قضايا

في الجزائر ودراسة الأدب المغربي القديم

جمع الأديب والباحث الأكاديمي الأستاذ الدكتور العربي دحو عدة صفات جعلته يتبوأ مكانة متميزة في عالم الأدب، والثقافة، حيث إنه أحد أبرز الذين اهتموا بالثقافة الشعبية، وركزوا جهودهم على جمع الشعر الشعبي في مختلف المناطق، فهو أحد العناصر النشيطة، والفاعلة في خدمة الحركة الأدبية، و العلمية في منطقة باتنة، والجزائر قاطبة بكفاءة، و جهد، ومثابرة، وصدق ويمتد التاريخ الأكاديمي للبروفيسور العربي دحو إلى أكثر من نصف قرن، و خلال حياته العلمية، أثرى المكتبة العربية بعدد كبير من المؤلفات، ومن المساهمات الأدبية، والتربوية، والثقافية.

إنه واحد من الجامعيين الجزائريين الذين قدموا خدمات جليلة للأدب الجزائري، كما أنه من ألمع الشخصيات الأدبية، والثقافية الجزائرية منذ السبعينيات من القرن المنصرم، أسهم مساهمة فعالة في خدمة التراث الشعبي، ودراسة الأدب المغربي القديم، وتحقيق بعض الدواوين الشعرية المغربية، التي تكتسي أهمية بالغة، وقد تناوله الباحثون في مقالاتهم، وكتاباتهم على أنه أديب،، أو أنه شاعر، وأكاديمي، و تهدف هذه الورقة إلى إلقاء الضوء على بعض مصنّفات هذا العلم البارز من أعلام الأدب، والدراسة، والتحقيق في الثقافة الجزائرية،

وتتناول في شقها الأول: جهوده في خدمة الشعر الشعبي الجزائري، فتتحدث عن بعض مصنّفاته المتميزة في هذا الميدان، وتُقدم في الشق الثاني منها بعض الإضاءات على منجزاته العلمية في مجال دراسة الأدب المغربي القديم.

إننا نُلفي في كثير من الشهادات التي قدمها مجموعة من الأدباء، والمثقفين الجزائريين الذين عرفوا الأستاذ الدكتور العربي دحو أصداء لجهوده، ومنجزاته في المشهد الثقافي الجزائري، حيث يقول عنه الناقد المعروف الدكتور عبد الملك مرتاض: «العربي دحو وجه من وجوه الحركة الثقافية، والأدبية المعاصرة في الجزائر، فقد عرفناه متعدد النشاط الثقافي، والسياسي، والاجتماعي، فبينما هو شاعر يقرض الشعر، هو في الوقت ذاته جامعي يلقي المحاضرات على طلاّب جامعة باتنة، ويبحث في الأدب الجزائري قديمه، وحديثه، وفصيحه، وشعبيه، وبينما هو عضو قيادي سابق في اتحاد الكتاب الجزائريين، هو عضو سابق في البرلمان الجزائري على عهد الحزب الواحد. تجمعني بالعربي دحو علاقة ثقافية، وعلمية خاصة، تبلون حين كنا في قيادة اتحاد الكتّاب الجزائريين أيام الحزب الواحد، فقد كنا نقضي أياماً معاً في أنشطة ثقافية بالشرق، والغرب، والوسط، كان الاتحاد يقيمها، كما أتيح لنا السفر معاً إلى خارج الوطن، بحكم ذلك...» (1) .

وقد كشف الدكتور عبد الملك مرتاض لدى ترجمته للأديب العربي دحو عن بعض الرؤى النقدية، والفكرية التي تميز بها، حيث يشير إلى معرفته بأن العربي دحو كان يرى أن« الناقد لا يكون ناقداً متألقاً خريتاً في جنس أدبي ما، إلا إذا كان أديباً فاعلاً في ذلك الجنس، فناقد الرواية لا يكون ناقداً متمكناً من إجراءاته ما لم يمرّ بالتجربة في الكتابة الروائية، و لا يقال إلا نحو ذلك في ناقد الشعر، وهلم جراً... » (2) .

وقد جاء في موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين التي أعدها الأديب والباحث الأستاذ رابح خدوسي: « دحو العربي من مواليد: 12-09-1942م، بمروانة (باتنة)، أستاذ جامعي، حاصل على دكتوراه دولة، من مؤلفاته: أهازيج جزائري عاشق (شعر 1988م)، و ذاكرة الظل الممتدة (شعر1988م)، وبعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية (دراسة1986م)، ودراسات وبحوث في الأدب الجزائري (1991م)، والشعر المغربي (1994م)، وديوان أبي الربيع عفيف الدين التلمساني الصوفي (1994م)، عضو المجلس الوطني لاتحاد الكتاب الجزائريين عام: 1998م. (3) .

أولاً: أضواء على جهوده في خدمة الشعر الشعبي الجزائري:

لقد أصدر الدكتور العربي مجموعة من الكتب، والمؤلفات العلمية، كما كتب عدداً كبيراً من الأبحاث الأكاديمية، نُشرت في مختلف المنابر الأكاديمية الجزائرية، والعربية، و شارك في عدة ملتقيات أدبية، وعلمية، وقد كان عضواً في عدد من الهيئات العلمية المرموقة، والحق أن آثار الباحث الأكاديمي العربي دحو هي أرحب، وأوسع من أن تحيط بها قراءة، أو بحث، مهما بُذل فيه من جهد، وأود في هذه الورقة أن أقدم إلى القارئ الكريم، وبشيء من الإيجاز، في هذا القسم الأول من البحث، ما تيسر لي من الاطلاع على مؤلفاته في ميدان الأدب الشعبي، أو الثقافة الشعبية، كما يُفضل بعض الباحثين تسميتها، وذلك على أساس أن الثقافة (4)، أوسع دلالة، وأشمل من مصطلحي الشعر، أو الأدب، وبدءاً أقول إن هناك من يُبرر دراسة الأدب الشعبي لجُملة من الأسباب الموضوعية، ومن بين هؤلاء العلاّمة المغربي عباس الجراري، الذي يُحدد أسباب تركيز الدراسة على الأدب الشعبي ب:

1-إن الأدب الشعبي صورة للشخصية الوطنية، مهما كانت باهتة فهي أكثر وضوحاً من الصورة التي يعيشها الأدب المدرسي المثقف.

2-إن دراسته تعزيز لإقليمية الأدب، وتقرير لمذهبه الذي نؤيد الداعين له منهاجاً للكشف عن أدب الأقاليم العربية المختلفة، وسبيل الأمة العربية إلى لم شتات أدبها المبعثر المجهول.

3- إن الأدب الشعبي مكمل للأدب المدرسي، وأن من شأن دراسته أن تُساعد على الربط بين الأدبين، واجتياز الهوة الكبيرة التي تفصل بينهما (5).

1- لمحة عامة عن الأدب الشعبي ونشأته:

والحق أن مسألة دراسة الأدب الشعبي لهي مسألة مثيرة للجدل، وقد خاض في غمارها الخائضون، ونستشهد في هذا الشأن بمنظور العلاّمة الجزائري (أبو القاسم سعد الله)، حيث يقول في شهادته عن الأدب الشعبي: «بيني وبين ما يُسمى بالأدب الشعبي علاقة غير ودية، فهو عندي علامة على جهل أصحابه، وأميتهم، يلجأون إليه، بدل الأدب الراقي الجميل، للتعبير عن خلجات نفوسهم ومشاعرهم.أما المثقف عندي فيترفع عن الأدب السوقي، أو العامي، كما يترفع في حياته، وآدابه، ودروسه، ومؤلفاته عن الكتابة، أو الحديث بلغة العامة، لأن ذلك ينحدر بمستواه الثقافي، وربما الأخلاقي والاجتماعي أيضاً، فيصبح في نظر المثقفين عاجزاً عن أداء أفكاره بلغة راقية تحتوي على عناصر الفن الأصيل، والجمال الأدبي، الذي يرفع صاحبه إلى مصاف الفحول، والمبدعين ويبوئه المكانة التي يستحقها، والتي هي الإسهام في تربية المجتمع، وترهيف الذوق، وخدمة اللغة.ومن أجل ذلك لا أحترم الأديب المثقف الذي يدعي أنه يكتب بالفصيح، والملحون (أو النبطي عند بعض أهل الخليج). وهذا الموقف مني ليس موقفاً استعلائياً، ولا طبقياً، وإنما هو اعتراف بواقع، فكما أن الناس، والطبيعة، والأشياء درجات، ومقامات، فكذلك الأدب، وخاصة الشعر: منه الراقي، والوضيع، والجميل، والقبيح، والفني، والسوقي. لذلك يُمكن للأدب الشعبي في نظري أن ينقل الأخبار، وأن يبث دعوة، وأن يروج لفكرة، أو لشخص، ولكنه لا يُمكن أن يُربي ذوقاً، أو يُرقق حساً، أو يؤسس لحضارة» (6).

ويذهب شيخ المؤرخين الجزائريين إلى أن الأدب الشعبي مضر باللغة القومية، وتراثها القومي، فهذه اللغة هي الرابطة المشتركة بين صاحب النص الشعبي، وقومه الذين ينتمي إليهم، ويتقاسم معهم، ويشترك في حب التراث، والدفاع عنه، عندما تُفاخر الأمم بأمجادها، وإرثها الحضاري، بما فيه الأدب الخالد، مثل: المعلقات، والشاهنامة الفارسية، فتمجيد الأدب الشعبي، والرفع من شأنه (وهو بطبعه أدب غير رفيع)، سيخرجه من دائرته ليصبح أدباً ذاتياً لا يفهمه إلا صاحبه، فإذا توسع فقد يصبح أدباً للغة أخرى هجينة، تتطور تدريجياً لتصبح لسان حال قوم جدد، وعصبيات مصطنعة، والنقطة الأخرى التي يُبه إليها العلاّمة سعد الله هي أن الأدب الشعبي قد تم استغلاله من قبل الاستعمار الفرنسي، الذين اتخذوه دلالة على تشرذم اللغة الواحدة، ومن ثمة تفكك مجتمعها، وابتعاد أهلها عن بعضهم، نظراً لعدم قدرتهم على التفاهم بلغة واحدة (7).

والجدير بالذكر في هذا الصدد أن الزجل (الشعر الشعبي، أو العامي) يعد فناً من فنون الشعر التي استحدثت في البلاد الأندلسية، حيث ظهر بعد الموشحات، إذ يُرجح العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون أن دخوله كان مُتأخراً، ونفهم أن ظهوره جاء بعد الموشحات، في قوله: «ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته، وتنميق كلامه، وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيه إعراباً، واستحدثوا فناً سموه الزَّجل، والتزموا النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد، فجاؤوا فيه بالغرائب، واتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم الأعجمية» (8)

إن جميع القرائن تؤكد على أن الزجل قد جاء مُتأخراً، بعض الوقت عن فن التوشيح، أو الموشحات، فهو يندرج تحت لواء المرحلة الثالثة لتحول الشعر في بلاد الأندلس، فالمرحلة الأولى-وفق منظور الباحث مصطفى الشكعة-هي مرحلة الفصيح الذي استمر، وسوف يستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والمرحلة الثانية هي مرحلة إدخال العامية إلى الشعر مع تحوير في بناء القصيدة، وتعدد الأوزان والقوافي، فقد أُدخلت العامية من خلال الخرجة في الموشحات، والمرحلة الثالثة هي مرحلة قول منظومات عامية تلتقي مع رغبات العامة، ومن لا يُجيدون العربية من أبناء البلاد، وملوك البربر، وقد عُرفت هذه المنظومات العامية باسم الزجل (9)

والجدير بالذكر أن النقاد العرب القدماء، قسموا الشعر العربي إلى سبعة أنواع، هي: « الشّعرُ القريضُ، والمُوشَّحُ، والدوُّبيت، والزَّجل، والمواليَّا، والكانْ وكانْ، والقوما قوما، ومنهم من جعل الحُمَّاق من السبعة، وفي ذلك اختلاف، وعند جميع المحققين أنَّ هذه الفنون السبعة، منها ثلاثة معربة أبدًا لا يُغْتَفَرُ اللّحن فيها، وهي الشعر القريض، والموشَّح، والدُّوبيت، ومنها ثلاثة ملحونة أبدًا، وهي: الزَّجل، والكان وكان، والقوما، ومنها واحدٌ، وهو البرزخ بينهما، يحتمل الإعراب واللّحن، وهو المواليا، وقيل: لا يكون البيت منه بعض ألفاظه معربة، وبعضها ملحونة، فإنَّ هذا من أقبح العيوب التي لا تجوز، وإنّما يكون المعرّبُ منه نوعًا بمفرده، ويكون الملحون فيه ملحونًا لا يدخله الإعراب» (10)

فما نفهمه من هذا النص الذي أورده الأبشيهي أن الزجل، يعد نوعاً من أنواع الشعر العربي، وإن كان مكتوباً بلغة غير فصيحة، لغة الحديث اليومي بين عامة الناس، وقد وضح صفي الدين الحلي قاعدة هذه الفنون الشعرية في كتابه: «العاطل الحالي والمرخص الغالي»، ورأى: أنَّ أهل العراق، وديار بكر، ومن يليهم يثبتون الخمسة منها، ويبدّلون الزجل والحمّاق بالحجازي، والقوما، وهما فنان، اخترعهما البغاددة للغناء بهما، في سحور شهر رمضان خاصة في عصر الخلفاء العباسيين، وعذرهم في إسقاط الزجل، هو أن أكثرهم لا يفرّقُ بين الموشح، والزجل، والمُزَنَّم، فاخترعوا عوضه الحجازي، كما اقتطع الواسطيّون المواليَّا، وهذا يشبه الزجل في كونه ملحونًا، وأنَّه يعد كل أربعة أقفال بيت، ويخالفه بكون القطعة منه لو بلغ عدد أبياتها ما بلغ لا تكون إلا على قافية واحدة، وعذرهم في إسقاط الحماّق، هو أنّهم لم يسمعوه أبدًا، فعوّضوا عنه بالقوما، وإذا أضفنا الفَنينِ اللذين أوردهما صفي الدين الحلي لأهل العراق، وهما الحجازي والقوما، ثم الثالث وهو المُزَنَّم، والبليق، الذي عرفه المصريون، وبعض الشوام، كان عددها أحد عشر فنًا منظومًا، وقد اقتبس بعضها من الشعر الأندلسي المغربي، كالموشجات، والأزجال، واقتبس بعضها الآخر من بغداد، وفارس كالدوبيت، والمواليّا (11)

وقد تحدث صفي الدين الحلي في الباب الأول من كتابه: «العاطل الحالي والمرخص الغالي»، والذي وسمه ب: (الفن الأول: الزجّل)عن موشح ذائع الصيت لابن غرلة، عُرف بالموشح العروس، وهو يعد من موشحاته المزنمة، و المُزَنّمُ: مشتقة من التزنيم، وهو ما أعرب من ألفاظ الفنون الأربعة: الزجل، والمواليّا، والكان وكان، والقوما، والتزنيم في الأصل: هو المستلحق في قوم، وليس منهم، والمنتسب لغير أبيه.

حيث يقول صفي الدين الحلي في قسم (الفن الأول: الزجّل): «وقد كان ابن غُرلة، وهو من أكابر أشياخهم، ينظم الموشح والزجل والمزنم، فيلحن في الموشح، ويعرب في الزجل، تقصداً منه واستهتاراً، ويقول: إن القصد من الجميع عذوبة اللفظ، وسهولة السبك، وكان الوزير ابن سناء الملك يعيب عليه ذلك، ولهذا لم يثبت شيئاً من موشحاته في (دار الطراز)، فمن موشحاته المزنمة، الموشحة الطنانة الموسومة ب (العروس)التي نظمها عند عشقه رُمبْلة أخت عبد المؤمن الموحدي، ملك الأندلس.وقتله الملك بسببها، لتوهمه من مطلعها وما يليه اجتماعه بها، والواقعة مشهورة، وكان حسن الصورة، جليل القدر، ذا عشيرة، وكانت هي أيضاً جليلة القدر، جميلة الخلق، فصيحة اللسان، تنظم الأزجال الرائقة الفائقة» (12).

وإذا كان مؤرخو الأدب الأندلسي، لم يذكروا من قريب، أو بعيد من اخترع فن الزجل، إلا أنهم أشاروا إلى أول من أبدع القول فيه، وقد نبه عدد من المؤرخين إلى أن الأزجال التي قيلت قبل أبي بكر بن قزمان، لم تظهر حُلاها، ولم تنسكب معانيها، ولم تشتهر إلا في زمانه-أي زمان ابن قزمان-.

ومن بين النصوص التي تشير إلى الجانب التاريخي في نشأة الزجل، نص أورده العلاّمة عبد الرحمن بن خلدون، جاء فيه: «أول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان.وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، ولكن لم تظهر حُلاها، وانسكبت معانيها، واشتهرت رشاقتها، إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين.وهو إمام الزجالين على الإطلاق.قال ابن سعيد: (ورأيت أزجاله مرويةً ببغداد، أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب.قال: وسمعتُ أبا الحسن بن جُنحدر الإشبيلي، إمام الزجالين في عصرنا يقول: ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة)» (13)

فما يُستنتج من مختلف الأخبار أن أبا بكر بن قزمان المتوفى سنة: 554هـــــ، والذي عاش في ظل حكم المرابطين بالأندلس، هو أول من أبدع في فن الزجل، ولم تُعرف الأزجال التي قيلت قبله، وربما قد يكون أخذ منها، أو اقتبس، أو استفاد.

حيث يذكر ابن قزمان لدى تقديمه ديوانه: «ولقد كنت أرى الناس يلهجون بالمتقدمين، ويُعظمون أولئك المقدمين، ويجعلونهم في السماك الأعزل، ويرون لهم المرتبة العليا، والمقدار الأجزل، وهم لا يغرفون الطريق، ويذرون القبلة، ويمشون في التغريب والتشريق، يأتون بمعانٍ باردة، وأغراض شاردة، وألفاظ شياطينها غير ماردة، وبالإعراب، وهو أقبح ما يكون في الزجل، وأثقلُ من إقبال الأجل...» (14)

إن ما يتضح هو أن هناك من سبقوا ابن قزمان، وحاولوا الإبداع في فن الزجل، والأمر الذي يرجح، أنهم كانت لهم قصائد شعبية، بيد أنهم لم يبلغوا مبلغه، ولم يصلوا إلى مستواه الفني، ويُمكن القول إن الزجل الذي نشأ في الأندلس، قد انقسم إلى قسمين رئيسين: زجل العامة، وزجل الشعراء المعربين.

بالنسبة إلى زجل العامة، أو شعر العامة، فهو يتجلى في الأغنية الشعبية العامية، والتي تنبع تلقائياً لدى العامة بباعث تجربة شخصية، أو من وحي واقعة معينة، أو حدث عام، أو موقف مُعين، ثم تنتشر تدريجياً على ألسنة الناس، فيتغنون بها فرادى وجماعات..

أما زجل الشعراء المعربين، فيبدو أنه قد جاء تابعاً في النشأة لزجل العامة، ويبدو أن الشعراء الذين حاولوا هذا النوع من الزجل قبل عصر ابن قزمان، كانوا مدفوعين إليه، رغبة منهم في أن تنتشر أزجالهم المصطنعة بين الطبقات المثقفة كنوع من الطرافة، أو رغبة في أن يُعرفوا لدى العامة معرفتهم لدى الخاصة، ولعل دوافعه لدى بعض الشعراء المعربين أنهم وجدوا أنفسهم لايقعون مع فحول الشعراء المعاصرين لهم في شيء، فسلكوا سبيل الزجل ليتميزوا بينهم، بيد أن أولئك الشعراء الذين اصطنعوا الزجل اصطناعاً، لم يستطيعوا في مراحله الأولى أن يتخلصوا فيه من الإعراب، وهذا ما عابه عليهم ابن قزمان، حين قال: إنهم يأتون بالإعراب، وهو أقبح ما يكون في الزجل، ولم يشهد ابن قزمان لأحد من الزجالين الذين كانوا قبله بأنه كان مُجيداً لفن الزجل، ومتفوقاً فيه، باستثناء الشيخ أخطل بن نُمارة، الذي تميز بسلاسة طبعه، وإشراق معانيه، وتصرفه بأقسام الزجل وقوافيه.

ويظهر أن الرعيل الأول من الزجالين الذين جاؤوا قبل ابن قزمان، وسمّاهم في مقدمة ديوانه ب (المتقدمين) قد ظهروا خلال القرن الخامس، ويبدو أنهم لم يجدوا العناية الكافية، فملوك ذلك الزمان لم يكونوا مهتمين بالأدب العامي، أو الشعبي كونه يُمثل انحطاطاً في المستوى (15)

إن الحقيقة التي يقع الإجماع عليها، هي أن الزجل قد كانت نشأته نتيجة للانحطاط، فالزجل شعر منظوم بالعامية، وهو ينسجم مع مستوى الذين لا يُجيدون اللغة العربية من أبناء البلاد، وملوك البربر، ومن بين الوقائع التاريخية التي تُذكر في هذا الشأن أن المعتمد بن عبّاد«كان قد شجّع بعض الشعراء لكي يمدحوا يوسف بن تاشفين، فلما انتهوا من الإنشاد، قال المعتمد لابن تاشفين: أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟قال: لا أعلم، ولكنهم يطلبون الخبز، ولما انصرف ابن تاشفين إلى حاضرة مُلكه شمال إفريقية، كتب له المعتمد رسالة تضمنت بيتين من نونية ابن زيدون (بنتم وبنّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً...)، فلما قرئ البيتان على ابن تاشفين، قال للقارئ: يطلب مني الجواري السود والبيض، فأجابه القارئ لا يامولانا، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهاراً، لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببعده ليلاً، لأن ليالي الحزن ليالٍ سود، فقال: والله جيد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بعده» (16)

إن هذا الكلام يدل على أن اللغة العربية، قد انقسمت بين لغة خاصة بالمثقفين والنخبة، ولهجة عامية دارجة سادت على ألسنة العامة، وقد كانت نشأة الزجل نتيجة طبيعية بعد أن استولى البربر على البلاد الأندلسية في عهد يوسف بن تاشفين، فالزجل جاء ليقدم صورة عن انحطاط المستوى، وشيوع الزجل، يشكل نزولاً إلى مستوى الذين لا يفهمون اللغة العربية، فظهور الزجل يعد انتكاسة للشعر الفصيح، فقد أصبح الشعراء ينظمون بالعامية، حتى يفهمهم فريق من العوام، ومن بينهم الحكام البربر الذين يُخاطبون بالأدب الشعبي حتى يتسنى لهم فهم المقاصد.

ومما يؤكد أن ظهور الزجل، يعد نزولاً في المستوى، ويُشكل انحطاطاً، أن ابن قزمان اشتغل في أول أمره بالشعر المعْرَب (الفصيح)، فلم يسطع أن يبرع فيه، إذ قصر فيه عن أنداده ومعاصريه، فقد كان مُعاصراً لابن خفاجة، ولم يتمكن من الوصول إلى مستواه، فانقلب إلى الزجل (الشعر العامي).

والجدير بالذكر أن أبا بكر محمد بن عيسى بن قُزْمان الأصغر، لُقب بالأصغر تمييزاً له من عمّهِ أبي بكر محمد بن عبد الملك (ت: 508هـ)، وُلد سنة: 470هـ-1078م في قُرطبة في بيت جليل، خرج منه أعلام، ونبهاء كثر، وقد سلك ابن قزمان الأصغر في حياته طريق اللهو والاستهتار، والمجون، والغرق في الملذات، حيث يُذكر أنه كان كثير التردد على إشبيلية من أجل النزهة واللهو.

ومن بين الذين مدحهم ابن قزمان في حياته يحيى بن غانية، وهو حاكم معروف بأنه آخر وُلاة المرابطين في الأندلس (ت: 541هـ)، وقد عاش ابن قزمان الأصغر حياة صعبة في بُؤس وذلة، ثم أصبح إمام مسجد، بعد أن قضى كل حياته في اللهو والمجون والاستهتار، ويبدو أنه أصبح يُشرف على المسجد للحصول على الكفاف في العيش، وقد توفي ابن قزمان الأصغر في قرطبة في: 29رمضان من سنة: 555هـــــــ (2-10-1160م)، على الأرجح (17)

لقد طارت شهرة ابن قزمان في الزجل، وأضحى يحتل في ميدانه مكانة مرموقة، حيث إنه لا يُمكن لأي دارس أن يتحدث عن الزجل، دون أن يُغفل الحديث عن أزجاله، وجهوده، حيث يقول الشيخ العلاّمة صفي الدين الحلي في كتابه: (العاطل الحالي والمرخص الغالي)«واختلفوا فيمن اخترع الزجل، فقيل: إن مخترعه ابن غرلة المقدَّم ذكره، استخرجه من الموشح.وقيل: يخلُف بن راشد، وكان هو إمام الزَّجل قبل أبي بكر ابن قُزمان، وكان ينظم الجزل القوي من الكلام، فلما ظهر ابن قُزمان، ونظم السهل الرقيق، مال الناس إليه، وصار هو الإمام بعده.ونظم ينكر عليه قوة النظم زجلاً مطلعه:

زَجَلك يابن راشد قوي متين وإن كان هُوّ للقُوَّة فالحملين

يريد: إن كان النظم بالقوة، فالحمّالون أولى به من أهل الأدب.

وقيل: بل مخترعه مدْغليس.وهذا اسم مركب من كلمتين، أصله: مضَغَ اللِّيس.واللِّيس: جمع ليسة، وهي ليقة الدواة.وذلك أنه كان صغيراً بالكتب، فمضغ ليقة، فسُمي بذلك.ولسان المغاربة والمصريين يبدلون الضاد دالاً.فأطلق عليه هذا الاسم، وعُرف به.وكنيته في ديوانه ( أبو عبد الله بن الحاجّ)، عُرف بمدغليس. والصحيح أنه ليس مخترعه، لأني وجدت في ديوانه زجلاً مدِيحاً، يذكر في آخره أنه نظمه مُعارضاً لابن قُزمان.وهذا دليل على أنه معاصره، أو متأخر عنه» (18)

إن مدغليس يعد واحداً من الزجالين الكبار، إذ يعده أهل الأندلس خليفة لابن قزمان، ويعتبرون مكانته في الزجل موازية لمكانة أبي تمام في الشعر الفصيح، ومن بين الزجالين الذين اشتهروا بالبلاد الأندلسية: ابن جحدر الإشبيلي، وابن غرلة، و (أبو زيد البكّازور البلنسي)، و (أبو بكر بن صارم الإشبيلي)، وغيرهم.

ويؤكد ( تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي) أن مخترع الزجل هو ابن قُزمان، حيث يقول في هذا الصدد: «...وناهيك بهذه الصلة التي هي على مثله عايدة، واغتفر له أهل عصره اللّحن، وعدُّوه له من مطرب التلحين، فإنه أتى في نظمه بنكت تحرك العيدان، وتغني عن القوانين، ولهذا عدل قِبلة المغرب، وهو الإمام أبو بكر بن قُزمان، تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه، واخترع فناً سمَّاهُ الزجل، لم يُسبق إليه، وجعل إعرابه لحنه، فامتدت إليه الأيدي، وعقدت الخناصر عليه.

ولما نظم بلفظ العوام تمكن منه أديب الطبع، وكان قد حبس عنانه عن العربيات، ورأى بيوته واسعة الفنا، فأسكن مخدرات نكته بتلك الأبيات..» (19)

2- الشعر الشعبي والثورة التحريرية بدائرة مروانة (1955-1962م):

صدر هذا الكتاب عن منشورات ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، دون ذكر لتاريخ الطبع، وقد نبه الدكتور العربي دحو لدى تقديمه لهذا الكتاب إلى الأسباب، والدوافع التي دعته إلى تركيز الاهتمام على هذا الموضوع، والتي أرجعها إلى دوافع ذاتية، وعاطفية، ودوافع معرفية تتعلق بسد فراغ معرفي، حيث يقول: «يعود اهتمامي بهذا الموضوع إلى مسقط رأسي من جهة، وإلى معايشتي للثورة التحريرية من جهة ثانية، وإلى إكباري لهذه الثورة المظفرة من جهة ثالثة، وإلى حاجة الجامعة الجزائرية إلى متخصصين في هذا الميدان من جهة رابعة، وإلى خلو المكتبة الجزائرية باللغة العربية من هذه الدراسات حتى الآن، والتي تعتبر حديثة العهد في العالم، وإلى اقتناعي أولاً، وأخيراً بوجود أشياء كثيرة في النص الشعبي، لا نجدها في النص المدرسي، ومن هنا اقتنعت باختيار هذا الموضوع الذي أتعبني كثيراً عندما دخلت ميدان التطبيق لأسباب منها ما يتصل بإمكانياتي المادية، ومنها ما يتصل بنفسية الشعراء، والرواة الذين اتصلت بهم، والذين كانوا يمدونني بالنزر القليل كل مرة، بالرغم من كل الأساليب التي استخدمتها معهم، وخاصة أولئك الذين اعتلوا خشبات المسرح، وظهروا على شاشة التلفزيون، وتعودوا أخذ المقابل عما يقدمونه، إذ لا يعرفون أهمية البحث العلمي، ولا غايته، وفوائده، ومادامت الوسائل المادية التي استخدمتها في الجمع، والبحث معاً كلها كانت من إمكانياتي الشخصية، ومن هنا كان التأثير البالغ علي إذ لولا حبي للعلم، ولولا أستاذي الفاضل، ومساعدته مع أسرته الكريمة ما قطعت المسافة إلى هدفي الذي سعيت إليه أول الأمر، ولما بلغت ببحثي هذه المرحلة» (20).

يتضح من خلال هذا التقديم مدى ما كابده الدكتور العربي دحو من جهود مضنية في سبيل تأليف هذا الكتاب، فقد بذل صاحبه كثيراً من الجهد، فهذا الكتابي هو ثمرة مرحلة مهمة من حياته مليئة بعمل دؤوب لا يعتري صاحبه سأم، أو كلل، لأن الحافز عليها الطموح العارم، والجامح، والرغبة الأكيدة في تحقيق الذات بهدفها الأسمى، وخدمة الوطن، والتأريخ بدقة لثورة التحرير المظفرة، التي يُكن لها من الحبّ، والإخلاص، والوفاء، ما لا يعلمه، ولا يجزي به إلا الله.

يستهل الباحث الجاد الدكتور العربي دحو كتابه هذا، في بابه الأول بالحديث عن منطقة مروانة، وسكانها، وشعبها قبل اندلاع ثورة التحرير الجزائرية، وقد نبه منذ البداية إلى أنها ليست قديمة العهد في الحقيقة، وقد عُرفت بهذا الاسم الذي اختلف فيه، ولكن الاعتقاد السائد أن رجلاً اقترف جريمة قتل يدعى (مروان)، ثم اختفى في الوادي الذي سُمي بعدها باسمه، وبعدها نُقل إلى (مروانة)، وهناك من يشير إلى أن الكلمة مأخوذة من كلمتي (مروا)، ومن (هنا)، والمقصود أن جماعة عبرت المكان، فضل أفرادها طريقهم، وبعد عبورهم الوادي، واجتيازه، وجدوا أثر مرور أصحابهم، فقالوا (مروا)، ومن هنا، ثم تم التحويل من أجل الاقتضاب، والاختصار، فقالوا (مروان)، أو (مروانة) (21).

وقد قدم الدكتور العربي دحو لمحة عن السكان في العهد الفرنسي، حيث نبه إلى أن إخضاع منطقة (مروانة) لم يكن دفعة واحدة، حيث لقي الاحتلال الفرنسي مقاومة شديدة سنة: 1858م، وقد تم احتلال المنطقة كاملة سنة: 1895م، ومن جملة ما ترتب عن الاحتلال نزع الأراضي من أصحابها الحقيقيين، ولاسيما منهم أولاد فاطمة، وحيدوسة، حيث تم تقسيم الأملاك على المعمرين، وبالنسبة إلى لغة السكان، وعلى الرغم من إنشاء المدارس الفرنسية بالمنطقة، غير أن إقبال السكان كان ضعيفاً جداً، لأن أغلاب الآباء كانوا يعتقدون أن التعلم في المدارس الفرنسية حرام، وقد كان تعلم العربية متوفراً في الكتاب، حيث كان تعليم القرآن الكريم، وقد كانت تتوفر مدرسة واحدة أنشأتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بمدينة مروانة، ولغة السكان المعروفة هناك هي (اللهجة العامية)، أو (الدارجة) على المستوى العام، وعلى مستوى القبائل، فتوجد لديهم (لهجات الشاوية)، والتي هي متداولة بينهم (22).

وقد تطرق الدكتور العربي دحو في هذا القسم من الكتاب إلى بعض الأماكن التاريخية التي وردت في النصوص الشعرية التي قام بجمعها: الجبال، والسجون، والشوارع، والمدن، والقرى والعواصم، كما قدم لمحة عن الشعر الشعبي قبل ثورة التحرير الجزائرية المظفرة، وقدم عدة ملاحظات مهمة في هذا الشأن، لعل أبرزها تأكيده على أن المنطقة تمتاز في مختلف فتراتها، ومراحلها بوجود نصوص شعرية تعبر عن أفكار أصحابها، وتسجل قضاياهم، وتنقل أحاسيسهم، وبالنسبة إلى موضوعات النصوص السابقة لثورة التحرير، فالدكتور العربي دحو لم يجد فروقاً كبيرة بين مستوى النص قبل الثورة التحريرية، وخلالها، سواء ما يخص اللغة، أو طول النفس، أو طريقة الإنشاد، أو الألحان التي كانت تعطى لها، حيث اتسمت لغة النص بوجود اللهجة العامية، واللهجة الشاوية (23).

وقد انقسمت أنواع النصوص في هذه الفترة إلى نصوص دينية، ونصوص تُجسد الأفراح، والمناسبات العامة، مثل: الزواج، والختان، وبعض الحرف، إضافة إلى أغاني الأطفال، وبعض النصوص التي تُبرز ظاهرة الهجرة والحنين.

وقد سلط الدكتور العربي دحو الضوء في الباب الثاني من الكتاب على اندلاع الثورة التحريرية المظفرة، ومواكبة الشعر لأحداثها، حيث كانت قرية (سريانة) هي المنطلق الأول لاندلاع الثورة، حيث تعرضت ثكنة بها إلى هجوم، وقد جسدت النصوص الشعرية بعض الأحداث، والأماكن التي شهدت الأحداث الأولى للثورة، وقد رمى أصحاب النصوص إلى جملة من الأبعاد، من بينها: البعد السياسي، والبعد الاجتماعي، والبعد العسكري، والبعد الاقتصادي، والبعد التاريخي، وقد خلص الدكتور العربي دحو في ختام دراسته لهذه الأبعاد، وعرضه لها إلى أنه لا يمكن لأحد أن يدعي بأن « هذه الأبعاد المستنجة من بعض النصوص قيلت في فترة الثورة التحريرية بالمنطقة (مروانة)، هي وحدها المحددة لوظيفة النص الشعبي بالنسبة لموضوعاته، أو لمعانيه التي نجدها فيه، بل إن هذه الأبعاد ما هي إلا مفاتيح عادية تمكن الراغب في الدخول إلى الجوانب الأخرى...أقول (العربي دحو)أنها-الأبعاد-قد حددت وظيفة النص الشعبي في هذه الفترة، بالنسبة لهذه المنطقة، وهي وظيفة في مجملها أدت خدمات جليلة للثورة، وأصحابها، ولعامة الناس في أوانها، وزمانها...، كما أنها قدمت علاجاً واضحاً، وناجحاً للإنسان إبان الحرب، بصورة عامة، لأنها جددت العزم لكل من خارت قواه، ووجهت كل من ضل دربه، وأهبت مشاعر كل من عقد العزم على الاحتراق بالنار، وأججت العواطف لدى كل من تعود الخمول، والركود» (24).

توقف الباحث الدكتور العربي دحو في الباب الثالث، والأخير من الكتاب مع الخصائص الفنية العامة للشعر الشعبي في دائرة مروانة، حيث لاحظ أن الألفاظ، والكلمات التي استخدمها الشعراء الشعبيون في النصوص يُمكن إعادتها إلى العربية الفصحى بنسبة عالية جداً، وهناك إخلال بقواعد الكتابة، والعبارات كانت عادية وبسيطة جداً، ولا يوجد فيها أي تعقيد، كما درس الدكتور العربي دحو الخيال، والعاطفة، والوزن، وقد نبه الدكتور العربي دحو بالنسبة إلى الخيال، والعاطفة، والوزن إلى أن الخيال« كان مُصوراً للواقع الخصب بالأحداث التي فرضتها الظروف الجديدة، فكان بذلك متصلاً بالحقيقة ناقلاً لها، أكثر مما قدم صوراً فنية بمعناها القديم، أو الحديث، أي أن سمة الخيال الشعبي المعروف بالصفاء هي نفسها التي نجدها تميز نصوص فترة الحرب التحريرية، مع اختفاء الجنوح، أو الغلو المعروف عنه في القصص الشعبي في هذه النصوص....، ونفس الشيء يمكن قوله عن العاطفة، أعني أنها مع نبلها تمتاز بانبعاثها من أعماقهم بصدق وإخلاص، وإعجاب بالثورة، والثوار، مما جعلها عبارة عن لهيب مشتعل، وخاصة عندما تؤدى النصوص بألحانها، حتى ولو كانت موضوعاتها نقدية، فإن صدقها لا نعدمه في أي نص كان، ولعل خيالهم الصافي من جهته يؤكد صدق عاطفتهم، أو عواطفهم، لأنهم لا يتكلفون فيما يقولون...، أما الوزن فإن تأثير اللهجات الشاوية على لغة السكان العامية جعلت ضبطه غير ممكن....، والوزن الذي نجده قريباً من نصوصهم هو بحر المتدارك في الغالب، وفي بعض الأحيان بحر الرجز وإن كان قليلاً جداً» (25).

ومما يجري مجرى هذا الكتاب، تأليف آخر للدكتور العربي دحو، يبين جهوده في خدمة الشعر الشعبي، عنوانه: «بعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية-دراسة تاريخية فنية مقارنة في نصوص الشعر الشعبي الأوراسي وأشعار بعض الأقطار العربية-».

3-بعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية:

طُبع هذا الكتاب ضمن منشورات ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، دون ذكر لتاريخ نشره، ويبدو أنه قد نُشر خلال سنوات الثمانينيات من القرن المنصرم، ولقد افتتح الدكتور العربي دحو كتابه هذا (بعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية-دراسة تاريخية فنية مقارنة في نصوص الشعر الشعبي الأوراسي وأشعار بعض الأقطار العربية- )، بالتساؤل: لماذا نماذج المقاومة في الأوراس أثناء الثورة التحريرية؟ هل هذه وحدها يُمكن أن يعتمد عليها كموضوع يعطينا دراسة كهذه؟، أم أن أقرب الزمان الذي برزت فيه هذه النماذج هي التي دفعتنا إلى هذا الغرض؟أم المناسبة هي التي أجبرتنا على اختيار الموضوع؟

يُنبه الدكتور العربي دحو بعض إثارته لهذه الأسئلة إلى أن كثيراً من الباحثين اعتادوا ذكر الدوافع التي أجبرتهم، أو وجهتهم لتناول الموضوع الذي يبحثونه، وذاك أمر طبيعي في الحقيقية، بيد أنه لا يسير في الفلك نفسه، حيث نلفيه يقول في المقدمة: « لأني في الواقع أخاف أن لا أضبط كل الدوافع والأسباب التي جعلتني أبحث الموضوع، لأن صلتي به قديمة، وتناولته من زوايا متعددة، وفي كل مرة أجد موضوعاً جديداً يدفعني إلى الكتابة، ومن هذه الموضوعات هذا العنوان الذي اخترته لهذا البحث، فضلاً عن دراسة وثائقية تنتظر فارسها مُستقبلاً، وعساي أكون صاحبها مرة أخرى، وهي تسجيل رواية النماذج الحية من أبطال ثورة نوفمبر الخالدة في كتاب، أو في دراسة تكون مصدراً أساسياً لكل الباحثين، وخاصة أبطال الفاتح من نوفمبر الذي التقوا في (أولاد موسى)، وفي أماكن أخرى، وما زالوا على قيد الحياة.

فضلاً عن المهمة الوطنية، والإنسانية، والواجب الأخلاقي، والتاريخي التي تدعونا مجتمعة إلى الالتفات لهذه المنطقة المجاهدة، وأهاليها الأبطال، وتسجيل بطولاتهم حتى تكون قدوة تحتذى، وحفظاً للأحداث التي سجلت هذه البطولات، وقدمتها لنا النصوص في شكل وثائق تاريخية حية، ستستكمل ملامحها-التاريخية خاصة-عندما تحل الرموز الواردة فيها، وتفسر الإشارة التي احتوتها، وتحدد أماكن، وأسماء الأشخاص التي وردت فيها تحديداً علمياً دقيقاً...

ومهما يكن فهذه الدراسة تظل حتى الآن وحيدة في ميدانها بالنسبة للمنطقة-حسب معلوماتنا الحالية-ولذلك سيكون لها فضل السبق على الأقل في توجيه الأقلام إلى هذا الموضوع الخصب الثري» (26).

تحدث الدكتور العربي دحو في المدخل الذي وسمه ب: (مع التاريخ)، عن عدة قضايا تتصل بتحديد جملة من المصطلحات، ورصد أبعادها المعرفية مثل: الجهاد، والمقاومة، والثورة، ونبه إلى بعض الرؤى، والأفكار المتصلة بشعر الثورة الشعبي تاريخياً، كما أشار إلى قضية النموذج في هذه النصوص الشعبية، وأشار كذلك إلى جملة من الإشكاليات المعرفية، من بينها بيئة هذه النصوص، وطرائق تدولها.

وقد جعل الفصل الأول للحديث عن هذه النماذج، والفصل الثاني تحدث عن بعض أقطاب أول نوفمبر1954م، مثل الحاج لخضر، والشهيد ابن بولعيد، وقرين بلقاسم، والفصل الأخير أشار إلى مكانة هذه النصوص بين النصوص العربية، كما قدم عدة ملاحظات عن شتى الجوانب الفنية في هذه النصوص، مثل: اللغة، والصورة التي رأى لدى رصدها أن الشعراء قد ركزوا على التراث الإسلامي، وعلى العادات والتقاليد العربية الإسلامية، كما نبه إلى بعض القضايا المتصلة بالوزن، والجوانب الموسيقية.

4- ديوان الشعر الشعبي عن الثورة التحريرية بالعربية والأمازيغية (الشاوية):

صدر هذا الديوان في طبعته الثانية، عن منشورات مؤسسة بونة للبحوث والدراسات بعنابة، سنة: 1433هـ/2012م، بالتعاون مع وزارة المجاهدين الجزائرية بمناسبة الذكرى الخمسين لعيد الاستقلال، وقد جاء في مستهل غلافه: جمع، وتوثيق، وتصنيف، وشرح، وتعليق، وترجمة إلى العربية، وتقديم: الدكتور العربي دحو، وقد نبه المؤلف إلى أن هذا الكتاب في طبعته الأولى لم ينل التوزيع الكافي على مؤسسات وزارة الثقافة التي تكفلت بتمويله، بيد أنه كان له حضوره المحترم في الوسط الجامعي المختص، والثقافي العام، وحتى الفني، حيث اعتمدته دراسات في مذكرات التخرج، في الماجستير، والدكتوراه، كما تمت الإفادة من مضامينه في الدراسات، والمحاضرات، سواء منها التدريسية العادية، أو المقدمة في الندوات، والملتقيات، والاحتفاء بالمناسبات الوطنية، كما استفادت من مادته وسائل الإعلام، ولاسيما منها المرئية، والمسموعة، كما نبه الدكتور العربي دحو في مقدمته إلى بعض الأصداء التي لقيتها الطبعة الأولى من هذا الكتاب القيم، فنلفيه، يقول: « في الطبعة الأولى لهذا الجهد كنت قد نوهت إلى أني أسعد كثيرا بأي شيء يرد عني بخصوصه. وبالرغم من أن العمل لم يسوق ولم ينل التوزيع الكافي على مؤسسات وزارة الثقافة التي تكفلت بتمويله، فقد كان للعمل حضور محترم جدا في الوسط المختص (الجامعي) والثقافي العام، وحتى الفني. بحيث اعتمدته دراسات في مذكرات التخرج، والماجستير والدكتوراه. كما استعملت مادته في الدراسات والمحاضرات سواء منها التدريسية العادية أو المقدمة في الندوات والملتقيات والاحتفاء بالمناسبات الوطنية.

كما استفادت منها (المادة) وسائل الإعلام، وبخاصة المرئية منها، والمسموعة، إذ تعود إليها بتقديم منها نماذج عن الموضوعات التي تتناولها، وتتواصل معي في حوارات بشأنها من حين لحين ومنها على سبيل الذكر حصة " ألوان من بلادي " التي اعتمد جل عملها على نصوص المدونة هذه والتي فازت بها في مسابقة التلفزيونات العربية قبل مدة، إلى جانب اعتماد مغنين عليها في أداء نصوص منها إلى غير ذلك مما أعتقد أن المتلقي يعرف ذلك ولا شك. وفي موقعي في الشبكة العنكبوتية وصفحة الفايسبوك بعض تلك الردود، وهذه غاية ما يتمنى أي باحث أو كاتب لكن هناك متطفلا على الموضوع لا يستحق ذكر اسمه لبعده بعد السماء عن كل ما هو علمي أكاديمي أو ثقافي فني قد أخذ بعض النصوص ونشرها في وريقات في عمل له سماها (موسوعة) فشوهها أيما تشويه إذ أسقط عناوين كل النصوص التي أثبتها وهي عبارة عن رباعيات، وأدمجها في نص واحد على أساس انها قصيدة واحدة ما شوه المعنى، وافقدها بنيتها الفنية والشكلية ويبدو انه تعمد ذلك حتى لا يحيل على المصدر الذي أخذ منه، وهو ما لم يفعله فعلا.

ويطول الكلام الذي يمكن أن يقال عنه، وسأثبته لاحقا، وبالتفصيل عندما تصدر الطبعة هذه في موضعي بالشبكة العنكبوتية وبالشواهد التي شوهها.

وحتى لا استطرد في متابعة ما قيل عن المدونة، فإني ارتأيت أن أخالف المعهود في مقدمات طبع الكتب فأورد جملا للأكاديميين تعنيها. فهي أبلغ تعبير وأفيد أيضا للمتلقي بعامة والمختص بخاصة... ومن الأقوال التي تعني الموضوع قول الدكتور (لخضر عيكوس): "هذه النصوص الشعرية ... [ تعد ] مصدرا هاما من مصادر الثورة لأنها من أدق الوثائق التاريخية التي لم يصبها الزيف ولم يتسرب إليها التملق، ... ومن ثم ستظل هذه النصوص محامي صادقا مخلصا دافعا لكل دعوى تحاول تزوير الحقيقة، وتسعى لطمس جهود تضحيات أناس ..."

أما الأستاذ الشاعر (شراف شناف) في بحث له مطول عن المدونة فنأخذ منه الآتي: (تنطلق الثورة من رحم الشاعر الشعبي لتعانق كل ذرة من ذرات هذا التراب الزكي، العابق بدماء الشهداء، الذين ضحوا بالنفس، والنفيس لأجل أن يعيش أبناء هذا الوطن سالمين، غانمين معافين...تنبثق الثورة من رحم الظلم، فتمور، وتهيج لتنسف غبار الركود المنسدل على الذاكرة الشعبية.

إن صرفنا النظر إلى الشعر الشعبي، وشبكة العلاقات التي خلقها، يُمكن أن نهدم البؤرة الأولى، ونزيحها من مكانها، ليتجلى الشعر الشعبي بؤرة مركزية، إذ يُشكل قطعة المغناطيس التي تستقطب كل ما هو ممكن، عن طريق الحساسية المفرطة التي يخلقها الشعر، أو جو الشعر بالأحرى، حين يرقص على الأوتار النفسية للإنسان الثوري، ويُحرك الكوامن الداخلية فيه.

ومن جملة ما يراه الدكتور (أمحمد عزوي) بخصوص المدونة نورد من بحثه المطول كذلك قوله: "ويمكن أن نعتبر هذا الجانب الفكري الذي اضطلع به الأستاذ، مهمة وطنية كلف نفسه بنفسه، القيام بها، دون أن ينتظر جزاء ولا شكورا.

وذلك بإصداره مجموعة قيمة من الدراسات تتعلق بالشعر الشعبي إبان الثورة التحريرية الكبرى (54-62) وبذلك يكون قد حقق نتيجتين هامتين:

الأولى: أنه ساهم بشكل فعال في إثراء الدراسات الشعبية بصفة عامة، والأدب الشعبي الجزائري بصفة خاصة. وهو مجال قلَّ من يتجه إليه، على الرغم من أهميته المتمثلة في ربط الجذور بالفروع وبهذا يكون وضع لبنه في أساس الدراسات التنظيرية للأدب الشعبي الجزائري.

أما الثانية: فبعمله هذا يكون قد سجل تاريخا بأكمله، لفترة هي من أكثر الفترات تعقيدا، ولازال الكثير من الشباب لا يعرف عنها إلا القليل لعدم الكتابة الجادة حول هذه الفترة وذلك بجمعه لنصوص شعرية متنوعة زمانا ومكانا" » (27).

إن هذا الكتاب يُمكن أن نصفه بأنه بمثابة موسوعة شعرية شاملة، رصد فيه الدكتور العربي دحو جُملة من القضايا المتصلة بثورة التحرير الجزائرية، كما جسدها الشعراء، فأدرج القصائد المتعلقة بالمكان، وبالأشخاص والمجموعات، والمؤسسات الاستعمارية، وبالأشخاص والمجموعات والمؤسسات الوطنية، وبالمعارك والأحداث، وبالعتاد والآلات العسكرية، و التاريخ بالأيام، والسجون والمعتقلات، والأشقاء، والأصدقاء، وفرحة الاستقلال، كما وضع فيه مجموعة من الأبيات، والرباعيات، والمقطوعات المتنوعة.

ثانياً: أضواء على جهوده في دراسة الأدب المغربي (أدب المغرب العربي) القديم:

1- لمحة عامة عن بلاد المغرب العربي والعصور الأدبية المغربية:

أ- اسم المغرب ومدلوله:

تقع بلادُ المغرب في القسم الشمالي من القارة الإفريقية، على ساحل البحر الأبيض المتوسط من جنوبه، وقد اختلف المؤرخّون والجغرافيون في تحْديد مدلولِه، فقد كان يُراد باسمِ « المغرب » في أوّل الأمر كل ما يقابل المشرق من البلاد (، ولهذا أدخل فيه بعض المؤرخين مصر والأندلس كالمقدسـي « أحسن التقاسيم » وعلي بن سعيد المغربي صاحب كتاب «فلك الأرب، المحيط على لغة العرب »، « وفي أيام العباسيين زاد مدلول المغرب اتساعا فصارت الشام أيضا ضمن المغرب، إذ يروي المسعودي أنّ العباسيين قسّموا مملكتهم إلى قِسمين، وهما: المغرب، ويشمل الشام ومصر وإفريقية وما يليها غربا، والمشرق ويشمل بلاد فارس وما يليها شرقا، وأبقى آخرون على « المغرب » الحالي كابن عِذَاري في البيـان المُغرب، وابن أبي دينار في المؤنس، فأخرجوا منه الأندلس، وجعلوا حدود المغرب تمتد من بحر النيل شرقاُ حتى ساحل المحيط الأطلسي غرباُ.

بينما نجد طائفة من الكتاب ظلّت تخْلِطُ بين لفظي: « المغرب » و«إفريقية » كالبكري الذي يقول في كتابه وصف إفريقية: « و حد إفريقية طولها من برقة (بنغازي ) شرقاً إلى طنجة الخضراء غرباً... »، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، فلم يلبثْ معنى كلٍّ من اللفظين أنْ تحدَّدَ

ولقد انتهى مصطلح« المغرب » عند المؤرخين و الجغرافيين العرب إلى أنْ يشمَلَ كُلَّ ما يلي مصر غرباً حتى المحيط الأطلسي، وقد قُسِّمَ المغرب إلى ثلاثة أقسام كبيرة بحسب قربها أو بعدها من مركز الخلافة في المشرق، و هي: أ. المغرب الأدنى: ويسمى أيضا إفريقية، ويبتدئ من مدينة السّلوم المصرية شرقا إلى مدينة بجاية الجزائرية غربا. وكانت عاصمته القيروان أيام حكم الأغالبة، ثم المهدية أيام الفاطميين، ثم مدينة تونس منذ عهد الحفصيين إلى اليوم.

ب. المغرب الأوسط: وهو من مدينة بجاية شرقا، إلى وادي ملوية غربا، وهذا الوادي يقع بين مدينتي تلمسان الجزائرية، و (تازا) المغربية، وكانت عاصمته مدينة تيهرت في عهد الدولة الرستمية الخارجية الاباضية (160-299هـ)، وفي الأيـام الأولى للدولة الزيرية الصنهاجية (361-543هـ) التي خلفت الفاطميين في حكم المغرب، صارت العاصمة مدينة أشير بالقرب مدينة المدية الجزائرية، ثم انتقلت العاصمة إلى قلعة بني حماد، ثم بجاية أيام الدولة الحمادية (405-547هـ)، وفي أيام دولة بني زيان (عبد الواد) صارت العاصمة تلمسـان في القرن السابـع الهجري (633-962هـ)، وأخيرا صارت جزائر بني مزغنة، وهي مدينة الجزائر الحالية، هي العاصمة حتى اليوم، وذلك منذ أن حكم العثمانيون هذه المدينة نحو سنة 1526م.

ج. المغرب الأقصى: من وادي ملوية شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا، وترددت عاصمة المغرب الأقصى بين مدينتي فـاس (البيضاء) ومرّاكش (الحمراء)، فالأدارسة أسسوا مدينة فـاس سنة 191هـ، واتخذوها عاصمة لهم، ثم جاء المرابطـون وأسّسـوا مدينـة مرّاكـش سنة 463 هـ واتخذوها عاصمة، ثم اتبعهم الموحدون في اتخاذ مرّاكش عاصمة كذلك. ثم جاء بنو مرين في القـرن السـابع الهجـري (647-814هـ) فاتخذوا مدينة فاس قاعدة لحكمهم، وتبعهم في ذلك بنو وطاس في القرن التاسع الهجري إلى أن جاء السعديون في القرن العاشر الهجري، فنقلوا عاصمتهم إلى مدينة مرّاكش، أمّا عاصمة المغرب اليوم فهي مدينة الرباط التي اختارها الفرنسيُّون أيام الاحتلال لتكون مركزاً إداريا لهم سنة 1912م .

وتقسيم المغرب العربي إلى الأقسام الثلاثة السابقة تقسيم قديم يرجع إلى عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان آخر القرن الأول الهجري، وقد ظل إلى القرن العاشر الهجري، ثم لمّا استولى العثمانيون على المغربين: الأدنى والأوسط قسموهما تقسيما جديدا حسب الدول التي أنشؤوها فيهما فانقسما إلى: ليبيا وتونس والجزائر. أما المغرب الأقصى فَلأَنّهُ سَلِمَ من الحُكم العثماني، ظلّ له اسمُه العربي القديم وهو (المغرب) مع كلمة الأقصى أو بدونها، ولو أنه كان يعرف إلى عهد قريب باسم (مَرّاكُش) عاصمة الجزء الجنوبي منه.

أما أهل التاريخ، و السياسة في وقتنا الحاضر، فالمغرب عندهم لا يعني سوى تلك الأقطـار مجتمعـة ( ليبيـا، وتونس، والجزائر، والمغـرب، وموريتانيا)، ويطلق على مجموعها اسم « بلاد المغـرب العربـي » (28).

عصور الأدب المغربي:

قَسّم الأستاذ رابح بونار في كتابه (المغرب العربي: تاريخه وثقافته) العصور الأدبيـة في المغرب العربي إلى خمسة عصور حسب تصوّره واستقرائه، وهي:

1- عصر النشوء الثقافي: ويبتدئ من الفتح الإسلامي، وينتهي بقيام الدولة الأغلبية (50-184هـ).

2- عصر النهضة الثقافية: ويبتدئ بقيام الدولة الأغلبية، وينتهي بسقوطها أواخر القرن الثالث الهجري (184-296هـ).

3- عصر الازدهار الثقافي: ويبتدئ بقيام الدولة الفاطمية، وينتهي بسقوط دولة بني زيري (296-547هـ).

4- عصر النّضج الثقافي: ويبتدئ بقيام دولة الموحدين، وينتهي بسقوط دولة بني زيان بالجزائر (547-958هـ).

5- عصر الانحطاط الثقافي: ويبتدئ بقيام دولة الأتراك (العثمانيين) بالجزائر وتونس، وينتهي بالانبعاث الثقافي في أوائل القرن العشرين بالجزائر (1515-1931م)

لقد كان تقسيم الأستاذ رابح بونار منطقيا واضحا في جملته، ماعدا العصر الأخير الذي سمّاهُ (عصر الانحطاط)، فإنّي أرى أنه لم يكن عصر انحطاط بل كان عصرا مزدهرا، ومن يجادل في ذلك يعود إلى كتاب تاريخ الجزائر الثقافي للدكتور (أبو القاسم سعد الله). وأقترح أن يسمّى: عصر العثمانيين والسعديين... (1515-1830م).

6- العصر الحديث: ويبدأ منذ الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م إلى اليوم... « وهو تاريخ حاسم يُعتبرُ درجة التّدهور العام للمغرب (العربي) خلال العصور الوسطى » )29).

والحقيقة التي يقف عليها كل من يُتابع قضايا أدب المغرب العربي القديم، و الأدب الجزائري التليد، هي أنه لم ينل حظاً وافراً من العناية، إذ ليس يخفى أن الأدب الجزائري القديم لم يحظ بالعناية الكافية من لدن مختلف الدارسين، والباحثين، ولعل أحداً لا يحتاج إلى كبير عناء لكي يدرك هذا الأمر، فالملاحظة التي يخرج بها كثير من المهتمين بقضايا الأدب الجزائري القديم، هي أنه لقي صدوداً، وإعراضاً من قبل جملة من مؤرخي الأدب، وهذا ما عبر عنه الباحث رابح بونار في مقدمة كتابه: «المغرب العربي: تاريخه وثقافته»، بقوله: «إن الباعث الحقيقي على تأليف هذا الكتاب هو إيفاء الحركة الثقافية، وتاريخها بالقطر الأول (الجزائر)، وقد أغفله مؤرخو الآداب إغفالاً، وجهل كثير من الدارسين نشاط علمائه، وأدبائه في مختلف العصور»(30).

