين المعذّب أبًا لأطفال كثيرين، لا أتذكر ثمانية او عشرة، أغلبهم يعاني من صعوبات وتحديات مختلفة، أحدهم مدمن، ضايع، صايع، زوّجوه من بنت شابة اسمها قمر، وهي حقّاً  اسم على مسمّى، وجهها كالقمر، "طازة"، "سر مهر" جاؤوا بها من الأرياف على أمل أن تصلحه، وهل يمكنها ان تقوم بذلك بعدما أفسده الدهر، اكتفوا بأن قالوا لها: خطيبك ميكانيكي، الحمد لله كانوا شرفاء، لم يبالغوا في وصف ابنهم، لم يقولوا لها مثلاً: إنه مهندس طيران! كانوا يعوّلون عليها لإصلاح ابنهم! هي أفضل منه تعليمًا، بقي لها سنة وتنهي الثانوية العامة، من يدري؟ كان يمكن أن تصبح معلّمةً أو طبيبةً في بلادها، لكنها فضّلت ألا تضيّع فرصة العمر: "لم الشمل"، أو "السحب" كما يقولون في بعض الدول الفقيرة، تركتْ الدراسةَ، ضحّتْ بفارس أحلامِها، أحبّها وأقسمَ لها أن يسعدها إن بقيت معه، مع ذلك جاءت إلى هنا، إلى هذا البلد الأوروبي الجميل، كانت تظن أنها ستنعم بالرفاهية وتطور شخصيتها وتكمل تعليمها، وقد تمد يد العون لقريبها و"ما الحب إلّا للحبيب الأول"، لم تجد غير النكد اليومي والفقر والعنف الأسري، بقيت حبيسةَ المنزل مع أفراد عائلة زوجها، أجل، كانت هذه الحقيقة مفاجأةً، بل كارثة بالنسبة لها!

عريسُها، المحروس زوجُها أو بعلُها مدمنٌ لا يفقه شيئًا من الحياة، يهيل ويميل في شوارع المدينة، بقيت معه خمس سنين على هذه الحال، احتارت المسكينة ماذا تفعل له ليتحسن وضعه، بلا فائدة، عبثًا حاولتْ وحاولتْ، أنجبت منه طفلين وثلاثة على مبدأ "كَثّري الحجار يثقل الدار"، عذراً إذا كان هذا المثل غير صحيح، أو أنه من تأليفي، النهاية ليست هندية "هَبي إند"، بل حزينة، هربت الزوجة الغريبة، أرادَ والدُه قتلها غسلاً للعار بينما كان بعلها الشاب يتسكع مع المدمنين قرب كنيسة مريم العذراء في العاصمة.

هي الآن راقدة في المستشفى بينما الأب في السجن، صاروا موضوعَ الصحافة وألسنة الناس، تلوكهم!

حدّثَني ابنُه، العريس "المقدام" في مراتٍ نادرةٍ التقيتُه فيها وكان بمقدوره الحديث والتعبير عما في خلجات صدره، قال بلكنته الجلية وهو مشغولٌ دومًا بتصفيف شعره الأسود اللماع بفعل الدهون، الطويل النازل على جبهته تارةً، يضع السيجارة في فمه حينًا آخرَ، نافثًا دخانها إلى الأسفل وإلى الأعلى، مبتسمًا بين الفينة والأخرى مكررًا:

- أليس كذلك، أليس كذلك، واللهًً، والله، كان أبي يضربني لأتفه الأسباب، مرةً لأني سألته عن "أبو البول" وكيف يتم الجِماع، ليس هناك مشكلة، أليس كذلك، صار يسب ويشتم، ويقول إني لا أحترمه، وضرب المنضدة بيده، جرحها، قلت له: أبي هذا ما علمّونا إيّاه في المدرسة، يسمّونه التعليم الجنسي، أليس كذلك، لماذا تضربني يا أبي، الله يخلّيك، أنت تعرف ممنوع ضرب الأطفال، أليس كذلك، لكنه صار عصبيا أكثر من السابق، يسب ويشتم وضربَ حتى والدتي ضربًا مبرحًا، قال لها: "أنتِ السبب، تدلّلينه، تريدينه أن يصير دنمركيًا"!

صحيح انا "ابن القعده" يعني آخر العنقود، أليس كذلك، لكني لم أرَ بحياتي اي دلالٍ ومحبةٍ منه، تصور مرة طلبت منه ان يشتري لي دراجة مثل كل زملائي التلاميذ، أليس كذلك، فرحتُ كثيرًا لأنه وافق، لكنه ظل يماطل ويماطل ويؤجل الموضوع، وفي كل مرة يقول: انشاء الله، انشاء الله أو بكره، أخيرًا هلكت، صرت أخجل أمام أصدقائي، أليس كذلك، والدة أحدهم أهدتني دراجة كانت حلوة ونظيفة، لكني مع ذلك قلت لها مفتخرًا، وأنا كنت في العلالي، فرحًا للغاية: أبي سيشتري لي واحدة، وعدني، أليس كذلك، هي تفهّمتْ موقفي، كانت أُمًّا دنمركيةً طيبة للغاية، تحبني كما تحب ابنها تأخذني معهما الى المطعم والسينما ومدينة الألعاب، والله كلها غالية جداً، أليس كذلك، ومع ذلك تدعوني في كل المناسبات.

عُدتُ إلى البيت، قال لي والدي:

- اليوم راح أشتري لك دراجة، فرحتُ للغاية، لا تتصور سعادتي، كدت أطير من الفرح، والله نمت أحلى ليلة في حياتي، لن أنساها إطلاقًا، وحلمتُ أني أسوقُ دراجةً جميلةً فيها سبعة "كَيرات" وحلّقت بها إلى أعالي السماء، فوق، فوق، سقطتُ ومع ذلك لم أشعر بالألم، كنت مبتهجًا فرحًا سعيدًا، أليس كذلك، بقيت منتظرًا اللحظة التي سيأخذني فيها الى محلات الدراجات، لكن لم يحصل أي شيء من هذا القبيل، فوجئتُ بأنه جاء بدراجةٍ قديمةٍ صدأةٍ، رماها في الممر قائلاً: تعال يا صبي خذها، اشتريتها لك، ستذهب بها غدًا إلى المدرسة، لم أَسُقْها طبعاً عندما اذهب للمدرسة خشية أن يراها زملائي ويسخرون مني، في حقيقة الأمر لم يكونوا كذلك لكني لم ارغب باستعمالها رغم الضغط والضرب، إي والله يضربني، لم أستخدمها، يقول لي: "لازم تروح للمدرسة بها، لماذا لا تريدها؟ تستعر منها؟ أنا لما كنت بعمرك ما كان عندي دراجة يا غبي!"

أو، مرّة أخرى، رجوتُه ان نعمل حفلة عيد ميلادي وأدعو زملائي مثل الدنمركيين، أليس كذلك، كلهم سألوني عن ذلك، أخبرته، توسلت به، بابا الله يخليك دعني أسوّي حفلة عيد ميلاد، صار عصبيا، قال: "كم مرة طلبتُ منك ألا تلح عليّ، هذا حرام"، كان فعلاً عنيفًا معي، أكلتُ ضربًا من هذا الأصلي، ثاني يوم رحت للمدرسة، سألتني المعلمه عن الكدمات الزرقاء على وجهي، كذبتُ عليها بالطبع، قلتُ لها: سقطتُ، لم تصدّق ذلك، اتصلت بالمشرفة الاجتماعية، تدخلت البلدية، أخذوني إلى مقابلات خاصة مع ناس محترفين متخصصين، كشفوا الأمر، انتزعوني جبرًا من أمي وأبي، أليس كذلك، أعطوني هدايا، اشتروا لي ملابسَ ودراجةً جديدةً، كنت أهرب وأريد العودة إلى أهلي، وأشتاق إلى أخوتي وأخواتي باستمرار ولم أشعر بالاستقرار منذ ذلك الحين.

ومنذ ذلك الحين، أنا تائه! ضائعٌ! لم أنهِ المدرسة ولم اتعلم بشكل جيد! هذه هي الحقيقة، أنت لا تعرفها وأنا أحببت إبلاغك بها حينذاك، شكرًا لك، حاولتَ دوماً مساعدتي، أنت إنسان طيب، أنا أعرف أنك تحب والدي وعائلتنا كلها، تريد لنا الخير وتعيننا، لكن الآن صعب، أنا مدمن وأرتادُ مكانًا خاصًا للعلاج، أليس كذلك، أنت تفهمني، أليس كذلك"، قالَ كلمته الأخيرة وعلامات الألم والحزن بادية في عينيه، بانت أسنانه كلّها صفراءَ بنية أثناء ابتسامته اليائسة، بدا كأنه أكبر من عمره الحقيقي بعدة أعوام.

هذا هو الذي ينغّص علينا حياتنا يا صديقي القارئ، مع الأسف لدينا ما يكفي من هذه الهموم بين غرباء البلدان الدافئة، والقصص كثيرة تدمي القلب، الجميع يردّدُ عبارةً شهيرةً "نخشى على فلذات أكبادنا". مسكين والده كان يشتغل في البناء يأتي الى البيت متعبًا، يضرب أطفالَه، أبعدت البلدية بعضهم منه، تزوج من اخرى، في النهاية تقاعد عن العمل، أراد أن يتوب وصار يدعو الناس للجامع، لكن، "بعديش؟ بعد ما وقع الفأس بالراس؟"!

الأولاد "فالتيها" في الشوارع، من المؤسف أنه لم يلتقِ بإمامٍ ذكيٍّ وخبيرٍ يعرف كيف يرشده بأن العبادات وحدها غير كافية، كان عليه أن يكون طيبًا حنونًا مع أفراد عائلته، يحرّم عليه ارتكاب الجريمة، على الأقل المفروض أن المسلم لا يقتل!

هذا الأب القاسي كان دوماً يقول إن أولاده طيبون لا يضربون أحدًا، لا يفهم أن تربيتهم ليس بالضرب، ومن أين تأتي العدوانية المترسخة في شخصياتهم، هو غير قادر على استيعاب خطأ تربيته لهم، تقليدية قديمة عفا عليها الزمن وأن طفولتهم غير طبيعية، لا يدرك أن عدوانية أطفاله نتيجة حتمية لعنف أسري مارسه لأتفه الأسباب، وانعدام الرعاية والحنان والحب بينه وأم أولاده!

أبناؤه، طيبون بالفطرة كما أحسستُ بهم، لا تتصور عزيزي القارئ كم أحبهم كلهم بلا تمييز، الإناث أفضل من الصبيان في الدراسة، يواظبن على واجباتهن البيتية، الصعوبة عند الأولاد، "بعضهم يعاني من الشعور بالنقص وضعف الشخصية ومشكلة الهوية والانتماء واحترام الذات، وهي نتيجة طبيعية لطفولة بائسة غير مستقرة ومليئة بالمطبّات"، كما يقول المحلل النفساني! مِن أين للأب أن يعرف هذه المصطلحات ويفهمها!

تصوّر أن أحد المحللين قال:

- يبدو أن هذه العدوانية او الطريقة الفظّة الخشنة في التعامل مع الآخرين صارت راسخةً في الجينات لتاريخها الطويل في الشرق، لا يمكن حلها إلا بتنويرية جديدة وفترة استقرار طويلة تنشأ فيها عدة أجيال. طبعاً انزعج منه ابنُ العائلة الأكبر، وصفه بالعنصرية:

- أستغرب منك تتكلم بهذه الطريقة، تصنّف البشر حسب انتماءاتهم العرقية،

لكن النفساني قال له بثقة العارف الحكيم:

- مرّتْ أوروبا بالوضع نفسه، لكن التنويرية والتطور غيّرا الأمور ومُنعَ ضرب الأطفال في المدارس، والمنازل، أجل لا تتصور أن أسلافنا كانوا أفضل منكم، ولا يزال حتى يومنا هذا يعاني بعضنا من نفس هذه الأمراض الاجتماعية.

انتهت قصة الصحفي!

1994الدنمرك

***  

د. زهير ياسين شليبه

 

قبل أن نبدأ ننوه بأن الكلمات المبدعة لابد وأن تكون حادة ورقيقة في نفس الوقت كشعلة النار. ومن لا يجد في قلبه تلك الموهبة عليه أن يبتعد عن الخلق ويكتفي بما هو مخلوق! ونخبركم بأننا يحق لنا الإرسال فقط، ولا نرى ما تظهر من إيميلات الأعضاء. هذه رغبتنا ومن يرغب بالكتابة لنا فعلى الخاص مع التقدير.

مدخل للضرورة الحتمية:

لو أمتزج الجهل باليقين يصبح كارثة موقوتة يمكنها الانفجار في أي لحظة كالقنبلة؛ وهذه اللحظة ولدت وكبرت وترعرت وعشعشت في الأذهان، ثم انفجرت وأنقضى الأمر! ففي السابق كنا نبعث النص للرقيب قبل النشر ليقرر براءته من إعدامه! بينما اليوم ندفع النص لأقرب الناس لنا كالزوجة مثلاً لتقرر فيما إذا كنا سنلقي حتفنا بسببه أم نعيش برهة أخرى من الزمن الذي يحتضر أصلاً! بمعنى، عشعش الرقيب في أذهاننا، وبات أقرب إلينا من الجلد للعظم! هذا يجعلنا نتوصل إلى قناعة مؤلمة مفادها، كلما أثبتنا أميتنا كلما أصبحنا في مأمن من الخطر! هذي هي سياسة اليوم التي يسحبوننا إليها!

بتنا نتسلى بالصمت لعله ينقذنا مما أصابنا من فوضى حالت بالعالم ومن حولنا، وحتى ابتساماتنا أصبحت متعبة مثل أرواحنا، ودموعنا مهدودة كأجسادنا! فلماذا لا يتركون ما للرب للرب؟ وما للحياة للحياة؟ فهل تعودنا بحكم السلطان المعروف عنه بالورع والتقوى أن نربي ونرعى الردائة أكثر مما نصلح من شأنها؟! الويل  لوطن سكنه الأشرار، يعملون كالنار، يحرقون كل من يقترب منهم.

الوطن الذي نعرفه يكون حماية من الأخطار، خيمة ظل من العواصف والرعد والأمطار، رزق وحنين، وذكرى كل السنين، لكن وطننا يختلف عن كل الأوطان، تستعصي الكلمات فيه لتخرج وتعبر عن نفسها كالفرحة المغتصبة التي لم نعد نعرفها لحزنها وسواد ثوبها!

***

من لا يعرف المبدع العالمي واسيني الأعرج عليه أن يعترف بقصوره الثقافي!

مبدع من الطراز الأول. لملم وأستحوذ على الجوائز الأدبية التي نعرفها ولا نعرفها بكل جدارة. خاض ويلات التسقيط، والتهميش حتى وصل حد النبذ! كل هذا لم يجعله يخذل، أو يستسلم، أو يستكين. بل العكس، زاده قدرة وعزيمة وثبات وجرأة قل مثيلها، بل نكاد لا نعرفها عند رفقاء مهنته الأدبية أمثال محفوظ، أو مينه، أو الحكيم، أو نعيمة، أو جبرا، أو تيمور، أو أدريس، أو منصور ولا حتى عميد الأدب العربي بذاته.. نقول ذلك ولا ننتقص منهم. لكن الحقيقة لابد من قولها كي ننصف تأريخ هذا العملاق الأدبي الذي جاء إلينا من الجزائر وهو الأستاذ الجامعي في بلاد العرب وفرنسا وعندما كان يكتب ينسى نفسه، بل لا نجده يفكر إلا بأدبه، بما سينقله للناس أجمعين مهما كانت حدته، قوته، أو تأثيره، ولم يحسب وقتها حتى ردة فعل النظام الحكومي المدني أو الديني لذلك لم يكن له صيت العربي الحائز على نوبل لما كانت لكتاباته من شرارت ولهيب قادرة على حرق التراث المغلق، أو صهر العقول المتحجرة النائمة في الماضي الذي هو سبب الكوارث الإنسانية التي نحياها ومحاولة جعل تلك العقول تستيقظ من سباتها.. كيف لا وهو القائل:

" الذين سيروا هذه البلاد كانوا صغاراً. صغاراً على الأحلام الطفولية. كانوا مهزومين ومعادين لثقافة لم يكونوا يملكونها. ملأوا أدمغتهم بطقوس الصلاة والحج، وكل أساليب النهب والسرقات. علموا أطفالنا رؤية كل ما هو رمادي وقاتم ومنعوهم من التمتع بالنور والفرح. عندما نزلوا من الجبل، نزلوا حالفين على الكنائس، والحانات، والمسارح، والأوبرات، وكل ما يجعل من المدينة مدينة. لقد خسروا موعداً استثنائياً مع مدن كانت جاهزة، لكننا فعلنا كل شيء لتدميرها وترييفها بشكل أفقدها توازنها لتتحول في النهاية إلى وحش! "..

في سياق آخر مؤلم حد الإحتضار يقول:

" أي صمت ينفع أمام القاتل؟ الأمر لم يعد شجاعة ولكنه صار قدراً. لا نملك شيئاً سوى الصراخ والكشف وركوب الرأس والموت وقوفاً. إنهم يذبحون كل شيء، الناس. الصيف. الربيع. الشتاء. الخريف. المدينة. الهواء. والنور! "..

وعندما أغتيل أعز أصدقائه كتب نواحاً جريئاً يرهب النفوس المؤمنة والحاكمة على حدٍ سواء، قال:

" كان غاوياً. الشيء الوحيد الذي لن يرفضه تهمته الجميلة التي ظل طوال حياته يدافع عنها بكل جنون. الفن جوهرة، سحر، يعني غواية، وإلا ما هو السر في انقيادنا نحو الكلمات والألوان والتشكيلات؟ الفن إذا خسر طاقته للغواية يصبح كتلة جامدة، وميته (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في في كل وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) يضحك صديقي عالياً وهو يحاول أن يسترجع الآية بكاملها: الشعراء والغاوون شيء واحد. الهيام واللافعل، يعني الانسياب والتلاشي، شيء واحد، نحن أمام مواصفات كلها نتاج هذا السحر وهذه الغواية الاستثناية. أليس هذا هو تعريف الشعرية بكل مواصفاتها النبيلة؟ "..

يا له من مبدع عظيم.. كان رغم بساطته اللغوية بحر هادىء الأمواج وفجأة ينقلب إلى صخب لا يرحم، مثل حافة المقصلة ولن تكون لديك أي قدرة على مواجهته رغم كل ما تمتلك من مقومات ثقافية كنت تتغنى بها قبل قراءتك لنصوصه السردية تلك. له روح وصفية حادة وشفافة في ذات الوقت لم نقرأ مثلها أو ما يعادلها، لا عربياً، ولا عالمياً إلا ما ندر. قابليته في الشد وصهر الحبكة في بوتقة النص رهيبة تحبس الأنفاس بين أضلعها. تجعلها لا تتحرك حتى تكمل متابعتها وبالكاد تسحب الشهيق.. ولن تجد الوقت لتزفر الزفير. هذه هو المبدع الجزائري واسيني الأعرج بأقل الكلمات.

***

قراءات في كتب ج. 1

 بقلم: هيثم نافل والي

الى صديقي العزيز يونس!

الحب هالحرفين

***

كما وعدتك، أكتبُ لك عن بعض المظاهر بصراحة محاولاً أن أمسك العصا من وسطها!

في الصباحات الباكرة الشتوية القارسة البرد ترى الشابات والشباب من طلبة الجامعات والثانويات وتلاميذ المدارس وأغلب الناس هنا يقودون درّاجاتهم متجهين صوب مؤسساتهم التعليمية وأماكن عملهم، الأمهات والآباء يضعون أطفالهم في المقاعد الخلفية، يسوقونها في ممراتها المخصصة لها بسرعة لامبالين بالسيارات طالما أنهم يلتزمون بقوانين المرور، يتوقفون عند اشتعال الضوء الأحمر رافعين أياديهم اليسرى إلى الأعلى، وينطلقون عند الأخضر، يحركون أكفّهم اليمنى إلى اليمين إذا أرادوا الاستدارة نحو هذه الوجهة وإلى اليسار إن رغبوا ذلك، لكن مع ذلك تحصل حوادث دهس الشاحنات للدرّاجين، وبالذات التلاميذ الصغار وبخاصة إذا قادوها عكس الاتجاه. ليس هناك أجمل من رؤية الأطفال الصغار يقودون دراجاتهم معتمرين خُوَذَهم على رؤوسهم، متجهين نحو مدارسهم أو أماكن اللعب والرياضة.

وأحب أن أقول لك إن للدراجات هنا سوقها الرائج، هناك العديد من محلات خاصة ببيعها وتصليحها، منها المحلي والمستورد والغالي والرخيص والمناسب والماركات الأصلية والتقليدية، والخ. "كل واحد يمد رجله على قد لحافه".

في كل مرة أرى فيها جارَتَنا العجوزة هَينه، يعني مثل اسم هناء، تقود دراجتها مرتدية ألطف الملابس، متعطرة بأعبق العطور ووجهها مطلي بدهون الزينة أو ما يسمى الميك أب أو الميكياج، أتذكّر العراقيات المسكينات يتسارعن نحو حتوفهن وهن لايزلن في مقتبل أعمارهن.

أتذكر والدتي، أصبحت تشكو من الشيخوخة قبل الخمسين. وجارتنا أم حسين، بقيت أرملة تتشح بالسواد منذ وفاة زوجها عندما كانت في منتصف الثلاثينات منشغلة بتربية أطفالها الأربعة. هنا، حتى بعض العجائز الوحدانيات يبحثن عن أزواج أو أصحاب وأصدقاء أو رفاق أو عشاق أو أحباء وخلان، سَمّهم ما شئت، هذا غير مهم بالنسبة لهنَّ هنا، المهم إنهن لا يُردن ولا يرغبن العيش لوحدهن بل الاستمتاع مع الآخر في هذه الدنيا، المهم العِشرة، وإلا فسيكفنَّ عن الوجود وينشدن الكفن والموت والخلاص من الحياة إن تحولت إلى جحيم. الناس هنا يبحثون عن الجنة في الحياة وليس الممات، ومفاهيم الشرف والأخلاق مختلفة.

لو حدثَ هذا الأمر عندنا في العُرااااق كان كلهن "راحن سبعة ماي!" غسلاً للعار!

وطبعا عندهم الغانيات و"الدونيّات" و"الموزينات" اللي فيهن العيب، يعني الدعارة، "عُذَه، عُذَه!" العياذُ بالله، أقصد بائعات الهوى! أستغفر الله، أستغفر الله، موجودة كما في كل مكان، وقد تكون رسمية، وقد يدفعن الضرائب، وهناك من يرى أنهن يؤدين وظيفة اجتماعية مهمة وضرورية ويقدمن خدمات لبعض الناس بطريقة قانونية مضمونة صحيًا! المنطق هنا يقول: "ليش لا إذا كان بعضهم يريد ذلك؟ دَعهم يقومون به قانونيًا تحت المراقبة والسيطرة، أفضل من الخفاء".

انتبه يا يونس، أنا شخصيًا لم أقل هذا، ولا علاقة لي بهذا الرأي! أرجوكم لا تقوّلوني ولا تحمّلوني مسؤوليته! وغيرمقتنع بالفكرة ابدًا!

فهل تعيش يا ترى نساؤنا، حسب قِيم الأوروبيين، في جحيم دانتي يا صديقي؟ لكن هل تتصور أن بعض هذه المظاهر مختفية عندنا؟ صدّقني، حسب ما يقال ويُشاع والله أعلم ما في الخفايا والصدور، إنها أيضًا موجودة، هناك نساء كبيرات في السن يتزوجن مع احبائهن في الخفاء وبشكل مستور وغير معلن للجميع تجنبًا لمفاهيم رقابة المجتمع. وهناك زواج الصيغة أو المتعة، صرنا نسمع عنه عندما أقمنا في الخارج، ولم يكن منتشرًا في العراق كما يُروّجُ له في بعض الأماكن، و"المستَجعَدات" المساكنات وبنات "الكاوليه" الغجريات وهناك في بعض المدن القوّادات "المعلّمات"، أم فلان وفلان، الشهيرات باستقبال الرجال في بيوتهن البغدادية، وطبعاً العُرفي والمسيار في بلدان أخرى. يَمعوّد، كلشي عندنا جوّه العباء ومدستَر، بس من نريد نحكي بالتدين والشرف ماكو أطول من لسانننا!

هذه كلها أساليب "احتيال" أو "تساهل" أمام التشدد ضمن سياسة غض النظر والتسامح، أو شىء من "المدنية" من قبل الحاكم، الدين يُسر لا عسر، ولم نسمع برجم الزانيات ولا العاشقات، اللهم إلا غسل العار.

العنف ضد النساء في الغرب له تاريخ و"فنون" قاسية لا تقل عن الشرق! إي والله "مفيش حد أحسن من حد"!

هنا، في الخارج، تُرتَكب أيضًا جرائم غسل العار بين بعض جاليات المغتربين واللاجئين، هذا هو حال الدنيا منذ الأزل. والعرب، طبعًا أكيد ليس كلهم، بل بعضهم، كان لديهم قبل الإسلام تقبّل لوجود متحررات، مسافحات ومخادنات، بل حتى بائعات هوى معروفات ممن نصبن الرايات الحُمر على خيامهن، ومنهن ظهرن إلى العلن على قارعة الطريق شبه عاريات الجيوب والأثداء، يلبسن ملابسَ أو دروعًا  وقمصانًا شفافةً، بلا أزرار، فتصور! وهل تعتقد أن هذه الظاهرة اختفت لمجرد نزول الآية الكريمة "محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان..."، طبعا لا، مثل اي مجتمع آخر، "خلّي الطبق مستور!" وأنا لا اريد أن أدسَّ أنفي في هذه الأمور! بس ... مرات يصعب السكوت.

أجل يا صديقي لم يكن المجتمع العربي قبل الإسلام شموليًا، بل متعدد الألوان والأطياف والأديان: اليهوديه والنصرانيه والصابئة والوثنيه، وكانوا قبل نزول سورة الأعراف على نبينا الأكرم يطوفون حول الكعبة عرايا، والنساء يردّدن: "اليوم يبدو بعضه أو كلّه وما بدا منه فلا أحلّه"، وهناك أنواع متعددة للنكاح،  مثل الزواج المؤقت والمقت حيث تورث الزوجة بعد موت بعلها، ونكاح البدل، أي تبادل الزوجات، ومن يقدم زوجته للضيف، ونكاح الاستبضاع، ويقال إنَّ هناك حتى الآن جماعات هنا وهناك تسمى "عَبَدة الفروج"، والعهدة على الرواة، وقد تكون مبالغات. اقرأ عنها وستجد معلوماتٍ كثيرةً عن هذه الملل والنِحَل. هذه هي اعتقاداتهم، ماذا سيفعلون لهم؟ هل يكفرونهم ويعزرونهم ويقتلونهم رغم أنهم آمنوا بالإسلام، لكنهم حافظوا على رواسب تقاليدهم القديمة.

استغربَ أحدُ المبشرين الأميركان من هذه القصص، وفوجيء عندما أخبرته أن الدول العربية يعيش فيها ناس غير مسلمين لم يتم "اجتثاثهم" منذ ظهور الإسلام، قال لي هذا الأميركي الطيب بنبرةٍ مستهجنةٍ: ألا تعتقد أنه أمر جميل أن المسلمين لم يقوموا بالتطهير العرقي والديني كما فعلنا نحن مع الهنود الحمر حيث أبدناهم و"طهرنا" أميركا منهم!

اندهش الاميركي لحسن ضيافتنا له، بدأ ينظر للإسلام بإيجابيةٍ!

قبل يومين قال لي أحد معارفي، التقيتُه صدفةً في شارع كوبنهاجن، كان عصبيًا يتحدث بصوتٍ عالٍ كعادته معاتبًا إياي كأنما أنا المسؤول عن مأساته، فتح الموضوع معي بدون إحم ولا دستور، يعني بلا مقدمات ولا مقبلات، وكان الدنمركيون الهادئون يتطلعون علينا، وهُم يمشون في نفس ممر المشاة، أعتقدُ أنهم تصورونا نتخاصم، حاولت أن أبتسم لهم قدر الإمكان عسى أن أغير انطباعهم عنّا، منشغلاً بمسح رذاذه المتطايرعلى وجهي: "يا أخي نحن أصلاً لا نتحدث بصراحة عن التابوهات، أقصد المحرمات، وهذا هو الخطأ، أصبحنا نفهم الأمور أما أسود أو أبيض، وكل شيء له علاقة بالحب ممنوع، مسموح الغناء عنه، كتابة الشعر عنه مباحة، وهل هناك أكثر شعرية ورومانسية من الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أو ألف ليلة وليلة أو نزار قباني؟

أغانينا كلها شجن، هيام، غرام، ولع، وَلَه وشغف، لكن لا علاقة حب معلنة، قبل الزواج! أو لا تجاهر بها، الحب ممنوع والعتب مرفوع!

وديع الصافي يطربنا في أغنيته: "الحب هالحرفين، مش أكثر، الله يرضى عليك يا ابني، خذ ليلى بنت ضيعتنا، ترتاح معها ولا تتعبني"!

وتابعَ يقول: أنا شخصيًا لم أرَ يومًا والدي يمسك يد أمي، فتصور! ولهذا نستغرب ونتعجب اليوم، بل نستهجن عندما نقرأ عن طقوس الاحتفالات بالأعضاء التناسلية مثلاً في الدول المتحررة مثل أوروبا واليابان، حتى في الحضارات الفرعونية والسومرية لا نأتي على ذكرها!".

حاولتُ أن أبدي رأيًا موضوعيًا لأهدّأ من روعه وابدّد أحزانَه، العمر قصير، ويمكن أن يُصاب المرءُ بجلطة أو ذبحة أو سكتة دماغية لا سَمح الله، لكن هيهات، منعني ماسكًا يدي قائلاً: "أرجوك لا تقاطعني، خلّني أكمل فكرتي، والله العظيم أنا اتذكر أن أحد زملائي عندما كنا في الثانية عشرة من عمرنا لم يستوعب العلاقة الجنسية بين والديه قائلاً: "مستحيل، هذا حرام، اشدَتحكون؟ سرسريّه!" وصرنا نضحك عليه بينما توردت وجنتاه كأنه فتاة عذراء تأتيها الدورة الشهرية لأول مرة في حياتها! سبحان الله!".

أردتُ التعليقَ على فورته، لم يسمح لي، ودّعني مستعجلاً كعادته، قال ضاحكًا: "المهم أفرغتُ ما في جعبتي! فوّخت قلبي! فشّيت خلقي! مثل ما يقول الشوام". إلى اللقاء يا صديقي.

تركني راكضًا نحو الحافلة! ابتسمتُ وضحكتُ متمتمًا بين نفسي: مجنون!

مخبّل أو مسودَن! كويلات! كما يقول العراقيون! هذا هو حال الدنيا!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

في مستهل دراستنا للاقتصاد كطلبه تعلمنا أن الغرض من الإنتاج هو سد الحاجة، وان وظيفة الانتاج هي الحصول على منتج يرضي المستهلك في الوقت المحدد وبأقل كلفه، ولو اسقطنا هذا المفهوم على قضية الأدب والفن عموماً لتراجعت دقة مفهوم "الفن للفن" و "الأدب للأدب" وبانت ركاكتها وصار جلياً إن القاعدة في الفن والأدب انما هو نشاط انساني هادف لا يقل شأناً عن الانتاج السلعي، وإن مفهوم "الفن للفن" و"الأدب للأدب" موجود لكنه يشكل استثناء وليس القاعدة، أما عن المستهلكين فهم على نوعين:

1. العامه: وهم الكثرة الغالبة، ومنهم الحفاظ وهم وفقاً لقاموس ابن أختي سجاد "الدرّاخه"  وهؤلاء قله باعتبار أن القدرة على الحفظ "الدرّخ" ملَكّه والملَّكة لا تتوافر لدى الجميع، ومنهم  متذوقو الشعر وهؤلاء يتذوقونه ويفهمونه ولكن لا يجيدون نظمه أو حفظه، وهؤلاء العامة بشقيهم الدرّاخة والمتذوقة يشكلون سوق الشعر الرئيسي بمعنى جمهور الشعر والشعراء وهم لهم مفهومهم عن الشعر واشتراطاتهم المحددة فهم يريدونه هادفاً بمعنى منتج ويشبع حاجة لديهم وليس كما ينظر له زملاءهم من أصحاب مفهوم "الفن للفن" و"الأدب للأدب"، وقدرة الشعر على اشباع الحاجة عندهم هو مدى قدرته في التأثير بتهذيب السلوك والارتقاء بالوعي والمضي به قدماً ليكون الأنسان نافع وفعال لنفسه وفي محيطه، ويشترطون فيه كما في بقية صنوف الأدب والفن أن يكون  من نوع السهل الممتنع بمعنى انه ليس عصياً على الفهم فيحتاج مختصاً ليشرح مغازيه، وفي نفس الوقت أن يصاغ بطريقة شعرية تنطوي على الأوزان والصورة معاً ويتصف بالإبهار، وعندهم ان الشاعر هو الذي يفجر فيهم مشاعر الانحياز للحق والجمال والنبل والثورة ومناهضة القبح والظلم والسوء والاستكانة، وعندهم إن الشاعر هو ذاك الذي يقترن بما يمكن أن يسمى بـ "الجدحه" أو البصمه بمفهومنا الراهن بمعنى أن الشاعر هو الذي تقترن به وليس بغيره قصيدة أو قصائد تعرف به ويعرف بها وقد تكون البصمة واحدة فقط وقد تكون بصمات فمثلاً: على امتداد العالم العربي ما ان تقول: "اذا الشعب يوماً أراد الحياة" حتى تجدهم يقولون: ابو القاسم الشابي والعكس صحيح فما أن يذكر ابو القاسم الشابي إلا وكانت "اذا الشعب يوماً أراد الحياة..." حاضرة وهذا لا يعني أن الشابي أشعر الجميع ولكن هذا أمر آخر، ونفس الحال ينطبق على السياب وجدحته "مطر..مطر"، والفيتوري وجدحته "سقف بيتي حديد، ركن بيتي حجر"، ومحمود درويش وجدحاته "سجل أنا عربي"، و"وطني ليس حقيبه وأنا لست المسافر"، وسميح القاسم وجدحته "دمي على كفي"، وهكذا...وللفحول منهم جدحات وليس مجرد جدحه كالجواهري مثلاً عدا عن الأفحل منهم جميعاً المتنبي الذي لو دخلت الى فنائه فكأنما تدخل ميدان للألعاب النارية في ليلة عيد الميلاد منين ما تلتفت مفرقعات...

أما قبل ذلك فيحترمك العامة أيها الشاعر ويجلّوك ولكن أن تستفحل براسهم... وتقول: أنا أشعر من فلان، أو متنبي عصري...؟ فسيقولون لك: أجدح  جدحتك وتعال...

2. الخاصة أو النخبة: وهؤلاء هم الشعراء والنقاد والمشتغلون بالأدب وبعض هؤلاء ينظر للأدب والفن من منطلق "الفن للفن" و"الأدب للأدب" لكنهم يشكلون الأقلية من جمهور الشعر، وهؤلاء عندهم الشعر: "جزالة اللفظ والصور الشعرية التي ينتجها وأعذب الشعر اكذبه..." كما يقولون، وأنا لا أنكر هذا لكني أسميه الاستثناء، ولا ابخسه حقه فهم مصممو مكائن إنتاج الشعر ورواد صناعته لكننا معشر العامة لا نهتم بهؤلاء بقدر ما نهتم بالذين يقدمون لنا أرغفة أو أطباق الشعر، وهنا يبرز الشاعر والفنان فالذي يستحق من العامة أن يشدوا اليه الرحال هو ذلك القادر على دمج الاستثناء بالقاعدة فيكتب للعامة وكأنه يستهدفهم وفي نفس الوقت للنخبة وكأنه متوجه إليهم وهو ما يوصف بالسهل الممتنع... و بوصفي من العامة لم ينل اعجابي شخصياً مثل عنتره في هذا الميدان ...فأشعاره في لفظها مفهومة من قبل العامة من جمهور الشعر والى يومنا رغم أنه ينتمي لفترة ما قبل الإسلام ومعلقته إحدى المعلقات المشهورة، لأنه جاء من بين العامة وربما أن الذي فجر شاعريته هو رفضه من قبل شريحة تراه أدنى في حين أنه يرى أن له ما لهم وعليه ما عليهم وكل ما في الأمر أنه يرفض اسلوب تعامل محيطه معه ويسعى لأن يحقق لنفسه القبول بينهم ومن ثم يبزهم ويتقدمهم بما ينجزه بقدراته الذاتية ليس أكثر وفي نفس الوقت يضرب بنفسه مثلاً ليحقق الارتقاء بفهم حاضنته من العامة ويأخذ بسلوكهم من الضعة والخور والدناءة الى مكارم الأخلاق:

فها هو يصف نفسه بقوله:

أَنا العَبدُ الَّذي خُبِّرتَ عَنهُ-وَقَد عايَنتَني فَدَعِ السَماعا.

وَسَيفي كانَ في الهَيجا طَبيباً -يُداوي رَأسَ مَن يَشكو الصُداعا.

ولم يقل: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا- متى أضع العمامة تعرفوني.

وهو البيت الذي سرقه الحجاج من مطلع قصيدة الشاعر سحيم بن وثيل الرياحي لينفثه سماً زعافاً في وجوه العراقيين يوم ولي عليهم.

وها هو يعلن عن موقفه من مكارم الأخلاق كإنسان طبيعي سوي ويريد من الاخرين الاقتداء به فيقول:

أَثْنِـي عَلَيَّ بِمَا عَلِمْتِ فإِنَّنِـي- سَمْـحٌ مُخالطتي إِذَا لم أُظْلَـمِ

وإِذَا ظُلِمْتُ فإِنَّ ظُلْمِي بَاسِـلٌ-مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ كَطَعمِ العَلْقَـمِ

وَإِذا بُليتَ بِظالِمٍ كُن ظالِماً -وَإِذا لَقيتَ ذَوي الجَهالَةِ فَاِجهَلِ

فالرجل سمحاً وليس متجبراً ويريد التعامل معه بالمثل وهذا أبسط حقوقه لكنه يحذر من موقع الاقتدار من يحاول بخسه حقه أو ظلمه بأنه سيذيقه العلقم وهو قادر على ذلك ...

ولا ينكر واقعه الذي وضعه فيه قومه دون استحقاقه ويسعى للارتقاء بممكناته الشخصية فيقول:

إِن كُنتَ في عَدَدِ العَبيدِ فَهِمَّتي - فَوقَ الثُرَيّا وَالسِماكِ الأَعزَلِ

أَو أَنكَرَت فُرسانُ عَبسٍ نِسبَتي - فَسِنانُ رُمحي وَالحُسامُ يُقِرُّ لي

وَبِذابِلي وَمُهَنَّدي نِلتُ العُلا - لا بِالقَرابَةِ وَالعَديدِ الأَجزَلِ

في حين أن عمرو بن كلثوم عندما قال:

مَـلأْنَا البَـرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّـا- وَظَهرَ البَحْـرِ نَمْلَـؤُهُ سَفِيْنَـا

إِذَا بَلَـغَ الفِطَـامَ لَنَا صَبِـيٌّ-تَخِـرُّ لَهُ الجَبَـابِرُ سَاجِديْنَـا

بالغ كثيراً وقال ما لم يقله حتى كيم جونغ أون زعيم كوريا الشمالية في عصرنا الراهن...!

وعنتره عندما ناجى حبيبته عبله لم يكن متبجحاً صفيقاً فيقول: سأضرب الثريا بزحل كما يقول المتبجحون عندنا اليوم وهم لا يصلحون حتى شيالي عليقة شعير حصان عنتره، بل قال قوله بوصفه شاب يرعى أغنامه أو أبله لكنه أبي وشجاع ليس أكثر فقال:

أُحِبُّكِ يا ظَلومُ فَأَنتِ عِندي-مَكانَ الروحِ مِن جَسَدِ الجَبانِ

 وَلَو  أَنّي أَقولُ مَكانَ روحي-خَشيتُ عَلَيكِ بادِرَةَ الطِعانِ

وأيضاً لم يكن بكاءً مولول مثل قيس فيقول:

أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها- بِوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا

لَعَمري لَقَد أَبكَيتِني يا حَمامَةَ الـ - عَقيقِ وَأَبكَيتِ العُيونَ البَواكِيا

خَليلَيَّ إِن لا تَبكِيانِيَ أَلتَمِس-خَليلاً إِذا أَنزَفتُ دَمعي بَكى لِيا

 الأمر الذي دفع أبو نواس أن يسخر منه ومن أشباهه بقوله:

قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس- واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس

اِترُكِ الرَبعَ وَسَلمى جانِباً- وَاِصطَبِح كَرخِيَّةً مِثلَ القَبَس

لكن عنترة شأن آخر...فهاك ما يقول:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل - منّي وبيض الهند تقطر من دمي

 فودت تقبيل السيوف لأنها - لمعت كبارق ثغرك المتبسم

حياك أبو سمره...

وعنترة يعلم أقرانه مكارم الأخلاق فيقول:

وأغضّ طرفي ما بدتْ لي جارتي… حتى يواري جارتي مأواها

إنّي امرؤ سمح الخلائق ماجد… لا أتبع النفس اللجوج هواها

 وحتى في تعامله مع الخمرة يرفض أن يقول سكرت ولا يفقد توازنه واعتباره إنما مجرد انفاق المال:

فَإِذا شَرِبتُ فَإِنَّني مُستَهلِكٌ- مالي وَعِرضي وافِرٌ لَم يُكلَمِ

في حين أن غيره هذا حاله:

وإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير-  وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير...!

وعنتره حتى في تشببه بعبلة رائع فهو يتشبب بما يظهر له جليا دون يختلس النظر من خلف الجلابيب:

تُرِيكَ إذا ولّتْ سَنامًا وكاهِلًا- وإن أقبلتْ صدرًا لها يَترجرجُ

يا سلام... " وإن أقبلتْ صدرًا لها يَترجرجُ "،هذا كل ما في الأمر لم يتخطى الحدود فيقول:

ولاعَبتُها الشِّطرَنج خَيلى تَرَادَفَت- ورُخّى عَليها دارَ بِالشاهِ بالعَجَل

فَقَبَّلتُهَا تِسعاً وتِسعِينَ قُبلَةً- ووَاحِدَةً أَيضاً وكُنتُ عَلَى عَجَل

وعَانَقتُهَا حَتَّى تَقَطَّعَ عِقدُهَ - وحَتَّى فَصُوصُ الطَّوقِ مِن جِيدِهَا انفَصَل

هذا بالضبط ما اسميه الشعر المنتج أما عن شعر النخبة فتفضل:

غمُوضٌ عَضُوضُ الحِجلِ لَو أَنهَا مَشَت - بِهِ عِندَ بابَ السَّبسَبِيِّينَ لا نفَصَل

فَهِي هِي وهِي ثمَّ هِي هِي وهي وَهِي - مُنىً لِي مِنَ الدُّنيا مِنَ النَّاسِ بالجُمَل

أَلا لا أَلَا إِلَّا لآلاءِ لابِثٍ - ولا لَا أَلَا إِلا لِآلاءِ مَن رَحَل

فكَم كَم وكَم كَم ثمَّ كَم كَم وكَم وَكَم - قَطَعتُ الفَيافِي والمَهَامِهَ لَم أَمَل

وكافٌ وكَفكافٌ وكَفِّي بِكَفِّهَ - وكافٌ كَفُوفُ الوَدقِ مِن كَفِّها انهَمل

فَلَو لَو ولَو لَو ثمَّ لَو لَو ولَو ولَو - دَنَا دارُ سَلمى كُنتُ أَوَّلَ مَن وَصَل

وعَن عَن وعَن عَن ثمَّ عَن عَن وعَن وَعَن - أُسَائِلُ عَنها كلَّ مَن سَارَ وارتَحَل

وفِي وفِي فِي ثمَّ فِي فِي وفِي وفِي - وفِي وجنَتَي سَلمَى أُقَبِّلُ لَم أَمَل

وسَل سَل وسَل سَل ثمَّ سَل سَل وسَل وسَل- وسَل دَارَ سَلمى والرَّبُوعَ فكَم أَسَل

وشَنصِل وشَنصِل ثمَّ شَنصِل عَشَنصَلٍ- عَلى حاجِبي سَلمى يَزِينُ مَعَ المُقَل

حِجَازيَّة العَينَين مَكيَّةُ الحَشَ- عِرَاقِيَّةُ الأَطرَافِ رُومِيَّةُ الكَفَل

هذا الشعر ...بوصفي من العامه:

- هل استطيع فهمه ...؟ لا ...فهو مجرد هيهيه ولألأه وكمكمه وكفكفه وعنعنه وسلسله وشنصله...يجيك واحد من الخاصه يقول لك: ما أدراك أنت بأسرار الشعر...؟ أصلاً كل واحدة من هذه العنعنات والفيفيات والسلسلات واللولوات والكفكفات والكمكمات واللألأات، والهيهيات والشنصلات لها معنى مختلف عن الآخر بقلب الشاعر والمختصين...أقول له: أنا الأكثرية من المستهلكين وأنا الذي أحدد قبول السلعة أو بوارها.

- ولكن في نفس الوقت هل أستطيع ان أنفي كونه شعراً...؟ لا طبعاً...فهو عندما يلقى قربك بتمكن، وتغمض عينيك تعيش أجواء موزارت وبتهوفن...

- وهل أستطيع حفظه...؟ من سابع المستحيلات ...

- وهل يضيف الى مكارم الأخلاق...؟ يمعود هذا لو يقروه بملهى مطفأة الأنوار إلا من انارة خافته حمراء لسمعت شبق القوم وانت بالشارع.

- طيب...بوصفي من العامه وهم الأغلبية هل أنا معني بهذا الشعر ...؟ طبعاً لا...

فلا تقل لي: "المهم بالشعر جزالة اللفظ والصور الشعرية التي ينتجها فأعذب الشعر اكذبه"... فأنا من العامة وهم جل المستهلكين لبضاعة الشعر وستبور بضاعتكم إلا من كم علاكَه يقتنيها الخاصه....

فيا ايها الشعراء ...قبل أن يتفوه أحد منكم ويقول أنا أشعر من فلان وأنا متنبي العصر سيقال لك أرنا جدحتك أولاً...وخاطب العامة ثانياً فهم جل رواد سوق الشعر...وليكن شعرك هادفاً ومنتجاً وليس مجرد تمتمه أو دردمه...ولتكن مفهوما وليس مثل أغنية الشاب خالد الجزائري الذي بات اليوم عجوزاً وما زال يعتاش على وارد أغنيته الشهيره: دي دي دي واه دديدي واه ...

نأتي الى ظاهرة التسقيط التي انتشرت في الوطن العربي في السنوات الأخيرة وفي العراق مؤخراً:

عنتره الذي يقول عن عبلة:

أُحِبُّكِ يا ظَلومُ فَأَنتِ عِندي-مَكانَ الروحِ مِن جَسَدِ الجَبانِ

 وَلَو  أَنّي أَقولُ مَكانَ روحي-خَشيتُ عَلَيكِ بادِرَةَ الطِعانِ

 ويثني قائلاً:

 ولقد ذكرتك والرماح نواهل - منّي وبيض الهند تقطر من دمي

 فودت تقبيل السيوف لأنها - لمعت كبارق ثغرك المتبسم

ويتغنى بصدر عبلة الرجراج وكهلها قائلا:

تُرِيكَ إذا ولّتْ سَنامًا وكاهِلًا- وإن أقبلتْ صدرًا لها يَترجرجُ

 يقولون عنه: بعد 6 أشهر من زواجه من عبلة لم تظهر عليها أعراض الحمل، فبدأ القلق يدب في قلبه فتزوج عليها ضره فانفتحت قريحته ليجعل منهن ثمان ...

وللمتصيدين بالماء العكر أقول: من نافلة القول أن عنترة  يسلك هذا المنحى ...فمن قال لكم أنه روميو مثلاً فيفرغ قنينة السم في معدته وهو ابن الصحراء الأشم ...؟ ثم هل تريدون منه أن يقال عقيم أو عنين مثلاً وهو عنتره سيد الفوارس والذي خلط الحابل بالنابل ليتخلص من سبة لونه، أنوب يعيرونه بالعنه...؟! طبعاً يتزوج ويخلف ولسان حاله يقول: لو تزوجت منكم رجالاً لخلفت وليس فقط نساء...

أما عن عبله فقد دفعها الإصرار بالتمسك بفتاها عنتره  لأن تبحث عن يمين غليظة تقسم به لأن اسم الله لم يكن معروفاً في تلك الأصقاع  فاختارت ذمة العرب وقالت: " لو ملك عنتر مائه امرأة ما يريد سواي، ولو شئت رددته إلى رعى الجمال وحق ذمة العرب أنه يبقى لشهر والشهرين لم أخليه يدنو منى حتى يقبل يدى ورجلي، وإني معه هذا الزمان ما رزقت منه بولد"...!

***

د. موسى فرج

 

عندما تتفتح الأبواب المغلقة على الحبّ والأمل.

لقد سحرتني رواية "فرصة ثانية" للأديبة صباح بشير منذ اللّحظة الأولى، غاصت في أعماق روحي، تاركةً أثرًا لا يُمحى، وكقارئ عاديّ، لمستني كلماتها بعمق، ونقلتني إلى عالمٍ ساحرٍ من المشاعر الإنسانيّة والتّجارب الحياتيّة.

إنها تحفة أدبيّة تستحق القراءة والتأمّل، عنوانها البسيط يحمل في طيّاته دعوة مغرية للغوص في أعماقها، وقد فعلتُ ذلك بشغف لا يوصف.

أسلوب الكاتبة الأنيق، المنساب كالنهر، والمطرّز بالكلمات البرّاقة، جعلني أشعر وكأنّني أتنقّل بين حدائق غنّاء، تفوح منها عطور المشاعر الإنسانيّة والحبّ النقيّ.

لم أستطع أن أترك الرّواية من يدي حتّى أنهيتها في نفس اليوم، وكأنّني في سباق مع الزّمن لأكتشف أسرار شخصياتها.

لقد برعت الكاتبة في نسج شخصيّات مركّبة، نابضة بالحياة، تنتمي إلى عالمنا الواقعيّ بكل تعقيداته. مصطفى، هدى، عبدالله، لبنى، إبراهيم، ونهاية، كلّ منهم يحمل قصّة فريدة، تتشابك مع قصص الآخرين؛ لتشّكل لوحة إنسانيّة غنيّة بالدروس والعبر.

الرواية، في جوهرها، هي رسالة مفعمة بالأمل، تعلّمنا أنّ العلاقات الاجتماعيّة، مهما بدت معقّدة، تحمل في طيّاتها حلولًا بسيطة، وأنّ الحبّ هو المفتاح السحريّ، الذي يفتح الأبواب المغلقة ويمنحنا فرصة ثانية.

أتمنى للأديبة صباح بشير المزيد من التألّق والإبداع، وأن تواصل إثراء عالمنا الأدبيّ برواياتها وأعمالها الأدبيّة.

***

د. يوسف عراقي

 

الى صديقي يونس!

باص "الأمانة" الأحمر، "أبو طابقين"!

اليوم كنت في البريد. أرسلتُ لكم طردًا، وزنه عشرون كيلو "فقط لا غير"! انشاء الله يصلكم سالمًا غانمًا منعمًا بدون أي غارة. وأنا في الحقيقة ممتن لموظفي البريد العراقي، يوصلون كل شيء مضمونًا ويسلمونه كاملاً، كما أخبرتموني. هذه فعلاً خصلة لا نجدها إلا عند أغنياء النفس الميسوبوتاميين الأصيلين الغيارى.

أنا حقاً فخور بسعاة بريد العراق، يجوبون الشوارع بدراجاتهم ليسلّموا الأماناتِ إلى أهلها، أعتقد أن هؤلاء بقايا الرافيدينيين النشامى.

بالمناسبة انا وأصدقائي دائما نتذكر هذه المؤسسة بإيجابية، كانت تقدم خدماتٍ بريديةً ممتازةً، حدّثني هنا أحد موظفيها القدامى بفخر واعتزاز عن نظامها وأسلوب عملها، أتذكر رسائلي وطرودي البريدية، كنت أبعثها لكم ايام الدراسة من خارج العراق، كانت تصلكم كاملةً.

أما أمانة مصلحة نقل الركاب فحدّثْ ولا حرج، آه كم أشتاق إلى باص الأمانة الأحمر، بالذات "أبو طابقين"، تميزت بها بغداد في الشرق الأوسط. مؤسسة مدنية عريقة ساهمت في تطوير العراقيين وحققت مبدأ "المدينةُ تُطوّرُ الإنسانَ"، شبكة خطوط ومواصلات لم أجدها في البلدان العربية الأخرى. علامة بارزة في تطور العراق المدني وظفت آلاف العمال والمستخدمين من كل أنحاء بلاد الرافدين.

أرفق لكم مع هذه الرسالة قائمة بمحتويات الطرد، سيصلكم قريبًا، وهي على العموم ملابس و"فيتناميات" عفوًا أقصد فيتامينات وأدوية والخ من "تفاتيش" القلوب كما كانت جدتك تقول. إنسانةٌ رائعةٌ!

هل تتذكّر كيف كانت جدتك تسمي اليمن؟ "أمن"، عندما سافر أحد جيراننا إلى اليمن للعمل كمدرس، كانت تقول: "راح للأمن"، ونحن نلاشيها ونضحك! وبالمناسبة كانت هي ايضًا سعيدةً بمزاحنا معها، أليس كذلك؟ أجمل شيء أتذكره عنها أني سألتها في إحدى المرات:

- بيبي اشلون كنتم انت وجدّو الله يرحمه؟ كنتم مثل الشباب بالأفلام؟ يعني هَمْ ...؟

ردّت على الفور تلوك بالكلمات:

- أسكت لَك، عيب!

ثم أردفت مبتسمةً:

- ليش احنه وَحّد؟ كلّه شيل وبطح على السطح! وغرقت في ضحكتها، بس مو مثل الأفلام يقعدون من الصبح ...بلا ما يفرّشون أسنانَهم!

واطلقت العنان لضحكاتها وصدرها يخرخش، عقبت متنهدةً ماطّةً شفتيها السمراوين:

- ربي ضحكة خير، راحت الأيام الحلوه، سودَه عليَّ، راح عند ربه!

لم نكن نتحدث عن مثل هذه المحرّمات إلا مع العجائز وبالصدف، شويه، شويه، مثل ناقوط الحِب! هل تتذكر كيف كنا نتحيّن الفرص ونتلقّفها؟ أنت كنت تجلب سيجاير اللف لهن، وانا كنت متخصصًا بالبسويكت! كلها "رشوات" لسماع قصصهن ومغامراتهن عن الحُب بالأقساط، بينما هنا كل شيء مسموح به، طبعًا هناك حدود أيضا.

الصيف هنا جميل كما أسلفتُ، بالذات عطلة نهاية "الإزبووع" مثلما يقول المصريون أو الويك إند، ترى الناس هنا يقودون دراجاتِهم شبابًا وشيبًا، نساءً ورجالاً مرتدين أزيائهم الجميلة: النساء يلبسن السراويل، و"الجِماشه" أو الفيزون الملتصقة بالجسد المثير، تبرز مفاتنه، والتنانير القصيرة، ألوان زاهية كالأحمر والأبيض والأرجواني، مسكينه المرأة العراقية، سواد بسواد، باستثناء الجامعات، كانت أفضل مكان لعرض الأزياء في السبعينات! لكن محافظ بغداد آنئذ وشرطة الآداب كانوا لهن بالمرصاد، حتى الشباب الخنافس لم يسلموا منهم!

ماعدا ذلك فالدنيا عندنا كلها سوداء، ومع ذلك أتذكر أن سائقي سيارات بغداد كانوا يلصقون على مركباتهم قطعًا صغيرةً مكتوب عليها "الله جميل يحب الجمال"و "القلب يعشق كلَّ جميل" والخ.

لكن، انتبه، "مو كل أصابعك سوه"! المسيحيون المورمونيون وشهود يهوه الأصوليون هنا يختلفون قليلاً عن الناس العاديين، إنهم يؤمنون بالحشمة، يلتزمون بالتقاليد الدينية، لكنهم أقليّه. وهل هناك أجمل من العباءة العراقية السوداء؟ السواد يسبي العباد! إنها حقًّا جميلة، لكنها تحتاج لبعض "التنقيحات"! أنا أحب العباءة، تراث جميل بس عايزها شويه رتوش، خلّيني ساكت أحسن! وأتذكر أغنية "يا أم العبايه لِبسي عباتك!".

إذا تطلعتَ إلى وجوه الدنمركيين هنا يوم الجمعة ستشعر بها فَرِحَةً مستعدة لعطلة نهاية الأسبوع، يسرعون إلى منازلهم مشيًا وبدَرّاجاتهم، وسياراتهم مشغولين بحياتهم اليومية السلمية السليمة، إلا أن بعض العاطلين بمن فيهم بعض اللاجئين أو الأجانب القادمين الجدد إلى هذه البلاد من "البلدان الدافئة" أو "البلدان غير الغربية" لا يشعرون بهذه العطلة ولا يفهمونها، إذا لا يذهبون الى العمل ولا الدراسة في الأيام العادية.

هؤلاء الغرباء الجدد، ليس كلهم طبعًا، ممن لم يحصلوا على عمل في بداية حياتهم هنا، قد يشعرون إن أزعَجَ الأيام بالنسبة لهم هو "الويك إند"، أطفالُهم يبقون في شققهم الصغيرة المخصصة لعائلات عدد أفرادها لا يتعدّى الأربعة، تصور كيف سيكون الوضع إذا كانوا عشرة أنفار!

لكن هناك قسمًا آخرَ منهم مشغول طيلة أيام الأسبوع في العمل ليلاً نهارًا! وأجانب آخرون لا يختلف وضعهم عن اهل البلد، يعني كل واحد وظروفه! أرجوك لا تفهمني غلط! أنا لا احب التعميم، تعرفني جيدًا، ولا التعتيم، أُعطي كلَّ ذي حق حقه، أحاول ولا أدعي الكمال! لستُ "رب الكمان"! كما كان والدك يردّد!

هنا، في الدنمرك، أحيانًا ترى العائلة كلها خارجةً في نزهة: الأم والأب والأطفال أو الجدة والجد في الغابات والشوارع النظيفة، يقودون دراجاتهم مبتسمين رافعين رؤوسهم يحيّون الآخرين: هاي! هاي!

شعب الهاي، بالذات عندما تشرق الشمس، فخورون ببلادهم وطبيعتهم وإنجازاتهم وديمقراطيتهم وأسلوب حياتهم، صارَ كما يبدو لي أشبه بالدين، يحبون التظاهر بطقوسه مثل الحديث عن الجو والضرائب وإشعال الشموع وترتيب المناديل الورقية الزاهية وكؤوس الماء والبيرة والنبيذ الأحمر والحب في المساءات الهادئة.

قد يأتي شخص آخر، ويفسر هذا الأمر بطريقة سلبية كأن يقول عنهم إنهم أنانيون مشغولون بحياتهم اليوميه وغرائزهم ورغباتهم ودنياهم، وقد يزيد إنسان آخر فيقول لك: "مصيرهم الجحيم لأنهم ملحدون وكفار"، وهذا هو أخطر ما يمكن حصوله بين الشباب الأجانب، تكفير الآخرين ونبذ الحياة الاجتماعية مع اهل البلد الأصليين! قسم من هؤلاء الشباب الغرباء بمثابة قنبلة موقوته يحتار السياسيون والمتخصصون اليائسون بكيفية دمجهم في المجتمع ودرء خطرهم عليه. الله يستر من القنابل الموقوتة!

أما اللاجؤون الجدد فأغلبهم، أو قسم منهم، أعذرني لا أعرف كم هي نسبتهم، خاصة في بداية حياتهم هنا، لا يختلطون كثيرًا مع أهل البلد المنظمين المقولبين، المبرمجين، "الباردين"، البيتوتيين، وتصوراتهم عنهم غير دقيقة وغير أصليه، وإن سألتَ بعضَهم عنهم، أقصد عن المواطنين الأصليين، يجيبك: "شمعة وكأس نبيذ وحبيبة!".

هكذا يختصر بعضُهم انطباعاتِه عن أهل البلد. كل شخص يرى الأمور من زاويته!

صحيح، إن العتمة والشمعة جزء من ثقافة الإسكندنافيين، ويجيدون هذا الاسترخاء بهذه الطريقة، لكن ليس قبل أن يهدّهم التعب وينجزوا كلَّ أعمالهم. الدَنمَركيون عمومًا مشغولون بحياتهم اليومية، واوقاتهم مليئة بالمواعيد كل حسب ظروفه، وبالذات مَن لديهم أطفال. وبمرور الزمن يصبح اللاجؤون الموظفون والحرفيون منهم، مثل سكان البلد الأصليين بل أكثر، مشغولين غير مكترثين بالعلاقات الاجتماعية الواسعة. هؤلاء يصبح وقتهم من ذهب والحمد لله يعملون ليلاً نهارًا.

العمل هنا أهم شيء! من لا يعمل لا يأكل! هذا شعار الاشتراكية، و هناك أناس لا يعملون، ومع ذلك يأكلون من الإعانات، لكنهم لا يحسُّون بطعمه كما يقولون أحيانا!.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

 

في رحاب الفنّ والإبداع، يشرق نجم الفنّان الفلسطينيّ جمال بدوان، ليروي للعالم حكاية شعب يتحدّى النسيان.

بريشته تتهادى الألوان والخطوط على اللّوحات الخالدة، تلك التّي تجسّد معاناة شعبنا وآماله، وتتردّد فيها أصداء القضيّة.

تتجلّى قصّة الفنّان جمال بدوان، ابن قرية عزون في قلقيليّة، الّذي حمل على كاهله أوجاع اللّجوء والتّشرّد منذ نعومة أظفاره، وفي الثّانية عشر من عمره، خطّت أنامله أولى لوحاته على قماش خيمته المتواضعة في قلب المخيم.

لم يمضِ عامان حتّى تحوّلت كلّ أقمشة الخيام في المخيّم إلى لوحات فنّيّة نابضة بالحياة، تجسّد معاناة اللاجئين وتطلّعاتهم، وفي إحدى زياراتها الدّورية للمخيم، أُعجبت لجنة من هيئة الأمم المتّحدة بما رأت، فقرّرت تكريم الفتى الموهوب، ومنحه أوّل علبة ألوان، لتفتح أمامه آفاقا جديدة في عالم الفنّ.

منذ ذلك الحين، انطلق بدوان في رحلة إبداعيّة متواصلة، يمزج فيها الألوان المائيّة والزيتيّة؛ ليصنع لوحات تحاكي الواقع وتلامس الرّوح.

في السّابعة عشر من عمره، غادر الأردن إلى بلغاريا ليكمل دراسته الجامعيّة، ثمّ انتقل إلى أمريكا لمتابعة دراسة اللّقب الثّاني، ومنها إلى روسيا حيث نال درجة الدّكتوراه في الفنون الجميلة، واليوم، يعمل د. بدوان محاضرا في قسم الفنون بالجامعة، يشارك طلّابه شغفه بالفنّ، ويغرس فيهم قيم الجمال والإبداع.

لم يكتفِ الفنّان جمال بدوان بالعمل الأكاديميّ، بل انطلق يحمل رسالته الفنّيّة إلى العالم، عارضا لوحاته في أروقة معارض أوروبا وأمريكا.

تجاوزت معارضه الفرديّة الخمسة والسّتين معرضا، موزّعة على ثلاث وثلاثين دولة، ناهيك عن مشاركاته العديدة في معارض جماعيّة حول العالم.

كانت لوحاته بمثابة مرآة تعكس آمال شعبه، وتراثه، وهويّته، لتخاطب الضّمير الإنسانيّ بلغة الفنّ الخالدة، وقد أثمرت رحلته الإبداعيّة عن جوائز عديدة من مختلف الدّول الأوروبيّة، وَتُوِّجت بتكريم ملكيّ من ملكة هولندا وملك المغرب. كما حاز على لقب "فنّان دوليّ" من الأكاديميّة العالمية للفنّون، وهو الفنّان العربيّ الوحيد الّذي نال هذا الشّرف.

اختير مرّتين لعضويّة لجنة التّحكيم الدّوليّة لاختيار أفضل فنّان للعام على مستوى العالم، ومنحته دولة فلسطين لقب "سفير الفنّ الفلسطينيّ" بمرسوم رئاسيّ، تقديرا لإسهاماته الفنّيّة.

على أرض الوطن، أقام ثلاثة معارض؛ ليشارك أبناء شعبه ثمرة جهده وإبداعه، وليؤكّد أنّ الفنّ رسالة سامية، تتخطّى الحدود وتجمع القلوب على الخير والجمال والمحبّة.

كما تخطّت لوحات بدوان حدود المعارض لتزيّن أغلفة المجلّات، وأبرز الكتب والدّواوين الشعريّة والرّوايات، كرواية "رحلة إلى ذات امرأة" و"فرصة ثانية" للكاتبة صباح بشير، ومجموعة من الأعمال للكاتبة رُلا غانم، وللكاتبة نوال حلاوة، والكاتبة سارة الشمّاس، الأديب جميل السّلحوت، الكاتبة نجوى أبو الهيجا، د. محمود صبري عودة، والكاتب محمد العرّوقي وغيرهم الكثير من الأدباء العرب والأجانب، وفي بادرة تشجيعيّة، أعلن عن استعداده لتقديم لوحاته كأغلفة مجانيّة لكتب المبدعين الفلسطينيين.

كما تقوم العديد من المتاحف والمعارض والمؤسّسات الثقّافيّة في أوروبا بعرض لوحاته، وفي عام 2011م، سطّر بدوان اسمه في موسوعة الأرقام القياسيّة برسمه أكبر لوحة زيتيّة على القماش في العالم، بمساحة بلغت (310) أمتار مربّعة، وهو رقم قياسيّ لم يُكسر حتّى يومنا هذا.

تجوب هذه اللّوحة الفريدة العالم في جولة مكّوكية، وقد عُرضت حتّى الآن في تسع دول أوروبيّة وثلاث دول عربيّة.

يعتبر د. جمال بدوان الأب الرّوحي لمجموعة كبيرة من الفنّانين الفلسطينيين، حيث ساهم في إحضار العشرات منهم إلى أوروبا؛ ليتفاعلوا ويتبادلوا الخبرات مع الفنّانين الأوروبيين، كما دعا فنّانين أوروبيين إلى البلاد والأردن؛ للمشاركة في فعاليّات فنّيّة مشتركة، وقد سُمح له ولمجموعة من الفنّانين الغربيين برسم لوحة ضخمة في ساحة المهد، مكان مولد السيّد المسيح عليه السّلام، بقرار من رئاسة السلطة الفلسطينيّة، لتغدو هذه اللّوحة أيقونة مشهورة في الغرب لما تحمله من رمزيّة دينيّة وروحيّة، فهي نتاج عمل جماعيّ لفنّانين مختلفين بقيادة الدّكتور بدوان.

في نهايّة المطاف، يقف الفنّان جمال بدوان شامخًا على طريق الإبداع، يؤكّد أنّ الفنّ قوّة لا تقهر، تتجاوز الحدود وتنشر رسالة السّلام والمحبّة.

فليبقَ اسمه محفورًا في الذّاكرة، وليكن إرثه الفنّيّ مصدر إلهام لكلّ من يحمل في قلبه شغف الفنّ والجمال.

***

صباح بشير

 

بقلم : كاميل بيري

ترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

***

الأوديسة الرومانسية لفاني فان دي جريفت أوزبورن وروبرت لويس ستيفنسون

قدم شهر العسل الذي دام شهرين لفاني وروبرت لويس ستيفنسون أساسًا لمذكراته، "مستأجرو سيلفردادو"، وعزز حبهما المشترك للمغامرة.

ملاحظة المحرر: في عام 1879، شرع روبرت لويس ستيفنسون، الشاب العشريني، في رحلة عبر المحيط الأطلسي بحثًا عن فاني فان دي جريفت أوزبورن، وهي امرأة كاليفورنية غريبة الأطوار وقع في حبها أثناء زيارته لمستعمرة فنانين في فرنسا. وصل ستيفنسون إلى الولاية الذهبية مريضًا وفي حاجة ماسة إلى الراحة والتعافي. لقد ساعدت أوزبورن في رعايته حتى استعاد صحته وأصبحت زوجته. وبفضل تشجيعها ومساهماتها، واصل ستيفنسون كتابة أعماله الكلاسيكية جزيرة الكنز والحالة الغريبة للدكتور جيكل والسيد هايد.

بالنسبة لشخص رومانسي، كان لويس صريحًا للغاية عندما وصف لاحقًا يوم زفافه، في 19 مايو 1880، لصديق:

لم يكن ما جذبني في زواجي هو سعادتي الشخصية؛ بل كان زواجًا في أقصى حالات الأزمات. وإذا كنت اليوم في مكاني الحالي، فذلك يعود إلى رعاية تلك السيدة التي تزوجتني عندما كنت مجرد كومة من السعال والعظام، أكثر ملاءمة لتكون رمزًا للموت منها إلى أن أكون عريسًا.

لتوفير المال، استقل الزوجان الترام بدلاً من العربة من فيري هاوس إلى نوب هيل، حيث تعيش عائلة ويليامز. كان فيرجيل [صديقه] خارج المدينة، لكن دورا [زوجته] سارت معهما من هناك إلى منزل القس ويليام أندرسون سكوت. لا بد أنهما بدوا كزوجين غريبين بالنسبة له: الفتى النحيف للغاية، وجهه شاحب باستثناء عينيه البنيتين المتقدتين، والمرأة الداكنة التي تمتلك عينين نافذتين أيضًا وشعرها المجعد الرمادي، والتي لم تكن أعلى من قلبه. تلاعب الزوجان بالحقائق التي قدماها لسكوت لسجل الزواج. كانت فاني صادقة بجرأة بشأن عمرها، أربعين عامًا، لكنها أعلنت بلا خجل أنها أرملة. ادعى لويس أنه يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، مما قلص الفجوة العمرية بينهما بعام. ومع قيام دورا بدور وصيفة العروس ووصيفتها، تبادلا الوعود وخواتم الفضة البسيطة. ثم ذهب الثلاثي إلى مخبز نمساوي لتناول  " الآيس كريم الرائع".

أصبح فاني ولويس الآن متزوجين رسميا. وقضيا ليلة زفافهما في فندق القصر، وهو الفندق الأكبر والأكثر فخامة في غرب الولايات المتحدة. وصلا بالعربة، ونزلا تحت السقف الزجاجي الرائع إلى الرواق المفروش بالرخام. تجولا على الشرفات المزخرفة المطلة على الفناء، المكان المرموق في سان فرانسيسكو حيث يمكن رؤية الآخرين ورؤيتهما. قد يظن أي شخص أنهما تخليا عن أسلوبهما الغريب والبوهيمي. لكن هذه كانت آخر رفاهية استمتعا بها لبعض الوقت. بعد أيام قليلة، وقد فرغت جيوبهما، غادرا لقضاء شهر عسلهما الغريب. سيقضيانه في منجم فضة مهجور.

توجهت فاني ولويس ولويّد [ابن فاني من زواجها السابق] وتشوتشو، كلبهما، إلى وادي نابا، حيث فر عدد من المصابين بالسل بحثاً عن القوة الشفائية المفترضة للهواء النقي ومياه الينابيع على جبل سانت هيلينا. وعندما سمعوا عن مخيم تعدين مهجور أعلى الجبل يمكنهم الإقامة فيه مجاناً، تمكنوا من تسلق المنحدرات الصخرية الحادة بواسطة عربة ذات عجلتين، حتى اضطروا لتسلق سلم خشبي مثبت على المنحدر للوصول إلى مكان إقامتهم المستقبلي.

كان منجم سيلفاردو قد حُفر في الأرض قبل ثماني سنوات فقط. لكن المشروع انهار دون أن يحقق النجاح المأمول، مما أحبط الخطط المتفائلة لمدينة مزدهر تحمل أسماء شوارع مثل روبي، وجولد، وجارنيت. على منصة مثلثة مغطاة بالركام، تم تثبيت ثلاث أكواخ خشبية في جدار الوادي مثل درجات تحت نتوء من الصخور الحمراء.كان المبنى الأول عبارة عن مكتب للخبراء. والآن لوح باب واحد، محطم ومتشظي، ملتوٍ هناك في النسيم. كانت أغصان أوراق الغار تتسلق عبر إطارات النوافذ الفارغة، وكان رذاذ من البلوط السام يزدهر من خلال ثقب في الأرضية. كانت السقيفة الثانية والثالثة تحتويان على أسرّة بطابقين لعمال المناجم - ثمانية عشر سريراً في المجموع - والمزيد من القمامة. طوال مدة إقامتهم، كان على المتزوجين حديثًا ولويد السير خارجًا وتسلق لوح خشبي إلى مدخل مفتوح معلق في الهواء للوصول إلى غرفة نومهم المشتركة.68 robart lues

مع وجود قطع الخشب والحديد مبعثرة حول المباني، كان المكان قذراً بكل معنى الكلمة. في مذكراته عن هذه التجربة، بعنوان "المستوطنون غير الشرعيين في سيلفرادو"، يعترف لويس بأن رؤيته لمدينة أشباح التعدين كانت أكثر رومانسية بعض الشيء ــ "مجموعة من المنازل المجاورة على مساحة خضراء في القرية، يمكننا أن نقول إنها فارغة تماماً، ولكنها مكنوسة ومطلية بالورنيش؛ وجداول مياه تتدفق عبرها أسماك السلمون المرقط؛ وأشجار الدردار أو الكستناء الضخمة، التي تطنطن بالنحل وتعشش فيها الطيور المغردة".