ويؤكد الشيخ العلاّمة عثمان الكعاك هذه الملاحظة في كتاب يكتسي أهمية بالغة، وسمه ب: «بلاغة العرب في الجزائر»، حيث يذهب إلى القول: «إن العلماء قد اعتنوا بالتنقيب عن آداب اللغة العربية، وتاريخها، وتطوراتها في مختلف الأصقاع الإسلامية، إلا الجزائر، فإنهم أغفلوها، ولو سألت أحدهم أن يسمي لك أديباً جزائرياً لعجز عن ذلك، مع أن الجزائر قد أخرجت من الأدباء، وعشاق البلاغة، ورسل الفصاحة، والبيان ما يكون لها به الفخر، وما تسمو به مرتبتها في تاريخ الأدب العربي العام»(31).

ومن بين الدراسات الحديثة التي اهتمت ببعض قضايا الأدب المغربي القديم، دراسة الناقد المعروف الدكتور عبد الملك مرتاض المعنونة ب: «الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-»، فهذا الكتاب ثمرة جهود جديرة بكلّ تقدير، درس فيه الدكتور عبد الملك مرتاض بمنهجية علمية لافتة للنظر، قضايا تكتسي أهمية بالغة، تتصل بالأدب الجزائري القديم، وحلل فيه بعض النصوص الأدبية التي تعد درراً تراثية ثمينة، وقد ساعد الناقد الدكتور عبد الملك مرتاض على إنجاز هذه الدراسة شغفه، وانكبابه على قراءة، ومطالعة التراث الجزائري القديم، مستقصياً الأخبار، والنصوص الأدبية القديمة، حيث أفاد أيما إفادة من قراءاته المتنوعة عن تاريخ الأدب الجزائري القديم، وتناول الموضوع من وجوه عديدة، ومن ميزة الباحث الجاد عبد الملك مرتاض أنه لا يترك عنصراً من عناصر الموضوع، إلا بعد أن يوفيه حقّه من الدراسة، وقد استعان بمصادر، ومراجع كثيرة، ومتنوعة في الصنف، والمادة.

إن العلاّمة الدكتور عبد الملك مرتاض يُدرك أهمية دراسة الأدب الجزائري القديم، وحاجة المكتبة العربية إلى مثل هذه الدراسات الجادة، حيث يحدد الأسباب التي دعته إلى تأليف هذا الكتاب بقوله: «أمّا ما حملنا على دراسة هذه الفترة المبكرة من عمر هذا الأدب الطويل، فقد يعود إلى ما رأيناه من تقاعس الباحثين الجزائريين، الشباب خصوصاً، وإصرارهم على التجانف عن مُدارسة التراث الوطني بحجج واهية، وعلل خاوية...»(32).

ومن باب النقد الذاتي، يرى الدكتور عبد الملك مرتاض أن من أسباب عدم الإقبال على دراسة الأدب الجزائري القديم، من قبل الباحثين الشباب، هو التقصير في التوجيه، والقصور في تدريس هذه المادة (الأدب الجزائري القديم)، التي قُررت في الجامعة الجزائرية منذ أكثر من ربع قرن.

في مقدمته التحليلية الشائقة تساءل الدكتور عبد الملك مرتاض: (الأدب العربي القديم في الجزائر: هل؟ وما؟ ولماذا؟ وكيف؟).وهو يرى أنه لا يجوز أن نتحدث عن هذا الأدب دون إثارة مثل هذه الأسئلة، و يذهب إلى التأكيد على أن الأدب العربي القديم في الجزائر موجود ما في ذلك ريب، وأن قدمه ينطلق، أساساً، من تاريخ تأسيس الدولة الرستمية التي يرتبط بعض الشعر، والنثر بحكامها أنفسهم.

وقد أوضح الدكتور عبد الملك مرتاض أن الشاعر (بكر بن حماد)، هو الذي يمثل الأديب الجزائري الأول بحق، وذلك طوال عهد الرستميين، بحكم أنه أكثر الشعراء الذين ينسبون إلى هذا العهد، وهو أجملهم نسجاً، وألصقهم مكانة بالشعر، وهذا ما دفعه إلى القيام بدراسة تحليلية معمقة، وطويلة في قصيدته الشهيرة التي عُرفت بقصيدة (ذكر الموت).

وبالنسبة إلى أهم المصادر الثمينة، التي استعان بها الدكتور عبد الملك مرتاض، وأفاد منها، فقد قام بتوصيفها، وقدم لمحة عنها، و من أبرزها:

1.البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذاري المراكشي، وقد عبر المؤلف عن رؤيته لهذا المصدر، وقيمته، بالإشارة إلى أنه«ولئن كان هذا المصدر من أقدم الوثائق التاريخية التي تحدثت عن الشعر الجزائري على عهد الرستميين، فإنه لم يكد يختص تيهرت وشعراءها، إلا ببضع صفحات من الجزء الأول.

وقد وقع ابن عذاري في خطإ تاريخي لدى ترجمته لبكر بن حمّاد (و هذه الترجمة هي التي عوّلت عليها، فيما بعد، جميع المراجع التي لها صلة بهذه المسألة)، حيث ذهب المراكشي إلى أن بكراً حين ألم على بغداد التقى فيها، من بين من التقى بهم هناك، بمسلم بن الوليد المعروف تحت لقب (صريع الغواني) الذي توفي سنة: 208هـ، في حين ابن حماد ولد بتيهرت سنة: 200هـ، ولكن الأغرب من هذا أن كل الذين ترجموا لبكر بن حماد وقعوا، هم أيضاً، في هذا الخطإ المتولد عن سهو من الشيخ المراكشي في إضافة هذا الشاعر إلى جملة الشعراء البغداديين الذين التقى بهم بكر بن حماد، في بغداد، ومنهم حبيب بن أوس أبو تمام الطائي، ودعبل الخزاعي ، وعلي بن الجهم... »(33).

2-المسالك والممالك، لأبي عبيد الله البكري المتوفى عام: 487هـ

يرى المؤلف أن لهذا المصدر أهمية أدبية لا تقل عن أهميته الجغرافية، حيث إنه يثبت كثيراً من المقطوعات الشعرية، وقد أفاد منه الدكتور عبد الملك مرتاض، حيث وجد فيه ثلاث مقطوعات لها صلة وثقى بمدينة تيهرت، من بينها قصيدة في وصف مدينة تيهرت لبكر بن حماد.

3-الأزهار الرياضية في أئمة وملوك الإباضية، لسليمان بن الشيخ عبد الله الباروني النفوسي

وهذا الكتاب مصدر مهم في دراسة الأدب الجزائري القديم على عهد الرستميين، حيث أورد هذا المصدر كثيراً من النصوص الشعرية، والنثرية المهمة التي تناقلتها المراجع الجزائرية المؤلفة، فيما بعد عهده، ومن أهمها:

- الدر الوقاد من شعر بكر بن حماد، لمحمد بن رمضان شاوش

- المغرب العربي: تاريخه وثقافته، لرابح بونار

- تاريخ الأدب الجزائري، لمحمد طمار .

و يبدو أن عدم وجود دراسات في الأدب المغربي القديم هو الدافع، و السبب الرئيس الذي دفع الباحث الدكتور العربي دحو لتناول مجموعة من قضايا الأدب المغربي القديم:

2- مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم:

صدر هذا الكتاب عن منشورات ديوان المطبوعات الجامعية في الجزائر، وقد دفع الدكتور العربي دحو دراسة هذا الموضوع غياب كتابات علمية بأقلام مغربية، وغياب الدراسات التي تهتم بالأدب المغربي عموماً، وهو أدب خصب، وثري، وفيه إبداع رائع، كما يذكر الدكتور دحو في مقدمته، وقد خصص الدكتور العربي دحو الفصل الأول منه للحديث عن: «الأرض والإنسان بين مختلف الآراء والدراسات في النسب واللغة»، فأشار إلى الأرض المغربية، وتطرق إلى طبيعة سكان المنطقة قبل الفتح الإسلامي، فتوقف مع تاريخ الأمازيغ، أو البربر، باسمهم القديم، كما أشار كذلك إلى لغة السكان قبل الفتح الإسلامي، وأدبهم، حيث يقول عن هذا الموضوع: «تسكت الدراسات التي اطلعنا عليها عن قضية تعريب سكان شمال إفريقيا، ويبدو أن اهتمام هذه الدراسات بأصول السكان، وبالفتح الإسلامي صرف نظر هؤلاء الباحثين عن هذه القضية، وأن ظروف الفتح الطويلة التي عرفت المد، والجزر، قد ساعدت كذلك على عدم تحري هذه النقطة، فضلاً عن طبيعة السكان الذين نجدهم قد امتزجوا في ظروف عديدة، ومنها فترة الفتح الإسلامي، الأمر الذي جعل ظهور لغات متعددة في مختلف الفترات على ألسنة هؤلاء من السمات البارزة التي ميزت لغة السكان، وإذا عدنا إلى التاريخ محاولين تلمس بعض المظاهر اللغوية التي كانت تعرفها المنطقة قبل الفتح الإسلامي، وتعريب السكان، أمكن لنا أن نسوق سلسلة من الآراء التي لها صلة بالموضوع، منها التي تحدثت عن اللغة نفسها، أو منها التي وصفت هذه اللغة ذاتها محاولة تحديد خصائصها، ومنها التي تحدثت بطريقة أو بأخرى عن أدب هذه اللغة، أو السكان المتحدثين بها، وهي آراء في مجملها مقتضبة، فقيرة إلى الأدلة، والشواهد العلمية الكاشفة عن تعابيرها الفنية، التي تمكننا من خصائص أدبها، وتراكيبها المختلفة»(34).

وقد عرض الدكتور دحو منظور الباحث محمد الطمار الذي ذكر أن لغة قدماء المغرب كانت بسيطة، ثم تطورت مع الأيام، وتأثرت مع لغات الأمم التي جاورت البربر، أو استوطنت بلادهم، وهي ذات لهجات متنوعة كما يشاهد بين سكان القطر الجزائري، فهناك لهجة خاصة بزواوة تختلف في بعض مظاهرها عن لغة الشاوية، وبني مزاب، والتوارق، ويُطلق على هذه اللغة اسم تمازغت، وقد كانت لها كتابة، ومن أبرز الأدلة على وجودها ذلك الخط الذي عُثر عليه في مختلف الجهات، والذي يُشبه خط الطوارق، وقد كانت حروف اللغة البربرية تمثل رسوماً، وكان الخط البربري يتشكل من عشرة أحرف يسمونها (تيفناغ)، أي الحروف المنزلة بخلاف من عند الله، وأما الأشكال فهي خمسة، ويسمونها (تيسد باكير)، أي الدليل على العمل، والتوسع، وهي عكس (تيفناغ) من وضع البشر، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن الخط البربري حديث العهد، إذ يرجع اختراعه إلى (ماسينيسا) في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد وضعه على الحروف الهجائية الفينيقية(35).

كما تناول الدكتور العربي دحو منظور الباحث المعروف شكري فيصل، الذي نبه إلى وجود ثلاث لغات هي: اليونانية التي كانت اللغة الرسمية السائدة في الإدارة، وفي غيرها، وفي ولاية (بيزنطة)، ولغة سكان المدن التي هي عبارة عن خليط من اللغات اليونانية، واللاتينية، والفينيقية، ثم لغة السكان الأصليين، التي قال عنها: «اللغة البربرية التي تُخالطها اليونانية في السواحل، أو قريباً منها، ولم تقض عليها من تأثر بها، فقد كانت دون هذه اللغات حظاً من الاتساع، والغنى...كانت لغة فقيرة لا تكاد تعدو حياة البربر اليومية الضيقة إلى شيء وراءها من الثقافة والفكر»(36).

عالج الدكتور العربي دحو في الفصل الثاني من الكتاب، والذي جاء تحت عنوان: «السماء: العقيدة واللسان»، جملة من الأفكار، الرؤى المتصلة بالفتح الإسلامي لبلاد المغرب، وأشار إلى قضية تعريب السكان، كما توقف مع بعض الرؤى التي قُدمت عن نشأة الأدب العربي المغربي.

وفي الفصل الأخير من الكتاب، والذي وسمه ب: «أشعة الشمس تُفجر الإبداع على ألسنة أهل المغرب»، تناول الدكتور العربي دحو بعض قضايا الأدب المغربي في ظل الولاة (85-184)، فتوقف في القسم الأول مع الشعر، حيث خرج بملاحظة مفادها أن موضوعات الشعر المغربي في عهد الولاة، كما تجلى من خلال المقطوعات، والقصائد التي انتقاها بدا أنه «تتجاذبه عدة مميزات، توجز في اتصاله الوثيق بموضوع الشعر العربي المشرقي الذي يتناول الحياة اليومية للإنسان العربي عاملاً، أو مجاهداً، أو متوتراً متألماً لحدث من الأحداث، أو مهدداً متواعداً لسبب، أو لآخر، وهو دون ذلك الشعر في جمالياته اللغوية، والأسلوبية، وفي نفسه المحدود، الذي لا يتجاوز إنجاز فكرة يمكن أن تشكل ملحمة بكاملها...وتصقله العفوية والتلقائية، فيأتي بسيطاً بساطة الجو الذي أنتجه، واللحظة التي أعطته، وهذا يعني بالضرورة أننا عند تناولنا هذا الشعر لا ينبغي علينا أن نُحمله أكثر مما يُطيق، بل علينا أن نضعه في كفة، وقائليه في كفة أخرى...»(37).

وفي القسم الثاني أشار إلى بعض الخصائص الفنية المتعلقة بالنثر في تلك الفترة.

3- الشعر المغربي من الفتح الإسلامي إلى نهاية الإمارات الأغلبية والرستمية والإدريسية (30-230هـ)-جمع وتوثيق وتعليق ودراسة-:

طُبع هذا الكتاب في ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، سنة: 1994م، وقد خصص الدكتور العربي دحو القسم الأول منه للدراسة، حيث يتكون الشق الأول للكتاب من تمهيد، وفصلين، فالتمهيد تطرق من خلاله إلى رؤى متنوعة تتصل بما قيل عن تعريب السكان، ونشأة الأدب العربي في المغرب العربي، وهو يرى أن الموضوعين أغمط حقهما من الدراسة، والبحث، والتحليل، والنقاش، في حين جعل الفصل الأول من هذا الكتاب لمعالجة مضامين شعر الديوان، الذي جُمع عن الفترة المحددة، والتي قام بجمعها، وهي تزيد عن ألف بيت من الأشعار المتعددة الأغراض، وبالنسبة إلى الأسباب التي أدت إلى تعدد الرؤى فيما يتصل بأولية الأدب المغربي القديم، وأول من أبدع فيه، فالدكتور العربي دحو، يوجزها في:

1- ضياع المصادر المغربية المبكرة، ولاسيما منها التاريخية، كما اندثر كذلك الكتب الأدبية، وهي خير مظان الشعر الذي قيل خلال تلك المرحة التي تكتسي أهمية كبيرة.

2- بعد الشقة بين المغرب، والمراكز الأدبية القوية في العراق، والشام، وفي المراكز التي احتفت بالأدب درساً، ونقداً، وتدويناً.

3- أولوية شعر البلاط لدى كثير من المهتمين بدراسة الأدب في تلك الفترة.

4- الضعف النسبي لكثير من شعر الفتوح، نظراً لملابساته، التي تبعث على العجلة، وعدم التنقيح، فإذا كان المشرق قد احتفظ بقدر من شعر فتوجه، فهذا الأمر يعود إلى وفرة المصادر المشرقية التي وصلتنا.

5- طبيعة السكان التي لم تكن تسمح لهم بتلقف النصوص الشعرية باللسان العربي، خلال السنوات الأولى من الفتح الإسلامي، فقد كان من الصعب تناوله، وتداوله، وحفظه، والاهتمام به، كونهم لا يتقنون اللغة العربية، ولا يستطيعون تدوينه، أو روايته.

6- إن الفاتحين أنفسهم لم يكن لهم استقرار في المنطقة طوال القرن الأول الهجري، حيث تأكد تاريخياً أن حملاتهم كانت تتميز بالمدر، والجزر، وأن مكوثهم في المنطقة في البداية كان محدوداً جداً، ففتح المنطقة نفسها لم يتم إلا في سنة: 84هـ، أعقبها التوجه إلى المغرب الأقصى، لتدعيم، وإرساء أسس الدولة الإسلامية، ثم تلاها التوجه إلى البلاد الأندلسية سنة: 91هـ.

7- ما يُلاحظ إلى اليوم على جل سكان المغرب العربي من عدم الاهتمام، والاحتفاء بالثقافة الأدبية، ولاسيما منها الشعرية، وذلك خلافاً للمشارقة، ولعل ما يروى من هجرة شعراء المغرب العربي إلى المشرق، لهو خير دليل على هذا الأمر(38).

قدم الدكتور العربي دحو في الفصل الأول من الكتاب مقاربة وصفية لمحتويات الديوان، وموضوعاته، وأشار إلى أهم الأغراض الشعرية منها: الفخر، والحكم والشكوى، والزهد، والمدح.وفي الفصل الثاني أشار إلى الخصائص الفنية.

خاتمة:

إن هذا البحث ما هو إلا مجرد قراءات مقتضبة في بعض جهود الباحث الأكاديمي المتميز العربي دحو، فجهوده هي أكبر من أن تحيط بها قراءات سريعة، فهو واحد من الأساتذة المتميزين علمياً، ظل طوال حياته ينتج، ويبدع في مختلف ميادين المعرفة، وما يزال كذلك يتجاوب مع مختلف الأنشطة الثقافية التي تقام، و له صلة وثيقة بقضايا الثقافة الشعبية، والأدب الجزائري، والأدب في المغرب العربي، وليس من شك في أن جهود الباحث الأكاديمي العربي دحو تستحق الإشادة، والتنويه، اعترافاً بمكانته، وتقديراً لخدماته الجليلة في حقول الأدب، والتراث، والتربية، وإنه لمن الصعب أن نلم بنشاطاته الكثيرة إلمامة وافية، وسيتذكر كل من عرفه، وقرأ له، إنجازاته الأدبية القيمة، وسيذكرون ذلك الأديب المبدع، والأستاذ الجامعي الأكاديمي المنفتح الذهن على الثقافات، والأفكار، والذي تميز بإخلاصه لمهنته، ولطلابه، فقدم عصارة فكره، وجهده، وعلمه، بكل أمانة، وصدق، وأسهم بفعالية كبيرة في إثراء المسيرة العلمية، والأدبية.

***

  الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقـة

 كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر

.......................

الهوامش والمراجع:

 (1) د.عبد الملك مرتاض: معجم الشعراء الجزائريين في القرن العشرين، منشورات دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، 2007م، ص: 395.

 (2) د.عبد الملك مرتاض: معجم الشعراء الجزائريين في القرن العشرين، ص: 396.

 (3) رابح خدوسي: موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين، منشورات دار الحضارة للطباعة والنشر والتوزيع، 2002م، ص: 166.

 (4)الثقافة من » الثَّقْفِ «، الذي له عشرة معانٍ في لغة العرب، حسبما هو مدّون في القواميس، والمعاجم الموثوق بها عند علماء اللغة، ومن أهمها: تسوية الشيء، وتقويم اعوجاجه، تقول: ثقفتَ الرُّمح، أو القوس، أو أي شيء معوج، إذا قوّمتَه، وسويته من اعوجاجه، فيغدو مثقّفًا مُقوّمًا، وعلى هذا الأساس استعيرت لفظة: » مثقف « إلى كُلّ ما هو مستقيمٌ صَلْبٌ، وكذلك فهي الحِذْقُ والمهارة في إتقان الشيء، قال ابن منظور: » ثقف الشيء ثقفًا، وثقافًا، وثقوفه، حذقه، ورجلٌ ثَقْفٌ، وثقِفٌ، وثقَفٌ، وثَقِفَ الرّجلُ ثقافة، أي: صار حاذقا فطنا، فهو ثَقِفٌ، وثُقُفٌ، مثل: حَذِرَ، وحَذُر...، «، وقد ورد هذا المعنى نفسه في بعض عبارات المتقدّمين، مثل: عبارة أبي حيان التوحيدي في » المقابسات «، وعبارة ابن خلدون في » المقدمة«.و الثقافة في أدنى مستوياتها هي مجموع الاستجابات، والمواقف التي يواجه بها شعب من الشعوب – بحسب عبقريته – ضرورات وجوده الطبيعي من مأكل، وملبس، وتناسل، أمَّا على المستوى الأرفع فإنَّ للثقافة أوجهًا ثلاثة هي: تنمية الفكر، وترقية الحس النقدي، وتكوين الحس الجمالي، و وإرهاف الذوق، والاستمساك بالقيم، وغرس الحس الأخلاقي. وقد اعتمدتُ في صياغة هذه التعريفات من عدة مراجع: د.محمد بن عبد الكريم الجزائري: الثقافة ومآسي رجالها، شركة الشهاب للنشر والتوزيع، الجزائر (د.ت)، ص: 9 وما بعدها.و ابن منظور: لسان العرب، مادة: ثقف.و التوحيدي: المقابسات، مطبعة الرحمانية، القاهرة، 1929 م، ص: 375.و ابن خلدون: المقدمة، منشورات مكتبة المدرسة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، 1967 م، ص: 448. ويذكر الباحث سيد غدريس هاني أن الحضارات هي هويات ثقافية في التقليد الأنثروبولوجي الأمريكي، وهم نادراً ما يُفرقون بين الثقافة والحضارة، وقد اعتادوا في الترجمات ذات الأصول الأمريكية أن يترجموا الثقافة بالحضارة، والحضارة واحدة والثقافات متعددة، ففي«عصر ثورة الاتصالات هناك حضارة واحدة، في الماضي سمعنا عن وجود حضارات، وهذا إنما يرجع إلى أزمة التواصل ومشكلة العزلة، إن الحضارة ليست هي مطلق الحضور، كما ينحو الجميع، فمالك بن نبي مثلاً وهو الرأي التقليدي السائد، بالنسبة إليه الحضارة هي أخص من الحضور، إنها حضور أمثل وأقوى، والحضارة هي القوة، والثقافة هي أمر ملازم لكل أشكال الحضور، الثقافة هي إفراز وجودي لكل الكيانات الاجتماعية، لكن الثقافة ليست بالضرورة حضارية، فالثقافة تمثل من الحضارة مرحلة القوة، والحضارة تمثل من الثقافة مرحلة الفعل، والحضارة أخص من الثقافة، فالقوة واجبة في حق الحضارة، ممكنة في حق الثقافة، ما يعني أن كل ثقافة تملك إمكانية التحضر، ولا يجب لها التحضر حتى تصبح قادرة على إنتاج القوة»

الحضارة: - عند اللغويين - » خلاف البداوة «، وهي عند ابن خلدون: » تفنُّن في التّرف وإحكام الصنائع «. أمَّا في نظر الدكتور محمد بن عبد الكريم، فهي: » ظاهرة اجتماعية، تتبلور في نظم محكمة، وآثار ماثلة «. فقولنا: » ظاهرة اجتماعية «، احترازا من الظاهرة الفردية التي مبعثها الثقافة. ونعني بـ » النظم المحكمة « كل ما يقتضيه النظام والإحكام في تسيير شؤون الإنسان المتحضر: مثل: النظم السياسية، والاقتصادية، والإدارية والقضائية، والحربية، والثقافية، والزراعية، والتجارية، والأسرية، وهلمَّ جرًّا... ونعني بـ » الآثار الماثلة « فن العمارة بجميع أنواعها: مثل: تخطيط المُدن، وتمصير الأمصار، وتشييد البنيان، ثم النحت، والرسم، والتصوير، والزخرفة، وجميع الفنون الجميلة..، وهناك فرق بين » الثقافة « وبين » الحضارة « من عدة وجوه. أولاً: إذا كان مفهوم الثقافة ينزع إلى الخصوصية، فإنَّ الحضارة تنزع إلى العمومية، فالثقافة هي الحضارة الخاصة بأمة من الأمم، لا يشاركها في شأنها أحدٌ، تحمل صيغة هذه الأمة، وتتّسم بسماتها، ووراء كل حضارة دينٌ، وقد تصبُّ عدة ثقافات في نهر حضارة واحدة. فالثقافة العربية التي ننتمي إليها هي في أدنى مستوياتها مجموع تقاليدنا وعاداتنا، أمَّا على مستواها الأعلى فهي النهج الذي نهجه الغزالي في الجانب الروحي، وابن رشد في الجانب الفكري، وابن حزم في الجانب الأخلاقي، وابن خلدون في الجانب الاجتماعي، ونشكل – نحن العرب – بثقافتنا مع ثقافات أخرى – الفارسية والتركية – نشكل الحضارة الإسلامية التي ساهمنا جميعا في إنشائها وإثرائها.

ثانياً: أنَّ الثقافة تصور وإرادة، وأنَّ الحضارة أثر ونتيجة لهما.

ثالثاً: أنَّ الثقافة وصف عـام للفرد والأمة، وأنَّ الحضارة وصف خـاص بالأمة، أي: مثلها مثل » العلم «. يقـال: » حضارة الأمة الفلانية «، ولا يقـال: » حضارة الشخص الفلاني «، بخـلاف » الثقافة «، فتصدق على الشخص والأمة.

رابعاً: أنَّ الحضارة تتجسم في النظم السياسية، وفي العلوم، والصنائع، والاختراعات على وجه العموم، وأنَّ الثقافة تتمثل في اللغات، والآداب، والتواريخ، والفلسفات، وجميع العلوم الإنسانية، أي: إنَّ الثقافة تقدّمٌ من الوجهة الخُلُقية والفكرية، والحضارة تقدّمٌ من الوجهة الاجتماعية على وجه العموم.

خامساً: كل أمّة مثقفة يصدق عليها أن تكون متحضرة، وليس العكس، لأن هناك الكثير من الآثار الحضارية القديمة التي مازالت قائمة ومرئية حتى الآن، بَيْدَ أنّ إيجادها لم يكن بدافع ثقافي: مثل أهرام مصر، ومختلف الأسلحة المحفوظة في المتاحف الدولية، فتلك شُيّدت بدافع وهمي – على أحد الأقوال في سبب بنائها - وهذه صُنعت من أجل الدفاع عن النفس تارة، وسفك الدماء بها تارة أخرى. وما قيل في ذلك يقال في القنابل الذرية والأسلحة الفتاكة، المصنوعة في العصر الحاضر، فإنَّ صنعها لم يكن بدافع ثقافي، وإنَّما كان بدافع الترهيب، وحُبّ التسلط على البشرية، وسفك دمائهم، وهذا منافٍ للثقافة، التي تهدِفُ إلى تهذيب الأخلاق، وتقويم السلوك، وحب الخير، وإصلاح المجتمعات. وعلى هذا الاعتبار فالثقافة أعلى من الحضارة، وأرقى منها في سلم الحياة. وهي، على وجه العموم، روحية في الجوهر... أمَّا الحضارة فمادية في جوهرها ومحسوسة، والثقافة سابقة على الحضارة في الوجود... وليس في الإمكان ضبط الحد الفاصل بين الثـقافة والحـضارة بوجه دقيق. ويرى بعض الدارسين أن مفهوم الحضارة لم يلق إجماعاً على دلالته بين مختلف الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ، على الرغم من اشتراك هذه الحضارات في الكثير من القيم الإنسانية التي تشكل جوهرها، فمن يرغب في المضي في مسار حوار الحضارات عليه أن يتفق على حدود دنيا لمفهوم (الحضارات الإنسانية)، ولتصنيفاتها التي تتفاوت نظراً لاختلاف المعايير، وهناك«أمر آخر، وهو أننا ننسب الحضارات الإنسانية في محاولتنا تصنيفها إلى القارة حيناً (فنقول الحضارة الغربية)، وإلى اللغة أو الأمة حيناً ثالثاً (فنقول الحضارة العربية، أو الحضارة الصينية، أو الحضارة اليابانية)، وإلى العقيدة حيناً رابعاً (فنقول الحضارة الإسلامية)، وإلى الإقليم أو النهر أو الوادي خامساً (فنقول حضارة بلاد الرافدين)وإلى العصر سادساً (فنقول الحضارات القديمة، أو الحضارة الحديثة)، وإلى غير ذلك مما يقع المرء عليه في قراءاته لتاريخ الحضارات الإنسانية، ولكننا نادراً ما نسأل أنفسنا هل ثمة حضارة صرف نقية لا تشوبها شائبة من حضارة أو حضارات أخرى؟ونمضي أحياناً في نزعة التمركز حول الذات فنتحدث عن (عبقرية الحضارة)التي نتماهى معها، وننتسب إليها، أو نرغب في الانتساب إليها». وقد اعتمدنا في صياغة هذه الفوارق من عدة مراجع متنوعة منها: أحمد مسجد جامعي: كلمة افتتاحية لكتاب محاضرات في حوار الحضارات، منشورات المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق، 1421هـ/2001م، ص: 9.و د.محمد بن عبد الكريم: الثقافة ومآسي رجالها، ص: 38. و د.سعد بوفلاقة: حوار الثقافات في الغرب الإسلامي، مجلة دراسات، مجلة دورية محكمة تصدر عن جامعة الأغواط، الجزائر، العدد: 02، جوان2005م، ص: 114-115.و د.عبد النبي اصطيف: حوار الحضارات في عصر العولمة، بحث منشور في كتاب محاضرات في حوار الحضارات، ج: 01، ص: 323 وما بعدها.

 (5) مصطفى يعلى: نحو تأصيل الدراسة الأدبية الشعبية في المغرب، نموذج (من وحي التراث)، دراسة منشورة ضمن كتاب: الأدب المغربي: إشكالات وتجليات (دراسات مهداة للأستاذ عباس الجراري)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، جامعة محمد الخامس، المملكة المغربية، 1427هـ/2006م، ص: 157.

 (6) أبو القاسم سعد الله: حاطب أوراق، منشورات دار عالم المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، ط: 01، الجزائر، 1431هـ/2010م، ص: 104.

 (7) أبو القاسم سعد الله: حاطب أوراق، ص: 105.

 (8) ابن خلدون: المقدمة، منشورات مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني للطباعة والنشر بيروت، 1956-1961م، ج: 3، ص: 404.

 (9) مصطفى الشكعة: الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 04، 1979م، ص: 448.

 (10) الأبشيهي: المستطرف من كل فن مستظرف للأبشيهي (تح: مفيد محمد قميحة)، ج2، ص: 448، دار الكتب العلمية، بيروت، وقد نقل الأبشيهي باختصار هذا النص من كتاب العاطل الحالي والمرخص الغالي لصفي الدين الحلي.

 (11) صفي الدين الحلي: العاطل الحالي والمرخص الغالي، (تح: د.حسين نصار (، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، مصر، 1981 م، ص: 2 وما بعدها.

 (12) صفي الدين الحلي: العاطل الحالي والمرخص الغالي، ص: 11.

 (13) مقدمة ابن خلدون، ص: 53.

 (14) عبد العزيز الأهواني: الزجل في الأندلس، منشورات معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، مصر، 1957م، ص: 52.

 (15) عبد العزيز عتيق: الأدب العربي في الأندلس، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1976م، ص: 397.

 (16) فضائل الأندلس وأهلها، ص: 33 (رسالة الشقندي).

 (17) عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ج: 5، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 03، نيسان/أبريل1992م، ص: 229.

 (18) صفي الدين الحلي: العاطل الحالي والمرخص الغالي، ص: 13.

 (19) ابن حجة الحموي: بلوغ الأمل في فن الزجل، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، سوريا، 1974م، ص: 52.

 (20) د.العربي دحو: الشعر الشعبي والثورة التحريرية بدائرة مروانة (1955-1962م)، منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر (د.ت)، ص: 5-6.

 (21) د.العربي دحو: الشعر الشعبي والثورة التحريرية بدائرة مروانة (1955-1962م)، ص: 15.

 (22) د.العربي دحو: المرجع نفسه، ص: 26.

 (23) د.العربي دحو: المرجع نفسه، ص: 35.

 (24)المرجع نفسه، ص: 103.

 (25)المرجع نفسه، ص: 143 و144.

 (26) د. العربي دحو: بعض النماذج الوطنية في الشعر الشعبي الأوراسي خلال الثورة التحريرية-دراسة تاريخية فنية مقارنة في نصوص الشعر الشعبي الأوراسي وأشعار بعض الأقطار العربية-، منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر (د.ت)، ص: 7.

 (27)د. العربي دحو: ديوان الشعر الشعبي عن الثورة التحريرية بالعربية والأمازيغية (الشاوية)، منشورات بونة للبحوث والدراسات، عنابة، الجزائر، 1433هـ/2012م، ص: 7-8.

 (28) استقينا هذه المعلومات من كتاب د.سعد بوفلاقة: دراسات في أدب المغرب العربي، منشورات بونة للبحوث والدراسات1428هـ/2007م، ص: 15 وما بعدها.

 (29) رابح بونار: المغرب العربي: تاريخه وثقافته، منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981م، ص: 8-9.

 (30) رابح بونار: المغرب العربي: تاريخه وثقافته، منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981م، ص: 05.

 (31) عثمان الكعاك: بلاغة العرب في الجزائر، نقلاً عن: رابح بونار: المغرب العربي: تاريخه وثقافته، ص: 07.

(32) د.عبد الملك مرتاض: الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-، منشورات دار هومة للنشر والتوزيع، الجزائر، د، ت، ص: 10.

(33) د.عبد الملك مرتاض: الأدب الجزائري القديم-دراسة في الجذور-، ص: 18.

 (34) د.العربي دحو: مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم، منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، (د.ت)، ص: 29.

 (35) د.العربي دحو: مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم، ص: 30.

 (36) د.شكري فيصل: المجتمعات الإسلامية في القرن الأول، منشورات دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط: 04، 1978م، ص: 180، نقلاً عن: د.العربي دحو: مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم، ص: 31.

 (37) د.العربي دحو: مدخل في دراسة الأدب المغربي القديم، ص: 87-88.

 (38) د.العربي دحو: الشعر المغربي من الفتح الإسلامي إلى نهاية الإمارات الأغلبية والرستمية والإدريسية (30-230هـ)-جمع وتوثيق وتعليق ودراسة-، منشورات ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1994م، ص: 38 وما بعدها.

استغلال الدين والمذهب وتحويلهما إلى أغراض السياسة

بعد انهيار النِّظام العراقي السَّابق (9- 4- 2003)، أصدر آية الله محمد كاظم الحائريّ، أحد أقطاب الإسلام السِّياسيّ، فتوى تُجيز قتل البعثيين، ضمن بيانه الـ«19» المؤرخ 10-4-1424هـ «إهدار دم وجوه البعثيين في العراق».

لا جدال في محاسبة مَن ابتلي بدم عبر قضاء نزيه، وأن تؤخذ كقضايا جنائية، لكن أنْ تصدر فتوى بالقتل، ويتصدر آية الله القضاء، فتلك جريمة قتل جماعي. تتحمل هذه الفتوى، وما سنعرضه مِن فتاوى «دليل المجاهد»، كلّ ما حصل مِن تصفيات للكفاءات العراقيَّة، ولمَن قاتل في صفوف الجيش العراقي، مِن كبار الضُّباط، خلال الحرب مع إيران (1980 - 1988)، فالمجاهد، المعني بهذه الفتاوى، لا يقتل من دون الاطمئنان لوجود رخصة دينيَّة تبيح له ذلك، فلا تبقى فتوى القتل محصورة في شخص أو جماعة، إنما تصبح عامة تنفذ في من دعاهم الحائري بـ«الكفار». نأتي على كشف هذه القضية الخطيرة مساهمة في تأرخة هذه الحِقبة العصيبة مِن تاريخ العراق، بيان أفظع فتاوى القتل واستباحة الأموال، تلك التي أصدرها الحائري في «دليل المجاهد»، باستغلال الدِّين والمذهب، وتحويلهما إلى أغراض السّياسة بأعنف أشكالها، وباعتبار نفسه مرجعاً، واعتبار مقلديه له نائباً للإمام، ففي التقليد مَن يعصي المرجع عصى الإمام، ومَن عصى الإمام عصى الله (الكُليني، كتاب الكافي)، ولو لم يعتبر نفسه بهذه المنزلة ما صدرت فتاويه في «دليل المجاهد» بعبارة: «نسمح لكم بالقتل»!

اشتهرَ «دليل المجاهد» للحائري بين المعارضة الإسلاميَّة العراقيَّة، التي كانت تتخذ مِن إيران قواعد لانطلاقها عبر الأهوار، فهي غابات مِن البردي والقصب، وممرات مائيَّة، لا يجوع ولا يعطش مَن يتحصن بها. كذلك قيام الإسلاميين بتفجيرات داخل المدن، أدى إلى قتل أبرياء، إذ وجودهم في مؤسسة أو وسيلة النّقل، أو أي مصلحة عامة، يسقطهم قتلى، لهذا ورد عدد مِن فتاوى «دليل المجاهد» بإجازة «التترس».

صدر «دليل المجاهد» أول مرة السنة 1414هـ - 1993م، وليس خلال الحرب العِراقيَّة الإيرانيَّة، التي قُتل فيها جواد نجل الحائري دفاعاً عن «الجمهوريَّة الإسلاميَّة»، وفق ما ورد في الموقع الرَّسمي للحائريّ، وهذا خلاف ما أشيع بأنْ «الدَّليل» صدر خلال الحرب، ما يشي أنَّ قتل ولده زخّ في صدره كل هذا العنف، كي يُحمّل دمه العراق كافة، ما عدا مَن سماهم «المؤمنين». ظل الكتاب يُطبع حتَّى الطَّبعة الرَّابعة (1420هـ - 1999م) التي بين أيدينا، والطَّبعات صدرت في داخل إيران كافة، مِن دون إشارة، فحين صدر كانت العلاقات بين النّظامين قد تحسنت، وتبادلت الوفود، واشتبكت المصالح.

كان الحائري فقيه حزب الدَّعوة، ولد في كربلاء، مِن أصل إيرانيّ، وحامل الجنسية الإيرانيَّة، انتهت علاقته الرَّسميَّة بالحزب، بعد الانتقال إلى إيران، خلال ما عُبر عنه بـ«أزمة القيادة» (العام 1988)، وكان الخلاف مع جماعة الحزب بلندن عن دوره كولي فقيه له الكلمة الفاصلة، فاعتزل الموقع (الشَّاميّ، المرجعية مِن الذَّات إلى المؤسسة).

ظل الحائريّ، ومحمود الشَّاهرودي (ت 2018) - الأخير تسلم مناصب كبرى بإيران - يعدان مِن وجوه «الدَّعوة» باهتمام الحزب بهما في إعلامه. كان الاثنان مِن تلاميذ محمد باقر الصَّدر (أعدم 1980)، غير أنَّ الشَّاهرودي لم يكن عنيفاً متطرفاً، إنما شغله درسه الفقهي ومناصبه، عن ما تورط به زميله الحائري، مع أنَّ الحائريّ، وكلّ الدَّعويين ممن تصدوا للمرجعيَّة، لم يذكروا في سيرهم انتماءهم للحزب في يوم ما (انظر مثلاً؛ الموقع الرَّسمي للحائريّ، موقع الآصفي الرَّسمي، سيرتهما الذَّاتية). كأنَّ مَن يتصدى للمرجعية يمسي انتماؤه الحزبي عائقاً أمام توسيع مقلديه.

مؤخراً اعتزل الحائري العمل المرجعيّ، على أنه كان مرجعاً للتيار الصَّدري، بوصية من محمد محمد الصَّدر (اغتيل 1999)، والد مقتدى الصَّدر، وسلم مقلديه لطاعة علي خامنئي. قال: «على جميع المؤمنين إطاعة الولي قائد الثَّورة الإسلاميّة سماحة‌ آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظلّه)، فإنّ سماحته هو الأجدر والأكفأ على قيادة الأمة، وإدارة الصّراع مع قوى الظّلم والاستكبار في هذه الظُّروف التي تكالبت فيها قوى الكفر والشرّ ضدّ الإسلام المحمدي الأصيل» (1 صفر 1444هـ، موقع الحائري على الرَّابط: https:--www.alhaeri.org-pages-statments - detail.php?id=149).

قصدَ مَن يقلده مِن العراقيين. أمَّا «الإسلام المحمدي الأصيل» فيقصد به الإمامية ومَن يؤمن بولاية الفقيه منهم.

بيد أنَّ علاقة الحائري بمحمد الصَّدر لم تكن على ما يُرام، كي يوصي بأنه خليفته على أتباعه، بدلالة رفضه فتح مكتبٍ للصدر بإيران، رافضاً تسلم رسالته في هذا الشَّأن، بعد تحسن العلاقات بين العراق وإيران، وفق شهادة مبعوث الصَّدر إلى إيران حينها: «رفض السيد الحائري قبول الدَّعوة، وقال ماذا يفعل محمد الصَّدر بالمكتب هنا، ألا تكفيه النَّجف؟» وذكر أموراً أخرى نحن في غنى عنها الآن (الزَّيدي، السَّفير الخامس، بيروت 2001).

- دليل المجاهد

نصب الحائري نفسه قاضياً وحاكماً، فنجده يستهل ويختم فتاويه بـ«جوَّزت لكم»، و«نسمح لكم بالقتل»، و«نسمح لكم بقتله»... إلخ. منح لنفسه مطلق الصلاحيات، يتصرف في الدِّماء والأموال، تحت مبرر «محاربة المؤمنين». كذلك في «دليل المجاهد» نصّب نفسه محصلاً للخُمس مِن الغنائم، التي يغتنمها مجاهدوه مِن العراقيين، كغنيمة أموال توجد في ثياب القتلى، أو المال المنهوب مِن البنوك، فكل هذا له خُمسه، لأنه الفقيه «الجامع الشَّرائط»!

نُشرت مؤلفات الحائري كافة على موقعه، من بينها «الكفاح المسلح في الإسلام»، إلا «دليل المجاهد» نراه اختفى! فهل صار الكتاب عبئاً على مرجعيته، وعلى «الدَّعوة» حزبه، بعد أنْ صار في السُّلطة، وللحائري بالعراق في ظله 12 مكتباً؟! للمبالغة في العنف والتطرف، بما لا ينقص عما ورد في أدبيات «القاعدة» و«داعش».

احتوى «الدَّليل» 165 صفحة، 8 فصول، و213 فتوى، جاءت وفق طريقة الفقهاء، يصدرون الفتوى وكأنها جوابٌ على سؤال، وهذا ليس حقيقياً دائماً، فما يخص فتاوى «الدليل» كان المستفتي والمفتي واحداً، لذا تجد بعضهم يجعل الاستفتاء باسم «ثلة مِن المؤمنين»، وفي حال فتاوى الحائري جُعلت الفتاوى جوابات على استفتاءات المجاهدين.

استهل الكتاب بآية الجهاد: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ...». (سورة الصَّف 10 - 11)، قصدها الحائري جهاداً بدائياً، لنشر الإسلام! وقد وصل أتباعه إلى السُّلطة فماذا حصل؟! أمَّا الطَّبعة الأولى فاستُهلت بالآية: «فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» (سورة التوبة 12). بهذا وضع الحائري إسلام أهل العراق وراء ظهره، ليقوم بفتوح جديدة على يده، طالما الخصم كافر، وفق دليله.

استهل الحائري بجواب على سؤال: «صدر لسماحتكم كُتيب يُسمَّى (دليل المجاهد)، فهل العمل به مبرئ للذمة»؟ أجاب: «مبرئ للذمة إن شاء الله». ثم عطف عليه سؤال آخر: «وهل يجوز لمقلدي السَّيد الخوئي أو السَّيد الإمام (يقصد الخميني) أو مقلدي مرجع آخر»؟ الجواب: «نعم يجوز ما داموا محرومين مِن فتوى مرجعيتهم في تلك المسألة»، ويقصد الفتاوى الواردة في دليله.

طالما جرى الحديث عن فتوى التترس، وتطبيقها مِن قِبل «القاعدة» و«داعش» وغيرهما مِن الجماعات الإرهابيَّة، ووردت كثيراً ضمن فتاوى «دليل المجاهد»، وفحواها أن يبرر قتل الأبرياء في عمليات قتل المطلوبين. توجد إباحة التترس في وصايا الجهاد، واشتهرت عن الشيخ أحمد بن تيمية (ت 728هـ)، ونصّها: «فإن الأئمة متفقون على أنَّ الكفار لو تترسوا بمسلمين، وخيف على المسلمين، إذا لم يقاتلوا، فإنه يجوز أنْ نرميهم، ونقصد الكفار...» (النَّجدي، فتاوى الشيخ ابن تيمية)، أطلقت في ظرف اجتياح المغول في ذلك الزَّمن، لكن السؤال؛ هل توافق الحائري مع ابن تيمية، كي يستلهم منه «التترس»؟! وقد زاد باعتبار العراقيين كفاراً، ما عدا «المؤمنين».

شملت فتاوى «الدليل» سائق السّيارة والشّرطي، وناقل الأغراض، اعتبرهم كفاراً كافة، بجريرة عملهم مع الدَّوائر الرَّسميَّة العِراقيّة. جعل الحائري العِراقَ فُسطاطين؛ المؤمنين وهم المجاهدون، والكفار العاملين في الدَّولة العراقيَّة، أي «دار الهجرة ودار الحرب»، والمنطق نفسه عند «القاعدة» و«داعش»، وفسطاط الكفر كان، وفق منطقه، مشمولاً فيه مَن يتبوأ اليوم مناصبَ، وزراء وقضاة، وقادة في الجيش، حتَّى رئيس الوزراء الحالي، فكان مديراً للزراعة داخل العراق، في وقت صدور «الدليل»، وبالمحصلة الجميع كانوا يعملون في دوائر الدَّولة «الكافرة». ففي منطق الحائري ليست المسألة معارضة وسُلطة، إنما مؤمنون وكفار.

***

رشيد الخيُّون

يعد عصمت نصار (أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية)، أحد الأسماء الهامة واللامعة في سماء الفلسفة العربية؛ حيث أسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، وتعد لبناته الفكرية والأدبية التي وضعها بالجهد والعرق بمثابة الأساس الذي بني عليه الكثيرون من تلامذته مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية في العربي المعاصر.

ففي دراسة له بعنوان "إشكالية الهوية من غائية الخطاب إلى ضرورة المشروع"، أكد لنا على حقيقة مهمة وهي أنه لما كان التفكير الناقد هو النهج المُنتج للآراء والتصورات والمُوؤل والمُحلل للإشكاليات والقضايا، فأعتقد أنه الضرب الأنسب والأوفق لهذا اللقاء الذي نستهل به برنامج التثاقف الفلسفي لعام 2023م تحت مظلة المعهد العالمي للتجديد العربي وإذا ما سلمنا بأن التحاور والتناظر والتصاول هو رحم التجديد المولد للفكر الحر فأنني أدعوكم لمصاحبتي في تلك الجلسة لممارسة الإمتاع والمآنسة لإحياء سنة الفلاسفة والمفكرين المستنيرين. وعليه سوف نبدأ من السؤال الفلسفي لنصل إلى فلسفة السؤال التي تنطلق من خمس قضايا رئيسة هي: عتبة موضوع إشكالية الهوية، الهوية بين التعريف والدلالة والمفهوم، الهوية بين الانتماء والانضواء والتغريب والاغتراب، ثقافة الذات المفكر وبنيته وأهوائه وميوله، وسلطة الهوية واستبداد المجتمع، رسالة المجدد وواجبات الموؤل.

ثم يدلف إلى عتبة موضوعه فيتساءل : لماذا جعلنا موضوع الهوية العربية إشكالية وليس قضية؟ فكلنا نعرف أن معنى لفظة إشكالية أنسب للتعبير عما يتسم به موضوع الهوية من حيث المشكلات التي أثيرت ومازلت، ومن حيث التعريف والمضمون والمسائل ذات الصلة وتصارع الرؤى والتصورات حول ماهية المشخصات التي تشكل بنية الهوية من حيث أصالتها وطرافتها وإدراجها ضمن التليد أم المستحدث الجديد. ونتسأل ثانيةً هل الإشكالية هي الإلتباس والمغالطة في الاستدلال، أو الأمر الصعب المعقد الذي يصعُب الفصل فيه أو الاختلاف والتناطح والتصاول الذي لا يُقطع بصدقه والمشتبه فيه دون دليل كافي أو صفة لقضية لا يظهر فيها وجه الحق كما عند الفلاسفة، أم تراها المقُرر دون دليل؟ الحق أن جُل قضايا الفكر العربي الحديث يمكن إدراجها ضمن الإشكاليات بالمعنى السابق ويرجع ذلك إلى الوقائع والواقعات التي أنتجت تلك القضايا شأن قضايا التراث والتجديد والحرية والإصلاح أما مسألة الهوية فقد خرجت من بوطقة الوعي وتربية الرأي العام وتوجهات أهل الحل والعقد والسلطات القائمة ومثاقفات أصحاب المنابر ورجالات الدين وكتابات المستشرقين وذلك في أخريات القرن التاسع عشر والعقدين الأول والثاني من القرن العشرين في بلاد الشام ومصر والعراق، ثم المغرب العربي. وقد دارت الحوارات حول مفهوم الوطنية والقومية والأصول الحضارية وعراقة الأنساب وأصالة المشخصات والسمات المشتركة والصفات المتشابكة دون جدوى، وليس أدل على ذلك مما يتردد في حواراتنا المعاصرة حول الآراء المتباينة حيال بنية المصطلح.

ثم يستطرد المفكر الكبير عصمت نصار فيقول: وإذا ما انتقالنا إلى مصطلح الهوية العربية سوف نُدرك أنه لا يقل تعقيداً عن سابقه من ناحية ولا يختلف في صفة الخلط والاختلاف والالتباس في التعريف عما نجده حيال مصطلح القومية Nationalismفي الفكر الغربي الحديث من جهة أخرى. حيث ورد في معظم المعاجم السياسية والاجتماعية بمعاني متباينة (الوطنية، الأمة، والجنس، الأصل) وجعلت معظم التعريفات (اللغة والمعتقدات والتقاليد والأعراف ووحدة المكان والمصير والمصالح والمقاصد) من أهم المشخصات التي يعول عليها في تحديد مفهوم القومية.

ولم يكتف بذلك الدكتور عصمت نصار أكد على أنه إذا ما انتقالنا إلى المثاقفات في المجتمع العربي الحديث سوف نجد ما يشابه ما أشرنا إليه سلفاً. وذلك لأنه من العسير التمييز بين مفهوم الهوية والذات وذلك في السياقات اللغوية والمنطقية العربية، ومن المستحيل فصل الذات عن الهوية عندما نتحدث عن المشخصات العربية ووجودها، ويرجع ذلك لأصالة وعقلانية عقلها الجمعي الذي دأب على غربلة المستحدثات الوافدة، والمتغيرات العالقة التي يحملها الأغيار الوافدون عليها. وقد ظهر مصطلح الهوية العربية كرد فعل مباشر لتحديات ثلاثة رئيسة أنتجها الواقع المعيش، أولها: الربط بين الدين والهوية وذلك على يد الراديكاليين التراثيين (الجامعة الإسلامية)، وثانيها: تعصب الأتراك وانتشار شعار التورانية على يد حزب الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة، وثالثها: الدعوة للكوكبة والعولمة وتزييف المشخصات وجحد التراث والسير في زيل الثقافة الغربية تحت العديد من المسميات (الوحدة الإنسانية، المدنية الحديثة، ثقافة البحر المتوسط، والشروق من الغرب وليس من الشرق) وعلى مقربة من ذلك نجد حركات إحياء للنعرات العرقية والعصبيات المذهبية. الأمر الذي دفع عبدالرحمن الكواكبي، وبطرس البستاني، وإبراهيم اليازجي، ونجيب العازوري، ثم الشيخ على يوسف، وأحمد لطفي السيد، وعبدالله النديم، وعبدالرحمن الرافعي، وسعيد الشرتوني، وأمين الريحاني، وعبد الحميد الزهراوي، وأحمد زكي باشا، وأنطون سعادة، وعبدالرحمن عزّام، وغيرهم من الرافضين لربط العروبة بالعقيدة وإقصاء المسيحيين والأغيار عن مفهوم المواطنة الكاملة. وتغليب المشخصات الفاعلة في بناء الذات العربية مثل اللغة والتاريخ والمصير والتحديات والمصالح المشتركة على غيرها، والراغبين أيضا في التحرر من تعصب الأتراك وتعاليهم على الجنس العربي ومحوهم للثقافة العربية وإنكار دورها للحضارة الإنسانية ناهيك عن الظُلم والاستبداد والقمع الذي عانت منه المجتمعات العربية في المشرق أو المغرب تحت وطأتهم بإسم الخلافة الإسلامية وخوفهم من هجمة الاحتلال الغربي ولا سيما بعد الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس بيكو.

ثم ينتقل الدكتور عصمت نصار للحديث عن بنية القضايا المطروحة فيقول: أعتقد أن الوقت لن يسعفنا في الاسترسال في الحديث عن القضايا التي يحويها عنوان ذلك اللقاء أعني مناقشة الفارق بين الخطاب والمشروع حيال هذه القضية، فعلى الرغم من اجتهاد المُجددين الأوائل في تحديد بنية الهوية العربية ومشخصاتها ومقاصدها إلا أن جميعهم لم يحسن التخطيط في نقل تلك المفاهيم ومقاصدها من طور التنظير إلى طور التفعيل وليس أدل على ذلك مما نحن فيه الآن. فإذا ما عرضنا قضية الهوية العربية على مائدة الفلاسفة والتفكير الناقد فسوف نُجابه العشرات من التساؤلات من منظور مبحث الوجود ومبحث المعرفة ومبحث القيم، بالإضافة إلى تهكم الساخرين من تطبيق المقولات المنطقية الرئيسة على دلالة المصطلح، فأتصور أن يكون الطرح على هذا النحو:

* هل القومية العربية موجودة بالفعل؟ وبأي معنى؟ وبأي دلالة؟

* وهل تلك القومية العربية ومشخصاتها يمكن الاستدلال على وجودها في الثقافة المعاصرة؟ وفي أي مرتبه يمكن وضعها، في مكانة الفاعل أم المفعول دوماً؟

* وهل عقلنا الجمعي المنتمي، المجدد، الموؤل. موافقاً على وجودها أم ساخراً من الحديث عنها؟

* وهل القضايا التي تشغلها في الحاضر يمكن الحكم على صحتها أو كذبها في المستقبل أو ستظل غير معروفة؟ وهل سنظل نحلل قيمنا ومبادئنا في ضوء (المنطق المتعدد القيم) أو (المنطق المائي) أم (المنطق الضبابي أو الغائم)؟

* وهل سنبيت نؤمن بمقولة "إما... أو الإطاحي " أم " (مبدأ الثالث المرفوع)"؟

* وهل إنتمائاتنا يمكن إدراجها في قوائم الحضور أم في سجلات الغياب؟.

* وهل في إمكاننا التخلص من شيفونيتنا وعصبيتنا أم سوف نسمي نزيف تلك الهوية المزعومة ونلبسها أوهام الشاعر الروماني الساخر بيلاوتوس (نحو250/184ق.م) على مسرح الحياة أم قبعات الفيلسوف الإسكتلندي توماس كارليل (1795/1881م) وتيجانه في ساحة الزعماء والأبطال وحديثه عن أشكال فلسفته للملابس؟

ثم يجيبنا الدكتور عصمت نصار على ذلك قائلا: والإجابة يمكن إدراكها عند الجاحدين لتلك الهوية في شتات الاغتراب وتأوهات المغتربين في مجتمعاتهم العربية. وكذا في أكاذيب دعاة الأصالة والإصلاح تارة، وفي أوهام وإفك التفكيكيين والفوضويين وأرباب البدع تارة أخرى، ولهذا وخليق بنا أن نعمل سوياً لتجديد مبحث الوعي في مشروعنا الحضاري فنعين الثابت والمتحول في مشخصات هويتنا ونتخلص من الأوهام التي شغلت حيزاً كبيراً في خطابات ذواتنا عن الهوية ونجعل دراسة الواقع بكل ما فيه هي سبيلنا إلى إعادة بنائها. ونؤكد على أن نجاح ذواتنا المتطلعة إلى الرقي والتقدّم لن يتحقق بمعزل عن العيش مع الأغيار في متنفس من الحرية والتناغم والمحبة والتراحم والقيم الأخلاقية المستمدة من مكارم تراثنا التليد ووعينا الجديد حتى نتمكن من الإجابة التي ينبغي علينا البوح بها وإعلانها: من نحن وماذا نريد ولماذا؟ ونربي أولادنا على حكمة الأيقاظ الأصحاء الخالدة القائلة "إذا كانت كلمة نعم تطرب الأذان، فإن كلمة لا تُحيي العقول، وأن الولاء والانتماء لا يقوى على مجابهة عذابات الواقع بمنآي عن قناعات الأنا المُفكر وإنضواء الذات العاقلة". وأن غاية التأويل المعاصر يجب أن تنصب على فضح الأكاذيب وتوضيح المعاني والدلالات المستترة وفك الرموز وإزالة الألغاز وليس اختلاق المعاني والدلالات التي تبدد المقاصد الواضحة بذاتها.

وقد توصل الدكتور عصمت نصار إلى حقائق مهمة وهي إلى عدة توصيات ونتائج، أولها: أن قضية الهوية لم تُعد مقولات خطابية ولا شعارات غنائية؛ بل ضرورة حتمية واجبة التحقق بتخطيط علمي ينطلق من الواقع المعيش ويرمي إلى النظر للمستقبل باعتبار العرب فاعل وليس مفعول. وثانيها: ضرورة العزوف عن الشيفونية المضللة سواء بين الرأي العام القائد للزعمات العربية والسلطات القائمة أو في مُخيلة الرأي العام التابع حيث الثقافة السائدة في كل الأقطار العربية وأخيراً بين تصورات الرأي العام القائد وأهل الحل والعقد والمجددين الحقيقيين المسئولين عن حركة الأمة العربية وتقدمها إلى الأمام أو إلى الخلف، وثالثها: التخلص من كل قيود معوقات البوح وحرية الفكر والرأي والعمل على إنهاض الأذهان الراقدة لتلج أبواب الصمت وتحريضها على قيادة ثورة المستنيرين التي تنشد البناء وليس الهدم، ورابعها: تفعيل الخطوات العملية التي تُحيل الهوية اللفظية إلى وقائع وواقعات تثبت أن العرب أمة ووطن له حدود أمنة ومصانة تأوي شعوب متحابة متناغمة في العيش بمنآي عن العصبية الدينية أو الحزبية الأيديولوجية أو الرجعية العرقية، أي أمة تعبر عن كيان واحد اقتصاد واحد (عملة وسوق وإستثمار طاقات وموارد) وقرار سياسي ودستور أعلى يدين بالعلم والمصلحة التي لا تناقد مشخصات الهوية التي لا تفصل في الولاء والانضواء في رفعة القومية والإخلاص في الولاء للوطنية، وأخيراً: مراجعة المشخصات العقدية وتخليصها من الأوهام والأكاذيب وإعادة تربية الأذواق والبرامج التربوية والتعليمية وذلك لإنتاج جيل جديد من شبيبة راقية جديرة بحمل الهوية العربية التي تعبر دوماً عن يقظة التفكير الناقد وأصالة العقل الراجح الذي لا تضلّه الأكاذيب ولا تصرفه عن مقصده الأهواء والمطامع الزائفة.