كانت فاني، التي عملت في معسكرات تعدين الفضة، أكثر واقعية من غيرها. وبعد أن قطع لويس شجرة البلوط السامة التي كانت تنمو عبر الأرض، تولت هي المهمة. وصنعت الأبواب والنوافذ من الإطارات الخفيفة والقطن، واستخدمت الجلود من الأحذية المهملة كمفصلات للأبواب. ومن بقايا الخشب وصناديق التعبئة، قامت بتثبيت قطع الأثاث. أصبحت فوهة المنجم ثلاجة لها لتخزين الخوخ المجفف والنبيذ والحليب الطازج الذي كانت تحضره من الجبل يوميًا. علّقت هناك الحمام والبط البري وغيرهما من الطرائد التي اشترتها من الصيادين المحليين. كما تم نقل موقد وقش للأسرة إلى الجبل.

عندما أصبح المكان صالحا للسكن— "الأسِرَّة مرتبة، الأطباق على الرف، دلو الماء اللامع خلف الباب، الموقد يصدر طقطقات في الزاوية"—وصفه  لويس بأنه مثال رائع على "نظام الإنسان،  الأماكن الصغيرة النظيفة التي ينشئها ليعيش فيها.". لكن إبداع المرأة هو من أنشأ هذا "المكان الصغير النظيف" .أما لويس فكان ما يطلق عليه الاسكتلنديون الرجل "عديم اليدين". وعندما كتب: "لقد أصلحنا أسوأ الأضرار"، يمكننا أن نفترض أن نفترض أن فاني هي من استخدمت المطرقة والمنشار. وكان هذا هو الأسلوب الذي عملا به معاً. فكلما شعر لويس الذي لا يمكن كبته برغبة في الانتقال ـ من أجل صحته، أو لمتابعة حلم، أو لمجرد الملل ـ كانت فاني تجعله يحدث. وفي هذه الحالة، حول خيالها منجماً مهجوراً إلى مسكن مريح؛ وأضفى خياله عليه صفة أسطورية في رواية "المستوطنون البسطاء في سيلفرادو".

في قصرهما  الخاص في الهواء الطلق، كانت فاني ولويس قادرين على اللعب بالأدوار الصارمة للجنسين التي كانت سائدة في عصرهما. فاني، وهي على ركبتيها تدق مسمارًا في مكانه، قد ترفع نظرها لتجد لويس مسترخيًا تحت أشعة الشمس، مرتديًا شالها وقبعتها بطريقة معكوسة، حيث كان الريش يتدلى فوق أنفه. ورغم أن مهارات فاني في الأعمال اليدوية منحتها مكانة غير تقليدية في المنزل، إلا أن ذلك لم يكن دائمًا في صالحها كشخص مبدع. موهبة لويس في الكتابة منحته الدور الأسمى في عائلتهما. لكنه كان يرتدي تاجه برشاقة وأناقة، دون أن يفرض سلطته المنزلية بطريقة صارمة أو متعالية.

كانت فاني تقدر أن لويس لم يكن زوجًا تقليديًا، يصدر الأوامر ويتوقع طاعتها على الفور. لاحظت هذا النهج المرن في سلطته منذ بداية زواجهما، حتى في تعاملاته الطريفة مع كلب العائلة. في رسالة إلى دورا، التي تُعد تقريبًا المراسلة الوحيدة التي نجت من تلك الفترة، وصفت فاني كيف كان لويس يوبخ الكلب تشوتشو بلا جدوى عندما كان الكلب يبعثر نعاله في كل مكان: "الفرق بين شدة لويس في الانضباط نظريًا، وتسامحه الفاضح عمليًا فيما يتعلق بتربية تشوتشو، أمر مسلٍ. لنأمل أن يكون الأمر نفسه مع زوجته."

كان لويس يشعر بالتوتر بسبب شبح الزلازل في سان فرانسيسكو، لكن في سيلفيرادو، كان هو وعائلته الجديدة يعيشون حقًا على أرض غير مستقرة. كانوا بالكاد يستطيعون المشي خارج المنزل دون أن يغوصوا في الأرض أو ينزلقوا أو يمزقوا أحذيتهم على الصخور الحادة. كانت الأنفاق والممرات المنجمية تلتف تحتهم في الأرض. في أي لحظة، كان من الممكن أن تنهار مسكنهم المؤقتة في أحد الممرات أو تتهاوى بهم إلى أسفل التل. في الليل، كانت عواءات الذئاب والثعالب تبدو قريبة بشكل مقلق من خلال الشقوق في الجدران والأبواب المصنوعة من القماش. خلال النهار، كانت الأفاعي الجرسية تصدر أصواتًا "مثل العجلات الدوارة" من كل جانب. لكن لمدة شهرين، استطاعت فاني أن توفر للويس الراحة التي كان يتوق إليها.

بعد القيام ببعض الأعمال الصباحية، كان لويس حراً ليستريح ويتجول ويكتب. على ما يبدو، لم يمنعه التعافي من التدخين، حتى عندما كان يتعين نقله إلى منتصف الجبل ليستنشق الهواء النقي. كان شرب الكحول أيضًا جزءًا من الروتين اليومي. كانت فاني تقدم له مشروب الروم المثلج الممزوج بالقرفة في منتصف الصباح ومنتصف بعد الظهر كل يوم. وفي مصنع النبيذ شرامسبيرج، تذوق ثمانية عشر نوعاً من النبيذ في جلسة واحدة ـ وهو إنجاز مذهل حتى بالنسبة لرجل يتمتع بصحة جيدة.

بعد شهرين تقريبًا، هجر المستوطنون مكانهم، قبل أن يبدأ الضباب الرطب الموسمي في التسلل إلى الوديان والشقوق الجبلية ورئتي لويس. كانت صحته قوية بما يكفي للقيام برحلة عبر المحيط، وكان يتوق لرؤية اسكتلندا ووالديه. وبمساعدة فاني، تحسنت علاقته بهما.

***

.............................

* مقتطف من كتاب شاطئ متوحش: ملحمة رومانسية لفاني وروبرت لويس ستيفنسون للكاتبة كامييل بيري، والمقرر نشره في 13 أغسطس 2024، عن دار فايكنج، إحدى إصدارات مجموعة بنجوين للنشر.

* في الصورة: الكاتب روبرت لويس ستيفنسون في صورة مع النساء اللاتي ساعدنه في تطوير مسيرته الأدبية على الرغم من أمراضه المتكررة. من اليسار: زوجته فاني ستيفنسون، وابنته بالتبني ومساعدته الأدبية إيزوبيل أوزبورن، ووالدته مارجريت إيزابيلا ستيفنسون.

 

الى صديقي يونس!

نخلة چاسبية أُم اللبن!

 لا يمكن مقارنة الطبيعة هنا بما موجود عندنا في بغداد، يؤسفني أن أقول لك إني ومثلي آلاف الشباب، لم ننعم برؤية بساتين ديالى الجميلة ولا الموصل الحدباء أم الربيعين، ولا مصايف صلاح الدين ولا جبالٍ في كردستان، مشهورة بجمالها، ولا بادية السماوة، سمعنا عن الصيد فيها من الآخرين صدفةً، ولا أهوار الجنوب العامرة بالأسماك وطيور الخضيري المهاجرة من أطراف الدنيا، لكن الحمد لله لم أرَ اراضيَ قاحلةً جرداءَ سبخةً أهلكت أصحابَها الطيبين كالحي الوجوه وحولتهم إلى "لاجئين" في بغداد، لكنها لا أعتقد تختلف كثيرًا عن عاصمتنا، المحترقة بشمسها، بل "شوتها شويًا" والحرارة تنبعث من أسفلتها وترابها، ولم تبقِ لا على ماء ولا خضراء ولا وجه حسن ولا هم يحزنون. لكني أعشقها وسأبقى أصرخ بغدااااد، بغداااد!

يوم أمس التقيتُ بشاعر عراقي شاب لكنه "آيل" للسقوط، طالَت فترة انتظاره هنا بدون أن يحصل على الإقامة، متعب نفسيًا، إنه مناضل البابلي، اسم على غير مسمّى، بائس حزين ويائس، يسمّيه بعضُهم متهكّمين به "بائس الحزين" غسلَ يديه من العراق و حكّامه، كان يسخر من أحد العراقيين المتحمسين، قال لمناضل: "آه لو كانت الأمور بيدي لخصصت مكافْأة أو أجرة شهرية لكل مَن يزرع شجرة فيها ويسمّيها باسمه ونصدر لها بطاقة خاصة بها ويسقيها بنفسه، مثلا كالبتوسة دحّام وعبّودي!، نخلة چاسبية أُم اللبن! أو سِدرة فطيمه المعيدية بائعة قيمر العرب (القشطة)، تَصوّرْ، هل يبدو الأمر مضحكًا؟ "والله شوف عينك" إذا مو كل بغداد صارت خضراء؟ ستحصل منافسة شديدة بينهم ويحمى الوطيس!" ويبدو أنه طاب له أن يراني أيضًا أتطلع إليه، أصغي إليه بصمتٍ واحترامٍ وعيناي مبحلقتان به، استمر يقول:

"آخ لو أصير أمين العاصمة، "أسَرفُن رداني" أو أشمّر عن ساعديّ وأمشي بملابس العمال"، أجمع القمامةَ بيدي، عمل شعبي مرة في الأسبوع، اسمه عمل شعبي بس أسوّيه إلزامي، اللي يعجبه أهلاً وسهلاً  وأعطيه مكافأة، واللي ما يعجبه ما نسمّي باسمه حتى شجرة قَوَغ! لو تشتغلون لو ماكو! أخلّي بغداد تزهي، أبني مترو، وأفتح شوارع عريضة محاطة بالنخيل والأشجار الباسقة و"داير مدايرها" نافورات أحلى من الشانزليزيه الفرنسي! هاآآ، لَعَد احنه وحّد؟! اشناقصنا؟ اشمالنه خويه؟".

كلام جميل وصحيح ورومانسي! وأنا أيضًا كانت لديّ هذه الأمنية منذ الصغر، لكن يا خساره ما عمّرت الحاره! والدي كان أيضًا يتمنّى نفس الأمر، لكن هيهات! مجرد أحلام وردية في عالم الصراعات!69 zouheer yasen

ألا يبدو كل هذا الحر على ملامح وجوه العراقيات والعراقيين؟ ألا تلاحظ أن بشراتنا تفتقر إلى النضارة ونحن كنا في عز الشباب؟ "أنت لِسّه شاب صُغَيّر!" كما يقول يوسف وهبي، هل أنا قاسٍ يا يونس؟ هل أنا حانق أو غضبان؟ أبدًا أنا منفعل ومشتاق لبلادي وحزين عليها، لماذا لا تتطور؟ كل الشعوب صار براسها خير إلا نحن! "إلا أنت، إلا أنت! إلا أنت!"، أعتقد هذه أغنية قديمة لمحبوبتك نجاة الصغيرة: "إلا أنت، فيها إيه الدنيا غيرك؟" لا أدري إن كان هذا صحيحًا أم أني صرت اخلط الأمور كعادتي، سامحني! سامحني! "إلا أنت، فيها إيه الدنيا دِيّه...فيها إيه الدنيا دِيّه...إلا أنت؟ كل غالي يهون عليّ إلا أنت..." أيها العراق الحبيب، إلا أنت! إلا أنت!

هل تتذكر أحد أصدقائنا من رفاق الدرب نعمة حينما قال لك: انتم تعيشون في رغد ونعيم، عندكم حديقة وبيت محاط بالكاليبتوس، بينما أنا أسكن في غريفة واحدة وصغيرة مع كل عائلتي، نحن نستيقظ الصباح يوميا على روائح المياه الآسنة مقابل بيتنا، تزكم أنفاسنا في الليل ونفتح عيوننا على مناظر بائسة وكالحة متشحة بالسواد، يا عزيزي أنت في حقيقة الأمر لا أخي ولا زميلي ولا رفيقي، أنت عدوي الطبقي!

والله حَقّه، لولا تنكره لصدقاتٍ تقبّلها من زملائه "البرجوازيين" أعدائه الطبقيين عندما مرّ في أحلك الظروف! ومع ذلك نَطقَ كلمته الأخيرة وبدا الحقد على نظراته رغم محاولته إخفائها بابتسامة باهتة بلهاء وشفتاه ترتجفان على أنياب كأنه ضبع سائب في البراري، بل وحش كاسر، شرس من الضواري قال مداريًا الموقف: "نعم، أنت رفيقي، لكن لازم نتعلم فن الحقد الطبقي ونتأكد من انسلاخكم من طبقاتكم! وهذا ليس له علاقة بكم كأشخاص"، يا له من جاحد! هل تتذكره، نعمة هذا كان يساريًا متزمتًا بامتياز لدرجة أنك بالذات كنت تسميه "نقمة"، لا يختلف عن الكثير مِمّن يطلقون عليهم اليوم تسميات مثل المتطرفين والأصوليين والمتشددين والسلفيين، كان يمكن أن يكون جهاديًا، كان ينادي أيضًا بالجيفارية ونظرية خلق البؤر الثورية، أفلح هذا الخط في كوبا بينما وُئدت حركتُه وقُتل قائدُه جيفارا في بوليفيا بعد أن خانه فقراءٌ جاء ليحرّرهم! فما الفرق بين هذين النهجين؟ اليساريون ذهبوا إلى إسبانيا دفاعًا عن الجمهوريه، والجيفاريون إلى بوليفيا لتصدير الثورة، والجهاديون اتجهوا إلى أفغانستان ليساندوا فئة ضد أخرى ولينصروا إخوتهم في الدين ضد الملحدين الروس. يعني إذا كل واحد يعطي الحق لنفسه سيصبح العالم غابةً! كلّهم مناضلون!

أجل، هكذا كان صديقنا المسكين نقمة عفوا أقصد نعمة، فقيرًا متحمسًا ولبقًا ومحدّثًا، مقنعًا في حواراته ولديه كاريزما، لكنه كان مثل بعض رجال الدين "الموامنه" منظّرًا اتكاليًا، "عِشتي" يعيش على الآخرين، بل "عَلَقة" يعتاش عليهم، يشكو الفقر والعوز ولم يجرب مرّةً أن يمسك المعول بيديه ليكسب خبزه بعرق جبينه.

أتذكّرُ أني أجبتُه بأنك زرعتَ الأشجار بيديك هاتين النحيفتين يا رفيقي، لِمَ لَمْ تَقُمْ بنفس الشيء أمام بيتكم؟ من يمنعك من القيام بذلك؟ لم يجبني ولم ينبس ببنت شفة، بل اكتفى بالنظر إليّ محركًا يديه حائرًا ماذا يقول وابتسامة صفراء ترتسمُ على شفتيه! وسبحان الله كان نعمة اسمًا على غير مسمى، أول المنسحبين المنبطحين المتطوعين للخِسّة والحِطّة والنذالة والعار والتعاون مع الأجهزة بدون أن يجبره أو يضغط عليه أحد.

أصلاً، لم يكن لدى هذا المسخ ما يبيعه غير الغدر، ولم نكن لنغضب عليه لو تعرض للتهديد اوالوعيد والترهيب، ناهيك عن التعذيب، لكن أبدًا لم يحدث مثل هذا الأمر لصاحبنا "الهمام"، كان يتبجح بالبطولات ويدّعي ما ليس له به ويزايد علينا بتنظيراته.

نعم، لم نكن لنغضب ولا نحقد عليه لو اكتفى هذا المأجور الوصولي المسكين بتغيير فكره وموقفه منا، لكنه تطوع، بل تمادى وتفنن ليلحلق الضرر والأذى بالآخرين بدون ان يطلب منه أحد ذلك. أجل هذا هو نعمة المزايد، يتميز بأسوأ مفردات تبدأ بالخاء: أول الخاسرين وأسوء الخاسئين وأذل الخانعين والخائبين والخائنين لقضيتنا، كوفِىء فيما بعد وفجأة بزمالة دراسية إلى بريطانيا، بينما كان الآخرون يتعرضون للضرب والحبس والإهانه ومع ذلك لم يتردّدوا في النضال من أجل أهله الفقراء، لطالما ادّعى نعمة الانتماء لهم. هل هذا ميسوبوتامي كما كان يتمنطق ويزايد ويتبجح؟ هل ينتمي هذا التافه الدَعّي الى مابين النهرين؟ اي مفارقة هذه؟ هل تتذكر كيف أهنّاه واحتقرناه وهشّمناه، عفوًا أقصد همّشناه عندما عاد من بريطانيا إلى العراق؟

كان يتصور أننا سنستقبله بالورود أو سننسى فعلتَه السوداء، لكننا لم نحقد عليه في دواخلنا بل أهملناه، والله انا شخصيًا كنت أعطف عليه وركنته في زاوية "الكراكيب"، بل شطبت اسمه ومسحته ومحوته من ذاكرتي، اجتثثته، تمنيتُ له ان يحقق سعادته الشخصية كما يريد، لكن بالتأكيد ليس على حساب الآخرين! الكلاب تنبح والقافلة تسير!

سَوْرري! سَوْرري! آسف عيني آسف! آسف على هذا الاستطراد المتشائم! لكن الثوري المبدأي، آسف حبيبي آسف، أزعجتك بهذه القصه السلبيه!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

آب/ أغسطس 1992

للأدباء والنقاد والمثقفين ومحبي القراءة في مجال النقد الأدبي.. مجموعة من أهم الإصدارات لواحد من أهم نقاد مصر. إنه الدكتور مصطفي ناصف، الذي عاش في الفترة بين (1921: 2008) وتوفي عن عمر جاوز 86 عاماً، أنجز خلالها عداً من أهم المؤلفات النقدية التي أثرت مكتبتنا الثقافية..

 لقد قررت الهيئة المصرية العامة للكتاب التعاقد على نشر أهم أعمال الدكتور مصطفي ناصف أحد أبرز الداعين إلى تجديد مناهج النقد العربي. وهو الأمر الذي يشير إلى مدي اهتمام الهيئة بحركة النقد وبالمؤلفات النقدية المؤثرة في تلك الحركة..

 والحق أن الحركة النقدية بالفعل تحتاج إلى اهتمام وتطوير ودعم. خاصة في ظل كثرة المعروض من الأعمال الأدبية مع ضعف قيمتها ومستواها في معظم الأحوال. ويصير من السهل في ظل انعدام تأثير الحركة النقدية علي جمهور القراء والمثقفين أن تتسلل إلى ساحة النشر أعمال مغرضة أو ملتوية تنتمي لأجندات فكرية تهدف لإفساد الوعي وتوجيهه نحو اتجاهات تخدم مصالح تلك الأجندات المشبوهة.

 نعم نحن لدينا جهات رقابية تمارس دورها في فلترة الوجبات الفكرية المقدمة للجمهور، لكنها لن تستطيع وحدها كبح جماح هذا الكم الهائل من الإصدارات. وهنا يصبح للنقد دور حيوي جماهيري في التمييز بين الغث والثمين، وفي توجيه دفة الثقافة نحو الاتجاه السليم. ثم هناك دور ثاني لا يقل أهمية وضرورة. وهو الدور الذي يخص الأدباء أنفسهم. إذ يقوم النقد الأدبي الرصين بعدد من المهام الضرورية لكل أديب، منها التقييم الذي يجعل الأديب شاعراً كان أو روائياً يدرك موقعه ومستواه بالنسبة لأقرانه، فيحاول أن يطور قدراته باستمرار. ثم إن النقد المستمر لأعمال الأديب يجعله قادراً على استدراك أخطائه وهفواته في أعماله التالية، كأن النقد يمثل بالنسبة للأدباء بوصلة تضمن لهم السير في الاتجاه الصحيح.

 تكمن أهمية الإصدارات التي تنوي هيئة الكتاب نشرها للناقد الأكاديمي البارز الدكتور مصطفي ناصف في كونها تمثل اتجاهاً نقدياً متفرداً يدعو للتجديد. إنه لم يكن مجرد ناقل للمناهج النقدية الغربية، بل كان ينظر إلى الإنتاج الفكري الغربي في مناهج النقد وفلسفاته بعين عربية وبنظرة علمية تنتقي ما يصلح لبيئتنا العربية وتتجنب كل ما يتنافَى مع بيئتنا وخصوصيتها الحضارية وتاريخها الثقافي.

 فأما الدكتور مصطفي عبده ناصف، فهو أديب وناقد مهم عاش خلال فترة امتدت من العهد الملكي، حتى عصر مبارك. وحصل على ليسانس وماجستير الآداب في اللغة العربية من كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، عين شمس حالياً، عام 1952، ووصل أن أصبح أستاذ كرسي عام 1966. وله عدد كبير من المؤلفات النقدية المهمة منها: (النقد العربي. نحو نظرية ثانية)، (نظرية المعني في النقد العربي)، (نظرية التأويل)، (ثقافتنا والشعر المعاصر)، (اللغة والبلاغة والميلاد الجديد)، (محاورات مع النثر العربي)، (بعد الحداثة: صوت وصدي)، (دنيا من المجاز) وغيرها من المؤلفات الرائعة التي وصلت لنحو 23 كتاباً هي من أهم المؤلفات النقدية في مكتبتنا العربية.

 وبسبب تميز هذه المؤلفات وأهميتها، حصل ناصف على عدد من الجوائز في مصر وخارجها؛ إذ حصل على جائزة الدولة التقديرية، وجائزة أفضل كتاب في النقد الأدبي، وجائزة نقد الشعر من مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين في الكويت، وجائزة الدراسات الأدبية والنقد من مؤسسة سلطان بن علي العويس بالإمارت. واختتمها بحصوله على جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب عام 2007، قبل وفاته بعام.

استطاع الدكتور ناصف صياغة منهجية نقدية خاصة يستقرئ من خلالها الأدب العربي القديم ليضعه في ميزان النقد الحديث، محاولاً تخليصه من أسر المحسنات البديعية والزخارف البلاغية موضحاً تطوره فكرياً ولغوياً. ثم أعاد قراءة أدبنا على ضوء استيعابه المحيط بمناهج النقد الحديث. وهو ما أوصله في النهاية لرسم خط أدبي ونقدي ميزه عن غيره من النقاد والأدباء.

امتلك مصطفي ناصف أسلوباً بارعاً في الكتابة النقدية والأدبية، ومنهجاً فريداً في معالجة وشرح أساليب النقد على ضوء منهجه الخاص الداعي للتطوير والتجديد. هكذا استطاع أن يحسم تلك العلاقة الجدلية بين مشروعات الفكر الحداثي الغربي وبين ثقافتنا الشرقية، وأن يصنع من هذا المزيج خطاً ثالثاً ينتمي في جوهره لتراثنا الثقافي ذي الخصوصية والتفرد.

 ولعل أهم ما ميز كتابات مصطفي ناصف أنه لم يخضع للأسلوب النقدي السائد في محيطه الأكاديمي، ولم يخاطب جمهوره من القراء من برج عاجي متعالي عليهم، بل حاول أن يكيف قلمه لخدمة القضية الفكرية والثقافية بإخلاص وتجرد.

 مشروع فكري مهم هذا الذي تنوي الهيئة رعايته، وإنني واحد من بين المترقبين لصدور هذه المؤلفات التي أثق أنها ستثري مكتبتنا من جديد بمؤلفات رصينة هادفة تستحق القراءة والاقتناء.

***

د.عبد السلام فاروق

قبل فترة تداولت وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، خبرا مؤسفا عن عملية همجية، تمثلت في رفع تمثال الملك السومري كوديا المقام في مدينة الدواية، شمال محافظة ذي قار، بل وسحله بعملية مهينة، والتمثال كما اشارت بعض التقارير، من عمل الفنان النحات أحمد حسن، من أهالي مدينة قضاء الشطرة، الذي قام بعمل نسختين من التمثال، وأهدى الاولى لبلدية الدواية في مدينته الناصرية والثانية لمتحف ذي قار الحضاري..

فمن هو الملك غوديا؟

يعتبر الملك غوديا، المعروف عالميا، أشهر ملوك سومر وهو الملك الثاني عشر لسلالة لكش (حكم 2124 ــ 2144 ق م) وتعاظمت الدولة في عهده وقام بتطوير نظام الري والتجارة الخارجية مع لبنان وشبه الجزيرة العربية ومصر، وهو لم يكن من مدينة لكش، الا انه نجح في صعود سلم المناصب والزواج من ابنة ملك لكش اوربابو (2144 - 2164 ق م) . وتميز عصره بالإصلاحات الاجتماعية فقد سمح للنساء بتملك الارض، واهتم بالفنون والآداب، وسعى لتطبيق القوانين. أيضا تشير الأبحاث الى أنه أول من بنى معبداً مقدساً في التاريخ، ومعنى أسمه باللغة السومرية (الرسول) أو (المُنادى - من قبل الإله-)، لذلك يصنفه بعض الباحثين على أنه (نبي).

الانباء ذكرت ان رفع تمثال الملك أو النبي غوديا تم بحجة أنه (صنم) ولا يجوز وجوده وتمت الإشارة الى محاولة استبداله بنصب ذو دلالات دينية اسلامية.

وسرعان ما ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالغضب واستياء شديد من هذا السلوك الذي يهين رموز الفكر والثقافة ويهين تأريخ البلاد، ورفض واستنكر ناشطون العملية واعدوها جريمة بحق معالم اثار وتأريخ البلد، ومن جانبها استنكرت ورفضت مفتشية اثار وتراث ذي قار، عملية رفع التمثال ودعت المسؤولين في المحافظة، في بيان لها الى ( محاسبة مرتكبي تلك الجريمة، وحماية تماثيل ونصب المحافظة)، وسرعان ما تراجعت السلطات المحلية في قضاء الدواية عن قرارها برفع التمثال، وتواصلت مع النحات لإعادة ترميمه ونصبه في مكانه السابق وأدعت بأن الساحة خضعت لأعمال ترميم.

أن هذه الحادثة تقدم لنا درسا يمكن التوقف عنده مليا، فالسلطات الحكومية، التي فاتها ان وجود هذا التمثال وغيره، هو دليل اعتزاز اهل المدينة بتاريخها وحضارتها، اضطرت امام الرفض والاستنكار الشعبي للاستجابة للضغوط وإعادة نصب التمثال. ان حادثة تمثال الملك غوديا تقول لنا بأن تنسيق وتوحيد الجهود والرفض والاحتجاج يمكن ان يأتي بثماره ليس في قضية رفع تمثال فقط، بل وفي ملفات وقضايا اهم تخص حياة الناس ومستقبلهم.

ويضع أيضا امام الجهات الحكومية المعنية مسؤولية حماية اثار ومعالم الحضارة لبلادنا امام دعوات الجهل بحجج واهية لا تصب في خدمة البلاد وتاريخها ومستقبلها. ان المواطن العراقي يشعر بالخجل عند زيارته لبعض من متاحف العالم التي تحوي بعضا من اثار بلادنا، ويلمس جيدا حسن الاهتمام والطرق الحضارية للمحافظة عليها، والمستوى العالي من الرعاية التي تلاقيها على ايدي أهل البلاد “الكافرة” كما يقول بعض ابناء بلادي، فهل يعقل ان تكون على حق، تلك الأصوات التي تعتقد ان من الحسنات قيام الاوربيين بسرقة اثارنا، لأنهم يحفظوها لنا سليمة وبأحسن حال ويعرّفون بها، بينما نقوم نحن بإهمالها وأهانتها؟

***

يوسف أبو الفوز

الرسالة الثانية /3: الرسالة الجَلجَلوتية!

آب/ أغسطس 1992

عندنا يعاملون البشر مثل البهايم

***

عزيزي يونس!

حدثني أحد أصدقائي، قال:

في إحدى المرات عندما كنا في بداية التسعينات ننتظر في معسكرات اللاجئين الحصولَ على الإقامة، فوجئت بشاب طويل القامة ضخم الجثة يأكل فيها السبع كما يقال، والله أتذكر أنه كان على جَمال رجولي يجلب انتباه حتى الرجال، فيه العينان الواسعتان الكحيلتان اللامعتان السوداوان، والسن الباسم والشعرالكث، والطول والرشاقة، والشياكة والأناقة والقيافة، والله العظيم لو كنت مخرجًا مسرحيًا لأعطيته دور قائد عسكري أو روحي، ملهم، يقود الجماهير، لكنه لم يكن كذلك، سبحان الله، كاد أن يطير من الفرح، لم يستوعب "صدمةَ" الخبر المفرح، صار يتراكض ويتراقص ويدبك ويهز وسطه ويدورهنا وهناك جذلاً فاقدًا السيطرة على جسمه ويهذي ويجمجم بكلمات غير مترابطة كأنه يعاني من نوبة فرح جنوني لا يدرك ماذا يفعل وكيف يسيطرعلى مشاعره كأنه نشوان سكران يتهاوى أصيب بهيستيريا، سألت الآخرين بهدوء وثقة بالنفس كأني مديرهم أو مسؤول نزلتُ عليهم مشرفًا "من فوق"، أو من كوكب آخر لا يعلم ماذا يجري هنا: يا جماعة الخير، اشصار بيه، هذا الشاب؟ ربح مليون ؟"، قالوا لي إنه حصل على إقامة، "هَلّا وصلت إقامته"، هَمهَمتُ مستفسرًا: "وصلت إقامته؟ بالسيّارة؟ شر البلية ما يُضحك! إن لله في الخلق شؤون، وشنو يعني إقامة؟"، بينما كانت عيناي تتطلعان بسخرية إليه وهو يتابع دبكاتِه ورقصاتِه، والآخرون يضحكون.

تَمتَمَ أحد كبار السن من طالبي اللجوء الفلسطينيين، كان جالسًا إلى جانبي، يبتسم: "حقه يفرح ويرقص كمان، ما هُوْو أردني، المفروض يزغرد لأن الأردنيين ما بيحصلوا على الإقامه بسهوله زيكم العُراقيين، أنت مش عارف؟ وإلا؟ إحنه الفلسطينيه قبل كانوا بيعطونا الإقامه بنص ساعه، هسّاع صاروا يأخّرونا، أكثريتنا هنا صار لنا ثلاث سنين ننتظر، عشان هيك هُوْو فرحان، أصلاً ما كان بيتوقع ياخذها، لأنّه أردني، وزي ما خبرتك ما بيعطوش للأردنيين إقامه عشان بلدهم آمن، وفيه دمقراطية واحترام لحقوق الإنسان، هُوو صار له أربع سنين ينتظر، لكن هُوو ما كان سائل عليها، يشتغل هنا وهناك، جزار وخضرجي، يجي هون للمعسكر بس يستلم معاشه شهريًا ويروّح، إيه شو بدّه يعمل؟ يروّح على بلاده؟ مش معقول يترك هالبلاد الخضراء الحلوة والشغل والرفاهية ويروح، لا عنده شهاده ولا شغل ولا عمل هناك، ما تقول لي وطن! لا وطن ولا بطيخ، شو فائدة الوطن إذا ما فيه لقمه الواحد يأكلها؟ مستحيل! مضبوط كلامي والاّ لا يا باشا؟".

وَجّه سؤاله الأخير متطلّعًا إليّ بعينين حزينتين مستفسرتين بينما أخرج سيجارتين من علبته، قدّمَ واحدة لي وأخرى وضعها بين شفتيه الذاويتين ليدخنها، وصدره يخرخش ويسعل وهو يتمتم بين نفسه كأنه يشك بما يقول: "أنا عارف! والله الواحد يحتار شو بيحكي، الوطن عزيز، لكن الظروف تحكم الناس، والاّ شو يخلّي واحد شاب مثل هذا يترك أهله وديرته"؟

تناولتُ السيجارة شاكرًا وأنا أتطلعُ إلى تضاريس الجغرافية والتاريخ والرحيل والقدوم والمغادرة والوصول والسفر البادية في ملامح وجه هذا الفلسطيني المبتسم الهادىء، وكأن المثل العراقي "المبلّل ما يخاف من المطر" ينطبق عليه، هو بالأساس لاجىء في لبنان ليس له حقوق. واستمرَّ يتكلم بصوتٍ خافتٍ كأنه يعاتب نفسه "شوف كانت هناك بناية قديمه عالية، هي مش كثير تعبانه، بس هم درسوا الموضوع وقرروا يهدّموها ويبنوا مكانها عماره جديده، حاطّين صوره كبيرة تورجيك كيف راح يصير شكلها في المستقبل، ماشفتها؟ في شارع الكومونه، وفعلاً هدموها، على اساس هي خرابه! ههه! وراح يبنوا سوبر ماركت جديد وشقق سكنية ولا احلى منها! واحنه؟ خراب وسراب وشتائم وسباب!

عندنا يعاملون البشر مثل البهايم، هذا هيك عمل وهذه هيك عملت! وعلى اقل حاجة تبدأ اتهاماتهم وتخوينهم وتكفيرهم! شو بدّي أقول؟ أنا عارف؟ والله مش عارف شو أحكي؟ هَيْهم الناس إهنِي عايشين أحسن حياة ومرتاحين! ليش احنه هيك وضعنا؟ ليش ما نصير مثلهم؟ نبني ونعمّر بلادنا وبيوتنا؟ شوف يا مَحلى شوارعهم وبيوتهم، واحنه خراب وتراب، نكد بنكد، حروب إلها أول ما إلها آخر من داحس والغبراء حتى يومنا هذا، وأطفالنا وشبابنا يُقتلون قدّام أعين كل البشر، لكن لا مهزوز ولا محزوز، ولا نعرف شو راح يحصل بالباقين تهجير قسري أم "تحرير" أمري! وإلى متى نبقى بها الحال! الله اعلم!

كادت عيناي أن تدمعا، لو كان الأمر بيدي لفضّلتُ هذا الفلسطيني على نفسي وأعطيته الإقامة بدلاً عني، هذا طبعًا إن منحوني إيّاها بسرعة باعتباري عُراقيا كما يقول. أفكّر في كلامه وأقول لنفسي لا وطن بلا عمل ورعاية وحماية، ولا اندماج في مجتمع يدير للإنسان ظهره!

دعنا في المهم يا حبيبي يونس، نتذكركم في كل مناسبة وغير مناسبة، في كل لقمة نضعها في أفواهنا متردّدين بمضغها أو لوكها، وفي كل مرة نضحك قليلاً، نقطعها ونتوقف عن الابتسام خوفًا من لومة لائم أو تأنيب الضمير.

الطبيعة والمرابع الخضراء والسواقي والأنهار والأهوار لم نرها في بلاد الرافدين إلا في دروس الجغرافية والتعبير، هل تتذكر معلّم اللغة العربية عبد الحسين الحمداني؟ الطويل القامة ذا الشفتين، المتدليتين والنظارة السوداء، كان بارعًا في تدريس العربية ،علّمنا عبارات لم نكن نشعر بها، نصحنا أن نستعملها في موضوعات مثل: "صِف رحلة"، كنا نسميها كلائش: ولبسَت الأرض حلتها الخضراء متشحة بأحلى الألوان الزاهية، مرتدية أجمل الأزياء، أو: أخذت السيارة تنهب بنا الأرض نهبًا بينما كنا نتطلع من نافذتها إلى الأبقار والأغنام  والخيول والدجاج والبط والنوارس والطيور الأخرى وعصافير الدوري في المراعي والمروج والبساتين العامرة بالنخيل المتفاخرة بأعثاقها، نشم عبق الروائح الطيبة العطرة مع مهب الرياح الدافئة بشمس الربيع الساطعة ووجوه الفلاّحات مبتسمةً.

حلوووو! هلو عيني! هلو داد هذا شلون نفخ! كنّا في الصف السادس الابتدائي، وكان علينا أن نصف مناظرَ طبيعيةً لم نطلع عليها يومًا، بأجمل العبارات والألفاظ والصفات الجميلة الجاهزة!

بشرفك انت شفت مثل هذه الطبيعه في بغداد بحياتك؟ أنا شخصيًا لم أرَ أرضًا خضراءَ، أقصد بساتين وغابات غنّاءة وأشجارًا باسقة في بغداد إلا ما ندر، مثلاً في منطقة صدرالقناة ومقبرة الإنجليز أو الأتراك، لم أعد أتذكر، كنا، المفروض ندرس فيها، وأشجار الكاليبتوس في شوارع بغداد القديمة، مثل الوزيرية والصرّافية وراغبة خاتون وطبعًا كورنيش الأعظميه وبيت المميّز على الشط، كنا نسبح فيه وكاد أن يغرق فيه أحد زملائنا نوري النحيف الصُغيّر "الزعيجون" لولا أن أنقذه صاحبه صباح، هل تتذكر تلك الحادثة؟ والعطيفية، الله ما أجمل تلك الظلال في الظهيرات القائظة، وفي حدائق منازل يسكنها ناس محظوظون.

ولا أزال أتذكر مدى فرحي عندما زرعوا "الثيّل" الأميركي الأخضر في السبعينات على "سفحِ" سدّة ترابية كان يمر عليها القطار ما بين أكاديمية الفنون الجميله والجسر الصغير قرب كلية التربية ودار الكتب في بغداد، تحول لون التراب إلى أخضر جميل زاهٍ غمرني بالسعادة.

يا ترى هل لا تزال سدّة القطار خضراء؟ عشرون سنة تفصلني عنها، منها ثماني سنوات حرب مع الجارة إيران!

لا أزال أتذكرهذه السدّة الخضراء، أحنُّ إليها كلما أشتاق إلى أمّي.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

في (20 تموز 24) دعيت لمشاهدة عرض فلم (اخفاء صدام حسين) يحكي قصة اختفاء صدام حسين من يوم هروبه من بغداد الى يوم القاء القبض عليه.

يبدأ الفيلم بظهور فلاح جالس على الارض بكامل اناقته الفلاحية يروي لنا بطلاقة وسلاسه وكأنه (يسولف سالفه) للجالسين في ديوانه، ظننته ممثلا لأجادته السرد والنطق السليم وصدق الأنفعالات، فيما كان هو الفلاح (علاء نامق) الذي اخفى صدام 235 يوما حاسما في حياة صدام، وخطرا رهيبا على حياة علاء واسرته من 150 ألف جندي أمريكي يبحثون عن صدام ورصدوا 25 مليون دولارا مكافأة لمن يدّلهم عليه.

علاء نامق

وكنت تساءلت: من اين جاءت الفكرة؟وهل ان الفلم وثائقي ام سياسي؟ وهل سيتصف بالمصداقية؟.. وأخرى، فعرفت ان المخرج شاب كردي اسمه (هلكوت مصطفى) كان قد هرب زمن النظام السابق الى النرويج، وقدحت الفكرة لديه فقصد العراق عائدا ليلتقى الفلاح (علاء نامق).

كان علاء هذا قد رفض المشاركة في افلام او برامج تحكي قصة اخفائه لصدام خوفا على نفسه وعائلته، وحرصا على تبرئة عشيرته من مزاعم واتهامات باطلة، واخرى روجت لأمور غير حقيقية تخص استضافته لصدام، كما قال. وحين التقى به المخرج عام 2012 .. اتفقا على تقديم القصة في قالب انساني بعيدا عن السياسة، واستغرق العمل على الفيلم أكثر من عشر سنوات، وأنتج بالشراكة بين شركة (هني) والحكومة النرويجية وشبكة رووداو الإعلامية. وكان أول عرض دولي له في تشرين الثاني 2023 في أمستردام، وأول عرض له في العالم العربي كان في جدة بالمملكة العربية السعودية، ودخل في مسابقة الأفلام الطويلة في النسخة الثالثة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الذي عُقد في الفترة من 30 نوفمبر/تشرين الثاني إلى 9 ديسمبر/ كانون الأول 2023.

دراما .. بفلم وثائقي

وصف فيلم (اخفاء صدام حسين) بانه وثائقي، لكنني وجدته انه تجاوز التوثيق الى دراما تحكي محنة رجل مطارد.. يهرب متخفيا من مكان الى آخر.. ليستقر في مكان وجد فيه وفي صاحبه ما يشعره بالأمان، ما يعني انه يطرح قضية أنسانية خالصة.. في بيئة عشائرية عراقية لها تقاليدها في التعامل مع الضيف.

يبدأ المشهد الأول بمنظر لمزارع في منطقة (الدور).. وفلاّح(هو علاء) يرعى غنمه فيها.. يأتيه اخوه يخبره بمجيء ضيوف الى بيته، ويفاجأ ويندهش ويخاف حين يرى ان الضيف هو صدام حسين!. وهنا يكون علاء في (ورطة) بين أن يخفي صدام عنده وبين خطر ان يقتل هو وعائلته واطفاله الثلاثة. ويلخص لنا (علاء) حل الورطة بأن تقاليدنا العربية الأصيلة توجب ان نحمي الضيف رغم أن (الضيف والدخيل.. بلوه!) فكيف اذا كان الضيف صدام حسين الذي يبحث عنه 150 الف جندي امريكي! ما يعني ان العشيرة العراقية تحمي ضيفها والدخيل عليها، وحقق ذلك بأن بنى له غرفة ومطبخا خاصا به، وحفر له خندقا على شكل حرف ( T) ساواه بالارض وغطاه بالزهور، وجعل الاغنام تمر عليه كأي ارض في المزرعة.

صدام وعلاء.. صارا أصدقاء

تتوثق العلاقة بين رئيس جمهورية العراق.. صدام حسين، والفلاح البسيط علاء، الذي يدفعه فضوله الى أن يسأله: سيدي.. ليش انت اختاريتنه بالذات؟ فيجيبه صدام بأنه تنقل كثيرا من بيت الى بيت، وانه حلم بأن قال له احدهم: روح لبيت (نامق) بالدور.. فقصدتكم. فيجيبه علاء بأنه سيفديه بروحه.. فصار حارسه وطباخه وامين سرّه.. ويأنسه، فيأخذه الى المزرعه ويشاركه برعاية اغنامه، واصطحبه مرة الى جبل حمرين، بل انه عرض عليه أن يزوجه قائلا له( سيدي، بتقاليدنه لازم الرجال يتزوج.. شتكول نزوجك مرة من عشيرتنه!)

ومن المشاهد المؤلمة انسانيا، ان صدام طلب ذات يوم من علاء ان يأتيه بخروف.. فجائه به وذبحه وعلقه واخذ يقطّعه. وقال لعلاء.. اليوم يجون اولادي.. عدي وقصي، وهذا الخروف ذبحته لهم. وجاءا فكان لقاءا يثير انفعال التعاطف الأنساني وينسي المشاهد انهما مجرمان ايضا!.

وفي حوار لطيف بينهما يقول له علاء: سيدي.. الأمريكان نطوا 25 مليون دولار مكافأة للي يدليهم عليك.. شتكول.. نستلمها هسه لو ننتظر يزيدوها!.وكان صدام، رغم خبرته الاستثنائية بمعرفة نفوس من حوله.. على (يقين)انهم مهما زادوا فأن (علاء) لن يبوح بسرّه.

اشكاليات

واجه الفلم اشكاليات تتصدرها شخصية صدام حسين بوصفه رئيس الجمهورية العراقية. فهو بنظر معظم العراقيين.. دكتاتور، طاغية، مجرم بحق الشعب الكوردي ومرتكب جرائم بشعة ضد الشيعة توثقها مقابرجماعية، فضلا عن جرائم بقتل معارضين له من الطائفة السنية.. وبالتالي فانه لا يستحق أن(يجمّل) وجه طاغية و يعمل من اجله فيلم. والأشكالية الأكبر، أن المشاهد لأحداث الفلم تجعله يتعاطف مع محنة انسان مهدد بالتصفية، فكيف اذا كان هذا الأنسان هو (صدام حسين) الذي يعد بطلا بنظر العرب، وقف بوجه امريكا، وقاوم معتدين غزاة احتلوا العراق؟

فيما رأى آخرون أن المخرج الكردي (لمّع) صورة دكتاتور قتل الالاف من شعبه الكوردي ودمر العراق، وان (علاء) اساء للفلم بسعيه الى فرض رأيه على المشاهد بأن صدام رجل طيب.

والاشكالية الثانية، ان الفلاح (علاء) قدم صورة جميلة لشخصية صدام حسين كأنسان وليس كرئيس دولة. فبعد ان كسبه صديقا وجده انسانا طيبا يحمل مشاعر انسانية، متواضعا لدرجة أنه قام في الحمام بجلف ظهر علاء بالليفة والصابون ردا على قيام علاء بجلف ظهر صدام، فيما الفكرة الشعبية(العراقية) المأخوذة عنه أنه مجرم لا يمتلك أية مشاعر انسانية.

واذا جمعنا هاتين الأشكاليتين فأن الشعب الكردي وملايين الشيعة في العراق لن يقبلوا بعمل فني يجمّل صورة طاغية قتل عشرات ان لم يكن مئات الآلاف منهم.

والأشكالية الأخيرة: هل كان ما رواه الفلاح (علاء ) من احداث في اخفائه لصدام 235 يوما.. يتمتع كله بالمصداقية؟. وهل كان(علاء) فعلا فلاحا بسيطا كما وصف، أم انه يتملك مواصفات جعلت الفضائيات العربية التي اجرت معه لقاءات تكتب أمام اسمه (الفنان)؟!.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

الفنان التشكيلي عمّار بلغيث ومشروعه الفني الذي عمل على انجازه بكهف بمنطقة "المدينة" بمدينة الدهماني.. ذات حالمة مهمومة بالفن والتنشيط الابداعي والجمالي.. لفنان هاجر لفترة بالخليج وأنفق على مشروعه الكثير..

ها هو الفن في تلويناته المتعددة حيث الفكرة التي تقود القلب منذ نصف قرن وبعد تجربة بتونس وخارجها.. هي لعبة الفن في الجغرافيا والزمان والمكان والوجدان قولا بما به يسعد الكائن وهو يرى بعين القلب شيئا من حلمه وهواجسه وأغنياته العالية التي كثيرا ما تمنى احتضانها على الأرض وبين الجبال.. جبال الكاف العالية ونسائمها الصيفية وفي كل الفصول وفق رغبات شتى هي فكرة حاله ورؤيته للأسياء والآخرين والعالم.. ولذاته المثقلة بالابداع والامتاع والمؤانسة..

الفنان التشكيلي عمّار بلغيث صاحب التجارب الفنية والخبرات حيث عرفه مجايلوه من الفنانين التونسيين منذ حوالي نصف قرن بشغفه الفني وحلمه اللا نهائي على غرار عمله الفني ضمن تجربة عرفت باللامنتهي.. هو يحمل مشروعا فنيا عمل على انجازه بكهف بمنطقة " المدينة " من مدينة الدهماني الكافية.. هو فنان مسكون بالهاجس الثقافي والابداعي وقد تشبث بجهته لابراز خصوصياتها الفنية والحضارية وعلى عكس غيره لم تستهوه العاصمة والعواصم والمدن الأخرى بل انه أراد أن يستثمر ثقافيا في مسقط رأسه وكان مشغولا بفكرة كهف الفنون لتنشيط الحياة الثقافية بالجهة ولتشجيع المواهب من خلال الورشات ولابراز دور الفنون في حياة الناس.. ومنذ سنوات أصبح الكهف مجالا للزوار وقد طالب الفنان بلغيث بادراج الكهف ضمن المعالم باليونسكو. وهو الآن بصدد الاعداد لتظاهرة ثقافية فنية كبرى بكهف الفنون..38 amar balgheeth

عمارة بلغيث لم يجد الطريق مفروشة بالورود وممهدة بل انه لاقى العديد من الصعوبات والعراقيل ولكنه كان مصرا ومقتنعا بفكرته ولذلك نراه الآن يحصد النجاحات وصاحبنا هذا الفنان المختلف له أكثرمن أربعة عقود في تجربته بين المشرق وتونس وله قصة عشق وهيام بالفن التشكيلي.

عمارة بلغيث انسان مرابط في كهفه ينجز الفكرة ويبحث عن غيرها وحياته في حيز كبير منها تكمن في "كهف الفنون" بالدهماني والذي بعثه منذ سنوات بعد اقامة لسنوات بالخليج العربي وكانت له تجارب أنشطة وشراكات منها الشراكة مع المركب الثقافي الصحبي المسراطي بالكاف ضمن مشروع "محمية للمبدعين" التي كانت في هذا الاطار من التعاون والتفاعل الثقافيين.

وقد شهد المركّب الثقافي عددا من الفعاليات منها معارض مخصصة للفنان عمار بلغيث ولمختلف انتاجات الاطفال في مسابقة " أطفال المحمية.. هم فنانون أيضا.. " هذا فضلا عن المعارض المهتمة بالمنتوجات التقليدية لعدد من الجمعيات الحرفية بالجهة وخصص يوم كامل لعدد من ورشات الرسم وذلك باشراف وتسيير من قبل فنان سيكافينيريا المتميز وصاحب كهف الفنون وشريك المبادرة المذكورة الفنان عمار بلغيث.

وبالنسبة لورشة الفوتوغرافيا فيسبرها الفنان صالح القلعي وذلك بالمركّب الثقافي خلال يومين كما كان هناك مجال لورشة تهتم بمعالجة الصورة باشراف السيد ماهر العمدون وقام الأستاذ الأزهر الفرحاني بتنشيط ورشة فن الممثل كما قدّم عرض الراشدية للأستاذ معز التيساوي وخصص مجال للعرض الفرجوي (كيف الكاف) وقدمت كذلك مجموعة من العروض المسرحية خلال الأيام المفتوحة للتعريف بهذا العمل الكبير الممهور ب "محمية المبدعين" ومن العروض نذكر "مريض الوهم" للأزهر الفرحاني وهي من انتاج مؤسسة المركب الثقافي الصحبي المسراتي وعرض مسرحية "أرض الفراشات" لمركز الفنون الدرامية والركحية بالكاف فيما خصص يوم للعرض الموسيقى والشبابي ضمن موسيقى الراب للثلاثي لارتيستو وغستمان وريان قلعي وذلك بفضاء مسرح الجيب بالكاف..39 amar balgheeth

في هذا السياق الثقافي كان التعاون ضمن فعاليات الكاف محمية المبدعين وذلك مع المركب الثقافي الصحبي المسراطي وتضمن برنامج هذا المشروع الرائد حرصا على بعث وايجاد مجال ثقافي يساند ويرعى 20 فنانا من أبناء الجهة ضمن السياقات والمجالات الثقافية والفنية والابداعية المختلفة حيث العمل مع الشبان بالجهة (أعمارهم بين 15و30سنة) وذلك عبر ترميم واعداد المحمية الثقافية وضمن البرنامج دورة تدريبية في الرسم لتنمية وبناء المهارات الفنية لـ20 تلميذا والحصول على 40 لوحة فنية قابلة للعرض لنشر الوعي الفني والجمالي والحس النقدي ل 500 تلميذ من أرياف الجهة والجهات القريبة منها مثل جندوبة والقصرين وباجة وتم تنظيم 10 زيارات كل أسبوع وبعث محضنة ضمن المحمية الثقافية ل25 فنانا من الشبان لاقتراح مشاريع ثقافية وتم التأطير من قبل فنانين محترفين والمحصلة ترشيح 5 مشاريع فنية لفائدة فضاءات الكاف الثقافية.

هو مشروع مهم ساهم في احياء الحركة الثقافية على نطاق واسع والدفع مجددا بالسياحة الثقافية بالجهة حيث تمت دعوة 5 من الفنانين المحترفين العرب والدوليين للاطلاع على المشروع وتجربة المحمية الثقافية وتنشيطها فنيا وثقافيا عبر عدد من الفعاليات الى جانب الندوات والمجالس ضمن العناية بحوالي 3000 من رواد هذه التجربة وجمهور الكاف.

عمارة بلغيث الانسان والفنان المرابط في بكثير من حرقة الفن والابداع والامتاع يحاول الألوان ويحاورها كطفل سابح في سماء البراءة.. لا يلوي على غير القول بالتلوين وتنوع الأشكال وتعددها نحتا للخصوصية وتأصيلا للكيان.

***

شمس الدين العوني

بقلم: هالة عليان

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

1- أنت مختلفة:

عندما وصلت إلى عيد ميلادي العاشر، كنت قد عشت في ثلاث قارات. بسبب حرب الخليج، والدراسات العليا لوالدي، والضرورة المالية، انتقلت عائلتي عبر العالم إلى الغرب الأوسط. كنت عربية، محبة للكتب، ومذعورة على الدوام. كل هذا لأقول - لم أكن أرغب في شيء أكثر من التأقلم. وعلى مدى العقد التالي أو نحو ذلك، ظل هذا هو هدفي المحموم. أي شخص يريد أن يرى دليلاً على هذا الشوق يحتاج فقط إلى تصفح الكتب السنوية الخاصة بالمدرسة المتوسطة والثانوية.

لقد قمت بتسوية شعري. قصصت شعري. لقد صبغت شعري باللون الأشقر. اكتسبت وزنا. وفقدت وزنا. طلبت من الجميع أن يدعوني هولي. تظاهرت بأنني لم أقرأ "آنا كارنينا" قط. (قرأتها أربع مرات). تظاهرت بأنني شاهدت داوسون كريك وجيلمور جيرلز. (لم أشاهد أي حلقة حرفيًا)

لقد استغرق الأمر مني وقتًا طويلاً للتوقف عن التظاهر والنظر إلى الوراء وأن أدرك أن ذلك ربما كان ببساطة بسبب الإرهاق وليس بسبب شعور معين. ولكن بمجرد أن فعلت ذلك، لجأت إلى تقاطع الاختلاف والكتابة. وهذه نعمة الاختلاف ونقمته؛ في الحياة اليومية، قد يكون هذا أمرًا متعبًا، لكن في الفن، يصبح عملته الخاصة. بالنسبة للكثيرين منا، فإن الاستماع إلى أولئك الذين أسكتهم التاريخ (وحاول في كثير من الأحيان محوهم) لا يمكن أن يكون أقل من مجرد الارتياح.

لذا يا هالة الصغيرة: خذي ما يجعلك مختلفة واحكي تلك القصة. الأشخاص الذين يحتاجون إلى قراءتها سوف يتردد صداهم، وأولئك الذين لا يحتاجون إليها، حسنًا، لن يجلسوا بجانبك في الكافتيريا على أية حال.

2- المجتمع يساعد:

عندما كنت في الرابعة والعشرين من عمري، فقدت شخصاً أحببته والذي توفي وهو في سن صغيرة جداً. توفي يوم الاثنين. في الجمعة التالية، كنت أتجول في شوارع القرية، مشوشاً تماماً ولا أعلم ماذا أفعل بنفسي، عندها وجدت ميكروفون مفتوح في مقهى كورنيليا ستريت. دخلت. كتبتت قصيدة قصيرة ورديئة على منديل ورقي و، بنبض الأدرينالين الخالص، قمت بتسجيل اسمي وأدائها.

ربما كانت تلك إحدى أهم اللحظات في حياتي. عدت كل أسبوع. لقد كتبت قصائد أقل فظاعة. مع مرور الأشهر، التقيت ببعض الأشخاص الأكثر لطفًا وذكاءً وذو قلوب كبيرة من خلال تلك الميكروفونات المفتوحة. التقيت بالناشرين المستقبليين لمجموعتي الشعرية الأولى.

الأهم من ذلك كله، اكتشفت شعورًا بالانتماء. كنت قد انتقلت إلى نيويورك قبل بضع سنوات، وما زلت أشتاق إلى بيروت كما يشتاق العاشق إلى حبيبته. كنت أفتقد عائلتي، وحاناتي المفضلة، وحرم جامعتي القديمة. لكنني وقعت في حب تلك القاعة المظلمة، المضاءة بالشموع، وجدت نفسي أعود إلى تلك الغرفة المليئة بالسرد والتصفيق بإخلاص شديد كما يفعل المصلون.

3- الكتابة هي العمل:

لقد استغرق الأمر وقتًا طويلاً لفهم ذلك، لأن الكتابة هي أيضًا كائن سحري، متقلب، مثير للغضب، نادرًا ما يبدو أنه ملك لي. ونعم، ربما تكون، بالنسبة للكثيرين منا، الكيمياء الأكثر نقاء وبساطة التي يمكن أن نصادفها على الإطلاق.

ولكنها عمل أيضًا. عليك أن تعاملها باحترام. الفكرة ليست كتابا. يمكن أن تكون المسافة بين الاثنين أرضًا طويلة وحيدة لا يمكن عبورها إلا بالكتابة الفعلية.

كل شخص لديه روتينه الخاص. بالنسبة لي، 30 دقيقة في اليوم، لا أكثر ولا أقل. أحيانًا أكتب تلك الدقائق الثلاثين في مترو الأنفاق، وأحيانًا على مكتبي، وأحيانًا على هاتفي، لكنها دائمًا ما تكون 30 دقيقة. إذا فاتني يومًا، أسامح نفسي، لكني أعوضه في اليوم التالي. لقد تعلمت أن الكتابة تشبه الذهاب إلى الصالة الرياضية، مثل بناء أي عضلة. إنها تحتاج إلى انتظام وللكثير منا، إلى طقوس.

4- سوف تسمعين لا كثيرا:

مثل - كثيرًا. مثل - ستكون هناك أسابيع وشهور حيث تسمع فقط الرفض. أتلقى رسائل عبر البريد الإلكتروني بانتظام تشتكي من أن عملي ليس بالضبط ما يبحثون عنه.

في المرة الأولى التي تلقيت فيها رسالة من هذا النوع، أصيبت بصدمة كبيرة. كان غروري الشاب واثقًا للغاية من أن المجلة لن تحب عملي فحسب، بل ستكون متأثرة بفهمي الدقيق للحالة الإنسانية، وإتقاني للغة والصورة، حتمًا سيطلبون مني المزيد من الأعمال.

لقد رفضوا عملي. وقد تعرض غرورتي لبعض الكدمات التي كنت في أمس الحاجة إليها في ذلك اليوم. ثم المزيد من الكدمات، ثم المزيد، حتى بدأت أفهم: إذا كنت ستكتبين، فعليك أن تجدي سببًا للقيام بذلك، لا علاقة له بالمال أو التقدير أو الجوائز.

أدرك أنني أقول ذلك من موقع الحظ والامتياز، بعد أن تم نشر أعمالي. ولكن هذا لا يغير حقيقة أن ممارسة هذا العمل يجب أن تأتي من حب العمل نفسه، من خلق عوالم وحياة لم تكن موجودة من قبل، ومن شغف في فقدان نفسك في رغبة في سرد قصة معينة، ومن الرضا في لحظة "أها"، عندما تتصل كل الأمور في مكانها، وتصبح جميع تلك الطرق المسدودة والمسودات الخامة فجأة تستحق الجهد.

5- الشك الذاتي هو جزء من العملية:

تصالح مع الأمر يا صغيري. دع الشك الذاتي يدخل إليك، لكن لا تجهز له سريرًا.

لا يوجد طريق صحيح لفعل هذا العمل. أي شخص يخبرك بغير ذلك يحاول ترويج نسخته الخاصة من "الصواب". بعض الكتاب يفعلون ذلك فقط من أجل أنفسهم، دون أي رغبة في جمهور. آخرون يزدهرون في الاندماج بالمجتمع والقراءات العامة. بعض الكتاب يرغبون في رؤية أعمالهم في كتاب، بينما يحرص آخرون على الظهور على المسارح.

ما يشتركون فيه جميعًا هو تكريم ذلك الجزء من نفسك الذي يدفعك للإبداع، إيجاد ذلك الجائع الصغير والهادئ داخلك ومنحه صوتًا.

6- الخوف والشجاعة وجهان مختلفان لعملة واحدة:

كل جملة عن الشجاعة تبدأ بالخوف. إذا قمت بشيء لا تخاف منه، فهذا لا يعتبر شجاعة. قد يكون الأمر متهورًا أو عفويًا أو غير قانوني، لكنه ليس شجاعة.

هذا وقت مثير للاهتمام للخوف. إننا نعيش في عصر الحدود، في لحظة إما أن يتمسك الناس بتلك الحدود أو يحاولون تفكيكها. إنه وقت أصبحت فيه اللغة أكثر أهمية من أي وقت مضى، حيث يمكن استخدام الكلمات لإثارة الخوف أو مقاومته، حيث يحاول الناس تجريم كلمات مثل "مهاجر" و"متحول" و"أسود".

استعادة اللغة. السماح للكتابة بتجاوز تلك الحدود. لقد كان التعبير الإبداعي دائمًا بمثابة ملجأ يبني تحته الأشخاص الوحيدون والمصابون بحزن القلب نيرانًا صغيرة لتدفئة أنفسهم. كن فخورًا بنفسك لكونك جزءًا من هذا التقليد.

7- سوف تذكرك الكتب بمن أنت:

أعيد قراءة الكتب بلا خجل. هذا يثير جنون الناس. "هل تقرأين ذلك مرة أخرى؟" كانت تسألني أمي بدهشة عندما كنت صغيرة. "لكنّك تعرفين ما سيحدث بالفعل!" يمكن بسهولة تحديد كتبي المفضلة بفضل عادتي الغريبة والمستمرة في تمزيق زوايا الصفحات الصغيرة ومضغها أثناء القراءة. (كما تعلمون، مثل العلكة).

بالنسبة لبعض الناس، القراءة هي معادلة مباشرة وفعالة من حيث التكلفة: معرفة كتاب واحد مطروح منها الوقت يساوي القيمة الصافية. ليس بالنسبة لي. طوال فوضى طفولتي المتنقلة، حيث انتقلت عائلتي بين مدن الشرق الأوسط والمدن الأمريكية، كانت الكتب المتغير الأكثر ثباتًا في حياتي. بالنسبة لفتاة وحيدة، أصبحت الكتب رفاقًا، جغرافيا مألوفة ليتم زيارتها مرة أخرى.

لا تفهموني خطأ - يمكن أن يكون الكتاب الجديد ساحرًا. أحب ذلك الشعور باكتشاف كاتب يشعل شعورًا بالتآلف. لكن إعادة قراءة كتاب تشبه استئناف ذات سابقة: فهي تكشف عن الطرق التي تغيرت بها، لكنها تطمئنك أيضًا بثباتك الداخلي.

أثناء الحرب في بيروت في الصيف الذي سبق سنتي الأولى، أعدت قراءة درويش وسيكستون لأنني كنت واقعًا في الحب وخائفة. في أعماق عامي التاسع والعشرين الجامح والصعب، أعدت قراءة كتب هاري بوتر. أعيد قراءة الكتب القديمة، من تولستوي إلى كتب نادي جليسات الأطفال، كرفاق، لأتذكر أنه حتى لو كان بيتي ومدينتي وشوارعي غير مألوفة، فلا يزال هناك شعور بالصلابة في العالم.

عندما انتقلت إلى مانهاتن، وجدت نفسي أتجول في ممرات متجر دوان ريد، حيث كان كل رف منظم من كريمات الوجه والشامبو يثير نوبة جديدة من الدموع. لقد افتقدت انقطاع الكهرباء والفوضى في المدينة التي تركتها خلفي. في تلك الليلة، في غرفة نومي المستأجرة في مورنينجسايد هايتس، قمت بنكت وتفتيش حقائب السفر حتى عثرت على نسختي البالية من كتاب "مترجم الأمراض" وتحولت، للمرة الألف، إلى الصفحة الأولى.

(تمت)

***

.................................

الكاتبة: هالة عليان (من مواليد 27 يوليو 1986) كاتبة وشاعرة وعالمة نفس أمريكية من أصل فلسطيني متخصصة في الصدمات والإدمان والسلوك عبر الثقافات. تغطي كتاباتها جوانب الهوية وآثار التهجير، خاصة داخل الشتات الفلسطيني. وهي أستاذة في جامعة نيويورك، لها رواية (بيوت الملح)  الحائزة على جائزة دايتون للسلام الأدبي وجائزة الكتاب العربي الأمريكي، ووصلت إلى المرحلة النهائية لجائزة تشوتوكوا. وصلت روايتها الأخيرة، مدينة مشعلي الحرائق، إلى نهائيات جائزة أسبن ووردز الأدبية لعام 2022. وهي أيضًا مؤلفة أربع مجموعات شعرية حائزة على جوائز، بما في ذلك ديوان (السنة التاسعة والعشرون). نشرت أعمالها في مجلة The New Yorker، وأكاديمية الشعراء الأمريكيين، وLit Hub، وThe New York Times Book Review وأماكن أخرى. أحدث مجموعاتها الشعرية، (القمر الذي يعيدك) صدرت مؤخراً عن دار إيكو. تعيش في بروكلين مع عائلتها.

* رابط المقال على: موقع لايت هوب / Lit Hub  بتاريخ 12 يونيو 2024

https://link.lithub.com/view/602ea751180f243d6532c4cel917m.2jq/7e7bb173

 

لقد عرف البشر القلم منذ آلاف السنين بل يذهب الكثير من علماء تفسير القرآن الكريم أن القلم أول ما خلق الله سبحانه مستشهدين بعدد من الروايات واستدلوا بحديث عبادة بن الصامت الذي رواه الإمام أحمد وأبو داوُد والترمذي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، ثم قال له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقد كان للقلم دور كبير في توثيق تاريخ البشر سواء من الحضارة السومرية وألواح الطين والخط المسماري أو الحضارة الفرعونية وأقلام نبات القصب وورق البردي وما بين تطورات صناعته بين الألمان والإ نجليز ودخول اليابان على خط التصنيع للأقلام، حتى أصبح القلم اليوم قيمة رمزية فاخرة ، سواء كان القلم ذهبيا أو فضيا أو برونزيا فإن الأثر الذي يتركه الحبر في العقول هو الرهان، ولطالما صعب أو استحال قياس الأثر الإنساني للأعمال الفنية فإن التحدي الذي سيواجه النقاد في الجائزة كبير بلا شك؛ وهم أهل له. والأمر الأكثر إثارة هو الفجوة الحسية والمعرفية بين الأجيال وكيف يمكن تلبية ذائقة الجماهير الشابة التي تتغذى على الثقافات المختلفة والمتنوعة، وهل من الممكن أن تكون مثل هذه المبادرات العظيمة نقطة تحول في المجتمع لنشهد ولادة كُتاب محليين بمعايير عالمية؟ أو حتى صناعتهم لهذه المناسبة التاريخية

لقلم اهمية في القرآن الكريم، قوله تعالى اقسم بالقلم "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، الذي بواسطته الناس يكتبون فينقشع الجهل ويستبدل بالعلم "الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ وهذا شرف للعلم وتعلمه الذي له اثر على القلوب والعقول والدين وانارة البصائر ويميز الانسان عن غيره من المخلوقات باستخدامه اداة الكتابة. ويربط القلم هذه الاثار فقد قرن النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم الدين بالعقل حيث قال (انما يدرك الخير كله بالعقل ولا دين من لا عقل له). ومن القاب القلم مذيع العلم. وسورة القلم من السور المكية التي نزلت بعد سورة العلق وهذا يدل على ارتباط العلم بالقلم. وهي من اوائل سور القرآن التي نزلت التي منها سورة العلق وفيها اشارة الى اهمية القراءة وارتباط ذلك بالقلم فلولا القلم لما استطاع الانسان ان يقرأ. عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: ان اول شئ خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة، ثم قال له اكتب، وفي تفسير لاية "ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ" وهنالك ايات قرآنية اخرى تشير الى اهمية العلم "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ان القلم هو اللوح المحفوظ الذي تكتب فيه الملائكة اعمال الكائنات خيرا وشرا

للاسف بدأ الناس والادباء ورجال الصحافة وطلبة الجامعات يتخلون تدريجيا عن الكتابة بالأقلام في عصر التكنولوجيا، حتى صاروا يتوقعون مع ازدياد الاعتماد على تقنيات وأنظمة الذكاء الاصطناعي، وبدأ الاستغناء عن الكتابة الورقية، وحلت مكانها اجهزة الكمبيوتر والموبايل والايباد، رغم ان الابحاث العلمية تؤكد أن استخدام الكتابة اليدوية في التعليم يعزز التفكير، وينشط الدماغ، المعلومات البصرية والحركية، التي يتم الحصول عليها من خلال حركات اليد التي يتم التحكم فيها بدقة عند استخدام القلم، تساهم بشكل كبير في أنماط الاتصال في الدماغ التي تعزز التعلم

ولعل هذه الحقبة الزمنية تعيد هيبة "القلم" وإعادة صياغة مواد تعليمية داعمة للكتابة، حيث يندر أن تجد في الجامعات لدينا مقررات خاصة بالكتابة، بل يمكنك أن تشاهد بالعين المجردة انهيار المنظومة اللغوية لدى بعض أفراد الأجيال القادمة خاصة من لا يتقنون لغتهم الأم ولا لغة أخرى عباراتهم مشوهة بدون معنى، وهذه بلا شك مسؤوليتنا جميعا. أخيرا، لا تتنازل عن قلمك ولا تجفف حبرك إن كان ما يخطه لا يروق للناس ولا تتخلى عن صفحتك حتى لا تجد عدوك يملأ عليك ما يريد.

سأل صحفيٌّ نجيب محفوظ كيف تكتب الرواية؟ فرد عليه فوراً بالورقة والقلم يا ابني، رُوي عن جرير أنه كان يتمرّغ في الصهريج وهو يعاني لحظات تصيُّد أبيات الشعر، وروي عن الجواهري أنه يصاب بنوع من اللوثة ولمسات الجنون حين ينهمك في كتابة الشعر إلى أن تلين الفكرة العنيدة (حسب كلمة السياب الذي روى أيضاً حالته مع ميلاد القصيدة)، مما يعني إن تصيُّد إيقاعات الشعر ومجازاته مثلها مثل تصيُّد حبكات الرواية، ومثل تصيد شوارد الأفكار، وكلها شوارد تقلق وتؤرّق وتشعل روح مُنشئها وتؤلمه بمثل ما تسهر عيون الخلق عليها بعد ذلك حسب المتنبي، وذلك بعد أن تستقل عن صاحبها وتطوف عوالم الحياة والناس، وينام صاحبها الذي قلق وتألم منها فتتولى إيلام القراء وتعذيب مشاعرهم وأفكارهم في تتبع شواردها ".

***

نهاد الحديثي

فارقت الحياة يوم السبت 3  آب  2024م في بلاد المغرب العربي، بعد تعرضها لجلطة حزن على فراق زوجها وحبيب عمرها: فراس عبد المجيد رشيد

وصبيحة شبر كاتبة عراقية، بدأت الكتابة في الصحف العراقية عام 1960، نالت لقب أفضل كاتبة في العالم العربي من المجلس العالمي للصحافة عام 2009.

السيرة الادبية

1- كتبت القصيدة العمودية اثناء الدراسة الابتدائية

2- نشرت المقالات في الصحافة العراقية منذ عام 1960

3- تخرجت من جامعة بغداد كلية الآداب – قسم اللغة العربية عام١٩٧٠

4-أصدرت مجموعتها القصصية الأولى بعنوان (التمثال) من مطبعة الرسالة في الكويت عام 1976

5 - غادرت العراق عام 1979 بسبب اشتداد الهجمة الدكتاتورية على القوى التقدمية

6– كتبت في الصحف الكويتية بين عامي 1979 – 1986 باسم مستعار (نورا محمد)

7 – استقرت في المغرب عام 1986 8 – نشرت القصص في الصحف العربية بين عامي 1986 الى 2004

9 – أصدرت مجموعة القصصية الثانية بعنوان (امرأة سيئة السمعة) من وكالة الصحافة العربية للمطبوعات في مصر

10 – كتبت في الجرائد الالكترونية مثل الكاتب العراقي – الحوار المتمدن –فضاءات – بنت الرافدين - واتا – منتدى شروق- انانا- ازاهير- اقلام – الوراق- البيت العراقي

11 – نشرت المجموعة القصصية الثالثة  عنوانها (لائحة الاتهام تطول) صدرت في  2007

 12- رواية مشتركة عنوانها(الزمن الحافي) مع الروائي العراقي سلام نوري صدرت في بغداد – 2007

ا13 – عضو في الجمعيات والمؤسسات الاتية :مؤسسة تراي الثقافية – جمعية جمع المؤنث الثقافية في المغرب – اتحاد كتاب النت العرب – الهيئة الادارية لجمعية الرافدين الثقافية العراقية في المغرب - جمعية واتا للمترجمين واللغويين والمبدعين- هيئة التحرير لمجلة انانا- رابطة الكاتب العربي

14- مشرفة على الأدب في المنتديات  شروق – انانا- واتا-نور الشمس

  15- أجرت حوارات مع المنتديات الاتية:شروق مرتين- واتا- نور الشمس- -;- اوتار -صخب أنثى- المبدعات العربيات- مجلة شارع المتنبي- انانا – تعابير- مجلة المثقف من قبل الشاعر يوسف الشرقاوي- مجلة اويا الليبية بواسطة الشاعر صابر الفيتوري

16- كرمت من قبل جمعية المترجمين واللغويين العرب، يناير 2007، انانا نوفمبر 2007 – مهرجان المريسة المغربي4337 صبيحة شبر

السيرة المهنية

 1- أستاذة اللغة العربية في مدرسة الرصافي العراقية في الكويت بين عامي 1972- 1977

2- أستاذة اللغة العربية في مدرسة واسط (في العراق) بين عامي 1977 – 1979

3- استاذة اللغة العربية في مدرسة الأمل (للراهبات العراقيات في الكويت) بين عامي 1980 – 1986

4 - أستاذة اللغة العربية في مدرسة جبران خليل جبران المغربية الخاصة بين عامي 1986 – 1992

5- أستاذة اللغة العربية والتربية الإسلامية في المدرسة العراقية في الرباط منذ عام 1992 وحتى وفاتها ...