ونخلص من قراءتنا لهذه الدراسة وحسب فهمنا لها أننا نلاحظ المفكر الكبير عصمت نصار يستخدم التفكير الناقد كأداة للحوار من أجل إحياء التجديد الفكري، ويراه السنة المميزة لكل مفكر تنويري، وبالتالي وضع أيدينا على بعض المرتكزات الأساسية لإشكالية الهوية العربية، فأراد أن يخرج بالمصطلح من دائرة المقولات والشعارات إلى مجال التطبيق والتخلص من القيود، ففرق بين القضية والإشكالية، ورأى أن الهوية هي إشكالية كبرى، لأننا نتحدث هنا عن بنيتها دون أن نتحقق من دلالاتها.

ويحزم مفكرنا بالعلاقة الوثيقة بين الهوية والوعي فلا هوية بدون وعي من الرأي العام، وأهل الحل، والعقد، وأصحاب المنابر، ورجال الدين. ثم يعود مفكرنا إلى مصطلح الهوية العربية فيراه اصطلاحا معقدا وذلك بسبب ما احيط به من لبس واختلافات خول تعريفه وعدم التمييز بين مفهوم الهوية والذات .ولقد ارجع مفكرنا ظهور هذا المصطلح كرد فعل للربط بين الدين والهوية .وتعصب الاتراك .والدعوة للعولمة علي قاسم وجحد التراث والسير في تبعية الثقافة الغربية وهو الامر الذي جعل العديد من المفكرين العرب يرفض ربط العروبة بالعقيدة لأنه يترتب عليه إقصاء غير المسلمين من مفهوم المواطنة الكاملة

ويتحدث الدكتور عصمت نصار عن بنية القضايا المطروحة فيأخذ على المجددين الأوائل انهم لم ينجحوا في تقل المفاهيم من طور التنظير إلى التفعيل ويحاول حل هذه المشكلة عن طريق طرح تساؤلات جديدة تنقلنا من هذا الطور فيتساءل عن وجودها الفعلي والدلالي ومدى استيعاب عقلنا الجمعي لوجودها، وهل القضايا المطروحة تجاهها في وقتنا الحالي صالحة للمستقبل في ظل المنطق متعدد القيم أو المنطق الضبابي وغيرها من آليات الحكم والتعقل

إذن التساؤلات التي تدور في اطار قضية إما... أو.. إن الإجابة في رأيه يمكن أن ندركها عند جاحدي الهوية الذين اصابهم الاغتراب وأكاذيب دعاة الإصلاح .. ويخلص مفكرنا إلى أن الحل يكمن في تحديد مبحث الوعي في مشروعنا الحضاري والتخلص من أوهام الماضي التي شغلت حيزا كبيرا في خطابات ذواتنا عن الهوية .والاهتمام بدراسة الواقع بكل ما فيه هو طريق مفكرنا لإعادة بناء الهوية والعيش مع الآخر في إطار الحرية والمحبة والقيم الاخلاقية .

ويطول بنا المقال غير أني لا أملك في نهاية حديثي عن الدكتور عصمت نصار إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به و يسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخرى مني لهذا الرجلٍ العظيم الذي لم تجز به السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

***

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

‏فجأةً وجدت ذاتي مولعةً بالمطالعة منذ بداية العقد الثاني من عمري، ووجدتُها بعد سنوات قليلة تحلم بالكتابة وإن كنت أراها أمنيةً شبه مستحيلة، أحسبها صنعةً خاصة ببشرٍ لم يُخلقوا إلا لها، وبعد سنواتٍ من المطالعة تجرأتُ وأقتحمتُها. بدأتُ أكتب حكاياتِ أمي وزميلاتها بلغةٍ تخرجها من العامي إلى الفصيح، وأكتب ما ينسجه خيالي من حكاياتٍ عابرة وقصص قصيرة، لا أتذكر وقتها أني عرضتُ ما كتبتُ على أيّ أحد، أكتفي بكتابتها وأشعر ببهجةٍ لبرهة، وأعود في اليوم الثاني لقرائتها بهدوءٍ فأشعر بالضجر، أحيانًا أدخل حالةَ اكتئاب مؤقت يحرّضني على التعجيل بتمزيقها. تضاعفت المحاولاتُ بمرور الزمان، وتخبّطتُ بفوضى التجريب والتكرار الممل، ممزوجةٌ تلك المحاولات بشغفٍ غريب، يلابسه خوفٌ يبلغ حدَّ الذعرِ أحيانًا، ويأسٍ من النجاح في التجارب التالية.كنتُ دائمَ التفكير بما عليّ فعلُه كي أظفر بخطوة النجاح الأول في هذه الصنعة، قادني تفكيري إلى ممارسة أشكالٍ متنوعة من الكتابة، انتقلتُ فجأةً للشعر، وان كنتُ أنفر من أكثر الشعر الشعبي، ولا أتذوق أحيانًا ما أقرأه في دواوين شعراء كبار. عثرتُ صدفةً على قصائد نثر منشورة في بعض المجلات والصحف، أيضًا لم أتفاعل معها ولم أفهم أكثرَها، غير أنها ورطتني بوهم أن كلَّ إنسانٍ يمكنه كتابةُ الشعر، خاصة إن كان من هذا النوع.كنتُ مستعجلاً فبدأتُ بكتابة ديوانٍ فرغتُ منه أظن بعشرة أيام، اتسع له دفترٌ لا أتذكر عددَ صفحاته، ربما تضمن ما لا يقلّ عن عشرين قصيدة، بعضُها يحتّل عدةَ صفحات من ذلك الدفتر.كلُّ وقتي كان مكرّسًا للشعر تلك الأيام، أكتب القصيدةَ وأعود أشطب وأضيف وأحذف، أقرأ ما أكتب وأعود إليه مرةً بعد أخرى،كلُّ ذلك من دون أن أُخبر أحدًا. أكتب لنفسي، وأقرأ لنفسي، وأحتفظ بدفتري بمكانٍ خاصّ لئلا يراه غيري، وأخدع نفسي بأن ما أكتبه ضربٌ من الشعر ليس بالضرورة أن يمتثل لمعايير الشعر المتداولة. بعد الفراغ من كتابة الديوان تركتُه عدة أيام، رجعتُ لقرائته بتأملٍ وهدوء، لا أكتفي بقراءة واحدة، كنت أعود لأقرأ ما فرغت منه عدة مرات، إلى أن اقتنعتُ أنه هراءُ مراهقٍ غير مخلوق للشعر، استفقتُ من هذا الوهم الذي مكثتُ في أسره عدةَ أشهر، في واحدةٍ من محطات ضياع اكتشاف دروب الكتابة الوعرة، لحظةَ الاستفاقة مزّقتُ الديوان، واثر انزعاجي وحنقي على هوسي بالشعر أحرقتُ ما مزّقتُه، لئلا أعود لمثل هذه المحاولة العقيمة. أشعرني هذا الموقف بشجاعةٍ أمام نفسي، وقدرةٍ على محاكمتها مبكرًا، وفضحِ أحلامها وأوهامها الزائفة.كلُّ ذلك كان يجري من دون أن يعرف به أيُّ إنسان من الأهل والأصدقاء. أبتعد عن الكلّ عندما أكتب، وأخفي عن الكلّ ما أكتب، أمزّق ما أكتبه بعد أيام، خشيةَ أن يُفتضح ضعفي وهشاشتي أمامي أولًا حين أعود لقراءته، وربما أمامهم إن عثروا عليه، وهذه واحدةٌ من أوهام الكمال الزائف الذي كنتُ وأمثالي ضحيتَه من تربيةٍ خاطئة للآباء والأمهات في القرية. العائلةُ ومجتمعُ القرية يعاملاني وأمثالي بأنّا أكبرُ من مرحلتنا العمرية، وذلك ما حرمنا من أبسط احتياجات مرحلة الطفولة، حرمني من اللعبِ والعبث الخلاق الذي يوقظ طاقةَ الإبداع ويرسخها لدى الطفل، وممارسةِ حريتي في التعبير عن احتياجات الطفل البريئة المتنوعة. غطس هذا الحرمانُ عميقًا، أجد حاجةً كامنة في داخلي أحيانًا لشيءٍ مما يلعب به أطفالي، إلا أني لا أجد قدرةً نفسية على ممارستها في عمرٍ متقدّم.

في حوزة النجف قبل 45 سنة طلب منا أحدُ مدرسي أصول الفقه كتابةَ بحث في سياق دراستنا للفقه وأصوله، وأمهل تلامذتَه أسبوعين، كثّفتُ جهودي للمطالعة والكتابة في هذا الموضوع، كتبتُ مقالةً بنحو ثلاثين صفحة، أعدتُ كتابتَها أكثر من مرة، وبعد أيامٍ من تسليمها للأستاذ أعرب عن إعجابه، ونبّهني إلى بعض الثغرات والأخطاء.كانت المرةَ الأولى لوضعِ كتابتي في مباراةٍ مكشوفة، والاحتفاءِ بها بين مجموعةٍ من أقراني.كرّر الأستاذ الطلب من تلامذته الكتابةَ للمرة الثانية والثالثة، حفّزني موقفُه على الاستغراقِ في المراجعة، والتريّثِ بالكتابة، وإعادةِ تحرير المسودات عدة مرات. في المرتين اللاحقتين أعرب الأستاذُ عن اهتمامه وحثّني على الاستمرار بالكتابة. الطريفُ أن هذا المدرس لم يكن يتقن الكتابة، قرأتُ له بعضَ الكتابات بعد ربع قرن فرأيتُها بمثابة الخطب المنبرية، لا تنطبق عليها معاييرُ الكتابة بوصفها "صناعة الإنشاء" كما يعرفها أهل البيان.

في سنة 1978حضرتُ حلقةً لتدريس العقيدة تضمّ نحوَ 25 تلميذًا، كان الأستاذُ فيها الشيخَ أحمد البهادلي، وهو علامةٌ متمكن بعلمه وبيانه، عذبٌ في التعليم، شخصيته جذابة، قرأتُ قبل حضور درسه كتابًا أصدره حول العقيدة يستوعب محاضراتِه في كلية الفقه في النجف، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتمنى التعرّفَ عليه والتلمذةَ في حلقات درسه. سمعتُ من أستاذنا في كتاب "معالم الأصول" الشيخ صالح الصالحي ثناءً على البهادلي، وصفه بأنه من أساتذة "كفاية الأصول" الجيدين، الأستاذُ الذي يتقن تدريسَ هذا الكتاب بجدارة مجتهدٌ استنادا للتقليد التعليمي المتعارَف في الحوزة.كنتُ أتطلع لأن يكون شيخُنا البهادلي أحدَ المراجع في النجف، لا أعرف هل منعه زهدُه من التصدي، أو أنه لم يكتشف طريقَ الوصول لمقام المرجعية. في خاتمة تدريسه أخبرنا بأنه يريد امتحانَنا تحريريًا، لم يكن الامتحانُ التحريري متعارفًا وقتئذٍ في حلقات الدرس الحّرة في الحوزة. في اليوم التالي بعد أن امتحن تلامذتَه جاء الأستاذُ بالأوراق غاضبًا،كانت الأوراقُ بيدي غير أنّه لم يوزعها، لعل علاماتِ التلامذة الضعيفة منعته من ذلك. تحدّث لمدة ساعة موبخًا ومنذرًا بالتيه في هذا الطريق لو واصل التلامذةُ التكاسلَ والإهمال والافتقار للجلد والمثابرة، ذكر حكاياتٍ مؤلمةً عن بعضِ رجال الدين الذين لا يكترثون بالتعليم الرصين في الحوزة، ولجوءِ بعضهم لممارسة الشعوذة وخداع العامة. وأردف القولَ بحكايةٍ ملهمة عن مثابرة أخوين كانا في غرفةٍ واحدة بأحد المدارس الدينية بالنجف، في الليل كانا يطالعان تحت ضوء مصباحٍ مُضاء بالنفط، عندما يغفو أحدُهما يضع علامةً على قنينة المصباح الشفافة، ليسعى في الليلة التالية أن يعوّض ما فاته في ليلةٍ ماضية، إن لبث أخوه وتفوّق في ساعات السهر يواصل المطالعة. تألمتُ من توبيخ مدرسنا، ذهبتُ إليه بعد انصراف بعض الزملاء لأعرف نتيجتي، كنت متردّدًا مضطربًا، عندما تكلمتُ ماتت الكلماتُ في شفاهي، غرقتُ بين حياءٍ ووجل من توبيخٍ إضافي، أجابني الشيخُ البهادلي بحماس: لا تقلق، أنت الوحيد الذي حصلت على 100. ظلّ موقفُ أستاذي هذا يمدّني بطاقةٍ مضاعفة كلّما خارتْ عزيمتي، وعشتُ حالةَ وهن، وأدركتني الهشاشة، والشعورُ بالعجز عن الكتابة.

هذه تجربتي الشخصية،كلُّ تجربة من هذا النوع تعكسُ ذاتَ الكاتب، وتنكشف فيها مواهبُ الذات وقدراتُها وأقدارُها وأحوالُها وظروفُها وثقافتُها ونمطُ رؤيتها للعالم ومحطاتُ حياتها.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

سأتناول قضية التعليم وكيف تدعم هاتان القيمتان الاستقلالية والفضيلة المدنية الممارسات التعليمية المقبولة وكيف أنها تشير إلى الطريق إلى الحلول الممكنة لمختلف الصعوبات أو الخلافات التي تواجه المدارس العامة الآن.

التعليم طريقة واضحة لمحاولة تنمية ميول مثل الإيثار المشروط. بأنه من الضروري ترسيخ الفضيلة المدنية. هذا يعني أنه يجب علينا "السعي لتأمين أولوية الخير العام والصالح العامة على المصالح الخاصة، ليس بإخماد الرغبات الشخصية أو إخضاعها ولكن من خلال توجييها بالمنطق والحجة والدليل حتى يتم تشكيلها بعناية".

يبدو أن المدارس بحاجة إلى إحساس بالهدف، فكرة عما يفترض أنها تقوم به والتي توجه أنشطتها وتضع معايير لتقييمها.

كيف يتم ذلك؟ هل يمكن هذا؟ هل من الممكن توعية الناس بالاستقلالية والفضيلة المدنية في نفس الوقت؟ سأحاول هنا أن أبين أنه كذلك. لكن هناك مسألة أخرى يجب تسويتها أولاً. ادعائي هو أن رؤية جمهورية تقدم تفسيرا مقنعًا لأهداف التعليم: لتعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية. يفترض هذا الادعاء أنه يجب أن يكون هناك غرض أو مجموعة من الأغراض التي تحدد التعليم.

إن المدارس مثل المؤسسات الأخرى بحاجة إلى إحساس بالهدف، وفكرة عما يفترض أن تفعله والتي توجه أنشطتها وتضع معايير لتقييمها.

ان يكون التعليم موجه نحو تحقيق التفوق الأكاديمي هذا طبيعي. لكن هناك مواد تتصل بالتربية ايضا مثل تدريس التاريخ، واهمية أن يُدرًس دون إصدار أي أحكام قيمية؛ أو دون أتخاذ مواقف محددة في قضايا جدالية مثلا منع الحمل أو الإجهاض. الحل الواضح لهذه المشكلة هو إيجاد أو صياغة رؤية حول الغرض أو الأغراض المناسبة للتعليم. وهذا ما سنوضحه في هذه الدراسة التي تقدم رؤية ومنطلق للحل والمعالجة. يجب أن تفي المدارس بمعايير معينة- تتعلق بشهادة المعلم، ومتطلبات التخرج، وعدم التمييز، من بين أمور أخرى.

تتطلب التربية والتعليم من أجل تحقيق أهدافها التوصل إلى بعض القرارات حول ما يجب على المدارس فعله وما لا يجب أن تفعله وأن يقوم ذلك على وبعض المعايير لتحديد ما يمكن اعتباره مقبولا او مرغوبا فيه. علينا أن نواجه مهمة صياغة رؤية ومنهاج حول غرض (أغراض) التعليم - أو بشكل أكثر تحديدًا، ما نريد أن تفعله مدارسنا. هذه ليست مهمة سهلة في مجتمع حديث تعددي لكنها ليست مشكلة مستعصية أيضًا.

هناك أهداف تعليمية يتطلب أن تحظى بدعم حكومي لأعداد الطلبة للحياة العامة، وهو من اساسيات عمل المدرسة على هذا النحو. إنه من المهم التوصل إلى رؤية حول أهداف مدارسنا. وإنه من الصحيح عمل المدرسة هو التعليم. ولكن الغرض من التعليم والتربية هو بطريقة ما إعداد الناس – الطللاب هنا للحياة العامة وكيفية عيش حياة تراعي الصالح العام للمجتمع ايضا كما تراعي المصالح الشخصية. تعليم الناس أن يكونوا مستعدين لممارسة الاستقلالية ولعب دور المواطن النشط ذو الروح العامة. لذلك يجب أن نفكر في أغراض التعلي، والإعداد للحياة، على أنها تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية. على أن المدارس يجب أن تعزز كلاً من الاستقلالية والفضيلة المدنية.

الاستقلالية والفضيلة والتربية المدنية

التعليم والتربية هنا هو تدريب و تعليم علىالقيادة وتطوير إمكانات الشخص الذاتية. فيمكن من استخلاص قدرات معينة على أداء بعض المهارات. ويهتم التعليم ايضا بتنمية الفرد بأكمله، وبالتالي تطوير تلك السمات البشرية التي تجعل الحياة ذات القيمة ممكنة.

من الواضح أن مثل هذا المفهوم للتعليم يتوافق مع الرأي القائل بأن الاستقلالية هي القدرة على عيش حياة ذاتية الحكم. تبدأ الاستقلالية، مثل القدرات الأخرى، كإمكانات يجب تحقيقها، بكل معاني الكلمة، قبل أن يصبح الشخص مستقلاً ذاتيًا. لكن هذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا تم استخلاص الإمكانات من خلال التعليم من نوع ما. ليس من المستغرب إذن أن تجد بعض المعلمين والفلاسفة يصرون على أن الغرض من التعليم - أو على الأقل أحد أهم أغراضه - هو تعزيز الاستقلالية للفرد.

يمكن قول الشيء نفسه عن العلاقة بين الفضيلة المدنية والتعليم. إن الفضيلة المدنية مثل الفضائل الأخرى، هي سمة شخصية أو نزعة لا يرجح أن تزدهر بدون تشجيع وتنشئة. ويمكن أن تحدث هذه الرعاية والتنمية بعدة طرق، وبالتأكيد ستكون المدارس مسؤولة عن الكثير من التعليم المدني الذي يتلقاه الشخص. لذلك ليس من غير المألوف أن ننظر إلى الاستقلالية الشخصية أو الفضيلة المدنية على أنها قدرات أو تصرفات على المدارس تطويرها.

ندعو الى تاسيس لجنة "جمعية التربية الوطنية" تكون من مهامها: إعادة تنظيم التعليم الثانوي والمبادئ الأساسية للتعليم الثانوي، وتركز على اهداف منها مثلا هدف التخصص، حيث يمكن للأفراد أن يصبحوا فاعلين في مختلف المهن ومجالات العمل البشري الأخرى، وتحقيق الأفكار المشتركة، والمثل المشتركة، وأنماط التفكير والشعور والعمل المشترك الذي يساعد على التعاون والتماسك الاجتماعي والتكافل الاجتماعي. إن محاولة تأسيس الاستقلالية والفضيلة المدنية كأهداف للتعليم ليست بعيدة المنال على الإطلاق.

لابد من النظر في ما يُفترض أن يحدث، في المدارس العامة من حيث الاستقلالية والفضيلة المدنية. وهو ما يتطلب بشكل عام أن يبدأ المنهج في المدرسة الابتدائية من خلال التأكيد على المهارات الأساسية، ثم ينتقل لتقديم المزيد من الخيارات والاختيار الفردي في المدرسة الثانية، ثم يقدم المزيد من الخيارات في الكليات والجامعات. تمكن المهارات الأساسية الأطفال من "العمل" في العالم لاحقا؛ فمن شبه المؤكد أن أي شخص يفشل في الحصول عليها سيظل معتمداً بشكل كبير على الآخرين لكي تكون لديه فرصة في أن يصبح مستقلاً. تساعد، هذه المهارات من خلال تعزيز القدرة على التعبير عن الذات، الطفل على التغلب على الإحباط وتقوية احترام الذات. توفر هذه المهارات قاعدة يمكن للطلاب من خلالها المضي قدمًا لتقدير الخيارات المتاحة لهم وما تنطوي عليه اختياراتهم أيضًا.

أن المطلوب تعزيز الفضيلة المدنية، أو المواطنة (بالمعنى الأخلاقي)، ودمجها أيضًا في المناهج الدراسية. فلو أخذنا قوانين الولايات في الولايات المتحدة- مثلا- نجد انها تطلب من الطلاب عادةً دراسة التاريخ والحكومة الأمريكية، واجتياز الاختبارات في دساتير الدولة والدساتير الوطنية، وأخذ دورات في الدراسات الاجتماعية و"التربية المدنية"، ويساهم في الفضيلة المدنية حتى الوقت المخصص للمهارات الأساسية للقراءة والكتابة والحساب. إن أولئك الذين يفتقرون إلى هذه المهارات من المرجح أن يظلوا معتمدين على الآخرين للحصول على المعلومات والتوجيه السياسي وكذلك للحصول على سبل العيش وأشكال أخرى من المساعدة. تعزز المدرسة الاستقلال بالمعنى المناسب لكل من الاستقلالية والفضيلة المدنية من خلال مساعدة الطلاب على اكتساب هذه المهارات وتطويرها.

من المفترض أن يساعد المعلمون الطلاب يشجعونهم على طرح الأسئلة والتفكير في تطوير استقلالية مهامهم، لكن لابد من الأنتباه الى أن هناك بعض طرائق التعليم ومناهجه داخل المدارس غالبًا ما تثبط المنهج الضمني التفكير النقدي بل قد تعلم مفهوم السلبي عن المواطنة، بالإضافة الى عدم الأنضباط وربما عدم المساواة. وهذا ما قد ينتقل إلى تبرير النظام السياسي الذي يقتل المنافسة السياسية . المطلوب التدريس الفعلي للقيم الأساسية للسلوك السياسي الديمقراطي.

أن هناك مجالًا كبيرًا للتحسين والتطوير عندما يدرك مديري المدارس والمعلمين أن الترويج لشيء مثل الاستقلالية الشخصية والفضيلة المدنية من بين مسؤولياتهم الرئيسية. إن قيامهم بذلك يدعم ادعائي بأن تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية يمكن أن يكون، من الأهداف الأساسية والمعترف بها في المدارس العامة. كما أنه يعطينا سببًا وجيهًا لمحاولة تحسين مدارسنا في هذه النواحي.، أريد أن أوضح، لإضافة المزيد من المعقولية إلى قضية الاستقلالية والفضيلة المدنية، كيف توفر هذه المُثل إرشادات في معالجة بعض الصعوبات والخلافات المحيطة بالتعليم هذه الأيام. هناك العديد من القضايا أكثر مما يمكنني معالجتها هنا، ومع ذلك، سأقدم بطريقة سريعة بعض التعليقات على أمل أن تشير إلى أهمية الاستقلالية والفضيلة المدنية- وبالتالي كأهداف تعليمية للجمهورية. مثل مجالات الاهتمام هي حجم المدرسة، والتعددية الثقافية.

حجم المدرسة

هناك قضايا تتطلب نقاش من المختصين في ما دعونا اليه أو اقترحناه باسم : لجنة "جمعية التربية الوطنية" تتعلق بمسألة الحجم الأمثل للمدرسة، خاصة بالنسبة للمدارس الثانوية. وقد يكون النقاش حول ايهما له الأفضلية أو الأولوية المدارس الكبيرة أم المدارس الصغيرة . بالطبع هناك من يفضل المدارس "الصغيرة" وآخر يفضل المدارس "الكبيرة" ذات الشعب المتعددة للصف الواحد. أيً أن تضم المدرسة الكبيرة عدة كبيرمن الطلاب في كل صف متعدد الشعب مع توفير المعايير التدريس. توفر المدرسة الثانوية الكبيرة فرصًا أكبر للطلاب لمتابعة اهتماماتهم الخاصة أثناء الارتباط بطلاب آخرين لديهم اهتمامات وقدرات مماثلة. ما لم تكن المدرسة كبيرة، فهناك فرصة ضئيلة لأن تكون شاملة- أي، لتقديم مجموعة واسعة من الموضوعات والأنشطة للطلاب ذوي الاحتياجات والاهتمامات المتنوعة على نطاق واسع. لكن يرى الذين يدافعون عن المدارس الأصغر أن المدرسة الثانوية الكبيرة غير شخصية للغاية. فقد يميل الطلاب إلى الشعور بالضياع في المدارس الكبيرة مما يسمح لمعظم الطلاب بالمضي قدمًا في التخرج مع القليل من التمكن والكفاية في العمل والأدارة وخبرة قليلة لمواجهة التحديات التي تعترضهم. وأنه يمكن للمدرسة الصغيرة أن تمنح كل طالب مزيدًا من الاهتمام، حتى لو لم تستطع إعطاء الجميع الدورات التي تناسب اهتماماته الخاصة.

إذا لجأنا إلى اعتبارات الاستقلالية والفضيلة المدنية يبدو أننا ننجذب في اتجاهين متعاكسين. يبدو أن المدرسة الثانوية الكبيرة تعزز الاستقلالية من خلال توسيع نطاق الاختيار للطلاب، لكن المدرسة الصغيرة، مع قدرتها على تشجيع التعاون، يبدو أنها أكثر ميلًا لتعزيز الفضيلة المدنية. ربما ببساطة لا فرق بين ما إذا كانت المدارس كبيرة أم صغيرة، إذًا، حيث يبدو أن هناك حججًا قوية بنفس القدر لكلا الحجمين.

هناك سبب للاعتقاد بأن الرغبة في تعزيز الاستقلالية يجب أن تكون لصالح المدرسة الصغيرة أيضًا. الاستقلالية تعني القدرة على الاختيار، ولكنها تتطلب أيضًا إحساسًا قويًا بالذات. من المرجح أن تتغذى مثل هذه الهوية، أو الشعور بالذات، في المدارس الصغيرة، حيث تتاح للطلاب فرصة معرفة والتعرف على الطلاب الآخرين وموظفي المدرسة. يبدو أن الطلاب في المدارس الصغيرة على وجه الخصوص لديهم فرصة أفضل للمشاركة في الأنشطة (كما الرياضية أو الفنية أو غيرها) التي من المفترض أن تساهم عادةً أن تطور مواهب خاصة، وتعزيز احترام الذات، وتعزيز التعاون والمسؤولية. قد يكون لدى الطلاب في المدارس الكبيرة المزيد من الأنشطة للاختيار من بينها، ولكن الطلاب في المدارس الصغيرة لديهم المزيد من الفرص للمشاركة في الأنشطة المتاحة لهم. علاوة على ذلك، تشير بعض الدراسات إلى أن الطلاب في المدارس الصغيرة يستفيدون من هذه الفرص من خلال المشاركة في أنشطة أكثر من أقرانهم في المدارس الكبيرة.

يبدو أن المدارس الصغيرة تشجع الطلاب على الشعور بالمسؤولية والمعاملة بالمثل. قد تشارك طالبة معينة في مسرحية مدرسية، على سبيل المثال، ليس لأنها مهتمة بالدراما ولكن لأنها تعلم أن المسرحية لا يمكن عرضها إذا وافق فقط عدد قليل من الطلاب المهتمين بهذا الننشاط على المشاركة. وبدلاً من رؤية صديقاتها في خيبة أمل، ستخصص بعض الوقت للمسرحية- وربما تكتشف شيئًا عن نفسها في هذا الوقت.، ومن المحتمل أن تتوقع من زملائها ذوي التفكير المسرحي أن يردوا بالمثل في مناسبة أخرى من خلال المشاركة في نشاط أكثر أهمية بالنسبة لها في مقابل مشاركتها. إذا قاموا بذلك، فستمارس هي والطلاب الآخرون الإيثار المشروط. من الممكن، بالطبع، أن يجد بعض طلاب المدارس الثانوية الذين لديهم حس متطور بذاتهم استقلاليتهم معززة بفرص المشاركة الأنشطة الخاصة التي توفرها المدرسة الأكبر. يجب أن تأتي الأشياء الأولى أولاً، ومع ذلك، فهذا يعني في هذه الحالة أنه إذا أردنا تعزيز الاستقلالية، فالمطلوب أن نقوم ما يجده معظم الطلاب أكثر فائدة. وإعطاء الأولوية ليس لأولئك الذين هم بالفعل في طريقهم إلى الاستقلال الذاتي ولكن لأولئك الذين تحتاج قدرتهم على عيش حياة ذاتية الحكم إلى أقصى قدر من التشجيع.

حتى لو استنتجنا أن ادعاءات الاستقلالية تقدم دعمًا كبيرًا للمدرسة الكبيرة مثل الصغيرة، فإن مزاعم الفضيلة المدنية يجب أن تقلب التوازن نحو الأخيرة. يبدو أن المشاركة الأكثر شمولاً للطلاب في المدارس الصغيرة تعزز الشعور بالكفاءة واحترام الذات والفعالية وهو أمر ضروري ليس فقط للاستقلالية الشخصية ولكن للمواطنة المسؤولة أيضًا. إذا كان الشعور بالكفاءة الذي تولده المشاركة في الأنشطة المدرسية يزيد من فرص المشاركة في الشؤون العامة، كما يبدو مرجحًا، فإن المدرسة الصغيرة ستثبت أنها أرض خصبة أفضل من المدرسة الكبيرة للفضيلة المدنية. لذلك، فإن أخذ الاستقلالية الشخصية والفضيلة المدنية كأهداف لنا يجب أن يقودنا إلى تفضيل المدرسة الأصغر على نظيرتها الأكبر والأكثر غير الشخصية.

بالتأكيد هناك سبب للاعتقاد بأن حجم المدرسة الصغيرة سيوفر جوًا شخصيًا أكثر يحسن التواصل بين الطلاب ويلهم مشاركتهم في الأنشطة المدرسية. إذا كان الأمر كذلك، فإنه في صالحه على الأقل ثلاثة من العوامل الخمسة التي تعزز الإيثار المشروط. لا يمكن للمدرسة الكبيرة المطالبة حتى بواحد.

ثقافه التعدديه

من الضروري هنا أن نسأل عن المشاكل التي تطرحها التعددية الثقافية للتعليم. هذه المشاكل صعبة بشكل خاص لأن الروابط بين التقاليد الثقافية المتنوعة تبدو متعارضة مع كل من الاستقلالية الشخصية والفضيلة المدنية. ومع ذلك، يبدو أيضًا أن هناك شيئًا ذا قيمة في كل تقليد وشيء ذي قيمة أيضًا في التنوع. السؤال إذن هو ما إذا كان من الممكن ابتكار نظام تعليمي يحترم التقاليد والتنوع مع تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية.

تعتمد الإجابة على ما يرغب المرء في اعتباره "احترامًا" للتقاليد والتنوع. إذا كان هذا يعني أن أعضاء كل مجموعة لغوية أو وطنية أو ثقافية أو دينية يجب أن يكونوا قادرين على تربية أطفالهم كما يحلو لهم تمامًا، دون التعرض في المدارس للأفكار والمعتقدات التي يعتبرونها مهددة، إذن يجب الإجابة لا. إذا كان "احترام" التقاليد والتنوع يعني أن الأطفال يجب أن يتعلموا طرق الحياة وأنظمة المعتقدات المختلفة عن تلك الخاصة بهم، فإن الإجابة هي نعم. تشمل الاستقلالية، القدرة على عيش حياة ذاتية الحكم، والقدرة على التفكير في معتقدات المرء ورغباته وظروفه؛ وقيادة الطلاب إلى مثل هذا التفكير من خلال أطلاعهم، في الوقت المناسب وبطرق مناسبة، على معتقدات وممارسات مختلفة وهذا ما يعتبر تنمية الذات. الفضيلة المدنية هي النزعة للعمل من أجل مصلحة المجتمع ككل؛ ولا يمكن لمثل هذا التصرف أن يتطور في مجتمع متنوع ثقافيًا إ إلا ذا اكتسب الطلاب إحساسًا واقعيًا بكيفية اختلاف أعضاء مجتمعهم عن بعضهم البعض. تكمن المشكلة بالطبع اذا كان المسؤولين عن التربية والتعليم لا يعتقدون أن الاستقلالية أو الفضيلة المدنية تستحق العناء. لذلك نقترح تشكيل مجلس للتعليم

(the Board of Education)

تعليم جمهوري

يمكن للاستقلالية والفضيلة المدنية تقديم نقاط توجيه مهمة في التعامل مع الأسئلة التربوية - أو هكذا حاولت إظهاره من خلال مناقشة حجم المدرسة والتعددية الثقافية. أولئك الذين يأخذون اتجاهاتهم من الجمهورية سيرغبون أيضًا في البحث عن طرق أخرى لتعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية، مثل برامج المجتمع أو الخدمة العامة التي أدرجتها بعض الكليات والجامعات والمدارس الثانوية مؤخرًا في مناهجها.

يجب أن يكون واضحًا، على أي حال، أن الجمهورية هدفها هو تعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية. من خلال التأكيد على هذه الأهداف، تحاول الجمهورية تحقيق التوازن بين الحقوق والمسؤوليات. وهذا يعني، من بين أمور أخرى، "تعليم المواطنين، أولاً، حقهم في الإصرار على أن تحافظ حكومتهم على مستوى أساسي من الأمن والازدهار للفرد والمجتمع، وثانيًا، مسؤوليتهم عن الدفاع عن هذه المصالح إذا وعندما تفشل الحكومة في ذلك. تقدم لهم ". مثل هذا التعليم ليس مسألة "تشكيل" المواطنين. إنها، بدلاً من ذلك، طريقة لربط الحقوق الفردية بالمسؤوليات العامة.

توصيات

درجة التعليم ضرورية لإعداد المواطنين للمشاركة بفعالية وذكاء في نظامنا السياسي المفتوح إذا أردنا الحفاظ على الحرية والاستقلال. علاوة على ذلك، يعد التعليم الأفراد ليكونوا مشاركين معتمدين على أنفسهم ومكتفين ذاتيًا في المجتمع. وان تكون مهمة المدرسة هي تنمية هذه الصفات. لا يبدأ الالتزام بهذه المهمة التربوية وينتهي بالمدارس؛ بل يجب أن يكون التزامًا من قبل النظام السياسي.

تساهم التربيىة على قيم لمواطنة أو الفضيلة المدنية كثيرا في حل المشكلات التربوية والأخلاقية ومشكلات الإجتماع السياسي.

ما تقدمه الجمهورية هو التوجيه. من خلال تحديد الأهداف التربوية على أنها فضيلة ذاتية وفضيلة مدنية، أي أن الجمهورية تركز على مقدار التعليم الضروري لتعزيز الاستقلالية والفضيلة المدنية. وأن ترعي افضل الطرق لإعداد الأطفال للعيش كمواطنين مستقلين؟

نقترح تشكيل مجلس للتعليم (the Board of Education).

لجنة "جمعية التربية الوطنية"

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

حرق وتمزيق المصحف الشريف على يد بضعة متعصبين في هولندا والسويد، أثار غضب المسلمين وربما غيرهم أيضاً.

هذا موضوع مثير للمشاعر بطبعه. وقراءته من أي زاوية سوى التنديد الصريح، ستكون – على الأرجح – مثار ارتياب أو غضب، يحركه البعد العاطفي للموضوع. مع علمي بهذا، فإني أجد لزاماً علينا أن نتوقف للتأمل في جوانب المسألة، التي ربما لم يلتفت إليها بعضنا، أو لعله لم يعتبرها ذات قيمة حين طُرحت.

على سطح الحدث حجتان واضحتان: يقول المسلمون إن حرق المصحف مهين لمشاعر المسلمين، وهو بمثابة العدوان الشخصي على كل فرد، في حين يقول الطرف الآخر (الهولندي والسويدي) إن هذا الفعل يصنف في إطار ممارسة الحق الشخصي في التعبير الحر عن الرأي، وهو لا يخرق قانوناً معلناً، رغم أن كثيراً من الناس – وفيهم بعض قادة الدولة طبعاً – قد نددوا به.

ولا بد أنهم يخشون من اختلالات أمنية ربما تترتب عليه، نظير ما حصل في فرنسا بعد نشر رسوم مسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في 2006.

بعبارة أخرى، فإن حجة المسلمين تقوم على دليل معياري، فحواه أن إهانة المقدسات ضرر يبرر تقييد الحرية. ويقر الطرف الآخر بهذه الحجة، لكنه لا يراها قوية بما يكفي لوضع قانون استباقي يجرم المحاولات المماثلة.

بيان ذلك: أن تمزيق المصحف أو أي كتاب مقدس، على النحو الذي جرى في الأسبوع الماضي، ليس حادثاً يقع باستمرار أو بشكل واحد، ولا هو ممارسة يقوم بها كثير من الناس. إنه أقرب إلى مبادرات فردية نادرة، غرضها على وجه الخصوص، هو تحريك المشاعر المضادة عند المهاجرين، ثم صنع زوبعة إعلامية، تخدم أغراضاً سياسية للشخص أو الجماعة التي قامت بالفعل. ومن هنا فإنها لا تعالَج بإصدار المزيد من القوانين، التي ستؤدي – شئنا أم أبينا – إلى توسيع القيود، بل بالمبادرات السياسية والثقافية.

المبادرات السياسية تتضمن التزام كافة أطراف المشهد السياسي وجمعيات المجتمع المدني، بإدانة هذا الفعل، والتنديد باستخدام المقدسات في الصراع السياسي والانتخابي. أما المبادرات الثقافية فتتضمن تعزيز اندماج المهاجرين (وخاصة المسلمين) في النظام الاجتماعي، والتزامهم بالمشاركة القوية في الانتخابات العامة، كي يكون لهم صوت مؤثر ينتفع به الصديق ويخشاه العدو.

إن تجربة المهاجرين الآسيويين والأفارقة في بريطانيا، جديرة بالتأمل. نعلم أن رئيس الحكومة الحالي ينتمي إلى عائلة هندية. وخلال السنوات العشر الماضية، تولى مهاجرون عديدون مناصب سياسية، وبينهم نسبة بارزة من المسلمين. ولم يكن هذا ممكناً لولا الاندماج المتزايد للمهاجرين في النظام الاجتماعي - السياسي للمملكة المتحدة.

يمكن بالتأكيد تكرار هذه التجربة في السويد وهولندا. وقد حدث بالفعل في وقت سابق، حين تولى وزارتي العدل والعمل في هولندا سياسيان مسلمان، كما تولت سيدة مسلمة وزارة التعليم في السويد، فضلاً عن مناصب أخرى.

زبدة القول أن حرق المصحف أو تمزيقه، فتنة أريد بها تأجيج الصراع بين المهاجرين المسلمين والمجتمعات التي تستضيفهم. وهو صراع يستثمره بأكمله تقريباً التيار العنصري المعادي للمهاجرين.

فإذا انزلق المسلمون في نزاع عنيف فسيخدمون أهداف هذا التيار، لكن لو أرادوا اجتثاث هذه الفتنة وقتلها إلى الأبد، فإن الطريق هو الاندماج السياسي والاجتماعي، وتكوين كتلة سياسية مؤثرة في الحياة العامة. عندئذ سوف يسعى كل طرف للتقرب منهم والدفاع عن مطالبهم. لن يستفيد المسلمون من اعتزال المجتمع الأوروبي، ومن يدعوهم إلى هذا، فإنما يدفعهم إلى الزوال والفناء. تجربة بريطانيا جديرة بالتأمل والاحتذاء، والسعيد من اتعظ بتجارب غيره.

**

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

في مقال له عام 1954 بعنوان "كيف ننظر الى التلفزيون" فحص المنظّر والناقد الألماني ثيودور ادرنو طبقات الاضطهاد في عمل التلفزيون كشكل فني جديد. بدلا من ان يقوم التلفزيون بترفيه واثارة وتحرير الناس جادل ادرنو انه مارس دور المنوّم للانسانية كدجال مبشر بعصر ذهبي جديد. كوسيط غامض، اسّس التلفزيون نفسه كأحدث أشكال الهيمنة وربما الأكثر قربا منها . في البدء عندما كانت تُشاهد البرامج في صالاتنا وغرف النوم، على المستوى الواعي، كانت تضفي شعورا قويا وذات صلة واحيانا تبدو سخيفة، لكنها ممتعة. ربما ازدادت جاذبية دور التلفزيون كتحوّل – يسهل الانخراط به مقارنة بحروف الكتابة الصغيرة . وعلى مستوى اللاوعي، جادل ادرنو، كان للتلفزيون تاثيرا أكثر قتامة. مستعملا الفكاهة والوسائل الاخرى لجعل التعامل مستساغا، برمج التلفزيون مشاهديه لعدم التدخل بالظروف الاقتصادية والأحكام النمطية الاجتماعية والذي كان من شأنه ان يولد فحصا دقيقا.

بالنسبة لأدرنو، كانت للتلفزيون مقدرة على السحر – مقدرة على إعفاء الفرد من التفكير النقدي – وهو ما أتاح له ضمان مشاهديه والإضرار بهم على حد سواء. في كتابهما (ديالكتيكية التنوير، 1947) كتب ادرنو وماكس هوركهايمر ان "الناس كان عليهم دائما ان يختاروا بين خضوعهم للطبيعة او إخضاع الطبيعة للذات". البشرية كانت قادرة على هزيمة الطبيعة عبر فصل العلم عن الميثولوجيا باستعمال الحسابات الباردة للعقل. ومع انتصار الانسان على الطبيعة، جاء "الاغتراب الذاتي لأولئك الذين كان يجب عليهم نمذجة أجسامهم وأرواحهم طبقا للاجهزة التقنية". ومع سيطرة الانسان على الطبيعة، جاءت التكنلوجيا لإستغلال الحاجات والرغبات الانسانية. ونظرا للاحباط والشعور بالخيبة من الاسطورة، استسلمت البشرية لاحقا لأهواء الماكنة.

الطموح الأصلي للتنوير كحركة ثقافية كان تحرير العقل من الخرافة. هذا قد تحقق الى مدى ملحوظ لكن يبدو اننا الآن نواجه تهديدا جديدا ولكن ايضا مضللا للعقل: ذلك الذي تأتي أوامره من خوارزمية ليس لها هوية (1).

ان شكل ثقافتنا الحالية صُنع من خلال بصماتنا الرقمية. التلغراف، الطابعة والراديو ترانسستور، وحتى التلفزيون هي باستمرار بقايا حنين للماضي. ولكن في عصر المعلومات الحالي نحن خُدعنا مرة اخرى بشكل جديد من هيمنة الشبكات الاجتماعية المغرية والموجودة في كل مكان.

في مراجعة نيويورك للكتب لشهر ابريل 2020، لاحظ الاكاديمي القانوني تم وي Tim Wu ان جوجل والفيسبوك وزملائهما يقودون "اقتصاد الانتباه" الجديد. هذا العصر الجديد – من نوع التنوير الرقمي – يزدهر في التواصل الاجتماعي، المتعة المباشرة، والتعبير المتنوع. لقد برزت ميتا لغوية جديدة (وهي مجموعة رموز او كلمات تُستخدم في وصف وتحليل اللغة ذاتها)، التغريدات المزعجة، النصوص، الإعجاب/ اللا اعجاب، المواد المتداولة من الافكار المنتقلة من فرد الى آخر وغيرها . بالنسبة للعديد من الناس، السهولة النسبية والوصول الى منصة مثل فيسبوك يجعلها وسيط مريح للاتصال المحلي والدولي، مع ذلك، وكما يلاحظ تم، هذا العصر الجديد هو ايضا عصر "الاخ الاكبر" او هيمنة الحكومة.

كما في التلفزيون، ومع حلول فجر خوارزمية التواصل الاجتماعي دخل شكل جديد من الاضطهاد . مثل الإغواء الافتراضي، فيسبوك ويوتيوب وغيرهما يسحرون الفرد بتيار مستمر من المحتوى الذي يمكن القبول به. ولكن اذا كان التلفزيون استغل ردود افعال مشاهديه من خلال مختلف القصص المحددة سلفا، فان الفيسبوك ذهبت خطوة أبعد، في برمجتها المحتوى الحقيقي المرئي – على مواد وأخبار الفرد. "اعجاب" بسيط مثلا، قد يثير زيادة مفاجئة لمحتوى مشابه بما في ذلك نصائح مصممة للمستخدم لغرض الاستيعاب. انها تماما مثلما ذكر ادرنو للتلفزيون: "كل شيء يبدو "محتوما".

خلافا للتلفزيون، الخوارزمية لها القدرة على هز اسس الديمقراطية. خوارزمية التواصل الاجتماعي تعمل لتؤكد باستمرار على منظور وعقائد الفرد، عبر تغذيته بالملعقة محتوى متفق عليه. هنا "الخداع العام للجماهير"يكون واضحا حسب ادرنو في اللجوء الى المحتوى السهل الخالي من التفكير النقدي. لكن التمرير الطائش من خلال محتوى مصمم على تغذيتنا عادة يعمينا عن الروايات المضادة او الرؤى النقدية التي ربما نشارك فيها. وهكذا فان تحيّز الخوارزمية يخلق إحجاما عن المشاركة البناءة في معتقدات تختلف عن عقائدنا. ورغم ان خوارزمية الفيسبوك وُلدت من نوايا تجارية غير ضارة، لكنها تقود الى استبعاد متكرر لزبائنها من الأصوات والافكار. عندما يخضع المواطنون للخوارزمية، تتحول التكنلوجيا بسرعة الى أسلحة وان أي فكرة مثيرة للجدل وغير متفق عليها يتم استهدافها كـ "مشكلة" لكي تُحل او تُسحق بسرعة. وبهذه الطريقة، فان رغبتنا للتسامح والمشاركة في الصراع الديمقراطي فقدت فاعليتها. جماعيا، نحن فقدنا الإحساس النقدي – ليس لأن عدو مختبئ خلف شاشاتنا او بسبب هوياتنا الافتراضية، وانما كمواطنين ذوي أهداف ومصالح وحاجات متنوعة. كذلك، نحن فقدنا الشعور بالسيطرة فيما يتعلق بتقرير أي محتوى نراه.

أدرنو وزملاؤه البارزين في مدرسة فرانكفورت، هوركهايمر وهربرت ماركوس وهابرمس لم يفشلوا أبدا في تسليط الضوء على مفارقة ظروف الانسان المصنّعة. من المفارقة، هم حذروا بان السعي التحرري للتقدم التكنلوجي جاءت معه مخاطرة الاضطهاد الكبرى. في الحقيقة، يبدو ان تحذير ماري شيلي Maryshelley، مؤلفة فرانكشتاين (1818) حول أخطار عدم رؤية نتائج التكنلوجيا الجديدة، هي بالضبط صحيحة في عصرنا الرقمي. خلافا لمخلوقها الخيالي، هو واقعي لو أثار الذكاء الاصطناعي الكامن خلف شاشاتنا تهديدا لعملياتنا الديمقراطية. المفارقة في التنوير كان يُنظر اليه في اغتراب الجماهير العاملة – محررة من الخرافة والافتراضات الاجتماعية القديمة، لكنها اُضطهدت بواسطة هدف اقتصادي ضيق. كتب هوركماير وادرنو ان التنوير "تصرّف نحو الأشياء كما لو كنت دكتاتورا نحو الناس". في عصرنا الحديث، مفارقة جديدة مرئية في اغتراب الناس الجاثمين خلف شاشاتهم، يعتقدون انهم احرار. نحن جماهير مندفعة بفعل الإثارة والتشويق التحرري للتقدم التكنلوجي، لكننا مع ذلك عبيداً لأهواء نفس تلك التكنلوجيا.

***

حاتم حميد محسن

........................

الهوامش

(1) تُنسب الخوارزمية في الأصل الى عالم الرياضيات والفلك محمد بن موسى الخوارزمي 781م. خوارزمية الفيسبوك هي عبارة عن مجموعة من القواعد تقرر أي مواد منشورة يراها الناس في صفحتهم. انها تقرر أي محتوى اكثر ملائمة لكي يظهر لكل مستخدم بالارتكاز على عدة عوامل. مواد كل مستخدم ستكون مختلفة جدا طالما جرى تصميمها فقط له.هذه الخوارزمية تتحكم في عرض المنشورات ووصولها للمستخدمين. كلما اشتهرت صفحات صنّاع المحتوى كلما زادت فرصتهم في الحصول على مشاهدات اكثر وبالتالي ارباح اكبر. خوارزمية الفيس تتحكم بالمعلومات التي سيتم عرضها امام المتابعين، وهي تتنبأ بطبيعة المحتوى الذي يفضله مستخدم معين اكثر من غيره وتعمل بناءً على ذلك.

 

 

أنتهت دورة بطولة كأس الخليج العربي "خليجي 25" لكرة القدم والتي أقيمت في مدينة البصرة العراقية في الفترة الممتدة من 9 ـ 19 كانون الثاني/يناير2023، وقد انتهت بفوز الفريق العراقي ببطولة الكأس، وهي المرة الرابعة التي يفوز بها العراق بعد ثلاث مرات سبقتها في السنوات: 1979، 1984 و 1988. وتتفق اغلب القراءات أن بطولة "خليجي 25" تم انجازها بنجاح من حيث الأعداد لها لوجستيا وفنيا وجماهيريا.

ساهم "خليجي 25" في بعث شحنة الأمل لدى الشعب العراقي وشعوب دول الخليج في التفيس المؤقت من الأحتقانات الأقليمية والتي انتجتها دائرة الصراع الأقليمي وبشكل خاص الصراع ألأيراني ـ الخليجي، ذلك الصراع الطائفي ـ السياسي المزمن والقائم على خلفية نهج ايران في تصدير " الثورة الأسلامية " الى دول الجوار والى العالم وهو نهج يستند في مبادئه الأساسية الى اشارات واضحة في دستور " الجمهورية الأسلامية الأيرانية ". وقد وقع العراق ضحية هذا النهج قبل الدول الخليجية بسبب من وجود بيئة سياسية حاضنة له.

فالعراق عانى لأكثر من اربعة عقود من الحروب والخراب الشامل والعزلة الدولية جراء سياسات النظام السابق المتهورة والهوجاء. تبعتها سياسات لاحقة ما بعد سقوط النظام في عام 2003 بفعل عوامل الأحتلال الأمريكي وتداعياته الخطيرة على المجتمع العراقي، وبفعل سلوكيات التمترس الطائفي السياسي والشوفينية العرقية والأثنية، والتي كرست الجهل والتخلف والفقر واهدار طاقات العراق البشرية وموارده الأقتصادية وسرقة عائداته النفطية لعقدين من الزمن وتشويه بنيته التحتية ألأقتصادية والأجتماعية بكل ابعادها، وقد ابعدت العراق عن فرص الأستقرار والنمو والتقدم والأزدهار.

كانت ردود فعل الشعب العراقي ليست ببساطة كما يراها البعض هي فقط في تشجيع فريقه لكرة القدم وتمنيات بالفوز، بل تكمن الأسباب الرئيسية في ردة فعل الشعب على القهر والتعسف والظلم الذي تجاوز حدود اللامعقول على الرغم من امتلاك العراق كل عوامل النهضة والأنطلاقة، البشرية منها والمادية. ولا يمكن فهم تلك الفعالية الى جانب بعدها الترويحي بالطبع ، خارج اطار سيكولوجية التعويض الناتج من الأحباط المزمن، حيث البحث عن الأمل والفرح والسعادة في أي مناسبة.

واذا كان الأمر مفهوما لنا من جانب السلطات العراقية والحكومات المتعاقبة في محاولاتها للبحث عن انجاز شعبي يفك طوق العزلة الشعبية الناتج من الفشل في مجمل سياساتها عبر عقدين من الزمن، فأنه من جانب الشعب كان يجسد بوضوح ذلك الميكانزم العقلي والسلوكي الذي تختلط فيه دموع الفرح والحزن وهو يبحث عن فرص مباشرة وغير مباشرة، مؤقتة ومستديمة للخلاص من الظلم وانعدام العدالة الأجتماعية وسوء الأحوال العامة.

أما من جهة دول الخليج الأخرى وشعوبها وجمهورها المشجع " لخليجي 25 " فرغم ما تمتلكه من بحبوحة في العيش ومستويات من الرفاه الأقتصادي وما تمتلكه من بنى تحتية نامية بأطراد تستند الى مفاهيم التنمية المستدامة وتعتمد في جوهرها على تنويع مصادر الدخل القومي وعدم اعتمادها على النفط كمصدر وحيد في نهضتها الأقتصادية والأجتماعية، إلا أن هواجسها ومخاوفها من عدم الأستقرار الأمني الأقليمي والداخلي يشكل لديها وجعا يوميا، وقد لاحظنا ذلك في العديد من الهجومات الصاروخية المتكررة على بعض من دول الخليج الى جانب الأنشطة المزعزعة لها والقادرة على بعث عدم الأستقرار اليومي وتهديد بنائاتها الداخلية وأمنها المجتمعي.

وهنا نرى حجم زخم الحضور الشعبي الخليجي والعراقي والذي بلغ عدده بحدود 650 ألف، حيث شكل الطرف الخليجي فيه اكثر من 70 ألف، فألى جانب بعده الفني والرياضي، يشكل في ثقله محاولة غير مسبوقة لأحتواء الحدث الرياضي سياسا على شكل رسائل ضمنية من قبل الجمهور العراقي والخليجي عبر استمالة العراق الى الجانب الخليجي في خضم الصراع الأقليمي الدائر مع ايران، وحيث العراق متهما في العديد من قواه السياسية في الوقوف مع ايران وتنفيذ اجندتها الأقليمية، فقد اطلق البعض على تلك الأستمالة  بعودة العراق الى حضنه العربي ولكن نعتقد ان عودة الأحضان الى بعضها هو الأصح. وللأمانة الموضوعية نقول ان بعض من دول الخليج العربي ساهمت في عدم استقرار العراق في فترات سابقة عبر دعمها للمنظمات الأرهابية مثل القاعدة وداعش ولعب خطاب بعض من مؤسساتها الطائفية التكفيري دورا كبيرا في عدم استقرار العراق، بل وساهمت في انتكاسة " الربيع العربي " وحرف مخرجاته الطبيعية صوب الخلاص من الأستبداد وحل أزمة الحكم في البلاد العربية.

ولكن يبدوا ان القناعة بأن الارهاب يستهدف امن الجميع وان المصالحة على اسس المصالح والعيش المشترك بسلام بدأت تأخذ حيزا كبيرا في رسم سياسات دول الخليج. وقد جسدت الجماهير الخليجية والعراقية صور جميلة ورائعة من سلوكيات التواصل الأجتماعي والروحي والأحترام المتبادل عكسته انماط من السلوك الحضاري في استقبال الضيوف في كل امكنة البصرة وممارسة طقوس تعكس العمق التاريخي والثقافي لشعوب المنطقة، وقد انعكس ذلك ايضا بدوره في اشكال سلوكيات التشجيع للفرق المتنافسة، والتي اتسمت بالحماس المفعم بالهدوء النسبي خلاف للمتعارف علية عند جمهور فرق كرة القدم.

كان احتجاج أيران الرسمي لدى العراق على تسمية " الخليج العربي " بدلا من " الخليج الفارسي " لمسمى مبارات دول الخليج العربي هو تعبير واضح ليست فقط اعتراض على التسمية وانما كان توقيتها هو رسالة امتعاض وغضب من الجانب الايراني وخوف دفين من الأقتراب الرسمي والشعبي لدول الخليج مع العراق، وايران تدرك على مستوى تهديد مصالحها ولذلك افتعلت تلك المشكلة" التي هي ليست موضوع خلاف جديد " كمقدمات لخلق مشاكل اكبر وعرقلة المسار الايجابي لعلاقة العراق بدول الخليج، والعراق  يمربظروف صعبة يبجث فيها عن بدائل لتعزيز عمليات الاستقلال الداخلي في مختلف المجالات، والأقتصادية والسياسية في مقدمتها. وقد استجاب قادة الأسلام السياسي الشيعي في الامتناع عن ذكر مسمى الخليج العربي حتى في التهاني التي قدمت للفريق العراقي واكتفيت  بمسمى " خليجي 25 " بل البعض منهم امتنع حتى عن تسمية خليجي 25 واكتفى برسائل تهنئة خجولة للفريق العراقي والفرق المشاركة، بل دفع بعضهم التطرف والمحاباة لأيران في البحث عن مسمى " الخليج الأسلامي ". ولا يمكن الأستغراب من مواقف الأسلام السياسي الحاكم في العراق وفي بلد يشكل فيه حجم التجارة الخارجية مع ايران اكثر من 12 مليار دولار في معظمها لكفة الجانب الأيراني في مجال الكهرباء والصناعات والمنتوجات الزراعية الأخرى، الى جانب تهريب العملة الصعبة لها، وفي بلد كالعراق يتدخل فيه الطرف الأيراني في تشكيل الحكومات المتعاقبة بما يخدم اجندتها ومزاجها الطائفي وضمان مصالحها في ارتهان العراق كحديقة خلفية لأيران لتصفية صراعاتها الأقليمية والدولية وفي مقدمتها الصراع الأيراني ـ الأمريكي.

خضعت الرياضة وبشكل خاص كرة القدم وعلى الأخص جمهورها المشجع الى الكثير من البحث السيكولوجي على خلفية ما يقع من احداث عنف وضحايا بشرية اثناء المباراة وبعدها واعتبرت تلك الحشود ينطبق عليها ما قاله غوستاف لوبون (1841 ـ 1931) في كتابه" سيكولوجيا الجماهير " وهي ان الفرد عندما ينصهر في الحشد يفقد الكثير من مزايا التفرد والذكاء والأبداع وبالتالي يكون مستعدا لأرتكاب الكثير من الأفعال التي تهدد المجتمع وسط بقائه مع الحشد او الجموع. وقد كان للكاتب والروائي والشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899 ـ 1988) من بلد " ميسي ومارادونا " فقد وصف كرة القدم بأنها لعبة غبية جماليا ووصف جمهورها بالتعصب والأنحياز الأعمى وقال عنها انها اكبر جرائم الأنكليز، وقال ان جمهورها شبيه بالجمهور الذى أتى بأعتى الدكتاتوريات الى السلطة وغيرها من النعوت السلبية بحق جمهور كرة القدم، وقد رافقت آرائه انذاك الكثير من ضحايا كرة القدم في مختلف الملاعب.