قصص قصيرة

الثمثال، من مطبعة الرسالة في الكويت عام 1976.

امرأة سيئة السمعة، من مطبعة وكالة المطبوعات العربية في مصر عام 2005.

لائحة الاتهام تطول، صدرت عن دار الوطن للطبعة في الرباط، عام 2007.

التابوت، صدرت عن دار كيان في مصر عام 2008.

لست أنت، صدرت عن دار ضفاف.

غسل العار، دار فضاءات، عمان.

روايات

الزمن الحافي رواية مشتركة مع الأديب العراقي سلام نوري.

العرس رواية صدرت عن العراق في عام 2010.

فاقة تتعاظم وشعور يندثر، 2014.

أرواح ظامئة للحب، 2015.

هموم تتناسل وبدائل، 2015.

أدتك قلبي، 2017.

جوائز

نالت لقب أفضل كاتبة في العالم العربي من المجلس العالمي للصحافة عام 2009.

كرّمتها وزارة الثقافة العراقية عام 2010 ضمن المكرمين لحصولهم على جوائز عربية وعالمية

* بدأت الأستاذة صبيحة شبر النشر في المثقف منذ سنة 2010م.

تغمد الله الفقيدة برحمته الواسعة وألهم ذويها الصبر والسلوان.

***

.......................

السيرة الذاتية نقلا عن صفحة ا.م.د ماهر جبار الخليلي بالفيسبوك

تسمى عادة مثل هذه (الدراسة مقارنة) وتكون عادة بين  ظاهرتين أوعالمين أو شاعرين وهكذا، والمقارنة كما يصفها العلماء ام المعرفة، المقارنة هذه بين شاعرين كبيرين، احدهما عراقي هو الشاعر بدر شاكر السياب والثاني شاعر مصري هو امل دنقل، ولد السياب في قرية من قرى جنوب العراق (جيكور) وولد الثاني في قرية جنوب مصر (القلعة)  لكن السياب كان هو الاسبق من الناحية الزمنية فقد ولد 1926 بينما ولد امل عام 1940، كلاهما عانا من آلام الفقر والمرض والغربة فكان هذا هو الخيط الذي جمع بين الشاعرين حتى رحيلهما عن الحياة، وقد نعكست ظروفها الاجتماعية الصعبة على نتاجمها الشعري فكانت قصائد وجدانية تغرق في النزعة الانسانية وذات مواقف متشابهة من الحياة والموت والتي تعكس حياة الشاعرين في البيئة القروية والآفاق الاجتماعية والنفسية لكل منهما، حتى ان امل دنقل قد اطلق عليه النقاد لقب سياب مصر غير ان اللقاء والافتراق لم يكمن تاماً بينهما فثمة اوجه شبه واوجــه اختلاف رغم التشابه في ظروف البيئة القروية القاسية فالفارق بينما هو فارق التجربة فقط فقد كان السياب اعمق تجربة كونه لم يتخلى عن رغبته في الحياة حيث ظهر هذا جلباً في قصائده مثل: انشودة المطر وحفار القبور .. إما امل دنقل فقد غيم على اشعاره شبح الموت الذي اعتبره الحقيقة الوحيدة في هذا الوجود . لقد اصدر السياب اول مجموعة شعرية له عام 1946 باسم "ازهار واساطير" وكانت اول قصائده (هل كان حباً) إما امل فكانت مجموعة الشعرية  الاولى عام 1969 تحمل اسم (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) صدرت بعد انتكاسة العرب في حرب 5 حزيران 1967 .

ان شعراء كثيرين ارتبطت اسماؤهم بمآسي عصرهم واوطانهم مثل: لوركا، ناظم حكمت، الجواهري، البياتي، وكذلك السياب وامل دنقل لقد كان كل من السياب ونقل يحب وطنة وتغنى  به بل يحن إلى قرية وامال كل منهما إلى الملحمية في الشعور، وتضمنت قصائدهم الاساطير  الأغريقية التي نراها واضحة في قصائد السياب و دنقل،  ووقف الاثنان إلى صفوف الجماهير الفقيرة التي كانت تعاني الحرمان وشظف العيش ايام السيطرة البريطانية على كل من العراق ومصر ففي أثناء وجود السياب في بغداد في الأربعينيات لدراسة اللغة الإنكليزية انتمى إلى الحزب الشيوعي العراقي على الرغم من ان بيئة بغداد كانت تؤرقه وهكذا كان الحال عند امل دنقل عند ما حل في القاهرة، لقد مات السياب عام 1964 وهو في قمة النضج وفي عمر مبكر (38) عاماً وكذلك امل دنقل توفي وهو قمة النضج عام 1983 (43) عاماً . كتب السياب قصيدته والتي تضمنها ديوانه في بيروت والمؤرخة 19 / نيسان 1962 اي قبل وفاته بعامين يقول فيها:

من مرضي

من السرير الأبيض

من جاري انهار على فراشه وحشرجا

يمصّ من زجاجة أنفاسه المصفّرة

من حلمي الذي يمدّ لي طريق المقبرة

أكتبها وصيّة لزوجتي المنتظرة

و طفلي الصارخ في رقاده أبي أبي

وامل دنقل قبل وفاته بأيام كتب قصيدته الاخيرة: يقول وهو راقد في المستفى في غُرَفِة العمليات:

كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ،

لونُ المعاطفِ أبيض،

تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات،

الملاءاتُ،

لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن،

قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ،

كوبُ اللَّبن،

كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.

كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!

فلماذا إذا متُّ..

يأتي المعزونَ مُتَّشِحينَ..

بشاراتِ لونِ الحِدادْ؟

هل لأنَّ السوادْ..

هو لونُ النجاة من الموتِ،

لونُ التميمةِ ضدّ.. الزمنْ،

صورتان تعكسان روى التشابه بين السياب وامل دنقل.

***

غريب دوحي

 

كما تستطيع السريالية أن ترسم لوحة تقف أمامها بالساعات متأملاً فى محاولة لفك شفراتها السرية العميقة.. هكذا تفعل إذا تحولت فى يد الرسام إلى قصيدة ألفاظها مجرد رموز لمعانٍ أبعد..

هذا ما يفعله الشاعر والفنان التشكيلي (محمد مهدى حميدة) حينما يكتب أدباً شاعرياً بمفردات تجردت من سائر قيود الشعر الموسيقية واللغوية ، وتحررت من أثوابها الجاهلية البالية وارتدت بدلاً منها أردية معاصرة تنطلق بها فى رحاب آفاق صور شعرية مرسومة كقطع الفسيفساء، تجتمع معاً لترسم صورة يفهمها كل منا على هواه كأنها مرايا تعكس أحوالاُ نفسية عدة.. هنا يلتقى الشعر بالفن التشكيلي معاً فى لحظة نادرة تختفى فيها الفروق بين ما هو مكتوب بالقلم وبين ما ترسمه ريشة الفنان..

  بدأ محمد مهدى حميدة حياته الإبداعية كفنان تشكيلية أكاديمى بعد أن نال الماجستير فى تاريخ الفن من كلية الفنون الجميلة بجامعة القاهرة ، وأصدر كتابين حول الفن التشكيليى من إصدار دار سعاد الصباح بالكويت ودائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. قبل أن تجذبه عوالم الكتابة الأدبية ويبدأ فى تأليف عدد من المؤلفات الأدبية التى نال عنها عدة جوائز فى كل من مصر والكويت والإمارات..

  أصدر مجموعته الشعرية الأولى فى العام 2012 تحت عنوان"صناعة الأنقاض" ، ثم أتبعها برواية "امرأة خضراء" بالشارقة عام 2014. ثم مجموعته الشعرية "قناص جبل الرماد" عام 2015من إصدار دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة. وقد قرأت تلك المجموعة الأخيرة والتى أراها امتدادا لفنه التشكيلي لا الأدبي، إذ تعج بالأخيلة غير المكتملة والصور التى تتداعى دون أن ترسو بك على شاطئ الوعى وإنما هى صور متحركة بحركة لفظية مستمرة تنقلك من معنى إلى معنى مناقض كأنها أمواج صاخبة لا تهدأ..

  القصائد تتفاوت فى أحجامها الشكلية تفاوت اللوحات المربعة والمستطيلة والقصيرة والأقصر كأنك أمام كتل لونية تتنازعها الجدران..يبدأ الديوان بقصيدة (العدميون) وكأنها بداية لونية رمادية ذات ظلال موحية بعوالم شاعرية تفيض بالغموض وتضع الخلفيات اللونية فى دائرة الضوء بينما تتقلص مساحات المباشرة والصراحة والوضوح.. وتساهم التعبيرات المتقاطرة من النص على تأكيد مدلول العنوان دون التخلى عن مساحات الغموض الممتدة عبر الكلمات والتعبيرات من نوع (اجتهدنا فى محو أشكالنا من عيون الناس- النائمين فى تلابيب الطيف- مستسلمين كلياً للتلاشى..) .. تلك القصيدة هى مدخل تدرك منه أنك مقبل على عوالم غير تقليدية من اللفظ الظلى كأنه لوحة غائمة لا تدرك تفاصيلها إلا إذا ابتعدت وضيقت عينيك لترى ما يختفى خلف الظل اللفظى من معنى مراوغ..

تتدافعك بعدها عناوين القصائد تدافع الأحلام المبتورة والرؤى السريعة كأنها نظرتك عبر نافذة قطار.. فتقرأ ( دودة القز الأخيرة- أعين ماكرة- عشاق المقهى- قصيدة غابرة- بلا عينين تقريباً- أسماك ملونة- دائرة- بلورة- كائن الجهات- ضحك-الغابة- حياة- كورتاثر- أصدقائى- فيما يبدو- حرير- جغرافيا- خريطة- سيناريوهات وشيكة- عبور) لتدرك أنك لست أمام فكرة واحدة جامعة ولا رؤية أم تتفتت إلى نسل من نفس النوع، وإنما هى فراشات متطايرة ذات أشكال وألوان غير تقليدية.. وهكذا تدرك دقة الاختيار فى كونها (مجموعة شعرية) ذات أطياف متعددة ،وليست ديواناً من نبع مشترك. ثم إنك تكتشف أمراً غريباً ليس معهوداً بين مختلف المجموعات الشعرية ، وهو أن عنوان المجموعة ليس موجوداً بين القصائد!! فلا توجد قصيدة من قصائد الكتاب اسمها (قناص جبل الرماد) وهذا ما يدفعك للتفكير أن المؤلف يقصد ذاته بهذا العنوان .. وأنه قناص من نوع جديد لا ينقب عما يبحث عنه الجميع فى كهوف من جبال الذهب أو فى ينابيع النور وبين الورود وأشجار الزيزفون، بل هو يكتشف لنا خبيئة "جبل الرماد".. فهو جبل رمادى طيفى يتغير شكله وحجمه باستمرار ولا يثبت ولا يستقر إذا قررت الوقوف بقدميك راسخاً فوقه..مثل هذا الجبل سرعان ما يتفتت فى يدك إذا حاولت إمساكه، لذا لا تحاول أبداً أن تقلد كاتباً استطاع بريشته أن يقتنص جبلاً من رماد!

***

د. عبد السلام فاروق

 

كان ويليام بتلر ييتس، أحد أعظم شعراء القرن العشرين، يستكشف في كثير من الأحيان موضوعات تتعلق بالشيخوخة في شعره. ومع تقدمه في السن، أصبح ييتس منشغلا بشكل متزايد بفكرة الفناء ومرور الوقت، وهو ما يتضح في العديد من قصائده. ومن خلال لغته القوية والمثيرة، يلتقط ييتس تعقيدات الشيخوخة والحكمة التي يمكن أن تأتي معها. في هذه المقالة، سأستكشف كيف يصور ييتس الشيخوخة في شعره، مع التركيز على الموضوعات والتقنيات الرئيسية التي يستخدمها الشاعر.

غالبا ما يصور ييتس الشيخوخة كوقت للتأمل والاستبطان في شعره. في قصائد مثل "الإبحار إلى بيزنطة" و"بين أطفال المدارس"، يتأمل حدود الشيخوخة والرغبة في التسامي. يقدم ييتس الشيخوخة كوقت يجب على المرء فيه مواجهة حقائق الفناء والتصالح مع مرور الوقت. من خلال الصور الحية واللغة المجازية، ينقل ييتس التعقيدات العاطفية والنفسية للشيخوخة.

علاوة على ذلك، يستكشف ييتس بشكل متكرر فكرة الإرث والتأثير الذي تخلفه تجارب الحياة على الأجيال القادمة. في قصائد مثل "هجران حيوانات السيرك"، يتأمل ييتس الخيارات التي اتخذها في حياته والإرث الدائم الذي سيتركه وراءه. بالنسبة لييتس، تصبح الشيخوخة وقتا للتأمل في الماضي والتفكير في مكانة المرء في العالم. من خلال شعره، يشجع ييتس القراء على التفكير في الطرق التي ستشكل بها أفعالهم وخياراتهم إرثهم.

ومن الموضوعات الرئيسية الأخرى في شعر ييتس التوتر بين الشباب والشيخوخة. في قصائد مثل "عندما تكبر"، يقارن ييتس بين جمال وحيوية الشباب وحكمة وخبرة الشيخوخة. يستكشف كيف تتقاطع هاتان المرحلتان من الحياة وتؤثران على بعضهما البعض، مسلطا الضوء على الطرق التي يمكن أن يؤدي بها العمر إلى فهم أعمق للعالم. تعمل قصائد ييتس كتأمل في مرور الوقت والتغيرات الحتمية التي تأتي مع الشيخوخة.

كما يتعمق ييتس في فكرة التحول في الشيخوخة، ويصورها كوقت للنمو الروحي والتنوير. في قصائد مثل "المجيء الثاني"، يستكشف ييتس الطبيعة الدورية للحياة والقوة التحويلية للشيخوخة. يقترح أن الشيخوخة ليست نقطة نهاية، بل هي بداية جديدة، وقت يمكن للمرء فيه تحقيق فهم أعمق لنفسه والعالم. من خلال شعره، يقترح ييتس أن الشيخوخة يمكن أن تكون وقتا للتجديد والولادة الجديدة، وفترة من النمو الشخصي والروحي.

وعلاوة على ذلك، غالبا ما يستكشف شعر ييتس التحديات الجسدية والعاطفية التي تصاحب الشيخوخة. في قصائد مثل "حوار الذات والروح"، يتناول التدهور الجسدي الذي يأتي مع الشيخوخة والشعور بالخسارة التي يمكن أن تصاحبها. يضفي تصوير ييتس الخام والصريح للشيخوخة شعورا بالضعف والإنسانية على شعره، مما يسمح للقراء بالاتصال بالتجربة العالمية للشيخوخة. من خلال عمله، يواجه ييتس الحقائق القاسية للشيخوخة بصدق وتعاطف.

كما ييتس يستخدم الرمزية والأساطير لنقل تعقيدات الشيخوخة في شعره. في قصائد مثل "ليدا والبجعة"، يستعين بالأساطير والخرافات القديمة لاستكشاف الموضوعات الخالدة للحب والخسارة والخيانة. من خلال نسج هذه القصص القديمة في عمله الخاص، يخلق ييتس شعورا بالخلود والعالمية، ويربط تجارب الشيخوخة بالعواطف والتجارب الإنسانية الأوسع. يضيف استخدام ييتس للرمزية والأساطير عمقا وتعقيدا لاستكشافه للشيخوخة في شعره.

وعلاوة على ذلك، غالبا ما يتميز استكشاف ييتس للشيخوخة بإحساس بالحنين والشوق إلى الماضي. في قصائد مثل "البجع البري في كول"، يتأمل في مرور الوقت والتغيرات التي تأتي مع الشيخوخة. يعبر ييتس عن شعور عميق بالحزن والندم على طبيعة الحياة العابرة، ويلتقط المشاعر المريرة التي غالبا ما تصاحب الشيخوخة. من خلال لغته المؤثرة والمتأملة، ينقل ييتس الحنين الحزين إلى الماضي الذي يمكن أن يحدد تجربة التقدم في السن.

يتميز تصوير ييتس للشيخوخة بإحساس بالقبول والاستسلام. في قصائد مثل "البرج"، يتأمل في حتمية الشيخوخة والحاجة إلى التصالح مع الموت. لا يتجنب ييتس حقائق الشيخوخة، لكنه يواجهها وجها لوجه بشجاعة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الهوية هي موضوع مركزي في شعر عزرا باوند وتي إس إليوت، وهما اثنان من أهم وأكثر الشعراء تأثيرا في الحركة الحداثية في أوائل القرن العشرين. لقد تعمق الشاعران في مسائل الذات والفردية والبحث عن المعنى في عالم سريع التغير. في أعمالهما، يستكشفان التعقيدات والفروق الدقيقة للهوية الشخصية، والتي غالبًا ما تعكس التفتت وخيبة الأمل في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى.

لقد تصارع باوند وإليوت مع فكرة الذات الحديثة ككيان معقد ومتعدد الأوجه. في أعمال مثل "الأرض الخراب" و"أغنية حب ج. ألفريد بروفروك"، يستكشف إليوت الطبيعة المجزأة للهوية في مجتمع مجزأ. غالبا ما تطارد شخصياته شعور بالاغتراب والانفصال عن أنفسهم والعالم من حولهم. وعلى نحو مماثل، يدرس باوند فكرة الذات المكسورة في قصائد مثل "الأناشيد"، حيث يجرب أصواتا ووجهات نظر متعددة لنقل شعور بالارتباك والضياع.

كما يستكشف الشاعران دور التقاليد والتراث في تشكيل الهوية الشخصية. وقد استعان باوند بشكل كبير بالأدب الكلاسيكي والشعر الصيني في أعماله، مما يعكس إيمانه بأهمية الاستمرارية الثقافية والجذور. وفي قصائد مثل "هيو سيلوين ماوبرلي"، يتأمل في التوتر بين الماضي والحاضر، والنضال من أجل التوفيق بين متطلبات التقاليد وضرورات الحداثة. وبالمثل، يشير إليوت إلى مجموعة واسعة من المصادر الأدبية والثقافية في عمله، مستمدا كل شيء من دانتي إلى شكسبير إلى الكتب المقدسة الهندوسية لإنشاء نسيج غني من الإشارات والإشارات التي تتحدث عن تعقيد الهوية الشخصية.

بالنسبة للشاعرين، فإن البحث عن الهوية هو أيضا بحث روحي ووجودي عميق. في قصائد مثل "الرباعيات الأربع"، يتصارع إليوت مع أسئلة الإيمان والفداء والبحث عن المعنى في عالم يبدو غالبا خاليا من الغرض. غالبًا ما تكون شخصياته في رحلة روحية، تسعى إلى تجاوز حدودها الأرضية والاتصال بشيء أعظم منها. وعلى نحو مماثل، غالبًا ما يكون استكشاف باوند للهوية مشبعا بإحساس بالبحث الميتافيزيقي، حيث يتعمق في أسرار الوعي البشري وطبيعة الوجود نفسه.

يرتبط موضوع الهوية ارتباطا وثيقا أيضا بمسائل اللغة والتواصل في أعمال باوند وإليوت. كان كلا الشاعرين مبتكرين في استخدامهما للغة، حيث جربا الشكل والإيقاع والصور لنقل الطبيعة المراوغة غالبًا للهوية الشخصية. تعد قصيدة "في محطة المترو" لباوند وقصيدة "أغنية حب ج. ألفريد بروفروك" لإليوت مثالين قويين لكيفية استخدام اللغة لالتقاط تعقيد وغموض التجربة الفردية. في أعمالهما، تصبح اللغة وسيلة لاستكشاف حدود التعبير عن الذات والتحديات التي يفرضها نقل ما لا يوصف.

فضلا عن ذلك، يتعامل باوند وإليوت أيضاً مع فكرة الهوية باعتبارها بناء اجتماعيا، تشكله ضغوط وتوقعات المجتمع. وفي قصائد مثل "الأرض الخراب" و"الأناشيد"، يستكشفان الطرق التي يمكن بها للقوى الخارجية أن تشكل الهوية الفردية وتفرض قيوداً على الحرية الشخصية. كان الشاعران منسجمين تماما مع الاضطرابات السياسية والاجتماعية في عصرهما، وتعكس أعمالهما اهتماما عميقا بالطرق التي يمكن بها لهياكل السلطة أن تؤثر على الشعور بالذات وتشوهه.

وفي الوقت نفسه، يحتفل الشاعران أيضا بإمكانية الوكالة الفردية وتحديد الذات في مواجهة الضغوط الخارجية. وفي أعمال مثل "الرجال الجوف" لإليوت و"الأغنية الخامسة والأربعون" لباوند، يقدمان رؤى قوية للمقاومة والتمرد ضد قوى المطابقة والسيطرة. غالبا ما تؤكد شخصياتهم على هوياتهم الفريدة في تحدٍ للمعايير المجتمعية، وتحتضن تعقيداتهم وتناقضاتهم كمصدر للقوة والمرونة.

يقدم شعر عزرا باوند وتي إس إليوت استكشافا غنيا ومعقدا لموضوع الهوية في جميع أشكالها العديدة. من خلال استخدامهم المبتكر للغة، وانخراطهم العميق في التقاليد والثقافة، ورؤاهم الروحية والوجودية العميقة، يدعون القراء إلى التأمل في طبيعة الذات والبحث عن المعنى في عالم يبدو غالبًا فوضويًا ومجزأ. في أعمالهم، تظهر الهوية كظاهرة متغيرة ومتطورة باستمرار، تتشكل من خلال العديد من التأثيرات والتجارب. يتحدانا باوند وإليوت لاحتضان تعقيدات هوياتنا، والبحث عن الحقائق التي تكمن تحت السطح، والعثور عليها.

***

محمد عبد الكريم يوسف

هناك كلمة خرجت ودرجت على لسان البعض.

(الساحة التشكيلية المحلية غنية بآلاف الفنانين وهم في تزايد يومي).

وأنا أرى أن هؤلاء البعض هم  أصحاب الآراء المتبدلة وفق ما يتطلبه الموقف وما تقتضيه مصالحهم الموهومة والمزعومة.. هي كلمة مطعمة بحس وطني زائف فهي تخلق دفاعاتها عبر استعارتها جملاً قد تصلح لخطاب وطني شعبوي تعبوي ولكنها تتنافي مع الحقيقة والواقع فهي لا تنتمي سوى للخيانة العظمى وللمحاولات البائسة واليائسة في عرقلة عجلة التشكيل وعجلة التطور والحياة.. فحين يقتضى الموقف وتقتضي مصالحهم الموهومة هذا  لن يكون أمامهم سوى اتهام  الناقد بالقصور والتقصير لأنه لم يشمل تلك الآلاف المؤلفة في دراساته.

إن تجاوزنا تعريف الفن والفنان وشملنا كل رسم لوحة أو قدم عملاً ضمن تلك التسمية..فحن لا نستطيع أن نتجاوز مفهوم الابداع الذي لا يمكن قياسه سوى من خلال الساحة الأكثر اتساعا..أما     ً

لماذا ينتمي هذا الخلط للخيانة؟

هو ينتمي للخيانة من ناحيتين..أولهما: هو يفقد تلك الكلمة رهجتها وقيمتها ومعناها ومحتواها فهذا اللقب الذي الذي كان الحافز وكان المكافئة الأجمل لطالب الفن بعد مسيرة تكللت بالنضج..هذا اللقب سوف تسقط قيمته عند العامة حين يعطى لمن هب ودب.

ثانياً: حين يوضع هذا اللقب في غير موضعه بغض النظر عن الدوافع.. لن تعكس نتائجه سوى الكثير من الملل والكسل والتقاعس والغرور..

وحين يتعلم الفنان من خلال تجربته وفي مخاض اللوحة ألا يُحَمِل عمله ما لا يستطيع تحمله.. حينها سيعي  ما أقصده.. وسيعي تماماً حجم الضرر الذي كان من الممكن أن يلم به لو أنه استسلم للبريق الخادع لتلك الكلمة.. أو لأي كلام غير مسؤول من قارئ لم يدرك المعنى ولم يعي من مفهوم الناقد والنقد سوى الشكل الظاهري للكلمة.

إن لم يكن الفنان محصناً و متمكناً وذا فكر وتجربة فهو سيسقط في براثن المديح الكاذب ولن يتطور عمله بالمطلق.. والحقيقة أن (دوافع بياعوا العبارات الكاذبة لا تنتمي سوى لزيادة رصيدهم الشعبي).

وحين يقصد أمثال هؤلاء الكتابة النقدية..حينها سيقعون في فخ النمطية لأنهم أساساً غير مؤهلين للخوض والنبش في القيم التعبيرية والجمالية وغير قادرين على الكشف عن القيم الإبداعية المكتنزة في عمق التجارب.

(ولأنهم يتجولون على السطح ولا يستطيعون تجاوز القشور ستبقى كتاباتهم موصومة بالتشابهات سواء كتبوا عن فنانين مخضرمين أو شباب).

لا يوجد نص نقدي ينطبق على جميع الفنانين ولكل فنان نصه المنبثق عن تجربته وعن قدرة الناقد على الكشف عن بعض الخفايا حتى لصاحب التجربة.

وكأني أسمع سؤالاً يكاد يختنق بين الحلق واللسان؟

هل تقصد أن طلاب الفن يجب أن يبقوا بعيداً وبمنأى عن الناقد؟

أقول طالما هم في طور التجريب ولم تصل تجاربهم لمرحلة النضج بعد.

فمفهوم الناقد سيكون مختلف هنا لأن النقد مرتبط بالإضاءة على التجارب التي حققت النضج..وملامح ما يود إيصاله الفنان هو مسطرة الناقد..فإن لم تتبلور تلك التجربة من تلقاء ذاته ستكون تابعة ولن تحقق كينونتها

..هم يحتاجون لمعلم ولكن..عظامهم لازالت طرية وأفكارهم لم تتبلور بعد. وأي تأثير خارجي سيكون خطيرا إن اتسم بتجاوب أعمى ببغائي..ولن يكسبهم هذا التأثير غير التقليد.. وسيبقون بمنأى عن الفردية والفرادة لاحقاً..إذاً  يفترض أن تكون تجربتهم الذاتية والحياتية والفنية هي المعلم الأول لهم.. ثم التأمل الملاحظة المتابعة.. والقراءة الفاعلة والفعالة وليست تلك التي تمر مرور الكرام..حينها.. كل  ما حولهم يتحول إلى معلم.. وقبل كل هذا هم أنفسهم الناقد والفنان والمعلم.

وأقول أحيراً  لنكن بالصورة التي فطرنا عليه ننموا ونكبر من خلالها حينها لن تزدنا قسوة الحياة والمسؤوليات سوى رأفة ورقة ومحبة ولن تزدنا سوى إصرارا على مواصلة درب الحلم الذي يحركه ذلك الحب الدفين الذي كان ولازال  ينبض في ذاكرة الروح.. هو الحب الدافع والرافع لتلك الرغبات العارمة.. لمواصلة العطاء وترميم الجروح.

***

الفينيق حسين صقور

...........

* مقتطف من ملف الناقد والفنان

 

تلعب السحر الأسود والتعويذات دورا مهما في ألف ليلة وليلة، المعروفة أيضا باسم ألف ليلة وليلة، وهي مجموعة من الحكايات الشعبية في الشرق الأوسط تم تجميعها خلال العصر الذهبي الإسلامي. طوال القصص، نتعرف على السحرة والساحرات والجن الذين يمتلكون قدرات سحرية قوية تشكل حياة الشخصيات. تهدف هذه المقالة إلى التعمق في تصوير السحر الأسود والتعويذات في ألف ليلة وليلة والآثار المترتبة عليها على الشخصيات والسرد ككل.

في ألف ليلة وليلة، غالبا ما يرتبط السحر الأسود بالقوى المظلمة والشريرة التي تسعى إلى إيذاء الآخرين. يتم تصوير السحرة والساحرات وهم يستخدمون قواهم للتلاعب بالأفراد والسيطرة عليهم لتحقيق مكاسبهم الخاصة. على سبيل المثال، في قصة علاء الدين والمصباح العجيب، يخدع الساحر علاء الدين لاستعادة مصباح سحري من كهف، فقط لمحاولة سرقته لنفسه لاحقًا. تسلط هذه الخيانة الضوء على الطبيعة الخادعة للسحر الأسود وإمكاناته في التسبب في ضرر لأولئك الذين يقعون ضحية لسحره.

من ناحية أخرى، يتم تصوير التعويذات كأشياء أو تعويذات لها القدرة على التأثير على سلوك أو رغبات الآخرين. في ألف ليلة وليلة، غالبًا ما تُستخدم التعويذات لجلب الحب أو الحظ السعيد أو الحماية للشخصيات. على سبيل المثال، في قصة الصياد والجني، يستخدم الصياد تعويذة لاستدعاء جني يمنحه ثلاث أمنيات. يمنح هذا التعويذ الصياد القدرة على تغيير ظروفه وتحسين حياته، مما يُظهر الجانب الإيجابي للقدرات السحرية.

يعكس استخدام السحر الأسود والتعويذات في ألف ليلة وليلة الإيمان بالقوى الخارقة للطبيعة ووجود عالم خارج عالمنا. طوال القصص، يواجه الشخصيات الجن والشياطين والكائنات الصوفية الأخرى التي تمتلك قوى تتجاوز الفهم البشري. تضيف هذه العناصر السحرية عنصرا من الغموض والعجب إلى الحكايات، فتأسر القراء بحكايات المغامرة والسحر.

كما يعمل السحر الأسود والتعويذات كوسيلة لاختبار سلامة الشخصيات الأخلاقية وقدرتها على الصمود. في العديد من القصص، يواجه الشخصيات إغراءات وتحديات تختبر قوة شخصيتهم وقدرتهم على مقاومة إغراءات السحر الأسود. على سبيل المثال، في قصة الحصان الأسود، يجب على الأمير مقاومة إغراءات الساحرة التي تسعى لإغوائه بتعاويذها السحرية. إن قدرته على البقاء وفياً لقيمه ورفض تقدم الساحرة تؤدي في النهاية إلى انتصاره على الشر.

وعلاوة على ذلك، فإن استخدام السحر الأسود والتعاويذ في ألف ليلة وليلة يسلط الضوء على ديناميكيات القوة التي تلعب دورا في القصص. غالبًا ما يشغل الشخصيات الذين يمتلكون قدرات سحرية منصب سلطة أو نفوذ على الآخرين، باستخدام قواهم للسيطرة على من حولهم أو التلاعب بهم. يخلق هذا الخلل في القوة التوتر والصراع داخل السرد، مما يدفع الحبكة إلى الأمام ويضيف تعقيدا إلى علاقات الشخصيات.

في الوقت نفسه، يرمز استخدام التعويذات والأشياء السحرية في ألف ليلة وليلة أيضًا إلى رغبة الشخصيات في التحول والتغيير. يبحث العديد من الشخصيات عن أشياء أو تعويذات سحرية على أمل تغيير ظروفهم أو تحقيق رغباتهم. سواء كان الأمر يتعلق بالحب أو الثروة أو السلطة، فإن الشخصيات مدفوعة بشوق إلى شيء يتجاوز واقعهم الحالي، مما يدفعهم إلى البحث عن مساعدة القوى الصوفية.

بشكل عام، يضيف تصوير السحر الأسود والسحر في ألف ليلة وليلة عمقا وتعقيدا إلى القصص، مما يثري السرد بموضوعات القوة والإغراء والتحول. من خلال استخدام العناصر السحرية، تستكشف القصص الحدود بين الخير والشر، والخارق للطبيعة والدنيوي، والرغبة البشرية في التغيير والتسامي. في النهاية، يعمل وجود السحر الأسود والسحر في ألف ليلة وليلة على جعل القصص أكثر جاذبية وفتنة، ويجذب القراء إلى عالم من السحر والعجب.

***

محمد عبد الكريم يوسف

تتصادم الصور المختلفة والأحداث، تولد هستيريا تتشابك فيها الخيوط وتنفعل العبارات. الأيام لا ترغب في ولادة حملها الثقيل، باقية حبلى بالأخبار وسوء الطالع. البعض يعلق على شماعة فهمه كل التفسيرات فالضلوع بالتفسير والمبررات مهنة متداولة يمتهنها كل لحظة عدد كبير، ماضيه متناقض مع حاضره كتناقض المشرقين. فسحة هناك وأخرى هنا تشغل الذاكرة وتبعدها من تصادم المتناقضات.. ميزانية الدولة كفيلة بملاعق الذهب الممتلئة شهدا، لكنها عاجزة أن توفر كسرة تعليم لرمق الأمية المتفشي وغسيل الأدمغة المنظم.. التناقض سمة فيزيائية تجيز للمرء أن يلعن سيده إن انتهت سيادته وتسمح بقتل أصحاب الجلالة.. صراخ صامت مختبئ تحت قبة التفكير لا يتحمله ما يدور في الأفلاك الهائمة بنظام صارم هو الوحيد الذي لا يخالف الطقوس، دوران الساعة يرفض العودة الى الوراء، والى قبل قليل، لا يأبه بما نريد، لكن الذاكرة تجبرنا أن نغازل البعد بكل شوقنا اليه، يغادروننا معفرين بلون الوطن وبعضهم بلون عسعسة الليل ممتزجا بحمرة مختلطة بغبار الانفجار. نعود للمكان نحمل ذاكرتنا ودموعنا التي نشحنها كل يوم متأهبة لحدث جديد. إنها سرياليتنا وسريالية الوطن الذي خالف الطبيعة.

***

وداد فرحان

 

"في ألف ليلة وليلة" هي مجموعة من الحكايات الشعبية القديمة في الشرق الأوسط والتي تناقلتها الأجيال. تروي هذه الحكايات شهرزاد، الملكة الشابة التي يجب أن تحافظ على اهتمام زوجها القاتل الملك شهريار، من خلال سرد قصة جديدة له كل ليلة. وبذلك تنقذ حياتها وتفوز في النهاية بقلب الملك. القصص نفسها متنوعة وآسرة، تتراوح من المغامرات الملحمية إلى المآسي الرومانسية إلى الأمثال الأخلاقية.

من أشهر القصص في "في ألف ليلة وليلة" قصة علاء الدين ومصباحه السحري. تتبع هذه الحكاية مغامرات شاب فقير يكتشف مصباحًا يحتوي على جني قوي يمنحه أمنياته. ومن خلال المكر والشجاعة، يتمكن علاء الدين من التغلب على خصومه والفوز بقلب الأميرة. القصة هي مثال كلاسيكي لقوة المثابرة والحيلة.

من القصص الشعبية الأخرى في المجموعة قصة علي بابا والأربعين لصًا. تدور أحداث هذه القصة حول مغامرات حطاب متواضع يكتشف كهفًا مليئًا بالكنوز التي تخص عصابة من اللصوص. ومن خلال التفكير السريع والشجاعة، يتمكن علي بابا من التغلب على اللصوص والاستيلاء على الكنوز لنفسه. القصة هي شهادة على قوة الذكاء والشجاعة في مواجهة الخطر.

تنتشر موضوعات الأخلاق والعدالة في جميع القصص في "في ألف ليلة وليلة". تتميز العديد من القصص بشخصيات يجب أن تواجه معضلات أخلاقية وتتخذ خيارات صعبة من أجل التغلب على الشدائد. من خلال أفعالهم، يوضح الشخصيات أهمية الصدق والولاء والرحمة. يتم نسج هذه الموضوعات في جميع القصص وتعمل كدروس قيمة للقراء من جميع الأعمار.

بالإضافة إلى الدروس الأخلاقية، فإن القصص في "في ألف ليلة وليلة" مليئة أيضًا بعناصر خيالية ومخلوقات سحرية. تملأ الجن والسجاد الطائر والسحرة الأقوياء القصص، مما يخلق شعورًا بالدهشة والسحر للقارئ. وتضيف هذه العناصر إلى ثراء وعمق القصص، فتخلق عالمًا نابضًا بالحياة وجذابًا للقراء لاستكشافه.

ومن أكثر الجوانب المقنعة في "في ألف ليلة وليلة" تصوير الشخصيات النسائية القوية والمستقلة. ففي جميع القصص، تُصوَّر النساء كأفراد أذكياء وذوي حيلة وشجاعة وقادرات على التغلب على الشدائد والتفوق على نظرائهن من الذكور. وشهرزاد نفسها هي مثال رئيسي لشخصية أنثوية قوية تستخدم ذكائها وذكائها للبقاء على قيد الحياة وتغيير قلب الملك في نهاية المطاف.

كما تعرض القصص في "في ألف ليلة وليلة" نسيجًا غنيًا من التأثيرات الثقافية والتاريخية. وتستمد القصص من مجموعة متنوعة من الثقافات والتقاليد الشرق أوسطية، وتدمج عناصر من الفولكلور الإسلامي والأساطير الفارسية والأساطير العربية. ومن خلال هذه التأثيرات، تقدم القصص للقراء لمحة عن عالم الشرق الأوسط النابض بالحياة والمتنوع.

بشكل عام، "في ألف ليلة وليلة" عبارة عن مجموعة خالدة من القصص التي لا تزال تجذب خيال القراء في جميع أنحاء العالم. من خلال شخصياتها الجذابة وقصصها الجذابة وتأثيراتها الثقافية الغنية، تقدم القصص للقراء نافذة على عالم خيالي مليء بالمغامرة والسحر والدروس الأخلاقية. تظل المجموعة شهادة على قوة سرد القصص والجاذبية الدائمة للخيال البشري.

***

محمد عبد الكريم يوسف

قد كانت العطور جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الإنسانية لعدة قرون، حيث تأسر حواسنا وتثير العواطف، وهي تحمل عميقة في حياتنا، وهي الأكاسير الجذابة المعبأة في زجاجات رائعة، كانت جزءًا لا يتجزأ من الحضارة الإنسانية لعدة قرون. في الحضارات القديمة مثل مصر واليونان وروما، ارتبطت العطور بالطقوس والاحتفالات الإلهية وبعيدًا عن مجرد الروائح، تجسد العطور نسيجًا ثقافيًا غنيًا، وتقدم العديد من المزايا وتمارس تأثيرًا نفسيًا عميقًا على الأفراد. وتُعتبر صناعة العطور صناعة ضخمة وذات قيمة اقتصادية كبيرة، فوفقًا لتقديرات احدى شركات العطور، كانت قيمة سوق العطور العالمية في عام 2020 تقدر بنحو 70 مليار دولار أميركي،ومن المتوقع أن تستمر في النمو، حيث يشهد سوق العطور نموًا مستدامًا، وذلك بفضل الزيادة المستمرة في الطلب في مختلف أنحاء العالم، ويسهم التوسع في الثقافات المتعددة وتزايد الوعي بالعطور وتأثيرها في زيادة الطلب على المنتجات العطرية، وتشهد صناعة العطور التجارة العالمية الواسعة، حيث تستورد وتصدر البلدان العطور والمكونات العطرية بكميات كبيرة، وتعتبر مصدرًا مهمًا للتوظيف وخلق فرص عمل، كما تسهم العطور في القيمة المضافة للعديد من الصناعات الأخرى مثل السياحة

يقول كريستيان ديورمصمم الأزياء الفرنسي الشهير العطور هي الصمت الذي يتحدث إلينا، حتى لو كنا لا نسمعها، والتأثيرات النفسية للعطور تعتمد على الروائح المحددة وتركيبتها الكيميائية، والذكريات والتجارب الشخصية المرتبطة بتلك الروائح، والثقافة والتراث الاجتماعي الذي يؤثر على تفسير العطور واستخدامها، فيمكن أن تكون لها تأثير قوي على الإحساس بالانتماء والمشاركة في الحدث، يقولون ــ ان العطور هي الأصوات الصامتة للغة الجمال، فهي تتحدث بلا كلمات وتروي قصصًا بلا حروف، وتترك أثرًا لا يمحى في ذاكرتنا، فعندما تشم عطرًا مميزًا، فتأكد أنه يحمل قصة فريدة وينبض بأناقة لا تضاهى،؛ للعطور أيضًا تأثيرات نفسية عميقة على الإنسان، فرائحة معينة قادرة على إحداث تأثيرات مختلفة على المزاج والعواطف وزيادة الإيجابية العاطفية، فبعض الروائح المنعشة والحيوية مثل الحمضيات تساعد في تحسين المزاج وتعزيز النشاط والانتعاش، واللافندر والبخور يعرف بتأثيرها التهدئة والاسترخاء، وتستخدم في العلاج العطري وفنون الاسترخاء لتهدئة العقل وتخفيف التوتر والقلق، والروزماري والنعناع التي يقال إنها تعزز التركيز وتحسن الذاكرة، ويتم استخدامها في بعض الأحيان في الدراسة والعمل لتعزيز الأداء العقلي، والزهور البيضاء والسوسن تعتبر مهدئة ويمكن أن تساعد في تحسين المزاج والتخلص من الاكتئاب الخفيف

والعطر يعبر عن ثقافة الانسان، ولها تأأأثير كبير عليه وتعكس تاريخ حياته في احيان كثيرة، حيث تعود الجذور إلى العصور القديمة، فكانت تستخدم في الاحتفالات المتعددة، ومنذ ذلك الحين تطور استخدامها ليشمل مختلف جوانب الحياة اليومية، فهي تختلف استخداماتها بين الشعوب، ففي الثقافة اليابانية يفضل الكثير من الناس استخدام العطور الخفيفة والرقيقة والتي تتميز بالانتعاش، بينما في الثقافة العربية يفضل استخدام العطور الثقيلة والعميقة والتي تدوم طويلاً، ويُعتبر استخدام العود والعنبر عند الشرقيين رمزًا للتقاليد والفخامة، بينما يُعتبر استخدام اللافندر والورود في الثقافة الغربية رمزًا للرومانسية والأناقة،وفي بعض الثقافات يُعتقد أن العطور تحمل قوى سحرية وروحية وتستخدم في الطقوس الدينية والشفاء، في حين تُعتبر في ثقافات أخرى مجرد وسيلة للتجمل والتعبير الشخصي، وهناك اختلافات جينية بين الأفراد تؤثر على استجابتهم للروائح، وقد يتسبب ذلك في تفضيل بعض الروائح عن غيرها وتوجهات ذوقية شخصية في استخدام العطور، العطور هي الرمز الأقوى للذكريات فهي الأحاسيس المرئية، وهي الشعور بالجمال الذي لا يستطيع الكلام وصفه، وهي حكاية لا تُروى بالكلمات، بل تُشم وتُعيش، تحمل في طياتها الأحاسيس والأحلام والحب، وتجعل الحياة أكثر سحرًا وإثارة، وهي لغة الأنوف، وكل منا له قصته الخاصة معها، فهي التي تُطلق عواطف الإنسان وتعزز جماله الداخلي، وهي الذاكرة التي تستمر في البقاء معنا لفترة طويلة.

تحتل العطور مكانة مهمة في الثقافة الإنسانية، حيث تقدم العديد من المزايا وتؤثر على حياتنا على مختلف المستويات. إنها تعزز جاذبيتنا الشخصية، وتعزز ثقتنا، وتوفر وسيلة للتعبير عن الذات. تساهم العطور في النسيج الثقافي للمجتمعات ولها تأثير عميق على رفاهيتنا ونفسيتنا. لذلك، في المرة القادمة التي تبحث فيها عن زجاجة العطر الرائعة تلك، تذكر العالم المعقد الذي تمثله والتأثير التحويلي الذي يمكن أن يحدثه على حياتك، تتمتع بعض العطور بخصائص علاجية ويمكن أن تؤثر بشكل إيجابي على صحتنا فهي، معروفة بتأثيراته المهدئة كأداة للاسترخاء وتقليل التوتر وتحسين حالتنا العقلية والعاطفية بشكل عام، ويمكن  لرائحة العطر الآسرة أن تثير الفرح والإثارة والسرور، مما يضيف طبقة من الثراء الحسي لحياتنا

تحتل العطور مكانة خاصة في العديد من الطقوس والاحتفالات الثقافية. يتم استخدامها في الممارسات الدينية، مثل طقوس المسحة والتطهير، وكذلك المناسبات الاجتماعية، بما في ذلك حفلات الزفاف والاحتفالات والتجمعات الرسمية. أصبح فن صناعة العطور جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية، حيث يعرض الإبداع والحرفية لمجتمع معين

***

نهاد الحديثي

 

عندما قرأت رواية سبعون "لميخائيل نعيمة" حلقت روحي عاليا، وشعرت بخفة وتسامي وبهجة ملئت سماء قلبي. أبهرني بأسلوبه الرشيق العذب، لمست عبق صدقه وتواضعه، مراقبته المستمرة لنفسه تأملاته صلته بالكون والطبيعة، تفرده ونضاله وصبره، اختياره للأدب ومواصلة الكتابة رغم حصوله على بكالوريوس حقوق من جامعة واشنطن، مسايرته لشغفه في فك طلاسم النفس، وخبايا الروح، وغموض الفؤاد الهمتني. فعندما ينتابني الشوق والتوق لمسك القيم العليا في زمن تهالكت فيه المنظومة الأخلاقية حيث اشعر أحيانا بالغربة، وأحيانا ثانية ينتابني بعض الشك والتساؤل هل انا غير واقعية؟ هل ان الصدق والطيبة والانفتاح على خلق الله ومحبة الناس وتجسيد الذات بلا اقنعة ضعف وقلة مهارة في فن عيش الحياة؟ فجاءت رواية سبعون وهي سيرة ذاتية لتمد لي يد ممتلئة بالطمأنينة والتسامي ولون لحياة حرة كريمة كان صاحبها هو بقدسيته وقوته وضعفه وحيرته وتساؤلاته، وتيهانه، وطريقه، ورشده.4303 ميخائيل نعيمة

سحرتني هذه العبارات "ستكون لي خلوتي، وستكون لي فيها سياحتي بعيدة في العالم اللامتناهي، وسأعود من سياحتي باليقين الذي تطمئن اليه النفس من حيث وجودها والغاية من وجودها. وذلك لن يتم لي الا بغربلة النفس من شوائبها. واذ انا احسنت الغربلة تناثرت عن كاهلي اعباء كثيرة. فانجلت باصرتي وبصيرتي، وأصبح في امكاني ان اعكف على تنظيف بيتي الروحي وترتيبه وان اتبين هدفي من وجودي، ثم ان امضي في شق طريقي الي ذلك الهدف".

هذه الرواية صاحبتها وصاحبتني بأجزائها الثلاثة لمدة أكثر من شهر، وحين انتهيت منها شعرت بحزن يشبه الحزن الذي يحل لحظة وداع صديق صدوق دافئ قريب للقلب، مؤنس، خفيف الظل مر الوقت برفقته بسرعة البرق، وظلت الروح بتوق وترقب للقاء اخر هكذا كان حالي مع سيرة "ميخائيل نعيمة".

أقف بصمت وتدبر وتامل امام مقاربته لمكنون الانسان بالبحر وطبقاته وابعاده واعماقه، وارتعاشاته وانتفاضاته، وتبخراته وتجمداته، وما ينطلق منه ليعود اليه من ينابيع وجداول وانهار.

اشعر بروحي كفراشة تتنقل بين موضوعات الرواية وكأنها حزمة ورد انهل من رحيقها غذاء لروحي. وانا اقرأ اشعر إنني اتنقل بين لوحات فنية يكمن فيها الكثير من الجمال، ما ان انتقل من لوحة الا وشعور الغبطة والنشوة يغمر قلبي، لجمال النصوص طعم يفتح شهية القلب والذهن لالتهام المزيد، أقف بكل اجلال امام هذه اللوحة التي يصف فيها وجود وشعور الام بأبهي وصف فيقول "يا لقلب الام! انه من غير هذا العالم، ومن عنصر ابقي وانقي وأشرف بما لا يقاس من اللحم والدم. انها النفحة العجيبة التي بها تحيي الاكوان وتتماسك، والمحور الازلي، الابدي الذي عليه تدور، وانه لأوسع من الزمان والمكان، والأقوى من الانحلال والزوال".

في رواية سبعون التقط الكثير من العبارات والجمل كأني التقط درر متناثرة هنا وهناك يدهشني ظاهرها وباطنها ومن هذه الدرر تلك العبارة التي لامست روحي " الفرح ليس وقفا على الأغنياء. والكدر ليس منحصرا في الفقراء. انهما في الفكر والقلب أولا، والحياة عادلة في توزيعها الفرح والترح على بنيها. وقد لا تكون المدنية اجمالا غير ارهاق للإنسان وانحرف به عن طبيعته وطريقه القويم". وهذه العبارة التي تتوافق وتنسجم مع مآلات روحي " أنى لأ وثر القلة مع صفاء الذهن والقلب على الوفرة مع اضطراب العقل والقلب معا. وان يكون لي هدف نبيل فأدب اليه دبيب النملة وأدركه لخير عندي من ان اطير بجناحي نسر من هدف خسيس الى هدف اخس".

في نهاية سياحتي في عالم ميخائيل نعيمة وجولاتي في تفاصيل الاحداث وتنقلاتي بين مواقف الأيام والمها وافراحها اربت على كتف روحي برويه وهدوء لأطمئنها أني عائدة لها.

***

د. حميدة القحطاني

كان أدريان هنري شاعرا وفنانا وموسيقيا إنجليزيا مشهورا ارتبط بمشهد الشعر النابض بالحياة في ليفربول في الستينيات. يتميز عمله بطبيعته التجريبية، حيث يجمع بين عناصر السريالية والفن الشعبي والتعليق الاجتماعي. كان هنري جزءا من المجموعة المعروفة باسم "مشهد ليفربول"، والتي ضمت زملائه الشعراء روجر ماكجوف وبريان باتن. معًا، أحدثوا ثورة في مشهد الشعر بنهجهم الجديد غير التقليدي.

غالبا ما يستكشف شعر هنري موضوعات الحب والسياسة والتجربة الإنسانية. يُعرف عمله باستخدامه للصور الحية ولعب الكلمات والشعور بالعفوية. كان هنري مهتمًا بشكل خاص بجسر الفجوة بين الثقافة العالية والمنخفضة، مستوحى من مصادر متنوعة مثل الموسيقى الشعبية والشعارات الإعلانية والأدب الكلاسيكي. جعل هذا النهج الانتقائي للشعر هنري رائدا في حركة الطليعة البريطانية.

واحدة من أشهر قصائد هنري هي "الحب هو ...". في هذه القصيدة، يستكشف هنري الجوانب المختلفة للحب، مستخدما عبارات بسيطة وتصريحية لالتقاط تعقيد وجمال العاطفة. القصيدة مرحة وعميقة، وتُظهِر قدرة هنري على نقل المشاعر العميقة باقتصاد اللغة. "الحب هو..." تم جمعها على نطاق واسع ولا تزال كلاسيكية محبوبة للشعر الحديث.

بالإضافة إلى شعره، كان هنري أيضا فنانا تشكيليا موهوبا. كان شخصية رئيسية في حركة فن البوب البريطانية، حيث أدرج عناصر الكولاج والرسم والنحت في عمله. غالبًا ما عكس الإنتاج الفني لهنري شعره، حيث استكشفت كلتا الوسيلتين موضوعات ثقافة المستهلك ووسائل الإعلام وتقاطع الفن والحياة اليومية. كان فن هنري وشعره لا ينفصلان، حيث كان كل منهما يعلم ويثري الآخر.

لا يمكن المبالغة في تأثير هنري على مشهد الشعر البريطاني. كان رائدًا دفع حدود الشكل الشعري التقليدي والموضوع. ألهم عمل هنري جيلا من الشعراء لتجربة اللغة والصور والبنية بطرق جديدة ومثيرة. لا يزال إرثه باقيا في أعمال الشعراء المعاصرين الذين يواصلون استكشاف إمكانيات الكلمة المكتوبة.

على الرغم من وفاته في وقت غير مناسب في عام 2000، فإن تأثير أدريان هنري على عالم الشعر لا يزال قائما. لا يزال عمله وثيق الصلة وجذابًا كما كان دائما، ويستمر في أسر القراء بذكائه وبصيرته وأصالته الصرفة. يتجاوز شعر هنري الزمان والمكان، ويتحدث عن الحقائق والعواطف العالمية التي تتردد صداها لدى الجماهير من جميع الأعمار. إن تأثيره الدائم على مشهد الشعر البريطاني هو شهادة على موهبته ورؤيته.

كان أدريان هنري شاعرا يتمتع بموهبة وإبداع هائلين، ولا يزال عمله يلهم القراء ويسحرهم حتى اليوم. إن نهجه الانتقائي في الشعر، الذي يمزج بين عناصر السريالية والفن الشعبي والتعليق الاجتماعي، يميزه كصوت فريد ومبتكر في الشعر البريطاني. لا يزال إرث هنري قائما في شعره وفنه والتأثير الدائم الذي أحدثه على عالم الأدب. يذكرنا عمل هنري بقوة اللغة في التقاط تعقيدات التجربة الإنسانية وإثارة الفكر والعاطفة والتأمل. إن شعر أدريان هنري هو شهادة على القوة الدائمة للإبداع والإمكانيات اللامحدودة للكلمة المكتوبة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

في عالم الشعر الحديث، يعتبر عزرا باوند وتي إس إليوت شخصيتين بارزتين لا يزال عملهما الإبداعي يتردد صداه بين القراء والعلماء على حد سواء. وبينما نتطلع إلى المستقبل، من المهم أن نفكر في كيفية استقبال وفهم شعرهما من قبل الأجيال الجديدة من القراء.

كان عزرا باوند من أشد المؤيدين للحركة الحداثية، وكثيرا ما دفع عمله حدود الأشكال الشعرية التقليدية. يستكشف عمله المبكر، مثل "الأناشيد"، موضوعات التاريخ والأساطير والسياسة بأسلوب تجريبي ومجزأ للغاية. كما أثر افتتان باوند بالثقافات واللغات القديمة على شعره، مما أدى إلى مزيج فريد من الشكل الكلاسيكي والحساسية الحداثية.

من ناحية أخرى، كان تي إس إليوت معروفا بشعره الفلسفي العميق والاستبطاني. غالبا ما يُنظر إلى عمله البارز "الأرض الخراب" على أنه أحد أعظم قصائد القرن العشرين، حيث تعكس بنيته المجزأة ولغته التلميحية خيبة الأمل واليأس في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى. استمرت أعمال إليوت اللاحقة، مثل "الرباعيات الأربع"، في استكشاف موضوعات الروحانية والوقت بطريقة أكثر تأملا واستبطانا.

تأثر كل من باوند وإليوت بشدة بتجاربهما في العيش في أوروبا ولقاءاتهما مع شخصيات أدبية بارزة أخرى في عصرهما. ساعدت مشاركة باوند في حركة التصوير وتعاونه مع فنانين مثل تي إس إليوت وويليام كارلوس ويليامز في تشكيل مسار الشعر الحديث. من ناحية أخرى، تأثر إليوت بشدة بصداقته مع باوند وانغماسه في الوسط الأدبي والثقافي في باريس.

بالنظر إلى المستقبل، من الواضح أن شعر باوند وإليوت سيستمر في الدراسة والتقدير لعمقه وتعقيده وإبداعه. لقد كان لأساليبهم الشعرية الفريدة واهتماماتهم الموضوعية تأثير دائم على تطور الشعر الحديث وما زالت تلهم أجيالاً جديدة من الشعراء والقراء.

وعلى وجه الخصوص، من المرجح أن يستمر تأكيد باوند على دور الشاعر كناقد ثقافي وتجربته مع الشكل واللغة في التأثير في السنوات القادمة. وعلى نحو مماثل، فإن استكشاف إليوت للموضوعات الروحية والوجودية في شعره سيظل ذا صلة مع استمرار القراء في التعامل مع أسئلة الهوية والمعنى والوجود.

ومع ذلك، من المهم أيضًا النظر في الانتقادات والجدالات المحيطة بباوند وإليوت، وخاصة فيما يتعلق بمعتقداتهم السياسية وارتباطاتهم الشخصية. لقد أدت آراء باوند المعادية للسامية والفاشية، فضلا عن مواقف إليوت الإشكالية تجاه العرق والجنس، إلى تعقيد إرثهما وإثارة تساؤلات حول الآثار الأخلاقية لعملهما.

مع تقدمنا، سيكون من الضروري للقراء والعلماء والمعلمين الانخراط بشكل نقدي في شعر باوند وإليوت، مع مراعاة كل من الإبداعات الجمالية والتعقيدات الأخلاقية لعملهما. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا ضمان استمرار تقدير وفهم شعرهما في سياقه التاريخي والثقافي الكامل، مع الاعتراف أيضا بالقيود والتناقضات في وجهات نظرهما للعالم.

وفي الختام، من المرجح أن يتميز مستقبل شعر عزرا باوند وتي إس إليوت بالاهتمام العلمي المستمر، وإعادة التفسير الإبداعي، والمشاركة النقدية. لقد تركت مساهماتهما الرائدة في الشعر الحديث علامة لا تمحى على المشهد الأدبي، ولا شك أن عملهما سيستمر في تحدي وإلهام القراء للأجيال القادمة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الخيانة الزوجية أو الزنا موضوع شائع في العديد من القصص الموجودة في "ألف ليلة وليلة"، والمعروفة أيضا باسم "الليالي العربية". وقد انتقلت هذه القصص، التي نشأت في الشرق الأوسط، عبر الأجيال وتم ترجمتها إلى العديد من اللغات، حيث أسرت القراء بخلفياتها الغريبة والغامضة. غالبا ما يتم تصوير الزنا في ألف ليلة وليلة على أنه فعل محرم يؤدي إلى عواقب على المتورطين فيه، مما يعكس المعايير والقيم المجتمعية في ذلك الوقت.

من أشهر القصص التي تتضمن الزنا في ألف ليلة وليلة حكاية شهرزاد، العروس الشابة التي تحكي القصص لزوجها الملك شهريار لتأخير إعدامها. كان لدى الملك شهريار عادة الزواج من زوجة جديدة كل ليلة وقتلها في صباح اليوم التالي، بسبب اعتقاده بأن جميع النساء خائنات. تستخدم شهرزاد براعتها في سرد القصص لأسر الملك وإبقائه مهتمًا بقصصها، وبالتالي تأجيل وفاتها الحتمية.

في قصة "الحصان الأسود"، الزنا هو أيضا موضوع بارز. يقع البطل الأمير أحمد في حب الأميرة باري بانو ويشرع في سلسلة من المغامرات للفوز بيدها للزواج. ومع ذلك، فإن الأميرة باري بانو متزوجة بالفعل من ملك قوي، مما يؤدي إلى مثلث حب يؤدي في النهاية إلى مأساة وحزن لكل من شارك. يتم تصوير عواقب الزنا في هذه القصة على أنها مدمرة، مع الخيانة والخسارة في المقدمة.

قصة أخرى تستكشف موضوع الزنا في ألف ليلة وليلة هي "حكاية نور الدين علي وابنه". في هذه القصة، يقع شاب يدعى نور الدين علي في حب امرأة جميلة تدعى قمر الزمان، فقط ليكتشف أنها متزوجة بالفعل من رجل آخر. يؤدي مطاردة نور الدين لقمر الزمان إلى سلسلة من سوء الفهم والصراعات، مما يسلط الضوء على عواقب الخيانة والألم الذي يمكن أن تسببه لمن شاركوا فيها.

غالبا ما يتم تصوير الزنا في ألف ليلة وليلة على أنه فعل معقد وغامض أخلاقيا، حيث تواجه الشخصيات خيارات صعبة وتواجه عواقب أفعالها. في العديد من هذه القصص، تؤدي الخيانة إلى الخيانة، وانكسار القلب، والخسارة، مما يؤكد على أهمية الولاء والإخلاص في العلاقات. تعمل القصص في ألف ليلة وليلة كحكايات تحذيرية، تحذر القراء من مخاطر الانحراف عن مسار البر والعواقب المحتملة للاستسلام للإغراء.

يتشابك موضوع الزنا في ألف ليلة وليلة أيضا مع قضايا مجتمعية أكبر، مثل الأدوار والتوقعات الجنسانية. في العديد من القصص، غالبا ما يتم تصوير النساء على أنهن ضحايا الخيانة الزوجية، ويعانين من عواقب الخيانة والخداع على أيدي أزواجهن أو عشاقهن. تسلط هذه الروايات الضوء على ديناميكيات القوة في العلاقات والمعاملة غير المتساوية للمرأة في المجتمع، وتسلط الضوء على الظلم الذي يمكن أن ينتج عن الزنا والخيانة الزوجية.

وعلى الرغم من النبرة الأخلاقية التي تتسم بها العديد من القصص في ألف ليلة وليلة، فهناك أيضا حالات يتم فيها تصوير الزنا في ضوء أكثر تعاطفاً. ففي حكاية "الحمّال وثلاث سيدات بغداد"، على سبيل المثال، تتم دعوة حمال شاب إلى منزل ثلاث نساء ثريات ويتورط في علاقاتهن الرومانسية. وتتحدث النساء إلى الحمال عن علاقاتهن وأسرارهن، الأمر الذي يكشف عن فهم أكثر دقة وتعقيدا للزنا وتأثيره على العلاقات.

يعمل الزنا في ألف ليلة وليلة كأداة سردية مقنعة تستكشف تعقيدات العلاقات الإنسانية والمعضلات الأخلاقية التي يواجهها الشخصيات. ومن خلال هذه القصص، تتم دعوة القراء إلى التفكير في عواقب الخيانة الزوجية والطرق التي يمكن أن تشكل بها مسار حياة المرء. وتقدم القصص في ألف ليلة وليلة نافذة على المعايير الثقافية والقيم في المجتمعات التي كتبت فيها، وتسلط الضوء على تعقيدات الحب والولاء والخيانة التي لا تزال تتردد صداها بين القراء اليوم.

إن الزنا في ألف ليلة وليلة هو موضوع متكرر يلعب دورا محوريا في العديد من القصص الموجودة في هذه المجموعة. ومن خلال حكايات الحب والخيانة وألم القلب، تقدم القصص في ألف ليلة وليلة استكشافا دقيقا ومعقدا للخيانة وعواقبها. من العواقب المأساوية للخيانة إلى تعقيدات التشابكات الرومانسية، تقدم القصص في ألف ليلة وليلة نسيجا غنيا من السرديات التي تستمر في أسر القراء بموضوعاتها الخالدة وحقائقها العالمية.

***

محمد عبد الكريم يوسف

يتعمق وليم بتلر ييتس، أحد أشهر الشعراء في القرن العشرين، في موضوع الحب في شعره. فمن خلال أعماله الواسعة، يستكشف ييتس التعقيدات والفروق الدقيقة للحب في جميع أشكاله - الرومانسية والعائلية والروحية. تعكس قصائده تجاربه الشخصية مع الحب، فضلا عن تأملاته الفلسفية حول الطبيعة القوية والمحولة لهذا الشعور العالمي.

في العديد من قصائد الحب التي كتبها ييتس، يشكل الحب الرومانسي موضوعا مركزيا. تتحدث إحدى أشهر قصائد الحب التي كتبها، "عندما تكبر"، عن الطبيعة الدائمة للحب وقدرته على تجاوز الزمان والمكان. يلتقط ييتس جوهر الحب غير المتبادل والشوق الذي يصاحبه، حيث يتوسل إلى موضوع عواطفه أن يتذكره في سن الشيخوخة. تعكس هذه القصيدة تجارب ييتس الشخصية مع الحب والخسارة، حيث تصارع مع الحب غير المتبادل طوال حياته.

كما يستكشف ييتس موضوع الحب في سياق العلاقات الأسرية. في قصائد مثل "صلاة من أجل ابنتي"، يعبر ييتس عن حبه العميق واهتمامه بابنته، وهو يتأمل التحديات التي ستواجهها في الحياة. ومن خلال شعره، يتأمل ييتس تعقيدات العلاقات بين الوالدين والطفل والحب الدائم الذي يوجد بين أفراد الأسرة.

بالإضافة إلى الحب الرومانسي والعائلي، يستكشف ييتس أيضا موضوع الحب الروحي في شعره. في قصائد مثل "البجع البري في كول" و"أغنية أنجوس المتجول"، يستكشف ييتس فكرة الحب الروحي المتسامي الذي يوجد خارج العالم المادي. من خلال هذه القصائد، يتصارع ييتس مع فكرة الحب الأبدي والبحث عن التنوير الروحي.

غالبا ما يتشابك استكشاف ييتس للحب في شعره مع موضوعات الطبيعة والتصوف. في قصائد مثل "جزيرة بحيرة إينيسفري" و"الطفل المسروق"، يصور ييتس الحب كقوة تتأثر بالعالم الطبيعي والعناصر الغامضة التي تحيط بنا. ومن خلال لغته الغنائية وصوره الحية، ينقل ييتس القوة التحويلية للحب وقدرته على ربطنا بالعالم من حولنا.

إن أحد الجوانب الأكثر لفتا للانتباه في شعر الحب لدى ييتس هو قدرته على التقاط تعقيد وعمق المشاعر الإنسانية. في قصائد مثل "يتمنى الحصول على أثواب السماء" و"القبعة والأجراس"، يستكشف ييتس الطبيعة الصاخبة للحب والعواطف المتضاربة التي تنشأ عنه. ومن خلال شعره، يتصارع ييتس مع الرغبات والعواطف المتضاربة التي يمكن أن يثيرها الحب، حيث يتعمق في تعقيدات القلب البشري.

لا يقتصر استكشاف ييتس للحب في شعره على التجارب الشخصية، بل يمتد أيضا إلى تأملات فلسفية أوسع حول طبيعة الحب نفسه. في قصائد مثل "لعنة آدم" و"حماقة التعزية"، يتأمل ييتس التأثير العميق الذي يمكن أن يخلفه الحب على حياتنا والطبيعة الدائمة لهذا الشعور القوي. ومن خلال شعره، يتعمق ييتس في تعقيدات الحب وقدرته على تشكيل هوياتنا وعلاقاتنا.

من خلال شعره، ينقل ييتس فهما عميقا لتعقيدات الحب وتناقضاته. من شدة الحب الرومانسي العاطفي إلى الروابط الدائمة للعلاقات الأسرية، يستكشف ييتس الجوانب العديدة للحب في جميع أشكاله. من خلال لغته البليغة وصوره الحية، يلتقط ييتس جوهر الحب وقوته التحويلية في حياتنا.

في الختام، فإن شعر وليم بتلر ييتس هو استكشاف مؤثر للحب في جميع أشكاله - الرومانسية والعائلية والروحية. من خلال لغته الغنائية وصوره الحية، يتعمق ييتس في تعقيدات الحب وفروقه الدقيقة، ويلتقط جوهر هذه العاطفة العالمية ببصيرة عميقة وحساسية. تعكس أشعاره فهما عميقا للقلب البشري والقوة السامية للحب في تشكيل حياتنا وعلاقاتنا. إن استكشاف ييتس للحب في شعره هو شهادة على الطبيعة الدائمة لهذه العاطفة القوية وقدرتها على ربطنا ببعضنا البعض وبالعالم من حولنا.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ثقافة الشباب والدين والاندماج والمظاهر العنصريه في الدنمرك:

الشباب أكثر تأقلماً في زمننا الحالي حيث صار العالم حقاً قريةً صغيرةً، نلاحظ أنهم يتشابهون في أزيائهم ومظاهرهم وأساليبهم الحياتية في مختلف أصقاع العالم بحكم انتشار السلع من نفس الماركات المعروفة عالميا، في آسيا وأفريقيا يحبون الأزياء الأوروبية ويبدون كأنهم يقلدون الأوروبيين، لدرجة أن بعضهم يرتدي أحذيةً أوروبية شتويةً! لهذا لا يعني هذا أن أغلبهم مندمج بالثقافة الغربية، هذا موضوع آخر، قد يكون العكس صحيحاً في أوساط شبابية معينة بسبب القضية الفلسطينية ومضايقة العرب والمسلمين المقيمين في الغرب، على الأقل إعلامياً.

إذن نحن نلاحظ ثقافة عامة يتميز بها قسم من الجيل الجديد، لكن هذا لا يمنع أيضاً من وجود مجاميع أخرى منهم ينتمون إلى ثقافاتهم الفرعية الخاصة، قد تكون دينية تبرز اثناء ممارساتهم لشعائرهم الدينية مثل الحج أو زيارة الكنائس وبوذا ومعابد الهندوس واحتفالات الصوفيين في مصر والمغرب، والتشابيه السنوية لمقتل الحسين سبط الرسول محمد واللطم عليه منذ نحره قبل ألف وأربعمائة سنة تقريبًا! إنها نوع من تطهير الروح أو الكَثارسيس katharsis! وجلد الذات والشعور بتأنيب الضمير! ويريدون أن يطلع الآخرون في أوروبا على ثقافتهم وطقوسهم بغض النظر عن تسييس الدين وتجييشه من قبل بعض الأحزاب الدينية، ولهذا يرى السياسيون الغربيون من الأفضل السماح لهم بممارستها علناً إذا كانت غير عنيفة، وضمن القانون كي يشعروا بانتمائهم لمجتمعهم الجديد وبالتالي يندمجوا فيه. على الثقافات الكبيرة أن تحترم نظيراتها الفرعية الخاصة وتتقبل الناس كما هم منعاً للشعور بالتهميش والعنف والتطرف وعدم الانتماء للمجتمع والولاء له.

كل هذه المراسيم والطقوس صارت فضاءاً ثقافياً وروحياً يحقق البشر فيه ذواتهم ويعبرون عن مشاعرهم وراحتهم النفسية بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر بها من قبل الآخرين. في الدنمرك توجد ايضاً كنائس مختلفة لها نشاطات وطقوس متنوعة، ومدارس دينية وجمعيات خاصة لليهود والمسيحيين والمورمونيين وغيرهم.

الدين هنا يلعب دوراً كبيراً في حياة البشر بغض النظر عن ممارستهم لتعاليم اديانهم من عدمها أو إيمانهم بها من عدمه، لكن الثقافة الدينية بكل حذافيرها تكون أوضح في السلوك اليومي وتفاصيل الحياة اليومية في كل صغيرة وكبيرة لدى الأصوليين والمتزمتين والمنغلقين.

قد يشعر بعضُ هذا النوع من البشر بصعوبة الاندماج الحقيقي في المجتمع ويعترض على ممارسات مجتمعية كثيرة، ولهذا يحاول تجنبها ويفضل إرسال أطفاله مثلًا إلى مؤسسات تعليمية متزمتة خاصة ومغلقة.

هذه الحالة تشمل كل الأديان التي نعرفها، بل حتى التيارات السياسية والفكرية أحياناً، التي أصبح مريدوها ملتزمين بها مثل اي دين، ويعتبرون أنفسهم الوحيدين على حق، و"باقي الناس كلهم تراباً". 

كل هذه العوامل تلعب دوراً في التأقلم ضمن المجتمعات الديمقراطية العلمانية التي تفصل الدين عن السياسة.

لكن هناك العامل الاقتصادي، ففي العالم الثالث، في آسيا وافريقيا توجد فوارق طبقية بين الناس، وبين سكان المدن الكبيرة والريف والمتعلمين وغير المتعلمين، ولكل فئة ومجموعة من هؤلاء البشر ثقافتها حسب ظروفها الخاصة التي تعكس اسلوب حياتهم، فالسكن في الأكواخ والخيام وبيوت الطين والصفيح ليس كالمنازل العادية أو القصور.

المناطق السكنية الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية مثل الثورة في بغداد والعمرانية في إسطنبول وإمبابا في القاهرة لها ثقافتها الخاصة بها وأسلوب حياة اجتماعي يميّز سكّانها، فَهُم أكثر تواصلًا مع بعضهم بعضاً، واختلاطاً، وتعاوناً، وتعاطفاً.4277 زهير شبيله

الدنمركيون ورُهاب الغرباء:

العمل ضروري للإنسان، ولا يمكن دمجه في مجتمع يدير له ظهره!

عندما يهرب الناس من بلدانهم مضطرين نتيجة الحروب أو الملاحقات بسبب معتقداتهم ليس كَمَن يُهاجر طوعاً لغرض العمل، أو ليس حتى مثل أولئك الذين يسافرون بشكل رسمي وعلني بفيزة لم الشمل وبدون المغامرات.

كل هذه الفئات تعاني في البداية من صعوبات التكيّف والاندماج في المجتمع الدنمركي العلماني الديمقراطي، بسبب عدم معرفتهم باللغة وفهمهم "البسيط" لأديانهم بما فيها الإسلام، وثقافتهم الريفية المختلفة عن مجتمع "النصارى" الغربي كما يسمّونه، وخوفهم منه بغض النظر عن تفاوت الاختلافات نسبيا بين هذه الفئات سواءًا كانوا لاجئين أم وافدين مغتربين قدموا للعمل هنا من قرى وأرياف وجبال "الدول الدافئة".

بالنسبة للعرب والمسلمين مثلاً فإنهم قدموا إلى الدنمرك بأعداد قليلة جداً في الستينات، لكن أكثرهم جاؤوا إليه بسبب الحروب من لبنان وفلسطين وإيران والعراق والصومال وأخيراً سوريا وليبيا وتونس والخ، وبالذات في فترة سقوط الاتحاد السوفييتي، وظهور الإسلام "كعدو" جديد بدلاً عن هذه الدولة الكبرى الساقطة.