وقد يغير بورخيس الكثير من آرائه لو كان حيا اليوم، بعد ان تحولت كرة القدم والرياضة عموما الى مشاريع اقتصادية واجتماعية وثقافية ضخمة الى جانب كونها من الأستثمارات الكبيرة في حاضرنا اليوم وخاصة عندما خضعت اللعبة على الدوام الى المزيد من التخطيط وتكريس أمن الجمهور فيها ولكن هذا لا يمنع من وقوع ضحايا بين وقت وآخر. وقد تحولت الرياضة وكرة القدم في مقدمتها، الى جزء لا يتجزأ من القوى الناعمة على الصعيد العالمي، الى جانب عناصر القوى الناعمة الأخرى من سياحة وثقافة وفندقة وآ ثار وتلعب دورا في تصدير القيم والاتجاهات الأيجابية وانتشارها بين الشعوب والمساهمة الفعالة في انجاز السياسات الخارجية بعيدا عن استخدام القوى الصلبة " القوى العسكرية " وتوسيع دائرة التفاعل بين عادات وتقاليد الشعوب وايصال رسائل المودة والسلام على الصعيد العالمي.

وقد انفقت دول العالم الملايين والمليارات من الدولارات على قطاع الرياضة وخاصة كرة القدم ليست فقط من اجل الترفيه بل ان الأستثمار المتبادل اخذ حصته الكبرى في هذا الأنفاق، وعلى سبيل المثال ووفقا لوكالة "بي بي سي عربي" "فقد انفقت دولة قطر ما يقارب 220 مليار دولار لأستضافة كأس موندال 2022 ، وهو ما يعادل 60 ضعف الميزانية التي انفقتها جنوب افريقيا على كأس العالم 2010 وقد يعادل ايضا ما انفق على 21 بطولة سابقة. وقد انفقت هذه الأموال من جانب قطر انشاء بنية تحتية، مثل شبكة جديدة للمترو في الدوحة، ومطار دولي، وطرق جديدة، فضلا عن بناء نحو 100 فندق ومرافق ترفيهية". والأمر الذي يجب الأشارة أليه ان هذا الأنفاق الهائل من قبل قطر وبعيدا عن ماذا ارادت قطر ان تسوق في هذه المناسبة للعالم، وهل تستفيد قطر لاحقا من هذه البنية التحتية، أنها نجحت نجاحا كبيرا في  التخطيط والأعداد وانجاز هذه المناسبة وهي رسالة مهمة جدا لدولة صغيرة كقطر. ويجب الأشارة هنا ان هناك تناغم او تكامل ما بين الشعب القطري المترف ذو المستويات العالية في الدخل والخدمات العامة كالصحة والتعليم والأمن المجتمعي وفي النزاهة ومحاربة الفساد" وفقا للتقارير الدولية "، اي هناك اسناد شعبي كبير لهذا المنجز على خلفية نوعية ونمط الحياة السائد والمستوى المرتفع من اشباع الحاجات الأنسانية.

اما بالنسبة للحالة العراقية فقد خصصت الحكومة العراقية لبطولة خليجي 25 ما يقارب 33 مليون دولار انفقت حسب ما يذكر لبناء عدة فنادق وعددها اربعة، وكذلك لأغراض الأستعدادات البرية والجوية، ونشر عدد من شبكات الأتصال على شكل ابراج متنقلة وغيرها من مستلزمات نجاح خليجي 25 . في الحالة العراقية فأن الجمهور العراقي الذي بلغ الأكثر من 500 ألف متفرج هو جمهور غاضب ومحتج على السلطات الحاكمة ودفع في مناسبات عديدة في حركاته الأحتجاجية المئات من الشهداء والجرحى والمعاقين والمغيبين على خلفية الفساد الاداري والمالي وسرقة اموال العراق وازمات البطالة والفقر وانعدام الخمات العامة وتدهور العملة العراقية مقابل الدولار، فأذا اردنا نجاحا مستديما لفعالياتنا الرياضية والترفية ان تستمر ولا تنتهي بعد ايام من نهاية الاحتفالات وان تكون ذات اثر فعال على المستوى الأقليمي والدولي فيجب ان نرفدها بعوامل الاستقرار والنهوض في الجبهة الداحلية، وابرز تلك العوامل: محاربة الفساد المالي والاداري واسترجاع اموال العراق المنهوبة والحديث صراحة عن من يقف ورائها، نزع سلاح المليشيات المنفلته واقصاء الاحزاب السياسية ذات الأذرع المسلحة من العملية السياسية لأنها تشكل خطرا على الديمقراطية، الشروع الجدي ببناء اقتصاد متنوع وليست وحيد الجانب ويعتمد على النفط فقط، فأن كل افراحنا وفعالياتنا ستكون في مهب الريح عندما لا تتوفر لها عوامل ديمومتها. ونحن نرى الآن بأم اعيننا بعد انجاز فعالية خليجي 25 أن الجماهير نفسها التي كانت تشجع في الملاعب عادت الى ساحات الأحتجاج وهي تناضل من اجل لقمة عيش كريم.

***

د.عامر صالح

توطئة: طلب مني كثيرون تفسيرا سيكولوجيا لـ(ظاهرة) ميشال حايك وليلى عبد اللطيف، اللذين حظيا بشهرة اعلامية لصدق الكثير من تنبؤاتهم.. كما ذكروا لي.. وعن هذه الظاهرة تتحدث هذه المقالة.

ظاهرة التنبؤ.. تاريخيا

يعد ّالتنبؤ ظاهرة قديمة عند معظم الشعوب لاسيما اليونانيين والصينيين والمصريين. فعلى سبيل المثال، كان اله الشمس (رع) في مصر القديمة هو المصدر الرئيس للمعرفة بالمستقبل، وكان فيها معبد للتنبؤات في القرنين السادس والسابع قبل الميلاد. ويذكر أن المصريين اذا اعتزموا القيام بشيء ذهبوا لكهنة المعبد ليخبروهم عن طريق استشارة الاله (امون) بما سيحدث. ويروى ان الاسكندر الاكبر طلب من كهنة معبد امون النبوءة ما اذا كان سيحكم العالم، فاجابوه.. نعم ولكن لفترة قصيرة.

ولفخر الدين الرازي كتابات عن التنبؤ مبني على ما اسماه المزاج الخلقي وتأديب العقل ورياضة الشرع،  وأخرى في كتابات ابن القيم الجوزي عن الفراسة التي حصرها بدور التنبؤ في احكام القضاة، غير ان اغلب ما في تراثنا العربي يدخل في نطاق الفراسة وتفريعاتها.وللدين الأسلامي موقف من هذه الظاهرة، فهو يرى أن ادعاء علم المستقبل عن طريق التنجيم او التنبؤ بالمستقبل او غيره من الوسائل، امرا يحرمه الاسلام، ويسمون من يمارسه كاهنا، ويستندون الى قول النبي محمد (من اتى كاهنا فصدّقه بما يقول،  فقد كفر بما انزل على محمد). وهنالك كتاب بعنوان (التتنبؤ بالغيب) للدكتور توفيق الطويل يوضح فيه موقف المفكرين الاسلاميين، الذين يرون ان التنبؤ المبني على قراءة للواقع والأحداث كتوقع انخفاض سعر النفط او الذهب مثلا.. فأمر مشروع، واما ما كان من قبل التنجيم والكهانة والعرافة فأنه حرام.

والذي يتعمق بتاريخ التنبؤ يتوصل الى ن بداياته كانت ذات طبيعة ميتافيزيقية او اسطورية ، ثم تحولت الى مرحلة التخطيط المستقبلي او التخطيط الاستراتيجي، ثم اصبح (علم الدراسات المستقبلية) فرعا علميا اكاديميا في منتصف ستينيات الفرن الماضي. وقد عمدت الدول الكبرى الى استثمار قدرات المتنبئين في مؤسساتها الاستخبارية والأمنية.

اشهر متنبئين

ويعد نوستراداموس (ت 1566) الصيدلي والطبيب الفرنسي، اشهر متنبيء في العالم وله ثلاث نبؤات: توقع وصول هتلر الى السلطة في عام 1933، وحريق لندن العظيم عام 1666، واغتيال الرئيس جون كينيدي عام 1963. ويعتقد كثيرون انه تنبأ بتفشي وباء الفيروس التاجي في عام 2020، بل ذهب آخرون الى القول بان نوستراداموس اشار اشارة مباشرة الى الرئيس الامريكي دونالد ترامب بقوله في احدى رباعياته (ان البوق الكاذب الذي يخفي الجنون، سوف يتسبب في تغيير بيزنطة لقوانينها).ومعروف عنه انه كان يضّمن تنبؤاته في رباعيات.. فيما يرى مفكرون انه يتم استغلال كتابات نوستراداموس بعدد من الطرق الخاطئة، وفك الرموز غير الموجودة داخل رباعياته بتفسيرات (ابداعية).

ومن المفارقات ان امراة عمياء اسمها (بابا فانجا.. ولدت عام 1911) ولقبت (نوستراداموس البلقان) كانت اشهر المتنبئين بالمستقبل. فقد ادهشت الجميع بأنها تنبات باحداث 11 سبتمبر في قولها بالنص :(رعب، رعب !.. التوامان الامريكييان سيسقطان بعد هجوم من طيور حديدية. الذئاب ستعوي بين الحشائش وستتدفق الدماء البريئة!). وتنبات هذه السيدة البلغارية العمياء بان الرئيس الامريكي الرابع والاربعين سيكون من اصل افريقي.. وقد تحققت!

وهناك نبؤتان لها نرجو ان لا تتحققا.. الاولى، اقامة دولة الخلافة الاسلامية في اوروبا في العام 2043 ومقر حكمها في روما، والثانية.. ان العالم سينتهي في العام 5079 !.

سيكولوجيا التنبؤ

هنالك تفسيران لقدرة بعض الأفراد على التنبؤ:

الأول بيولوجي، يرى ان في دماغ كل انسان ساعة بايولوجية تتنبأ بالمستقبل القريب وكثيرا ما تصدق بما يحصل قريبا، ما يعني انك وانا قادران على التنبؤ ولكن بقدر محدود لكون التكوين البيولوجي لساعتنا هذه يكون عاديا، فيما هي عند الذين يتمتعون بالقدرة على التنبؤ تكون متطورة بما يجعلها قادرةعلى التنبؤ بما يحصل في زمن ابعد، فضلا عن ان علماء الفسلجة يقولون بوجود ساعة بيولوجية ثانية عند هؤلاء تعتمد على تجارب الماضي للتنبؤ بما سيحدث في وقائع متشابهة.

وسيكولوجيا.. يعد الباراسيكولوجي اكثر فروع علم النفس اهتماما بهذه الظاهرة، وتشير دراساته الى ان لدى كل شخص ملكة تسمى (الحاسة السادسة) تمتلك القدرة على استشعار الأحداث عن بعد بعيدا عن الحواس الخمسة، وتتضمن ايضا استقبال المعلومات من المشاعر التي يستقبلها العقل بعيدا عن الحواس التقليدية، ويمكن من خلالها التنبؤ بأحداث المستقبل. وهذه الحاسة (السادسة).. موجودة ايضا عندي وعندك، لكنها عند الأشخاص الذين يمتلكون القدرة على التنبؤ تكون متطورة.. وقد لفتت هذه الظاهرة انتباه المسؤولين في روسيا قبل اكثر من مئة سنة واستقطبت من يتمتع بها لأعداد البحوث النفسية الخارقة وحققت نجاحا ملحوظا في مجال التنبؤ بالمستقبل.

ومع ان هذه الظاهرة قديمة جدا لاسيما في اليونان والصين ومصر، فانها ما تزال يكتنفها الغموض، ولا يوجد لها جواب حاسم.. علميا كان ام سيكولوجيا.

ومن جانبنا نرى ان الذين يتمتعون بالقدرة على التنبؤ، وتصدق نبؤاتهم بنسبة تزيد على ستين بالمئة، (ولا احد منهم تصدق نبؤاته مئة بالمئة)، تكون المراكز الخاصة بالذكاء والذاكرة والانفعالات لديهم متطورة. وانهم ينفردون عن الآخرين بفضول معرفي وحب للشهرة وشغف سيكولوجي. فهم حين يريدون التنبؤ بحدث معين فانهم يجمعون عنه المعلومات من مصادر مختلفة ويقومون بربط التشابهات فيما يبدو للآخرين مختلفا، وربط الأختلافات فيما يبدو للآخرين متشابها.. وقد يكون بعضهم قد قرأ نظرية الاحتمالات مكنته من استخدام قوانين الأحتمالات في الرياضيات بقيمة عددية تحدد احتمال وقوع حدث او عدم وقوعه.. وحين ينجح المتنبيء في ان يجعل من نفسه شخصية كارزمية.. عندها سيغفر له متابعوه ان اخطأ ويعظموه ان أصاب.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

مقدمة: تراجعت الصناعة والزراعة والصحة والتعليم في العراق في الوقت الذي بدأت الدول النامية اللحاق بالدول المتقدمة عالميا في طريق الثورة الصناعية الرابعة، واذا لم يتم اتخاذ اية اجراءات استثنائية لتلافي هذا التراجع العلمي والتكنولوجي ولم نتدارك اخطار تدهور البيئة وضمور النمو الاقتصادي الان فلن يكون التقدم صعباً فحسب، بل سيكون مستحيلاً.

التحديات التي تواجه العراق

ولمواجهة تحديات الثورة الصناعية الرابعة سيتوجب على العراق الايمان بأن ثروة الأمم تعتمد بالدرجة الأولى على تقدم البحث العلمي فيها، وعلى العقول المبدعة التي تعمل فيه، ولا تتوقف على الموارد الطبيعية، أو ألارصدة المكدسة في البنوك.

لذلك لم يبق أمامه إلا أن يحاول النفاذ إلى تلك المنظومة العلمية العالمية من خلال التعاون البحثي أو المساعدة التقنية. ان احد اهم تلك الوسائل يكمن في دخول عملية بولونيا والذي كان احد اهم ما اقدمت الوزارة على تحقيقه في عهدها الجديد. كان هدف عملية بولونيا هو تعزيز ضمان الجودة وتسهيل الاعتراف بالمؤهلات وفترات الدراسة بين جامعات الدول المشاركة. وكان هذا ضروريا بسبب ان أنظمة التعليم والتدريب المختلفة في أوروبا جعلت من الصعب على الأوروبيين استخدام المؤهلات من بلد واحد لتقديم طلب للحصول على وظيفة أو دراسة في بلد آخر فكان من الضروري زيادة التوافق بين أنظمة التعليم لتسهيل الطلاب والباحثين عن العمل للانتقال داخل أوروبا. وساعدت في نفس الوقت، إصلاحات بولونيا على جعل الجامعات والكليات الأوروبية أكثر قدرة على المنافسة مع بقية الجامعات العالمية. كذلك دعمت عملية بولونيا تحديث أنظمة التعليم والتدريب للتأكد من تلبية احتياجات سوق العمل المتغيرة (محمد الربيعي، عملية بولونيا، 2018).

الاقتصاد القائم على المعرفة

وفقًا لشركة McKinsey Global ، بحلول عام 2025، ستبلغ قيمة التقنيات الجديدة والناشئة مئة تريليون دولار. هناك ما يقرب من اثنتي عشرة تقنية يمكن أن تدر 33 تريليون دولار من العائدات السنوية.

تشمل هذه التقنيات الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأفكار، والحوسبة السحابية، والروبوتات المتقدمة،

وأتمتة المعرفة، والمركبات المستقلة، والمواد المتقدمة، وعلم الجينوم من الجيل التالي، وأنظمة تخزين الطاقة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والطاقة المتجددة، واستكشاف النفط والغاز. 

إن توجه الدولة ووزارة التعليم العالي بالخصوص لإنشاء اقتصاد قائم على المعرفة وقيادتهما لهذا المشروع هو مطلب مهم للغاية يمكن أن يساعد العراق على دخول حقبة جديدة.

تشمل المجالات ذات الأولوية التي يجب اعتمادها كاولوية للتحول الى اقتصاد معرفة ذات خصائص عراقية: الزراعة المتقدمة، والتكنولوجيا الحيوية الصناعية، وتكنولوجيا المعلومات الناشئة، وتطوير المعادن والتعلم المختلط (كورسات عالية الجودة على كافة المستويات جنبا إلى جنب مع الكورسات التقليدية).

وسيتطلب التحول الى اقتصاد المعرفة امتلاك خريجي التعليم العالي الى اتقان المهارات التي يتطلبها سوق العمل. يسرد تقرير مؤتمر دبلن (2012 EAIE) المهارات الأساسية التالية التي تم تطويرها من خلال التنقل الدولي والمهارات الأساسية المطلوبة من أصحاب العمل:

الوعي الذاتي، المبادرة والمشاريع، الرغبة في التعلم، التخطيط والتنظيم، النزاهة، الالتزام والدافع، حل المشاكل، المرونة، الإدارة الذاتية، العمل بروح الفريق الواحد، مهارات التواصل، لغات اجنبية، التشبيك، القيادة، خدمة الزبائن، مهارات التعامل مع الآخرين، مهارات التعامل مع الثقافات الاخرى، الثقة بالنفس، إِبداع، القدرة على التكيف، الطلاقة والدقة، الملاحظة غير المنحازة، التفكير النقدي، التكيف.

دور التعليم الدولي

يلعب التعليم الدولي والانفتاح على الخارج دورا مهما في بناء الشخصية الحضارية وما يرافق ذلك من وعي ومعرفة وتخطيط. لقد ثبت على نطاق واسع أن الطلاب الحاصلين على تعليم دولي يمتلكون ثقة عالية وآفاق فكرية واسعة، وقدرة كبيرة على تقدير وجهات النظر الأخرى التي قد تأتي في طريقهم في حياتهم المهنية. لهذا السبب، يُظهر هؤلاء الطلاب مهارات أكثر دقة في صنع القرار وحل المشكلات - مهارات أساسية ذات صلة بجميع مجالات العمل (راجع V R Yeravdekar & G Tiwari, 2014).

العراق دولة يبلغ عدد سكانها حوالي 42 مليون نسمة، وليس لها صادرات تذكر غير مواردها الطبيعية. وبالمقارنة ، فإن سنغافورة الصغيرة، التي ليس لديها موارد طبيعية ويبلغ عدد سكانها 5.5 مليون فقط ، تصدر 330 مليار دولار أمريكي. السر يكمن في قوة النظام التربوي والتعليمي حيث تحتل سنغافورة منذ سنوات، أعلى المراتب في السلالم الدولية التي تقيس قدرة الطلاب في القراءة والرياضيات والعلوم (محمد الربيعي، سنغافورة صرح كبير للعلم والتعليم، 2014).

بني النظام التربوي السنغافوري على ضروريات توفير الاستقرار والرفاهية لبلد متعدد الأعراق من خلال تنفيذ سياسات تسمى “سياسات البقاء”، هدفها تحقيق تماسك اجتماعي بين المواطنين ومنحهم فرص عمل وسكن صالح وتعليم كفء، وصحة وافرة، وفيها يرتبط التعليم إلى درجة عالية بالتدريب وبحاجة السوق، وتعطى أولوية إلى النمو الاقتصادي وتكوين مؤسسات إنتاجية جديدة وبناء رأس المال البشري قبل توزيع الموارد، ولكي تتم المحافظة على انتعاش الاقتصاد كان لابد له ان يكون مبنيا بالضرورة على التنافسية حتى في التعليم المدرسي والجامعي (المصدر السابق).

إن الركود او التراجع في الانتاج الصناعي والزراعي العراقي يظهر بوضوح الفشل الذريع للحكومات المتعاقبة. إنها لحقيقة محزنة أن كل الادعاءات التي أطلقها القادة السياسيون من أجل القضاء على الفساد وبناء الاسس للتطور الاقتصادي ظلت بلا أساس.

اهمية التعليم والعلوم والتكنولوجيا

العنصر الأساسي للنمو هو تقوية دعائم التعليم والعلوم والتكنولوجيا والابتكار، لكنها كانت دائما وعن عمد تعطى أدنى أولوية بحيث تمكن الفاسدين من الحفاظ على سيطرتهم القوية وهيمنة الاستيراد بدلاً من الاعتماد على الانتاج المحلي.

هناك اليوم اهمية كبيرة وحاجة ملحة في تحقيق الاتي:

اولا: استغلال القوة الكامنة في الكفاءات المتميزة والعقول الشابة المقبلة عليه،

وثانيا: تحقيق زيادة هائلة  في تمويل البحث والابتكار،

وثالثا: تشجيع التواصل الكافي مع مراكز البحث المتطورة في الدول المتقدمة،

ورابعا: وضع حد لحالة الانفصال شبه الكامل بين البحث العلمي وبين قطاعات الخدمات والإنتاج في المجتمع،

وخامسا: القضاء على البيروقراطية الإدارية التي تغلب على نشاط البحث والابتكار. 

دور الجامعة في التنمية

لا يختلف اثنان على اعتبار التعليم عنصراً هاما من عناصر التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وخاصة التعليم الجامعي. ولقد حققت الجامعات الحكومية نجاحا كبيرا في السنوات الأولى من إنشائها حيث كانت هيئات التدريس ذات كفاءة عالية، وكان التركيز على الجودة وليس الكم. وبينما نجد النمو الكمي في السنوات الاخيرة يحدث بوتائر سريعة، لا يرافق ذلك نمو في جانب النوعية وجودة التعليم. وبسبب عدم وجود بنية تحتية مناسبة من حيث هيئة التدريس والمكتبات والمعدات والمختبرات وتكنولوجيا المعلومات، فإن الجودة في التعليم العالي تواجه العديد من العقبات.

هناك اتجاه خطير للغاية مناهض للتطور تسببه بعض الاستراتيجيات المزمنة للوزارة وهو إهمال اهمية العلاقة بين أبحاث الدراسات العليا والاقتصاد الوطني، واهمال اهمية توفر الأموال التي تنفق على تعزيز برامج البحث.

وقد خلق ذلك موقفا مؤلما للباحثين وحتى للمسؤولين داخل الوزارة وفي الجامعات، ترك بسببه العديد من الباحثين المسرح العلمي في حالة من الإحباط، وزاد من الافتراس والسرقات العلمية والشهادات المزورة. بالحقيقة جعل ذلك أعداء العراق سعداء للغاية.

من المحزن أنه تم إنشاء جامعات اهلية وحكومية دون المستوى بالرغم من أنوفنا. الجامعات ليست مجرد بنايات. تمثل الجامعة هيئة تدريس من الدرجة الأولى تتمتع ببيئة بحثية ممتازة وبجهود متميزة لخدمة المجتمع تتعدى مجرد توفير كوادر علمية وتقنية.

تحتاج الوزارة إلى رؤية جديدة بشأن إنشاء جامعات جديدة تتضمن العمل على ادماج الكليات الاهلية الصغيرة والمتجاورة ووضع شروط اكثر رصانة وصرامة لانشائها.

***

أ.د. محمد الربيعي

التاريخ والحضارة مرتبطان احدهما بالاخر أشد الأرتباط، ولا يستطيع أحد منا ان يتحدث عن الحضارة حديثا معقولاً الا اذا عرف ما هية التاريخ، ويبقى العقل الانساني هو محور الروابط بينهما لفتح ابواب السيادة له على هذا الكوكب الكبير.

حضارات العقل القديم المعمقة عند المصريين والعراقيين انتهت بنهايات بقيت أثارها شاخصة للعيان، الحضارة المصرية انتجت الاهرامات التي عرف عنها سر الوجود، وانتجت الدواء لأول مرة في التاريخ، والتحنيط لجثث الموتى والذي لزال الى اليوم يلفه أسراره الغموض، مجهول الهوية دون معرفة سر الأبتكار والخلود، والغرف المغلقة في الاهرامات التي لم تفتح ولم يعرفها العلم الحديث حتى الآن، وشرائع كتبت في برديات لا زال يلفها الغموض تنتظر من يكشف سرها للوجود.

وحدائق بابل المعلقة لم يعرف اسرارها العلم الحديث، والكتابة والقلم والقوانين والزقورات والعجلة التي تجرها الخيول مبتكراتهم دون معرفة مبتكريها من العراقيين وغيرهم، بالمقابل ماذا انتجت حضارة المسلمين، سوى الغزوات والنهب والسلب وما ملكت ايمانهم من أغتصاب نساء وحقوق الاخرين، والمرأة دون عقل ودين، والسلطة والمال والسيف المسلط على الرافضين، لذوي الامر، دون الاخرين، والحكومات الظالمة تتحكم بالمظلومين. في الأمر غموض، فالنص المقدس جاء بتكريم العلم والقلم والاستقامة والعدالة وحفظ الحقوق، فلماذا كان التطبيق معكوسا عند المسلمين، هذا ما يجب ان يعرف بوضوح دون تعتيم، والذي لا زال مجهولا يلفه الغموض.

نعم المسلمون وشعاراتهم التي تقطر دما من سيوفهم، "الله أكبر والسيف يجز الرقاب" وما زالوا هم الذين اوقفوا حقيقة العقل الحضاري والقانون عند اصحاب الحضارات وابتكارات القديم،،كفاية مدحاً بالماضي وذماً بالحاضر الجديد، اين خزعل الماجدي لينقل لنا، حقيقة الوجود وسرالخلود،؟ لينبه لمنهج دراسي جديد، عسى ان ينفتح باب العقل في التجديد؟ بعد ان قرأنا من مناهجهم كل تخريف.

من هنا فواجب المؤرخين اليوم ان يُفهموا الناس حقائق مقومات نظرية المعرفة في التاريخ بينهم باعتبار ان العقل الانساني هو اول مخترعات الانسان التي مهدت له مفاهيم الحضارة والتي ارتقت به الى القدرة على عقل الاشياء والقبض عليها مما سمى بالانسان الى المكانة الحضارية الرفيعة قبل مجيء دولة الأغتصاب والتخريب، دولة المسلمين بعد عصر الرسالة المجيد. فهل يعقل ان الله انزل الدين ليفرق بين البشر في الحقوق أم ان من رافقوا الدعوة لم يكونوا مؤمنين،؟وهو الذي يقول "اعدلوا ولو كان ذا قربى؟ نريد جوابا من مؤسسة الدين، الصامتة صمت القبور؟، ومن يعترض فليقل لي ماذا أنتج الاسلام بعد محمد(ص) للعالمين سوى الاستبداد والفرقة والسيف ونكران الحقوق؟

مع الاسف الشديد ان نظرية المعرفة عند المسلمين لا زالت قاصرة عن ادراك المحرك الحضاري للمنتج الانساني، كونها غير مصاغة صياغة حديثة لابل قاصرة وغير مستنبطة حصرا من النص المقدس الكريم الذي طالما تحدثنا عنه دون علم صحيح وما دمنا بهذا التوجه القاصر، لن نستطع ان نصل الى مفهوم المنهج العلمي في التفكير ليمنحنا ثقة بالنفس وجرأة على التعامل من اي انتاج فكري حديث ومعاصر نتيجة التفكك الفكري والتعصب المذهبي واللجوء الى مواقف فكرية او سياسية تراثية مضى عليها مئات السنين دون تغيير.

كل هذه التوجهات القاصرة في نظرية المعرفة عندنا قادتنا الى كيل الاتهامات بالكفر والالحاد والزندقة والهرطقة والجبرية والقدرية الى نظرية التحديث والمعاصرة حتى وقعنا في مرحلة تصور اعداء الاسلام لما انتجه الاخر، فبقي المنهج العلمي عند غالبية مفكرينا يواجه التشنج والسذاجة وضيق الافق حتى اصبحنا بحاجة ماسة الى جدلية الفكر المعاصرفي مشكلة الفلسفة الكبرى في تحديد العلاقة بين الوجودالازلي ومرحلة التطور العقلي دون ان نستطيع ان نقف على الارضية المعرفية العلمية للقرن الواحد والعشرين.

هذا التصور الناقص جعلنا نعيش ازمة فقهية وفكرية حادة متخذين من قدسية النص وسيلة لمحاربة أفكارالاخرين، اذن، ما لم ننتج فقه فلسفي جديد معاصر مستندا الى تأويل النص لاتفسيره المتعدد الناقض والمتضارب لانعطي البديل في انتاج نظرية أصيلة في المعرفة الانسانية، منطلقة علمياً من النص المقدس لكي يكون المنطلق الفلسفي الذي ينتج عنه الحل الفقهي الفكري السليم.سنبقى نهرول في غياهب التاريخ. معتقدين ان كل فكر مضاد لنا هو عدو لنا بالضرورة دون تثبيت.

اذن ما الحل لنجتاز المرحلة السوداوية اليوم، الحل يكمن بالدرجة الأولى في أكتشاف محتوى النص المقدس الحقيقي التأويلي لا التفسيري كما جاء في الآية 7 من سورة آل عمران، "وما يعلمُ تأويلهُ الا الله والراسخون في العلم ". فسر النص بعد ان كان التلازم بين اللغة والتفكير ووظيفة الاتصال لم تستكمل بعد عند المفسرين، فضل الترادف اللغوي لا يعبر عن التفكير القائم على ادراك المشخص، ولم تكن فيها التسميات قد استكملت بعد تركيزها في تجريدات من هنا نستطيع ان نقول بضرورة ربط التوجهات القرآنية بالمنطلقات التطبيقية لتحديد مسار الدولة في الحقوق بين السلطة والمواطن التي فقدناها منذ عصرقيام الدولة بعد الرسول (ًص)، فالرسول جاء بدين حق وليس في مخيلته تكوين دولة بل تكوين أمة" هذه أمتكم امة واحدة وانا ربكم فأعبدون الانبياء 92".ساعتها سنتمكن من نشر الوعي التاريخي الحقيقي لواقع التغيير الذي نادت به الديانات الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام في الوصايا العشر، وان اختلفت صيغتها الواحدة عن الاخرى قليلا، من هنا تبدأ مرحلة التغيير.

بعدهذا الجهد سنتجه نحو قبول النظريات العقلية في المعرفة الانسانية ورفض النظرية الدينية القاصرة على التفسير العاطفي، لنتقدم بخطوة جريئة باعلان انتهاء نظام النبوة والرسالة والايذان بان الانسانية قد بلغت سن الرشد وعليها تحمل مرحلة الاعباء لتقليص الفكر الديني المقوقع وتوجهاته المصيرية الجامدة بغية التقدم خطوة جريئة نحو معرفة التحرر من الجبرية الاوهام، واقوال الفقهاء والانتقال لمفهوم الحرية.

بعد هذا التوجه الكبير سنتخلص من الفكر الديني التقليدي ونتجه نحوالعلمانية العلمية لتحرير الانسان من الخضوع للطبيعة والتحرر من سيطرة الطبقات التي أحلت لنفسها أحتكار المعرفة وما سموه بأهل المعرفة والعرفان الذين استغلوا الثروة والسلطة لهم دون الاخرين، والتوجه الاكيد نحو التوحيد الذي يستهدف المساواة بين الناس وبين الرجل والمرأة معاً ليعلو الحق على النقص، لتصبح الحياة شراكة بين المؤمنين.

والمرحلة الاخرى والهامة جدا هي تفسير النص القرآني"أطيعوا الله والرسول وآولي الامر منكم"فالوا جمعا لا مفرد، وهي اليست جمعا لولي وهم المقدمون من الجماعة، وليسوا على الجماعة كما فهمت خطئاً تفسيريا لذا لابد من تأويل النص تأويلا معرفيا للخلاص من مشكلة احتكار أداة الحكم التي رفضها الاسلام والتي نواجهها اليوم. وبهذا التوجه الصحيح نتخلص من احتكار السلطة والثروة والمعرفة والسلاح المحتكر بايديهم وحصرها في الأمة، هنا نصل وبكل تأكيد الى جدلية الانسان والبناء الحضاري املا في ايجاد ولادة حضارية جديدة غابت عنا مئات السنين.

اذا استكملنا هذه الخطوات الصعبة والمهمة ونجحنا فيها ننتقل الى محور الزمن لنجدد الشهادة في القرآن دون تدخل الفقه الميت عليها الذي فرق الامة الى مذاهب لا وجود لها في القرآن قط، بعدها ننهي نظرية الجرح والتعديل والخلاص من نظرية الناسخ والمنسوخ، تمهيدا لاعتماد نظرية الأعتدال للخلاص من نظرية الخوارج والحاكمية الدينية المتمثلة بالمرجعيات الوهمية وولاية الفقيه المخترعة منهم ليكونوا هم سادة الناس بالباطل دون نص مقدس مكتوب.

هنا تصبح نظرية المعرفة الاساس لتحديد حقوق الانسان وتحديد المسارات الانسانية لتتحول النظرية الى دستور ثابت على طريقة وثيقة الما كناكارتا البريطانية، التي انشأت امة وشعب مهما اختلفوا فيما بينهم يكون القانون المدني هو الاساس في الحقوق.

علينا ان نعترف بالتقصير والندم حين اخذتنا العاطفة وابتعدنا عن العقل وصدقنا ما قاله المؤرخون والفقهاء ورجال الدين من اكاذيب التاريخ منذ عهد الخلافة الاولى مرورا بالامويين والعباسيين، حين نقلنا النص للقارىء دون تحقيق فكتبنا على خلاف الحقيقة والمعقول. فأذا لم ننحِِ النص القديم المنقول منهم ونبدأ بكتابة التاريخ وفق قراءة تأويلية جديدة سنبقى ندور في متاهات الحدس والتخمين.

حكومة تحكم المسلمين منذ اكثر من 1400 سنة، بلا دين صحيح ولا قانون، بينما رجال المكنا كارتا كونوا دولة وحقوق بالقانون وهم بلا دين، كما نعتقد ونقول، فترى كيف كونوا دولة الحضارة والقانون، كتبنا مئات الاطاريح الانشائية ولم نقف على القانون كما كتبنا في دول الوهم مثل المهدية والفاطمية والبويهية والسلجوقية ولم نسئال انفسنا لماذا كان التغييرفي بلادنا المنهوبة اليوم، كان من اجل الخيانة والسرقة والسلطة وبيعه للاخرين؟

تحدثنا عن الوهميات وصفقنا للدارسين وما كنا نعلم نحن باقلامنا المتخلفة نقتل حقيقة الاسلام في التغيير، كان علينا ان نفكر كيف فكر الاخر في

التغيير، فبقينا نؤمن بالنص (اطيعوا الله والرسول وآولوا الامر منكم) هذا النص بقراءته الخطأ تحولنا الى داعش والقاعدة وطالبان والمرجعيات الفقهية لاولي الامر في التنفيذ، فمالم نتخلص من هذا التخريف في نظرية الكبائر، والاحاديث المزورة، ونظريات الخوارج والحاكمية، ولن نبني دولة الاعتدال والقانون، سنبقى في مناهج التاريخ الديني، ولادين،

***

د.عبد الجبار العبيدي

ما تزالُ المسألةُ القوميّةُ في الوطن العربي موضعَ بحثٍ ودراسةٍ ومحاولاتِ تطويرٍ وتحديث، للمفهوم وعوامله وللمصطلح وتكونه. ولهذا تكونُ إضافةَ رؤيةٍ جديدةٍ للعنوان، لها موقعها في القراءة والتجديد المنشود لفهم المسألة القوميّة، وتعريفها الصحيح والمعبّر عنها واقعيًّا وملموسًا، والسؤال الحاضر: لماذا رؤيةٌ جديدةٌ في المسألة القوميّة؟

تتفرّعُ الإجابةُ عن السؤال، إلى موضوعين، الأوّل يتعلّقُ بأداة الاستفهام، لماذا، وما تعنيه أو تتطلّبه الإجابة لما بعدها، من تحليلٍ وتقديرِ موقف. والثاني، يتطلّب قراءةً تاريخيّةً سريعةً أو استعادةَ مؤشّراتٍ ونقاطٍ دالّةٍ لعقودٍ قريبةٍ من الزمن، ولتكن من النصف الثاني للقرن الماضي، تقديرًا وتقريبًا. خاصةً تلك التي طرحت فيها تعريفات المفهوم وتطوير المصطلح في التعبير عن المسألة القوميّة، والصراعات الداخليّة بين التيارات الفاعلة في الأمّة ومراجعات بعضها أو مساعي العمل للخروج بما يخدمُ مشروعًا حضاريًّا نهضويًّا على أساس فهم الحاجة الملّحة للأمة للدخول في التاريخ الحديث كما يجب أن تكون عليه. لا سيّما وأن الواقع الحاضر للأمة يتصف عمومًا والوطن العربي بشكلٍ خاصٍّ بحالاتٍ من الأزمات العميقة والخيبات المتشعبّة والفشل العام في أغلب القضايا، السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، رغمَ كلّ الثروات التي تتميّز بها الأمة والوطن، الماديّة والبشريّة. الأمرُ الذي يدعو دائمًا إلى رؤيةٍ علميّةٍ واقعيّةٍ بوعيٍّ استراتيجيٍّ وإدراكٍ مخلصٍ لبناء الأمة وإعمار الوطن وتجاوز العقبات والعراقيل القائمة، الكامنة والظاهرة، المخفيّة والمعروفة، العلنيّة والسّريّة.

تمثّلَ التعبير عن المسألة القوميّة منذ بدايات تلك الفترة بتناقض مواقف التيارات السياسيّة والفكريّة، النظريّة، ومواجهات بينها إلى حدود الصدام والقمع والتصفيات، باسم الشعارات والمفاهيم التي ضاعت فيها حدود الخطاب النظري والممارسات العمليّة، في جانبيها الأيديولوجيّ والحركي، ال قطر يّ والقوميّ، المناطقي والإقليمي، مشرقًا ومغربًا، حتّى باتت التناقضات بينها حادة، داخل التيارات وبينها.

كتب ساطع الحصري (1879- 1968) العديد من الكتب والمقالات، وهو من بين الأبرز ممن أسهم نظريًّا في الكتابة والتعريف حولَ القوميّة العربيّة، وما هي القوميّة، والعروبة أوّلًا، والعروبة بين دعاتها ومعارضيها، وغيرها من العناوين المتقاربة منها، مقتنعًا بأسلوبه الحواري، ومنتهيًا في "كلمة ختامية في نتيجة الأبحاث، أن الوقائع والأحداث التي وصفناها وشرحناها، والنظرية التي استعرضناها وناقشناها، في مختلِف فصولِ هذا الكتاب، تؤدّي بنا إلى تقرير الحقائق التالية:

أنّ أس الأساس في تكوين الأمة وبناء القومية هو: وحدة اللغة ووحدة التاريخ، لأن الوحدة في هذين الميدانين، هي التي تؤدي إلى وحدة المشاعر والمنازع، ووحدة الآلام والآمال، ووحدة الثقافة... وبكل ذلك، تجعل الناس يشعرون بأنهم أبناء أمة واحدة، متميزة عن الأمم الأخرى" (يراجع كتاب الحصري، ما هي القومية، نسخة الكترونية ص 210).

وأضافَ لما سبق في كتابه الآخر، حولَ القوميّة العربيّة، ما يلي: "ولكن لا الدين، ولا الدولة، ولا الحياة الاقتصاديّة تدخلُ بين مقومات الأمة الأساسية. كما أن الرقعة الجغرافية أيضًا لا يمكن أن تعتبر من المقومات الأساسية" (حول القومية العربية، ص44).

ترك هذا التعريفُ نقاشًا واسعًا في الأوساط المعنيّة بالمسألة أساسًا، واستعرض هو ما ورد في الكتابات والدراسات الغربيّة بتوسعٍ وإضافة، ووقع في تعصّبه لها في حالاتِ القطع والتناقض مع غيره، حتى في الوطن العربي. فنشر الحصري مثلًا تعريفاتٍ ومواقفَ عديدةً لكتّاب ودارسين غربيين عن القومية والأمة. واستشهد بقول مانتشيني، الأستاذ في جامعة تورينو، الإيطالية، من خطابٍ له ألقاه في عام 1851، حيث عرف الأمة بما يلي: "الأمة مجتمع طبيعي من البشر، يرتبط بعضها ببعض بوحدة الأرض والأصل، والعادات، واللغة، من جراء الاشتراك في الحياة وفي الشعور الاجتماعي" (ص35). وعرض كثيرًا من آراء أخرى تصب في الاتجاه نفسه وظل مواصلًا نقاشاته أيضًا، ونقل رأيًا "للمفكر الألماني الشهير ماكس نورداو عبر عن رأيه في الفكرة القومية بصريح العبارات وأجسمها، حيث قال: "إن الذين فقدوا البصيرة، هم وحدهم يزعمون أن الفكرة القومية، هي من الآراء الطارئة التي لا تلبث أن تندثر، مثل اندثار الموضات" (ص22).

ظلَّ الموضوعُ متداولًا تقليديًّا وفي نقاشٍ وجدلٍ بين المهتمين به والدارسين لتطوراته نظريًّا وعمليًّا، وخلص علماء اجتماع غربيون وشرقيون، في تسعينات القرن الماضي إلى تعريف بنديكت أندرسون للأمة بأنها: "جماعةٌ سياسيّةٌ متخيّلة"، وليست خياليةً. وبنظرةٍ روحيّة، أكّد: أن الانتماء لقوميّةٍ ما، أو كما يفضل المرء أن يعبّر عنه بالنظر إلى تعدّدِ دلالاتِ هذه الكلمة: الاندماج في أمةٍ إضافةً إلى النزوع القومي، هي منتجاتٌ ثقافيّةٌ من نوعٍ خاص، ولكي نفهمها على نحوٍ صحيحٍ فإنّنا بحاجةٍ إلى أن نبحث بعناية كيف ظهرت إلى الوجود تاريخيًّا وبأي سبل تغيرت معانيها عبر الزمان، ولماذا تحظى اليوم هذه الشرعية الوجدانية العميقة (ينظر كتاب: علم اجتماع القومية، ديفيد ماك، ترجمة: سامي خشبة، نسخة الكترونية، ص 25).

هذه التعريفاتُ المتقاربة، التقليدية أو حتى الكلاسيكية تتطابق بعمومها مع وضع الأمة العربية، لغةً وتاريخًا، ويضاف لها أرضًا وعقائد دينية متعايشة، ومقومات اقتصادية، ومصالح مشتركة، وأهدافها جامعة، في المشاعر والتواصل والآمال، لكنها تفتقد إرادات حاسمة من أبنائها لوضعها على السكة المطلوبة من التقدم والتطور على الأصعدة المختلفة، إنسانيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، وتتجاوز التخلف والتفاوت والانحطاط الذي يفرض عليها. وأخذ بهذه الآراء عددٌ ممن خلف الحصري اهتمامًا بالمسألة، ومنهم من واصلها نظريًّا، ومنهم من حاول تطبيقها ولكن بعضًا من دعاتها مارس تناقضًا لها وخلافًا للشعارات التي رفعت باسمها، وعكس عمليًّا وعيًا متخلفًا وجهلًا مركبًا وأساء حتى لمصطلحها حسب تجربته المرة وفهمه لمشروعها ودورها ومكانتها التاريخية.

 ليس دعاة المسألة القومية وحدهم من انشغل بها وخالفها، فقد شغلت بال الماركسيين نظريًّا وعمليًّا، كما تحدّث الدكتور هشام غصيب في ورقةٍ بحثيّةٍ له، "إذ تناولها ماركس وإنغلز بإسهابٍ وبخاصةٍ في سياق ثورات 1848 التي عمت القارة الأوروبية برمتها. وركزا على علاقة القوميات والحركات القومية بالثورة الاجتماعية. ثم عادا وتناولاها في سياقٍ آخر، متسائلًا ما هي الأبعاد التي تركز عليها النظريّة الماركسية في تناولها المسألة القومية؟

إنَّ النظريّةَ الماركسيّةَ نظريّةٌ تاريخانيّةٌ ومن ثمّ فإنّها لا تعترف بالمطلقات والجواهر الثابتة وإنّما تعدّ كلّ شيءٍ متغيّرًا وفي صيرورة، وهذا ينطبق على الأمة والقومية أيضًا. لذلك فهي معنيّةٌ بالإجابة عن أسئلة كالآتية: كيف تنشأ الكيانات الاجتماعية التاريخية التي نسميها الأمم؟ وهل تنشأ جميعًا بالكيفية ذاتها وتحت الظروف ذاتها؟ وكيف تتطور وتهيمن على بعضها وتتراجع وربما تتفكك وتندثر؟ وكثير من الأسئلة". وهو ما تبيّن في الصراعات بين التياريين البارزين، القوماني والماركسوي، في الأمة في فهم المسألة القومية ودورها في التحرر الوطني والكفاح السياسي، ويقدم دروسًا وعبرًا لا مفرَّ من الاعتبار منها وبها وتطويرها إيجابيًّا في بناء الرؤى الجديدة.

 تتعارضُ التيّارات السياسيّة والفكريّة العربيّة في الوطن العربي، وهو ما أشرنا له من وقوعها في التناقض والصراع بين الأهداف والشعارات والبرامج وتجسيدها على أرض الواقع، عاكسةً فشلًا كارثيًّا وانكسارًا حادًّا في الوعي العربي وتخلّفًا في إدراكه وفهم عوامله والبحث عن سبل التغيير والتجديد، طيلة العقود الأخيرة، ولفترةٍ ليست قليلة، ختمته أغلب إدارات تلك التيارات بالوقوف أمام إعادة الاحتلالات الإمبرياليّة لبلدان الوطن العربي, وتوفير الأسباب والطرق لها، وتعميق التفاوت الطبقي والاجتماعي، وتبذير الثروات وتدمير الطاقات، وتهافت أطراف منها على التنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية واقعًا والتلهي بالتكاذب الإعلامي وشراء الذمم والعقول.

بوضوحٍ أكثرَ وبروحٍ نقديّةٍ واعيةٍ واستمرارًا للكتابة النقديّة، التنظير الفكري والسياسي للمسألة القومية، طرح ياسين الحافظ (1930- 1978) مشروعًا فكريًّا متجدّدًا، دعا فيه حسب قراءة دكتور عبد الله تركماني، في دراسةٍ له عنه، إلى الارتفاع من مستوى المشاعر القومية العربية إلى بناء الأمة، بما ينطوي عليه ذلك من أساسٍ ديمقراطيٍّ لهذا البناء. وأضاف تركماني: لقد أمسك الحافظ بمفهوم التأخر التاريخي للمجتمع العربي، الذي يتجلى سياسيَّا بغياب الرأي العام وبكونه صاغرًا وعزوفًا، ويتجلى اقتصاديًّا بكون الاقتصاد العربي مندلقًا نحو الخارج وتابعًا، ويتجلّى اجتماعيًّا بسيطرة بنى اجتماعيّةٍ ما قبل قومية (طائفية، عشائرية، عائلية، محلية..)، ويتجلّى فكريًّا بسيطرة فكرٍ تقليديٍّ تمتدُّ جذوره إلى العصر الوسيط. لذلك فهو ينتقل من نقد "السطح السياسي" إلى نقد "العمق الاجتماعي" الذي يصوغ الحيز السياسي ويفرزه. وحرر الخطاب القومي من البلاغية المترهلة، وأنقذ الماركسية العربية من ضيق العبارة والأفق وتكلس الصيغ، حين استعاد روحها النقدية، بوصفها سؤالًا مشرعًا ضدّ الثبات والسكون والامتثال والعقائدية المنغلقة على نفسها.

إن الرؤى المتعددة التي تقدمت في توصيف المسألة القومية، سواء التقليدية منها أو التجديدية، المحسوبة على اليمين القومي أو اليسار الديمقراطي بقيت في أدراج المكاتب ورفوف الكتب فقط، وتركت الأوضاع العربية بمختلف مستوياتها تنحدر إلى درجاتٍ كارثيّة، أضافت لها ممارسات دعاة القومية التقليدية اليمينية تشريع أبواب الاحتلال الغربي من جديدٍ للوطن العربي والعمل بإصرارٍ على تصفية القضية الفلسطينية قضيّةَ تحرّرٍ وطنيٍّ مركزية، وركن أساس لقضايا التحرر الوطني والقومي في أغلب البلدان التي أعيد احتلالها إمبرياليًّا بأشكالٍ مختلفة، سواءً بالتخادم السياسي المباشر وغيره أو بالقواعد العسكرية وتنفيذ المخططات التآمرية بالضد من المصالح الوطنية والقومية.

المسألةُ القوميّةُ بحاجةٍ ماسةٍ وعاجلةٍ وضروريةٍ الآن إلى رؤى جديدةٍ تبدأُ من وعي واقع الأمة والوطن، من خلال تحليلٍ ملموسٍ للواقع الملموس، والعمل على استنهاض الطاقات الكامنة، البشرية والماديّة والمعنويّة، وتوحيد كفاح الساحات وتنسيق كلّ جهودها وتحديد الأهداف ومدياتها وتجديد الشعارات، بما يوازي المتغيّرات الدوليّة والتطوّرات العالميّة والثورات العلمية الراهنة، وتمتين الجبهات، السياسية والفكرية والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، واعتبارها قوّةً قادرةً على الإنجاز والتقدّم والتنمية والتطوّر، مع اعتبار الأزمات وتصاعدها والانتباه للمعوقات وآثارها ومجابهة التحديات وتداعياها، شرطًا رئيسيًّا للنهوض والتغيير.

***

كاظم الموسوي

تعرَّضتُ في مقال الأسبوع الماضي لما ظننته دوراً محورياً للثقافة العامة في تحفيز النهوض الاقتصادي أو تثبيطه. وأشرت باختصار إلى رؤية اثنين من الاقتصاديين المعروفين على المستوى العالمي. لكن بدا لي في الأيام التالية لنشر المقال أن بعض القراء صرفوا هذه الرؤية إلى معنى معاكس، مع أنه يبدو –في الظاهر- موافقاً لها. وقد ذكّرني أستاذنا د. محمد الرميحي بمقالة سابقة له، عالجت ذات المسألة من زاوية أوسع. والدكتور الرميحي مفكر سياسي معروف، وأعدّه أبرز الخبراء في قضايا السياسة والتنمية في الخليج العربي.

تحدَّث الرميحي عن السمات البارزة للبيئة الاجتماعية المثبطة للنهضة، والعوامل التي تسببت في التعثر أو النكوص مرة بعد أخرى، وهي جميعاً ذات صلة بالثقافة السائدة. ويهمني في هذه الكتابة العامل المذكور أعلاه، أي التصريف الآيديولوجي للمشكلات، على النحو الذي ظهر في نقاشات الأسبوع الماضي.

والمقصود بالتصريف الآيديولوجي هو تفسير ظواهر اجتماعية أو تاريخية بناءً على قربها أو بعدها عن مقولات آيديولوجية معينة، أو إرجاعها إلى التفسيرات الخاصة بتلك الآيديولوجيا. هذا يتضمن -بالضرورة– إغفال العوامل المساهمة فعلياً في تكوين تلك الظواهر وتفسيرها العلمي.

من ذلك مثلاً ما وصفه د. الرميحي بالغلوّ الاقتصادي، أي التفسير الماركسي الذي يُرجع كل حراك حيوي إلى عوامل اقتصادية، بما فيها الثقافة السائدة ومنظومات القيم والعلاقات الداخلية، بل حتى الفكر المدرسي والآداب والفنون، التي عدّها الماركسيون واجهة خارجية للبنية التحتية للنظام الاجتماعي، أي الاقتصاد السياسي وأنماط الإنتاج. يقول الرميحي إن هذا التصريف قد حوّل الفكر إلى نوع من ميكانيكية اقتصادية، بدل أن يُعرف كنشاط حيوي قادر على أن يكون مستقلاً، وبالتالي ناقداً للوضع الراهن ومشيراً إلى المستقبل.

وشبيهٌ للغلوّ الاقتصادي، لاحظ الرميحي ما وصفه بالغلو السياسي في التيار القومي، الذي عدّ الوحدة العربية شرطاً وحيداً أو أساسياً لنجاح التنمية الاقتصادية، ثم أغفل أي عامل لتحقيق الوحدة غير التغيير في النخب السياسية، أي إنه عدّ هذا التغيير تمهيداً ضمنياً لتحقيق التنمية. وقد رأينا في التجارب العربية كثرة التحولات في النخب، بشكل طبيعي أو قسري، وكيف أن هذه التحولات أفضت إلى المزيد من الشقاق والفشل، بدل الوحدة أو النمو. نعلم بطبيعة الحال أن المدافعين عن الرؤية القومية سيشترطون نوعاً خاصاً من التغيير، لكنّ هذا أقرب إلى «شرط يوتوبي» منه إلى مطالعة واقعية في التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعرفها عالم اليوم.

ويقال الشيء نفسه عن تفسير التيار الديني لمشكلات التخلف السياسي والاجتماعي، التي عدّها انعكاسا للبعد عن الدين الحنيف. وبناءً عليه عدّ تحكيم للشريعة حلاً حاسماً وفورياً لتلك المشكلات. ونذكر جميعاً شعار «الإسلام هو الحل» الذي رفعه التيار الديني في مصر والسودان. ثم رأينا مصائر الحل السوداني في الفترة بين 1989 و2019، فضلاً عمّا جرى في أفغانستان وإيران، مما لا يخفى على اللبيب.

حشر الحياة في عباءة الاقتصاد عند الماركسيين، مثل ربط القوميين للتنمية بالوحدة العربية، وربط الإسلاميين للنهضة بالعودة إلى الدين الحنيف، كلها تصريفات آيديولوجية، بمعنى أنها تنطوي على إغفالٍ للوقائع القائمة وإلغاءٍ لدور العلم الوصفي والتفسيري، وإحالة الواقع بقضه وقضيضه إلى صندوق المحفوظات. في هذا الصندوق لا توجد حلول، بل قوالب وعباءات قادرة على تأطير كل شيء وتغطية كل شيء، لكنها ليست قادرة على علاج شيء.

علاج المشكلات كلها، صغيرها وكبيرها، يبدأ بفهم الواقع واستعمال العلم في تفسيره والبحث عن علاجاته. وقد رأينا أن أولى مشكلاتنا، بل ربما أخطرها، هي هذه الثقافة الكسيحة، التي تميل بشدة للتفسيرات الجاهزة والمعلبة، بدل التفكير المتأني واستعمال مناهج العلم في فهم الواقع ومآلاته وعلاجاته.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

قال تي أس إليوت: كل شيء في هذا الكون غريب إلا أنت وأنا،

وحتى انت أكثر مني غرابة

تكمن غرابة الإنسان لا في هيئته وشكله وجماله واستقامته فحسب، بل وفي مقدرته على التفكير والاستنتاج، وصنع الجمال والقبح، والرحمة والقسوة، واللطف والتوحش، وهذا يعني أن جزءً من غرابته يكمن في مقدرته على الجمع بين الأضداد، ومقدرته على التلون والتعاطي مع المستجدات عقليا وغريزيا وجسديا وفيزيائيا، على خلاف الكائنات الأخرى التي تقودها غرائزها وتتحكم بها نزواتها.

ومع ذلك أرى أن الإنسان هذا الكائن الأكثر غرابة في الكون كله، رغم عظيم أهميته وسطوته وقوته، هو ابن بيئته، يتأثر بها، ولها عليه سطوة ظاهرة. والبيئة هي الأخرى تتأثر وتتبدل بدورها تبعا لأبوة الإنسان لها، فهي أبوة متبادلة متفاعلة، مرة يصبح الإنسان فيها هو الضحية مسلوب الإرادة مقيد السلوك، وأخرى تصبح البيئة تحت سطوته وقوته، ينتهك أدق خصوصياتها ويغير ملامحها، ومنذ الأزل وإلى الأزل لم تنجح البيئة في تطبيع الإنسان مثلما تحب، ولا الإنسان في تطويع البيئة مثلما يهوى. هي بقيت تمثل الشخصية الحساسة، وهو كان ولا زال يمثل الشخصية الاعتمادية، ذلك لأن للبيئة قواها الخفية، وللإنسان قواه الخفية أيضا، ومتى ما وجدت قوتان في حيز واحد لابد وأن تتصادما، سواء كان تصادما مرنا أو غير مرن، الفرق الوحيد أنه في التصادم المرن يبقى مجموع زخم الأجسام قبل التصادم مساويا لمجموعه بعده، وهو ما أطلق عليه علماء الفيزياء "قانون حفظ الزخم"، وعادة ما يكون هذا التصادم مثمرا نافعا بنائيا معطاءً، تماما مثل تصادم كرات لعبة البليارد؛ الذي تتحقق بموجبه نقاط الفوز، أو مثلما تضرب كرة على الأرض لكي تعود إليك في لعبة كرة السلة، لتمنحها زخما يساعد على إدخالها السلة، لكن التصادم غير المرن يوقع عادة أضرارا تتناسب طرديا مع شدته ومغذياته، وفيه يحدث فقدان لجزء من طاقة الحركة بسبب تحولها إلى طاقة من نوع آخر.

في هذه المعادلة يبدو التأثير أكثر ظهورا وتشخيصا على الإنسان منه على البيئة، حتى في حالة التغير الكبير الذي يصيب البيئة نفسها، خذ على سبيل المثال ما أحدثه التصادم غير المرن بين مطالب الإنسان والغلاف الجوي؛ الذي أنتج الاحتباس الحراري ذو التأثير المباشر على البيئة، فأثرة على الإنسان نفسه كان أكثر وأشد وقعا منه على البيئة نفسها، وانتج قوى مدمرة أصبحت تتهدد الإنسان في بقائه وعيشه، وتؤثر على أنماط سلوكه؛ الذي يكون عادة مرتبطا بالبيئة الخارجية؛ والذي أطلق عليه أخصائي علم النفس الأمريكي "بورهوس فريدريك سكينر" اسم "السلوك الإجرائي"، وهو السلوك الذي يعتمد على مثير معين في البيئة الخارجية. وهذا المثير لا ينحصر في التعامل مع البيئة فقط، بل يمتد إلى التعامل البيني فيما بين الأشخاص أنفسهم في بيئة محددة أعدت بعناية لتبيان أثر التصادم.

وتكاد تجربة ستانفورد أن تكون الشاهد الأكثر واقعية على هذا التصادم التاريخي، وهي تجربة أجراها عالم النفس "فيليب زيمباردو" مع مجموعة من زملاء آخرين في سنة 1971، كانت غايتها تبيان أثر البيئة على صنفين تم اختيارهما من بيئة واحدة ليؤديا مهمتين مختلفتين، المهمة الأولى يقع أعضاؤها تحت طائلة المسؤولية، والمهمة الأخرى يتبنى أعضاؤها مهمة المسؤولية والإشراف، مثل السجين والسجان. عرفت هذه التجربة باسم "تجربة سجن ستانفورد" لأنها أجريت على طلاب منتخبين من جامعة ستانفورد، وكان هدفها أن تتقصى تأثير المتغيرات الظرفية على السلوك البشري في بيئة منتخبة.

ولغرض إزالة الفوارق المحتملة وتوفير البيئة المطلوبة، اختار الباحثون مكانا ليصبح سجنا وهميا، مكوناً من ثلاث زنزانات بمساحة 54 قدماً، على أن يوضع في كل زنزانة ثلاثة من الطلاب الذين أوكلت لهم مهمة لعب أدوار السجناء. وخصصت باقي غرف السجن للطلاب الذين أوكلت لهم مهمة لعب أدوار الحراس ومراقبي السجن. كما أفردت مساحة صغيرة من السجن كغرفة سجن انفرادي، وغرفة أخرى كساحة أو باحة للسجن. ثم اختاروا بشكل عشوائي أربعة وعشرين طالباً من أصل سبعين تطوعوا للعمل في التجربة من بين طلاب الصف المنتهي المهيئين للتخرج، ممن ليس لديهم سجلا إجراميا، ولا يعانون مشاكل جسدية أو نفسية واضحة. اختاروهم للعب أدوار السجناء وحراس السجن، للمشاركة في الاختبار الذي حدد له سقفا زمنيا لمدة أسبوعين مقابل أجر يومي يدفع لهم. وتم اختيار الطلاب الذين يلعبون دور السجناء والطلاب الذين يلعبون دور السجانين من بينهم عشوائيا.