انشغل الإعلام الغربي بالذات بالحركات الإسلامية وتم تصوير الأمر أحيانًا كأن كل المسلمين تربوا على العنف وكره الآخر، متطرفون وإرهابيون وأُصوليون ومتشددون ومنغلقون، وصار قسم منهم يشعرون أنهم مرفوضون من المجتمع، مقبولون فيه قانونياً فحسب. وكل شيء هنا نسبي ومتوقّف حسب قدرات الشخص المغترب أو اللاجىء وطرق تعامله مع أهل البلد، الذين هم أيضاً متنوعون ولهم انتماءات سياسية مختلفة، ومنهم يساريون متعاطفون جداً مع الغرباء، لكن اغلبهم يحترم القانون. 

وقد أكد لي المستشرق الدنمركي الدكتور يورجين بيك سيمونسن المتخصص بالإسلام، في مقابلة أجريتها معه في بداية التسعينات أنّ الإعلام الغربي يثبت قناعات الخوف من المهاجرين ويعطي صورة سيئة عنه.

لم يكن سوق العمل الدنمركي  مستعداً ولا راغباً حقاً كما يجب، في استيعاب مئات المتعلمين والأساتذة الجامعيين من الأجانب القادمين من "البلدان الدافئة" أو "غير الغربية"، وأصبح ليس من السهل عليهم الحصول على العمل باختصاصاتهم الدقيقة وشهاداتهم الجامعية العليا، بمن فيهم أحياناً الأطباء واطباء الأسنان الذين اضطروا لبذل جهود ٍ كبيرةٍ ولعدة سنوات كي يحصلوا على عملٍ وتستوعبهم المؤسسات. على العكس من ذلك لاحظتُ من خلال عملي مع الأوكرانيات والأوكرانيين أن الأمر يختلف تمامًا حيث تحركت مؤسسات الدولة كلها من الحكومة حتى أصغر دائرة فيها من أجل استيعابهن (هم) في سوق العمل، وقبل تعلّمهن لغة البلد الدنمركية!

كنّا نكرّرُ الحديث عن دور العمل في تأقلم الغرباء في المجتمع، ولكي يشعروا أنهم جزء فاعل منه. وإلا فكيف تحصل هذه العملية بشكل إيجابي في مجتمع يخذلهم! العمل حق وواجب وضروري لمن يريد ذلك، كالهواء ومَن لا يعمل لا يأكل. نقصدُ هنا طبعًا أولئك القادرين على العمل وليس الذين يعانون من إعاقات وأمراض عضوية ونفسية تمنعهم عن الدخول في سوق العمل.

هذه الصعوبات أو العراقيل تعيق اندماج هؤلاء البشر، فالعمل ضروري للمتعلم بالذات، ولا يمكن دمجه في مجتمع يدير له ظهره ويحرمه من أهم شيء لدى الإنسان.

ومع ذلك هناك أمثلة إيجابية رائعة وساطعة تبين نجاحات حققها اللاجئون العصاميون أصحاب الشهادات العليا من الجيل الأول، حيث تعلموا اللغة وعادلوا شهاداتِهم واستخدموها، بالذات الأطباء، حتى وإن لم تُفدهم من حيث تحديد الراتب الشهري في التوظيف، ومنهم من أضطر إلى تغيير مهنهم حسب فرص العمل في هذا البلد. ولهم دور كبير في عملية الاندماج والدفاع عن ثقافة المجتمع الديمقراطية.

بالنسبة للحرفيين من الميكانيكيين والعمال والطباخين والمنظفين، فالأمر أسهل بكثير من الخريجين الجامعيين لتوفر فرص عمل لهم في السوق الرسمي أو الموازي "الأسود".

بل إن أغلب هؤلاء اندمج في المجتمع بأقل خسارة شخصية معنوية، ويمكن أن نقول إنهم حققوا أمنياتهم وأحلامهم في ورشاتهم ومطاعمهم التي تمثل طموحاتهم، وإنهم أحياناً أكثر انفتاحاً على المجتمع الدنمركي من بعض اصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل، بحكم تواجدهم في سوق العمل وتواصلهم مع زبائنهم الدنمركيين وغيرهم الذين يتعاملون معهم بلطافة وأريحية طالما أنهم يقدمون لهم خدماتٍ جيدةٍ مقابل أجورٍ أقل من الآخرين.

وَهُم في حقيقة الأمر مرتاحون نفسياً حيث حصلوا على العمل الذي يطمحون له ولديهم جواز سفر يمكنهم من دخول اغلب بلدان العالم، وربّوا أبناءَهم وبناتهم في ظروف ماديّة أفضل تختلف كثيراً عن ماضيهم وطفولتهم القاسية. 

إنهم ممتنون للدنمرك الذي وفر لهم كل هذه الظروف! وفي النهاية تبين التجربة أن اغلبهم اندمج وتأقلمَ بهذا الشكل أو ذاك بمرور الزمن في المجتمع الدنمركي.

الاندماج هنا لا يعني تخلّي الشخص عن ثقافته ودينه وتقاليده، فهناك أصوليّون متزمتون لكنهم متأقلمون في بعض البلدان الغربية، والأمثلة كثيرة. من الضروري هنا التمييز بين التأقلم والتكيّف، والاندماج، والتماهي، والانحلال.

أما ابناء الجيل الثاني أو الثالث من اللاجئين فأصبحَ من السهل أن نجدَ بينهم الأطباء والمهندسين والعمال والميكانيكيين والبنائين، وفيهم الأخيار وقليل من الأشرار بالتأكيد.

لكن تبقى الخلفية الاجتماعية وثقافة الشخص هي التي تعكس طبيعة انطباعات كل إنسان عن بلدهم الجميل الجديد الذي اسمه الدنمرك.

مرة من المرات سألتُ أحد اللاجئين الشباب البسطاء للغاية من المعوقين قليلاً القادم من بلد مليء بالحروب والصعوبات:

-  ما رأيك بالدنمرك؟

أجابني مبتسماً على الفور وبمنتهى السعادة:

-  الدنمرك بلد يجنّن! شمعه وكأس وحبيبه!

هكذا لخص رأيه بكل بساطة بالدنمرك الجميل! هذه هي مشاعره عن الدنمرك، إنه سعيد للعيش فيه! لِمَ لا ؟ إنها بالنسبة له هبة من ربِّ العالمين!

نعم، لِمَ لا؟ إنه إنسان ضعيف، يُعامل كطفل مدلّل هنا في بلد الرفاهية، يحصل على كل الامتيازات الضرورية ويلقى أرقى معاملة لم يحلم بها طوال حياته في بلده حيث الحروب والفوضى، بينما في نفس الوقت، يمكن أن نجد شخصًا آخر من نفس بلاده من حملة الشهادات العليا، يعاني من البطالة طوال حياته  ويشعر بالكآبة والإحباط، وقد يعتبر الدنمرك "سجناً كبيراً مرفهاً" بالنسبة له.

نعم، النظام الاجتماعي هنا يهتم بالضعفاء، ويوفر لهم كل الرعاية بينما قد يصعب أحياناً دعم المتعلمين المؤهلين. 

الدَنْمَرك بلد صغير وجميل، قوانينه علمانية، لكن الشعب يحتفل بأعياد مسيحية دينية، ثقافته مسيحية، شعب طيب وصل إلى مستوى عالٍ من التطور، ولهذا هناك من يرى أنه مِن "حقه" أن يخاف من الآخر القادم من بلدان العنف ويتحفظ.

وهنا اتذكر قصة "اضطراب في الضواحي" للكاتب الدنمركي الراحل لايف باندورا، كيف يصور الخوف من الغريب في المجتمع الدنمركي.

نقرأ في هذه القصة نهاية ساخرة مؤلمة عن رجل غريب (أفريقي المظهر) يسكن في قرية مع الدنمركيين، يقولون عنه: "ها قد أيقظناه وقلنا له، بأننا كنا بالتأكيد نعرف بأنه من آكلة لحوم البشر- لا يمكنه أن يخدعنا. عرفنا ذلك منذ اليوم الأول عندما جلس في قطارنا. وهكذا فقد قتلناه وأكلناه".

  Lief Pandura, Uro i forstæderne, 1962

المجتمع الدنمركي لم يعد منسجماً كالسابق، فقد تغيّر وتطوّرَ كأي تكوين بشري آخر، وكوبنهاجن مثلاً بالذات صارت مدينة ترى فيها شباباً يتكلمون الدنمركية بدون لكنة، لكن بشراتهم مختلفة الألوان: فيهم الهجين الخليط، والشقر والبيض والسمر، والسود والصُفر، فيهم الأخيار والأشرار، المتدينون والملحدون واللادينيون وغير المتدينيين مثل بعض المسلمين الشباب في العراق مثلاً، الذين كانوا يقولون في السبعينات مازحين: "مسلم بالجنسية"، فيهم المتفتحون والمنغلقون، اليمينيون، والمحافظون والعنصريون واليساريون.

في الدنمرك كان أيضاً عندهم صراع بين اليمينيين المحافظين والشيوعيين واليساريين المتعصبين الأشداء مثلما في البلدان الأخرى، عندهم "مكسيم غوركي الدنمرك"، الكاتب الواقعي الاشتراكي مارتِن اندرسن نيكسو  Martin Andersen Niksø، وهانس شارفي Hans Scherfig  الذي يقولون عنه مازحين: "إنه كاتب وفنان وشيوعي"! 

لكن مع ذلك صار قسم منهم ( على الأقل حتّى حربي اوكرانيا وغزّه) متفتحين، يتقبلون الآخر، أو على الأقل يتظاهرون بذلك، لا أحد هنا يريد أن يُتّهم بالعنصرية، ومقولَبين مبرمَجين، ومرَّتبين بيتوتيين مشغولين بأعمالهم وحدائقهم وعلاقاتهم العائلية والخاصة ومواعيدهم والاحتفال بأعياد ميلادهم والمناسبات الكثيرة الأخرى، يعشقون المواعيد. وهُم حسب تجربتي الشخصية اجتماعيون جداً لكن طريقتهم في الحياة منظمة للغاية، وتظهر عندهم التلقائية وبعض "الفوضى" و"الانفلات" بالذات عندما تشرق الشمس، أو عندما يكون الصيف ساحراً جميلاً.

وعندما حاولت أن أفهم معنى الدَنْمَركَه أو "الدانسكهذ" قبل اكثر من ثلاثة عقود، فهمتُ أنها: تعني فيما تعني الاهتمام بالجمعيات والاتحادات وكل ما يشمل منظمات المجتمع المدني، والمدارس الشعبية العليا التي أسّسها جروندفي حيث يلتقي مختلف الناس فيها كنوع من تغيير الجو، ويتعلمون الأمور بطريقة الاسترخاء، قد تشبه أحياناً مقاهي الشرق الأوسط الأدبية والديوانيات والمضايف، وأمر آخر هو: أن الدنمركيين "يُطلعون أو يَعرضون" منازلَهم الجديدة على ضيوفهم المقربين الذين يدخلونها لأول مرة. وهو أمر غير غريب تماماً على الناس في البلدان الأخرى، حيث يقومون أيضاً بالأمر نفسه عندما يزورهم المقربون كلما ينتقلون إلى منزل جديد.

فثقافات الشعوب عمومًا إنسانية ومتشابهة لكنها متنوعة ببفي الوقت ذاته، وهنا تكمن أهميتها وثراؤها.

غالباً ما نسمع بعض المغتربين ممن يقولون مثلاً "نأحذ من الثقافة الغربية ما يناسبنا ونهمل ما لا يعجبنا" كأنهم في سوبرماركت يختارون السلع التي يحتاجونها، لكن هذا الأسلوب قد يمكن استخدامه بالنسبة للجيل الأول أو أولياء الأمور، وسيكون صعباً على الأطفال حيث سيندمجون مع اترابهم من أبناء البلد الأصليين مع بعض الاختلافات.  

ولا يمكن أن أنهي هذا المقال بدون أن أتذكر أني قرأت في التسعينات بعد احتلال الكويت رسالة مواطن دنمركي، يقول عن نفسه بأنه أقام في الكويت 19 سنة، وإنه الآن عاد إلى وطنه الأصلي الدنمرك ويعاني من الصعوبات في "إعادة اندماجه" او تأقلمه به، فقد اعتاد على حياته السابقة في الكويت رغم سخونة الجو هناك.

وإذا تحدثنا عن العنصرية هنا فلا يسعني إلا أن أتذكر قصيدة شاعر الشعب الدنمركي الساخر الإنسان الرائع والصديق عازف البيانو الراحل بني اندرسن "بلاد هانس كريستيان أندرسن"، الذي حدثني شخصياً عن معاناته وزوجته الباربيديسيه سينثيا من سلوك العنصريين العدواني تجاههما، وقد كتب رسالة في الصحف بعد أن تسلّم تهديدات من الحزب العنصري.

يصف بني أندرسن العنصريين كمجموعة كانت صغيرة ومنبوذة، لكنها تكاثرت بالتدريج ونظمت نفسها في حزب خطير. وأنا أقول هنا إن هذا الحزب وُجدَ أيضاً كرد فعل للمتطرفين والمتزمتين من ثقافات أخرى، ولهذا أكّدَ الشاعر على أننا كلنا بشر ولدينا ثقافاتنا التي نحبها ونعتز بها، وما علينا إلا الاحترام المتبادل والعمل من أجل ازدهار الدنمرك ومساعدة الدول الفقيرة ونبذ الكراهية والتعالي على الآخرين، وأورد مقطعاً منها. يستخدم الشاعر هنا في نهاية القصيدة عبارة gør vores skam til skamme

التي تعني هنا: اجعل عارَنا بلا أساس أو سبب وذريعة، أقضوا على أي تبرير وأساس لهذا الخزي من خلال القيام بأفعال مشرفه، خلّصنا من خزينا من خلال الأعمال الإيجابية! لنبرهن بأننا ليس لدينا ما نخجل منه! بأننا لسنا عنصريين!

Benny Andersen, H. C. Andersens land

-  بلاد هانس كريستان أندرسِن

-  الدَنمَرك

-  أُحتلَّ مرةً من قبل جرمانٍ مجانين

-  ويُحتلُّ قريباً من قِبَل المسكونين الدَنمَركيين*

-  بلدي تسكنه الظهور**

-  بلدي الذي دائما

-  يتهافتون فيه على

-  أحذية صغيرةٍ جداً***

-  تم الخلط بين بلدي ذي الأفق المنكمش

-  فتصوروه صُرّةَ العالم  

*

-  أيها الدنمَرك

-  بلدي المتَجَهّم

-  كُن راشداً وكبيراً

-  افتحْ عينيك

-  افتحْ ذراعيك

-  حتى نستطيع أن نرفع رؤوسنا

-  بانتمائنا لكَ.

*

-  أيها الدنمرك

-  لا تقللْ من شأنك

-  كُنْ  نموذجاً

-  قُمْ بواجبك في العالم

-  خلّصنا من عارنا

-  بحيث يمكننا أن نجدد سمعتكَ.

من ديوان: الزمان واللقلق، المجموعة الكاملة، 1998

.............

* يستخدم الشاعر نفس الفعل: المحتلون، لكن بمعنى المسكونين هم بالجن، أي المختلون وهنا يلعب بالكلمات ويقدم صوراً مختلفة.

** تسكنه الظهور، يعني الناس الذين يديرون ظهورهم للآخرين ازدراءً لهم.

*** التهافت على حذاء ضيّق وصغير جداً، وأنيق ونادر، تعبير مجازي إشارة للإسراع في الحصول على شيء ما قبل أن ينفذ، ويشير عموما إلى ضِيق الأفق والاهتمام بأمور تافهة.

***

د. زهير ياسين شليبه

 

ألف ليلة وليلة، المعروفة أيضًا باسم الليالي العربية، هي مجموعة من الحكايات الشعبية في الشرق الأوسط التي جُمعت خلال العصر الذهبي الإسلامي. وقد انتقلت القصص عبر الأجيال، وتشمل حكايات عن السحر والمغامرة والحب والخيانة. وفي هذه القصص، يسود موضوع الدكتاتورية، مع العديد من الأمثلة على الحكام المستبدين الذين يضطهدون شعوبهم ويستغلون سلطتهم.

ومن أشهر الأمثلة على الدكتاتورية في ألف ليلة وليلة قصة الملك شهريار، الذي يتزوج عروسًا جديدة كل ليلة ثم يقتلها في صباح اليوم التالي لضمان عدم خيانتها له. وهذا السلوك القاسي والاستبدادي هو مثال واضح على الحاكم الذي يحكم من خلال الخوف والترهيب، بدلاً من العدالة والرحمة. وفي النهاية، تؤدي دكتاتورية شهريار إلى سقوطه، حيث أطاحت به زوجته الذكية والحاذقة شهرزاد.

ومن الأمثلة الأخرى على الدكتاتورية في ألف ليلة وليلة قصة الملك يونان، الذي أصبح مهووسًا بفتاة جميلة جارية، واحتجزها في قصره. ويتحرك سلوك يونان الدكتاتوري بدافع من شهوته ورغبته في التملك، حيث يستخدم قوته للسيطرة على الفتاة والتلاعب بها لتحقيق رغباته الأنانية. وتسلط هذه العلاقة المسيئة والقمعية الضوء على التأثير المدمر للدكتاتورية على الحاكم والمحكوم على حد سواء.

في قصة علاء الدين، استولى الساحر الشرير جعفر على السلطة في المملكة من خلال استغلال القدرات السحرية للبطل الشاب. وتتميز دكتاتورية جعفر بملاحقته القاسية للثروة والسلطة، حيث يستغل مواهب علاء الدين لتحقيق مكاسبه الخاصة. ومن خلال التلاعب والخداع، يثبت جعفر نفسه كحاكم طاغية يفرض إرادته من خلال الخوف والترهيب.

تتناول قصة علي بابا والأربعين لصًا أيضًا موضوع الدكتاتورية، حيث يمارس الزعيم القاسي لعصابة اللصوص سيطرته على أتباعه من خلال الخوف والعنف. يحكم زعيم اللصوص بقبضة من حديد، مستخدمًا قوته لقمع واستغلال أهل المدينة. تؤدي تصرفات علي بابا الشجاعة لتحدي الدكتاتور في النهاية إلى سقوطه، لأنه غير قادر على الصمود أمام انتقام الطاغية.

في جميع أنحاء ألف ليلة وليلة، يتم استخدام موضوع الدكتاتورية لاستكشاف العواقب المدمرة للسلطة غير المقيدة والطغيان. تصور القصص الحكام الذين يسيئون استخدام سلطتهم، ويضطهدون رعيتهم، ويستغلون مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية. غالبًا ما يتم تصوير الشخصيات التي تقاوم الدكتاتوريات وتتحداها في هذه الحكايات على أنها أبطال يجسدون قيم العدالة والحرية والرحمة.

على النقيض من الحكام المستبدين في ألف ليلة وليلة، هناك أيضًا أمثلة على الملوك الخيرين والعادلين الذين يحكمون بالحكمة والإنصاف. إن هؤلاء الحكام يدافعون عن مبادئ العدالة والمساواة، ويعملون من أجل تحسين أحوال شعوبهم بدلاً من خدمة رغباتهم الأنانية. ويسلط التباين بين هذين النوعين من الحكام الضوء على أهمية الحكم الرشيد وعواقب الدكتاتورية.

وفي الختام، فإن موضوع الدكتاتورية في ألف ليلة وليلة يعمل كقصة تحذيرية حول مخاطر السلطة المطلقة والطغيان. وتصور القصص التأثير المدمر للحكم الدكتاتوري على الأفراد والمجتمعات، وتسلط الضوء على الحاجة إلى العدالة والرحمة والمساءلة في الحكم. ومن خلال استكشاف عواقب الدكتاتورية في هذه القصص، تقدم ألف ليلة وليلة رؤى قيمة حول طبيعة القوة والسلطة، وأهمية مقاومة الظلم والطغيان.

***

محمد عبد الكريم يوسف

كان دائم التحليق لا يتوقف في اجوائه الراقصة الا ليستأنف تحليقاته اللافتة، وكان ينتقل من زمان إلى مكان وكأنما هو يُشهد احدهما على وجود الآخر، وذلك في رحلة شك قصدت اليقين منذ خطواتها المبكرة الاولى في سديم غير مرئي وعالم اوضح ما يكون فيه مضببٌ خفيّ. بقي يتابع هوايته هذه في تحليقه الزمانيّ.. المكانيّ حتى اللحظات الاخيرة عندما شعر بوخز في وجوده.. في البداية لم يعر وخزه هذا اهتمامًا يذكر.. وبقي محافظا على عدم اكتراثه ذاك حتى لاحظ ما هو فيه احد مرافقيه في رحلته التحليقية اليومية، فهمس في اذنه طالبًا منه ان يتوجه إلى طبيبه.. فالأمر على ما يبدو ليس عاديًا كما خيل إليه.. عندها غامت الدنيا في عينيه وتفاقم وخزه.. ولم يكن امامه سوى ان يتوجه إلى طبيبه لتبدأ رحلته نحو النهاية. اربعة اشهر من المعاناة اليومية، اختتمها بالكتابة عبر الفيسبوك إلى احد اصدقائه الشعراء قائلًا: انني اعاني كل لحظة. اطلب من الله ان يضع حدًا لآلامي هذه.. لارتاح قليلًا.. لا اعرف ما اذا كان صديقه قد استجاب له وطلب له ما اراده.. غير ان ما حدث هو ان قلبه الخفاق توقف عن نبضه الدافئ.. وجاءت إليه النهاية ذات لحظة مؤلمة واضعةً حدًا لما عاناه من مواجع.

تعرد علاقتي بالفنان زياد ابو السعود الظاهر (1946- السبت 16/ 7/ 2021)، إلى سنوات بعيدة موغلة في البعد، الامر الذي يُصعّب عليّ تذكر بداياتها الاولى.. منذ كان شارع شهاب الدين في بلدتنا الحبيبة المشتركة، كانت هذه العلاقة. لا اعلم ربما ابتدأت بهزة راس من احدنا هو المهندس الفنان، عاشق التاريخ والوارث الامين لأجداده.. الشيخ ظاهر العمر واحفاده، ومستحضرًا اياه من اعماق التخييل والواقع، ليرسمه كما استمع من الآباء والاجداد وكما قرأ عنه في هذا الكتاب ذي الاوراق الصفراء المهترئة او ذاك، لقد لحقت فتنة الماضي وروعة الارث به فراح يضع الرسمة تلو الاخرى لجده العظيم وباعث الروح القومية ابان الاستعمار التركي لبلادنا، الشيخ ظاهر العمر، وزعيم عائلته، فسعى طوال ايام حياته المديدة نوعا ما ( عاش زياد 75 عاما)، لتثبيت الذاكرة عبر ادوات الرسم من قماش " كنفس".. ريش والوان، وقد لفت صنيعُه هذا انظار كل من همه الامر.. ابتداء من الكاتب ابراهيم نصرالله صاحب "قناديل ملك الجليل"، انتهاء بالعديد من الباحثين والدارسين المعنيين، مرورًا بأهال من بلدته والبلاد عامة، فسرت في شوارع الحاضر همسة تنبئ الجميع بما سعى اليه وقام به، الامر الذي ملاه بالنشوة ودفعه للمواصلة حد الزهو.. فهل هناك في العالم اروع من ان ترى رد فعل ما قُمتَ وتقوم به اولًا بأول؟

رسوماته هذه شجّعته على المضي في طريق البحث والاكتشاف وحضّته على التعمق في تاريخ اهالي بلدته مَنْ هُم من اين جاؤوا وما هي اسرارهم وانتماءاتهم، وما إلى هذه من اسئلة، ابتدأ بوضعها طيب الذكر القس اسعد منصور في كتابه المرجع الشهير عن الناصرة وعائلاتها، ولم يتوقف هنا وعند هذا وانما تجاوزه مستثمرًا مسطرته الهندسية وريشته الفنية، ليقوم بفعلٍ لافتٍ هو رسم شجرة العائلة لهذه العائلة او تلك، وهكذا انفتح باب آخر من ابواب الوجود واسراره في مغائر بلدته المقدسة ودهاليزها المغلقة.. فبعد ان فتح باب التركة الرائعة للظاهر عمر، ها هو يفتح باب الانساب العائلية في البلدة المقدّسة، وها هو يجمع المجد من اطرافه كما رأى مهيار الديلمي في قصيدته الخالدة، فيؤصل لوجوده وينتقل بعد ذلك ليؤصل لوجود ابناء بلدته مصرًا على عمق الوجود واصالة المحتد. وكنتَ انت صديقه الكاتب ترقبه اولًا من بعيد وبعد ذلك من قريب، متنقلًا من معرض فني إلى آخر ومن محاضرة عن العائلات واصولها، اشجارًا وفروعًا، يتنقل تنقل طائر محكي من بلدة إلى أخرى ومن قاعة إلى سواها، عارضًا وراويًا وكلُّ دينه وديدنه ان يقدّم شيئًا للرواية العربية الفلسطينية المهددة بالغياب والاندثار ما لم يكن هناك حول اسوارها خفر وحراس.

انك ترقبه في هذا كله تتابعه بصمت المحب وامل العاشق، فتسعى وراءه " ع الدعسة"، تشاهد ما يعرضه من صور لجدّه الاول الشيخ ظاهر العمر الزيداني، ولكل الاماكن التي ابتناها في طول البلاد وعرضها، مثل الناصرة شفاعمرو وعرابة البطوف.. ها انت تكتشف انك صرت شاهدًا على ولادة تاريخ وتراث من نوعين اخرين، فتسعى إليه لتكتب عنه ماجدًا وسليلًا لتاريخ تليد. كتابتك هذه عنه تثلج صدره ويرى فيها تتمةً لما ابتغاه من ردة فعل على ما قام به عطاء ثرٍّ غني.. وتندمج تلك الكتابةُ بغيرها من الكتابات المماثلة عنه وعن رحلته مع التاريخ تركةً وعائلةً، وتتوطد العلاقة بينك وبينه لتشمل العديد من النقرات على بابه المغلق دائمًا وابدًا، ولينفتح ذلك الباب لتستأنفا معًا رحلة ابتدأت ولم تنتهِ..

الآن وقد انطوت هذه الصفحة المعبّرة والمؤثرة في حياتك الخاصة وحياة بلدتك العامة، بإمكانك ان تقول ذهب زياد.. مضى في طريقه الابدي وانك لن تلتقي به بعد.. لا في شارع شهاب الدين ولا في غيره من شوارع بلدتك الدافئة.. لا في هذا المعرض ولا في تلك المحاضرة وانك حتى لو دققت على بابه المغلق الفَ دقةٍ ودقة فإنه لن يفتح لاستقبالك الرائع الماتع.. وسوف يبقى صامتًا.. اصمَ واخرسَ.. عندها ستتوجّه إلى ما خلّفه صديقك الراحل زياد ابو السعود الظاهر.. من اثر توزّع على اللوحة والكلمة.. لتتأكد من ان مَن ترك وراءه اثرًا.. كما ترك هو.. لا يموت..

***

كتب: ناجي ظاهر

 

المدينة تطورُ الإنسان، اللغة، لا للأحكام النمطية!

المدينة تُطوّرُ الإنسان: هنا يجب أن يُلقى اللوم بالذات على المجتمع نفسه في عدم تطور أفراده بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية والإثنية، مثل اللاجئين الجدد، فمقولة "المدينة تطورُ الإنسان" يجب أن تعطي ثمارها ونتائجها الإيجابية وإلا فالخلل ليس بالغرباء فحسب إن لم "يندمجوا" أو يتكيّفوا للبلدان الجديدة التي انتقلوا إليها لاجئين هاربين من "أوطانهم" أو مغتربين بتأشيرات رسمية لغرض العمل.

هنا تتحمل مؤسسات المجتمع مسؤوليتها تجاه مواطنيها "الجُدد" كما تسمّيهم في القواميس والقوانين، ورعاية أبنائهم  من الصغر وتأمين تربيتهم وتعليمهم، ولا يجدي التشهير بهم في الإعلام بحجة "ثقافتهم الأخرى". صحيح هناك قلّة صغيرة من اللاجئين القادمين من الأرياف ممّن كانوا يقولون في بداية قدومهم إلى بلدان اللجوء قبل أكثر من ثلاثة عقود: "كيف نربي أطفالنا بدون الضرب؟"، لكن الحال تغير نحو الأفضل بالتدريج بازدياد الوعي، لا سيما أنهم صاروا يعرفون أن الضرب ممنوع قانونياً، وقد يؤدي إلى عواقب وخيمة. 

وصارت وسائل الاتصال الجماهيري والاجتماعي والإنترنيت ذات حدّين، المفروض أن تلعب دوراً كبيراً للغاية في نشر الثقافات والاطلاع  على الآخر وبالتالي تقارب الشعوب، لكنها مع الأسف عملت عكس ذلك في عدة حالات.

هنا شَعرَ العربُ والمسلمون أنهم مستهدفون من قبل وسائل الإعلام والاتصال الاجتماعي منذ سقوط الشيوعية حتى اليوم، وانتشرت القاعدة والمنظمات المسلحة الإسلامية الأصولية والمتشددة والمتطرفة كردِّ فعل على الشعور بالظلم، وطبعاً ظهرت الإسلامفوبيا كنتيجة لتسميم الأجواء.

إن هذه الظروف غير المستقرة المتميزة بالانقلابات العسكرية والحروب الخارجية والعنف وفتاوى الجهاد في أفغانستان ومن ثم في العراق بعد احتلاله من قبل الأميركان، ثم ظهور الدولة الإسلامية أدت بالتأكيد إلى انخراط أعداد كبيرة من الشباب في الإسلام السياسي.

وصُوّرتْ الثقافة العربية على أنها سلبية إرهابية أو عدوانية و"عنفية" بسبب سلوك بعض اللاجئين العرب هنا وهناك، وطرق حل الخلافات العائلية، وتعدد الزوجات وامتهان المرأة، وختان الإناث وضرب الأطفال، في حين أن العرب يقولون عن تربية الأطفال: "لاعبهم سبعاً، علمهم سبعاً، وصاحبهم سبعاً". بغض النظر عمّن هو قائل هذا الكلام الحكيم، مع ذلك أنه جزء من ثقافة العرب والمسلمين منذ قرون، ورغم أن اولياء الأمور يحبّون اطفالهم بالفطرة، لكن ليس بالضرورة أنهم جميعاً يأخذون به، إذ إنَّ هذا السلوك يعتمد على ظروف الإنسان، بالذات اللاجىء أو المغترب ومستواه الثقافي وفئته الاجتماعية التي ينحدر منها.

وهناك تعميمات "غربية" عن الثقافة العربية، مثل: التزمّت الديني والمحرمات و"رقابة المجتمع على الفرد" سوشيال كونترول، حيث تتناقص حريته في المجتمع كلما كبر في السن. وإن الثقافة العربية لا تهتم بالتواصل البصري مع الرُضّع ولا تشجع الأطفال على "التواصل  بالعين"، والعرب يمشون مطأطئين رؤوسهم يغضون نظرهم عن الناس بسبب تربيتهم  الاجتماعية والدينية (حسب فهمهم) كما ورد في القرآن: " قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ. النور: الآية 30 - 31. 

هذه أمور نسبية ولا تخلو من المبالغات، فمن الصعب تصنيف البشر بهذه الطريقة، إضافة إلى أنها تفسّر بطريقة إيجابية عند العرب والشرقيين عموماً، فلكل مجموعة إثنية ثقافتها الخاصة بها.

وإن العرب والمسلمين يقتلون المثليين، ويمارسون "غسل العار" هنا وهناك أحياناً، قد يكون هذا صحيحاً مع الأسف الشديد، لكن مع ذلك ليس دائماً، والمثليون موجودون منذ القدم في المجتمعات العربية وثقافتهم، ولا يمكن إنكار ظاهرتهم، وهناك شِعر "الغزل بالغلمان"، لكن ثقافة العرب لا تتقبّل فكرة الاعتراف بهم قانونياً وإعطائهم حقوقهم كما حدثَ في الغرب، لكن بعد فترة طويلة من القهر والقتل، ولا يشجعونهم على تغيير جنسهم.

الشيء نفسه يقال عن الحديث عن الأمور الجنسية مع الأطفال مثلاً، ولا اعتقد كل هذه القضايا التربوية تطورت في الثقافة العربية الآن، بل تحتاج إلى  تغييرات مجتمعية.

أنا شخصياً التقيتُ بآباء غربيين لا يستطيعون الحديث مع أبنائهم عن الجنس، ولا أريد هنا ان أبدو كأني مدافع عن الثقافة العربية بأي ثمن، أو أرسم صورةً ورديةً عنها، لكن يجب أن لا نأخذ هذه الأمور بشكل حرفي وبمعزل عن البيئة الاجتماعية فالريف يختلف عن المدينة ومستوى تعليم الأفراد يحدّد أحياناً تنوع ثقافاتهم ومستوياتهم ويميّزهم عن الآخرين.

أغلب ما ذكرته أعلاه ليس مقتصراً على الثقافة العربية فحسب، بل يشمل ايضاً بعض الثقافات الأخرى ففي النيبال مثلاً هناك تعدد الأزواج الأشقاء لزوجة واحدة، تتزوج المرأة شقيقين لحفظ الميراث، أو لجميع أشقّاء الزوج الأول كما معمول به في بعض القرى الهندوسية، وهو ما يرفضه اليهود والنصارى والمسلمون. وفي أعرق الديمقراطيات الغربية يُمارَس العنف والاستغلال الجنسي ضد النساء والأطفال حتى في بعض مراكز المطلّقات المغلقة رغم الحداثة والعولمة والقوانين المدنية.

وقد اشارت الكاتبة والروائية الفرنسية الهندية كينيزي مراد Kenizé Mourad إلى التصوير النمطي بالأسود والأبيض من قبل الإعلام الغربي للمجتمعات الشرقية والمسلمة، والتركيز على مظاهر العنف في ثقافتها أكثر من الإيجابية.

ولا بد من القول إن الثقافة العربية مثلاً مليئة بأغاني الحب والغرام وقصص شهرزاد لشهريار في ألف ليلة وليلة وأقوال المحبة ومفردات العفو والتسامح والصدق، ومع ذلك هناك أخيار وأشرار وعنف وقسوة كما هو الحال في الثقافات الأخرى.

ويكفي هنا أن أذكّر بشاعر الحكمة قبل الإسلام زهير بن أبي سلمى الذي نبذ الحرب:

وما الحرب إلا ما علمتم وذُقتمُ  

 وماهو عنها بالحديث المرجّمِ

*

متى تبعوثها تبعثوها ذميمةً 

      وتضرَ إذا ضرّيتموها فتُضرمِ

إن طريقة ضرب الأطفال أستُخدِمتْ سابقاً في مختلف الثقافات بما فيها الدنمركية، ويكفينا أن نشاهد الأفلام الدنمركية القديمة لنجد أوجه شبه مشتركة مع بعض الأفلام العربية والثقافة العربية. نفس الأمر يُقال عن تعامل مختلف الثقافات مع المرأة، ومع ذلك فإن الثقافة العربية تتميز باقوال تراثية إيجابية ورائعة عن المرأة، "الجنة تحت أقدام الأمهات، و"أمهات الكتب"، وكتابات التنويري المسلم الشيخ رفاعه الطهطاوي، وكتاب "تحرير المرأة" للكاتب العلماني المشهور قاسم أمين، وقول شاعر النيل العربي الحديث حافظ إبراهيم:

الأم مدرسة إن أعددتها   

  أعددت شعباً طيب الأعراق

وقد يكون من المفيد هنا الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى مجلة "المعلم الجديد" العراقية كانت منذ الستينات والسبعينات تدعو إلى نبذ العنف وضرب التلاميذ والثقافة القديمة، لكن عدم الاستقرار السياسي في البلد أعاق ويعيق التطور الثقافي.

المشكلة أن التنويرية العربية (اليقظة) كانت "عرجاء" كونها لم تكن نتيجة التطور الاقتصادي ولم تشمل المجتمع كله، بل اقتصرت على المتعلمين والمتنورين، ولا تُطبق في دولها  العربية القوانين المدنية بسبب المحسوبية والمنسوبية وهشاشة المؤسسات القضائية بالذات في الريف، وانعدام منظمات المجتمع المدني والصحافة الحرة ودَمَقرَطَةِ المجتمع. هذه هي عملياً الفوارق الجوهرية بين الثقافة العربية والغربية.

بعد الاحتلال الأميركي للعراق أصبح الحكم بيد الأحزاب الدينية والطائفية منها بالذات، أو بالأحرى المتاجِرة بالدين، وتأسست جمعيات كثيرة باسم  المجتمع المدني، لكن أغلبها وهمية أو مستَغَلَّة من قبل أحزاب السلطات، وشاعت ثقافة الفساد، وهو ما حدث في أوروبا الشرقية بعد سقوط الأنظمة الشمولية مثل ألبانيا وبولونيا وحتى تركيا كما ترى الباحثة جيني وايت.