كانت التجربة تنص على أن يبقى السجناء في سجنهم الوهمي بشكل دائمي طوال مدة التجربة، أما الحراس، الذين سمح لهم بالتصرف وفق الطريقة التي يرغبون بها، فيتولى كل منهم مهمته لمد عشر ساعات، ثم يُسمح له الذهاب إلى منازله بالتناوب لحين انتهاء المدة. وكانت مراقبة المشرفين على التجربة للحراس والسجناء تتم من خلال استخدام كاميرات ومكبرات صوت غير مرئية بالنسبة للممثلين.

الغريب أن التجربة أنهيت بعد ستة أيام فقط بسبب التبدلات السلوكية المتطرفة التي ظهرت على السجناء والسجانين كليهما، والتي تمثلت بسوء المعاملة العدائية واللاإنسانية للسجانين، الذين أصبحوا يتصرفون بطريقة عدوانية ومسيئة تجاه السجناء، بينما أصبح السجناء أكثر خنوعاً واكتئاباً، فظهرت عليهم علامات القلق والإجهاد الحاد، بما في ذلك البكاء والنحيب، مما اضطر المشرفين على التجربة إلى إخراجهم من السجن مبكراً. وقد أظهرت هذه التجربة الفريدة أهمية الدور القوي الذي تلعبه الظروف البيئية في تغيير أنماط السلوك البشري.

وفي بحثي عن مصادر موثوقة لكتاب كنت أعمل عليه، نويت أن أصل من خلاله إلى معرفة أصول الغجر وأنماط عيشهم، ثم تركته بسبب فقدان المصادر المحايدة، اكتشفت حقيقة اتفق عليها كل من كتب عنهم وهي أن الغجر ـ وبشكل سريع ومدهش وغريب للغاية ـ يتطبعون بطباع المنطقة التي يبنون معسكرهم فيها وبشكل كامل، فيعتنقون دين المنطقة ويحاولون تعلم لغتهم ومناغمة سلوكهم. وهذا مثال حي على صحة أثر وتأثير البيئة على المجاميع البشرية وليس على الأفراد وحدهم.

يعني هذا أن للبيئة قدرة لا حدود لها، لكن للإنسان هو الآخر حدودا تفوقها إذا ما أحسن استخدامها، والذي جعل البيئة تتفوق علينا اليوم في التأثير والفعل المدمر ليس لأنها أقوى من الإنسان، وإنما لأن الإنسان انشغل بأموره الثانوية عن الهدف الأكبر، الذي يتمثل في إعداد الدفاعات التي يتصدى من خلالها لقوى الطبيعة وأثر البيئة. خذ على سبيل المثال أمريكا التي تصرف سنويا مليارات الدولارات من أجل تطوير ترسانتها العسكرية ففي سنة 2016، خصصا أمريكا وفق المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، في تقريره عن التوازن العسكري العالمي 2016 (لعام 2015) ما مقداره (597،5) مليار دولار لميزانيتها العسكرية، وفي مايس من عام 2021، بلغت الميزانية العسكرية التي طلبها الرئيس الأمريكي للسنة المالية 2022 مبلغا قدره (715) مليار دولار، بزيادة قدرها 10 مليارات دولار عن السنة المالية 2021. وبلغ إجمالي طلب ميزانية وزارة الدفاع ووزارة الطاقة للسنة المالية 2022 مبلغا قدره (753) مليار دولار، في وقت تسببت الظواهر الطبيعية في تدمير البنى التحتية لعدة مدن أمريكية وبشكل متكرر ومأساوي، ولو تم تخصيص تلك المبالغ الكبيرة لإجراء دراسات معمقة لحالات تبدل سلوك الأعاصير، وابتكار آلات جديدة لها قدرة التحكم بحركتها، لجنبت أمريكا رعاياها ويلات التشرد وفقدان المدخرات والمنازل والمزارع والثروات، ولكانت قدمت للإنسانية ما يجنبها الويلات، بدل أن تصدر لها أخطر أنواع الأسلحة وأشدها فتكا وتدميرا.

ومن المفارقات المضحكة المبكية أن العلماء يبحثون دائما من خلال تجاربهم العلمية عن أصول القوى الخفية الموجودة لدى الإنسان، عسى أن يتم توظيفها لتجنيبه نتائج حماقاته، ومنها حماقة حربه ضد بيئة لم يعد لها آليات تحقق له النصر، ولكن الإنسان نفسه يأتي بأعمال نزقة حمقاء تثبت أنه لم يفد شيئا مما قدموه له، فعمل خلافه بدل أن يوظفه ليستشرف الحدث المستقبلي من خلاله، خذ على سبيل التوضيح ما تحدث به الكاتب والفيلسوف الفرنسي "إميل بواراك" في كتابه الموسوم "مستقبل العلوم النفسية" عن ظاهرة أطلق عليها اسم "ديجافو". ومعناها "شوهد قبل ذلك"، ومما جاء في أقواله إن هذه الظاهرة تحدث عادة وبنسبة 70% لدى الشباب بين السابعة عشر والخامسة والعشرين من أعمارهم ممن يشعرون حينها وكأنهم عاشوا من قبل الحدث المعاصر الذي يحدث أمام أعينهم مباشرة، وكأن ما يحصل لا يحدث هذه المرة فقط بل حدث من قبل، ولكنهم لا يتذكرون متى وأين وقع الحدث، بل قد تتطور هذه الظاهرة لدى بعضهم بما يتيح لهم معرفة أو توقع ما سيحدث خلال الثواني اللاحقة التي تتلو وقوع الحدث الجديد أيضا. وقد وضعت الكثير من التفسيرات لهذه الظاهرة، ولكنها لم تتوصل إلى حقيقتها التكوينية الخفية، وهذا ما دفع بعض الذين مارسوها للاعتقاد بأن لديهم حاسة سادسة تمكنهم من إدراك المستقبل.

وهي سواء كانت ظاهرة من بين خفايا ظواهر العقل البشري، أم كانت بفعل الحاسة السادسة التي يمتلكها بعض الأشخاص، أم مجرد تخمين استنتاجي، لم تنجح في تغيير أنماط سلوك البشر الذين جبلوا على النزاع والتخاصم حتى مع استشعارهم بالخطر الداهم الذي يصبغ وجود الإنسانية المستقبلي بلون الرعب الأكبر، بل ودفعت بعضهم للإفادة من تلك الخبرات لتحقيق المكاسب الشخصية على حساب آلام الإنسانية، وهنا تكمن المأساة، مأساة أن يفرط الإنسان بكل تلك القوى التي من الممكن أن تحول حياته إلى نعيم وحقل مُرْبعِ لمجرد أن يحقق ربحا ماديا أو اعتباريا سرعان ما سيتبخر مع أول عصف قادم من المجهول.

وهي ليست نبوءة، بل مجرد استنتاج لحظة صفاء ذهني، يتيح فتح مغاليق العماء، وأقفال وسلاسل الخديعة ليجهر بالحب وسط ضجيج الحماقات، وما يهمنا من هذه الظاهرة والدراسات العديدة التي تجرى عليها ليست النتائج المتحققة فحسب بل ما هو أهم من ذلك، وأقصد به تمكن الإنسان من تهذيب قواه الخفية وتسخيرها لتخدمه وتخدم أبناء جنسه، المشكلة أن الإنسان نفسه يبدو متهاونا في نظرته لهذه القوى الجبارة، خذ على سبيل المثال علاقتنا بأثنين من أقرب الأجهزة إلى الإنسان المعاصر اليوم، أقصد بهما الحاسوب والهاتف الذكي ستجد أن الأعم الأغلب من العاملين عليهما بما فيهم بعض المتخصصين، كانوا ولا زالوا وسيبقون يجهلون الكثير من قدرات أجهزتهم، وأن المستقبل لن يكون كفيلا بحل هذا الإشكال؛ الذي سيتطور مع تطور الأجهزة ذاتها، أما الإنسان الذي خلق الحاسوب والهاتف الذكي فهو قوة خفية لا حدود لها، لها قدرات هائلة لا توجد أجهزة لقياسها، ولا يمكن قياس حجمها بأي معيار متداول أو متوقع ابتكاره مستقبلا، وهذه القوة الخفية تفوق بمرات عديدة ما لدى جميع حواسيب الدنيا وهواتفها، والهاتف الموجود في داخل هذه القوى الخفية يمكنه من صنع ما يتيح له لا رؤية الحاضر فحسب، بل واسترجاع رؤية الماضي واستشراف ورؤية المستقبل، وما وراءهما أيضا. لكن هل أن هذا متاح للجميع، أو محصورا في ذوي الأعمار التي حددها "بواراك"؟

إن علم المستقبل (Futurology) أو علم الدراسات المستقبلية (Futures studies)‏ علم يختص بدراسة الممكن والمحتمل حدوثه مستقبلا، ومع أنه لا زال احتماليا وليس يقينيا إلا أنه حقق نتائج باهرة في كثير من القضايا، ولاسيما بعد أن تطور خلال ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وأجريت عليه الكثير من الدراسات الأكاديمية والتخصصية والعلمية، لا بشكل عام ولكن من خلال دراسة مواضيع محددة بمحتوى معين وفق جدول زمني والعمل من خلال استخدام منهج علمي، وأرى أن الإنسان الذي نجح من قبل في اجتياز أصعب الامتحانات سينجح اليوم أيضا في اجتياز الامتحان المعاصر، إذا ما آمن بقواه الخفية التي نجحت في توظيف الدراسات المستقبلية؛ التي تتنبأ من خلالها وبشكل متكرر بمستقبل مأساوي ومظلم للبشرية من صنع البشر أنفسهم، قد يعود فيه إلى عالم الكهوف والبدائية الذي فارقه منذ آلاف السنين، بعد أن يفقد الإنسان أسس التحضر، ويفقد معها كل ما بناه على مدى آلاف السنين نتيجة نزق حاكم أو حقد جماعة متطرفة أو وسواس شيطان عابث. والأشد إيلاما أننا نحن المسلمين والعرب لن نكون بمنجى مما سيحدث مع أننا لا ناقة لنا ولا جملا فيها، لكننا برضانا كنا المطايا التي حملت على عاتقها وبرضاها آلات الحرب والدمار، وسنكون أول ضحايا العصف، تماما مثل الدولفين المدرب الذي يربطون على ظهره المتفجرات ويبعثونه ليصطدم بغواصة عدوة أو باخرة أو فرقاطة للعدو فتتشظى حمولته ويتشظى معها، فتراه مندفعا نحو هدفه بكل همة ونشاط، وهو لا يدري ماذا سيحل به، المشكلة أن الدولفين حيوان بلا عقل والإنسان عقل خارج حدود الحيوانية فلماذا يسعى الإنسان ليكون دولفينا؟.

***

الدكتور صالح الطائي

أكد شيخنا ماركس (طاب ثراه) في كتابه "إسهام في نقد الاقتصاد السياسي" إن نمط الإنتاج هو الذي يحدد الطابع العام للعمليات الاجتماعية والسياسية والروحية للحياة فليس الوعي الاجتماعي هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي بل على العكس من ذلك يحدد الوجود الاجتماعي الوعي الاجتماعي.

لأن الأساس المادي للمجتمع هو الذي يتشكل عليه الوعي الاجتماعي وإن القوى الأساسية المحركة للتاريخ هي القوة الاقتصادية الاجتماعية.

وشيخنا يؤكد إن أساليب الإنتاج ونمطه هي التي تنتج علاقات الإنتاج وهي أساس الوعي الاجتماعي.

والوعي الاجتماعي عنده عبارة عن سلسلة من الأفكار والنظريات والآراء والأحاسيس الاجتماعية والعادات والتقاليد التي تكون موجودة لدى الناس والتي تعكس حقيقتهم الموضوعية أي المجتمع الإنساني والطبيعة وبما إن الوجود الاجتماعي يتسم بالتعقد والتنوع فإن الوعي الاجتماعي يتسم أيضاً بالتعقد والتنوع ويشير التاريخ الاجتماعي إنه مع تغير الوجود الاجتماعي للناس يتطور أيضاً وعيهم الاجتماعي فتخفي الأفكار السابقة وتحل مكانها الأفكار الجديدة وهذا هو المنهج الجدلي في تحليل الوجود والوعي.

فهل نستطيع أن نثبت ذلك من خلال تحليل تحليل السلوك؟

ما السلوك؟

السلوك هو: "عبارة عن مجموعة من الاستجابات العصبية التي تتكون لدى الإنسان من خلال مثير طبيعي أو اجتماعي".

إن الاستجابات العصبية التي تتكون لدى الإنسان هي استجابات للأشياء المختلفة المحيطة به أي إنها تتكون بفعل هذه المثيرات وعلى أساسها سواء أكانت هذه المثيرات طبيعية أو اجتماعية.

ومن البديهي أنه لولا هذه المثيرات فإن الاستجابات العصبية لا تتكون ومن ثم لا تظهر إذ إن لكل مثير استجابة خاصة به تتكون عبر مراحل معينة وثابتة حيث إن هذه الاستجابة تبقى كامنة عند الإنسان ثم تظهر فيما بعد عند ظهور المثير الذي كونها.

كالخوف والفرح والحزن...

وعلى هذا الأساس فإن الاستجابات العصبية تعتبر الجانب الثانوي (التابع) بينما المثيرات المختلفة تعتبر الجانب الأولي المستقل.

إن سلوك الإنسان يتم في البيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة به وهو ما يعبر عنه بأنه نتاج لتفاعل الإنسان مع البيئة المحيطة به. وبذلك فإن مسألة معرفة عناصر السلوك أو شروطه تستلزم الأخذ بعين الإعتبار جملة المثيرات المختلفة والتي تمثل بمجموعها أشياء البيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة بالإنسان لأن استجابات الإنسان الدماغية ما هي إلا انعكاس حي لها فالمثيرات البيئية شرط لازم لإحداث أو لتكوين السلوك بمعية الإنسان وهي "الشرط المستقل" بينما استجابات الإنسان تابعة في تكوينها للبيئة أو لمثيراتها.

ومن هذا نستطيع أن نستنتج إن السيطرة على المثيرات البيئية تعني التحكم في السلوك.

وعليه فإن القانون الأساس لفهم السلوك هو قانون "المثير - الاستجابة".

لهذا السبب فنحن لا نستطيع أن نسيطر على السلوك-خاصة إذا أردنا أن نعالج سلوكا منحرفا- إلا من خلال إثارات ملائمة فالسيطرة على المثير تعطي المفتاح للسيطرة على السلوك.

يتضح لنا إذن حتمية توفر عنصرين أو شرطين لتكوين السلوك عند الإنسان:

أولهما: وجود المثيرات البيئية (الطبيعية والاجتماعية).

ثانيهما: وجود الإنسان الذي تتكون لديه الاستجابات العصبية لتلك المثيرات البيئية.

وبذلك فإن الاستجابة العصبية هي "الشرط التابع"ما دامت الاستجابة العصبية لا تتكون إلا بوجود المثير  بينما المثير يمكن اعتباره "الشرط المستقل" ما دام هو الذي يكونها.

وهنا نستطيع أن نؤكد صحة مقولة شيخنا ماركس (طاب ثراه) فالوجود الاجتماعي هو الجانب الأولي وهو المثير المستقل والوعي الاجتماعي هو الجانب الثانوي وهو التابع.

هذا في أول مرة يعرض فيها المثير وعبر مراحل معينة وثابتة. أما بعد ذلك فإن الاستجابة العصبية تبقى كامنة لدى الإنسان من دون أن تنعدم وقد تظهر من دون المثير الذى كونها. كما إن ظهور الاستجابة الكامنة عند الإنسان لا تمر بمراحل كما في حالة تكونها. ويستطيع الإنسان تكرار عملية ظهور الاستجابة الكامنة بعرض مثيرها (اصطناعيا) مرة ثانية ويحاول تغييرها وما يتفق ومنفعة الإنسان ومصلحته.

وبديهي إن مثل هذه المحاولات في التغيير هي من السمات البارزة التي تميز الإنسان عن الحيوان إذ إنها توضح لنا الفرق الجوهري بين استجابات الإنسان والحيوان العصبية إزاء المثيرات المختلفة فالحيوان يستجيب بشكل آلي مباشر أما الإنسان فيمانع أراديا وأحيانا حتى بشكل لا إرادي.

***

سليم جواد الفهد

 

خلق اللهُ الناسَ من طينة واحدة؛ فهم عائلة واحدة بالأصل، تكونت من الطينة الإنسانية الأصلية نفسها، وتتكلم بلغة واحدة، ولديها العادات والتقاليد نفسها، والصفات الجينية والوراثية نفسها: (كلكم من آدم، وآدم من تراب)، ثم تحولت العائلة الى عوائل، وأصبحت كل عائلة عشيرة، ثم قبيلة، ثم قوم، ثم عرق، وهو ما يُعبّر عنه انثروبولوجيّاً بالسلالات البشرية. وبات لكل قوم أو قومية لغة مختلفة، وصفات جينية وانثروبولوجية مختلفة، تميزه عن غيره من الأقوام.

هذه اللغات المختلفة والصفات التمييزية ليست معايير للتفاضل بين الأعراق والقوميات إطلاقاً، لأن الأقوام وجود تكويني، صنعه الله، وليس للإنسان أي دور في صناعة قوميته وصفاتها، أو انتمائه اليها. أما اللغة فهي صناعة بشرية، ولاقيمة لها سوى أنها أداة مشتركة للتواصل بين البشر. وبالتالي؛ لافضل للمتكلم بلغة معينة على غيره ممن يتكلم بلغة أخرى، ولافضل لمن ينتمي لقومية معينة لها صفات جينية تكوينية وتنشئة إنسانية مغايرة، على غيره ممن ينتمي لقومية أخرى.

صحيح؛ إن الله (تعالى) أكرم اللغة العربية بأن جعلها لغة خاتم الأنبياء ولغة خاتم الكتب السماوية، لكن هذا التكريم هو للغة حصراً، وليس لمن يتكلم بها أو يعيش في بيئتها الاجتماعية والقومية، وإلّا كان أبو لهب (عم النبي) وكفار قريش ومنافقي المدينة وأهل الردة، أفضل من بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وسائر المؤمنين من القوميات غير العربية، وكما قال رسول الله عن العصبية القومية الجاهلية: (ما بالُ دعوى الجاهلية؟... دَعُوها فإِنّها مُنْتِنَة)، أي أنها نتن وعفن.

وكلام الله: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وكذا كلام نبيه الخاتم: (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى)، ليس حجّةٌ على العرب فقط، بل هو حجة على جميع القوميات والأعراق، سامية كانت أو آرية، جرمانية أو فارسية، قوقازية أو سلافية، ومن لايترك هذه العصبية الجاهلية؛ فليس من أمة محمد، كما قال ذلك بلسانه: (ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية).

ولايقتصر نهي القرآن والرسول وأئمة آل البيت، على الأعراق والقوميات فقط، بل ينطبق على القبائل والعشائر والأسر أيضاً، لأن كثيراً منها يعيش حالة العصبية الجاهلية؛ إذ يتناصر بعض أبنائها على الباطل، ويتعاونون على العدوان، حتى في زماننا هذا، الذي شاعت فيه وسائل التوعية؛ فحين سئل الرسول عن العصبية قال: (أن تعين قومك على الظلم).

هذه العصبية الجاهلية التي نهى عنها القرآن ورسول الله بشدة، أعادها آل أمية الى الحياة؛ فكانوا يحتقرون كل القوميات الأخرى التي فتح العرب بلدانها، سواء القوميات العراقية أو الإيرانية أو الأمازيغية أو التركية أو المصرية، وحوّلوا العرب من دعاة دينيين فاتحين، الى مقاتلين من أجل استعباد الشعوب الأخرى وازدرائها ومصادرة مقدراتها، وهو ما كان يرفضه أئمة آل البيت بشدة، بل استعان آل أمية ببعض الوضّاعين والرواة، لوضع أحاديث مكذوبة عن الرسول، لشرعنة ايديولوجيتهم القومية واستعبادهم الشعوب الأُخرى.

وبعد مضي قرون على ضعف العصبية القومية، بفعل الاندماج القومي الذي حصل في العصر العباسي، ثم في الدول الفاطمية والبويهية والأيوبية والسلجوقية والمملوكية والبويهية؛ عادت العصبية القومية بثوب جديد، متأثرة بالأفكار الأوربية القومية، وخاصة النازية والشوفينية التي دوّنها الفلاسفة الألمان، أمثال "يوهان فيخته" و"فان دن بروك" و"مارتن هايدغر" و"أوسفالد شبنغلر"، وتحولت من عصبية قومية جاهلية الى ايديولوجية وعقيدة جديدة أكثر خطورة من العصبية التي طبّقها آل أمية، إذ أن الايديولوجية القومية الجديدة تتعارض مع بديهيات التعاليم الإسلامية والفطرة الإنسانية، وكان أبطالها مفكرون وساسة علمانيون متغربون، أمثال الشاه رضا خان وأحمد كسروي وحكمي زاده في إيران، واتاتورك وضياء كوك الب ويوسف آقجورا في تركيا، وساطع الحصري وميشيل عفلق وجمال عبد الناصر في البلدان العربية.

وقد بذل هؤلاء المفكرون والساسة محاولات بائسة فاشلة للتنظير لقاعدة عدم تعارض ايديولوجياتهم القومية مع الإسلام، وسبب هذا الفشل هو أن الإسلام حسم هذا الموضوع حسماً نهائياً بعشرات النصوص والأدلة الدينية والإنسانية التي تؤكد عدم وجود أية أفضلية بين الأعراق والقوميات، وبأن نصرة المسلم لقومه على الباطل هو تعصب جاهلي يتعارض مع تعاليم الإسلام، وأن معيار الانحياز والوحدة والنصرة هو الدين وليس اللغة والقومية.

بيد أن الإسلام لم يتنكر لفطرة الإنسان في الاعتزاز بحسبه ونسبه، وفي محبة قومه وعشيرته، كما يقول الإمام السجاد: (ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم)، أي أن هذا الاعتزاز والحب ينبغي أن لايتحول الى عقيدة ودين وايديولوجيا، تعطي الحق للإنسان بأن يعد نفسه صاحب العرق الأفضل والقومية الأسمى والعشيرة الأهم، وأن يبني كياناً ايديولوجياً معياره الوحدة القومية وليس وحدة الدين. وبالتالي؛ فإن الإسلام وضع معياراً واضحاً للنصرة والانحياز، هو معيار الدين فقط، وليس الأحساب والأنساب.

***

د. علي المؤمن

هل فشلت الفلسفة المعاصرة في حماية الإنسانيّة من الحروب المدمّرة؟ ماذا جرى لفلاسفة عصرنا؟ هل تخلّوا عن رسالتهم الإنسانيّة الساميّة؟ أم إن الفلسفة قد تحوّلت إلى أداة إيديولوجيّة منحرفة؟

 غريب - حقا - ما يحدث في عصرنا، خاصة في القرنين الأخيرين. لقد خاض الإنسان فتوحات علميّة جبّارة، وخطا خطوات عملاقة في عالم التكنولوجيا والرقمنة، حتى أصبح كوكبنا الأرضي شبيها بقرية صغيرة في ظلّ العولمة. لكن بالمقابل، خسر الكثير من المباديء الأخلاقية، وتجرّد من الروح الإنسانيّة، ومن الرحمة والرأفة بنفسها. طغى على عقله التفكير الفلسفي المادي، المجرّد من الروحانيات المهذّبة، وتسيّدت مشاهد العنف الدموي.

 ما يحدث من حروب داميّة وقذرة، كالحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، والحروب الأهليّة في سوريا واليمن وليبيا ومناطق الساحل الإفريقي، وغيرها، دليل دامغ على فشل الفلسفة المعاصرة في كبح جماح الشرّ في الإنسان المعاصر. وهاهو الإنسان المعاصر(المتحضّر) في الغرب والشرق، ينفق المال والجهد والوقت، ويسرف في استهلاك ثروات الأرض، من أجل إنتاج السلاح التقليدي والنووي والبيولوجي والكيماوي، دونما تعقّل وبصيرة.

 وكأنّ هذا الإنسان المعاصر، لم بتعلّم من حوادث التاريخ القديم والحديث ما يغنيه عن صنع وسائل الدمار. ولم يستوعب الدروس القاسيّة، ولم يتعظ من الكوارث الماضية التي أصابت البشريّة في مقتل، رعونة الإنسان وتهوّره.

 ولو قرأ الإنسان المعاصر تاريخ البشريّة، بتمعن وتأمّل، لأدرك حجم الخطر الذي يتهدّده جرّاء هذه الفلسفة المعاصرة المبشّرة بعصر حضاريّ مرقمن، على حدّ زعم العلماء والباحثين في مخابر الموت.

 وكان من واجب الفكر الفلسفي المعاصر، أن يعيد للإنسان فطرته وإنسانيّته ورسالته. ويخرجه من دوائر الصراع الدموي، ومربعات الكراهيّة والتنابز السياسي والثقافي المفضي إلى الدمار النفسي والمادي. وكان لا بد من التطهّر من الأفكار المميتة، التي حملتها لنا فلسفة القرون الوسطى، والقرون النهضة الصناعيّة اللاحقة.

 ما هو الهدف من كل هذه الأسلحة التقليدية والنووية المدمّرة للبشر والطبيعة؟ أهناك عدو خارجيّ يهدّد كوكبنا. كلا، إنّ العدو الحقيقي هو الإنسان نفسه. هو عدو ذاته، هو المعتدي والضحيّة معا.

 لقد أهدر الإنسان المعاصر آلاف الساعات من عمر البشريّة، وهو يبحث عن وسائل القتل والدمار، وخوض الحروب تلو الحروب. وفشلت المنظمات الدوليّة، السياسيّة والحقوقيّة في منع اندلاع الاقتتال بين الإنسان وأخيه الإنسان. ومن نتائج تلك الفلسفة الساديّة، وقع الإنسان في المحظور.

 فقد قتلت قنابل النابالم الحارقة، وقنابل الغازات السامة، وقنبلتا هيروشيما وناكازاكي ملايين المدنيين الأبرياء ؛ من أطفال ونساء وشيوخ، دونما ذنب اقترفوه، ودمّرت الحجر والشجر، وشوّهت الطبيعة، وأجهضت التطوّر الحياة الآمنة في أحضانها.

 لماذا فشلت الفلسفة المعاصرة في زرع الأفكار السلميّة الهادئة، وترشيد عقل الإنسان المعاصر وتهذيب سلوكه تجاه أخيه الإنسان، وتربيّته على المباديء الأخلاقيّة الساميّة، التي تحرّم العنف والقتل والسلب والنهب، وتجرّم العبوديّة والغزو والإرهاب، مهما كانت الدوافع والغايات.

 وأنتجت المدارس الفلسفية الغربيّة والشرقيّة، الماديّة والمثاليّة، على حدّ سواء، إنسانا إيديولوجيّ التفكير والسلوك والغاية. استولت عليه التصرّفات البراغماتيّة الضيّقة. وأمسى السلم العالمي في دوامة الخطر المحدق بالإنسان من كل الجهات. وها هو الإنسان المعاصر، في الشرق والغرب والشمال والجنوب، يعيش في كوابيس القلق والهلع، وتحت مسطرة التهديد والوعيد. ولعل أخطر ما يهدّد السلم العالمي، والوجود البشري والحيواني، هو التسابق لانتاج السلاح النووي والبيولوجي والكيماوي امتلاكه، واتخاذه كوسيلة للتهديد والردع والوعيد. والأغرب، بل والأبشع، هو سعي بعض الدول المصنّفة في خانة دول العالم الثالث أو الرابع إلى اقتحام المجال النووي، على حساب شعوبها المضطهدة، سياسيا واقتصاديا وثقافيا. إنّه لأمر عجيب، أن نجد بعض الأنظمة السياسية المفلسة فلسفيّا وإيديولوجيا، تنفق أموالا طائلة في شراء الأسلحة المتنوّعة، وتكديسها، بينا أغلب مواطنيها يعيشون تحت خط الفقر، ويعانون من نقص حاد في المدارس، وتخلّف صارخ في النظام التعليمي، وغياب ملحوظ في المرافق الصحيّة العامة والخاصة، ويعانون، أيضا، من أزمات خانقة، كالبطالة والسكن والعنوسة والأمن الغذائي وتدهور الطرقات والمسالك وغيرها.

 إنّه لمن واجبنا التذكير، أنّ المواطن العادي، في دول الجنوب، يفتقد يعاني من سوء التغذية، ويفتقد الدواء عند الحاجة، وهو معرّض للكوارث الطبيعيّة دون إعذار أو إنذار، مثل الفيضانات والحرائق. بينا المسؤول السياسي، قد استحوذ على الامتيازات كلّها، فقد يمارس سلوكا رأسماليا متوحشا ؛ فهو يعالج في أحسن المستشفيات في أوروبا، ويقتني أشهى المأكولات وأغلاها، وصاحب أجرة عالية وامتيازات اجتماعيّة، كما يقترف جرائم النهب والسلب والسرقة والاختلاس والرشوة، ولا يخشى من سلطة القانون، وسيف العدالة، لأنّ هذه الأخيرة مغمضة العينين عنه. 

ولم ينج من الهوس الإيديولوجي الرأسماليّون الجدد، ولا الشيوعيّون الذي ورثوا الفكر الماركسي، وانتحلوا ثورة البلاشفة بقيادة الزعيم البلشفي لينين، ومن بعده قائد الثورة الصينيّة ماو سي تونغ، ولا زعيم كوبا فيدال كاسترو، وزعيم يوغسلافيا الاشتراكية، تيتو، وغيرها من الأنظمة المولعة بالفكر الشيوعي، وبالنموذج الاشتراكي في إفريقيا وأسيا وأمريكا اللاتينيّة، والمنضويّة تحت تكتّلات سياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة، مثل دول عدم الانحياز وحلف وارسو. لقد كانت أهداف الفلسفة الاشتراكيّة ذات طابع اجتماعيّ بحت، ومن أجل كبح جماح تغوّل الرأسماليين وتحقيق العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الأراضي الزراعية على من يخدمها، رغم الانهيار الذي حدث على يد ميخائيل غورباتشوف، آخر بلشفي عنيد، كما وصفه رئيس الولايات المتحدة الأمريكيّة، وسقوط جدار برلين عام 1989 م، ثم انقسام الاتحاد السوفييتي إلى جمهوريات مستقلّة، ثم تفكّك المعسكر الاشتراكي.

 أمّا المعسكر الغربي الرأسمالي، الذي شُيّد مستندا على أفكار زعماء الفكر الرأسمالي، كجون لوك وتورغو وآدم سميث ودافيد هيوم ودافيد ريكاردو وغيرهم، فقد قادته الفلسفة الغربيّة، وأغرقته في التوحّش السياسي والاقتصادي والعسكري من خلال تطبيق نظامي الكارتل والترست. ونتج عن ذلك التطرّف الرأسمالي صراع طبقي مؤلم، وحروب دموية، لا تكاد تنتهي، أهلكت النسل والحرث. وعرضت أمما وشعوبا إلى الفناء. أمّا آخر الحيّل الرأسماليّة المبتدعة – من أجل الاستيلاء على ثروات شعوب الجنوب - فهي ظهور الفكر العولمي، والتبشير بنظام تقوده قاطرة العولمة السياسيّة والثقافيّة والاقتصادية بفكر غربيّ أحاديّ متوحّش.

 إذن، لنتفق أو لا نتفق، فإنّ الفلسفة المعاصرة، لم تبن للإنسان المعاصر مجتمعا آمنا، تسوده الأخوة والعدالة والحريّة، ولم تحقّق له السلم الاجتماعي والاقتصادي المتّفق عليه في العقد الاجتماعي. ومن هذا المنطلق، لا بد من إعادة النظر في النظام العالمي الجديد، وإصلاح المنظّمات الحاليّة، بدءا بمنظمة الأمم المتّحدة، وجميع فروعها الأمنيّة والحقوقيّة.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

في قصيد له بعنوان أخاف المطر، يقول الشاعر العراقي مهند الشهرباني*

"أخبـرْني ايها السكران بالخوف..

لماذا تكتب على الحيطان عن النصر..

وانت تمتهن الهزيمة؟!"

الحياة نجاحات وإخفاقات..نهزم حينا وننتصر حينا آخر.

 لا يأتي انتصارنا من عدم كما اخفاقنا. صحيح أننا أحيانا نفعل كل ما يلزم ونخطط كما ينبغي لننجح في الحياة لكن قد تأتينيا الرياح بما لا تشتهي سفننا..وصحيح أننا في بعض الأوقات لا نبذل الجهد المطلوب ولكن يلعب الحظ لصالحنا فنحقق من النجاح أكثر مما كنا نصبو إليه..لكن لا يحصل هذا إلا استثناء.

مثلما هو مهم أن نحتفي بانصاراتنا فإنه كذلك من المهم حين ننهزم أن ننظر إلى هذا المآل بكامل وعينا..ألا نصاب في مقتل إن سارت الأمور إلى غير ما نأمل.. أن لا نخبو مهما كان المصاب جللا.

من الناس من لا يقبل الخسارة فيندفع هاربا إلى منطقة توفر له الشعور بالراحة. هذا الهروب مرده الخوف من مواجهة الألم المتأتي من النتائج غير المرغوبة.

يلجأ كل من لا يقدر على هذه المواجهة إلى استعمال ما يسمى  بميكانيزمات الدفاع.

"سيغموند فرويد" كان أول من قدم مفهوم ميكانيزمات الدفاع وأضاف عليها كثيرون من خلال أبحاثهم، أبرزهم ابنته «آنا فرويد».

شرحت "آنا" الاتجاه الجديد الذي أسّسته في التحليل النفسي في كتابها "الأنا والميكانيزمات الدفاعية"

 أكدت "آنا" على دور الأنا في الحياة النفسية وفي العلاج النفسي التحليلي، وأكدت أن التحليل النفسي لايمكن أن يصدق عليه اسمه إلا إذا بحث في "الأنا". هي ترى أن تحليل الميكانيزمات اللاشعورية التي يلجأ إليها الأنا يمكن أن تطلعنا على التحولات التي طرأت على الغرائز عند المريض. ويتلخص دور المحلل النفسي حسب رأيها في إزعاج الأنا باستثارة المكبوت وتدمير ماقام به الأنا من أساليب توافقية مَرضية ولكنها من وجهة نظر الأنا تمثل أنساقاً دفاعية.

من بين هذه الميكانيزمات يوجد ما اتفق على توصيفه بالإنكار.

في علم نفس السلوك البشري، الإنكار هو اختيار الشخص لإنكار الواقع كوسيلة لتجنب الحقيقة غير المريحة من الناحية النفسية.

قد يستعمل الإنكار  لكتم المشاعر الإيجابية كالفرح خاصة عندما يتهيأ للشخص أن التعبير عن هذه المشاعر هو بمثابة التعبير عن الضعف.

 أحيانا يكون الشعور بالإيجابية بمثابة تهديد للذات التي تعودت على كبت مشاعرها وعدم التعبير عنها.

ولكن الذي يهمنا هنا هو كيف يمكّن الانكار من تجنب  كل عاطفة سلبية؟

إن تقبل كل حقيقة غير مريحة أو مؤلمة أو غير متوافقة مع ما نتوقعه يعني أنه علينا أن نضع أنفسنا في مواجهة معها وهو ليس بالأمر الهين من الناحية النفسية.

عندما تخرج الأمور عن السيطرة  ويكون موقفا ما صعبا من حيث قدرتنا على الإقرار به وبدل إنكار الواقع، علينا أن نزعج أنفسنا ونستثير ما نكبته في داخلنا.

أن نتمكن من التعامل مع ما يزعجنا بكل ما يحدثه فينا من ألم يعني ألا نغدو ممن في ظاهرهم أقوياء ولكنهم من الداخل مهزومون، مكبوتون.

يقول علماء النفس ان الخبرات الشعورية المكبوتة لاتقتصر على الدوافع المتضاربة التي يتعذر حلها وانما هي أيضا الشعور العاطفي الناجم عن الفشل في تحقيقها سواء كان هذا على شكل الم او غيظ او خوف او قلق.

اطلق علماء النفس تسمية  "العقدة النفسية" على المشاعر المكبوتة و كل ما يتصل بها من عواطف مفرحة او مؤلمة.

إن  كبت العقدة النفسية يعني ابعادها عن حيز الوعي الى اللاشعور وهذا لايعني ان "العقدة" فقدت قوتها ونسيت عوامل نشأتها..هي  تظل كامنة مع الالم الناتج عن الفشل وتظل حية، قوية، فعالة تحت ستار ظاهري من الهدوء.

 هذا ما يحدث اثراً عميقاً في النفس وخصوصاً في الشخصية وتنعكس مظاهر الكبت بشكل واضح في السلوك وعلى طبيعة التعامل مع الآخر.

ما أحوج الإنسان وهو يبحث عن توازنه، إلى التخلص من خوفه..إلى النجاة من عقده ..

ما أحوجه إلى أن  يصدح بما يكبته في نفسه ولا ينكره..أن يقاوم حتى وهو في أوج هزائمه.

***

درصاف بندحر – تونس

.................

الهوامش:

* مهند الشهرباني: أديب وقاص وشاعر عراقي من أبرز ما كتب وهو منفي عن وطنه مجموعته الشعرية" وطن على بعد امرأة".

 

الحداثة كلمة شغلت الناس وملأت الدنيا عبر زمن طويل. أبتدأت تتضح ملامح الحداثة منذ القرن السادس عشر الميلادي، أقول ملامحها ولا أقول جذورها، لأن جذورها تمتد الى زمن أطول من ذلك بكثير والذي سنتطرق لها في هذا البحث.

الحداثة أو العصرنة مصطلح يعني التجديد والتحديث لما هو قديم، وهو بالحقيقة رؤية جديدة لعالم جديد على أعقاب عالم قديم. هو أداة معرفية تعمل على تغير شامل للحياة، وتغطي كل المستويات والأبعاد الحياتية. فهي حداثة علم، وسياسة، وأقتصاد، وفن، ودين، أنه أنقلاب في طريقة الحياة والتفكير والرؤى. أن الحداثة جاءت كرد فعل قام به الأوربيون أزاء ما مر بهم من أنحطاط فكري وأجتماعي وعلمي وثقافي، وحتى ديني، هذا الأنحطاط أُطلق عليه ما يُسمى بالفترة المظلمة (العصور الوسطى). موضوعنا لا يتناول شرح الحداثة والخوض بتفاصيلها ومدارسها، فهذا ليس هو الهدف من كتابة الموضوع، فهناك دراسات كثيرة جداً يمكن للقاريء الركون أليها والسير في دروبها، ولكن يمكنني الأشارة الى ما أختصره من معنى جامع مانع لها الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط عبر عنها باختصار شديد بالأنوار، وهي (الأنوار أن يخرج الأنسان من حالة الوصاية التي تتمثل في أستخدام فكره، دون توجيه من غيره.. بمعنى أن العقل يجب أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل)، أي العقل المتحرر من كل شيء، وهو الحاكم على كل شيء.

مفهوم الحداثة كغيرة من المفاهيم له بواكير ومقدمات ساهمت بظهوره والتي شخصها الباحثون من القرن السادس عشر الميلادي أمتداداً الى خمسينات القرن العشرين، لأن ما بعد الخمسينات ظهر لنا مفهوم أنقلابي على الحداثة نفسها، وقد سُمي بما بعد الحداثة.

أن عصر الحداثة من أكثر العصور التي مرت بأوربا تميزاً، وذلك لما أحدثه فيها من تغير وأنقلاب في كل جوانب حياتها. هذا التميز هو من أفرد للحداثة عصراً يندرج ضمن العصور التي مرت بها أوربا عبر تاريخها، وهنا من الضروي التطرق الى تقسيم الأوربيون لتاريخهم الى:

1-العصر اليوناني والروماني القديم، والذي يمتد ما بين القرن الخامس قبل الميلاد الى القرن الرابع –الخامس بعد الميلاد.

2-العصور الوسطى، وهو العصر الذي يمتد مابين القرن الخامس بعد الميلاد الى القرن الخامس عشر الميلادي.

3-عصر الحداثة، وهو العصر الذي يمتد من القرن السادس عشر الميلادي الى منتصف القرن العشرين.

ولشيء من التوضيح للقاريء الكريم خاصة لمن لم يكن لديه أطلاع سابق لمفهوم الحداثة، نوجز هنا بعض السمات الرئيسية للحداثة ليكون القاريء على بينه من طبيعة الفكر الحداثي ومعرفة أنعكاساته على أوربا وكل من يتبناه من الشعوب الأخرى، وهذه السمات تتلخص بالأتي؛

1- المادية: وهو أن عالمنا هو عالم مادي محض، ولا يوجد لغير المادة، والتي تحكمها قوانين ثابتة يمكن التعرف عليها.

2- الحرية (الديمقراطية): وهي تتلخص بحرية الأنسان فيما يعتقد، ولا مكان للسلطة الأقطاعية والحكومية والدينية على الفرد فيما يعتقد ويتخذ من سلوك في حياته الخاصة، وأن الحكم ينشأ من أرادة الناس.

3- العلمانية: وهو مبدأ أو منهج فكري يقوم على فصل الحكومة ومؤسساتها والسلطة السياسية عن السلطة الدينية، وبعبارة أخرى أنه منهج فكري يرى التفاعل البشري مع الحياة يجب أن يقوم على أساس دنيوي لا روحاني.

5-الأنسانوية: وهو أعتقاد بالأنسان أنه محور هذا الوجود، والأيمان بقدراته، وهو القيمة العليا في هذا الوجود، وهو المعيار الوحيد لكل شيء.

من الضروري والمفيد الأشارة الى الأسباب والمقدمات التي مهدت لولادة الحداثة الأوربية : لاشك ولا ريب أن السلوك الكنسي البغيض، وما لعبته الكنيسة من دور تلاعبت فيه بمقدرات الشعوب الأوربية، وما أثارته من حروب راح ضحيتها الآلاف المؤلفة من البشر لأسباب واهية، وما قامت فيه الكنيسة من سيطرة وأستغلال للحياة الأقتصادية لهذه الشعوب بالتحالف مع الأقطاع، وما قامت من دور في أسناد السلطات الحاكمة المتمثلة بأباطرة الدول الأوربية المشهورين بالظلم والأستبداد لشعوبهم. كذلك هناك عامل لا يقل أهمية عن الأسباب المذكورة، الا وهو محاربتها للعلم والعلماء، وذلك من خلال أقامة محاكم تفتيش لهم وأصدار أحكام على بعضهم بالأعدام، لا لسبب الا لأنهم جاءوا بنظريات علمية لا تقرها الكنيسة، وما محاكمة العلامة الأيطالي غاليلوا بالأعدام، ألا لأنه قال بكروية الأرض، وهذه نظرية لا تتفق مع ما تذهب اليه الكنيسة بأن الأرض مسطحة. كما أن علماء ومفكري وأحرار أوربا ضاقوا ذرعاً من خزعبلات الكنيسة وآراءها التي تتعارض مع العقل، وما بيع صكوك الغفران الا واحدة منها،كما أن فساد رجال الكنيسة على الصعيد المالي والأخلاقي ما أزكم الأنوف وأشمئزت منها النفوس. كل ما ذكرناه أعلاه والتي لم تعد تمثل كل الأسباب ولكن من أكثرها شهرة، ساهمت وبشكل أساس في جعل الكثير من مثقفي وعلماء ومفكري أوربا تقطع الصلة مع الكنيسة، وأستبدال معاييرها التي فرضتها لمئات من السنين، أدخلت خلالها أوربا في عصر الظلمات والتي أطلق عليها الأوربيون بالعصور الوسطى، عصرالقمع والتجهيل، مولين وجوههم صوب العلم والعقلنة والحرية، وقد دعوا الى أبعاد اللاهوت المسيحي واليهودي عن شؤون حياتهم و والأتجاه صوب النزعة الأنسانوية، وهنا لابد من الأشارة الى أهم هؤلاء المفكرين الحداثويين، الذين قادوا هذا الأنقلاب الفكري، وخاصة الأوائل منهم، الذين مهدوا لها، وساهموا بأقامة صرحها :

مارتن لوثر (1483-1546م) كان من أوائل من رفع راية الأصلاح الديني، ونيكولاي ميكيافيلي (1469-1527م) كمنظر سياسي أعتمد على فكرة الفردانية، وكوبرنيكوس (1473-1543م) كعالم فلكي وطبيعي الذي أنهى فكرة مركزية الأرض التي تعتمدها الكنيسة، وقال بمركزية الشمس بدل ذلك، ويعتبر هذا تحدي خطير أتجاه الكنيسة وتعاليمها التي كان لا أحد يجرأ على معارضتها، وهناك الكثير كذلك من أمثال الفنان والعالم الموسوعي ليوناردو دافنشي (1452-1519م) وفرنسيس بيكون (1561-1626م) والفيلسوف الفرنسي رينية ديكارت (1596-1650م)، وهو من كبار المساهمين بالحداثة الفلسفية، ومن رواد الحداثة أيضاً لايبنتز (1646-1716م) الذي أسس لمبدأ العقلانية، وهو صاحب مقولة (بأن لكل شيء سبب معقول) بالأضافة الى أساطين الحداثة من أمثال باروخ سبينوزا الهولندي (1632-1677م) وجون لوك الأنكليزي (1632-1704م)، وهناك في الجانب الحداثي القانوني المفكر الفرنسي مونتسيكيو (1689-1755م)، صاحب كتاب (روح القوانين)، وهو من أهم الكتب التي ساهمت في بناء الفكر الحداثي في مسألة الحقوق ومناهضة الحكم المطلق، كما لايمكن نسيان الفيلسوف الساخر فرانسوا فولتير (1694-1778م) عبر نضاله ضد النظام الكنسي والأنظمة الملكية المستبدة، أما جان جاك روسو السويسري (1712-1778م)، مؤلف كتاب (العقد الأجتماعي)، فهو رائد الحداثة الأوربية، وصاحب النظريات التربوية والأخلاقية،كما أن المفكرين والفلاسفة الألمان أبلو بلاء حسن في مساهماتهم الحداثية ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، عمانوئيل كانط (1724-1804م) وفردريك هيجل (1770-1831م)، ونيتشة (1844-1900م) وفيورباخ (1804-1872م) وماركس (1818-1883م).

هذه مقدمة ضرورية وأن كانت مقتضبة عن الحداثة، والتي سنتطرق الى جذورها الأولى في الحلقة القادمة، ونتتبع مسارها الفكري منذ عصر السرديات الأسطورية الأغريقية والرومانية الى منظريها المتأخرين. يتبع...

***

أياد الزهيري

 

 

بما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بمفرده لذا فهو بحاجة ماسة لأشخاص حوله ليتشارك معهم في العديد من الأمور والجوانب المهمة في الحياة، لهذا علينا أن نسعى وبشكلٍ دائم للبحث عن علاقات اجتماعية مبنية على قواعد مهمة وأساسية لتكون ناجحة وإيجابية. تنحصر تلك القواعد، بما يلي:

1. الانطباع الأول: عندما نتعرف على أشخاص جدد في حياتنا يجب علينا أن نتعامل معهم بلطف وأن نبدأ الحديث معهم بسؤالهم عن أخبارهم ومحاولة التودد إليهم بشكل لطيف ومهذب. أي إعطاء انطباع جيد عن أنفسنا (الانطباعات الأولى تدوم)، لأن ذهن الإنسان يستدعي دائماً بصورة طبيعة جميع الأشياء التي يراها أو يتعلمها لأول مرة بطريقة أفضل جداً عما يراه أو يتعلمه بعد ذلك. وإليك بعض الأفكار المفيدة التي تساعدك على ترك الانطباع الأول طيباً عند الآخرين:

أ‌- تأكد من إيجابية لغة الجسد، فقف برباطة جأش وثقة ويقظة وصافح الآخرين بحرارة، وعندما تقول لهم كلمة ترحيب انظر في عيونهم، وأظهر لهم البشاشة.

ب‌- احرص في أثناء الحديث على التواصل بعينك بشكل مناسب فذلك يشير إلى اهتمامك بهم ويجعلهم يعتقدون تلقائياً أنك مهم بالنسبة لهم.

ت‌- تصرف بثقة وإيجابية، حتى وإن لم تكن تستشعرهما، فعند تصرفك كما لو كنت هادئاً وواثقاً فإنك تجعل الطرف الآخر أكثر هدوءاً، ومن ثم تزداد ثقتك قي نفسك.

ث‌- ارتدي ما يعجب الآخرين، فمن البديهي أن تظهر بمظهر لائق عند إجراء مقابلة عمل، ولكنك قد تضطر أحياناً إلى طرح بعض الأسئلة لتظهر في المظهر المناسب.

2. الاهتمام: من الضروري جداً أن نولي كل الاهتمام للشخص الذي نتحدث معه، وأن نبتعد عن كل الأمور التي من الممكن أن تشغلنا عنه.

3. اللباقة: تُعرّف اللباقة بأنها حسن التصرف بين الناس، أو تقدير جيد لما يناسب قوله وفعله، أو ما يجب تجنبه في العلاقات البشرية ببراعة للحصول على المبتغى. فلكي ننجح في الحصول على علاقات اجتماعية متينة ودائمة مدى الحياة علينا أن ننتبه إلى كل الألفاظ والكلمات التي نستخدمها أثناء الحديث أو الحوار مع الآخرين، وأن نحرص على اختيار كلمات تتناسب مع طبيعة الشخص الذي نتحدث معه، على أن تكون خالية تماماً من التجريح أو التقليل من الاحترام وقيمة الشخص الذي نتحدث إليه. خلاصة القول: إن الهدف من وراء أي حوار إقامة علاقة مع من نتحاور معه وتبادل الأفكار والمعلومات، لذا يجب علينا إشعاره بأننا نهتم به ونُكن له كل الاحترام والتقدير.

4. الابتسامة: يُنظر إلى الأشخاص الذين يبتسمون على أنهم محبوبون أكثر من أولئك الذين لا يبتسمون، فيكون من السهل بناء علاقات اجتماعية معهم والحفاظ عليها، فضلاً عن نجاحهم في الحياة المهنية. فعندما تبتسم يعاملك الناس بطريقة مختلفة، فالابتسامة تجعلك تبدو أكثر صدقاً وموثوقية وجاذبية على الفور. علاوةً على هذا، قد تكون الابتسامة طريقة طبيعية أيضاً لجعلك تبدو أصغر سناً وأكثر شباباً، بدلاً من عمليات التجميل.

إن ابتسامتك لا تُحسِّن مِزاجك فقط، بل يمكنها أيضاً تحسين مِزاج الآخرين ورفع معنوياتهم، حيث ثبت علمياً أن الابتسامة مُعدية. فرؤية ابتسامة الآخرين تحفز الابتسامة لدينا، وجزء الدماغ المسؤول عن تحكمنا في التعابير الوجهية المرتبطة بالابتسام هو منطقة استجابة تلقائية غير واعية، بمعنى أن الابتسام قد يحدث دون وعينا. بذلك تلعب الابتسامة اللطيفة دوراً فعالاً في تعزيز علاقة الإنسان الاجتماعية وتقويتها، لهذا علينا أن نحرص على رسم ابتسامة لطيفة أثناء الحديث مع أي شخص كان، وأن نبتعد عن التجهم، وذلك لكي يشعر بالألفة والطمأنينة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة .... ).

5. الجدِّيَّة: يجب على الإنسان عدم المبالغة في المزاح وبشكل خاص في الأوقات الجدية والتي لا تحتمل المزاح، وذلك لكي لا تفقد قيمتك ولكي لا يشعر الطرف الآخر بأنك شخص مستهتر وغير جدير بالثقة.

6. الابتعاد عن حديث الأنا: من الأفضل أن لا نتحدث عن أنفسنا وعن إنجازاتنا، وبشكل مبالغ أمام الآخرين، وبشكل خاص أمام الأشخاص الجدد الذين نتعرف عليهم لأول مرة، وذلك لكي لا يشعروا بالملل.

7. التواضع: لننجح في تكوين علاقات اجتماعية مثمرة وناجحة علينا أن نتعامل مع الناس بكل لطف وتواضع، بعيداً عن أشكال الغرور والتعالي، وذلك لأن الشخص المتكبر هو شخص مرفوض من قِبل كل الناس.

8. مساعدة الآخرين: لتكون شخصاً اجتماعياً ولتحافظ على علاقاتك الاجتماعية الكثيرة والبناءة عليك أن تعمل على مساعدة الآخرين، وتقديم يد العون لهم عندما يحتاجون إليك، كما عليك أن تسعى وبكل جهد للدفاع عن الأشخاص المظلومين والوقوف معهم لتحقيق غايتهم ورد الظلم عنهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة).

9. الالتزام بالمواعيد: لتكسب العديد من العلاقات الاجتماعية عليك الالتزام بمواعيدك وألا تتأخر عن أي موعد أو لقاء مهم، وذلك لأن عدم الانتظام بالمواعيد يدل على أنك شخص مستهتر.

10. المشاركة في المناسبات: عليك أن تحرص على حضور المناسبات واللقاءات الاجتماعية، وأن تحرص على تبادل الهدايا البسيطة والرمزية التي تساعد على تعزيز عملية التواصل الإيجابي بين أفراد المجتمع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تَهادَوا تحابُّوا).

11. امتلاك مهارات الذكاء الاجتماعي: يُعرّف الذكاء الاجتماعي بأنه قدرة الشخص على فهم بيئته تماماً والتصرف بشكل ملائم لسلوك ناجح اجتماعياً. بدون الذكاء الاجتماعي يتعب الإنسان غاية التعب، ويفقد ثقته في نفسه وفي الناس. فالذكاء الاجتماعي يتطلب العمل والصبر والمجاملة. ويتمثل هذا الذكاء في إمكانية الفرد على التخلص والتملص من المواقف الحياتية المحرجة وفي إمكانية الشخص على إقناع من حوله والتكيف معهم وفي التخطيط للوصول إلى أهداف الفرد الذاتية. " لذا ينبغي على الأذكياء اجتماعياً استخدام كل طاقتهم البدنية والعقلية للتواصل مع الآخرين وقراءة أفكارهم، وينبغي عليهم اكتساب التوجهات التي تشجع الآخرين على الرقي والإبداع والتواصل والمساندة، كما ينبغي عليهم معرفة كيفية تكوين الصداقات والعلاقات الاجتماعية والحفاظ عليها ".

ويتميز الشخص ذو الذكاء الاجتماعي بما يلي:

-  سرعة تكوين الصداقات الجديدة.

 - مشاركة الآخرين والتفاعل معهم ومساعدتهم.

-  سرعة التكيف مع الأوساط والبيئات المختلفة.

 - لديه ميول قيادية عالية.

-  ملاحظة الفروق بين الأفراد ومعرفة أنماط شخصياتهم.

خلاصة القول، لا شك أن العلاقات الاجتماعية الناجحة تزيد من سعادة الفرد وتقلل من الإجهاد والتوتر والصراع في حياته الشخصية والاجتماعية، بالإضافة إلى حياته المهنية، وتحتاج عملية بناء العلاقات الاجتماعية الناجحة إلى مجموعة من القواعد والمهارات والسلوكيات المتأصلة في عملية التواصل والتفاعل مع الآخرين قد تزيد أو تنقص عما ذكره سابقاً. المهم في الأمر، أن تكون إيجابياً، واعياً، لديك قراءة واضحة لمفاتيح الشخصية التي تتعامل معها، لأن بناء العلاقات الاجتماعية هو قبل كل شيء فن وموهبة تتراكم لدى الفرد خلال عملية التنشئة الاجتماعية المستمرة، جاء العلم لكي يحللها ويفسرها لمعرفة بنيتها ويبين آلية عملها وتمظهرها على أرض الواقع الاجتماعي.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

 

كل أحزاب الإسلام السياسي تنتج بالضرورة سلطة طائفية قمعية لأن الإسلام السياسي لا يمكن أن يسعى أو يقدم أي نوع من أنواع الديمقراطية وتداول السلطة في المجتمع هذه قضية عُرفت بالتجربة قبل النظرية.

فطبيعة الإسلام السياسي هي طبيعة متطرفة وإقصائية وأحادية يؤمن بها أتباعها كمهمة تأريخية مقدسة ومن يخالفها أو يختلف معها كافر ضال.

إذ لا يقبل الإسلام السياسي التعايش مع الآخر المختلف وينفي استقلالية الفرد ويقدس العنف.

وهذا ما يجعله يتماهى مع العنف السياسي والقمع المادي. حيث تفضي سلطته بالضرورة إلى الدولة العسكرية والدولة البوليسية  الاستخباراتية من أنظمة الاستبداد القائمة على العنف والارهاب المادي كالسجن والتعذيب والاعدام.

والارهاب المعنوي كإلغاء التعددية والتنوع وثقافة التسامح.

وبذلك يصنعون دولة الخوف للقضاء على كل حقيقة لا تتلائم مع رؤاهم وكل حقيقة تظهر عندما يختفي الخوف.

في الدولة العلمانية السؤال في الدين يمكن أن يتحول مع الحرية الفكرية التي توفرها إلى سؤال عن الدين نفسه وعلاقته بالسياسة. السؤال المقبول والمسموح فيه في  الدولة الدينية هو سؤال استكمال (المطلوب شرعياً) حيث لا سؤال خارج هذا المطلب فلا سؤال عن الممنوع ولا سؤال عن حيثيات المقدس حتى يستكمل إطار الديكتاتورية الدينية حدوده. أما السؤال الذي يحفز العقل على الشك والنقد والبحث فهو مرفوض من حيث المبدأ بسبب إنطواء السؤال على مجالات لا يمكن للدين أن يوافق عليها ويدخل في خانة الكفر والضلال.

على العكس في الدولة العلمانية حرية الرأي والاعتقاد تعد الحجر الأساس حيث يكون القانون الإنساني هو الضامن للحياد والديمقراطية والحريات فلا يوجد حرية رأي مقيدة أو تابوهات دينية مقدسة أو رموز سياسية فوق النقد والمسائلة.

ولا تتوقف العلمانية عند مبدأها الأول فصل الدين عن الدولة بل هي تفعيل مستمر  لعقلنة الذهن الديني وتقديم رؤية عقلية تاريخية إنسانية للعالم. فالعلمانية موقف نقدي موجه إلى العقل البشري لمنع تغول المسلمات اللاهوتية والاستذهان الديني المبني على الأسطورة ومنهجها الخرافي. وهذا هو السبيل الوحيد للتحرر والحربة

لأن الحرية في الدولة العلمانية حق طبيعي وليس قانوني فقط فكل ما يجب أن يمارسه القانون في الدولة هو تنظيم ممارسة الحريات العامة والخاصة بشكل لا يجعلها تضر أو تتعدى على حريات الآخرين.

الفرد في الدولة الدينية يستمد ثقافته من الوعي الجمعي السائد خوفاً من التفكير خارج الصندوق ولهذا فهو يعيد انتاج نفس ثقافته الرثة في كل مرة بشكل دائري كما يدور حمار المطحنة.

وبهذا تجرد الثقافة من مضامين الوطنية والمواطنة بعد أن تم حصرها في مجرد التغاير الطائفي ثم التناحر والتقاتل. ولأن المجتمع- كواقع حركي لا كفكرة مجردة- يحتاج إلى أفراد وأفراد من نوع خاص كما تقتضي الأيديولوجيا الطائفية فقد تم شطب هذا الفرد المواطن بواسطة أنظمة لا تعيش إلا على الاستبداد الطائفي.

فلم ينظر للثقافة باعتبارها "إسمنت التلاحم الاجتماعي" (بتعبير غرامشي) حتى لا يتم الطمع في اعتبارها مصدر تغيير وتبدل في أنساق التفكير والإدراك.

وكانت الحصيلة الثقيلة بعد محو الفرد المواطن وبعد تجريف "المجال" الذي من خلاله تظهر السياسة كضرورة لإشاعة ثقافة التعايش إشاعوا "ثقافة الخوف" والخوف كالعنف يوجع الإنسان ويشوه عقله ويتسبب له في اختلالات نفسية لا تنمحي.

لقد تم الحط من قيمة الثقافة الوطنية وهذا يؤكد أن هناك خوف مؤكد منها ومن شيوعها لذلك لا مجال للهوية الثقافية والتعددية الثقافية وثقافة المشاركة والحقوق الثقافية للأقليات. وإذا ما حصل من اهتمام بالتعددية ففي الغالب في إطار من تلازم الثقافة الطائفية والأيديولوجيا. ويتحدد هذا التلازم  من خلال طرائق الإيحاء بالتمويه أو التحريف أو الإخفاء ومن خلال فكرة تضارب المجتمع بدلا من توافقه وتكون الدولة الطائفية هنا هي المنتج الوحيد للإيديولوجيا. ومن ثم استبداديتها واختراقها للمجتمع بدافع تثبيت الوضع من منظور غلبة التقليد على التجديد والخضوع بدل الحرية. والرسالة هنا واضحة وصريحة في ظل هذه الغطرسة وهي: أن لا يخطئ أحد في تقدير الأمور  أي يقف بالضد من هيمنة الأيديولوجيا الطائفية. فهي السند الثقافي للتسلطية. فلا مكان لـ"أهل الثقافة" ولا مكان للنخبة ولو الساكتة. المكان هو حصرا للمثقف الطائفي التابع الذي يقوم بدور "الترجمان" ودور "المبلغ بالنتائج وهو المثقف نفسه الذي يتصرف إذا اقتضت الضرورة كعضو في الميليشيا المسلحة  تكريسا للإستبداد خلال الأزمات.

الخلاصة:

لسان حال المستبدين يقول: يجب أن نبقيك خائفا لكي نبقي عقلك مشلولا عاجزا عن التفكير عاجزا عن النقد وبالتالي عاجزا عن التحرر.

***

سليم جواد الفهد

 

لا أبالغ إذا قلت: ما مرَّ عامٌ مِن التَّاريخ بلا قتل لسبب دينيّ، وإنْ تداخلت الأسباب، يبقى الدينيّ الأقوى في التبرير، فأغلب المقتولين قضوا بفتوى فقيه أو بمحضر فقهاء. لكنَّ مِن أين أتت الإجازةُ في تشريع القتل، واعتبرها صكاً مقدساً؟! وفق ما يدعون إنَّ مصدر الفتوى هو الله بتوقيع المفتي، لأنَّه يُعدُّ وكيلاً مِن الله في الشَّأن الدِّينيّ والدُّنيويّ، مع أنَّ آيات تنفي الوكالة والسَّيطرة: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» (الغاشية: 22) و«وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ» (الشُّورى: 6).

غير أنَّ الرَّادَ على الوكلاء المفترضين يصبح راداً على الله، حتَّى قال ابن عساكر (ت: 571هج)، دفاعاً عن أبي الحسن الأشعريّ (ت: 324هج): «إنَّ لُحُوم الْعلمَاء، رَحْمَة اللَّه عَلَيْهِم، مَسْمُومَةٌ، وعادةُ اللهِ في هتك أستار منتقصيهم معلومةٌ» (تبيين كذب المفتري). وجاء عنهم «العُلَماءَ ورَثةُ الأنبياءِ» (الصَّنعاني، سُبل الإسلام، الخميني، الحكومة الإسلاميَّة). كان هذا الحديث مبرراً لولاية الفقيه المُطلقة. ترجمه أحد فقهاء الزَّيديّة نظماً، ليُشاع ويسلم النَّاس به، قال ابن الوزير (ت: 840هج): «العلِمُ ميراثُ النّبي كذا أتى/في النّصِّ والعُلماء هم ورّاثُه» (الرَّوض الباسم).

اعتبر ابن قيم الجوزيَّة (ت: 751هج) الفتوى توقيعاً عن الله، فعنوان كتابه «أعلام الموقعين عن ربِّ العالمين»، ولا يُفهم منها إلا الولاية بالنِّيابة: «وإذا كان منصب التَّوقيع عن الملوكِ بالمحل الذي لا يُنكر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو مِن أعلى المراتب السَّنيات، فكيف بمنصب التَّوقيع عن ربِّ الأرضِ والسَّماء» (أعلام الموقعين).

عند الشّيعة الفتوى مِن قِبل الموقعين عن الله أيضاً، ولكنَّ بإخراجٍ مختلفٍ، والمقصد واحد. يُنسب إلى جعفر الصَّادق (ت: 148هج)، قوله بالاختيار مِن أهل العِلم، للتحاكم وأخذ الفتوى: «... إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً مِن قضائنا، فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه» (الكُليني، كتاب الكافي). ومثلما قيل في الفكرِ السُّنيّ لُحُوم الْعلمَاء مَسْمُومَة، فكذلك في الفكر الشِّيعيّ تعتبر فتوى الفقيه إلهيَّة: «... فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه، فإنما بحُكم الله قد استخف، وعلينا ردَّ، والرَّاد علينا رادٌ على الله، وهو حدُّ الشُّرك بالله» (الكليني، نفسه).

يكون في الفتيا عند الشيعة «المجتهد الجامع الشَّرائط، وهو ليس مرجعاً للفتيا فقط، بل له الولاية العامة، فيُرجع إليه في الحُكم والفصل والقضاء، وذلك مِن مختصاته، لا يجوز لأحد أنْ يتولاها دونه إلا بإذنه، كما لا تجوز إقامة الحدودِ، والتَّعزيرات إلا بإذنه... وهذه المنزلة أو الرَّئاسة العامة أعطاها الإمام عليه السَّلام (المنتظر) للمجتهد الجامع للشرائط، ليكون نائباً عنه في الغيبة، ولذلك يُسمَّى نائب الإمام» (المُظفر، عقائد الإماميَّة).

بهذا يصبح نائب الإمام مُوقعاً عن الإمام الغائب، والإمام بدوره يكون موقعاً عن الله، لذا نجد في أمر حقّ الفتوى توقيع عن الله. عند السُّنة الفتوى نيابة عن الله مباشرةً، وعند الشِّيعة يكون التَّوقيع بوساطة الإمام. نقول: للمذاهب، على اختلافها، احترامها وتوقيرها في التَّعبد، لكنَّ في المعاملة والسِّياسة وما يتعلق بالدِّماء، مِن الحقّ الاستجارة بكتاب القرآن فليس فيه عقوبةُ قتلٍ إلا في القصاص، ولُحقت بتحبيذ العفو! نقول هذا لأنّ الفقهاء لهم توقيعاتهم بالقتل نيابة عن الله، مِن الّذين كتبوا محضراً بقتل شهاب الدِّين السَّهروَرديّ (587هج)، إلى المفتين بقتل الآلاف مِن المخالفين سياسياً (العراق 1963)، ومن فتاوى قاضي داعش الشَّرعيّ تركي البنعليّ، إلى فتاوى مفتي الميليشيات الولائية محمد كاظم الحائريّ (دليل المجاهد)، كل هؤلاء يدعون التَّوقيع عن ربِّ العالمين، وهم وكلاؤه وورثة نبيه!

***

د. رشيد الخيّون -  كاتب عراقي

«نجم الثاقب خان» اسم معروف في حقل اقتصاديات الدول النامية. وهو ينتمي إلى تيار صغير من الباحثين الذين اختاروا منهجاً مغايراً لنظرية التنمية الكلاسيكية، السائدة في الأكاديميات وقطاع الأعمال.

يركز هذا التيار على فهم العوامل التي أعاقت التنمية في العالم الثالث، رغم توافر العوامل المصنفة كمقدمات ضرورية للنجاح. بين الأسماء الأخرى ضمن هذا التيار، نعرف مثلاً امارتيا سن، الفيلسوف والاقتصادي الهندي الذي حاز جائزة نوبل، والمفكر البيروفي هيرناندو دي سوتو، الذي بات واحداً من أكثر الكتاب الاقتصاديين تأثيراً في السنوات الأخيرة.

يشترك العلماء الثلاثة في دعوى محورية، خلاصتها أن الموارد المادية التي تركز عليها نظرية التنمية الكلاسيكية، متوافرة في كل بلد تقريباً. لكن المتغير المهم هو تعريف هذه الموارد، ثم موضعتها في المكان الصحيح، إضافة - بالطبع – إلى العلاقة الصحيحة بينها وبين البشر، الذين يشكّلون أداة التنمية وهدفها. وهم يرون أن هذا المتغير متصل بالثقافة العامة السائدة في المجتمع، ما إذا كانت ثقافة محفزة للنهضة أو معيقاً.

في كتابه الشهير «سر رأس المال: لماذا تنتصر الرأسمالية في الغرب وتفشل في كل مكان آخر؟»، شرح دي سوتو أبرز الأسباب التي تفسر إخفاق النموذج الرأسمالي في البلدان النامية. ولإيضاح الأرضية المادية لرؤيته، قدّم مراجعة لحالة الملكية الفردية في خمس دول، بينها الفلبين وبيرو؛ كي يبرهن على استنتاجه المحوري، وهو أن معظم السكان في هذه البلدان وأمثالها، لديهم حيازات عقارية، لكنهم لا يملكونها بشكل قانوني؛ ولهذا فإن استثمارها على المدى البعيد غير آمن، كما أنهم – في غالب الأحيان – لا يستطيعون توريثها. وبالتالي، فإن أبناءهم لا يعملون معهم ولا يسعون لتطوير هذه الملكية. أما السبب، فيعود في رأيه إلى الثقافة البائسة التي لا تثق في الفرد ولا تسهل عليه امتلاك ما يقوم بإحيائه. وجد دي سوتو، أن الدولة - في البلدان التي درسها - تنظر لنفسها كمالك خاص، لا كموزع للثروة العامة ومشرف على إحياء الميت منها. ومن هنا، فإن الحيازات الفردية غير المثبتة قانونياً، لا تمسى أساساً لاستثمار طويل الأمد، كما أن البنوك لا تقبلها ضماناً للتمويل الضروري للاستثمار، إنها – وفق تعبير دي سوتو – رأسمال ميت. رأس المال الميت لا يساهم في نهضة اقتصادية. وإذا توافرت أموال سائلة فسوف تذهب لقنوات الربح السريع وليس للزراعة أو الصناعة أو الحرف اليدوية.

يقول نجم الثاقب خان، في سياق استعراضه لكتاب دي سوتو، إن المال ليس قليل الأهمية، ولا يمكن للثقافة أن تكون بديلاً مطلقاً عنه، هذا وجه للقصة. أما الوجه الآخر، فهو أن المال ليس حلاً مطلقاً ونهائياً لمشكلة التخلف والفقر. ثمة حاجة إلى الربط بين الموارد المادية وبين الإنسان الذي يستعملها. وهذا الرابط ثقافي. المجتمعات التي تنظر للأفراد كقوة إنتاج رئيسية وموثوقة، ستميل إلى تسهيل تملك الأراضي، باعتبارها مصدراً لصناعة الثروة. المجتمعات الفاشلة هي تلك التي تسودها ثقافة تشجع التواكل، أو تسمح بتضخم الذات وترفض التعلم من الآخر المختلف.

ثم يستنتج بأن من خطل الرأي أن نسعى لتكرار التجارب الفاشلة، التي اختبرتها مجتمعات أخرى قبلنا، أو إغفال الدروس الواضحة لتلك التجارب. وأولها توهم أن مقاومة التغيير سوف تنجح، أو أنها ستعود علينا بأي فائدة. كما لن نستفيد أبداً من تلبس دور الضحية، والانشغال بالبحث عن مؤامرات الأقوياء، إضافة إلى توهم العثور على دواء بسيط يشفي كل الأمراض. الصحيح هو أن نبدأ بما عندنا، وأن نتجنب تكرار التجارب الفاشلة، ثم إن الرهان المطلق ينبغي أن يكون على بناء الإنسان المنتج المتفائل، الإنسان الواثق من المستقبل.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

سواء صدّقنا أو لم نصدّق كان البشر دومًا يتحدّثون عن القلق منذ أيام الفيلسوف سينيكا في فجر العصر المسيحي. لم يكن هذا المصطلح مستعملا ولم يكن هناك عِلمٌ نفسيّ كما هو موجود الآن. ومع ذلك كان الفلاسفة في ذلك الوقت مهتمّين أيضًا بالتفكير في سلوك البشر، لذلك رسموا بعض الخطوط الأساسية حول أفضل طريقة للعيش.

عاش الفيلسوف سينيكا في فترة صعبة للغاية. كان عضوًا في مجلس شيوخ الجمهورية في الإمبراطورية الرومانية في زمن التآمر والانحلال. عرف سينيكا حكومات تيبير وكاليجولا وكلوديوس ونيرو. بل وكان أيضًا معلّمًا ومستشارًا لهذا الأخير، وبلا شك واحدًامن أسوأ ذكرياته.

بالإضافة إلى ذلك كان سينيكا أحد الممثلين الرئيسيين للمدرسة الفلسفية للرواقيين. كان أعضاء هذا التيار مهتمين بشكل خاص بالتأمل في الأخلاق والعادات. لم يكن من المنطق كثيرًا القيام بذلك لأن ذلك العصر تميز بتدهور أخلاقي هائل، مما أدى في النهاية إلى تقويض الإمبراطورية.

"هناك القَدر والحتمية والصدفة، وما لا يمكن التنبؤ به، ومن ناحية أخرى هناك ما هو محدّد سلفًا. لذلك، مع وجود الصدفة والقَدر لا نملاك إلا أن نتفلسف "  - سينيكا.

سينيكا والرواقيون

وُلدت الرواقية في اليونان على يد الفيلسوف زينون دي سيتيو. حقّق هذا الاتجاه شعبية كبيرة وكان للعديد من مبادئه تأثير على المسيحية الناشئة. لقد دافع الرواقيون قبل كل شيء عن أسلوب حياة يتسم بالاعتدال. قالوا "لا شيء يُرضي مَن كان الكثيرُ عنده قليلا".

لقد عالجوا عددًا لا نهائيًا من الموضوعات، لكنهم استحوذوا على اهتمام معاصريهم في ما يتصل بالمشكلات الأخلاقية. لقد روّجوا لفكرة أنه يمكننا تحقيق السلام الداخلي إذا كنا نعيش على هامش وسائل الراحة المادية المفرطة. لقد أكدوا أن الحياة المعقولة المعتدلة مع الفضيلة هي الحياة السعيدة.

لقد رفض الرواقيون فكرة أنّ ينجرف الإنسان بعيدًا خلف أهوائه. كانوا يرون الأهواء كمصدر للإنحطاط والمعاناة. دعا الرواقيون إلى ضبط النفس، لأنهم اعتقدوا أنّ البشر يمكن أن يعيشوا وفقًا للعقل والمنطق. قالوا أيضًا إنه لا يوجد شيء جيد أو سيء في حد ذاته، وأنّ كل شيء يصبح ضارًا عندما نفرط في استهلاكه.

ماذا قال سينيكا عن القلق

كان سينيكا، بصفته رواقيًا جيدًا يسعى إلى عيش حياة فاضلة. لقد كان رجلاً ذكيًا جدًا، وكان دائمًا ما يعتبره معاصروه عقلًا متميزًا. عمله الرئيسي بعنوان رسالة إلى لوسيليو Lucilio. كَتبه عندما غادر نيرون وبدأ يتعرض للاضطهاد من قبله.

رأى هذا الفيلسوف العظيم، وفقًا للتقرير الذي نشره موقع nospensees أنّ الكثير من الناس يعيشون غارقين في حالة من الاضطراب النفسي. وهذا ما نسميه اليوم "القلق". لقد قال في هذا الموضوع: "إنّ ما أنصحكم به هو أن لا تحزنوا (تقلقوا) قبل حدوث الأزمة، لأنّ الأخطار التي تخشونها وتلقي الرعب في قلوبكم قد لا تصيبكم أبدًا، وهي بالتأكيد لم تظهر بعد ".

وهكذا تناول سينيكا في عصره ما أقرّته تياراتٌ معيّنة في علم النفس لاحقًا: القلق هو هذا الشعور بتوقّع الأسوأ، من دون أن يكون هذا الأسوأ قد حدث. بعبارة أخرى إنه تصوّر ذاتي يقودنا إلى توقّع الشر. ويدفعنا إلى أن نعيش وفق شيء سيء لم يتجلَّ بعد.

ما يمكننا تعلّمه من سينيكا

أضاف سينيكا ما يلي إلى التأمل السابق: "نحن معتادون على المبالغة أو التخيّل أو توقع الألم". بعبارة أخرى، نبدأ في المعاناة قبل أن يكون لدينا سبب لذلك. الحقيقة البسيطة المتمثلة في توقّع الألم تجذب لنا ظلّ الألم السيئ وإيحاءاته السلبية، على الرغم من أنّ هذه الظل القاتم لم يطفُ بعد، أو ربما لن يظهر أبدًا.

هكذا حال القلق. حالة من الترقب الذي ينتظر، وهو يتألم أن تكتمل المعاناة. طريقة "الشعور بالمرض مسبقًا قبل الأوان". نتطلع إلى الأمام ونتخيّل الأسوأ. القلقون يخشون السرقة، حتى لو لم يحاول أحد ذلك. ويعتقدون أنّ زلزالا يمكن أن يتسبب في انهيار منازلهم في أي لحظة. أو أنّ الحبيب، عاجلاً أم آجلاً، سيتخلى عنهم.

نحن نعلم أننا غالبًا ما ننجح مسبقًا في تجسيد ما تعتقده أذهاننا (نبوءة تحقّق ذاتها). لا يوجد سبب لحدوث ذلك، لكن سلوكنا وعوائقنا هي التي تعطي هذا الاتجاه للأحداث في النهاية. وعندما يحدث هذا نعتقد أنه تأكيدٌ لِما كنا نعتقده منذ البداية وليس نتيجة لنهجنا الخاطئ.

فلنتخيل، على سبيل المثال، أننا نحمل انطباعات ذاتية غير إيجابية عن شخص ما. عندما نلتقي به ليس غريبًا أننا لن نكون لا قريبين جدًا منه ولا وَدُودِين جدًا . لذلك سيعاملنا هذا الشخص في النهاية بنفس الطريقة التي عاملناه بها. وهكذا فإننا نؤكد شكوكنا، بينما بالتحديد نكون من أكدّ هذه الإنطباعات المسبقة السلبية.

كما يقترح سينيكا ربما يجب علينا أن نعيش ببساطة بدلاً من أن نُعدّ أنفسنا للعيش طوال الوقت. علينا أن نترك الأمور تسير. وأن ندع الأحداث تتدفق. أن نكون في الحاضر وألا نعيش بحسب ما يمكن أن يحدث بعد ذلك.

خلاصة القول أن سينيكا حاول توجيه العالم نحو السعي الروحي حتى تكون البشرية في وئام مع بيئتها اليومية.

***

مدني قصري

العبودية الحديثة هي اليوم تحدٍ متزايد للمنظمات الحقوقية، ومن بين أخطر انتهاكات حقوق الإنسان المعاصر. فرغم أن العبودية قد ألغيت منذ عدة أجيال، وإعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي يحظر الرق وتجارة الرقيق بكافة أشكالها، ما زال يعيش اليوم 50 مليون شخص في أشكال مختلفة من الإكراه والعبودية الحديثة ـ حسب تقرير نشرته منظمة العمل الدولية في نهاية عام 2022.

يُظهر إدراج العبودية الحديثة في التقارير الدولية، أن العمل على مكافحة العبودية الحديثة لم يعد يُنظر إليه على أنه ظاهرة معزولة ونتيجة للنشاط الإجرامي فحسب، بل يجب اعتباره قضية تنمية أيضاً. تساهم مكافحة العبودية الحديثة في ضمان عدم استبعاد الأشخاص الأكثر ضعفًا في العالم من التنمية.

وصف المشكلة المعقدة للرق الحديث

لا يوجد اتفاق عالمي على تعريف العبودية الحديثة اليوم، ولكن في السنوات الأخيرة حدث تطور في هذا المجال. واليوم تُفهم "العبودية الحديثة" على أنها مصطلح شامل يشير إلى حالات مختلفة يتعرض فيها الناس لاستغلال جسيم، حيث يتم التحكم بهم من خلال إساءة استخدام السلطة والتهديد والعنف، ولا يتمتعون بحرية مغادرة وضعهم.

تتعدد أشكال العبودية المعاصرة، وتشمل العمل الجبري وأعمال السخرة والإكراه على العمل بالديون، والاتجار بالبشر عبر استخدام العنف، أو التهديد، أو الإكراه، لنقل أو تجنيد أو إيواء الأشخاص من أجل استغلالهم لأغراض مثل الدعارة القسرية، أو العمل، أو الإجرام، أو الزواج، أو نزع الأعضاء، وعمل الأطفال، والزواج القسري والمبكر، والاستغلال الجنسي. جميعها أشكال مختلفة من الاستغلال المدرجة في هذا المصطلح غير القانوني.

تشكل اتفاقية الرق لعام 1926، واتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 29 بشأن العمل الجبري لعام 1930، واتفاقية إلغاء الرق وتجارة الرقيق والمؤسسات والممارسات الشبيهة بالرق لعام 1956، واتفاقيات منظمة العمل الدولية بشأن العمل الجبري، وبروتوكولات الاتجار بالبشر، يشكلون أساس العمل ضد العبودية الحديثة. إن اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 29 بشأن العمل الجبري لعام 1930 هي واحدة من الاتفاقيات الأساسية لمنظمة العمل الدولية، وقد تم التصديق عليها من قبل 178 دولة. واتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 182 بشأن حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال واتخاذ تدابير فورية لإلغائها عام 2000، إضافة إلى البروتوكول الملحق بهذه الاتفاقية والتي تم التوقيع عليه عام 2014. جميع هذه الاتفاقيات على صلة وثيقة بالوضع الحالي للعبودية.

مدى انتشار العبودية الحديثة

وفقًا للتقديرات العالمية للعبودية الحديثة لعام 2022 ، يعيش أكثر من 50 مليون شخص في حالة من العبودية الحديثة. ومن بين هؤلاء هناك 25 مليوناً في الأشغال الشاقة و15 مليوناً في الزواج القسري. وبسبب الطبيعة غير القانونية والخفية للرق، من الصعب تحديد مدى انتشار العبودية الفعلية، لكننا نعلم أن أشكال العبودية الحديثة موجودة في كل بلد في العالم، وضمن نطاق واسع من أنواع مختلفة من الصناعات وبعضها أكثر ضعفًا من البعض الآخر. لذلك تعتبر هذه التقديرات متحفظة، لأن الواقع الحقيقي أسوأ خاصة في الدول الآسيوية والأفريقية ودول أمريكا الجنوبية.

واحد من كل أربعة ضحايا للعبودية الحديثة هو طفل. تتعرض النساء والفتيات للخطر بشكل غير متناسب ويشكلن أكثر من 70% من الضحايا، مع تعرضهن للخطر بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالعمل الجبري في صناعة الجنس التجاري. حوالي 18 مليون شخص هم ضحايا العمل الجبري في سلاسل التوريد التابعة للقطاع الخاص، بينما يوجد 6 ملايين شخص في العمل القسري الحكومي. ولا تزال العبودية الوراثية موجودة في بعض البلدان على الرغم من أنها غير قانونية، كما هو الحال في موريتانيا، ومالي، والسودان، والنيجر.

العبودية الحديثة هي واحدة من أكثر أشكال الجريمة ربحية من الناحية الاقتصادية، ووفقاً لمنظمة العمل الدولية، يدر العمل الجبري ما يقدر بنحو 170 مليار دولار من الأرباح غير المشروعة سنويًا. من ناحية أخرى، تعتبر العبودية مكلفة للعديد من البلدان حيث إن عدداً كبيراً من الناس غير مدمجين في المجتمع والاقتصاد الوطني.

أين يوجد الرق الحديث

العبودية الحديثة موجودة في كل مكان في العالم، والفقر هو المحرك الرئيسي. ومع ذلك، لا يوجد مؤشرات مؤكدة تربط بين أفقر البلدان والبلدان التي ينتشر فيها الرق. وفقاً لمؤشر العبودية العالمي، فإن آسيا هي المنطقة ذات الانتشار المطلق الأكبر للعبودية الحديثة، بينما في القارة الأفريقية نجد أعلى نسبة العبيد بين السكان.

يشير تحليل أجراه مؤشر العبودية العالمي لعام 2021 على الدول العشر ذات الانتشار الأكبر للرق الحديث وهي "كوريا الشمالية، وإريتريا، وبوروندي، وجمهورية إفريقيا الوسطى، وأفغانستان، وموريتانيا، وجنوب السودان، وباكستان، وكمبوديا، وإيران" إلى وجود صلة بين العبودية الحديثة ومحركين: الأنظمة القمعية والصراع. تُظهر البيانات الواردة في مؤشر العبودية العالمي أن العديد من البلدان ذات الانتشار الأكبر للرق الحديث هي أيضاً تلك التي سجلت أكثر من 90% في قياسات الضعف العالمية. وهذا يدل على وجود صلة واضحة بين العبودية الحديثة وغيرها من عوامل الضعف والمخاطر في بلد ما.

تشهد بعض البلدان الآسيوية حالياً طفرة اقتصادية قد تزيد من أخطار العمل الجبري في قطاعات معينة، لا سيما في صناعة البناء وتطوير البنية التحتية. لكن التغيرات الاقتصادية الأخرى يمكن أن تؤثر أيضاً على جغرافية العبودية. على سبيل المثال، أدت تدفقات الهجرة المتزايدة إلى جنوب أوروبا وتركيا ولبنان إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يعيشون في أوضاع تشبه العبودية في هذه البلدان. من المحتمل أيضاً أن يتأثر الانتشار الجغرافي للعبودية الحديثة بتغير المناخ، والذي سيؤثر بشكل خاص على مناطق في آسيا والمحيط الهادئ التي لديها بالفعل أعلى معدل انتشار للرق الحديث.

ما هي القطاعات التي يتواجد بها الرق الحديث

يحدث الرق الحديث في العديد من القطاعات المختلفة. القطاعات التي تنطوي على أخطار عالية من العبودية هي صناعة البناء، وصناعة الاستخراج، صناعة التعدين، وصناعة النسيج، والزراعة، عمل الغابات، صيد الأسماك، وصناعة التنظيف، وصناعة الفنادق والمطاعم، والعمال المنزليين.

تشير التقارير إلى أن العمل الجبري والاتجار بالبشر يمثلان مشكلة خطيرة في قطاع صيد الأسماك. تم الكشف عن أن العديد من الصيادين هم عمال مهاجرون معرضون بشدة للاستغلال على متن سفن الصيد. غالبًا ما ترتبط العبودية الحديثة في هذا القطاع بأشكال أخرى من الجريمة، مثل الصيد غير القانوني والجرائم البيئية. تم إيلاء الكثير من الاهتمام للعبودية الحديثة في قطاع صيد الأسماك في البلدان الآسيوية، في حين أن هناك نقصاً في المعرفة والجهود المبذولة ضد العبودية الحديثة في هذا القطاع في البلدان الأفريقية.

من الصعب بشكل خاص مكافحة العبودية الحديثة في قطاع صيد الأسماك لأن معظم الأعمال التجارية عالمية وعابرة للحدود. أدت العولمة إلى قيام العديد من مشغلي الصيد بتسجيل السفن في سجلات دولية مفتوحة أو فيما يسمى بأعلام دول الملاءمة لتجنب المسؤولية الجنائية. حيث من المعتاد التعامل مع مشغلي الصيد العابرين للحدود حيث قد يكون للسفينة علم، وقد يكون الملاك من دولة أخرى والطاقم من بلد ثالث ورابع، بينما يقع القارب المشتبه في أنه يعمل بالسخرة في دولة خامسة.

يحدث هذا العمل الجبري أيضاً في القطاعات التي يوجد فيها طلب مرتفع على العمالة اليدوية والرخيصة، كما هو الحال في القطاع الزراعي. يعمل أكثر من مليار شخص في الزراعة في أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى. وهذا ينطبق على 60% من جميع العمال. يعتبر هذا القطاع ضعيف بسبب ـ من بين أمور أخرى ـ تغيرات الطقس، مما يعني أن الحاجة إلى العمالة لا يمكن التنبؤ بها. وهو أيضاً قطاع به العديد من التكاليف الثابتة المرتبطة بالأسمدة والنقل، حيث تمثل الأجور أحد التكاليف القليلة المرنة. هناك عدد من العوامل في سلاسل التوريد التي يمكن أن تخلق ضغط التكلفة أسفل السلسلة والتي تؤثر في النهاية على العمال الأكثر ضعفاً. اليوم يمثل الأطفال حوالي 70% من جميع العاملين في قطاع الزراعة.

العمل في الزراعة ، وهو أكثر انتشارًا في إفريقيا. حيث يعد الفقر في المناطق الزراعية، والهجرة، وانعدام فرص العمل البديلة، من دوافع العمل الجبري وعمالة الأطفال. يؤثر تغير المناخ والصراع في العديد من البلدان أيضاً على ظروف العمل في الزراعة.

يمكن استخدام السخرة في مراحل مختلفة من عملية الإنتاج. يمكن أن يحدث في إنتاج المواد الخام، أو في معالجة الأجزاء المستخرجة، أو في تصنيع المنتج نفسه وفي مرحلة التوزيع.

أظهر مسح أجراه الاتحاد الدولي لنقابات العمال (ITUC) أن 50 شركة كبيرة مختارة لديها 6% فقط من الموظفين المباشرين من إجمالي القوى العاملة لديها. هذا يعني أنهم يعتمدون على قوة عاملة خفية تبلغ 94%، أي ما يصل إلى 116 مليون شخص في سلاسل التوريد العالمية الخاصة بهم.

من المعروف على نطاق واسع أن خطر العمل الجبري مرتفع للغاية في القوى العاملة الخفية، وأن نسبة كبيرة من ضحايا العمل الجبري البالغ عددهم 27 مليوناً يتم توظيفهم بشكل غير مباشر في سلاسل التوريد للشركات متعددة الجنسيات. تنشر عدد من الدول الأوروبية، ووزارة العمل الأمريكية قائمة بالسلع المستوردة المصنوعة من العمالة القسرية وعمالة الأطفال. تحتوي القائمة على 139 عنصراً من 75 دولة. توجد أعلى نسبة من عمالة الأطفال والعمل القسري في القطن، والسكر، والبن، والأسماك، والمنسوجات، والأحذية، والطوب، واستخراج الذهب، والماس. السلع المكشوفة الأخرى هي الإلكترونيات (الهواتف المحمولة، وأجهزة الكمبيوتر) والأثاث، والمنتجات الجلدية.

مؤشرات العبودية الحديثة / مختلف أشكال الإكراه

هناك عدد من المؤشرات التي تشير إلى أن الشخص قد يكون في وضع قسري أو معرض لخطر أن يصبح كذلك. إذا حُرم العامل من جواز سفره، أو كان عليه دفع رسوم توظيف، أو مصاريف سفر، أو حصل على سلفة على الراتب تجعله بسببها مديوناً لوكيل أو صاحب عمل، أو يتم وضعه بظروف عمل مختلفة عما تستلزمه الوظيفة بالفعل، أو لا يتقاضى راتباً، أو يعمل أيام عمل طويلة للغاية، أو يتعرض للتهديد بالعنف أو يتعرض له، أو يتم استغلاله بسبب وضع ضعيف مرتبط بحالة الإقامة أو عدم فهم اللغة. كل هذه الظروف تشكل أخطار على الفرد، ومؤشر على وجود العبودية الحديثة.

الأشخاص الضعفاء

القاسم المشترك لجميع أشكال العبودية الحديثة هو الضعف. تتعلق العبودية الحديثة بعلاقات القوة بين الأفراد والجماعات الذين ليس لديهم سلطة. مثل العمال المهاجرين، واللاجئين، والطبقات الدنيا، والشابات، والنساء. هؤلاء هم الأكثر عرضة للانتهاك في أوضاع شبيهة بالرق الحديث.

إن المكانة المتدنية جزء لا يتجزأ من الأعراف الاجتماعية التي تضفي الشرعية على الاستغلال. ويبدو أن هناك علاقة واضحة بين التهميش وخطر العبودية الحديثة. يمكن أن يؤدي تدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية إلى زيادة الضعف، وبالتالي زيادة خطر تعرض الأفراد لأوضاع قسرية.

المهاجرون هم من بين أكثر العمال ضعفا في العالم. قد يتعرضون لخطر أشكال مختلفة من الإكراه فيما يتعلق بالتجنيد، أو أثناء مرحلة العبور، أو أثناء العمل في بلد الوصول. المهاجرون غير الشرعيين الذين ليس لديهم تصاريح إقامة وعمل في بلد الوصول معرضون بشكل خاص للاستغلال أكثر من سواهم، وفي العديد من البلدان لديهم حماية قانونية منخفضة أو معدومة.

تشكل النساء / الفتيات 71% من المستعبدين. تتعرض النساء والفتيات بشكل رئيسي لأشكال مختلفة من العبودية بسبب الأعراف المجتمعية المتجذرة والأدوار الأبوية للجنسين ونقص الفرص.

زواج الأطفال هو الزواج الذي يكون فيه أحد الطرفين على الأقل دون سن 18 عاماً وقت الزواج. الزواج القسري هو زواج لا تتاح فيه الفرصة لأحد الطرفين أو لكلاهما للموافقة بحرية على إبرام الزواج. يمكن أن يحدث الزواج بالإكراه بغض النظر عن العمر. يعتبر زواج الأطفال زواجاً قسرياً لأن الأطفال لم تتح لهم الفرصة للتعبير عن موافقتهم بحرية. ينتشر زواج الأطفال جغرافياً وعددياً. تقدر الأمم المتحدة أن 12 مليون فتاة يتزوجن سنوياً زواجاً قسرياً. تشير التقديرات إلى أن 150 مليون فتاة إضافية ستتعرضن لزواج الأطفال بحلول عام 2030 ما لم يتم تسريع جهود مكافحة زواج الأطفال. توجد أعلى معدلات زواج الأطفال في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث تتزوج فتاتان من كل خمس فتيات قبل بلوغهن سن 18.

أظهرت الدراسات الحديثة في بعض البلدان الآسيوية أن هناك خطراً متزايداً من الزواج القسري والاستعباد الجنسي في المجتمعات التي يوجد فيها اختلال مستمر في التوازن بين الجنسين وتزايد عدد الشباب الذكور، مما يؤدي إلى زيادة الطلب على النساء والفتيات، ويؤدي إلى الزواج المبكر أو الاستغلال الجنسي التجاري.

لقد تم استخدام النساء بشكل متزايد كعبيد في النزاعات المسلحة لتوليد الدخل، وممارسة الهيمنة الأيديولوجية على المعارضين، وفي حالات الزواج القسري للحث على تجنيد المقاتلين.

يشكل الأطفال 25% ممن يعيشون حالياً في ظل العبودية الحديثة. عمالة الأطفال كمساعدة منزلية منتشرة في العديد من البلدان، ويمكن اعتبارها في العديد من الحالات عمالة قسرية وأحد أسوأ أشكال عمل الأطفال.

 هؤلاء الأطفال هم من بين الأكثر ضعفا. نسبة كبيرة من الأطفال المعرضين لخطر أن ينتهي بهم الأمر في أشكال مختلفة من العبودية الحديثة لا يتم تسجيل مواليدهم.

تم الكشف عن أشكال جديدة من العبودية

على سبيل المثال، يمكن أن تكون "دور الأيتام" بوابة للعبودية لكل من الأيتام والأطفال الذين لديهم آباء. قد يتعرض الأطفال للاستغلال في هذه المؤسسات أو بيعهم من المؤسسات للاستغلال في حالات أخرى. أولئك الذين مروا بمثل هذه المؤسسات قد يكونون أكثر عرضة للعبودية في وقت لاحق من حياتهم.

إن ضحايا هذا النوع من العبودية يمكن أن يكونوا من أي عمر، أو جنس، أو جنسية، أو عرق. يجرى خداعهم، أو تهديدهم للعمل. وقد يشعرون بأنهم غير قادرين على ترك العمل، أو الإبلاغ عن الجريمة من خلال الخوف أو الترهيب. وقد لا يتعرفون على أنفسهم باعتبارهم ضحايا الرق الحديث.

تحيط العبودية الحديثة بنا في كل مكان، لكنها غالباً تكون بعيدة عن الأنظار، ويمكن أن يكون ضحاياها أولئك الذين يصنعون ملابسنا، أو يقدمون طعامنا، أو عمال النظافة، أو المربيات.

يمكن أن تبدو وظائف عادية من الخارج، لكن عمالها قد يكونوا خاضعين للسيطرة ويواجهون العنف أو التهديد، أو يُجبرون على تحمل ديون لا مفر منها أو يُسحب منهم جواز سفرهم ويتعرضون للتهديد بالترحيل.

***

حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

لقد عانى الإسلام طويلا من الإقصاء والتهميش وأدبيات الإستشراق قديما وحديثا دليل على ذلك، فهي عملت على تبخيس دوره الحضاري وعلى إخراجه من الفضاء المتوسطي وإلحاقه بديانات الشرق الأقصى متجاهلة حضوره القوي في إسبانيا وفي جنوب المتوسط صقلية. هذا الإستبعاد عمل البعض على "تأصيله" في مستوى العقيدة بنفي صلته باليهودية والمسيحية. فإلى حد الآن لا البحوث التيولوجية ولا تاريخ الأديان ولا فلسفة الدين إهتمت حقيقة بإدماج الإسلام في المصادر والأصول التاريخية وفي الآفاق الروحية التي يعلن القرآن بإلحاح ووضوح إنتماءه إليها كمسألة الميثاق l'Alliance وعلاقاته الوثيقة بالديانتين التوحيديتين.

1- مغالطات الإستشراق الجديد حول الإسلام:

إن الآراء والمواقف التي تعادي الإسلام وتعمل على إقصائه لا تزال تجد صداها في كتب العديد من المفكرين في الغرب، فالتصورات القروسطية تستمر في التحكم بأفكارهم ورؤاهم رغم ما بلغه الفكر المعاصر في الغرب من تطور ومن عقلانية لاسيما تلك المدارس التي تنظر للاختلاف والمغايرة. ورغم منجزها وخاصة تلك المدارس الفلسفية التي عادت إلى مسار الحداثة ونقدته وكشفت ما اعتراه من انحرافات، ما زالت هناك أصوات تدعو إلى التطرف وإلى الإقصاء وخطورة هذه الأفكار بل قل خطرها يكمن في أنها أصبحت تعتمد في صياغة استراتيجيات سياسية وضبط أهداف لأجندات دولية. يتحدث الفيلسوف البروتستانتي جاك إيلول Jacques Ellul قائلا: " إن المسلمين ليسوا سليلي إبراهيم لأن النبوة الحقيقية حكر على إسحاق فقط دون إسماعيل "(Jacques Ellul, L'Islam et le Judéo-christianisme ,ed PUF ,2004,p 75) . فحسب زعمه أن إسحاق هو من تلقى الميراث الإبراهيمي وهذا سعي لتكريس طلاق بائن بين الإسلام والحضارة اليهودية المسيحية وذلك حتى يحرم الإسلام من أن يكون وريثا شرعيا للمسيهودية التاريخية باعتماد قراءة للتوراة قائمة على نظام الاستبعاد والنفي ويذهب الفرنسي آلان بيزنسون Alain Besançon إلى أن: " الإسلام هو من الديانات الطبيعية ولا يمكن اعتباره من ديانات الوحي على الإطلاق" وذلك في كتابه " غوايات الكنيسة الثلاث، Trois tentations dans l'Eglise " وتهدف هذه الآراء إلى قطع الطريق أمام محاولات الكنيسة التقارب مع الإسلام في ما يعرف بجماعات" الحوار في فرنسا والتي ترى أن الإسلام يندرج ضمن التقليد الإبراهيمي كما تتمثله الكنيسة وأن القرآن هو بمثابة توراة ثانية أو كتاب مقدس ثان Deutro-bible وهو بالتالي مواصلة للكتاب المقدس المسيهودي.ه هذه الآراء يعتبرها بيزنسون زائفة ومضللة وتخفي جهلا بالإسلام وبأجندته العملية.(فوزي البدوي، من وجوه الخلاف والإختلاف في الإسلام، تونس دار المعرفة للنشر،ط1، 2006، صص 191- 192). لم يكتف الاستشراق الجديد بالتشكيك في معتقدات المسلمين فهناك شق آخر انصب اهتمامه على القرآن وهو توجه أطلق عليه، منذ خمسين سنة، في الأوساط الغربية أسم "الدراسات القرآنية " وحسب فراد دونر Fred Donner يبدو هذا المجال اليوم في حالة فوضى ( انظر فريد،م، دونر " القرآن في أحدث البحوث الأكاديمية، تحديات وأمنيات " ضمن رينالدز جبرائيل سعيد، القرآن في محيطه التاريخي،دار الجمل بيروت،2012، ص 59.) على الرغم من الاهتمام الواسع النطاق بالأسئلة عن أصل القرآن وتأويله، فإن دونر يرجع مؤاخذاته على الدراسات القرآنية إلى الأسباب التالية: أنه لا توجد نشرة نقدية للنص، ولا منفذ حر إلى كل الأدلة المفيدة عن المخطوطات، ولا تصور واضح للملامح الثقافية واللسانية للوسط الذي انبثق فيه ولا إجماع حول القضايا المنهجية الأساسية، علاوة على كمية مهمة من عدم الثقة بين الدارسين وعدم وجود تدريب مناسب لطلبة المستقبل حول القرآن على اللغات والآداب والتقاليد الثقافية غير العربية التي كانت – لا ريب – قد شكلت سياقه التاريخي. لم يبق لهذا المجال من بريق سوى الإثارة بحسب عبارة توفير Neurwirth نفسها وهي إثارة من نوع غير مسبوق فلم يعد القرآن مثيرا لأنه معجز أو فريد من نوعه بل صار مثيرا لأنه تحول، منذ سبعينات القرن الماضي، مع أعمال مؤرخين أطلق عليهم إسم المراجعيين révisionnistes السييىءالصيت، إلى نص مشكوك فيه شكلا (لغويا) ومضمونا (تاريخيا). هذه الإثارة الشكوكية صارت منذ ذلك الحين، حسب الأستاذ فتحي المسكيني انفعالا منهجيا إجباريا لدى الباحثين، وصرنا أمام انقسام رسمي، مكرس بين تيارين: تيار تقليدي وتيار " مراجعي "،فما تمت مراجعته على وجه التحديد ليس القرآن نفسه،بل طريقة التأريخ له .لأول مرة تصبح كتابة تاريخ نص ما أهم من دلالة ذلك النص. فهل يكفي أن نؤرخ للمصحف حتى نفهم القرآن؟ يذهب المسكيني في نقده للدراسات القرآنية بشقيها التقليدي والمراجعي إلى أن الكتب التوحيدية جميعا تعاني من الهشاشة الكونية نفسها، إنها تحتاج إلى تبرير ميتافيزيقي من نوع جديد متعلق بآداب العناية بالحياة على الأرض في القرون القليلة القادمة. لذلك تبدو الدراسات القرآنية عاجزة على تحقيق هذا الهدف فهي لن تساعدنا في بلورة علاقة فلسفية صحية أو حيوية، وليس فحسب هووية بالنصوص المقدسة، طالما هي منخرطة في نزعة مراجعية تحركها هرمنوطيقا بلا فن فهم، أو فيللوجيا ضغائنية ممتنعة سلفا عن تطوير أي وعود تأويلية موجبة مثل تلك المحاولات التي قام بها كريستوف لوكسمبورغ في كتابه،القراءة السريانية – الآرامية للقرآن، محاولة في فك شفرة لغة القرآن. ( لمزيد الاطلاع آنظر فتحي المسكيني، " الفلسفة والقرآن أو الإيمان في زمن المراجعيين " موقع مؤمنون بلا حدود، نشر في 05 نوفمبر 2018).

2- في بناء أرضية مشتركة للتفاهم: الإعتراف بالآخر وإستيعاب المختلف.

لقد هيأ القرآن الكريم الأرضية للإسلام ليكون الدين الخاتم القائم على تنسيب الحقيقة والإقرار بها لكل الأديان والمعتقدات وذلك من خلال تصديه لكل ادعاء بآحتكارها ولكل محاولات الاستحواذ على الإرث الإبراهيمي بغية اكتساب مشروعية يتم توظيفها للإقصاء والتهميش، لقد أعلن القرآن بوضوح لا لبس فيه أنه " لا إكراه في الد ين "(سورة البقرة، الآية 256) .إن تبني الإسلام لحرية المعتقد يعني الإقرار بإمكانية وجود لا دينيين أو ملحدين وهو ما يعبر عنه في التشريعات الحديثة ب" حرية الضمير" وهي تعني فيما تعنيه أيضاً التسليم بأن يكون الدين ظاهرة اجتماعية وثقافية وحضارية من بين ظواهر أخرى، عليه- أي الدين- أن يبحث عن صيغ للتعايش معها داخل المجتمع الواحد. هذا الوضع الجديد الذي يجد فيه الدين نفسه، عليه أن يفكر فيه بآليات جديدة. لقد فقد الدين أن يكون المحرك الوحيد للتاريخ وأن له وحده الحق في إضفاء المشروعية على المؤسسات التي يفرزها المجتمع.

إن الأديان في عالمنا المعاصر، عليها أن تكتفي بعرض عقايدها ورؤيتها للوجود وللإنسان على الناس كافة دون ادعاء بأفضليتها أو بأحقيتها دون غيرها في افتكاك الفضاء العمومي بل إن هذه الأفضلية والأحقية ينبغي أن يكتشفهما كل من أراد الالتحاق بهذا الدين أو ذاك عن اقتناع، عليها أن تمتنع عن الطعن في معتقدات الآخرين وقناعاتهم الفكرية والدينية أو أن تقلل من شأنها وأن لا تكره المختلفين عنها على الالتحاق بها. ينبغي أن نقر كل دين أو مذهب أو فكر على ما هو عليه، طالما أن معتنقيه قد ارتضوا به وأنهم قد وجدوا فيه من المعقولية والطمأنينة والسكينة التي اطمأنت لها قلوبهم وسكنت إليها نفوسهم وشعروا بها بالإمتلاء La plénitude على حد عبارة شارل تيلور Charles Taylor . كما أنه من حق الناس جميعا اختيار معتقدهم، كما لهم الحرية في تغييره شريطة أن يتم ذلك بآختيار نابع عن قناعة فردية ومن ضمير حر، غير خاضع لأي صنف من صنوف الإكراه ولا لأي نوع من الضغوط الاجتماعية أو السياسة أو الدينية أو الفكرية ليكون الفرد في النهاية هو ذاته التي وهبها الله له، ذات كما أرادها هو لنفسه حرة ومسؤولة.

إن انخراط الإسلام في مثل هذه الرؤى الرائدة والنجاح في ذلك يظل رهين مراجعة بعض التصورات والمفاهيم الموروثة عن العصور القديمة مثل الجزية وأهل الذمة والكتاب المهيمن...فالإنسانية كمفهوم كوني، أفق جديد يفتح أمام البشرية في الألفية الثالثة، يمكن للإسلام أن يلعب فيه دورا مهما بفضل ما يختزنه النص القرآني والأحاديث النبوية من معان إنسانية سامية يلتقي حولها الناس، إنها مبادىء تحترم الإنسان بما هو إنسان بقطع النظر عن عرقه ولونه وجنسه ودينه ولغته ويدافع عنها بما يمتلكه من جهاز تشريعي، تأكدا اليوم وجوب مراجعته على ضوء ما بلغه الوعي الإنساني من مراتب متقدمة وما بلغته المدونة الحقوقية في مستوى التشريعات والقوانين من تطور. إن الإسلام يمكن أن يكون قاطرة لحداثة مأزومة، خانت مباديها،فيصحح منجزها ويفتح لها آفاقا جديدة أكثر مصداقية في نزوعها الإنساني والكوني، فيكرس قيم العدل والمساواة والحرية والتضامن، وذلك بعد أن آستبعد لقرون من أن يلعب أي دور في الحضارة الحديثة وذلك لأسباب يطول شرحها.

***

رمضان بن رمضان

تسعى الدول التي تهتم بالعلوم وبرعاية علمائها وتحرص على سمعتها العلمية على إنشاء منظمة علمية عليا، تُسمى عادةً "أكاديمية العلوم" تكرس لنشر وتعزيز العلوم ومواكبة التطور في العالم. وفي حين أن هذه المنظمات قد لا تجري أبحاثا فعلية، إلا أنها توفر منتديات لوضع سياسات العلوم، وللنهوض بالبحوث العلمية، وتحفيز العلماء والباحثين، بالإضافة إلى تشجيع وتعزيز الدراسات في مجالات جديدة في العلوم والتكنولوجيا والانسانيات وفروع المعرفة الاخرى.

بما أن عضوية مثل هذه الاكاديمية لها أهمية قصوى وركيزة اساسية لعملها، فإن العلماء ذوي الجدارة العالية فقط، الذين قدموا مساهمات بارزة في النهوض بالمعرفة العلمية، ينتخبون كاعضاء فيها. وتعتبر الحكومة الاكاديمية العلمية (والتي يمكن تسميتها بالمجمع العلمي) مستودعا لأعلى المواهب العلمية المتاحة في الدولة ويتم دعمها واستشارتها بشكل عام في جميع الأمور المتعلقة بالتعليم والتربية والبحث والتطوير العلمي والتكنولوجي.

وظيفة الاكاديمية العلمية او المجمع العلمي

الأكاديمية او المجمع هو هيئة علمية عليا غير حكومية وغير سياسية يتكون من العلماء المتميزين في الدولة. تعتبر الحكومات المجمع مركز استشاري بشأن جميع المشاكل المتعلقة بتطوير الجهود العلمية والتربوية في البلاد، وبشكل عام بشأن المسائل ذات الأهمية الوطنية والدولية في مجال العلوم والتكنولوجيا. يتم تنظيم أجواء المجمع من خلال ميثاقه واللوائح التي يوافق عليها زملائه المنتخبون.

اهم وظيفة لاكاديمية العلوم هي رعاية جهود البحث العلمي لذا أرى أن المجمع العلمي العراقي الحالي هو المكان الاساسي لقيادة هذه الجهود. وهنا لابد من التأكيد على أن البحوث الذي يقوم بها الاكاديميون لابد ان تؤدي الى فائدة كبيرة لمجتمعنا ولذلك لابد من رعايتها من قبل المجمع العلمي.

البحوث العلمية والطبية والهندسية والاقتصادية وغيرها مفيدة للغاية باعتبارها بحوث تجلب فوائد غنية للاقتصاد والمجتمع ككل. في الواقع، وجدت تحليلات مختلفة أن البحث العلمي الأساسي الذي يتم إجراؤه في الولايات المتحدة ينتج عنه معدل عائد على الاستثمار المالي بين 20 و 50 بالمائة سنويا وهوعائد هائل مقارنة بالمساعي الأخرى.

تشبه أكاديميات العلوم والإنسانيات حتى الآن إلى حد كبير تكتلا متعدد الأنواع: بعض الأكاديميات تحصر نفسها في العلوم الطبيعية وعلوم الحياة، والبعض الآخر يشمل العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويقتصر دور بعض الأكاديميات على تنظيم الاجتماعات والمناقشات وتبادل وجهات النظر والآراء حول القضايا العلمية والنظريات ونتائج البحوث، في حين أن البعض الآخر له، بالإضافة إلى ذلك، وظيفة تقييمية واستشارية.

تتعلق بعض النصائح التي تقدمها المجامع العلمية بمسائل السياسة العلمية والتربوية  والاقتصادية، والبعض الآخر يهتم بالمشاكل الاجتماعية التي يمكن حلها من خلال تطبيق المعرفة العلمية المتاحة، ويتعامل البعض الآخر مع القضايا الاجتماعية والأخلاقية المتعلقة بتقدم العلوم والتكنولوجيا نفسها. لا تقدم بعض الأكاديميات المشورة بشأن (جودة) العلوم فحسب، بل لديها أيضا مهمة تمويل وطنية للبحوث العلمية، أو تتحمل المسؤولية الفعلية عن برامج البحث الضخمة، أحيانا داخل المعاهد الأكاديمية الخاصة. لذلك فإن التنوع وعدم التجانس هو السمة الواضحة في عالم الأكاديميات.

مع ذلك، لا تزال هناك مجموعة مميزة من الأهداف التي وحدت المجامع العلمية عبر التاريخ وفي انتشارها الجغرافي الحالي وهي محاولة تعزيز التفكير العلمي النقدي في المجتمع، والرغبة في النهوض بالبحوث العلمية عالية المستوى، وتعزيز استقلالية وحرية المعرفة.

التحديات التي تواجه المجمع العلمي العراقي

وعلى ضوء ما ذكر اعلاه حول ميزات واهداف وواجبات الاكاديميات او المجامع العلمية الدولية ساحاول التركيز على اهم التحديات التي تواجه المجمع العلمي العراقي وعلى السبل التي تنهض به كمرجعية علمية حقيقية.

1- للقبول في عضوية المجمع، يجب تطبيق المعايير العلمية فقط. لا ينبغي السماح لأي اعتبارات سياسية أو أيديولوجية أو اجتماعية أن تلعب دورا. قد تكون الصفات الإدارية والخبرة الإدارية داعمة، لكن لا يمكن أن تحل محل المقياس العلمي. لسوء الحظ، لم تكن عضوية المجمع العلمي العراقي خاضعة لهذا الشرط دائما . المجمع لم يكن دائما قادرا على مقاومة الضغط السياسي، أو الإكراه، كما يظهر التاريخ الماضي والحديث، وكما تؤكد عليه محاولات وزارة التعليم العالي ومجلس النواب في التدخل بشؤنه.

2- الخطر الذي يكمن في الصيغة الحالية هو أن الباحثين الأصغر سنا والمبدعين والمبتكرين ليس لديهم فرصة كافية لقبولهم. تتعزز خطورة النزعة المحافظة من خلال ثلاثة شروط: العدد المحدود للأعضاء وبقاءهم اعضاء حتى بعد وفاتهم، وعدم وجود فرصة لتحويل الاعضاء المسنين الى اعضاء فخريين.

3- نظرا للعدد المحدود من الأماكن في المجمع والتمايز المتزايد والتخصص في العلوم نجد الكثير من اصحاب الخبرة العلمية عالية الجودة خصوصا المغتربين خارج المجمع. من المهم للمجمع أن يكون قادرا على تفعيل مجموعة واسعة من الخبرات المتاحة داخل وخارج أسواره. تحل بعض المجامع هذه المشكلة عن طريق إنشاء فئة "طالب" أو "عضو مشارك". ويمكن دعوة البعض الآخر من المغتربين ليصبحوا أعضاء في اللجان الاستشارية أو مجموعات العمل. ومن المهم للمجمع أن يتوخى اقامة علاقات وثيقة بالمجامع العلمية والمؤسسات العالمية ككل.

4- كل المجامع العلمية خصوصا في الدول الغربية مستقلة وليس من حق الحكومة أو البرلمان التدخل في شؤونها مطلقاً، وتعتمد بالأساس على العمل التطوعي. الوضع في العراق يختلف تماما  وإذا استمر على حاله بسيطرة الحكومة على كل مقاليد الأمور ومفاصل الحياة الأكاديمية والعلمية، فانا أتخوف من كون المجمع هو الآخر سيبقى ضمن المحاصصة الطائفية والقومية خصوصا بعد أن أكد القانون على وجود رواتب ومكافآت وفشل في إيجاد آلية صحيحة لانتقاء الأعضاء. ولعل ما يؤكد تخوفي هي الشروط الهزيلة التي وضعها القانون لعضوية المجمع ولربما يعود إلى منح القانون عضو المجمع مكافأة مالية يحددها مجلس الوزراء، بالرغم من أنه عمل مناف لكل الأعراف الدولية في عضوية المجامع العلمية على أساس أن العضوية شرفية وليست تكليفية ولا يجب أن تتضمن أي تبعات مالية.

5- وضع آلية لإنتخاب أو انتقاء عدد محدد من الاعضاء ليكونوا نواة المجمع الجديد. بالنسبة للأعضاء المؤسسين فيجب أن تستند العضوية على كون المرشح متميزاً علميا وله عطاءات علمية كبيرة وذات تأثير فاعل في مجال اختصاصه، ومن أفضل العلماء العراقيين وبضمن شروط منها خدمة العلم والمجتمع العراقي على سبيل المثال، وان تتم المفاضلة على اساس التنافس وفق سيرهم الذاتية وتقوم بهذه العملية لجنة من 5 الى 10 علماء اجانب من اعضاء الاكاديميات العلمية العالمية. أما الأعضاء الجدد فيتم انتخابهم سنويا من خلال عملية طويلة بعد الترشيح وتخضع الى التصويت من قبل الأعضاء المؤسسين والحاليين وحسب عدد المقاعد الشاغرة. حاليا وحسب مسودة القانون الجديد، لا نعرف كيف يتم انتقاء الأعضاء؟ ومن ينتقيهم أو ينتخبهم؟ لربما الحكومة الحالية أو مجلس النواب !!! أملي ورجائي ألا يكون المجمع أداة بيد الدولة. إرجعوا إلى المجامع العلمية في أمريكا وبريطانيا وأوربا وستجدونها مستقلة تماما.

6- عدم تناسب اهداف المجمع العلمي العراقي مع متطلبات التطور العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي العالمي ك"مرجعية علمية" في القرن الواحد والعشرين، والتي لم تتعد مهمات أية كلية أو قسم في أية جامعة عراقية كمثل "مواكبة التقدم العلمي الحديث" و "التأليف والبحث والنشر".  لابد من تطوير المجمع لكي يتحول الى مرجعية حقيقية يقدم نصائح مستقلة وموضوعية للدولة لتحفيز التقدم وتطوير العلوم والهندسة والطب لصالح المجتمع وله ميزانيات محددة لتمويل البحوث والدراسات العلمية والجوائز للمبدعين والمبتكرين.

واخيرا، احب ان اكرر ما ذكرته في عدد من المناسبات بأن الصيغة الحالية للمجمع لا تناسب مفهوم مجمع علمي معاصر ولا تتماشى مع التطور العالمي في العلوم والتكنولوجيا والإنسانيات، كما أنها لا تساعد على تطوير العلوم والآداب والتكنولوجيا في العراق، وهي تختلف اختلافا جوهريا عن صيغ المجامع العلمية العالمية، وباعتقادي ليست صيغة متطورة كثيرا عن قانون المجمع عام 1995. قانون المجمع يهتم بالوظيفة الإدارية ويهمل الجوهر العلمي الشرفي والتقديري. إنه قانون مرتبك يحاول أن يجمع بين كونه مجمعا علميا ومجمعا يأخذ بالاعتبار وإلى درجة ما الطبيعة التعددية القومية واللغوية للعراق، وهو قانون لمؤسسة حكومية وظيفية يدفع "رواتب" لأعضائه على غرار جامعة أو معهد عالي، وليس كمرجعية علمية شرفية تقديرية لعلماء العراق المرموقين. لا بد من إعادة النظر في محتويات القانون لربما بالاستعانة بعلماء من أكاديمية العلوم الأمريكية والجمعية الملكية البريطانية، لكي يكون المجمع حقا مركزا لتشجيع الإبتكار والتأثير على عملية صياغة القرار في حقول المعرفة والتكنولوجيا، ومساعدا لتنشيط العلوم والآداب، وأسلوبا لزيادة الفرص للحصول على ما هو أفضل علميا وعالميا، ومركزا للإلهام العلمي وإثارة الرغبة في الإكتشافات العلمية.

***

محمد الربيعي

في ماضي الزمان، كان يقال إن التجربة برهان قطعي على صحة الفكرة/الفرضية أو خطئها. وكانت هذه القاعدة جارية في العلوم التجريبية والنظرية على حد سواء. لكن هذه الرؤية خسرت قوتها منذ أن نشر فرانسيس بيكون (1561 - 1626) كتابه «الأورجانون الجديد». في هذا الكتاب تحدث بيكون عن «أصنام العقل الأربعة» التي تسهم في تشكيل ذهنية الإنسان، وتؤثر بالتالي في فهمه للعالم وفي أحكامه.

الواقع أن الفكرة كانت معروفة قبل بيكون. لكن عمله رفع وزنها العلمي، وأوضح مبررات ومسارات تأثيرها الحاسم في تفكير الأفراد. منذئذ بات ثابتاً في الدوائر العلمية أن كل تأمل ذاتي، وكذا التفكير في العالم خارج الذات، سيكون متأثراً - بالضرورة - بالصور والقناعات التي سبق أن توصل إليها الإنسان، من خلال تجاربه الشخصية، أو انتقلت إليه من محيطه، أو اقتنع بها بعد مكابدات فكرية مقصودة.

خلال القرن العشرين، جرى التركيز بصورة خاصة على التجارب المتعلقة بالعلوم الطبيعية والتجريبية، بغرض اكتشاف إمكانية التوصل إلى نتائج محايدة، أي غير متأثرة بخلفية الباحث الذهنية. وكان الاعتقاد السائد قبل ذاك أن الانحياز الذهني مقتصر على العلوم الإنسانية دون الطبيعية والتجريبية، لأنها تتكون وتتطور في الذهن، بخلاف العلوم الأخرى التي تتكون وتتطور في الخارج، فلا تتأثر - حسب ذلك الاعتقاد - بميول الإنسان. لكن تلك المسيرة انتهت بتوافق عام تقريباً على أن الانحيازات المسبقة تترك آثارها على كافة الأعمال العلمية، نظرية كانت أو طبيعية أو تجريبية. وقيل إن ذلك التأثير يبدأ منذ الملاحظة الأولية، ثم المراقبة المقصودة للمواد الخام والتجارب المعملية، وصولاً إلى إعلان النتائج. فحين يبدأ الباحث بمراقبة المواد الخام أو جمعها، فإنه ينطلق من فرضيات خاصة، متأثرة بقناعات مسبقة. إن اختيار هذه الفرضيات دون غيرها يحاكي في غالب الأحيان الميول الرائجة في الإطار الاجتماعي أو الأكاديمي للباحث، بل وحتى ميوله الدينية والسياسية في بعض الأحيان.

دعنا نأخذ مثالاً على هذا بخبير أوكلت إليه مهمة تحليل «ماء زمزم» للتحقق من القول السائر بأن فيها شفاء من الأمراض. فإذا كان هذا الباحث مسلماً، فمن المؤكد أنه سيدخل في التجربة بنية إثبات فوائد ماء زمزم، الطبية أو غير الطبية. ومن المستبعد أن يبدأ باحتمال أن يكون هذا الماء ضاراً بالصحة، أي بعكس الفرضية التي يريد كافة المسلمين الإيمان بها.

حين ينظر الإنسان إلى شيء، سواء كان فكرة أو مادة أو شخصاً، فإنه لا يراه بعينيه، بل يراه بعقله. أنت تفهم الشيء الذي تراه، لأنَّك تصورته سلفاً في عقلك، أي وضعت إطاراً لفهمه واستيعاب معناه. وفي هذا الإطار لا يختلف الباحث في العلوم عن الشخص العادي، فكل منهما يتأثر بمسبقاته الذهنية.

ومن هنا فإن عدة أشخاص ينظرون إلى شيء واحد، فيفهمه كل منهم على نحو مختلف، وقد يستمعون إلى الخبر نفسه فيتأثر به بعضهم إلى درجة البكاء، بينما يقف الآخرون موقف المندهش، لأن الخبر لم يلامس قلوبهم أو يستثير عواطفهم، بمعنى أنهم لم يدركوا الحمولة التي تنطوي في داخل الخبر، أو أن هذه الحمولة لا تعني لهم شيئاً ذا بال.

زبدة القول إنك مثلي ومثل كل شخص آخر، لا تنظر للأشياء نظرة محايدة، ولا تفكر فيها متجرداً من انحيازاتك. هذه الانحيازات ليست شيئاً قررته، بل هي جزء من تكوين عقلك، وقد ترسخ عبر مراس طويل الأمد.

ولذا فإن ما تعتبره موضوعياً أو حقيقة واضحة ، ليس - في الواقع - سوى تصوراتك الشخصية التي ألبستها تلك العباءة.

**

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

الحال إن الفكر القانوني التقليدي كان يتعامل مع جرائم الفساد كأي جريمة عادية تخضع للمبدأ الدستوري المعروف فقهاً بمصطلح (شرعية الجريمة والعقاب)، والذي يعبر عنه في الدساتير والقوانين المقارنة بمبدأ (لاجريمة ولا عقوبة إلا بنص). ومن ثم فإن الإختصاص الأصلي يعود الى القضاء العادي للنظر فيها حسب ماجرى عليه العمل....

 إلا إن التطور الكبير الذي ميز الحياة الإنسانية المعاصرة عما سواها من عصور تاريخية، قد شمل عالم الجريمة أيضاً فتطورت اساليبها وتنوعت طرق ممارستها فضلاً عن القدرة الفنية على اخفاء معالمها فضلاً عن سطوة السياسة وأساليبها الملتوية التي طالما مكنت السياسيين ودهاة الموظفين، المعروفة جرائمهم في علم الإجرام، بجرائم ذوي الياقات البيضاء، من التملص من الجرائم التي يرتكبوها والإفلات من العقاب أو الباسها الى بسطاء الناس ممن لايدركون خطورة العمل الإجرامي الذي يقومون به.

 وفيما يخص جرائم الفساد فقد تطورت هي الأخرى كماً ونوعاً بما لا مثيل له في كل العصور المتعاقبة وأمتد ليشمل قطاعات واسعة من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ...

 ومابرح الفساد يلتهم خيرات الشعوب الفقيرة بشكل خاص كما تشير التقارير الدولية المتخصصة .. ومن ثم عجزت المؤسسات القضائية عن مواجهة هذا الكم الهائل من جرائم الفساد لأسباب عديدة منها تفنن الفاسدين في وسائل اخفاء جرائمهم مما يتطلب تحقيقات متعمقة تتطلب التفرغ التام لهذه المهام فضلاً عن الحاجة الى اشراك علوم متنوعة وتكنولوجيات خاصة لإدارة التحقيق مما يعجز عنه قاضي التحقيق للقيام به بمفرده وإحتياجه في كثير من الأحيان الى خبرات متنوعة فضلاً عن ترصد المافيات المجرمة له ولعائلته التي مست حياة القضاة في مختلف أنحاء المعموره كما ان تهديد قاض بمفرده أو محاولة جره للفساد يبدو اسهل مما لو كان التحقيق عملاً مؤسساتياً جماعياً .....

 ومن هنا نشأت فكرة إسناد التحقيق في قضايا الفساد الى هيئات متخصصة مستقلة في عملها عن سلطات الدولة الأخرى في الفكر القانوني الحديث ليكون التحقيق عملاً مؤسساتياً لا يسند الى فرد واحد أو مجموعة محددة من الأفراد وان تقوم هذه المؤسسة بأعمال متوازية لا تستند الى التحقيق وحده وإنما يجب عليها ان تطرح افكاراً وقائية خلاقة تمنع وقوع الفساد أصلاً وقد أولت الأفكار القانونية الحديثة للجانب الوقائي أهمية قصوى كما أشرنا اليها في مقال سابق.. كما يعد الجانب التربوي والإعلامي وتدقيق مشاريع القوانين والعقود الحكومية قبل إرسائها جزءاً لا يتجزأ من عملها.. مما يتطلب ان تضم هيئات النزاهة من بين إدارتها متخصصين في مختلف العلوم التطبيقية والإنسانية وبهذا المعنى لا تعد هيئة النزاهة عملاً قضائياً حصرياً ولكن يشترط ان يكون على رأس إدارتها رجل قانون فهي عمل مؤسساتي متكامل يطغى عليه العمل القانوني لا يتحقق إلا بإستقلاليتها التي كفلها الدستور ....

المبادئ الحديثة التي اكدتها اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد 2005

نصت وحثت الإتفاقيةعلى ضرورة:

 *انشاء هيئات مستقلة تتولى الكشف عن حالات الفساد والتحقيق فيها وإحالتها للقضاء المختص.

 * وجعلت من الإجراءات الوقائية عمل اساسي من اعمالها. ومن ذلك وضع قواعد السلوك الوظيفي وكشف المصالح المالية لمنع الاثراء على حساب الشعب.

* واسترداد الأموال المهربة المتجمعة (اسمتها الموجودات)من اموال الفساد أولوية خاصة

* وكذلك ملاحقة غسيل الاموال واعتبرته ذو أهمية جوهرية .....

* فضلاً على تركيزها على أهمية العمل الإستخباري السري ونشر المخبريين السريين ومكافئتهم في مؤسسات الدولة.

* أقرت لأول مرة في التاريخ القضائي قبول الشكاوى المُغفلة بشكل صريح.

(يقصد بها عدم إجبار المبلغ عن الفساد على ذكر إسمه وعنوانه إلا بإختياره).

انظر:

اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد هي الصك العالمي الوحيد الملزم قانونيًا لمكافحة الفساد. إن نهج الاتفاقية البعيد المدى والطابع الإلزامي للعديد من أحكامها يجعلان منها أداة فريدة لوضع استجابة شاملة لمشكلة عالمية. وتغطي الاتفاقية الخمس المجالات الرئيسية التالية:

التدابير الوقائية،

 والتجريم وإنفاذ القانون،

 والتعاون الدولي،

واسترداد الموجودات،

والمساعدة التقنية وتبادل المعلومات.

معلومات عامة

تغطي الاتفاقية العديد من أشكال الفساد المختلفة، مثل الرشوة، والمتاجرة بالنفوذ، وإساءة استغلال الوظائف، ومختلف أفعال الفساد في القطاع العام والخاص وغسيل الأموال.

فضلاً عن التشديد على حماية العاملين في قطاع النزاهة والمخبرين لضمان القيام بعملهم دون تردد او خوف على حياتهم وحياة عوائلهم وهذا ماثبت عندما استهدفت مافيات الفساد كوكبة من موظفي النزاهة وعوائلهم.

ولا انسى انا شخصياً ابداً حينما القى الفاسدون دورق بانزين على رأس أحد اولادي ولم يكن يتجاوز الخامسة عشر من عمره من اعلى البناية في قلب المنطقة الخضراء بقصد حرقه!!!

. ومن أبرز ما يميز الاتفاقية إدراج فصل خاص بشأن استرداد الموجودات، بهدف إعادة الموجدات إلى أصحابها الشرعيين، بما في ذلك البلدان التي أخذت منها بطريقة غير مشروعة. والغالبية العظمى من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أطراف في هذه الاتفاقية.

***

فارس حامد عبد الكريم

استاذ جامعي - النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الإتحادية

.......................

* النص الكامل للإتفاقية:

https://www.unodc.org/documents/treaties/UNCAC/Publications/Convention/08-50024_A.pdf

---

لا أرى فرصة للنقاش المفيد بين المدافعين عن النسخة التقليدية من الدين وبين دعاة التنوير - الحداثة. ينتمي كلا الفريقين إلى نظام معرفي وقيمي مختلف تماماً عن الآخر. يتمثل دعاة التنوير روح العصر وفلسفته، وينفتحون على مصادر المعرفة فيه، بل ربما وضعها بعضهم في مرتبة مساوية لمرتبة الوحي، لأن العقل عندهم مصدر مستقل للقيم والتشريع. يعتقد هؤلاء أن المهمة الكبرى للإسلام المعاصر هي تقديم نموذج إيماني قادر على استيعاب حاجات الزمان وتحدياته، نموذج قابل للحوار والتفاهم مع التيارات الروحية والآيديولوجيات السائدة في عالم اليوم.

خلافاً لهذا فإنَّ الفريق التقليدي يرفض كلياً فكرة المساواة بين العقل والقرآن في التشريع وإنتاج القيم، ويعطي المكانة الثانية للسنة النبوية.

مكان العقل لديهم هو خدمة الكتاب والسنة، ليس موازياً لهما ولا مستقلاً عنهما. أما المهمة الكبرى للمجتمع الإسلامي المعاصر، فهي حماية أبنائه من تأثير الحضارة الغربية الغالبة. هذا المنظور الدفاعي انعكس على شريحة واسعة جداً من النتاج الفكري والفقهي لهذا الفريق، فبات ميالاً بشدة إلى التبرير والدفاع، بدل النقد الذاتي الضروري للتطور.

هذه المنطلقات تعني أن كلا الفريقين يفكر بطريقة مختلفة، ويتحدَّث بلغة لا يمكن للفريق الآخر أن يتقبَّلها لأنَّها تعارض ما يعده بديهة من بدهيات منهجه. الحقيقة أنَّ الطرفين لا يديران نقاشاً معمقاً في المبادئ الرئيسية والأرضية الفلسفية التي يقف عليها كل منهما، نقاش ربما أثمر عن تعديل في رؤيتهما العامة. تبدأ النقاشات دائماً في التفاصيل والفروع، وقد تصل إلى المبادئ العامة، لكنها في الغالب تواصل الدوران حول الفروع.تجري الأمور عادةً على النحو التالي: يطرح التنويريون - الحداثيون فكرة صادمة للعرف السائد.

رداً على هذا، يقدم المدافعون عن الموروث الديني مرافعاتٍ تعيد التذكير بأصول فكرتهم، وتنفي سلامة الاجتهادات المذكورة، كما تشكك في أهلية صاحب الفكرة للاستدلال والتوصل إلى أحكام أو حقائق شرعية.

لا تناقش هذه الردود أدلة التنويريين، بل تستعين بنفس الأدلة التي سبق استعمالها في دعم الرؤية الموروثة. لكن التنويريين يعرفون هذه الرؤية وقد رفضوها سلفاً. وهكذا نجد أنفسنا أمام الحالة التي تسمى أحياناً حوار الطرشان: كلا الطرفين يطرح أدلة يرفضها الآخر من حيث المبدأ، فلا يناقشها. فكأنَّ الطرفين يتحدثان في عالمين مختلفين، لا أحد منهما يسمع قول الآخر.الواقع أنَّنا نتحدث فعلاً عن عالمين فكريين متمايزين، لكل منهما أرضيته ومبرراته الفلسفية ومنطلقاته وفرضياته وأدوات نقده، وهو مختلف تماماً عن العالم الآخر. ولهذا لا توجد قاعدة معيارية واحدة أو ميزان علمي مشترك، يمكن الاعتماد عليه في الموازنة بين الرأيين أو أدلتهما. هذا يشبه المقارنة بين قصيدة عربية وأخرى إنجليزية... هل تراه ممكناً؟ بالطبع لا، لأنَّ القصيدتين تنتميان إلى عالمين مختلفين في الصور والتعبيرات والسياق، بحيث لا نستطيع القول إن هذه أفضل من تلك أو أجمل أو أصح.هل ينبغي أن نأسف لاستحالة إطلاق حوار يؤدي إلى توحيد التيارين، أو تقليل الخلافات بينهما؟

في رأيي إن الأمر لا يستدعي الأسف. من المفيد أن ننظر إلى الجانب الحسن في الجدالات الساخنة. إنَّ محاولة كلا الطرفين فرض رأيه، سوف تدفع الطرف الآخر إلى تقوية استدلالاته وتعميق الأفكار المطروحة للنقاش. لو سكت الجميع حفظاً لوحدة الموقف، فلن يستفيد أحد. المناقشة هي التي تولِّد رؤى جديدة، تعلِّم الناس وتوسِّع آفاق المعرفة.

***

توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

العام 1956 كانت سنة العجائب الوجودية ، ينشر سارتر مقاله " البحث عن طريقة " والذي مهد لظهور كتابه " الماركسية والوجودية " – ترجمه الى العربية جورج طرابيشي – وفيه اراد أن يبين موقف الوجودية من الفلسفة الماركسية، محاولا ان ينفي الادعاءات التي تقول ان الوجودية هدفها نسف الماركسية والحلول محلها، يقول سارتر " ان كل فلسفة تبني نفسها من خلال ظروف محددة لتعطي حركة المجتمع العامة تعبيرها " .. ويؤكد أن تاريخ الفلسفة يضم ثلاث فترات فلسفية كبيرة، وهي فترة جان لوك وديكارت، وفترة كانط هيغل، واخيرا ماركس .. ويشير سارتر الى ان لقب فيلسوف ينحصر في هذه الاسماء، اما شوبنهاور وبرغسون وكيركغارد وحتى سارتر نفسه، فهم واضعوا عقائد، مهمتهم تحسين الانظمة الفلسفية الاساسية، ولا يصح ان نسميهم فلاسفة لانهم مهما هدموا وبنوا يضلون يستمدون افكارهم من " الفكر الحي للاموات الكبار " على حد تعبير سارتر، وعلى هذا فان الوجودية ليست إلا عقيدة . انها " نظام طفيلي يعيش على هامش حصيلة المعرفة، عارض في البداية الحصيلة، وهو يحاول الاندماج فيها " – الماركسية والوجودية جان بول سارتر – وفي نفس العام يصدر البير كامو روايته " السقوط " وهي بيان على ان الوجود خاو لا فائدة ترجى منه، وجود لا تملأه سوى افعال لا معنى لها. فيما نشرت سيمون دي بوفوار مقال بعنوان "هل يجب أن نحرق ساد؟" اكدت فيه ان الوجودية الفرنسية ولدت على يد الماركيز دي ساد قبل 150 عاما من صدور كتاب سارتر " الوجودية فلسفة انسانية " .كانت الوجودية في تلك السنوات قد انتشرت في جميع انحاء العالم، والهمت الكثير من الشباب للبحث عن اشكال جديدة للحرية الشخصية، واصبحت افكار هايدغر وسارتر وكامو اكثر تاثيرا في اوربا، واستمدت الوجودية مكانتها من الاعمال الادبية التي طغى عليها صفة التمرد، وكان ان ظهرت مؤلفات وجودية مختلفة، كان واحدا منها كتاب صدر في العاشر من ايار عام 1956 بعنوان " الغريب " – ترجم الى العربية بعنوان اللامنتمي - لكاتب مغمور اسمه كولن ويلسون، كان قد احتفل بعيد ميلاده الخامس والعشرون في خيمة نصبها على بعد اميال قليلة من مكتبة المتحف البريطاني حيث واظب على الحضور الى المكتبة صباح كل يوم، يسجل ملاحظاته في سجل كبير استدان ثمنه من أحد الأصدقاء. كان عائلته تصفه بالحالم، بدا لزوار المكتبة بملابسه البسيطة وقصة شعره، وبدراجته التي يقودها اشبه باحد ابطال رواية سارتر دروب الحرية " ان اراء سارتر مؤيدة بتجاربنا المشتركة " – كولن ويلسون ما بعد اللامنتمي ترجمة يوسف شرورو- .

قال كولن ويلسون انه تعرض لازمة وجودية بعد صدور كتابه اللامنتمي، فقد اعطاه نجاح الكتاب جمهورا كبيرا من القراء، بالوقت نفسه تعرض لهجوم من النقاد الذين وصفوا الكاتب بانه مجرد جامع ملخصات، ولهذا وجد نفسه ضحية لنمط من انماط النخبوية الثقافية، ولفكرة ان الفرد يستطيع تحمل مسؤولية تطوره الذاتي، يقول ويلسون:" عند صدور كتابي اللامنتمي كنت وحيدا تماما بين اولئك الكتاب القلائل الذين اهتموا حقا بسيكلوجية الانتماء، وكنت الوحيد الذي يصرح: انني لا اهتم بالسياسة ن بل اهتم بالغقل البشري " – صراع الكلمة والوجود ترجمة محمد درويش - بعد عامين على صدور " اللامنتمي " يكتب كولن ويلسون ان الامل يراوده بان الفكر الوجودي سيصبح فلسفة شائعة في انكلترا وامريكا،ن وستوفر هذه الفلسفة حلا للعديد من المشكلات التي يعاني منها الفكر الفلسفي .

بعد الضجة التي احدثها كتاب " اللامنتمي " سخرت الصحافة البريطانية من كولن ويلسون ووصفته احدى الصحف بانه اشبه ببيضة مخبوطة مقلية . كان الشاب الذي سحرته رواية البير كامو الغريب، يتأمل في كتب الفلسفة والادب بحثا عن معنى للحياة، فعثر عليه عند مؤسس الوجودية كيركغارد الذي اعلن ان العصر الذي نعيش فيه هو عصر شقي لانه مجرد من العاطفة، ويخبرنا كولن ويلسون انه عثر على فكرة اللامنتمي عند كيركغارد رغم ان الفيلسوف الدنماركي لم يكن يعرف شيئا عن اللامنتمي على حد قول ويلسون الذي يستعير عبارة كيركغارد:" ان كل وجود انساني لا يعرف ذاته او روحه هو يائس، واهم من ذلك ان الانسان اليائس لا يحتاج الى ان يعرف انه يائس، بل قد يظن نفسه في منتهى السعادة " .كان كيركغارد في نظر كولن ويلسون رومانتيكي بقدر ما هو وجودي خائب " ضيع كثيرا من وقته مبالغا في مشاكله الشخصية الى ابعد الحدود " – سقوط الحضارة ترجمة انيس زكي حسن - .

كشف كولن ويلسون في سيرته الذاتية " حلم غاية ما " – ترجمة لطفية الدليمي أن والدته اخبرته انها حملت به قبل ان تعلن زواجها الرسمي من والده ، كان الاب شخصية حادة المزاج، يشعر بامتعاض لانه اجبر على الزواج، يملك شعورا بالحيف والمرارة بسبب الفقر، وكان يرى الثلاثة جنيهات التي يقبضها عن عمله الشاق في معمل للاحذية، تعويضا غير عادل .

ولد كولن هنري ويلسون في السادس والعشرين من حزيران عام 1931 في مدينة ليستر، تعلق بوالدته التي كانت تقرا الكتب " بنهم "، وتلخص الكتب لابنائها، مولعة بقراءة روايات " د.ج.لورنس " والاخوات برونتي ان يتذكر ان علاقته بالكتب نشأت عندما سمع من والدته ذات يوم تلخيصا مثيرا لرواية اميل برونتي " مرتفعات وذرينغ "، في العاشرة من عمره يعثر على كتاب في الفلك يجعله يقرر ان يُصبح عالما، مما دفع والدته ان تهديه عدة كيمائية رخيصة الثمن لتنمية مواهبه:" حصل انني عندما اكتشفت العلم وانا في الحادية عشرة بالضبط شعرت بفجوة نفسية متعاظمة بيني وبين الناس حولي ؟، واندفعت في الحلم بيوم يرتقي فيه الانسان ليكون كالالهة كما حلم ويلز في بعض كتاباته " – حلم غاية ما ترجمة لطفية الدليمي -

عثر على كتب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه وهو في الثالثة عشرة من عمره، عندما رأى ذات يوم كتاب في المكتبة بعنوان " إرادة القوة "، ايقن انه وجد من يأخذ بيده الى عالم " العدمية " . في ذلك الوقت كان الشاب المراهق يؤمن أن الوصول الى الحقيقة يمر عبر الاكتئاب والشقاء، وكان نيتشه دليله: " اكتشفت أن الذي ساق الناس في الحقيقة كان إرادة القوة " – الكتب في حياتي ترجمة حسين شوفي – يسحره كلام نيتشه عن قوة الإرادة التي هي الدافع الانساني الاساسي.

في تلك السنوات لاحظت امه ان ابنها المراهق يغلق عليه غرفته كل مساء ليغرق في قراءة الكتب التي كان يستعيرها من المكتبة .. كان قد تملكه احساس بعبثية الحياة التي يعيشها الانسان دون ان يدرك حقيقية الهوة التي تحت اقدامه " يكتب في سيرته الفكرية ان شعورا بكره الجنس البشري قد تملكه، وراودته افكار نيتشه حول الناس الضعفاء والمرضى وضرورة أن يحل محلهم أناس يتمتعون بالعقل السليم وقوة الجسد:" شعرت ان القديس الحقيقي جدير بان لا يكون محبا للبشرية، وإنما هذا الرجل الذي يريد ان يرى انقضاء عصر البشر وان يحل محلهم نوع من المخلوقات اقل عقما وغباء " . في الخامسة عشر من عمره يكتشف ويلسون مفهوم " الرجل السوبرمان "، عندما استمع الى مسرحية برنادشو " الانسان السوبرمان " تبث عبر اذاعة الـ "بي بي سي " .. سيشغله سؤال:" ما الهدف المرتجى من الحياة " ؟ يكتب ويلسون ان النموذج الذي يكافح برناردشو من اجل خلقه هو سوبرمان نيتشه الذي هو شكل اعلى من من اشكال الحياة . كان نيتشه قد اعلن:" أن الاقوياء، الأكثر قوة والأكثر شرا هم الذين ظلوا حتى الآن يدفعون اكثر من غيرهم بالانسانية نحو التطور: ظلوا يشحذون بصفة مستمرة جذوة طاقات الشغف الغافية " –العالم المرح ترجمة علي مصباح – يعلق ويلسون على عبارة نيتشه بالقول:" لقد راى نيتشه إن الانسان العبقري يجب ان يقلع عن اعتبار نفسه سيئ التلاؤم مع مجتمهع، او انه ضحية عبقرية تؤهله لان يكون مكتشفا للطريق .

يخبرنا كولن ويلسون بان حياته ارتبطت بامه ، كانت في التاسعة عشرة عندما ولد ابنها البكر " كولين هنري ويلسون " عاشت حياة زوجية مجهدة بعد ما اكتشفت طباع زوجها الخشنة، لكنها كانت امراة قوية تعشق القراءة، احبت كتابات د.ج.لورنس لانه تناول في رواياته مشاكل الفقر والاحباط الذي تعاني منه النساء، وكانت الام تضع ملخصات للكتب التي تقرأها، وذات يوم سيعثر الابن على ملاحظات كتبتها والدته عن رواية لورنس " ابناء وعشاق " اما الاب فانه لم يقترب من الكتب يوما، حاولت الام ان تجد في ابنها نوعا من التعويض عن الحياة البائسة:" بثت في وجداني حساسية مرضية تجعلني موضع ثقتها الذي تبثه احزانها " –رحلة نحو البداية ترجمة سامي خشبة – لم تكن والدته ترغب في الزواج ووجد والده انه غير قادر على ان يؤسس عائلة بسبب اوضاعه المالية المتدهورة . كان والد كولن ويلسون رجلا ريفيا بالولادة، لكنه عاش في المدينة، وظل يمني النفس بالعودة الى الريف، مثلما تمنى نيتشه ان لا يغادر القرية التي ولد فيها .

العام 1966 يصدر كولن ويلسون كتابه " تمهيد للوجودية الجديدة " – ترجمه الى العربية عمار الثويني – وكتب على الغلاف الأخير للكتاب:" هذه هي المساهمة الاولى المعتبرة للوجودية ينهض بها كاتب انكليزي " . يذكر كولن ويلسون في كتابه " رحلة نحو البداية " انه امضى اربع سنوات في تاليف كتابه " الوجودية الجديدة " حيث اعاد كتابته اكثر من مرة .

في الكتاب يصر ويلسون ان نيتشه هو المؤسس الحقيقي للوجودية الجديدة لانه هو من بشر بقدوم الانسان الخارق " السوبرمان " بتفاؤله الشجاع وبحماسه . ويحثنا صاحب اللامنتمي في كتابه الوجودية الجديدة على ان نصبح واعين بكل فكرة،وكل اعتقاد يدعم نظام قيمنا الشخصي .. وهو يرى ان الوجودية الجديدة تسعى لصنع علماً للسعادة، وتستحضر قوة الارادة، ويصنف فلسفتة بانها تفاؤلية:" التفاؤل هو الحافز الاساسي الآن للوجودية، بنحو يماثل لدرجة كبيرة الحافز وراء كل العلوم . الوجودية هي الرومانيكية، والرومانيكية هي الشعور ان الانسان ليس مجرد مخلوق " – تمهيد للوجودية الجديدة ترجمة عمار الثويني –

ظل كولن ويلسون يعتبر الفلسفة الوجودية بانها الاكثر اهمية من بين فلسفات القرن العشرين، لكنه ياأخذ عليها انها انحرفت عن مسارها الحقيقي بسبب كتابات هايدغر وسارتر وكامو التي تدعوا الى التشاؤوم حسب قوله، ولهذا لابد من وجود صيغة وجودية طابعها التفاؤل تكون ردا على النزعة العدمية للوجودية في نسختها الفرنسية ، وفي كتاب " تمهيد للوجودية الجديدة " نجد ويلسون يتفق مع سارتر و كامو في النظرة الى طبيعة الوجود البشريّ ولكنه يتقاطع معهما عندما يقررا ان الحياة تراجيديا عدميّة ولهذا:" لم تكن وجوديّتهما التي لطالما بشرا بها سوى استجابة عاطفيّة لتركيبتهما السايكولوجية الميّالة إلى التشاؤم" –حلم غاية ما ترجمة لطفية الدليمي –

ونجده يعطي مفهوما آاخر للوجودية حيث يؤكد ان الهدف الاساسي من الفلسفة الوجودية كما يراها هو إثارة الوعي الإنساني بالإحساس:" ومن ثم إن الهدف الأساسي لا تكيف الإنسان مع مجتمعه، بل تكيف الإنسان مع ذاته ووجوديته، وذلك عن طريق بحثه وسعيه تجاه المعنى الذي يحمله الإنسان بداخله، والقدر الذي يحمله شعور المرء بالجدوى والهدف، كفيل به أن يتسبب في اتساع أفق الوعي الإنساني ضد محدوديته وشعوره باللاجدوى والعبثية " – كولن ويلسون أصول الدافع الجنسي، ترجمة يوسف شرور –

فالوجودية الجديدة تسعى لفكرة اثبات الحياة بعد ان تعرض ويلسون الى ازمة وجودية في حياته، ففي سيرته الذاتية " رحلة نحو البداية " يخبرنا بانه اقدم على الانتحار في سن المراهقة، ولكنه قرر أن لا يموت منتحرا . وعند لحظة اختياره الحياة مر بتجربة مثيرة:" لمحت ثراء الواقع الهائل الرائع، ممتدا الى آفاق بعيدة – رحلة نحو البداية - .

يرى ويلسون ان الوجودية الجديدة تمثل فلسفة المستقبل لأن هدفها صنع الانسان المثالي " انسان لم يولد بعد "، ومهمتها ان تحثنا على إدراك الدور الفعال الذي نضطلع به في بناء حياتنا . وهي – اي الوجودية الجديدة – تمنحنا القوة وتوقظ فيما طموحات معاني الوجود ونجلب المعرفة، وفضلا عن ذلك، فانها:" توقد وتمثل عودة الى كلمات مثبل (صحة) و(حرية) و(بطولة) و(امكانية) و(تفاؤل)، إنها فلسفة ديناميكية وعملية، وأداة يمكن تسخيرها " – تمهيد للوجودية الجديدة.

قال ويلسون ذات يوم إنه أصدر كتابه اللامنتمي لأن حياتنا في المجتمع الحديث هي تكرار لمشكلة بطل رواية الغريب لكامو: " النضال اليومي من أجل الحقيقة التي تختفي بين عشية وضحاها، والتي تقوضها التفاهات البشرية والتفاهة التي لا نهاية لها. "

في مقدمة كتابه سقوط الحضارة يكتب كولن ويلسون:" لقد كان في كتاب اللامنتمي شيء من الاعترافات الخاصة بتأريخي الشخصي، وذلك واضح لأنني انفقت معظم صفحات الكتاب محاولا ان اعثر في الاشخاص الآخرين على ما يبرهن على معتقداتي، وكان ولسون يؤمن ان كتابه اللامنتمي سيكون " هو الارض الخراب للخمسينات، وينبغي ان يكون اهم الكتب التي تصدر في جيله "، ويصر على ان اللامنتمي يريد ان يكون وجوديا حرا ومتفائلا، ولهذا يجد ويلسون ان جميع الناس يجب ان يكونوا لامنتمين ويؤكد انه لا يهدف الى:" ايجاد حل صحيح كامل لمشاكل اللامنتمي، وانما اهدف الى بيان ان مثل هذه الحلول، والمحاولات التي بذلت في سبيلها موجودة فعلا " .

تكتب ساره بكول ان كولن ويلسون:" بجرأته الوقحة وسماجته الكيركغاردية وفرديته المتقدة، يجسد روح التمرد الوجودي في اواخر خمسينيات القرن العشرين اكثر من اي شخص آخر – على مقهى الوجودية ترجمة حسام نايل –

في الخامس من كانون الاول عام 2013 تنشر صحيفة الغارديان خبر رحيل صاحب كتاب " اللامنتمي "، واصفة كولن ولسون بانه "العبقرية الأدبية الرئيسة في قرننا " .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

أولاً: جبر العقيدة:

حديث رواه: مسلم عن حذيفة بن أسيد، يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال "يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين، أو خمسة وأربعين ليلة. فيقول: يا رب! أشقي أو سعيد؟ فيكتبان. فيقول: أي رب! أذكر أو أنثى؟ فيكتبان. ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه. ثم تطوى الصحف. فلا يزاد فيها ولا ينقص".

إن مصطلح الجبرية موضوع بحثنا مشتق من الكلمة العربيّة "جبر"، والتي تعني الإجبار والإكراه بمصير الإنسان المحتوم، فالجبر عند من يزعمه هنا هو نفي فعل العبد الصادر عن إرادته، وإحالته إلى الله، فكأن الله في زعمهم يُكرِه عباده على فعل الذنوب كما يُكرِههم على فعل الطاعات.  أو بتعبير آخر : إن أفعال الإنسان خيرها وشرها من الله، وإن نسبتها إلى العبد إن حصلت، إنما هي قائمة على "الكسب" (كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين ) . المدثر 38-39.أو على سبيل المجاز كقولنا نجح الطالب في الشهادة الثانويّة عندما جد في دراسته ، وإنما الذى جعله يجد في الدراسة حقيقة هو الله، فالإنسان في زعمهم كالريشة في مهب الريح.

ليس المطلوب منا في هذا المقال أن نعود إلى الجذور التاريخيّة أو الأصول المعرفيّة للجبر بالنسبة للوعي الإنسانيّ من جهة، أو لتجليات الممارسة الإنسانيّة وخاصة السياسيّة لهذا الجبر في حياة الشعوب تاريخيّاً من جهة ثانية، هذا الجبر الذي تضمنته عقائد الديانات القديمة  بشكل عام، كما تضمنته عقائد الديانات الابراهيميّة أيضاً، ومنها الديانة الإسلاميّة على وجه الخصوص، وقد سُخِرَ لمصلحة من يدعي به – أي الجبر - منذ أن أخذت هذه الديانات تفرض نفسها على الوعيّ البشري، أي وجد له حوامل اجتماعيّة لها توجهات أيديولوجيّة، سياسيّة كانت أو عقيديّة دينيّة، غالباً ما تضمنت مصالح أنانيّة ضيقة، كانت ولم تزل تهدف إلى السيطرة على الإنسان والتحكم به وسلبه حريّة التفكير والممارسة. أي حرمانه من أن يكون سيد نفسه وقدره ومصيره وخليفة الله على هذه الأرض..

إن ما يهمنا في موضوعنا هذا، هو التأكيد على استمراريّة التوجه الفكريّ الجبري بصيغته الأيديولوجيّة الدينيّة منها والوضعيّة، وخاصة السياسيّة في تاريخنا العربيّ المعاصر، على اعتبار أن القوى السياسيّة الحاكمة المستبدة كانت ولازالت هي من يقوم بتوجيه الأيديولوجيا الدينيّة ذاتها نحو (الجبر) خدمة لمصالحها، متكئة في تحقيق ذلك على خطاب دينيّ جبريّ استسلاميّ امتثاليّ كان له تأثيره الكبير عبر تاريخ الخلافة الإسلاميّة، على السنة والشيعة معاً. فتاريخ الجبر عند السنة ظهر بهذا الشكل أو ذاك، أي صريحاً أو ضمناً عند أهل الكلام كالكلابيّة والأشاعرة والماتريديّة، والجهميّة، وعند الفقهاء كالحنابلة والشافعيّة والمالكيّة وحتى الحنفيّة رغم أخذهم بالرأي. هذا ويعتبر الجبر عند الشيعة عموماً والجعفريّة على وجه الخصوص - رغم اعتبار العقل أحد مصادر التشريع عندهم -، أمرا مقراً  من قبل النص الدينيّ نفسه، كأحقية آل البيت بالخلافة، وفي عصمتهم، وفي الفقه أيضاً حيث اعتبرت أقوال الأئمة في المذهب الجعفري وهم الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم أو من خلفهم.. هذا وقد اتكأ الأمويون والعباسيون على الجبر، وكذلك الفاطميون. ولم تزل الحكومات القائمة في عالمنا العربي تتكئ على الخطاب الجبريّ وأعلامه من الأشاعرة والماتريديّة والحنابلة والشافعيّة والجعفريّة السابقين واللاحقين منهم.

إذن، ما نريد الإشارة إليه هنا، هو أن عقيدة الجبر لم تزل تلعب دوراً كبيراً في وعي الشعب العربيّ وبالتالي في سلوكياته وموقفه من الحياة. فالجبر في بنيته العقيديّة والفكريّة، يعمل بالضرورة على تحطيم عقل الإنسان وإراته، أو إقصائهما خارج حياته الماديّة والروحيّة. فعقيدة الجبر هي عقيدة الإذعان والاستسلام للغيب، ودفع الإنسان للكسل والخمول والتواكل  وانتظار ما يأتيه من الغيب، أو ما سُجِّلَ له في لوحه المحفوظ كما بينا في الحديث الوارد عن النبي أعلاه. وعقيدة الجبر تكره الإنسان بالحياة، وتنمي عنده ثقافة الموت، فهو يرفض المبادرة في هذه الحياة أو يفتقدها، وبالتالي يرضى بما هو قائم على اعتباره مفروضاً عليه، وليس لديه القدرة على تغييره، فالظلم والقهر والفقر والجوع والحرمان والاستبداد والغنى والفقر والسعادة والشقاء، كل ذلك مقدر عليه، من عند الله، وبالتالي فوجود اللصوص والسفلة والفاسدين وسارقي قوت الفقراء وأموال الشعب والمستبدين بحياتهم، هي مشيئة الله عندهم.

إن كل هذه المعطيات التي يحققها الجبر في حياة الفرد، ستنعكس بالضروة على حياة المجتمع، حيث نجد انتشاراً للفكر الجبري ممثلاً بالطرق الصوفيّة والدروشة والتمسك بقشور الدين، وهذا ما يساهم في ترهل المجتمع، وضعف التنمية، وانتشار التخلف وتجذره على المستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافية، واستمراه لفترات زمنية طويلة، وإعادة إنتاج نفسه، ورفض كل جديد واعتباره بدعة. فتحقيق الرحمة والعدالة والمساواة في العيش لا يسأل عنها الإنسان، بل هي مقسمة في كل مضامينها من قبل الله: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ). (الزخرف -32).

نقول: أمام كل هذه المعطيات، سينمو الاستبداد في السياسة بشكل خاص، وإن استبد الحاكم برعيته وتعدى على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم  فما على الرعيّة إلا السكوت والرضا، كون استبداده وظلمه أمر مقرر من قبل الله انتقاما من الرعيّة التي لم تتمسك بحبل الدين وتركت السراط المستقيم.

في حديث للرسول يقول فيه: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسول الله؟ إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك، فاسمع وأطع.). (1).

ثانياً: جبر السياسيّة:

بغض النظر عن صحة هذه المقولة المنسوبة إلى الملك "لويس الرابع عشر" والملقب بـ "ملك الشمس": (الدولة أنا، وأنا الدولة)، إلا أنها المقولة  الأكثر انتشاراً ودلالةً إذ  استطاعت أن تربط الحاكم المستبد بالدولة، وقد تحولت مثالاً للاستبداد السياسيّ الذي يتحول فيه الحاكم إلى حاكم مطلق وكل شيء خاضع لإرادته، هذه الإرادة المقدسة التي لا ترد فيما تقول أو تعمل، وغير قابلة للتعديل أو المراجعة أو الرفض.  فما يقوله أو يأمر به الحاكم بأمر الله، أو باسمه هو، يعتبر مقدسا ولا يعارض.

الجبريّة  السياسيّة في الأنظمة الشموليّة أنموذجاً:

يتجلى الجبر السياسيّ بكل وضوحه في الأنظمة الشموليّة التي يقودها حزب واحد أو عشيرة أو قبيلة او طائفة واحدة، ووجود فرد واحد، هو الأمر الناهي في هذا الحزب والدولة أو العشيرة او القبيلة أو الطائفة. حيث تصبح مقولة (ما يقوله القائد أو الزعيم العام، هو الرأي العام)، وما على الآخرين في قيادة دولته وحزبه إلا التنفيذ دون أي اعتراض. فإن أصاب رأيه فهو الحكيم الملهم، وإن خاب رأيه، فالعلة في المنفذين له الذين لم يستوعبوا توجهاته، وما عليهم إلا الرحيل دون حساب بغض النظر عن كل ما تركوه من فساد في بنية الدولة والمجتمع، الأمر الذي جعل من مناصب الدولة والحزب في هذه الأنظمة الشموليّة محل رزق وثراء، طمع فيها انتهازيو الوطن والمطبلين والمزمرين، الذين عرفوا من أين تؤكل الكتف، وخاصة مسألة الولاء للقائد قبل الشعب والدولة والوطن.

أمام هذه المعطيات يتولد في الدولة الشموليّة جملة من السلوكيات التي تعبر عن حالة الجبر السياسيّ المشبع بالاستبداد، يمكننا الإشارة إلى أهمها هنا:

أولاً: انتشار الاستبداد: فالاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى الاعتقاد (بأن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع) كما يقول "عبد الرحمن الكواكبي". ومع تعميم حالة الاستبداد، ينتشر الفقرَ والضنك والذل والهوان والضعف وضيق الحال وعدم الأمان  والاكتواء بنار الغلاء والضرائب والفساد، وتسلط القوي على الضعيف في الدولة والمجتمع.

ثانياً: إقصاء الشعب عن ممارسة دوره في قيادة الدولة والمجتمع: من خلال ممارسة ديمقراطيات شكليّة. فدولة الجبر والاستبداد  لا تريد للشعب أن يختار ممثليه، لذا فالاستحقاقات الدستوريّة بالنسبة للقائمين على هذه الدولة الشموليّة، تكتفي بأن يصعد الموالون ومنهم المنافقون والفاسدون وهم (الأكثرية) إلى البرلمانات أو مجالس النواب، أو الإدارات المحليّة حتى يظهر للعالم بآن لدي النظام الدكتاتوريّ  الجبرّي ديمقراطيّة حقيقيّة.

ثالثا: ظهور فقه القائد الملهم: فالحاكم المستبد يظن نفسه أذكى الأذكياء والحبر العلامة وكبير المفكرين والفلاسفة، وأن حكام العالم يتعلمون منه ومن خبراته وعلمه وتوقعاته وخططه وتفكيره، ولعل القذافي في كتابه "الأخضر" ومن يسير على منواله خير مثال على ذلك.

رابعاً: استملاك الدولة ومن عليها: حيث يعتبر الحاكم المستبد أن الوطن بالنسبة إليه ضيعة أو بقرة يحلبها في أي وقت يشاء وكيفما يشاء هو وأسرته ومن يطبل ويزمر له.

خامساً: البحث عن إعلام مسيس: يمجد أعماله ويبرز شخصيته ويبرر أخطاءه لجمهوره والعالم، على أنه القائد القدوة والملهم، فهو يدرك أن الإعلام أهم وسيلة  للسيطرة على الشعوب، سواء تقدمت هذه الشعوب أو تخلفت، ولكن كلما كانت هذه الشعوب تعاني من الجهل والأميّة الدينيّة والثقافيّة، استطاع هذا المستبد أن يتحكم بها ويسوقها كقطعان غنم عن طريق شبكات من القنوات الفضائية والاذاعات التي يسيطر عليها.

سادساً: تسييد الرأي الواحد: ففي مثل هذه الأنظمة الشموليّة، لابد أن تستخدم سياسة الترهيب والترغيب على اتباع الرأي الواحد، واعتبار أي معارض هو ضمن من يستهدف أمن الوطن ووحدته وسلامة أراضيه.

سابعاً: عسكرة الدولة: وهنا تحدث الطامة والمصيبة الكبرى، حيث سيجد الشعب نفسه أمام صلف عسكريّ وعنجهيّة مجتمعين، ومن هذا المنطلق  ستتحول الدولة والمجتمع إلى كتيبة عسكريّة يحكمها ضمناً أجهزة أمنيّة متعددة تخضع لأمرة القائد، وعندها سيرى المواطنون العجب العجاب، من اعتقال لآلاف الأبرياء على كلمة قالوها ضد سياسة النظام أو ضد قيادته، وعندها ستكون ردود فعل الشعوب قاسية ضد أنظمتها وغالباً ما تحمل طابعا دموياً، كما جرى فيما سمي ثورات الربيع العربي.

ثامناً: مأساة الحاكم المستبد في الدولة الشموليّة الجبريّة: عندما يجد نفسه قد غرق ونظامه في الوحل، وأنه أغرق دولته التي وعد أتباعه ومحازبيه – (و خاصة شعبه الذي مورست عليه الوصاية بذريعة عدم وصوله إلى النضوج لقيادة نفسه بنفسه) -، بأن الدولة التي يحكمها ستصبح بفضل سياسته الرشيدة محط أنظار العالم ودرة البلدان، ففي مثل هذه الحالة من تردي الدولة، سيبدأ في تحميل شعبه ما لا يطاق، من خلال اعتباره أن تردي الدولة يعود عنده إلى فعل مؤامرات الداخل والخارج، وعلى الشعب ان يقاوم هذه المؤامرات ويصبر على جوعه وقهره وظلمة، وربما يمتد هذا الصبر لعدة أجيال!، والغريب أن الشعب المسكين يرى حجم الفساد الهائل الذي ينخر في دولته يوماً بعد يوم دون حسيب أو رقيب. والكارثة الكبرى تأتي عندما يجد  الحاكم المستبد أن الدائرة ضاقت عليه، فإنه لا يجد غضاضة في التخلي عن كل ثوابت الأمة التي ينتمي إليها، ولا يتوانى عن فعل أي  نقيصة من أجل الحافظ على حكمه واستمره، غير متعظ بنهاية المستبدين الذين سبقوه. كصدام الذي أعدم، ومبارك والبشير الذين سجنا، وزين العابدين الذي هرب لاجئاً سياسياً، والقذافي الذي أهانه أبناء شعبه في الشارع وقتلوه بطريقة لا تليق بحاكم.

ملاك القول:

لا شك أن "الظلم مؤذن بخراب العمران"، وهذا ما وصل إليه العلامة "ابن خلدون"، وهذه هي الحقيقة التي نراها بأعيننا، فالسنن الكونيّة لا تحابي أحدا. فالشعوب التي أتت بالديكتاتور وسياسته الجبريّة الشموليّة ستدفع غاليا ثمن صمتها وتبريرها وتأييدها لسنوات طويلة ظلم الحاكم الدكتاتور واستبداده. بيد أن صبرها وصمتها سينفذ في النهاية بعد مشاهدة الخراب الذي حل بها، وبالتالي سينضم المزيد من أبناء الشعب طال الوقت أو قصر إلى الأطياف الأخرى من الشعب التي دفعت هي الأخرى الثمن في المعتقلات والتهميش والاضطهاد والتضييق والنفي. وعندما يدفع الجميع الثمن، فإن هناك لحظة آتية لا ريب فيها، هي لحظة الحقيقة التي ستقول لهذا المستبد إرحل، وكفى تخريباً وفساداً وإفساداً وإسرافاً وجبراً وتجبراً وتسلطاً، وقد ينسى هذا المستبد وغيره، أن القوة لا تدوم، وأن الظلم مصيره النهاية، فمهما طال الظلام لابد للفجر أن يبزغ، ولابد لنور الصباح أن يضيء هذه الدول العربيّة بالحريّة والكرامة والعدل والمساواة والعيش الكريم، ولكن هذا كله لن يكون إلا إذا غيرنا ما في أنفسنا، و إلا فسيدفع الجميع ضريبة الذل وثمن الاستبداد. (2).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

........................

الهوامش

1- (رواه البخاري (7084) ومسلم (1847) باب (يصبر على أذاهم وتؤدى حقوقهم).( يراجع عن موقف السنة عموماً من الخروج على الحاكم الفاسق – موقع إسلام ويب – مركز الفتوى.).

2- (للاستزادة أكثر في طبيعة النظام الشموليّ المستبد يراجع موقع الجزيرة نت –  دراسة الاستبداد حين يدفع الجميع ضريبة الذل).

الاحتراق النفسي مفهوم في الصحة النفسية يشير الى حالة من التعب والاحباط وهبوط الأداء الوظيفي ناجمة عن ضغط الجهد النفسي في العمل، أو من جراء التكريس لقضية معينة او لطريقة معينة في الحياة او لعلاقة معينة ولكنها تفشل في انتاج الغاية المطلوبة. ولقد زاد الاهتمام به بعد ان اصبح ظاهرة مؤسساتية أصابت عددا من العاملين في المؤسسات الصحية والتربوية والاجتماعية والعاملين في البنوك فتحول هذا الاحتراق الى ما يسمى (سايكولوجيا المنشأت والمنظمات والمؤسسات).

ومن اسباب الاصابة بــ "الاحتراق النفسي": التركيبة الشخصية للفرد الذي يكون واقعا" تحت تأثير اتجاهات فكرية ووظيفية غير واقعية، كأن يرسم لمستقبله اهدافا" لا يستطيع تحقيقها على مستوى الواقع فيصاب بخيبة امل واحباط تؤدي الى احتراقه نفسيا". وكذلك حين تسود بيئة العمل التنافر والبغضاء والحسد وتلقط الاخطاء، واتباع الادارة اسلوبا" سلطويا" لا يحترم انسانية العاملين.

 غير أن أهم أسبابه : شعور الموظف بالحيف حين يرى ان ما يتقاضاه لا يساوي ما يبذله من جهد فكري وتعب جسمي، وهذا ما حصل للعراقيين في سنوات الحصار الثلاث عشرة العجاف.. فراتب المعلّمة - في سبيل المثال – كان لا يساوي ثمن حذاء لها.او حين يشعر الفرد الكفوء أنه مغيّب أو مهمّش،وأن من دونه كفاءة يأمر وينهي ويجلس على كرسي أكبر من حجمه بكثير كما هو حاصل الآن،حتى على صعيد الوزراء كما هو الحال في وزارات التربية والتعليم العالي والنقل.. وسبع اخرى!. أو حين يشعر أن الحال قد تردّى وصار على وصف الشاعر: (تمزقت حتى لم أجد فيك مرقعا) فيكفر بالقيم والوطن.

 ولا يحدث الاحتراق النفسي فجأه بل يمر بمراحل، الاولى : مرحلة الحماس الوظيفي، وفيها يكون الموظف (طبيب، مدرّسة،..) في قمة نشاطه الايجابي، مفعما" بالتفاؤل والتوقعات الكبيرة بانجاز اشياء متميزة في مجال اختصاصه. وغالبا" ما يرفض الفشل في عمله ولا يقبل الا بالانجاز الكامل.الا أنه بعد سنوات يدخل المرحلة الثانية : الركود، وفيها تنخفض الطموحات ويدرك الموظف " الطبيب النفسي مثلا " انه محدود بالمتغيرات الموجودة في البيئة الطبية والاجتماعية التي يعيش فيها، وانه لن يستطيع ان يغير ما يريد بمحض ارادته وحماسه لفعل ما هو افضل، وان الأمراض النفسية صارت كالوباء وأنها سوف ستبقى موجودة مهما كانت براعته. واذا لم يكن واقعيا" في نظرته المهنية، فانه سوف ينحدر الى المرحلة الثالثة : الاحباط، وفيها يكتشف ان كل نظرياته الوردية السابقة اصبحت باهته لا لون لها، وانه محدود جدا" فيما يريد ان ينجز،وانه لن يغير ولن يستطيع ان يغير. وفي مرحلة الاحباط هذه ستظهر عليه اعراض نفسية وبدنية ناجمة عن الشعور بالانهاك والارهاق والالام البدنية، تؤدي به الى المرحلة الرابعة: التبلّد، حيث يكون فيها يائسا" من التغيير، تسيطر عليه حالة من عدم المبالاة والسخرية والتهكم من كل شخص يفكر تفكيرا" ايجابيا" بالتغيير او تحسين الاوضاع بالمؤسسة التي يعمل فيها، وكأن لسان حاله يقول لكل من يفكر بأشياء جديدة للتحديث : لا فائدة من ذلك لقد حاولنا قبلكم وفشلنا.

ترى كم من العراقيين أصيبوا بالاحتراق النفسي على مدى اربعين عاما من احتراقات بكل الوان النار؟!. بل لك أن تقول : كم منهم لم يحترق نفسيا ومع ذلك ما زال متعلقا بالحياة.. وبالوطن ؟!

الأعلاميون و ألأحتراق النفسي

 يتعرض عدد من الاعلاميين بعد سنوات من العمل الاعلامي بأنهم ما عادوا قادرين على العمل كما كانوا سابقا فيصابون بالأحتراق النفسي متمثلا بالتعب والاستهلاك وعدم وجود دافع،مع شعوره بأن ما يقدمه اصبح غير مرغوب فيه وليس مهما. وينجم عن هذا الأعياء النفسي والجسدي مشاعر او اتجاهات سلبية نحو مهنة الأعلام حين يتعرض الى اهم ثلاثة اسباب لأحتراقه النفسي:

- حين لم يعد يشعر بانجازه،ولايحصل على نتائج مجزية او ايجابية لعمله.. فتختل المعادلة النفسية القائمة على تكافؤ العمل مع نتائجه.

- حين يقع تحت ضغط الأدارة فيضطر لتنفيذ مطالبها وتحول دون تحقيق طموحاته في التألق والأبداع.

- حين يتنقل بين فضائيات واذاعات وصحف ولا يجد فيها ما يحقق ذاته.

اننا جميعا نتعرض الى ضغوط نفسية تكون على ثلاثة اصناف:

- ضغوط يمكن التنبؤ بها مستقبلا ويمكن السيطرة عليها

- ضغوط يمكن التنبؤ بها ولا يمكن السيطرة عليها

- وضغوط لا يمكن التنبؤ بها ولا يمكن السيطرة عليها.

ويتعرض الاعلامي الى نوعين من الضغوط: ايجابية،ناجمة عن زيادة العبء المصاحب للترقية في السلم الوظيفي، وسعيه الى مواكبة التطور الاعلامي الهائل لتحقيق طموحه في ان يكون مشهورا او نجما اعلاميا، وتحقيق طموح محطته الأعلامية في ايصالها الى التفرد والأقبال الجماهيري. وضغوط سلبية، ناجمة عن التنافس بين زملاء العمل وخوفه من الفشل.. الذي قد يوصله الى كراهية الأعلام ومن فيه!.. وقد ينجم عنها امراض جسمية: ارتفاع ضغط الدم، فقدان الشهية،اضطراب النوم، الربو، الصداع النفسي..، واضطرابات نفسية أخطرها الأكتئاب والأغتراب.

نصيحة للاعلاميين

لمجابهة هذه الضغوط،عليك ان تتدرب بخمس خطوات:

الأولى، مهارات الأسترخاء،مثل: التنفس بعمق.. من الحجاب الحاجز، رياضة سويدية تخفف او تخلصك من التوتر.

الثانية،تسلسل الأهمية للأحداث المشحونة بالضغوط،بأن تبدأ باقلها في الضيق وتنتهي باكثرها.

الثالثة، خواطر المجابهة، بأن تضع قائمة خاصة من الخواطر التي تساعدك على مجابهة الضغوط النفسية،تساعدك على اجتياز الأوقات التي تشعر فيها بالضغط النفسي.

الرابعة، مهارات المجابهة التخيلية، باستعمالك لخيالك حين تكون في موقف ضاغط لتخفيف التوتر.

والخامسة، مهارات المجابهة الفعلية، بعد قيامك بالخطوات الأربع.. ابدأ بتطبيق مواقف التحدي في حياتك اليومية لتصبح تمرينات الاسترخاء الذاتي وخواطر مجابهة الضغوط النفسية.. آلية يتم استخدامها في اي موقف مشحون بالضغوط النفسية.

 وخذ بنصيحة اهداها لي كرم شلبي صحفي مصري درسّنا فن الصحافة في دورة المذيعين (كنا عشرة فقط اجتزنا الأختبار من لجنة صعبة سبعينات القرن الماضي)،ما زلت احفظها بالنص (اذا ذهبت الى مقابلة شخصية مهمة،عليك ان تذهب وأنت معبأ).. أي ان تعرف عنه كل شيء وتفاجئه.. وقد طبقتها مع عفيفة اسكندر. فحين وصلت شقتها بشارع ابي نؤاس الساعة السابعة عصرا، قالت لي :(ترى الساعة ثمانية عندي موعد) فأجبتها: (ولا يهمك ست عفيفه).. وجاءت الثامنة والتاسعة والحادية عشرة ليلا!.. لأنني ذهبت لها معبئا، من قصيدة حسين مردان التي بتغزل بها وما حكاه لي عنها،الى.. (عفيفة اسكندر.. الوجه الآخر) مقالنا الموثق عنها في غوغل، وسيعجبك.

وعليك الاهتمام بصحتك عن طريق الرياضة والنوم الكافي، وحذار من (الفاليوم).. فان احتجت خذ بديله الجديد. واحضر المؤتمرات والندوات فمنها تتعلم الكثير،وسافر لتريح نفسك ودماغك.. وتغسل همومك من متاعب سلطتك الرابعة.. ان كنت تمارسها!

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

يُعتبر جون ديوي ابو البرجماتية الأمريكية والمؤلف والمفكر البارز في مجال التعليم وعلم النفس، كان ايضا يكن تقديرا عميقا للفنون وبالذات حبه الخاص للشعر. كتب ديوي بعض القصائد التي عُثر عليها بالنهاية بين أوراقه ونُشرت بعد عدة سنوات من وفاته. وجد ديوي (1859-1952) نفسه يعيش في زمن الاضطراب الكبير حيث التصنيع، النمو الاقتصادي، والتقدم العلمي. مع هذه المظاهر العديدة لتغيّر الحياة الحديثة بين يوم وآخر، لا غرابة لو سعى ديوي للعزاء في الشعر. يبدو بالنسبة لديوي ان كتابة الشعر ربما هي أكثر من كونها متنفس إبداعي عاطفي او هواية فنية. في الحقيقة، اعتقد ديوي ان الشعر يمكن ان يملأ الفراغ الروحي الذي حصل في الغرب بفعل الانحدار في الايمان الديني وتقاليد الماضي. هذه هي الفكرة التي طرحها ديوي في الكلمة الافتتاحية بمناسبة تخرج الطلبة في كلية سمث في ربيع عام 1890. بدأ ديوي كلامه بمقطع من دراسة الشعر لناقد الادب الانجليزي والشاعر ماثيو ارنولد Matthew Arnold: "ان مستقبل الشعر لا تحده حدود، لأن في الشعر، سيجد الانسان، ومع مرور الزمن بقاءً واثقا وأمينا. لا توجد عقيدة لاتتزعزع، ولا دوغما يقينية غير خاضعة للتساؤل، ولا تقاليد لا تتعرض للانحلال. الدين لدينا جسّد ذاته في الحقيقة، في الحقيقة المفترضة، انه ربط عواطفه بالحقيقة، والآن الحقيقة تثبت فشله. ولكن بالنسبة للشعر، الفكرة هي كل شيء، الباقي هو عالم الوهم، الوهم الديني. الشعر يربط عواطفه بالفكرة، الفكرة هي ان مزيد من البشرية سيكتشف اننا علينا ان نتحول للشعر لكي يفسر الحياة لنا، لتعزيتنا، للحفاظ علينا. بدون الشعر علومنا ستكون غير تامة، ومعظم ما يجري الان في الدين والفلسفة سيُستبدل بالشعر".

يرى ارنولد ان الشعر ذاته هو نقد للحياة:"نقد الحياة في ظل الشروط المحددة لمثل هذا النقد من خلال قوانين الحقيقة الشعرية وجمال الشعر. في مقاله الشهير(دراسة الشعر، عام 1888) يقول ان الشعر وحده يمكن ان يكون مصدر قوتنا وبقاءنا في عصر فقدت فيه الاديان قبضتها". هو يدّعي ان الشعر متفوق على الفلسفة، والعلوم والدين.

بالنسبة لديوي هذا اكثر من مجرد سؤال حول ما اذا كان مستقبل البشرية ينظرللفلسفة، العلوم، الثيولوجي، او الشعر للحصول على أجوبة للحياة. في الحقيقة، ديوي يخشى من ان الشعر سوف يفقد صدقيته، قوته الدائمة، لو امتنع عن المسائلة. يسأل ديوي"منْ يحفظ الحارس؟"، وجوابه هو الحقيقة (انظر الشعر والفلسفة، كلام ديوي في كلية سمث، ص110-112).

الرؤية الى عالم متغير

القوة الخارقة للشاعر هي القدرة على ملاحظة ما يلاحظه افراد آخرون لنفس العالم وتفسيره بطريقة ستكون هامة وجيدة للناس: "الشعراء لا يمكن ان يتحرروا من الظروف المرتبطة بذكاء الانسان في كل مكان"(نفس المصدر، ص113).

التمدد المستمر في المعرفة الانسانية يقلق ديوي في عالم الشعر، بمعنى ان التقدم السريع في تطبيقات العلوم يتطلب شعرا للتكيف معه. الفيزيائي والمنظر الامريكي ريتشارد فينمان Richard Feynman (1918-1988) قال مرة، "انه شاعر رديء من يصمت عند معرفة ان الشمس كرة ضخمة من الهايدروجين المندمج بغاز الهيليوم". هذا الاقتباس يتصل مباشرة بمخاوف ديوي. في الحقيقة، الشعراء لايستطيعون التحرر من ظروف فهم الانسان. بل، ان هذه الظروف تحرر الشاعر لينظر للعالم بالأصالة التي يدعو لها ديوي. ولكن وكما ألمح فاينمان، لا كشف علمي او فلسفي يستطيع ان يُضعف الحقيقة المعبّر عنها مثلا في قول والت وتمان walt whitman"إعطني الشمس الرائعة الصامتة"(1865):

حافظ على شمسك الرائعة الصامتة،

حافظ على غاباتك، والأماكن الهادئة بجانب الغابات،

حافظ على حقول البرسيم وحقول الذرة والبساتين،

حافظ على حقول الحنطة السوداء الرائعة وحيث همهمة النحل في الشهر التاسع،

اعطني وجوها وشوارع، اعطني هذه الارواح المستمرة بلا نهاية على طول الممرات الجانبية:

اعطني عيون لا متناهية، اعطني امرأة، اعطني رفاق ومحبين بالآلاف،

يلاحظ وتمان جمال الطبيعة و "الأماكن الهادئة بجانب الغابات"، ولكن هناك اضطراب فيه، وفي السطر الاخير من القصيدة نشهد تطور الثقافة. ان رفض القصيدة للاماكن الهادئة بجانب الغابات، وحقول البرسيم والقمح، يُبرز التحول الانساني من العثور على العزاء في جمال الطبيعة الى العثور عليه في حضور الآخرين. هذا التحول لوحظ بوضوح بعد الاحداث التي وقعت في بداية او خلال القرن العشرين – الحرب العالمية، المجاعة، التحطيم البيئي غير المسبوق في التاريخ.

عندما تتعرض الانسانية لتهديدات وجودية خلال القرن (ثلاثة اوبئة انفلونزا، حربان عالميتان، مجاعات متعددة، وقمع مميت) فمن الصعب الحصول على العزاء فقط بالمشي بين الغابات. في عصرالتقدم التكنلوجي الحالي نحن سوف نلتفت ايضا الى "رفاق ومحبين" بحثا عن عزاء عاطفي في ساعاتنا الحالكة بدلا من الطبيعة.

لكن اذا كان الشعر هو إقامتنا، كما يرى ديوي، فوفق أي سلطة يعزل وتمان الانسان عن الطبيعة؟ أي حقيقة هو يجدها في المرأة، في الوجوه، والشوارع؟ وهل لانزال نستطيع النظر الى هذه الأبيات بعد 150 سنة لتعزية أنفسنا؟

بالطبع، كلمات وتمن يتردد صداها اليوم كما في وقت كتابتها. بعد تمديد فترات الاحتجاز والحجر الاجتماعي اثر وباء كورونا، نحن لا نستطيع النظر بسهولة للعالم الطبيعي طلبا للمساعدة. الآن، اكثر من أي وقت مضى، نحتاج للارتباط الانساني والتجارب الاجتماعية. الحقيقة الواقعية التي يعرضها وتمن جرى التحقق منها عبر ظروف الانسان التي نمارسها اليوم، وهي لايبدو تفقد أي زخم. حتى في هذا العصر من الاتصالات السهلة والفورية، لانزال نجد أنفسنا نحب اللقاء وجه لوجه.

الذهب و فروست

اذا كانت الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة هي ما يُكتشف في السطور العميقة لولت وتمن. هل سنجد ذات الشيء عند استطلاع أبيات الشاعر روبرت فروست Robert Frost؟

قصيدة فروست "لا شيء يبقى ذهباً(1923) تتأمل باختصار في راهنية الحياة، ومرة اخرى نحن نحصل على مقارنة فعالة مع الطبيعة وجمالها:

زهرة أوراقها المبكرة،

لكن فقط لساعة.

الورقة تتضائل الى ورقة.

هكذا غرقت عدن في حزن

حتى ينزل الفجر الى نهار.

لا شيء من الذهب يمكن ان يبقى.

هذه الأبيات المختصرة حول لايقينية الحياة تذكّرنا مباشرة بمقطع من ماثو ارنولد: لا وجود لعقيدة لا تهتز، لا تقاليد لا تتحلل. تماما كما اقترح ديوي حول شعر ارنولد، قصيدة فروست ايضا تذكّرنا بالفلسفة الكبرى للرواقيين وكتابات ماركوس ارليوس. ولكن كما في ديوي لا يعني الافتراض ان ارنولد ترجم تأملات ارليوس الى قصيدة شعرية، ولا ندّعي ايضا ان فروست نسخ الفلسفة الرواقية الى اسطر ثمانية: بل ان التشابهات تبرز من نفس الحقيقة الملاحظة من جانب هؤلاء الكتاب. إلهام الرواقيين واضح في الكثير من أبيات فروست، مثل التحفظ (1936)، مجموعة من قصائد قصيرة حول أمد الحياة:

هل الآفة تقتل الكستناء؟

الفلاحون غير واثقين

انها تبقى تحترق ببطء في الجذور

وترسل نموا جديدا،

حتى طفيلي آخر.

يأتي لقتل الآفة.

انظر الاستعمال المستمر لفروست للمجاز والخيال الذي يدور حول الطبيعة. مع ذلك بينما الطبيعة فكرة ثقيلة يعتمد عليها فروست، لكنه مثل وتمن يبدو انه يجد الكثير من العزاء فيها. مرة اخرى نحن يجب ان نسأل أي حقيقة توجد في هذه السطور.

الادّعاء الذي يطرحه فروست في هذه الأبيات هو ما نلاحظه عموما في الحياة. كل شيء في نظام هو بالنهاية يتحول الى اضطراب – هذا هو قانون انتروبيا. الكستناء التي هي تحتمي مؤقتا من الآفة، سوف تذبل وتتعفن بالنهاية. هل فروست مهوس بالموت؟ او هل نستطيع العثور على العزاء في موتنا؟

كما في وتمن، نحن لا يجب علينا عمل جمناستك ذهي للتعاطف مع الحقائق التي يدّعي بها روبرت فروست في شعره. هذه الحقائق تجسد تجربة حياة الانسان، لم يردعه التقدم في المعرفة العلمية او الوحي الديني. نجد من السهل الاعتقاد ان فاينمان امتلك ابيات فروست في ذهنه عندما تحدث عن مهارات الشاعر.

الشعر للذهن الحديث

لذا نحن الان نجد أنفسنا في "جرح غير طبيعي"يتحدث عنه ديوي متمثلاً بالفجوة القائمة والمستمرة بين العلم والشعر، والتي هي ايضا تعني الانفصال بين الانسان والطبيعة. الانسان في العالم الذي نظر اليه ارنولد، قد تحرر من سلاسل الدين في بحثه عن مصدر جديد للعزاء والراحة وهو لم يتمكن من العثور عليه في ميادين العلم والفلسفة. ألا يذكرنا هذا بالعالم الذي نعيش به اليوم؟

التجارب، الاختبارات، الفرضيات، السجلات، والمراجعات – هذه أدوات العلماء. اذا كان العلماء يهتمون بالمعرفة، فان الفيلسوف يركز على الحكمة. وان المنطق، الاستجواب، والمناقشة هي ادوات الفلسفة. لكن وسيلة الشاعر هي الشعور الملاحظ والتجربة المعاشة عندما يركز على الحقيقة.

الشاعر بالتأكيد، غير متحرر من إثباتات العلم، ولا من استجواب الفيلسوف. في الحقيقة، اذا كانت أبيات الشاعر لا تبقى منسجمة مع هذه القوى، فسوف لن توجد حقيقة فيها. لكن في كل من اشعار وتمان و فروست نحن لا نجد عدم الدقة العلمية او المغالطات الفلسفية. مع ذلك، نحن حقا نجد البقاء والعزاء الذي تنبأ به ارنولد في الشعر، والذي قال ديوي اننا نحتاجه جدا.

اذا كنا نبحث في الشعر عن عزاء للحقائق الباردة التي يمنحها لنا العلم والحكمة الصلبة التي تفسرها لنا الفلسفة – فانها بالتأكيد توجد في قصائد وتمان وفروست. اذا كان العلم يعطينا الحقائق، والفلسفة تكافح لأجل الحكمة، عندئذ فان الشعر يعطينا الحقيقة الوجودية. مرة اخرى، الافكار التي يتم إبلاغها بالقصائد تجد سلطاتها في حقائق التجارب القابلة للتصديق التي يتم تقاسمها جماعيا بين الناس. وبالرغم من ان الحقائق المعطاة لنا من جانب فروست، وتمان، وشعراء اخرون لم تُكتشف حديثا، فهي تُعطى بطريقة تتصل بتجاربنا. عندما يُعاد تفسير هذه الافكار من جانب شعراء أكثر مهارة، فان الحقائق المنقولة عبر هذه القصائد سوف لن تخفت.

الشعر للذهن العالمي

لكي يكون الشعر مقبولا كحقيقة، خاصة في ظل ارشادات ديوي، فان الكلمات يجب ان تعكس التجربة الشائعة للانسانية. هذه التجربة المشتركة ستكون مجموعة من الحوافز الثقافية والبيئية لا يشترك بها فقط مجتمع معين او جماعة معينة وانما كل العالم، وهي تستمر عبر الزمن. هنا "التجربة الشائعة" تختلف عن التقاليد الثقافية والطقوس الجماعية في كون الأخيرة أقل شيوعا ويتم تقاسمها فقط من جانب الافراد في جماعة معينة. ونحن نلاحظ انه في عصر التواصل الاجتماعي، تكون الاختلافات بين جماعات متميزة هي بنفس درجة الوضوح في التشابهات بينها.

بالرغم من الاختلافات فان الشاعر يجب ان يرتقي برؤيته لكي يستطيع ربط تجربته بالافراد عبر الثقافات والأزمان، لكي لا تكون قصيدته فقط استجواب لما هو مختبئ في العالم. بكلمة اخرى، الشعر الجيد يبقى صحيحا لجميع الافراد المتميزين بالفهم بصرف النظر عن خلفياتهم او تربيتهم الثقافية. هذا بالضبط يفسر لماذا لانزال ندرس ونقرأ ونتمتع بشكسبير ودون ودانتي. الحياة اليومية لدانتي ستكون مختلفة جدا عن حياتك او حياتي، وان المعرفة المتوفرة له محدودة جدا بالمقارنة، ذلك يعني من الصعب تصوّر انه يستطيع كتابة أي شيء لايزال يستحق الدراسة بعد ثمانية قرون. لكن دراسة ذلك هو بالضبط ما نجد أنفسنا نقوم به. والحقائق التي يكتبها فروست ووتمن هي نفس الحقائق التي كانت متوفرة لوليم شكسبير وجون دون John Donne.

البقاء مع الشعر

في الختام، ربما ينظر احد مجددا لكلام ديوي ليجد انه يتنبأ بانه مع التقدم المتسارع في المعرفة العلمية، فان الانقسام بين الانسان والطبيعة سوف يستمر بالاتساع. هو يقترح انه بالرغم من ان هذا الصدع سيضخّم الاديان والتقاليد، لكننا يجب علينا الالتفات الى الشعر لردم الهوة. يقترح البعض ان نُبقي في الذهن فكرة ديفد هيوم بان احدا لايستطيع الحصول على ما ينبغي ان يكون مما هو كائن: اي ان احدا لا يستطيع النظر الى الطريقة التي يبدو بها العالم ويقرر من تلك المشاهدات الطريقة التي يجب ان تكون. الشعراء العظام الذين يشير لهم ديوي ربما لاحظوا هذا الانقسام ولكن كما نرى من وتمن وفروست، ان هذا الانقسام شجع الانسان ليكوّن روابط أقوى مع رفاقه ومحبيه، والنظر باعجاب وتقدير للطبيعة.

من جهة اخرى، يمكن القبول بان البشرية حقا يجب ان تنظر الى الشعراء لتفسير المعرفة والحكمة التي تجلبها لنا الفلسفة والعلوم. ان الاختلاف بين تلك الحقائق والحقائق المفسرة بواسطة الشعر ليست الاّ اختلافات في اللغة. الشعر يستطيع الناس فهمه والوصول اليه بسرعة اكبر. طالما هذه هي الحالة، فان الشاعر هو المهندس في مهمة ردم الفجوة بين العلم والفلسفة من جهة والانسانية من جهة اخرى. العلم ليس الا مجرد وسيلة لفهم كيفية عمل العالم، الفلسفة ليست الا وسيلة للخطاب لفهم كيف نكتسب المعرفة، لكن الشعر هو طريقة لتفسير فهمنا للبشرية. في الحقيقة، نحن سنجد في الشعر بقاءً واثقا وأميناً.

***

حاتم حميد محسن

........................

Poetry and philosophy for the 21st century, philosophy Now Dec/Jan 2023

من أجل ان نحافظ على حرية الفكر والتعبير ولكي نواصل عملية التفكير النقدي ومن أجل مواصلة مسيرة المؤسسين الأوائل لثقافتنا الحديثة والبناء على ما أسسوه، أجد من الضروري ممارسة الشك المنهجي تجاه شك طه حسين في تراثنا الكبير من الشعر الجاهلي وإعادة مساءلة منهجيته ومدى دقتها ونتائج بحثه ومدى صحتها ومنطلقات بحثه ومدى علميتها!

ثم أليس طه حسين يدعونا الى اتباع منهج الشك!؟

فالاولى إذاً ان نشك بنتائجه التي اطلقها كأحكام عامة على تاريخ أمة كبير، ونفى من خلالها شعر مرحلةٍ كاملة، في ضوء افتراضات وتأويلات شخصية وشكوك ببعض هذا الشعر وقصائده ليعممها على الشعر الجاهلي كله وشعرائه كلهم .

كان الاولى بطه حسين ان ينفي شخصية او بعض الشخصيات او قصيدة او بعض القصائد بناءً على دراسة علمية وبحث منهجي وادلة بيّنة، أما ان ينفي تراث مرحلة كامل فذلك حكم مطلق عام يمكن ان نكشف تهافته ولاعلميته بتساؤل بسيط يحمل صفة التشكيك كما فعل هو فيقال له ؛

من وضع هذا الشعر كله!؟

ومادليلك على وضعه!؟

وفي اي وقت وُضع هذا الشعر!؟

وهل يعقل ان امة كاملة تتفق على تزييف تاريخ مرحلة كاملة وتضع له شعراً وتتبناه دراسةً ونقداً وتاريخاً!؟

واي مؤسسات كبرى ودول وقفت وراء هذا الموضوع لتضع كل ذلك وتزوره وتقنع به الاجيال لمدة الف عام حتى جاء طه حسين ليكشف هذا التاريخ المزيف كله!؟

اعتقد ان طه حسين لم يكن علمياً ولامنهجياً في شكه كما شخصت انت وكثيرٌ من الباحثين الجادين ذلك بدقة .

الشك المنهجي العلمي كان يجب ان يدعوه الى دراسة علمية منهجية لهذا الشعر ليقول لنا اي قصيدة مشكوك فيها او منتحلة واي شخصية غير حقيقية او مفتعلة، لكي يستطيع العقلاء واهل العلم قبول كلامه، اما بطريقته هذا الشكية الافتراضية واللاعلمية والتي تصدر احكاماً عامة وبهذا الاطلاق الشمول! فيكفي ان نجادله بطريقته ونقول له نحن نشك بكلامك وادلتك لانها كلام شخص واحد امام آلاف من العلماء والباحثين الذين اثبتوا وجود الشعر الجاهلي لكنهم شككوا ببعض القصائد وبوجود بعض الشخصيات اتباعاً للبحث العلمي وعملاً بالشك المنهجي، وليس كما فعلت في شكك اللامنهجي و احكامك الاطلاقية التعميمية اللاعلمية .

والثانية انه خلص الى نتيجة وهي اننا لايمكن ان نقرأ الحياة الجاهلية من الشعر الجاهلي لكننا يجب ان نتعرف على هذه الحياة من القرآن، وهذا امر ان قبلناه سقط شك طه حسين، فالقرآن يخبرنا عن شعر العرب وشعرائهم وانهم اتهموا النبي بانه شاعر وهذا الاتهام يدل على ان ظاهرة الشعر والشعراء ظاهرة معروفة وشائعة لدى العرب، فهل تم اخفاء كل ذلك الشعر ومحوه من الذاكرة واستبداله بشعر موضوع وشعراء غير حقيقين من وضع العصور التالية!

انه امر يستدعي الشك حقاً! اي الشك في الشعر الجاهلي كله، بناءً على القرآن كما يدعونا طه حسين نفسه، فالقرآن يخبرنا عن الشعر والشعراء عند العرب ويحذر من اتباعهم والسير على نهجهم لانهم يعيشون الخيال المتقلب والوهم ولايبنون حقيقةً عقلانية:

{ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) }

ولذلك ينفي عن نبيه ان يكون شاعراً او يسير على طريقة الشعراء:

 {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ}.

فاين هذا الشعر الذي يتحدث عنه القرآن!؟

ومن هؤلاء الشعراء الذين يتحدث عنهم القرآن!؟

اذا كان هذا الشعر كله منتحلا ومكذوباً والشعراء كلهم اسماء وهمية، وهم حسب شك طه حسين غير موجودين وغير حقيقيين، ولا أصل حقيقي للشعر والشعراء الجاهليين!؟

قراءة طه حسين قراءة غير علمية وشكه ليس منهجياً ونتائجه تعميمات ايديولوجية، والحق انه (شك طه حسين) هو الذي يستدعي الشك والتساؤل!

ويكفي الدراسة العلمية التي قدمها الدكتور ناصر الدين الاسد في الرد على شك طه حسين واسقاط نتائجه غير العلمية ….

الثالثة وهي الاخطر، ان شك طه حسين في الشعر الجاهلي ونفي هذا الشعر لم يكن مقصوداً لنفسه ولغاية علمية، فطه حسين نفسه عاد ودرس هذا الشعر ودرّسه في الجامعة وقدم حديث الاربعاء وهو كتاب تناول فيه دراسة الشعراء الجاهليين وشعرهم .

إذاً ماهي الغاية من التشكيك بالشعر الجاهلي؟

لقد كانت الغاية هي التشكيك بالقرآن وقصصه، كما ذكر ذلك هو في كتابه، حيث شكك بوجود النبي ابراهيم وغيره من الانبياء وعد ذكرهم في القرآن ليس دليلاً على وجودهم التاريخي معللاً ذلك بان القرآن كتاب هداية وانه يستخدم المعلومات المتعارف عليها والقصص المنتشرة في زمنه لاقناع الناس وتوضيح مايريده لهم كما يستعين المعلم بالقصص والشخصيات القصصية المشهورة لتعليم الطلاب وليس لاثبات وجود الشخصيات تاريخياً!

وهذا مااستدعى ثورة الرفض التي واجهها والتي اضطر بسببها للتراجع وطباعة الكتاب بعد رفع التشكيك بالقرآن!

ومن هذا يتبين ان الرجل لم يكن قاصداً التشكيك بالشعر الجاهلي وانما كانت غايته التشكيك بالقرآن واسقاطه ككتاب ديني مقدس والتعامل معه ككتاب قصص وتاريخ مزيف كما تم التعامل مع التوراة والانجيل واسقاطهما من الاعتبار!

لذلك اقول ان قراءة طه حسين كانت ذات مسبقات ايديولوجية وغايات غير علمية وباسلوب الشك اللامنهجي .

***

د. احمد حمادي - المانيا

 

ثمّة تفسيرانِ أساسيان للتطرف في التأملات النقدية المعاصرة، وهما يقومان على فكرة أنّ التطرف تفريط أو إفراط في الوعي واغتراب عن التسامح العقلاني.

لا مبالغة عند القول اننا كأمة بشعوبها وتكويناتها الثقافية والاجتماعية والدينية والاثنية، يوما بعد يوم نغرق أكثر فأكثر في طوفان التطرف، فإذا كان الأمر متوقفا على ظاهرة الأمية أو البداوة في المجتمع فهو هين وقابل للنقاش، بالنظر لمخلفات الثقافة الاستعمارية في العالم العربي والإسلامي من جهة، وفوضى المنظومات التعليمية وفساد الادارة والتعصب الذي صنعته التيارات العلمانية والدينية من جهة أخرى، لكننا لا يمكننا أن نغمض أعيننا ونمر مرور الكرام ،عندما التطرف -الذي وصفناه بالمقال السابق أنه جهلا- يلبس العلم لباس الفرو مقلوبا، حيث يتقمص التطرف إسم العلم،عندما يصبح المتطرف دكتور يشتغل في مؤسسة جامعية عريقة أو في معهد عال، فهذا هو الاستغراب الخطير في مجتمعاتنا.

أن يسوق التطرف بغلاف علمي وإشهار عالمي وبصبغة قانونية، هنا الخطورة حيث يصبح العلماني والديني يتنافسان في تسويق التطرف بين الأفراد في المجتمع على حساب التسامح العقلاني..

 أن يحاضر دكتور في الفلسفة امام الطلبة ليبلغهم أن الخلاص هو في نبذ الوسطية وخاصة الإسلامية لأنها ضد النقد، فهذا عين الطامة، أن نتطرف في اصدار الاحكام على مفاهيم لأنها لم تتجسد في الواقع، والطامة الكبرى أن نتطرف بلا حكمة على ماهية هذا المفهوم في روح الإسلام، هذا استغراب العلماني عندما يتطرف على واقع مجتمعه بدل السعي نحو تصحيح المسارات وتجديد المناهج وتقريب الأغيار لإبداع النهوض الحضاري لدى إنساننا ككل.

ومن الطرف الآخر المتطرف الديني الأكاديمي الذي يدعو إلى إضافة مقررات إلى باب النكاح في الفقه الإسلامي في كليات الشريعة تخصص الفقه خاصة بذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين والموظفات والمضيفات بالطائرات والمطاعم والفنادق وهلم جرا، هذا تطرف بإسم الدين لغايات مريبة في نفوس أصحابها يراد العبث من خلالها بالوعي الديني وتشويه العقل وتعطيل المجتمع بحصره ضمن مربع التفاهة لكن بحلة أكاديمية عصرية تجعله يغترب عن دوره الحقيقي في الحياة..

في ظل هذا التطرف الأكاديمي بشقيه الديني والعلماني والذي لا يمكنه البقاء إلا إذا كان المجتمع فاسد الوعي، ومثل هذه الأمثلة وغيرها الطاردة للعقلانية السليمة والتسامح العقلاني والتعايش السلمي والتعاون الإبداعي، هي الركيزة الثقافية التي تستند عليها منظومة التطرف في تدمير كل مشاريع النهضة والتجديد والإصلاح في المجتمع.

أن يحاضر شيخ طائفي تكفيري في جامعة عريقة ويحدث طلبته عن هلوساته وفتاواه الإباحية والتكفيرية للشعوب والأنظمة بدون حياء ولا رهبة، بينما يطرد اكاديمي مثقف من جامعة وتحاصر كتبه كما تحاصر كتب المجددين في الفكر والثقافة والدين والاجتماع، كل هذا يعني أننا لسنا على شفا جرف هار وإنما في واد الطامة.

هذا هو حالنا في ظل تطرف أكاديمي صوري لا علاقة له بالعلم والفلسفة والدين وقيمه الإنسانية العظيمة والسمحة، لسنا ضد أي شخص ولكن علينا نظم أمورنا ووضع الشخص المناسب بعلمه وأخلاقه وإتقانه واخلاصه وشجاعته في المكان المناسب، الأكاديمي المفروض هو الصورة المثلى للنباهة والاخلاق والوعي والدقة والحكمة والصدق لا افراط ولا تفريط، لا دين داخل العلمانية ولا علمانية داخل الدين، هناك واقع بحاجة لاسعاف ثقافي دقيق بدلا عن الترهات والأساطير الطائفية التي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي حتى أصبحت تدرس في مدرجات الجامعات وتنقل عبر الشاشات والإذاعات وفي الندوات الرسمية بأصوات من يقال عنهم اكادميين، نفس الشيء المعلبات الغربية التي تنمق بها محاضرات علمانيي آخر الزمان دون أدنى تدقيق أو معرفة بجذورها ومنهجها وما هنالك مما كتب عنه ادغار موران وهو اللاديني، وما فنده كارل بوبر، هذه الأفكار والأقوال والقصص والفتاوى والأحكام والنظريات التي جعلت نقالها ممن هم فرضا أكاديميون، يعيشون إما استغرابا في فوضى التاريخ او الغرب المعاصر، كلما تصادفني أشعر بغثيان ثنائي التطرف اسمه الحسرة، في عالم لايزال يبحث عن معنى الحياة وماهيتها ودوره فيها، عالم نخبته غالبيتها لا تتقن سوى مباحث الجنس والمال والتاريخ بغثه وسمينه والعنف والفوضى، عالم خصه الله بدين التمدن والإنسانية والجمال والسلام لكنه يدمن التطرف والتعصب ويرفض التسامح والتعارف والتعايش والحوار، عالم لا تزال الجامعة فيه تفتقر لعلم اجتماع القيم رغم مخزونه العظيم الذي لا زال الاستشراق يغرف منه غرفا، بينما شبابنا يعيشون عصر التكنولوجيا المعقدة والبحوث في الذكاء الاصطناعي وهناك من يحدثهم عن جهاد النكاح وعلمانية المثلية،  إنها حسرة ثقافية كبيرة أن نظل نجامل.

هذا السرطان الثقافي المهدد لمجتمعاتنا، بحيث يصبح "المتطرف" "أكاديميا" مبجلا، ويوجه بإسم الدين والعلمانية مجتمعا كالمجتمع العربي والإسلامي الذي يغرق في وحول اللاعقلانية واستحكام التمويه الثقافي الديني واللاديني...

واختصارًا لما سبق يضمّ هذا الطرح للتطرف الفكرة القائلة: إنّ التطرف أساسًا لا يتضمّن فقر معرفيّ فقط؛ إنّما يتضمّن أيضًا إخفاقاً ثقافيا ًّ في صناعة الوعي بل موت سريري للاستراتيجية الثقافية النهضوية في مجتمعاتنا لأن كرسي العقلانية مختطف!!

وبالتالي: هل يمكن أن يكون مركز التطرف أكاديميا لهذه الدرّجة؟ !!.

حتى نجيب على هذا السؤال ببساطة يجب علينا أن نتأمل في مخرجات التطرف بكونها غياباً للسلام والجمال والإحسان، حتىّ لو جادل رواد التطرف بجناحيه الديني والعلماني جميعهم على أنّ تطرفهم يتضمّن ذلك؛ إذ لا بدّ لنا أوّلًا من موضعة مفهوم التطرف في ميزان نظرية قيم حضارية موسّعةٍ ؛ حيث يحتلّ التطرف موقعاً سلبياًّ مقابل التسامح العقلاني الثقافي، كما أنه لا يتسنى لنا فهم التطرف إلا بواسطة ذلك، وتحديدًاً، مسألة احتوائه على غياب العدالة والتعارف والتعاون والإبداع وإخفاقه الثقافي في الإصلاح والتجديد السلميين، إنه التطرف بوصفه اغتراب عن ثقافة التسامح العقلاني..

***

بقلم: أ. مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

(إن معرفة الماضي دائما"نسبية، إذ تستجيب لمتطلبات الوضع القائم، وأنها دائما"عملية، إذ تجيب عن أسئلة حالية) ... د .عبد الله العروي(1)

للوهلة الأولى تبدو عبارة (الماضي) بريئة من المقاصد الرمزية ومحايدة عن التضمينات القيمية التي اعتادت الجماعات البشرية على الاعتقاد بها والاحتكام إليها والشروع منها، حين تلوح في أفق حياتها عواصف الأزمات السياسية والتوترات الدينية والانقسامات الاجتماعية والاحتقانات النفسية والانعطافات التاريخية، باستثناء كونها تشير إلى صيغة زمنية مضى أوانها وانقضى عهدها وتصرّم أمدها، وبالتالي فهي عبارة تقع خارج السياقات الاجتماعية والحضارية والتاريخية الحديثة والمعاصرة . بيد أن الحقيقة هي إننا لو أنعمنا النظر بتلك الكلمة (الماضي) سنجدها مثخنة بالدلالات ومكتنزة بالمعاني ومشحونة بالإيحاءات المبثوثة في كل زاوية من زوايا الوعي، والقارة في كل ركن من أركان الواقع . فهي، والحالة هذه، من العبارات التي تضمر وتخفي أكثر مما تظهر وتفصح، وتكتم وتستر أكثر مما تعلن وتبيح . لا بل يمكن القول أنها عبارة ملتبسة المعنى وإشكالية الدلالة وغامضة الإيحاءات بامتياز، خصوصا"في المجتمعات العتيقة /القديمة التي تمتاز مكوناتها بتعدد الأديان / المذاهب، وتنوع الأعراق / الأقوام، وتباين القبائل / العشائر وتغاير اللغات / اللهجات . ولذلك فقد شبّه المؤرخ الفرنسي (فرانسوا هارتوغ) دلالة مفهوم الماضي بمثابة خزان (من التصورات الخيالية للأفعال الممكنة، حيث ننطلق من أساطير الأصل إلى ذكريات حديثة العهد، من انفصال الأرض عن السماء إلى تثبيت حدود الجماعة، من الإلهي إلى الإنساني، من المجرد إلى العياني، من العام إلى الفردي)(2) .

ومن هذا المنطلق فليس من الغريب أو الصدفة أن تكون لصيغة زمن (الماضي) تلك العلاقة الحميمة بكل أنماط الظواهر والموجودات، التي تتبلور صيرورتها ويتمخض وجودها بناء على ممارسات الإنسان وطبيعة علاقاته، سواء"مع منتجات الطبيعة أو معطيات المجتمع أو تمظهرات الفكر . فالصيغة الزمانية – كما نظيرتها المكانية - وان بدت خارجة عن أواليات وديناميات الفضاء الاجتماعي ومستقلة عن نوازع عناصره ودوافع مكوناته، إلاّ إن ضرورتها الانطولوجية وأهميتها السوسيولوجية تتأتى من كونها كانت – وستبقى - مقترنة بسيرورات الإنسان في خضم عمليات التاريخ إنتاجا"ووعيا"، فعلا"وانفعالا"، تأثيرا"وتأثرا"، هذا بالإضافة عما ينجم عن كل هذه الفعاليات والممارسات من أنشطة مادية مختلفة وفعاليات رمزية متنوعة . ولإيضاح طبيعة هذه العلاقات العضوية والروابط الشبكية التي تشدّ الإنسان إلى الماضي وتملي عليه التصورات والخيرات، فقد أشارت الفيلسوفة والأكاديمية (ميريام ريفولت دالون) إلى انه (لم يعد التاريخ موضع تفكّر فحسب، بل يجب صنعه . انه السيرورة التي يتحقق فيها الإنسان، ذلك أن التاريخ هو تاريخ الإنسان الذي هو سيّد ذاته)(3) .

ولكي ندرك مقدار أهمية صيغة (الماضي) بالنسبة لفاعلية الإنسان في سيرورة التاريخ، وما قد يترتب على هذه السيرورة من بنى اجتماعية وأنساق ثقافية أنماط حضارية وتواضعات سلوكية، كان لابد لنا من معاينة سريعة وموجز لمختلف ضروب تلك المعطيات والتمظهرات التي تتمخض عن / وتترتب على علاقة الزمن الماضي بتلك الأنشطة والفعاليات التي يمارسها الفاعل الاجتماعي، سواء على صعيد سرديات وعيه للواقع الموضوعي (أسطورة، دين، ذاكرة، متخيل)، أو على صعيد منتجات علاقته بذلك الواقع (تاريخ، تراث، فولكلور، ثقافة، لغة) . وبالتالي يتسنى لنا معرفة كيف إن التلاعب بمواريث الماضي واستثمار رصيده الاعتباري وتوظيف رمزيته السيكولوجية، من قبل الجماعات المهمشة والسلطات السائدة على حدّ سواء، كفيل بتحويله من مثابة مركزية تستقطب شتات المكونات السوسيولوجية وقاسم مشترك يشدّ أزرها وعاصم يدرأ عنها الانفراط، إلى عامل من أخطر العوامل التي تتسبب بتمزيق لحمتها الوطنية وتفكيك نسيجها الاجتماعي وتدمير مدماكها الثقافي وتخريب معمارها الأخلاقي، كما حدث في العراق بعد الغزو الأمريكي وغيره المجتمعات التي تعرضت لذات الظروف القاسية والأوضاع العنيفة.

***

ثامر عباس

........................

الإحالات والملاحظات   

1. الدكتور عبد الله العروي؛ مفهوم التاريخ، الجزء الأول، الألفاظ والمذاهب، (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992)، ص38 .

2. فرانسوا هارتوغ؛ تدابير التاريخانية: الحاضرية وتجارب الزمان، ترجمة الدكتور بدر الدين عرودكي، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2010)، ص68.

3. ميريام ريفولت دالون؛ سلطان البدايات: بحث في السلطة، ترجمة الدكتور سايد مطر، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2012 )، ص147 .

(الأزهر يدين تصرف وزيرة المانية في مباراة كأس العالم بدولة قطر)

توطئة: يوثق القرآن الكريم تاريخ الجنسية المثلية الى عهد النبي لوط في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وهناك من يرى ان تاريخها اقدم بكثير.هذا يعني ان الجنسية المثلية لم تظهر حديثا لهذا السبب او ذاك.

وقد تم نحت مصطلح (Homosexuality) في القرن التاسع عشر، وهو مؤلف من مقطعين ( Homo ) وتعني المماثلة، و (Sexuality) وتعني النشاط الجنسي.وصارت تعرف في اللغة العربية بـ(مثلي الجنس)، ثم (الجنسية المثلية) مقابل مصطلح (Heterosexual ) التي تعني الجنسية المغايرة او الطبيعية.

هل الجنسية المثلية.. فاحشة؟

يصف القرآن الكريم الجنسية المثلية التي مارسها قوم لوط بالفاحشة، بقوله (أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين – الاعراف 80)، وقوله( ولوطا اذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون- النمل 54).

وتعني الفاحشة بحسب تفسير اهل الدين بأنها (معصية كبيرة في غاية القبح، او متناهية القبح)، وعدّها آخرون (قبحا كبيرا كالزنا)،  فيما تعني بحسب المختصين باللغة (ما عظم قبحه من الافعال والأقوال)، يقابلها في اللغة الانجليزية (Immorality) أو (Shameful Deed).

هذا يعني أن الدين الأسلامي وضع الجنسية المثلية في صنف الأخلاق التي لا تترتب عليها عقوبة، بقدر ما يكون مرتكبها قبيحا منبوذا في مجتمعه.

هل الجنسية المثلية.. جريمة؟

تنظر مدارس الشريعة الاسلامية التي تعتمد على اسس قرآنية واحاديث نبوية الى ان المثلية الجنسية هي شذوذ جنسي وخروج عن فطرة الانسان. ويصنف العلماء هذه العلاقة كخطيئة وجريمة يجب ان يحاسب عليها مرتكبها فيما لم يرتب نفس العقوبة على المثليات الجنسية ولم يعد السحاق زنى.غير ان ابن القيم في كتابه الجواب الكافي يقول (ولما كانت مفسدة اللواط من اعظم المفاسد، كانت عقوبته في الدنيا والاخرة من اعظم العقوبات).

للأزهر.. رأي

في مباراة كأس العالم المقامة في قطر (كانون الأول 2022)، حصل ان حضرت وزيرة المانية مباراة بلادها مع اليابان مرتدية شعار المثليين في منصة المتفرجين الخاصة بالمسؤولين، وصف تصرفها بأنه تحد سافر لقوانين دولة قطر، ما دعى شيخ الأزهر (أحمد الطيب) الى التضامن مع قطر، منددا بما وصفه (الغزو الثقافي الغربي الذي يريد تقنين المثلية والشذوذ والتحول الجنسي في المجتمعات الشرقية بدعوى الحقوق والحريات وغير ذلك من الأفكار غير المقبولة دينياً وإنسانياً).وما يعنينا هنا انه وضع (المثلية الجنسية) في صنف الأفكار غير المقبولة دينيا وأنسانيا.

وعن الحدث ذاته كشف مصدر أمني رفيع المستوى في القاهرة بأن (هناك مخططاً يجري تنفيذه لنشر المثلية في مصر والوطن العربي، وأن اتفاقية السيدو التي طرحت مؤخراً من جانب الأمم المتحدة لدعم الدول النامية تحتوي على بند يطلب من الدول العربية الموافقة على زواج المثليين، إلا أن مصر تحفظت على هذا البند الذي أعيد طرحه مرة أخرى). ورصدت الأجهزة الأمنية مؤخراً أفلاماً كرتونية للأطفال تشجع على المثلية.

وبالضد من كل المواقف السابقة، فان داعية أسلامية أسمه (مصطفى راشد) أيد زواج المثليين، مؤكداً أن (تحريم زواج الشذوذ جاء بالنسبة لآل لوط فقط). وحصل أن اقيم علنيا حفل لزواج المثليين على مركب وسط النيل.

في العراق.. طنطا!

على مدى أربعين سنة، وتحديدا" من عام 1980 بداية مسلسل الحروب الكارثية، عاصرت ما حدث بالمجتمع العراقي من ظواهر، واجرينا دراسات ميدانية سواء في ميدان جرائم القتل البشعة، البغاء، المخدرات، العنف، أو المثلية، توصلت من خلال من التقيت بهم الى الحقيقة الأتية :

(حين يمر المجتمع بأزمة حادة،

فأنه ينتج عنها ظواهر سلبية

تتجسد أكثر في أوساط الشباب).

واللافت للانتباه ان الظاهرة السلبية التي تحدث في المجتمع لها علاقة بطبيعة أو نوعية الازمة. ففي زمن الحصار شاعت في المجتمع ظاهرة سرقة السيارات المصحوبة بقتل اصحابها، التقينا في سجن (ابو غريب)بالعصابات التي القي القبض عليها وقمنا بتحليل شخصياتهم.وفي زمن الحرب العراقية الايرانية ازدادت حالات البغاء، واجرينا دراسة ميدانية شملت اكثر من ثلاثمائة بغيا" وسمسيرة القي القبض عليهن، لمعرفة اسباب ووسائل البغاء وتحليل لشخصية البغي.

وفي 2010 ظهرت للعلن حالات اصطلح على تسميتها شعبيا" (طنطا).. وتعني الشباب المتميعين الذين يستخدمون (المكياج) لتجميل وجوههم، وزرق الهرمونات لتكبير الصدر، والتشبه بالنساء في تصرفاتهم، وصفوا بــ (المخنثين) أو (المثليين) أو (الشاذين جنسيا")، فقامت احدى الميلشيات الاسلامية بقتل عدد منهم واحتجاز عدد آخر ولصق مادة السيكوتين على فتحات شروجهم.. وراحوا على ما فعلوا بهم يتفرجون!.

وكان السبب الرئيس لظهورهم في ذلك الوقت يتعلق بالتحولات الديمقراطية واشاعة الحرية، وظهور منظمات مجتمع مدني تطالب باحترام حقوق الانسان، فشّكل المثليون ما يشبه التنظيم الذي يهدف الى انتزاع الاعتراف بحقوقهم كما هو الحال في عدد من المجتمعات الغربية، دون اخذهم بالاعتبار ان المجتمع العراقي مجتمع اسلامي له قيمه التي تختلف عن قيم المجتمعات الغربية.وسبب اخر اعتقد انه الارجح، هو ان هؤلاء (المثليين) ارادوا في حينها ان يعلنوا عن انفسهم ليكشفوا للعالم الغربي كم هم مضطهدون ومستهدفون بالقتل لعلهم يحصلون على لجوء في دولة اوربية.

المثلية الجنسية.. في الطب النفسي

كانت التصانيف الطبية النفسية وأشهرها (DSM) قد وضعت حالات المثلية تحت مصطلح (اضطراب الهوية الجنسية).. وتعني تحديدا" ان الفرد " المثلي " يشعر انه ولّد في الجسم الخطأ. فالولد يشعر نفسيا" انه انثى ولكنه مولود في جسم ذكر، وهنا يحصل اضطراب بين هويته النفسية ومشاعره الانثوية وبين هويته البايولوجية وما مطلوب منه التصرف كرجل.وهذا ما كنا نبهنا له(في 2010) اجهزة الدولة المعنية والناس بشكل عام الى ان هؤلاء المثليين جاءوا بتركيبة نفسية وبايولوجية خاطئة، وانهم كالمرضى الذين لا يكونوا مسؤولين عن مرضهم. وعليه فان اساليب التعامل مع هذا الصنف تحديدا" يجب ان تختلف. فاذا كان الارشاد الديني والاخلاقي ينفع مع الذين (تخنثوا) لاسباب اسرية واقتصادية وشعور بالضياع، فانه لايجدي نفعا" مع المصابين بــ(اضطراب الهوية الجنسية)، وعلينا ان نكف، شرطة واجهزة امنية ومتشددون، عن استخدام العنف مع هؤلاء أو استهدافهم بالقتل، لأنه يزيد المشكلة تعقيدا".

وعلينا ان نقر بحقيقة تاريخية هي ان المثلية الجنسية حالة بشرية وجدت على إمتداد التأريخ، وموجودة في المجتمعات البشرية كافة في العالم المعاصر بغض النظر عن العرق أو الدين أو اللغة أو المستوى الحضاري أو الإقتصادي، بضمنها المجتمعات الإسلامية المعاصرة، والفرق انها صارت تمارس في المجتمعات الغربية بشكل علني فيما هي تمارس في مجتمعاتنا الاسلامية بشكل سرّي.

إن النظرة العلمية الحالية لظاهرة المثلية هي أنها في اغلب الأحوال ناجمة عن خلل تكويني يؤثر في نمو وتكوين الدماغ البشري، يبدأ في المراحل الجنينية ويستمر طوال حياة الفرد المصاب.ولهذا السبب، ولأحتجاجات المثليين في الغرب، تم رفع (المثلية الجنسية) من تص ولقد اتصلت بطبيب نفسي عراقي مقيم في لندن (الدكتور رياض عبيد) عن آخر ما تم التوصل اليه علميا عن المثلية، فاجاب بأن أسباب المثلية ليست معروفة تفصيلياَ، و لا يوجد لها علاج في الوقت الحاضر يمكن أن يغير المثلي الى سوي سواء بإستعمال العقاقير أو العلاج النفسي أو الإجتماعي، مؤكدا بأن (المثلية ليس لها علاقة بالتربية البيتية وليس لها أي علاقة بالتفسخ الخلقي أو الإجتماعي أو بقدرة الفرد على أن يمارس دوراَ إيجابياَ في المجتمع).

توصية

نوصي الأجهزة الأمنية والفصائل المسلحة بأن قتل المثليين الجنسيين او تعذيبهم لن يقضي على هذه الظاهرة، فضلا عن ان استهدافهم بالقتل او التعذيب يعد جريمة، وأن التعامل معهم يكون باحالتهم الى الأطباء النفسيين وتأمين متطلباتهم. وعلى الأعلام العربي الكف عن التحريض ضدهم واظهار انفسهم بانهم الأحرص على الدين والأخلاق.

وللتذكير، فان مدير شرطة بغداد استدعاني الى مكتبه في التسعينات، وعرض عليّ مجموعة من (المخنثين والمثلين) طالبا مني اجراء دراسة عليهم واقتراح الوسيلة المناسبة للتعامل معهم، فاخذ بما اقترحنا ونقلوا الى مستشفى ابن رشد للأمراض النفسية.. فكونوا مثلهم وخذوا بما يقوله العلم ان كنتم على القيم والدين وشعبكم حريصين.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

ليس من السهل الادعاء بأن فكرة ما قد خرجت من التاريخ. هذه دعوى عريضة؛ لا سيما إذا تناولت فكرة عظيمة التأثير، مثل نموذج الحكم الديني المعاصر.

قد تكون الدعوى صحيحة أو خاطئة؛ لكنها –على أي حال– احتمال ممكن. دعنا ننظر في نموذج قريب جداً منها، وهو «الخلافة الإسلامية» التي سادت نحو 13 قرناً من تاريخ الإسلام (من السنة العاشرة للهجرة- 632م، حتى 1342هـ- 1924م). لقد حظي نموذج «الخلافة» بقدر وافر من التنظير والتبجيل، كما حظيت بعمق عاطفي جعلها محط آمال النخبة والعامة معاً؛ لكننا نعلم أن تطبيق الفكرة في إطار الدولة العثمانية، قد قضى على القليل من المبررات التي احتفظت بها من تاريخها القديم. ومع سقوط الدولة العثمانية في 1924، لم تعد احتمالاً جدياً أو جديراً بالعناء عند أحد من المسلمين. الاستثناء الوحيد هو «حزب التحرير» الذي بقي مخلصاً لفكرة الخلافة حتى اليوم. لكن سيرة الحزب ذاته دليل على القول السابق، فقد أخفق تماماً في إقناع الجمهور، كما أخفق في الحصول على مكان في الحياة السياسية، منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا. أما تجربة «داعش»، فلا تعد امتداداً أو تمثيلاً لنظرية الخلافة الإسلامية التي نتحدث عنها، فمضمونها أقرب إلى نموذج الميليشيا الفاشية الحديثة.

الخلافة التي اعتبرها معظم المسلمين نموذجاً للسياسة الفاضلة، لم تعد منذ مطلع القرن العشرين احتمالاً جدياً أو مرغوباً. ولهذا لا تجد بين جمهور المسلمين، فضلاً عن المفكرين والعاملين في الحقل السياسي، من يسعى إليها. وإذا تحدثوا عنها، تحدثوا عن ماضٍ جميل، لا عن مشروع ممكن. هذا يعني ببساطة أن الخلافة قد خرجت من التاريخ، وباتت جزءاً من المكتبة. وقد اعتاد العرب التعبير عن الشيء الذي خرج من التاريخ، بالقول إنه أمسى في «خبر كان». ولا شك أن فكرة الخلافة قد أمست كذلك.

بعد هذه المقدمة الطويلة، سوف أضع مؤشرين لتبرير ما ادعيته في مطلع المقالة: أولهما الصدام الواسع النطاق بين الجيل الجديد من الإيرانيين وبين حكومتهم، حول مسألة الحجاب خصوصاً. هذا الصدام المستمر منذ سبتمبر (أيلول)، جعل سياسات التدين القسري موضوعاً للتحدي بين الدولة التي تمتلك أدوات العنف، وجيل الشباب الذي يملك المستقبل. أما المؤشر الثاني فهو قرار حكومة «طالبان» بإلغاء التعليم الثانوي والجامعي للبنات.

إني واثق بنسبة عالية جداً، بأن كلتا الحكومتين سوف تتراجعان وتخضعان لمطالب الجمهور. وإذا حصل هذا -ولو ناقصاً- فسوف يسقط عنصر محوري في الخطاب الديني الرسمي، وهو الحق المفترض للدولة الدينية في فرض نموذج موحد لسلوك الأفراد، أي نمط اللباس والعمل والآداب العامة.

الذي يحمل الحكومتين على التراجع، هو التفكك الحاصل فعلاً في الدوائر الاجتماعية التي تساند النخبة السياسية لأسباب دينية بحتة، من دون أن تكون شريكة في القرار (يدخل في هذا الصنف المدارس الدينية، ومعظم العلماء التقليديين). هذه النخبة مهمة جداً لأنها واسعة النفوذ، وهي تمثل ملجأ روحياً لعامة الناس في أوقات الأزمة؛ لأنها لا تتحمل وزر السياسات الحكومية الخشنة.

إن العنصر المميز لنموذج الحكم الديني المعاصر، هو قدرته على صنع مجال عام غير متأثر (ظاهرياً على الأقل) بنمط الحياة الغربي. وهذا يبرز بأجلى صوره في المظهر الخارجي للرجال والنساء (الحجاب في المقام الأول). وإذا وقف الجمهور في مواجهة الدولة، فلن يمكنها المحافظة على هذا المظهر، إلا باستعمال العنف الصريح، وعندها لن يكون الدين أداة لتعزيز الشرعية السياسية، كما جرى حتى الآن. سيكون العنف العاري أو الإغراء هو الأداة الوحيدة الممكنة للحفاظ على النظام العام، وعندئذ فإن «الخطاب السياسي الديني» سينتهي، وتحل محله «الخطابة الدينية»، أي الكلام الذي يفهم الناس جميعاً أنه «عدة شغل» تحمله حكومة عادية لا تبالي بحدود الدين، حتى لو تمسكت بلغته.

***

د. توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

- هل سار كمال أتاتورك على نهج الشيخ علي عبد الرزاق؟

- (الوهابية في الجزائر .. من يمتلك السلطة الدينية؟)

كثير من الدراسات الي خاضت في قضايا الفكر الإسلامي منذ الخلافة الراشدة وأسباب تحول المسلمين، وما وقع من أحداث في البلاد الإسلامية، فكانت هناك دعوات لإسقاط الخلافة وإزالتها، وكان أول من دعا إلى إزالة الخلافة الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه " الإسلام وأصول الحكم"، إذ يرى أن نظام الخلافة ليس من الإسلام، بل هو نظام سياسي ابتدعه العرب، وقد أثار كتابته ضجة كبيرة خاصة عند صدور طبعته الثالثة عام 1925، عالج فيه قضية الإسلام دين لا دولة، يقول عنه بعض المفكرين ومنهم محمد البهي بأن دراساته مستعرة من دراسات المستشرقين وبحوثه تفتقر إلى النزاهة لأنه يتأوَّلُ ما زاد عن الدين في الكتاب والسُّنَّة بأنه خارج حدود الدعوة الدينية وربما يقصد النظام الوراثي الذي ابتدعه الأمويون ولعل السباب ترجع إلى أن بعض التيارات الإسلامية أرادت أن تكون السيادة الشرعية وحدها، وذلك ما حدث في موقعة السقيفة بعد وفاة الرسول (ص) وهو ما دعا إليه المودودي وسيد قطب والخميني فيما أطلقوا عليه اسم ث الحاكمية أو ولاية الفقيه.

وقد تبنى كمال أتاتورك فكر الشيخ علي عبد الرزاق، أيام الإمبراطورية العثمانية، كانت له ثورة سياسية عسكرية وردّة فعل عنيفة ومتطرفة على الأوضاع في تلك الحقبة اعتبرها البعض ثورة إصلاحية، تميزت بإسقاط الخلافة الإسلامية وإبطال العمل بقوانين الشريعة وإقامة نظاما جمهوريا مدنيا علمانيا، في محاولة منه إخراج المجتمع التركي من عباءة الإسلام، كان كمال أتاتورك زعيم الحزب الوطني للأتراك، في سنة 1920 انتخب أتاتورك القائد العسكري رئيسا للجمعية الوطنية وكان الحلفاء أكثر طمعا في ضم أراضي تركيا اليونان، لكن أتاتورك تمكن من طردهم واسترجع الأراضي التي هي اليوم الجمهورية التركية طبقا لمعاهدة لوزان لعام 1923، فمكنه هذا النجاح من أن ينتخب ريسا لتركيا في انتخابات مارس 1924، ومن هذا المنطلق ألغت الجمعية نظام الخلافة .

كان هذا القرار صدمة لشعوب الإسلامية وبخاصة مسلمي القارة الهندية، أما الأكراد فقد وجدوا في إسقاط الخلافة الإسلامية فرصة للثورة على النظام الجمهوري الجديد الذي ألغى الخلافة، فثاروا باسم شيخ الطريقة النقشبندية سنة 1925 من أجل الحكم الذاتي وتأسيس الولايات التركية الشرقية، حوّل أتاتورك تركيا إلى دولة حديثة واستبدل القانون الشرعي الإسلامي بالقانون المدني السويسري وإلغاء وزارة الأوقاف وإغلاق المساجد على غرار المسجد الكبير أيا صوفيا الذي حوله إلى متحف كما حوّل مسجد الفاتح إلى مستودع، ومنع أتاتورك تعدد الزوجات، والطرق الصوفية وزوايا الدراويش كما يسمونهم في تركيا، جعل الأذان بالتركية وفرض اللباس الأوروبي.

 وبهذه القرارات قطع أتاتورك تركيا بماضيها الإسلامي، إلا أن الزعامة كانت محل أطماع البعض، تشير المصادر أن الشيخ الشريف حسين زعيم الثورة العربة 1916 وحليف الإنجليز ضد الأتراك في الحرب العالمية الأولى كان قد أعلن نفسه خليفة من مكة مستغلا علاقاتها الطيبة مع بريطانيا ومن هذه الدعوة عادت الخلافة إلى الساحة عندما هتف علماء الأزهر بالخلافة لملك مصر فاروق عام 1938، أمام الوهابية فهي تسعى اليوم لانتزاع الخلافة، مستغلة وجود البيت الحرام في السعودية، وبالتالي تريد أن تكون السعودية هي مقر الخلافة الإسلامية، ما جعل بعض التيارات الإسلامية في العالم الإسلامي تتبنى الفكر الوهّابي ليكون لها نصيب من السلطة، والوهابية نشأت في قلب الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب التميمي، وهو أحد علماء الجزيرة أخذ علمه عن الشيخ ابن تيمية الذي قد أحيا فقه الإمام ابن حنبل الذي اتهمه البعض بالتشدد، في الجزائر مثلا وبدخول المذهب الوهابي انقسم علماء الجزائر إلى جمعيتين : إصلاحية وطرقية، وكانت من بين التهم التي الصقها الطرقيون بجمعية العلماء المسلمين هي اعتناقها الوهابية، خاصة وأن البعض يقول أن الوهابية تتبنى فكر المعتزلة أما الشيخ أبو يعلى الزواوي وهو من أبرز العلماء الإصلاحيين في الجزائر فقد رفع عن الوهابية هذه التهمة وقال إن الوهابيون سنيّون وليسوا معتزلة.

***

علجية عيش

في المثقف اليوم