White. Jenny B. Civil Culture and Islam. London 1996

هذا ما توصلتُ له في بحثي المكرس ل "منطمات المجتمع المدني في العراق بعد الاحتلال الأميركي"، ضمن مادة "فهم المجتمع ثقافياً"، في جامعة كوبنهاجن. السبب في هذا الخلل يكمن طبعاً في أن التطورلم يحصل بشكل طبيعي وبدون تدخل خارجي أو احتلال.

وإن العرب والمسلمين يقيمون في بقعة جغرافية مليئة بالصراعات والحروب، ولهذا لم يحصل فيها أي استقرار من شأنه أن يؤدي إلى تطور اقتصادي وبناء مؤسسات دولة مستقرة دائمة التطور كما هو الحال في اوروبا.

 وهنا قد يظهر تساؤل: لماذا إذن هذه الحروب المتعددة بين بعض البلدان والشعوب بحيث تظهر كأنها تجسد سمفونية العداوات والاحقاد بين قوميات واديان وطوائف وثقافات مختلفة كثرت منذ سقوط الاتحاد السوفييتي حتى يومنا الحاضر، والإجابة على ذلك طبعاً هو أنها لم تكن لتحدث لولا المصالح الاقتصادية وصراع الدول القوية وتدخلها في شؤون الآخرين حسب أطماعها.

فمن المؤسف أن موطن العرب الجغرافي يقع ضمن مناطق مهمة فخضعوا لسيطرة إمبراطوريات الفرس والروم، ولم يكن ظهور الإسلام بدون خلافات وحروب بين العرب أنفسهم، ثم مع الأديان والدول الأخرى، بمن فيها الأوربية فحدثت الحروب الصليبية،  والشرق الأوسط  اليوم بؤرة خلافات وصراعات عالمية بسبب موقعه وثرواته النفطية.

من الضروري أن نذكر هنا الباحث الاجتماعي الأنثروبولوجي كليفورد غيرتز المعروف بكتبه "تأويل الثقافات" و"الإسلام ملاحَظاً" قدم تحليلاً دقيقاً لدور الإسلام في ثقافة دول مثل اندينوسيا وجاوه والمغرب، واختلافه في هذه البلدان عن غيرها تبعاً لثقافاتها القديمة قبل الإسلام.

Islam Observed. Clifford Geertz

كانت هناك حالة عداء تاريخي بين المسلمين والأوروبيين تُوجتْ بالحروب الصليبية، وتكونت في الغرب أحكام نمطية سلبية عن ثقافة العرب والمسلمين، ومع ذلك سنحت لي الفرصة لألتقي بالعديد من الدنمركيين المتعلمين ممن لهم نظرة إيجابية عنها، أتذكر على سبيل المثال لا الحصر عازف الجاز الدنمركي جون تشيكاي، فاجئني بإعجابه الشديد بالغناء الشرقي وبالذات بسيدة الشرق أم كلثوم، وعندما أبديت "استغرابي" مستفزّاً له، وأنه قد يجاملني؟ أكد لي صدق أحاسيسه وتذوق غنائها، وأنه مستعد لسماعها لفترة طويلة رغم أنه لا يفهم العربية.

اللغة:

اللغة مظهر مهم من مظاهر الثقافة، فالكويتيون، مثلاً، يتكلمون نفس اللغة مع العراقيين وبلهجة قريبة ولهم نفس طريقة السخرية والمزاح وكانت شاعرتهم المشهورة الأميرة سعاد الصباح تكرس قصائدها الغزلية "لبطلها" صدام حسين أثناء حكمه وحرب السنوات الثماني العجاف، بينما كان العراقيون يموتون في هذه المحرقة، لكنه احتلَّ بلادَها وأحدث شرخاً كبيراً بين الشعبين بقيت آثاره حتى وقتنا الحاضر، ولولا ثقافتهما المشتركة رغم الفوارق لكان من الصعب جداً، بل المستحيل رأب الصدع تماماً بينهما.

لكن ما تبقى من "الاحترام" المتبادل بين الشعبين الكويتي والعراقي من خلال الفهم الثقافي للمجتمعين والابتعاد عن العنجهية  واحتقار الآخر، يمكن أن يعوض الخسارة الكبيرة وإزالة سوء الفهم بينهما بسبب الاحتلال. وتلعب هنا اللهجة المشتركة بين الشعبين وطرق السخرية والفعاليات الثقافية والنتاجات الأدبية والمسرحية وبالذات الكوميدية والفنية المشتركة دوراً كبيراً في إبراز التقارب الثقافي ولمنع تكرار الحرب.

أكتب هذه السطور وافكر الآن بالحرب القائمة هذه الأيام بين الشعبين الأوكراني والروسي اللذين يتكلمان بلغتين سلافيتين متشابهتين جداً باستثناء غرب اوكرانيا، وبالذات مدينة "الفوف"، التي يلفظها الأوكرانيون بفخر "الفيف"!

اللغة تقرب الشعوب وتوسع معارف الإنسان ومداركه وتجعله أكثر انفتاحاً على ثقافات الشعوب، "الكلمة الطيبة صدقة" كما يقول الرسول محمد والعرب عامّةً، فهي جزء من ثقافة المجاملات والمعاملات التجارية أيضاً عند كل الشعوب، وأسلوب التخاطب مع الآخرين باحترام.

وكذلك يقول الشاعر الدنمركي أووفه هاردرUffe Harder :  في قصيدته "استرجعوا الكلمة، استرجعوا اللغةَ":

باللغة يستطيع المرء أن يرسلَ إشارات إلى مسافات بعيدة،

اللغةُ هي ايضاً الطريقة التي يفكر المرء بها.

عندما تنكمش اللغة ينكمش الواقع.

وعندما "ينكمش الواقع" بالنسبة للعنصريين، أو لضيّقي الأفق من الطرفين، وعابسي الوجوه، يحصل خلل في فهم الآخر وينتهي أو يتوقف الحوار، ويؤثّر سلباً على المهمشين حتى من أهل البلد الأصليين، وطبعاً بالذات من اللاجئين والمغتربين في المجتمع لأنهم الفئة الأضعف في بداية إقامتهم في بلد اللجوء الجديد، فإن لغتهم يقل استخدامها وتضيق فرصهم فيه. فتعلّمُ لغاتِ الآخرين تقرب البشر بعضهم بعضا (من المواطنين الأصليين واللاجئين) وتسهل اندماجهم معاً وتزيد التعرف على ثقافاتهم المتنوعة والاطلاع عليها عن قرب والتخلّي عن النظرة الفوقية، وبالتالي يتحقق التفاهم بين الناس من مختلف الثقافات.

وقد قالت العرب "من تعلّمَ لغة قوم أمِنَ مكرَهم!".

ويقول الشاعر العربي صفي الدين الحلي:

تهافت على حفظ اللغات مجاهداً       

  فكل لسان في الحقيقة إنسانُ

الغرباء لا يُقبلون على تعلم لغة الموطن الجديد بدون حوافز مادية ومعنوية وشعورهم بالمقبولية والترحيب في المجتمع الجديد وسوق العمل. هذا من شأنه ان يقلص الفجوة بين مواطني البلد الواحد، "الأكثرية" تتخلّى عن أحكامها المسبقة النمطية كما أشرنا إلى ذلك أعلاه، وتنفتح على "ثقافة الأقلية" ولا تخاف منها، وبهذا يتم التخلص من ظاهرة "نحنُ" و "هُمْ" من خلال الاندماج بثقافة مجتمع ديمقراطي يحترم الجميع. وهنا يجب التركيز على الاندماج وليس التماهي أو الذوبان والانحلال! فالاختلاف في الرأي ثروة وغنى للمجتمع وليس خلافاً!

السفر يلعب دورا كبيراً في التعرف على الشعوب، تحضرني هنا قصة طريفه ذكرها لي أحد المغتربين، حدثت معه في ايام شبابه، كما يقول، في محطة قطارات صوفيا عاصمة بلغاريا، حيث كان يسأل الناس فيما إذا كان  القطار الواقف سيتجه إلى روما التي رغب السفر إليها، فكان جوابهم محيراً له، يهزون رؤوسهم يميناً ويساراً كأنهم يعنون "لا"!

في النهاية أنقذته لغته الروسية التي يفهونها، وقالوا له: نعم!

ففهمَ فيما بعد أنهم بالعكس يقصدون بهذه الحركة "نعم"، بينما طأطأة الرأس تعني "لا"!  هذه الإيماءة والإشارة بتحريك الرأس بهذا الشكل جزءٌ من الثقافة البلغارية.

حتى حركاتِ الناس والإيماءات والنبرات أثناء الحديث جزءٌ من ثقافة الشعوب! 

وقد تُسبّبُ سوء الفهم، ونفس الشيء يقال عن بعض المفردات ضمن نفس اللغة أو عدة لغات، فقد تكون عادية عند بعضهم لكنها قد تُستعمل كشتيمة في لغة أخرى!

والعياذ بالله من الشتائم وسوء الفهم والتفاهم!

***

د. زهير ياسين شليبه

القسم الأول: الطعام والثقافات، شيء عن مصطلح الثقافة

الطعام والثقافات: الثقافة هي السلوك والعادات والطقوس وطريقة التعامل مع الآخرين، وطبعاً الطعام، العراقيون مشهورون بقطع السمكة من ظهرها وشواء السمك المسقوف، ويعرّضون باطنها إلى النار حتى تستوي وتكون لذيذة، وفخورون طبعاً بها، منهم من يعتبرها مستمدة من حضاراتهم القديمة.

كانت بغداد مشهورةً منذ السبعينات بمطاعم متخصصة بشواء السمك الطازج "المسقوف"، وباراتها وحاناتها ومقاهيها على شارع أبي نواس الكائن على شاطئ دجله. هذه المشهد كان جزءاً من ثقاقة بعض البغداديين وسكان المدن الكبيرة بالذات.

لكن الصورة تغيرت بسبب الحروب والحصار الذي تعرض له العراق لأكثر من عقد من السنوات، وأخيرا الاحتلال الأميركي عام  2003 وسيطرة قوى سياسية دينية، والحرب الأهلية والإرهاب، وعادت تقريباً في الآونة الأخيرة بسبب تحسن الأوضاع الأمنية.

العراقيون يتغنون بأسماك الأنهار، في حين أنها مبذولة ورخيصة لا قيمة لها في بلدان أخرى مثل المغرب لأن الناس هناك لا يستطعمونها، يسمونها "سمك الواد"، يعني النهري ويفضلون البحري عليها. ثقافة اكلات السمك مختلفة عند الشعبين المغربي والعراقي، الأول بحري والثاني نهري رغم انتمائهما إلى ثقافة عامة: عرب وبربر مسلمين.

قال لي أحد العراقيين المغتربين المخضرمين:

أنا حالياً أفضل السلمون على الأسماك النهرية العراقية، التي تذكرني بطفولتي وثقافتي، لكن الآن تغيّرت الأذواق ولم أعد أميل لها بعد سنين طويلة من الغربة، يجب أن أكون جائعاً جداً حتى أستذوقها.

قلت ذلك لأحد العراقيين الجدد من الذين كنت أترجم له، فاجأني، قال مازحاً "أنت مو عراقي، انت خائن!"، لكنه أُصيب هو ايضا بنفس "الداء" بعد عقد من السنين قضاها في بلده الجديد الدنمرك، وصار "يموت" على السلمون! يبدو أن السلمون دخل في ثقافته واندمجَ في المجتمع الدنمركي!

لكنه "برّرَ" هذا الأمر قائلاً : "إن السمك النهري العراقي مثل "البُنّي"، ليس بالضبط نفس "الكارب" الذي نحصل عليه هنا في الدنمرك، وأن أغلبه سمك أحواض! في الحقيقة حتى في العراق تغير طعمه، ساءت جودته مقارنةً بأيام زمان، يقولون لأن نهر دجلة امتلأ بجثث القتلى في الحرب الأهلية! كل شيء صار خراباً عندنا!".

لكني أقول، (والكلام لحد الآن للمغترب المخضرم): إنه التنوع والتغير والتطور الثقافي الذي طرأ على هذا اللاجئ العراقي، فتأقلم مع ثقافة بلده الجديد، الدنمرك. العراقيون يتناولون طعاماً تقليديا منتشراً إلى حد ما في مناطق جغرافية بعيدة عنه تصل حتى القوقاز مثلاً: الرز يومياً وينوّعون المرق: الباميا أو الفاصوليا والخ، إضافة إلى الأسماك والدجاج، قد تكون مرة أو مرتين اسبوعياً، ولا أتذكر أن والدتي كانت تطبخ لعائلتنا الكبيرة أكلات "شبابية" مثل اللازانية، أو أنواع السلاطات الجديدة، فهذا النوع من الطعام الجديد قد تعدّه الفتيات الشابات بعد الاطلاع عليها بفضل مجلات مصرية أو لبنانية مثل "حواء" وغيرها التي كانت تصدر في الستينات والسبعينات. هذه هي ثقافة العراقيين، لا يحبون تغيير وجباتهم بسهولة!

حتى الأكلات الشعبية المعروفة عالمياً الآن مثل "حمص بطحينه" أو "الفلافل" لم تكن منتشرة في المطابخ العراقية المنزلية في الخمسينات، فقد بدأت تنتشر في المطاعم أولا ثم أخذت الأمهات الشابات "المثقفات" التعرف عليها وإعدادها في المنازل.

الآن تنوعت الأكلات في العراق يوميا وليس في الأعياد وشهر رمضان والحفلات فحسب، وتغيرت ثقافة الطعام.

هذا هو دور الاطلاع لتذوق والتعلم والمعرفة، الذي يؤدي إلى الاندماج مع ثقافة الآخر، لكن برغبة وليس تحت الضغط أو التهديد والوعيد!

الأكل العراقي كان تقليديا يعتمد على الرز والمرق، يعكس ثقافة متأثرة بالوضع الاقتصادي والمحيط الجغرافي. لكن دائماً هناك استثناءات واختلافات، فأكلة الدولمة المشهورة يتم إعدادها بمختلف الطرق والإضافات من بلد إلى آخر، ومن مدينة إلى اخرى، بل من بيت إلى آخر، كانت تقتصر على اللهانة والسلق، اصبحت فيما بعد تشمل أوراق العنب.

والشيء نفسه يقال بالنسبة لأكلة "الكبة"، هناك كبة الموصل، وكبة حلب، وكبة البرغل، أنواع الأكلات العراقية تعكس ايضاً تنوع عدة ثقافات وتواصلها مع الآخر.

اللاجؤون والمغتربون العراقيون أينما كانوا متعلقون بأكلاتهم وتراثهم ولهجاتهم وطرق كلامهم القديمة "الجاركون، والسلانك"، الأمر نفسه يقال عن المغتربين الدنمركيين في أحيائهم المغلقة ومستعمراتهم: نيكوشيا تانديل أرّويس Nicochea-Tandil arroys في الأرجنتين، وفي سولفانح في كاليفورنيا.

فالعراق خليط من إثنيات مختلفة ومُحاط بسوريا والسعودية والأردن والترك والفرس وفيه حضارات وأديان قديمة مثل السومرية والأكدية والآشورية وعاش فيه اليهود والنصارى والمسلمون جنباً إلى جنب "بسلام" لقرون حتى تأسيس إسرائيل وبدأ الصراع في الشرق الأوسط مع الأسف.

هؤلاء ثقافتهم العامة عراقية: اللغة، اللهجة، الملبس، المأكل، الغناء، الموسيقى، الرقص، المقاهي والخ

لهذا لا يزال الإسرائيليون العراقيون، بالذات من الجيل الأول يحتفظون بجزء كبير من بعض عراقيتهم مثل الطبخ، ويؤدون أشهر الأغاني العراقية القديمة في حفلاتهم الخاصة والعامة. ومن المفترض أن يكون هذا مصدر قوة لهم من حيث المساهمة بتكوين ثقافة مجتمعية ديمقراطية.

لكن العنف صار سيد الموقف بعد "تحرير" الأميركيين للعراق لعدة سنين، ورغم ذلك يتعايش فيه الآن المسلمون وماتبقى من النصارى والمندائيين الصابئة وطوائف مختلفة بسلام حذر.

في فترة الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 سكن في العراق العديد من المصريين المشهورين بأكلتهم المفضلة "الملوخية"، والمفروض ان تنتشر في العراق، لكن مع ذلك لم يتعود العراقيون عليها. وهي موضوعة تستحق الدراسة والبحث الإنثوربولوجي الثقافي. أنا عراقي وأحب هذه الطبخة لم استسغها في البداية، لكني بالتأكيد اضطررت لتناولها بسبب "الجوع" اثناء الدراسة خارج العراق بعيداً عن والدتي، قبل أن أتعود عليها، والآن أعتبرها من اطيب الأكلات، وأصبحت جزءاً من ثقافتي التي تعني طريقة الحياة بالنسبة لي.

شيء عن مصطلح الثقافة:

الاختلاط  بالآخرين يلعب دوراً كبيراً في التعلم والتثقف واكتساب العادات الجديدة، هذا ما حصل في عصر الأنوار فاصبح للثقافة معنى في أوروبا أوسع بكثير مما كانت تعنيه كلمة "كولتورا" اللاتينية الأصل، فصارت مفهوماً واسعاً يشمل كل ماله علاقة بالسلوك والعناية بتطوير الذات الأنا والآخر والبيئة والمأكل والملبس والمشرب، أو "الإتيكيت"، فظهرت مصطلحات عديدة مثل "الثقافة الفرنسية" ومن ثم "الألمانية" و"الثقافة الشعبية" والخ.

يمكن أن نورد هنا تعريفات مختلفة للثقافة، لكني أريد أن اقتصر بالذات على سرد انطباعاتي الشخصية لهذا الأمر وأهميته في الاختلاط والاندماج مع الشعوب الأخرى.

في اللغة العربية لم يكن لكلمة "ثقافة" بالضبط نفس معنى "كولتورا Cultura"، التي تعني في الأصل "حالة" الاهتمام بالزراعة والحقول والرعي، وصارت تعني التهذيب. عندنا أن تقول عن شخص "مثقف" يعني بالدرجة الأولى أنه مطلع على معلومات ومعارف مختلفة، وليس لها علاقة مباشرة بسلوكه اليومي وطريقة حياته، أو بالتهذيب مثلاً، لكن أصلَ معناها القديم يعني أيضاً "الصقل والاحتراف"، ويقال عنها في المعاجم: ثقف الرمح إذا قوّمه وسوّاه، ويقال "ثقف الولد، إذا صار حاذقا"… وثقف الكلام: حذقه وفهمه بسرعة". ووردت في سورة الأنفال، الآية رقم 57 في القرآن بمعنى الظفر بالشيء وتقويم الرماح والخ.

أعتقد أن كلا المصطلحين يعبر عن حالة، فعل يؤدي إلى تغييرات وتِقانات ومهارات وبالتالي سلوك وعادات وتقاليد أخرى، فمثلاً ظهرت ثقافة غناء الرعاة والصيادين والريف والمزارعين وظهر منذ غابر الأزمان الشعر الرعوي، مثل كتاب "بوكوليكا" لمؤلف الإنياذه فرجيل (يوليوس فيرجيليوس ماريو، ولد عام 70 قبل الميلاد).

Publius Vergilius Maro

وتَطوّر الرقص في أوروبا بفضل الحريات حتى وصل إلى رقصات القصور"البال" التي صورتها الروايات الكلاسيكية، وفيما بعد الباليه والخ، بينما لا يزال الرقص الشرقي شائعاً في الثقافة العربية رغم التشدد الديني، وظهرت "ثقافة الفنون" التي عكست إبداعات فئات معينة من المجتمعات.

في عصر الأنوار اهتمت طبقة النبلاء وحاشيات الملوك بتقليد الثقافات الجديدة، بالذات الفرنسية وكانوا يدربون الخدم والحاشية والمنظفين والطباخين على سلوكيات معينة مثل اللياقة والأناقة واللباقة، أُصطُلحَ عليها ب "إتيكيت"، من الألف إلى الياء: كيفية الطبخ والملابس والرقص وتناول الطعام. ظهر فيما بعد دَور الثقافة الألمانية وبدأت تنافس الفرنسية، وظهرت تعريفات كثيرة للثقافة، أقربها إليً: ماقاله عنها المسيو هيريوت  Edouard Herriot "الثقافة هي ما يتبقى لدينا بعد أن ننسى كل شيء".

Culture is what remains after we have forgotten everything else” /

واستخدم ألبرت اينشتاين Albert Einstein هذا التعريف، ويقال إنه إستعاظ بكلمة التعليم بدلاً من كولتورا في مناسبة معينة:

Education is that which remains, if one has forgotten everything he learned in school.

فالثقافة في المفاهيم المعاصرة ايضاً لها علاقة بتعلّم المرء، ولهذا يبدو الإنسان المثقف الحقيقي أحياناً كمتعلم، ومتمرس ومتحضر ومتمدن، وإذا كان على حظ من الموهبة فقد يصقلها، أو لديه شبكة علاقات عامة واسعة أو "واسطة" قد يصبح فناناً وصحفياً لامعاً إذا عرف كيف يجامل أصحاب القرار، قد يرفضها بعضهم ويعدّوها "مسح كتافات"، ويسمّوها  ثقافة التملق.

أجل، هذه سلوكيات بحد ذاتها تعكس ثقافة منتشرة في أوساط مهن معينة مثل الصحافة ووسائل الإعلام والفنون وفي دوائر الدول والوزارات، عادة ما تكون لها مسميات. بل اصبحنا نسمع كثيراً بتعدد الثقافات حتى ضمن المؤسسات، قد يحددها مدراؤها ومالكوها، ولكل بيت ثقافته. واليوم كلما تعمقنا بدراسة مفاهيم الثقافة وجدنا صعوبة الإحاطة بها كونها مفهوماً واسعاً مرناً.

صحيح أن كل مجتمع يتميز بثقافته الخاصة به، لكنها اصبحت متقاربة نسبياً، بالذات في المدن الكبيرة وفي أوساط المثقفين والمتعلمين أينما وجدوا بفعل تاثير العولمة.

هذا ما أشار إليه عالم الاجتماع البريطاني أنثوني جيدينس في كتابه "لطريق الثالث" الذي أكد على تأثير التحديث والعولمة على الحياة الاجتماعية والخاصة. فصارت اليوم الكتب الجديدة وكراسات المعلومات عن ثقافات العالم في متناول اليد بمختلف اللغات بفعل انظمة الترجمة السريعة المنتشرة.

The Third Way  . Anthony Giddens

***

د. زهير ياسين شليبه

 

فقدت الحركة الادبية المحلية في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، احد اعمدتها البارزين، وودعته في اليوم التالي، الى مرقده الاخير بأكاليل الورد والرياحين التي طالما احبها وتغنى بها فيما تركه من ارث ادبي قصصيّ لامس العديد منه حفاف الخلود وكرّسه منذ سنوات بعيدة موغلة في البعد، واحدًا من رواد القصة القصيرة الفلسطينية بعد قيام اسرائيل، وقد حظي الكاتب محمد نفاع (14 ايار من عام 1939- 15 تموز 2021) باهتمام واسع محليًا وعربيًا وحتى عالميًا، فاقبل القراء على مطالعة ما خلّفه من ارث قصصي غني، اقبال المدرك المحب لأهميته الادبية الثقافية، كما حظي باهتمام عربي واجنبي، تمثل في اعادة نشر قصصه وترجمتها إلى العديد من اللغات الحية، كما تمثل في الدراسات اللافتة التي كتبها عنه دارسون ذوو اهمية ومجلّون في مجال الدراسة الادبية السردية خاصة.

محمد نفاع من مواليد قرية بيت جن الواقعة في منطقة الجليل الاعلى، وقد عُرفت قريته هذه بطبيعتها ذات المناظر الفتانة الخلّابة. تلقى تعلمه الاول في مدارس قريته بعدها تلقى تعلمه الثانوي في قرية الرامة. درس الادبين العربي والعبري في جامعة القدس العبرية. تنقل بين اعمال متنوعة ومتعددة مما اكسبه تجربة وخبرة حياتية واسعة، وجعله بالتالي ذا معرفة متعمقة في مواقع قريته وتضاريسها، وقد اغتنت قصصه بأدق التفاصيل المتعلقة بقريته، مما جعله كاتبًا مكانيًا، لا سيما في قصصه الاولى والمتوسطة، حتى انطبق عليه ما قيل عن الكثيرين من الكتاب في العالم، مثل العربي المصري نجيب محفوظ الذي لم يخرج من مدينته القاهرة الا ليعود اليها. مكانية نفاع هذه منحته عمقًا موغلًا في ارض قريته وما احتوته من نبات وامكنة تحمل الاسماء الفارقة، وما عاش فيها ودب على ارضها من كائنات مختلفة. زاد في هذا العمق اطلاع واسع على العديد من النماذج الادبية العالمية لا سيما الروسية. شغل نفاع خلال حياته المديدة العديد من المواقع السياسية والثقافية، وقف في مقدمتها منصبه عضو كنيست في البرلمان الاسرائيلي خلفًا للشاعر الراحل توفيق زياد، ورئاسته لتحرير صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية العريقة، الا انني لن اتحدث عن هذا الجانب من حياته وآرائه السياسية وافضل ان اتحدث عن الجانب الادبي في حياته، هذا الجانب الباقي منه كما ارى.

الارض حبيبته

ابتدأ محمد نفاع الكتابة عام 1964، وكانت بدايته هذه مع الشعر إلا انه ما لبث ان انصرف عنه لفشله في كتابته كما صرح في احد الحوارات معه. انصرف عن الشعر ليتخصص في كتابة القصص القصيرة، وقد ترك في مجال السرد القصصي والروائي عددا من الاعمال الادبية منها:

1. العودة إلى الأرض (قصص)، 1964.

2. الأصيلة (قصص)، دار عربسك، 1975.

3. ودية (قصص)، الأسوار، عكا، 1976.

4. ريح الشمال (قصص)، الأسوار، 1878.

5. كوشان (قصص)، عكا، 1980، القاهرة، 1980.

6. الذئاب (قصص)، مرج الغزلان (رواية)، عكا، 1982.

7. وادي اليمام (قصص).

8. خفاش على اللون الأبيض.

9. أنفاس الجليل (قصص)، 1988.

10. فاطمة (رواية)، منشورات راية. حيفا،2015.

بذور قصصه

البدايات القصصية الاولى لكاتبنا الراحل، تمت كما سبق في اواسط الستينيات، وقد تزامنت مع طلائع هامة في كتابة القصة القصيرة المحلية، في مقدمتها الكاتبان محمد علي طه وزكي درويش، وقد لفت نفاع النظر منذ البداية مع ان لكل من هؤلاء الكتاب الثلاثة طعمه، رائحته ولونه، وكانت الميزة التي ستتجلى فيما تركه محمد نفاع من انتاج قصصي، هو ذلك التعلق بالأرض والالتصاق بها عُمق التماهي معها، والفريد ان كاتبنا عاش قريته المعروفية بكل عمق وصدق منطلقًا من روح شعبية وتراث اسطوري خصب، وهو ما انتشر في قصصه حد المبالغة احيانًا، وقد دفعت خصوبة فقيدنا هذه الشاعر الصديق الراحل ايضًا سميح القاسم إلى أن يمتدحه وهو يستقبل عام 1968 احدى قصصه ابان عمله محررًا لمجلة "الجديد" الحيفاوية، بقوله لكاتب هذه السطور: هذا كاتب هام جدًا. انظر إليه كيف يصف عزف الراعي الفلسطيني على شبابته بانه راح ينجر عليها. هذه المواصفات التي ميّزت كاتبنا دفعت الشاعر القاسم لان يطبع ضمن منشورات "عربسك" الخاصة به، المجموعة القصصية الهامة لكاتبنا الرحل وهي "الاصيلة" . ولم يكن القاسم هو المفتون الاول بقصص فقيدنا وانما امتدت هذه الفتنة لتشمل قطاعات شعبية واكاديمية واسعة النطاق كما سلفت الاشارة.

اليوم وانا اعود بالذاكرة إلى النتاج الادبي القصصي لفقيدنا اتذكر قصصه: خفق السنديان، الاصيلة، ودية والداغ علاماتٍ فارقةً في قصتنا العربية المحلية، وارى فيها روحًا ادبية شعبية تستمد نسغ حياتها وكينونتها من اعماق بلادنا وانسانها المتطلع الى الحرية والمحبة، روحًا وصلت إلى آماد بعيدة الغور وذات اعماق سحيقة في اليومي والاسطوري ايضًا، وهو الامر الذي جعلني اعيد نشرها في اكثر من كتاب ومجلة ادبية على اعتبار انها من روائع قصصنا المحلية.

محمد نفاع.. باق في الوجدان والذاكرة..

***

ناجي ظاهر

المتفق عليه أن الفنون الجميلة هي منار العقل ومصباح النفس والباعثة على الاطمئنان إلى الصفاء الروحي، وهي الصحيفة النقية الصافية في حياة الإنسان المتطلع إلى المثل العليا .

يخطئ من ينبري عند البحث والدراسة عن بدايات تأسيس الحركة التشكيلية أن يجرؤ على استبعاد جيل الروّاد الأوائل صنّاع الفن الحديث الذين فتحوا المجال أمام اسهامات مؤسسات رسمية ونقاد لمواكبة إبداعاتهم الفنية ونشرها ، إن تعظيم جيل الروّاد هو اعتراف بجميل جهودهم وتقدير عميق لفضل تحملهم عناء المبادرة ، إنه تعظيم تفرضه مبررات واقعية تسعى كل الدول من أجل ترسيخ تقاليده والاحتفاء به لبعث مشاعر الاعتزاز ، ولضمان تنميته ووجوده في إطار الوعي به، وإثراء الحركة الفنية بالقراءات والتحاليل لتأريخ الفن التشكيلي في مختلف الدول فتتوارثه الأجيال، لقد كانت جهودهم محطة مفصلية لنقل الشعوب إلى زمن جديد من رقة الاحساس ورقي التفكير وارتقاء الإبداع، من خلال البراعة في رسم لوحات خالدة ، ناطقة عن سحر البيئة ومدى أصالتها وثرائها البيئي المميز، هي رسومات للحب وللوطن وللمرأة تتحدث فيها الرموز لغة تشكيلية مليئة بالإيحاءات الرمزية التي تحمل الأبصار إلى حركية تلتقي فيها الأشكال بسحر الألوان فيترجمها كل ناظر إليهاعلى طريقته إذ هناك من يستعمل الألوان لتفريغ الهم الاجتماعي.

لقد كان الفضل السبق التاريخي في هذا المجال أثره في تنمية الحس الجمالي ونشره للارتقاء بالذوق الفني ، إنه فضل يضع كل من ينكره في إطار التطاول القميء والنكران القبيح لرموز أسست  بعرقها ودمها وروحها الحركة التشكيلية الرائدة ونشرت الثقافة الفنية وساهمت في إنشاء أقسام الفنون الجميلة في المعاهد والجامعات وأثرت المكتبات بالكتب المتخصصة واستقبلت كثير ممن هم اليوم يجحدون!!

قيمة الفنون الجميلة تنبع من ذاتها،إنها البحث عن الطريق الجمالي لإيصال المعلومة للمجتمع ،لذلك فهي تنشأ بطابع محلي عفوي ، صافي، معبرة بصدق عن واقع حي وعيش قائم وحياة تدب في الأرجاء. وروح الفنان الموهوب يعكسهاحجم الإبداع المستغرق في عمله الفني  صدقا ووحيا وإلهاما، وقد نعجب للشخصية القوية المؤثرة للفنان ذو المزاج الأكثر حساسية ، المتمتع بدراسة أكاديمية جادة للطبيعة تخلق لديه ذلك الميل الفطري للبحث عن صيغة جديدة لموروثاته الفكرية وكلما كان الفنان منفتحا على حقول معرفية أخرى اتسع أفق تجربته الفنية  لذلك فهو يأبى الجمود في رؤيته لأنه يجعله لا يأبه بتغير الواقع من حوله، ولكن هذا الجمود في حد ذاته قد يعكس أيضا رغبة أكيدة وتصميم الواثق على الاستمرار في تكرار ظاهر العالم القديم في نوع من الحنين الدائم إلى زمن ما . والعمل الفني الصحيح لابد أن يكون له جانب تاريخي واجتماعي وإنساني، والأمم المصابة بقصور في حركتها التشكيلية تعاني من الأنيميا الفنية ومع ذلك فعندما تريد الخوض في مجال لا تعرفه بل وتهدف إلى تشتيته وتغييره فإنها تعرض نفسها للانتحار الفني لأنها تريد القفز نحو المجهول حيث لا يوجد امتداد لها فيه.

إن من ينبري لتسويف ماضي الروّاد يريد أن يبادر بالمقاومة الفكرية لظاهرة التعمق في الحركة الإبداعية التي فاته أن يرافقها فعمد إلى أن يقوم بتقليص أدوار صناع الفن الحديث ومساحات حركاتهم ومجال تأثير إبداعاتهم ، أنها محاولة بعيدة كل البعد عن إي ادعاء بتفحص شتى التعبيرات الفنية التي يعبر بها الوعي عن نفسه ويشتق منها السلوك ، بل تخفي سوء نية وقصور تفكير وعقدة نقص بعيدة عن الغرض الحضاري التفاعلي لحسن تصور المعاني ولاستخراج أجمل ما في الأعمال الفنية من مشاعر وتلمس أنبل ما تتضمنه من مواقف.

الفنون الجميلة أرقى ينابيع النهر الإبداعي، إنها فضاء راقي متعدد الألوان بين حالات الفرح والحزن، إنها ترسم صورة المشاعر وتلونها. والتاريخ يشكل مادة هامة بالنسبة لأي فنان ولكل مبدع ، والفن يغرف موضوعاته من ينبوع التاريخ ويرتوي من الواقع المعاش، والفنان ليس مؤرخا مكلفا بتوثيق الحقيقة ولكنه يستعمل الحقيقة التاريخية كوسيلة للتعبير عن أفكاره وآرائه وتصوراته، والفنان حر في نظرته للتاريخ ومن حقه أن يفسر الحوادث كما يشاء بما يخدم رؤيته وغايته الإبداعية، على أن الإيمان بحرية المبدع لا تعفيه من تحمل المسؤولية تجاه فنه لأنها تعني الالتزام بقيم الحق والخير والجمال، وهذه هي القيمة الحقيقة للفنون الجميلة.

***

صبحة بغورة

تظل العتابة من أروع ألوان الأدب الشعبي، واوسعها انتشارا، وتداولا بين الأجيال في ريف الديرة، ليس فقط باعتبارها جزءاً من هويّة الموروث الشعبي وحسب؛ بل لأنها تعبير شاعري مرهف، عن وجدانيات مجتمع متوهج العاطفة، بكل تفاعلاتها الإنسانية، والزمانية، والمكانية، الشجية منها، والسارة.

ولذلك لا زال الوجدان الشعبي الريفي لمجتمع الديرة، يحفل بثراء زاخر في موروثه منها، نظما واداء على الربابة .. بسبب عراقتها الضاربة في وجدانه، واستجابتها الجامحة للتعبير عن أوجاع هذا الوجدان المرهف، كلما سعرها في أعماقه لهيب عاديات الزمن.

واليوم، كعادته، اتحفنا أديب عتابة الوجع، بيج الماجد، بعتابة إبداعية في غاية الروعة والجمال، نظما وتوظيفا للمفردة الشعبية (ولف) بمختلف دلالاتها الشعبية،تعبيرا عن وجعه وحزنه الغائر في أعماق وجدانه.. الذي استعصى على النسيان بمرور الزمان، ولم يعد، بعد من فقدهم.. قابلا للمواساة .. حيث يقول فيها:

 آني وساري العبدالله ولف هم..

حزن وفراگ والضاعوا ولفهم..

تعالوا يهل المروّه والفهام..

عگبهم لا يواسينا حدى..

واذا ما تم غض النظر عن عطائه في ابداعه المتواصل في نظم العتابة،حيث يفاجئ قراءه كل يوم بجديد ..فإن إبداعه في انتقاء المفردة الأكثر دلالة في التعبير عن مراده منها لأوجاعه .. وقدرته على توظيفها ببلاغة مدهشة في عتابته، تجعل منه اديبا متميزا .. وناظما بليغا، يتجاوز بموهبته وبلاغته كل الألقاب المتداولة.. التي قد تخطر على البال، لتعطيه حقه في الوصف، الذي يعبر عن مكانته الحقيقية.. ولعل أقرب لقب يمكن إطلاقه عليه بما يقترب من وصفه حاله،معاناة وإبداعا واشجانا..هو (أديب عتابة الوجع) .. ليكون بهكذا وصف.. سليلا طبيعيا،وبكل جدارة،لأسطورة العتابة فطيم البشر ..

***

نايف عبوش

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم