آراء

آراء

فاجأني عمرو موسي عندما خطب لنا خطبة عصماء في جلسة الحوار الوطني والتي انعقدت في الرابع من مايو 2023، وكأنه ألقى كرة من اللهب، وذلك حين تكلم فيما لم يتوقعه كثيرون، وكان مسكوتا عنه طوال السنوات الماضية، فيما يتعلق بفقه الأولويات والحريات والحقوق، وتحميل الحكومة المسؤولية عن الأزمة الراهنة.

في كلمته، قال موسى إن الناس يتساءلون "ماذا جرى وماذا يجري؟ وأين فقه الأولويات في اختيار المشروعات؟ وأين مبادئ الشفافية؟ وما حالة الديون المتراكمة ومجالات إنفاقها وكيفية سدادها؟ خاصة أن الاقتصاد متعب ومرهق".

وقبل أن يفيق الحاضرون من وقع التساؤلات، أضاف موسى -الذي ترأس لجنة الخمسين التي أعدت دستور البلاد عام 2014- أن "الناس يتساءلون عن الحريات وضماناتها، والبرلمان وأدائه، والأحزاب وآلياتها، وعن الاستثمار وتراجعه وهروب الاستثمارات المصرية لتؤدي وتربَح في أسواق أخرى، كما أن الناس يتساءلون عن التضخم والأسعار إلى أين وإلى متى".

وانتقد موسى -الأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق- أيضا السياسات الأمنية في مصر، متسائلا "هل سيطرت السياسات الأمنية على حركة مصر الاقتصادية فأبطأتها وقيدتها؟ هل شلت البيروقراطية المصرية حركة الاستثمار فأوقفتها".. وطرح علامة الاستفهام الكبرى بشأن المحبوسين، بقوله "الناس يتساءلون عن مصير المحبوسين احتياطيا… آن الأوان للتعامل المباشر والفوري والشامل مع هذا الملف لنغلقه نهائيا.. ونتوجه إلى ما هو أهم وأبقى".

هذا الخطاب الذي ألقاه عمرو موسي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي بشكل يفوق الخيال، حيث وصفه البعض بأنه "رسالة نارية" من "فارس الدبلوماسية المصرية .. ضرب فأوجع".. وقال آخر أن موسى قدم توصيفا دقيقا للحالة المصرية، مطالبا الحكومة بالإنصات لصوت العقل والحكمة، مضيفا "إنا لمنتظرون".. بينما قال آخرون إنه كلام تأخر كثيرا، خاصة ما يتعلق بـ"فقه الأولويات للمشروعات الحكومية".

أما من وجهة نظري، فالأمر يختلف، لا سيما وأنني هنا أمام عمرو موسي الناشط السياسي وليس عمرو موسي رجل الدولة، وشتان ما بينهما، فعلي حد علمي أن رجل الدولة هو الرجل الذي يرتفع فوق مصالحه الشخصية، ويمتلك رؤية واسعة الأفق بعيدة الأمد لمصالح بلاده لتنهض بأحوالها وترقى بأوضاعها على الصعيد العالمي، فتمنحها مؤسسات مستقرة، وتصلح من شئونها وترفع مكانتها بين دول العالم، هؤلاء بالطبع سياسيون، ولكن البصمات التي تركوها في تاريخ مجتمعاتهم تؤهلهم لأن يطلق عليهم رجال دولة من أمثالهم: بانديت جواهر لال نهرو في الهند الذى ساهم في تشكيل نظامها السياسي الديمقراطي وسياساتها الخارجية، وشارل ديجول في فرنسا والذى أرسى دعامات الجمهورية الخامسة واختط لبلده سياسة أوروبية قائدة ومستقلة عن الولايات المتحدة الأمريكية.

وعندما نتأمل تاريخنا المصري منذ بدايات الحركة الوطنية والديمقراطية فى أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر نلحظ على الفور أن مصر كانت تزخر بالعديد من رجل الدولة والشاغل لمناصب السياسية، والذي يتمتع أيضا بصفات السياسي من حيث قوة الحجة وبراعة التعبير والقدرة على التواصل مع المواطنين، سواء من تولوا مقاليد الحكم أو من نشطوا في المجال العام.

وقد كان عمرو موسي الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية واحدا من هؤلاء، ثم ارتد بعد أن فقد كل مناصبه السياسية، فتحول إلى ناشط أقرب إلى الراهب التي يهب حياته وجهده ووقته وكيانه للقضية التي يؤمن بها .

وعندما جيئ به في جلسات الحوار الوطني ليقول كلمته رأيناه يريد أن يلبس عباءة مارتن لوثر ونيلسون مانديلا اللذان أفنيا أعمارهم في مجال مكافحة التمييز العنصري ونشر افكارهم ومعتقداتهم ونشرها بين مؤيديهم وان ينافسونهم على هذا اللقب بمجرد كتابة خاطره في مدونه او كلمه على مكبر صوت ويسجلوا لقب مناضل سياسي وبكل كفاءه، وذلك من خلال فكرته عن «الناشط السياسي» الذي تكوّن في أفق الحياة المصرية بشكل واضح بعد أن احتلت الجماهير الغاضبة ميدان التحرير لإجبار مبارك على الخروج من السلطة. وقتها وجد عشرات الشبان والفتيات أنفسهم أمام الكاميرات المسلطة عليهم.. تطلب منهم أن يتحدثوا وأن يفسروا ما يحدث وعن أهدافهم. ومن خلال هذا الحراك الشعبي والغياب الحزبي، فبرز عمرو موسي الناشط السياسي .

أتساءل ماذا لو كان عمرو موسي أثناء إلقاءه الخطاب شاغلا لمنصب رئيس الوزراء، هل سيقول ما قاله، أم لا ؟ .. والإجابة في بطن الشاعر، والشاعر هنا عمرو موسي، والذي أقول له: " لقد عودتنا أنك رجل دولة وليس ناشط سياسي، ولكنك تصر أن تكون ناشط سياسي .. التاريخ لا يصنعه النشطاء، ولكن يصنعه العظماء، وقد عرفناك عظيما، فلا تختم حياتك بنفاق ولا تبرز عنتريتك بإجتراء، وكن مثل القادة الصامتين الذين عاشوا كي يؤدوا الأمانات إلى أهلها، فلم تلههم تجارة ولا بيع للغالي بالرخيص ولا بخلط اللبن بالماء، ولا التصنع بقيام أدوار ورسم أبطال كرتونيين (من ورق)  في الفضاء الإلكتروني.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

ولد فاضل البراك في مدينة بيجي عام 1942م، وأكمل دراسته في تكريت عام 1960م ودخل الكلية العسكرية، بعد انقلاب 17 تموز 1968م، منح البراك رتبة نقيب وألحق في حماية الرئيس أحمد حسن البكر، ثم بعد خلافه مع زوجة البكر نسبه صدام حسين في حماية مقر الإذاعة والتلفزيون في منطقة الصالحية.

عُين نهاية عام 1971م معاوناُ للملحق العسكري في السفارة العراقية بموسكو، وبقي في هذه الوظيفة حتى عام 1976، وليكون أيضاً مسؤولاً حزبياً عن تنظيمات حزب البعث في الاتحاد السوفيتي، وللحقيقة يذكر الدكتور خليل عبد العزيز في مذكراته (هارب من الإعدام) ص163/175 إن فاضل البراك (كان ممثلا لدوائر الأمن والمخابرات العراقية لدى المخابرات السوفيتية، أي كان عضو الارتباط بين التنظيمين. وانطلاقاً من وظيفته هذه فقد كان يتردد على المركز الرئيسي للمخابرات السوفيتية وسط موسكو لتنسيق العمل المخابراتي وتبادل المعلومة، وقد أخبرني بوظيفة البراك هذه مدير معهد الاستشراق السيد بابا جان غفوروف).

وطيلة مدة بقائه في وظيفته بالسفارة العراقية، كان البراك مسؤولاً عن تنظيمات حزب البعث في عموم الاتحاد السوفيتي، حيث كان هناك العديد من الطلبة العراقيين من المبتعثين الحكوميين، يدرسون في الجامعات السوفيتية ومثلهم الكثير من العسكريين الذين كانوا يتلقون علومهم في العديد من المعاهد والكليات العسكرية وفي مختلف الجمهوريات السوفيتية .

وفيما يتعلق بحصوله على شهادة الدكتوراه من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية، فالحقيقة أن فاضل البراك لم يكن مؤهلاً علمياً لكتابة رسالة الدكتوراه، وإن قبوله لأعداد الرسالة من خلال معهد الاستشراق، جاء بناءً على طلب من لجنة العلاقات الخارجية بالحزب الشيوعي السوفيتي، وذلك تنفيذاً للاتفاقية الموقعة بين حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي السوفيتي والتي نصت على قيام المعاهد العلمية السوفيتية بإعداد مجموعة طلبة، وبالذات في مجال الدكتوراه وبمختلف العلوم دون الحاجة لحصولهم على المستوى العلمي الذي يؤهلهم لإعداد رسائل دكتوراه.

ويؤكد الدكتور خليل عبد العزيز في مذكراته قائلاً: (خلال لقاءاتي في معهد الاستشراق مع فاضل البراك وكان من مهامي متابعة إعداده لرسالة الدكتوراه، حسب تكليف مدير المعهد الأكاديمي السيد بابا جان غفوروف. وفي مجريات المتابعة كان فاضل البراك يعرض عليَّ ما يعده من فصول لمتن رسالته، لأطالعها ثم أعرضها على رئاسة المعهد. وفي أحد المرات سلمني الفصل الثاني من رسالته، وحين أخذته وجدت بين طيات أوراقه رسالة صغيرة موجهة للبراك من مفكر حزب البعث الياس فرح، وقد جاء في تلك الورقة ما يلي: أبعث لك الفصل الثاني من رسالة الدكتوراه... وبدوري قمت بعرض وتقديم الرسالة وترجمتها لمدير المعهد السيد غفوروف فأجابني بضرورة أن يحتفظ بالرسالة وأمتنع عن أعادتها ليَّ). من خلال رسالة الياس فرح يتبين لنا أن أطرحة رسالة البراك كان الياس فرح وآخرين يكتبوها لهُ وفق نهج حزب البعث.3206 هارب من الاعدام

وبعد مناقشة رسالته عن حركة رشيد علي الكيلاني عام 1941 وحصوله على شهادة الدكتوراه وعودته إلى بغداد، واستلامه منصب مدير الأمن العام قام بطبع الرسالة على شكل كتاب حُذف منه كافة الإضافات والتعليقات النظرية التي وجهت له خلال مناقشة الرسالة وعدل عنوان الرسالة حين طبعت ككتاب، ليكون الكتاب في النهاية وثيقة قومية بعثية خالصة، سارع بعدها الانتهازيون والمتملقون لكتابة وتدبيج المقالات التي تشيد بالبراك ورسالة الدكتوراه، وتجاوزت تلك الكتابات الأربعين مقالا.

ويعقب الدكتور خليل عبد العزيز في مذكراته قائلاً: (كان فاضل البراك وخلال وجوده في موسكو وعبر علاقته بمعهد الاستشراق وتكليفي بمتابعة إعداده رسالته للدكتوراه، شديد الوضوح والصراحة في بيان معاداته للشيوعية والشيوعيين وبالذات الحزب الشيوعي العراقي رغم معرفته بموقعي القريب من الحزب الشيوعي. وإن البراك وفي أحد المرات حضر احتفال منظمة الحزب الشيوعي العراقي في موسكو والتي أقيمت بمناسبة تأسيس الحزب، وخلال الحفل تم عرض صورة مؤسس الحزب الرفيق فهد لأجراء مزاد عليها، فقال ليَّ البراك بأنه يرغب بالحصول على الصورة بأي ثمن كان، وفعلاً بدأ بالمزايدة عليها ورفع المبلغ بما يؤهله الحصول عليها، وقد نال واستحوذ على الصورة، عندها طلب من سائقه وضع الصورة في الصندوق الخلفي للسيارة، وقد استرعى ذلك انتباهي، فسألته عن سبب رغبته باقتناء صورة الرفيق فهد وما عساه فاعل بها، أجابني بشيء من الهزء بأنه سيمزقها كونه لا يريد أن تكون من حصة أي عراقي).

وفي فترة عمل البراك في السفارة العراقية في موسكو كان مسؤول تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي لعموم الاتحاد السوفييتي خليل الجزائري، ويذكر د. خليل عبد العزيز في ص173 من مذكراته قائلاً: (من خلال معرفتي بفاضل وجدت أن الكثير من أفعاله تبعث على الريبة، فقد استطاع بناء علاقات ليست بالبسيطة أو العابرة مع بعض الرفاق في الحزب الشيوعي العراقي، ولوحظ تقربه ولقاءاته الكثيرة بالبعض من هؤلاء، وبالذات خليل الجزائري(1). كان فاضل البراك ومنذ بداية قدومه إلى موسكو قد وضع نصب عينيه شخصية خليل الجزائري، وكان له حسب ما يدعي كرهاً شديداً، وقد ألمح لذلك أمامي، وكانت هناك فعلاً مماحكات كثيرة بين الشخصين، رغم أن تلك الفترة كانت فترة الجبهة الوطنية بين البعث وحزبنا الشيوعي، بعد فترة ليست بالقصيرة أخبرني بعض الرفاق في المنظمة الحزبية برؤيتهم لفاضل البراك جالساً في أحد مطاعم العاصمة مع خليل الجزائري، عندها سألت خليل الجزائري عن تلك الجلسة، فأخبرني بأن فاضل البراك قد دعاه على وجبة طعام فلبى دعوته، ودار الحديث بينهما عن طبيعة العلاقة بين الحزبين، والتطورات السياسية في العراق، وسألت فاضل البراك عن تلك الدعوة، فأخبرني بأنه أراد منها أن يكسر جناح خليل الجزائري ونعته بالسافل، بعد تلك الجلسة راح خليل الجزائري يتقرب من البراك ويدخل ويخرج من السفارة العراقية، ثم خرج من تنظيمات الحزب الشيوعي وسافر إلى براغ، وهناك عمل مع مجموعة النهج، ثم سافر إلى بغداد وشكّل هناك مع خالد السلام وماجد عبد الرضا مجموعة أراد حزب البعث تسويقها بديلاً عن الحزب الشيوعي، ولكن بعد مقتل فاضل البراك وصف صدام حسين هذه المجموعة من نتائج العلاقة مع فاضل البراك ومن عوائده الخاصة).

كانت الزمالات الدراسية والحصول على المقاعد للدراسة في الاتحاد السوفييتي كتجارة رائجة، مما خلقت ظهور شخصيات من العراقيين، استطاعت توظيف علاقتها مع الجانب السوفيتي وكذلك مع أوساط منظمة التضامن الأفرو أسيوي ومجلس السلم السوفييتي، للحصول على المقاعد الدراسية بصورة غير سليمة، من خلال الرشى وشراء الذمم. فكانت تلك الشخصيات تقدم المغريات المالية للحصول على الزمالات الدراسية من الجانب السوفيتي، ومن ثم تقوم ببيعها لمن يدفع أكثر، وكانت بعض تلك الشخصيات تدير تلك الأعمال بشكل علني، ولكن تحت أنظار ومراقبة ورصد المخابرات السوفيتية وليس بعيداً عن دوائرها. يذكر الدكتور خليل عبد الكريم في مذكراته ص239 قائلاً: (كان هناك شخص اشتهر بعلاقته الوطيدة بالأوساط السوفيتية اسمه جبار حاجم، هذا الشخص بنيّ له شبكة من العلاقات المشبوهة مع الكثير من المسؤولين السوفييت، ودائماً ما كانت تثار حوله الشكوك ويتهم بالعلاقة بجهاز أمن الدولة السوفيتي (كي جي بي)، ويعزو ذلك لقدراته الفذة على الوصول إلى ما يرغب فيه والحصول على مبتغاه عبر شراء الذمم، وكان أيضاً يمتهن تصريف العملة بشكل غير مشروع... والمدهش في حياة جبار حاجم قدرته الغريبة للوصول إلى أي جهاز حكومي سوفيتي، فكانت أية قضية مستعصية للعراقيين عند الجانب السوفيتي، فإن تدخل جبار حاجم يضمن نجاح حلها. وكمثال على طبيعة تلك السمسرة، أذكر حادثة لها دلالة كبيرة عما كان يحصل. فقد كلفني أحد شخصيات الحزب الشيوعي العراقي بالاتصال بجبار حاجم لمعرفة كيفية حصوله على الزمالات وبيعها، بعد أن انتشرت أخبار قيامه بهذا الأمر. وحين اتصلت به أخبرني مباشرة بأنه كان يشتري بعضها من بعض الحزبيين في موسكو وكذلك من بعض الموظفين المتنفذين في المؤسسات السوفيتية. وحدثني أحد الأصدقاء عن عملية شراء كان يقوم بها شخص عراقي آخر محسوب على التقدميين، هو شاكر القيسي. حيث استدان منه مسؤول منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفيتي وقتذاك خليل الجزائري مبلغاً قدره 3000 روبل وكان هذا المبلغ بالنسبة للموظفين السوفييت ومثلهم الطلبة العراقيين، يعد ثروة كبيرة في ذلك الوقت. وحين استفسر الصديق من السيد شاكر القيسي عن كيفية استرداده للدين من خليل الجزائري، الذي لا يملك ما يوفي فيه هذا المبلغ الكبير، فأجاب القيسي ضاحكاً بأنه لا يفكر إطلاقاً باسترداد المبلغ وإن هذا الدين يعد من الديون الميتة، ولكنها وعلى المدى القريب سوف تحيي أموات. ولتفسير ذلك يستعرض القيسي الحال بالقول، دائماً ما تكون هناك زمالات فائضة، وفي تلك الحالة يقوم بالطلب من خليل الجزائري الحصول على عدد من المقاعد الدراسية من خلال معرفته وعلاقة الحزب بالمؤسسات السوفيتية، وكان ذلك يتم مقابل قسم من الدين، ويقوم الجزائري بإبلاغ الجهة المانحة موافقة الحزب على ذلك التخصيص، فيأخذ القيسي من خليل الجزائري المقاعد الممنوحة ومن ثم بيعها).

مع كل هذا الفساد والإساءات لم يكن ذلك ليمنع من بروز اعداد ليست بالقليلة من الطلبة العراقيين بشكل جيد، وكان هناك الكثير ممن استطاع بجهود جدية أن ينال درجات علمية رصينة، وأن ينجحوا نجاحاً بيناً وباهراً في دراستهم. إلا أن البعض من الطلبة على مدى فترات قد نشأت علاقات غير سليمة بين الكثير منهم والأساتذة في الاتحاد السوفيتي، حيث بدأ الطالب يحوز على شهادته في مستوى البكالوريوس أو الماجستير وحتى الدكتوراه من خلال الهدايا العينية والمادية السخية التي يقدمها إلى الأساتذة، والتي كانت الرشاوى فيها تفقأ العين.

كان للبراك الدور الكبير في انقلاب وردة حزب البعث عن الجبهة الوطنية، وقيامه بقيادة الهجمة الشرسة على الحزب الشيوعي العراقي، وقتله وتشريده للعديد من اعضاء الحزب. وبعد فترة طويلة من عمله الوظيفي ألقى القبض عليه واقتيد إلى مبنى الحاكمية في شارع 52 ببغداد، ووجهت إليه تهمتان، الأولى بوصفه جاسوساً لألمانيا الشرقية والاتحاد السوفييتي، والتهمة الثانية إثراؤه غير المشروع، والحصول على عمولات من تجار ورجال اعمال، أمضى البراك عامين في السجن وأصيب بالشلل ومن ثم أعدم نهاية عام 1993م.

وللتعقيب عن استقطاب بعض رموز الحزب الشيوعي العراقي مثل خليل الجزائري وماجد عبد الرضا وحسين سلطان وعبد الوهاب طاهر وناصر عبود وآخرون، حيث تعاون البعض مع الحكم في العراق بقناعة سياسية منهم حول ضرورة عودة "التحالف" مع حزب البعث والتبشير بدعوات النظام حول الأخذ بالديمقراطية في إدارة البلاد. ولكن ما حدث هو أنه تم إعدام خليل الجزائري بدعوى تورطه في العلاقة مع فاضل البراك. إن خيار هؤلاء هو خيار ذاتي وموقف سياسي مسبق منذ أن بدأ الحزب التفكير في تعديل سياسته عام 1978، والانتقال إلى معارضة حكم البعث بسبب التحول الجذري في سياسة الحكم.

بعد سقوط نظام البعث على يد الاحتلال الأمريكي عام 2003م وقد ظهرت الحقائق بالوثيقة كما يذكر ذلك الدكتور نزار آل إبراهيم المقيم في امستردام بمقالته الموسومة (إيضاح وتنوير حول مقالة ذكريات استاذ عراقي في جامعة عدن) على موقع (صوت العراق) ليوم 2021-11-28 قائلاً: (بعد ان أظهرت وكشفت وثائق وأرشيف المخابرات العراقية بعد السقوط المدوّي لحكم البعث عام 2003 والذي أضحى لحسن العاقبة بيد قيادة الحزب الشيوعي العراقي من أن ”خليل الجزائري” بالذات كان عميلاً لديها باسم توريه وهو ”توما”، وفي حوزتي وثائق مستنسخه من الاصل كان أن بعثها الراحل عزيز وطبان من المانيا، وبخط خليل ذاته، الذي لا يمكنني أن لا أعرفه إلاّ جيداً. هكذا، وفي الفم مرارّه، اقول من أن “خليل الجزائري ً استطاع وعن حنكّه ليس فقط أن يخذل رفاقه من الذين وثقوا به، وأنا منهم، اعترف بذلك بل وخذل تاريخه النضالي قبل ذلك، هكذا وبدفعة واحده. والشيء بالشيء يُذكر أيضاً كان ولا يزال لدي ملف بعنوان ”ملف خليل الجزائري” طال واستطال توثيقه لأمد ينوف عن 25 عاماً وما زلت متماطلاً في إظهاره إلى العلن لدواعي شتى. هذا الملف الذي تضخم بذكريات ووثائق ووقائع شتى ومقابلات حصرية مسجلة).

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

...........................

(1) د. خليل ألجزائري، سكرتير منظمة الحزب الشيوعي العراقي في الاتحاد السوفييتي في سبعينيات القرن الماضي، خريج معهد بليخانوف في موسكو، عمل آنذاك استاذاً في جامعة قسنطينة بالجزائر.

دوافع القراءة العلمية للمشكلة العراقية

 ومراحلها ومستويات استفحالها وتجذرها في جسد المريض. وقد يكتفي الطبيب بالمسكنات أو العلاج بالعقاقير أحياناً، ولكنه قد يقرر إجراء العمليات الجراحية الخطيرة أحياناً أخرى، وصولاً إلى عمليات الاستئصال المؤلمة أحياناً ثالثة، من أجل إنقاذ حياة المريض.

ابتداءً؛ ينبغي أن نؤمن بأن من الخطأ حصر أسباب الفساد والفشل والأزمات في العراق بطبيعة نظام ما بعد العام 2003، والحكومات التي أفرزته، بدءاً بإدارة الاحتلال بقيادة غارنر، وانتهاءً بحكومة السيد محمد شياع السوداني. ومن الخطأ أيضاً الاعتقاد بأن العلمانيين إذا حكموا العراق وتنحى الإسلاميون عن الحكم، أو أمسك التكنوقراط بالوزارات وابتعد السياسيون والحزبيون، أو تخلى الشيعة عن المشاركة في الحكم وعاد السنة للامساك به دون شريك، أو إذا ظهر قائد قوي؛ فإن أزمات العراق ستنتهي، كلا بالتأكيد، لأن أزمات العراق ليست طارئة أو مفتعلة، أو ناتجة عن احتلال وحروب وسوء إدارة؛ إنما هي أزمات متوارثة متراكمة مزمنة، لها علاقة بتاريخ بعيد وماض قريب وحاضر قائم، ويستحيل التخلص منها بالقوة القاهرة أو المعالجات الترقيعية أو المصالحات السطحية وصفقات الترضية بين الفرقاء، أو بالشعارات الرنانة والمهرجانات الخطابية التي تصرخ بالوطن والوطنية.

المعضلة الأساس التي يعاني منها العراق، هي معضلة الوعي العلمي الدقيق بما كان وما هو كائن وماينبغي أن يكون، وبالتالي؛ وجود خلل عميق في فهم نوعية العراق الجديد الذي يجب أن يقوم، على قاعدة الاتفاق الواقعي الموضوعي بين المكونات القومية والطائفية، وأحزابها وتياراتها ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والدينية. وكان ينبغي الاتفاق على هذا الأساس منذ مداولات الجمعية الوطنية وبواكير تداول إنشاء الدستور، وجزء منه الاتفاق على القيم الحاكمة على الدستور وقبلياته، أي القواعد الأساسية التي تقف عليها الدولة ومنظومتها السياسية والاجتماعية، لأن الخلل في تثبيت القبليات، ثم تقنينها في الدستور وفي منظومة الدولة؛ جعل كل قومية وطائفة وتيار وجماعة، بل وكل وحدة إدارية، تحس بالغبن، وبعدم حصولها على استحقاقاتها في السلطة والثروة؛ الأمر الذي جعل حالة تفجير الأوضاع في أية منطقة في العراق من أسهل الأمور. وهكذا ظلت الموروثات التاريخية الخلافية تتفجر بكل أشكالها واتجاهاتها، وأصبح بعض الفرقاء يعيش هاجس العودة الثقيلة الى الماضي، والآخر يعيش هاجس العبور السريع الى المستقبل.

وفضلاً عن المعالجات السطحية والترقيعية لكثير من الأزمات الكبيرة التي تفجرت أو تكونت بعد العام 2003؛ فإن أزمات وإشكاليات أُخر تم تجاوزها اعتباطاً، خوفاً من إثارتها أحياناً، أو عدم الالتفات الى خطورتها أحياناً أخرى، ولهذا بقي وسيبقى كل شيء على ما هو عليه، طالما بقيت الإشكاليات غير مفككة موضوعياً وعلمياً، وبقيت الأزمات غير مدروسة دراسة اركولوجية معمقة، تهدف الى معرفة بنيتها، من أجل اقتلاع جذورها.

ولعل من البساطة أن يحصر بعضهم - كما ذكرنا - أسباب الأزمات وعدم الاستقرار في العراق، منذ العام 2003 وحتى الآن، الى آثار الاحتلال وسقوط سلطة البعث، أو الأداء الحكومي ومناسيب الفساد ونقص الخدمات، أو الإرهاب؛ فهذه العوامل بعضها مظاهر، وليست كلها أسباب.

جذور المشكلة العراقية ومظاهرها

الأسباب الحقيقية المتعاضدة لأزمات العراق ومشاكله المستعصية؛ تعود الى ثلاثة مجموعات من الأسباب:

1-الأسباب البنيوية:

وتتمثل بأربعة أسباب رئيسة، وأخرى من الأسباب الثانوية:

أ‌- التركيبة الجغرافية الاعتباطية الخاطئة للعراق، على أساس معاهدة سايكس ـــ بيكو بين بريطانيا وفرنسا، وفي مقدمة أخطاء التركيبة أنها قامت على أساس توحيد ثلاث ولايات عثمانية، بكل تفاصيلها ومكوناتها ومشاكلها، هي بغداد والموصل والبصرة.

ب‌-  إرث المشروع البريطاني، المتمثل بتأسيس الدولة العراقية الجديدة بعد العام 1921، بوصفها دولةً ملكية، تحكمها أسرة سنية غير عراقية، مرتبطة بالمشروع البريطاني في المنطقة، وكذلك حكومات مرتهنة للمشروع البريطاني، ومنظومة ايديولوجية طائفية عنصرية، تقوم على أساس إمساك النخبة التي تنتمي الى 16% من سكان العراق (السنة العرب) بسلطات الدولة وعقيدتها وثقافتها ورمزياتها.

ت‌-  الايديولوجية الطائفية العنصرية للدولة العراقية، وهي ايديولوجيا مترسخة موروثة في مفاصلها، وفي نظامها الطائفي الحاكم منذ مئات السنين، والذي أورثه العثمانيون الى دولة العهد الملكي، ومنها الى الدولة الجمهورية، وصولاً الى دولة البعث، وقد بقيت راسخة في أغلب مفاصل الدولة العراقية، حتى بعد سقوط دولة البعث.

ث‌-  فقدان الدولة العراقية للناظم الجامع (المذهبي القومي) الذي يوحد هوية العراق الوطنية المتمثلة بالهوية المذهبية القومية للأغلبية السكانية (شيعة/ عرب)؛ فشعارات الوطن الواحد والدين الواحد لايكفيان ناظماً، لأن ناظم (الوطنية) لوحده، هو ناظم فضفاض ينظر اليه كل مكون بطريقته وتعريفه في داخله وليس في تصريحاته، وهذا الناظم هو عبارة عن الهوية المذهبية القومية للعراق، أسوة بكل دول العالم المتحضرة.

وبكلمة أخرى؛ فإنّ أزمات العراق المعاصرة لصيقة بتكوينه بعد معاهدة سايكس ـــ بيكو، التي أورثت العراق كل موبقات السلطنة العثمانية، ثم قيام الدولة العراقية في العام 1921 وما ترشح عنها من مركب سلطة طائفية عنصرية، تحمل الإرث العثماني في مضمونها، ولون الاحتلال والاستعمار في شكلها، ويحكمها ملوك مستوردون من الخارج، وبإفرازات ما عرف بأفكار الثورة العربية، ثم ظهور أفكار الجماعات العنصرية؛ وأبرزها حزب البعث.

2- موروث نظام البعث:

وهو موروث تدميري للعراق، على كل المستويات: السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعيشية والنفسية، وصولاً الى البنى التحتية المدمّرة التي ورثها العراق الجديد بعد العام 2003. وقد كانت أزمات العراق قد تبلورت بأبشع صورها؛ بتأسيس نظام حزب البعث العراقي في العام 1968، واستدعائه لكل مفاسد الموروث الطائفي العنصري؛ فنتج عن كل ذلك ثقافة مجتمعية مأزومة، وثقافة سلطوية قمعية، ونظم سياسية وقانونية مولِّدة للأزمات، ومراكمة لها، ومفككة لبنية المجتمع، ومدمرة لوحدة الدولة، ومثيرة للحروب والصراعات الداخلية بين مكونات الشعب العراقي.

وكان نظام البعث بارعاً في قمع أعراض هذه الثقافات المأزومة والمناخات النفسية المعقدة التي أنتجها الموروث التاريخي العراقي وأنتجها فكره وممارساته، ويغطي على بؤر النيران والأزمات، بكل أنواع القسوة والطغيان والجبروت؛ فكان يقضي على أعراضها بعلاجات تفاقم الأمراض وتجذّرها، لأنه كان يعتاش على هذه الأمراض ويتغذى بها، بل هي سبب استمراره في السلطة. وبذلك بقيت تلك الثقافات والأمراض المزمنة والصراعات المتجذرة ناراً تحت الرماد؛ حتى سقطت سلطة القمع في العام 2003؛ لتنطلق هذه الثقافات والصراعات بقوة إلى العلن.

3- إفرازات نظام العراق الجديد:

وهي إفرازات خطيرة لنظام مابعد العام 2003، لكن أغلبها يمثل امتداداً لأزمات بنيوية أو مظهراً جديداً لمشكلة قديمة، وأهمها ما يلي:

أ‌- تفاعل الأزمات الموروثة؛ فبعد انهيار دولة البعث في العام 2003؛ بفعل مشروع الاحتلال الذي كان معنياً بمصالحه فقط، وليس معنياً بحل أزمات العراق؛ فإن تلك الثقافات والأزمات النفسية وتبعات الموروثات التاريخية والبيئة النفسية الحاضنة لكل أنواع الأزمات؛ تحررت فجاة، وانطلقت بقوة تدميرية هائلة؛ لتملأ الواقع العراقي بالتناقضات والتعارضات والصراعات، حتى أصبح الشغل الشاغل للحكومات المتوالية؛ حل التناقضات بين الفرقاء السياسيين، وتفكيك العقد بين مكونات الشعب العراقي، ومقاربة إشكاليات النظام السياسي، وتنظيم صلاحيات الحكومة المركزية وحكومات الإقليم والمحافظات، فضلاً عن المهمة اليومية الروتينية المتمثلة بمكافحة الإرهاب وأسبابه المتراكمة. وجميعها مشاغل متشعبة جدلية؛ تجد جذورها بالكامل في ممارسات الأنظمة العراقية السابقة وأعرافها وأفكارها وسلوكياتها، وترافقها أزمات متفجرة أخرى تتعلق بالخدمات والبنية التحتية، وهي أزمات موروثة أيضاً؛ لأن نظام البعث ظل طيلة 35 عاماً يقوم بحلول ترقيعية لهذه الأزمات؛ للحيلولة دون ظهورها إلى العلن.

ب‌- مشروع الاحتلال الأمريكي، واستمراره في الفاعلية، على مستوى النفوذ السياسي الكبير، والتواجد العسكري، والعمل الأمني، والنشاط الثقافي والإعلامي والاجتماعي التخريبي.

ت‌- التدخل السافر للدول الاخرى في الشأن الداخلي العراقي، عبر الإعلام والنفوذ السياسي والأموال ودعم الجماعات الإرهابية، و بما يمس أمن العراق واستقراره.

ث‌- النظام السياسي الديمقراطي الليبرالي التوازني المنفلت، بعد عقود من الدكتاتورية والانغلاق التام والمركزية الشديدة وحكم الحزب الواحد والطائفة الواحدة والرجل الواحد والثقافة الشمولية الواحدة، وانعكاسات هذه المفارقة سياسياً وقانونياً واجتماعياً ونفسياً على الدولة والمجتمع والفرد.

ج‌- كثرة الأحزاب الشيعية المتساوية في القوة والشعبية، وضعف الخبرة التراكمية للشيعة في الحكم، وعدم امتلاك أحزابهم السياسية والمؤسسة الدينية والمؤسسات الاجتماعية (عشائر وغيرها) مشروعاً متكاملاً متفق عليه لإعادة بناء العراق، وتأسيس الدولة العراقية الجديدة.

ح‌- السلوك السياسي لأحزاب المكونين السني والكردي، والذي يعيق غالباً عملية الاستقرار والنماء.

خ‌- ظواهر الفساد الإداري والمالي والفشل التنموي، في أغلب مؤسسات الدولة، بسبب مساربها التي تنتجها التركيبة المحاصصاتية للمسؤوليات في الدولة، وسياقات الترضية والصفقات السياسية، وضعف المركزية والرقابة.

د‌- الضرب المستدام للاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي، عبر التفجيرات والاغتيالات والتخريب والعمل المسلح للجماعات الإرهابية التكفيرية والطائفية وبقايا النظام البعثي.

مفارقات نظرة المكونات الى العراق الجديد

لقد ورث عراق ما بعد العام 2003؛ بلداً ليس فيه مساحة صالحة للعيش الحقيقي.. بلداً مدمراً منكوباً، وشعباً شديد الإرهاق؛ بفعل الحروب المتوالية، وانهيار الاقتصاد والوضع المعيشي والبنى التحتية، والقمع الطائفي للأكثرية الشيعية، والصراعات العنصرية، ومصادرة الحريات والحقوق الفكرية والثقافية والسياسية والإعلامية، ومنع أي تعبير عن الرأي الآخر، والحرب النفسية، والقتل والاعتقال والتهجير والاضطهاد.

وهذا لا يعني أن نوع النظام الذي حكم العراق بعد العام 2003 غير مسؤول عما وصل إليه الواقع العراقي، بل أنه يتحمل وزر رفض حل عقد العراق وأزماته، حلاً علمياً واقعياً. ولا أقصد بالنظام هنا؛ الحكومات أو رئاساتها، بل أساس النظام التوافقي التوازني المحاصصاتي، وكذلك الفرقاء السياسيين الذين شاركوا في إدارته، لأن حكومات ما بعد 2003 تضم مجاميع من الأحزاب والجماعات والكتل والائتلافات، المختلفة دينياً ومذهبياً، والمتعارضة سياسياً وثقافياً، وكل منها يفرض شروطه وقوانينه على الدولة العراقية، كما يفرض مرشحيه ونسبته من المسؤوليات والمناصب، بدءاً برئيس الجمهورية وانتهاء بمدراء الدوائر. ثم تتحول الوزرات إلى مراكز يديرها - غالباً - الحزب الذي ينتمي إليه الوزير. وبالتالي؛ يتحول نظام الحكم إلى مهرجان من الثقافات والايديولوجيات والموروثات النفسية المتعارضة والانتماءات السياسية غير المنسجمة.

وقبال هذا الوضع؛ يكون من الطبيعي تسلل كل ألوان الفساد الإداري والمالي والأخلاقي والقانوني والثقافي والإعلامي إلى الجسد الحكومي والوطني الذي يتصارع أعضاؤه، ويُفشل بعضها الآخر، ومن الطبيعي أيضاً أن ينخفض منسوب الإنجاز لدى الحكومة إلى حدها الأدنى.

والأسوء من ذلك؛ أن كثيراً من الفرقاء السياسيين الذين يشاركون في نظام الحكم؛ يضع قدماً في الحكومة، وقدماً آخر في المعارضة السياسية، بل يستعير بعضهم قدمين ثالثة ورابعة، ليضع إحداهما في الجماعات المسلحة التي تقاتل الدولة علناً، ويضع الأخرى في واشنطن. هذا التعارض الغريب بين الفرقاء السياسيين؛ له مسوغاته الضاربة بعمقها في أزمات العراق التكوينية والبنيوية، أي أن كل فريق يعطي لنفسه الحق في رؤية العراق من زاويته، ويتغنى بالوطن الذي يعتقد بشكله ومضمونه، وهو شكل ومضمون يختلفان من فريق لآخر. وهو ما ينطبق أيضاً على المفاهيم ودلالاتها وتطبيقها؛ فكل الفرقاء ينادون بحب الوطن والتضحية من أجله، وبكرامة المواطن وبالعدالة والمساواة والحقوق والحريات والمشاركة، لكنهم يختلفون في ماهية الوطن الذي يضحون من أجله ونوعية هذه التضحية، ويختلفون في دلالات المواطنة والكرامة والعدالة والحقوق والمشاركة والمساواة وتطبيقاتها. وفي النتيجة؛ تكون ممارساتهم متعارضة بالكامل، وهم يحملون المفاهيم والشعارات ذاتها ويشتركون في إدارة الدولة والسلطة ذاتها.

ومثال ذلك؛ أن كثيراً من الفرقاء السنة يعتقدون أن عراقهم هو عراق ما قبل العام 2003، وأنهم يطمحون من أجل العودة إليه، أما عراق ما بعد العام 2003 فهو ليس العراق التقليدي الذي يعتقدون به وينتمون إليه، لأنهم أصبحوا مجرد حكام شركاء فيه وليسوا حكاماً مطلقين، بعد أن تحوّل إلى عراق كل المكونات العراقية. وفي المقابل يقاتل أغلب الفرقاء الشيعة من أجل التخلص من رواسب عراق ما قبل العام 2003، لأنهم وجدوا الوطن الذي ينصفهم نسبياً بعد العام 2003. وحيال ذلك ينظر كل مكون للوطن من زاويته فقط. وبذلك يكون الوطن غير الوطن، والتضحية غير التضحية، والعدالة غير العدالة. وهكذا فرقاء متضادون في دلالات المفاهيم وتطبيقاتها ومصاديقها، لا يستطيعون الاشتراك في بناء دولة وحكومة وسلطة منسجمة متوازنة؛ إلّا إذا أذعنوا للواقع الجديد واعترفوا بحقائقه واستحقاقاته.

إنّ المشكلة العراقية تنطوي على مجموعة أزمات مركبة كبرى، وإنّ ما حدث في العام 2003 هو صدمة تاريخية، ربما لا تعرف جوهرها حتى الدول الكبرى التي أسقطت نظام صدام حسين، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية؛ فتتصور أنها أسقطت دكتاتوراً اسمه صدام، كما أسقطت غيره في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا. ولكن دول الاحتلال لا تعلم أنها أسقطت في العراق تاريخاً عمره قرون ممتدة.

ولذلك؛ فإن أزمة معقدة عمرها مئات السنين؛ لا يمكن حلّها بعشرين سنة أو أربعين سنة، بل لعل العراق بحاجة إلى أربعين عاماً أخرى، ليصل إلى أهدافه في الاستقرار والتكامل البنيوي؛ شرط أن يكون الطريق الذي يسلكه العراقيون هذه المرة طريقاً علمياً وواقعياً وسليماً في المنهج والفرضيات. ولا نطرح هذه الفترة الزمنية من باب التخمين العابر، بل من منطلق علمي ورؤية استشرافية. ولاشك أن مشروعاً بحثياً استشرافياً ستراتيجياً كهذا؛ هو عمل حكومي بحثي كبير، ينفذه عشرات المتخصصين العراقيين والعرب والأجانب، ممن يعون عمق الأزمات العراقية وأعراضها.

الرفض الداخلي والخارجي للحل

لقد زاد من صعوبة حلحلة مشاكل العراق المتجذرة، وعدم قدرة أية حكومة على تفكيك عقده؛ ثلاثة عوامل داخلية وخارجية أساسية، مترابطة ويكمل أحدها الآخر:

1- التدخل الخارجي الضاغط الرافض للتغيير الحاصل في القوام الموروث للدولة العراقية، والتركيبة التشاركية الجديدة في الحكم؛ لأن التغيير مثّل صدمة للتاريخ العراقي بشكل خاص، والعربي بشكل عام. ولذلك؛ بذلت بعض الأنظمة العربية والأجنبية الطائفية، خاصة السعودية بالدرجة الأُولى، ثم تركيا وبعض البلدان الخليجية بالدرجة الثانية، كل ما لديها من جهد وقوة ونفوذ لمنع التغيير في موروث الدولة العراقية؛ فأبقت الحكومات العراقية المتعاقبة منشغلة في مكافحة الإرهاب والعنف، وعدم التوجه إلى التغيير الحقيقي في الواقع العراقي، وفي عملية البناء الثقافي والمجتمعي والسياسي والاقتصادي، والإعمار وتقديم الخدمات.

2- رفض أغلب المكون السني للعراق الجديد ولأي تغيير في تركيبة الدولة الطائفية العنصرية الموروثة، وهو رفض لا يزال يتسبب في حرب تخريبية داخلية ضد الدولة والنظام السياسي والعملية السياسية، بل ضد إعمار العراق، للحيلولة دون ظهور الدولة الجديدة بمظهر الدولة الناجحة النامية المستقرة، وهي حرب تدميرية مفتوحة في جوانبها السياسية والعسكرية والجاسوسية والإدارية والاقتصادية والإعلامية والدعائية والاجتماعية والنفسية، وذلك بنوعين من أدوات الحرب والتنفيذ:

أ‌- أدوات سياسية وجاسوسية واجتماعية واقتصادية وإدارية وإعلامية ودعائية ونفسية واقتصادية، فاعلة بقوة داخل العملية السياسية، وتتحرك من مفاصل سلطات الدولة، تقودها بعض الأحزاب المشاركة في الحكم.

ب‌- أدوات إرهابية مسلحة، تقودها بقايا النظام السابق وحلفاؤه، من منظمات إرهابية طائفية محلية، ومنظمات وهابية إرهابية تكفيرية دولية، كالقاعدة وداعش.

3- المشروع الأمريكي ــ الإسرائيلي ــ السعودي في المنطقة، وهو المشروع الذي وهو المشروع الذي يعمل بكل وسائل الضغط والترغيب والترهيب، العسكرية والمخابراتية والسياسية والثقافية والإعلامية والدعائية والاقتصادية، ويستثمر كل عوامل الخلاف والصراع المذهبي والقومي والفكري والثقافي في المنطقة الإسلامية، من أجل تثبيت دعائم مشروع الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، ومشروع استقرار الكيان الإسرائيلي والتطبيع الشامل معه، ودمجه في واقع المنطقة، من خلال فتح قنوات امتداد سياسي واقتصادي وثقافي وإعلامي له في المنطقة، بل وإنشاء تحالفات سياسية عسكرية أمنية بينه وبين بعض الأنظمة العربية ضد المحور الإسلامي الشيعي الناهض؛ فكانت عين هذا المشروع على عراق ما بعد سقوط نظام البعث، من أجل جعله قاعدة تنفيذية رئيسة في المشروع، لكن أمريكا وإسرائيل والسعودية تفاجأوا بموقف القوى العراقية الشيعية المشاركة في الحكم، الرافض للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، ولأي وجود عسكري وثقافي ونفوذ سياسي لأمريكا في العراق، وكذلك رفض أي نوع من أنواع التطبيع والعلاقة مع الكيان الإسرائيلي، بل وانخراط أغلب هذه القوى في المحور الإسلامي الشيعي الناهض والمقاوم.

ولذلك؛ بعد أن أيقنت أمريكا في العام 2012، بفشل مشروعها في العراق الجديد ورهانها عليه، وفشل ضغوطاتها الكبيرة على القوى الإسلامية الشيعية والحكومة العراقية؛ أخذت تعمل بكل الوسائل على الحيلولة دون استقرار العراق ودولته وحكومته، ودون تحوّله إلى قوة إقليمية مناهضة للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط وللكيان الإسرائيلي، والإبقاء على الدولة العراقية ضعيفة هشة، وحكومتها متناحرة شبه مشلولة، حتى ترضخ للشروط الأمريكية، وهي:

أ‌- الانخرط في المشروع الأمريكي الشرق أوسطي

ب‌-  التطبيع مع الكيان الإسرائيلي

ت‌-  محاربة المحور الإسلامي الشيعي

أما بقاء العراق وقواه السياسية، ولاسيما الشيعية، على الحياد؛ فلا معنى له في قاموس نظام الولايات المتحدة الأمريكية؛ فأمريكا تخيِّر الدولة العراقية بين أن تكون معها نظرياً وميدانياً، وإلّا فإنها معادية لأمريكا ومشروعها ولإسرائيل.

التعايش الوطني والقبول بالواقع

لقد كان التعويل بعد العام 2003 على الزمن والمخططات العلمية لحل أزمات العراق المستعصية، وكان طرحنا حينها يتمحور حول خطة ستراتيحية استشرافية، أمدها المناسب خمسون عاماً، تتوزع على عشر خطط خمسية وخمس خطط عشرية، أي أنها تنتهي في العام 2053. ولكن منذ اللحظة الأولى؛ برزت الأزمات وأخذت تتراكم بشكل مرعب، بسبب انشغال الحكومة بنفض ركام الخراب الرهيب والأنقاض الموروثة الهائلة التي خلّفها النظام البعثي، والذي زاده الإرهاب من جهة، وتناحر أحزاب المكونات المشاركة في السلطة؛ أزمات ومشاكل.

وفي الجهود البحثية التي طرحناها بعد العام 2003؛ تم التأكيد على ضرورة الالتصاق بالواقع، والانطلاق منه في إيجاد المعالجات؛ وإن كان هذا الواقع خطيراً ومرعباً، والحديث فيه يثير الحساسيات والأوجاع؛ لأن هذا هو مقتضى معالجات الأمراض المستعصية. وبالتالي؛ كان ولايزال من أولويات الحل هو تجاوز الشعارات الفضفاضة والمقولات السطحية في النظر إلى مشاكل العراق وأزماته؛ فرغم مرور 20 عاماً على تغيير نظام الحكم في العراق؛ إلّا أن شعارات الوحدة الوطنية واللحمة الوطنية وعشق العراق وحب الوطن؛ لم تنفع حتى الآن، ولن تنفع، في معالجة مشاكل العراق وحل أزماته؛ رغم أهمية هذه الشعارات وضرورتها، وإخلاص أغلب المنادين بها، لأن كل فريق ينظر إلى العراق من زاويته، وكل مكون يريد وطناً مفصلاً على مقاسه، كما ذكرنا سابقاً.

قد يرى بعض المعنيين أن الدراسات الحفرية لا ضرورة لها؛ لأنها مخيفة، وتكشف عن عمق المشاكل والعقد والأزمات، وتُشنج الأوضاع وتثير الحساسيات، فضلاً عن أنها ــ كما يتصورون حرصاً أو جهلاً ــ لون من التنظير والترف الفكري. ومثل هؤلاء الناس يفضلون حقن الواقع العراقي بالمسكنات والمهدئات، وعدم معالجته علاجاً حقيقياً، وعدم الإفصاح عن حقائق الأمراض المزمنة الصعبة التي يعاني منها؛ أما بدافع الإبقاء على بنية الدولة العراقية كما كانت عليه قبل العام 2003، أو بدافع الحرص على الوضع النفسي للشعب كي لا تثار مخاوفه. وكلا الدافعين غير واقعيين، ولا يحلان مشكلة ولا يعالجان أي مرض بنيوي.

وأرى من المفيد في مقاربات الحل؛ اعتماد قاعدتين أساسيتين:

القاعدة الأولى: قبول الجميع بالحقائق الثابتة التي كشف عنها سقوط السلطة التاريخية التقليدية العراقية في العام 2003، واستحقاقاتها وتبعاتها، لأن العبور عليها يعني الإصرار على إبقاء العراق مشتعلاً وسط نيران الأزمات، وهو مايجب أن يلتفت إليه الزعماء السياسيين والدينيين والاجتماعيين للمكونات الدينية والمذهبية والقومية في العراق، وأهم هذه الحقائق:

1- إن العودة إلى عراق ما قبل العام 2003، بأيديولوجيته وثقافته وسلوكياته الطائفية العنصرية بات مستحيلاً، وإن حزب البعث وأمثاله من الجماعات الشوفينية الطائفية، أصبح جزءاً من هذا الماضي المؤلم الذي لاعودة إليه إطلاقاً، وإن اجتثاث هذا الفكر العنصري الطائفي ورموزه هو العلاج الطبيعي الفاعل، حاله حال النازية والشوفينية والفاشية والفرانكوية.

2- إن العراق يتألف من ثلاثة مكونات رئيسة: الشيعة (65% من عدد سكان العراق)، السنة العرب (16% من عدد السكان) والسنة الكرد (15% من عدد السكان)، وهي النسب المحسوبة بأدوات علمية، وما يترشح عن عنها من استحقاقات طبيعية، يفرضها الواقع والقانون، على قاعدة العدالة، وليس قاعدة المساواة.

3- إن النخبة السنية العربية لم يعد باستطاعتها أبداً، احتكار السلطة وقرار الدولة، ولم يعد السنة العرب هو المكون المميز الأثير النبيل، وأبناؤه هم عراقيوا الدرجة الأولى من حاملي الجنسية العثمانية، وأن من حقهم حصراً أن يكونوا خلفاء وسلاطين وولاة وملوك ورؤساء جمهورية وقادة، كما لم يعد الشيعة هم المعارضة التقليدية للسلطة العراقية الطائفية منذ منتصف القرن الهجري الأول، ولم يعودوا عجماً وفرساً ومجوساً وهنوداً وغجراً وعملاء وجواسيس، كما كانت تصفهم أدبيات الدولة العراقية، منذ 1921 وحتى 2003، كما لم يعد الكرد متمردين وجيوب ومحطات للسخرية، كما كانت تصفهم الدولة العنصرية السابقة، ولم يعد الشيعة الفيليين والكرد والتركمان والشبك، مواطنين من الدرجة الثالثة، بل بات جميع أبناء الشعب العراقي مواطنون أصلاء، متساوون في الحقوق والواجبات، ولاوجود لمواطن درجة أولى أو ثانية أو ثالثة، وباتت مكونات الشعب العراقي، بأكملها، مشاركِة مشاركةً واقعية في إدارة الدولة والحكومة والسلطة؛ مع الأخذ بالاعتبار استحقاق كل مكون بصورة عادلة في قرار الدولة والحكومة، وفي حجم تشكيله لهوية العراق، وفق نسبته العددية.

4- إن عقيدة الجيش العراقي، لم تعد عقيدة طائفية عنصرية، هدفها حماية السلطة، وضرب مكونات الشعب العراقي، وتنفيذ رغبات السلطة في الاعتداء على دول الجوار، بل باتت عقيدة وطنية، وأن مهمة الجيش باتت حماية الوطن وحدوده، والدولة وسيادتها، وليست سيادة الدكتاتور وأسرته وحزبه.

5- إن المناهج التعليمية، ولاسيما مناهج التاريخ والجغرافيا والتربية الدينية والوطنية، لم تعد تكتب وفق البنية الطائفية العنصرية للسلطة العراقية السابقة، بل وفق آلية التوازن بين التنوعات المذهبية والقومية للسكان، وهو ما ينطبق أيضاً على وسائل إعلام الدولة والحكومة، وعلى المؤسسات الدينية والإفتائية والوقفية التابعة للدولة والحكومة.

القاعدة الثانية: استبدال الشعارات والمفاهيم والسلوكيات التقليدية المتوارثة الفضفاضة، بالمفاهيم الواقعية التي تنسجم مع حقائق العراق، وفي مقدمتها تنوعه القومي والمذهبي والثقافي، وأول هذه الشعارات؛ شعار الوحدة الوطنية، وضرورة تقريبه من مفهوم التعايش المشترك، لأن شعار الوحدة الوطنية شعار ضبابي وعائم وملغوم، ويحمل تفسيرات متعارضة؛ فالنظام السابق كان يفسِّر الوحدة الوطنية بأنها الوحدة الجغرافية والسياسية القسرية القهرية للمواطنين العراقيين تحت هيمنة السلطة الأحادية الايديولوجيا الشديدة المركزية، وليس الوحدة النفسية والمجتمعية والسياسية في ظل الوطن، وهو شبيه بشعار وحدة الخلافة الذي قتلت الدولة العثمانية تحت لوائه ملايين البشر المنتمين إلى أعراق ومذاهب شتى، والخاضعين لسلطتها العنصرية الطائفية قسراً. وهو ما ظل يحصل في العراق دائماً، حيث قتلت دولة البعث أكثر من مليون ونصف المليون شيعي وكردي عراقي تحت شعار الوحدة الوطنية.

أما مفهوم التعايش الوطني؛ فهو شعار واقعي وينسجم مع حقائق العراق، حتى وإن ترشّح عنه التخفيف من مركزية الحكومة الاتحادية، وتشكيل أقاليم جديدة، أو انفصال إقليم كردستان، أو استحداث ضوابط إدارية في العلاقة بين المحافظات. والهدف من كل ذلك فسح المجال أمام أبناء الجغرافيا الواحدة أو الدين والمذهب والقومية الواحدة أن يقرروا مصيرهم في الوحدة من عدمها، وليس إجبارهم على العيش قهراً في ظل واقع سياسي وثقافي ونفسي لا يريدونه. وهذا هو سلوك الدول الديمقراطية التعددية؛ فهي دول تطبق مفهوم التعايش المشترك بين أبناء المذاهب والأديان والقوميات المتنافرة المتصارعة، والذين يعيشون حالة المواطنة الحقيقية في ظل دولة واحدة، لكنها تترك لهم حق تقرير المصير؛ فيما لو فشلت الدولة في جعلهم يتعايشون بسلام وانسجام.

حزمة الحلول

ابتداءً؛ من منطلق الحفر في الواقع؛ يمكن الجزم بأن أزمات العراق ليست مميتة وقاتلة وميؤوس منها، بل هي أزمات مزمنة صعبة، ويمكن إيجاد العلاجات والحلول لها، وإن كانت هذه العلاجات موجعة ومرّة وخطيرة وطويلة الأمد. ويمكن تسمية حزمة الحلول الجذرية التي نطرحها هنا، بالتحوّل العراقي الأساس، واستئصال أزماته، وتتمثل بما يلي:

1- منح إقليم كردستان (اربيل سليمانية دهوك) استقلاله كدولة جديدة كاملة السيادة، وهو أهم مدخل لحزمة الحلول، لأن فيه مصلحة العراق وكردستان معاً، وحينها سينخفض منسوب الصراع على هوية العراق المذهبية القومية الى أدنى مستوياتها، فضلاً عن الصراعات الأخرى على الثروات والمناصب والتشريعات وسياسات الدولة، والكلام في هذا المجال طويل.

2- تعديل الدستور تعديلاً شاملاً، يشمل الجانبين الفني والمادي، ويضع خاتمة لكل الثغرات القانونية والشكلية فيه، والتي تسببت طيلة الفترة الماضية بتعميق الخلافات السياسية بين المكونات العراقية والفرقاء السياسيين، ومنها تثبيت القيم العليا الاجتماعية الدينية التي تعتقد بها الأغلبية الساحقة من الشعب العراقي، وإلغاء مادة تعطيل ثلاثة محافظات لتعديل الدستور، وتغيير النظام السياسي من البرلماني الى الرئاسي، وإلغاء مجالس المحافظات، وغيرها. وسبق أن قدمت مقترحات وافيه بهذا الشان.

3- تغيير النظام السياسي البرلماني الحالي إلى النظام الرئاسي أو الرئاسي - البرلماني؛ على غرار النظامين السياسيين الفرنسي والروسي والتركي؛ فيكون هناك رئيس جمهورية منتخب انتخاباً مباشراً من قبل الشعب، يتمتع بصلاحيات تنفيذية يحددها الدستور، ويكون القائد العام للقوات المسلحة في الوقت نفسه، كما يكون هناك برلمان منتخباً شعبياً. ويقوم رئيس الجمهورية المنتخب باختيار مرشح الكتلة النيابية الأكبر التي يحدد الدستور مواصفاتها بدقة؛ ليكون رئيساً للوزراء، بعد التصويت على كابينته في مجلس النواب، وتكون السلطة التنفيذية مقسّمة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في إطار صلاحيات محددة دستورياً بشكل حاسم، تحول دون أي تضارب أو خلاف.

4- إعتماد النظام الفيدرالي المتماسك، الذي يتألف من دولة مركزية قوية وستة أقاليم صغيرة، على غرار النظام الروسي، ويتم في إطاره تقييد مفهوم الفيدرالية بتعاريف ومواد واضحة جداً، تحدد قيام الأقاليم على أسس مشتركة، كما تحدد للمركز والأقاليم نوعية الصلاحيات والحقوق والواجبات والعقوبات الجزائية، وأن لايمرر هذا النظام في الدستور على قاعدة الترضيات والازدواجية في الطرح، أو على حساب قوة الدولة وهيبتها، وقوة الحكومة المركزية وصلاحيتها. وتعطى هنا للحكومة المركزية صلاحيات معينة في إقامة الأقاليم ورسم حدودها الإدارية، وأن تتمتع جميع الأقاليم بحقوق وواجبات وصلاحيات وحكومات متشابهة شكلاً ومضموناً. ويتم اعتماد النظام البرلماني في الأقاليم وليس النظام الرئاسي. والأقاليم على النحو التالي:

أ‌- إقليم العاصمة بغداد، وتلحق به أقضية سامراء والدجيل وبلد

ب‌- إقليم كركوك الخاص، ويلحق به قضاء طوزخرماتو

ت‌- اقليم الغرب: الموصل، الأنبار وصلاح الدين

ث‌- إقليم الفرات الأوسط:  كربلاء، بابل والنجف، وتلحق به النخيب الى الحدود الدولية

ج‌- إقليم الشرق: ديالى، واسط، العمارة والقادسية

ح‌- إقليم الجنوب: البصرة، الناصرية والمثنى

ويتم انتخاب مجلس نواب أو مجلس إقليمي لكل إقليم، وتلغى مجالس المحافظات، كما يتم انتخاب رئيس أو رئيس وزراء لكل إقليم من قبل برلمان الإقليم، بوصفه مرشح الكتلة الأكبر، ويتم أيضاً ترشيح المحافظين من رئيس الإقليم، والتصويت عليه داخل برلمان الإقليم.

5- تثبيت الناظم المذهبي القومي للدولة، والمتمثلة بمذهب الأكثرية السكانية وقوميتها، ليأخذ موقعه في أدبيات الدولة ورمزياتها وتشريعاتها ومؤسساتها وأعرافها، بوصفها دولة شيعية عربية. فبعد منح إقليم كردستان استقلاله؛ ستكون نسبة العرب في العراق 85% والشيعة 84% من عدد سكان العراق، أي أن نسبة الشيعة العرب ستبلغ 75% من عدد سكان العراق، الأمر الذي سيجعل تثبيت هوية العراق أمراً تلقائياً، حتى على مستوى القوانين والتشريعات والمناهج الدراسية، بما لايتعارض مع هوية الدولة وناظمها المذهبي القومي، الى جانب تقنين واقع دولة التعددية القومية والمذهبية والجغرافية، واحترام الاتجاهات الثقافية والمذهبية والفكرية الأخرى، على قاعدة قناعة جميع فئات الشعب بمبادئ العيش المشترك، ما يعني إعطاء جميع أبناء المكونات القومية والمذهبية والدينية والتيارات الفكرية، حقوقها وحرياتها، بشكل متكافيء، ينسجم مع حجمها السكاني واستحقاقاتها السياسية.

6- العمل بمقتضى ما تفرضه الأنظمة الديمقراطية من وجود حكومة منسجمة سياسياً، ووجود معارضة داخل البرلمان وخارجه. ويتم تشكيل الحكومة المنسجمة سياسياً، والتي تحظى بأغلبية برلمانية، من جماعات وأعضاء يمثلون التنوع العراقي؛ أي حكومة أغلبية، فيها تمثيل واقعي متوازن للعرب والفيليين والتركمان والشبك؛ بشيعتهم وسنتهم، وحتى الكرد الذين سيكون لهم وجود سكاني في محافظات العراق، خارج كردستان، فضلاً عن الأقليات الدينية القومية. وتذعن هذه المنظومة الحكومية إلى حقائق الديمغرافيا العراقية في نوع المشاركة وحجمها. وينطلق تشكيل هذه الحكومة من نقطة تشكيل تيارات منسجمة سياسياً، تتصدرها أحزاب تنتمي إلى الأكثرية السكانية، وينضوي تحتها جماعات وأفراد من كل الطوائف والقوميات، وتدخل الانتخابات كقوائم وطنية وليس قوائم مذهبية أو قومية. أما الائتلافات والأحزاب التي لا تحقق الأغلبية؛ فإنها تبقى في المعارضة؛ وإن زعم بعضها أنه يمثل مكوناً معيناً.

وعلى هذه القاعدة؛ سيتم إلغاء منهجية تشكيل الحكومة على أساس المحاصصة السياسية؛ بذريعة الشراكة الوطنية، وإعتماد منهجية حكومة الأغلبية السياسية؛ التي تعطي للمكونات الدينية والمذهبية حقها في التمثيل أيضا، في إطار حكومة الكتلة الواحدة أو الائتلاف الواحد المنسجم سياسياً، والمتنوع دينياً ومذهبياً وقومياً وفكرياً. كما ستحول هذه القاعدة دون حدوث الظواهر التي تشل الحكومة وحركة الدولة، ومنها ازدواجية ولاء الوزير أو المسؤول بين الحكومة والأحزاب، وظاهرة ازدواجية الانتماء بين الموالاة والمعارضة.

7- تطهير الدولة وجميع مفاصلها وثقافتها وأدبياتها ورمزياتها ومناهجها الدراسية من أية رواسب طائفية وعنصرية، وغلق جميع الأبواب، عبر الدستور والقوانين والنظام السياسي وجميع نظم الدولة، أمام العودة الى أي ثقافة أو نظم أو منهجيات فيها لون من ألوان الطائفية والعنصرية والتمييز النظري أو العملي بين فئات الشعب العراقي.

ويكون هذا التطهير متزامناً مع إعتذار الدولة العراقية رسمياً، بصفتها المعنوية؛ وبالطرق القانونية والثقافية والسياسية والإعلامية المتعارفة دولياً، عما تسببته من مآسي وويلات وإضطهاد وتهميش، على مدى قرون؛ للطوائف والقوميات التي كانت تختلف معها في الماضي طائفياً وقومياً، ولاسيما الشيعة والكرد، وتعويضهم مادياً ومعنوياً وقانونياً، بالطرق المتعارفة دولياً.

8- وضع خطة عملية حازمة، لسد أية ثغرات ومسارب للفساد الإداري والمالي والشلل، في جميع مفاصل الدولة، سواء على مستوى القوانين والتشريعات أو النظم الإدارية وسياقات العمل أو التأثيرات السياسية، ويتم تنفيذ الخطة بحزم وهدوء، بعيداً عن الإعلام والاستثمار السياسي.

9- إعادة مركزة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، وبناء عقيدتها الوطنية، وفق ما تقتضيه التغييرات في الثقافة الطائفية والعنصرية وهوية الدولة، ومنع قيام أية قوات مسلحة في الأقاليم، عدا الشرطة المحلية، وحصر السلاح وأي عمل مسلح بأجهزة الدولة فقط، المتمثلة بالجيش والحشد الشعبي والشرطة والأجهزة الأمنية.

10- بناء خطة وطنية عملية للأمن الستراتيجي، لردم جميع بؤر إنتاج الإرهاب والتكفير، واستباق أية أزمات في الأمن السياسي والثقافي والإعلامي والإقتصادي. وتتعاون في رسم الخطة وتنفيذها جميع أجهزة الدولة العسكرية والمدنية، الى جانب المؤسستين الدينيتين الشيعية والسنية ومنظمات المجتمع المدني.

11- التأسيس لسياسة خارجية وطنية قوية فاعلة موحدة، تعطي للدولة العراقية هيبتها إقليمياً وعالمياً، وتمنحها علاقات متينة متوازنة بدول الجوار والمحيط الاقليمي والعربي والاسلامي، كما تعطي للعراق إمكانية خلق محور سياسي واقتصادي وأمني إقليمي، ولعب دور حيادي إيجابي في النزاعات الإقليمية والدولية، بالترافق مع التعامل بالمثل مع الدول الأخرى، سلباً وإيجاباً، ومن ذلك تقنين عمل السفارات الأجنبية والسفراء والدبلوماسيين الأجانب، وحصر تواصل العراقيين معهم عبر القنوات الرسمية المعنية، وعدم السماح لأي مسؤول عراقي بالتواصل مع الدول الأجنبية، إلّا عبر القنوات الرسمية ذات الصلة.

12- التخلص نهائياً من أي تواجد عسكري وأمني أجنبي، تحت أي ذريعة وعنوان، وإلغاء أية اتفاقيات تسمح لتواجد عسكري وأمني.

13- وضع خطة عشرينية تنموية ثورية من قبل مراكز بحوث وجامعات وخبراء عراقيين وأجانب، تتكون من أربع خطط خمسية، تشتمل جميع مجالات عمل الدولة، مع التركيز على المجالات ذات العلاقة بالاقتصاد والبنى التحتية ومعيشة الشعب، كالنفط ومصادر الطاقة الأخرى، والطاقة النووية، والبتروكيمياويات، والكهرباء والماء، والسكن، والعمل، والضمان الاجتماعي والصحي، والزراعة، والصناعة ونقل التكنولوجيا، ودعم صناعات القطاع الخاص الصغيرة والمتوسطة والثقيلة، والاستثمار المحلي والأجنبي، والتعليم والبحث العلمي، والثقافة المجتمعية، والإعلام والسينما، والسياحة والسياحة الدينية،. كما تتضمن الخطة العشرينية وضع آليات مجدولة عملية وحازمة، بعيدة عن الروتين والبيروقراطية، وأية مسارب للفساد الإداري والمالي.

***

د. علي المؤمن

أكبر عملية تطهير عرقي في تاريخ البشرية

قبل خمسة وسبعين عاماً، تمكنت العصابات الصهيونية عام 1948ـ بدعم مباشر من الاحتلال البريطاني، وتخاذل عربي ـ من السيطرة ـ بقوة السلاح، وارتكاب المجازر ـ على القسم الأكبر من فلسطين، ومن ثم إعلان قيام إسرائيل، وبدء النكبة الكبرى للشعب الفلسطيني، بعد قتل 29 ألف فلسطيني على يد عصابات الحركة الصهيونية، والتهجير القسري الجماعي لحوالي 850 ألف فلسطيني، واقتلاعهم من بيوتهم وأراضيهم في 23 مدينة وما يقرب من 450 قرية التي تحولت أراضيها وأملاكها ومزارعها إلى أملاك لدولة الاحتلال.

النكبة الصغرى بدأت عام 1799 حين نشر نابليون بونابرت ـ خلال الحملة الفرنسية على العالم العربي ـ بياناً يدعو فيه إلى إنشاء وطن لليهود على أرض فلسطين بحماية فرنسية.

لم يُكتب لخطة نابليون الحياة، لكن البريطانيون الخبثاء أحيوها في عام 1917 بإعلان وعد بلفور الذي نص صراحة على إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، بعد أن دعا المؤتمر الصهيوني الأول المنعقد في عام 1897 إلى إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين أيضاً.

تُشكل نكبة الشعب الفلسطيني أكبر عملية تطهير عرقي، وأكبر كارثة عرفتها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية. شردت النكبة قسراً وبالقوة نحو 850 ألف فلسطيني، من أصل نحو مليون و400 ألف، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة.

وأعلنت الحركة الصهيونية إقامة إسرائيل على أكثر من 85% من مساحة فلسطين التاريخية البالغة قرابة 27 ألف كيلومتر مربع، وجرى تدمير 534 مدينة وقرية وبلدة فلسطينية. سجل التاريخ الإجرامي للعصابات الصهيونية قيامها بأكثر من 76 مجزرة بحق الفلسطينيين، بلغ عدد ضحاياها حوالي 29 ألفاً، وتشريد قرابة 200 ألف فلسطيني، واعتقال 6700. وظل ـ رغم القتل التشريد ـ حوالي 150 ألف فلسطيني فقط في المدن والقرى العربية داخل إسرائيل، ارتفع عددهم ليصل نحو مليون و700 ألف حتى نهاية 2021.

فقدَ ما يزيد عن مئتي ألف فلسطيني حياتهم خلال الصراع المتواصل مع إسرائيل بعد النكبة عام 1948. وتم اعتقال ما يزيد عن مليون ونصف حالة اعتقال بحق فلسطينيين. ما زال حوالي 6000 أسير من بينهم في السجون والمعتقلات الصهيونية. لكن عدد الفلسطينيين قد تضاعف نحو عشر مرات منذ النكبة للآن ليصل إلى 14 مليوناً نهاية عام 2021.

دأب الشعب الفلسطيني ومناصريه داخل فلسطين وخارجها على إحياء ذكرى النكبة في كل عام، لتظل في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، حتى استعادة الحقوق كاملة، وتحرير الأرض من الاحتلال البغيض.

تواصل النكبات

حال الشعب الفلسطيني اليوم وقضيته الوطنية، يؤكدان على استمرارية النكبة كفعل وجرائم متواصلة ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين. والواقع اليوم يدلل على أن تمدّد دولة الاحتلال الصهيوني شرقاً وغرباً منذ حرب يونيو/حزيران 1967 وفرض سيطرتها العسكرية وسيادتها الفعلية على الأراضي الفلسطينية، لم يكن ليتحقق لولا التخاذل العربي والوهم الفلسطيني الذي بدأ عام 1974 بإقرار البرنامج المرحلي.

ثم بدا وكأن شعار حل الدولتين قد حلَّ مكان شعار التحرير الكامل. استغلت إسرائيل حالة الشلل العربي الرسمي، والعجز الفلسطيني الرسمي لتصعيد مواقفها وتشترط الاعتراف بها كدولة يهودية دون أي التزام من جانبها للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني. ثم المطالبة بالتخلي عن شعار دولة فلسطينية مستقلة.

وجدت العنجهية الصهيونية قبولاً عربياً رسمياً بدأ باتفاقيات "كامب ديفيد"، ثم تم تقزيم القضية الفلسطينية حين وقّعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية "أوسلو" التي انتهت دون أن تتمكن السلطة الفلسطينية من تحقيق أدنى إنجاز حقيقي وفعلي لصالح الشعب الفلسطيني.

اللامبالاة العربية الشعبية

من نتائج الاستعصاءات في الحالة العربية، غياب الرد العربي الشعبي على تواتر الانهيارات والاخفاقات في الوضع العربي والفلسطيني الذي سلّم بالرواية الإسرائيلية الصهيونية، غير مدركين لتداعيات الاتفاقيات على واقع الصراع ومآلاته. حيث يعتبره الشعب الفلسطيني صراعاً وجودياً، فيما بات العرب يعتبرونه صراعاً على الحدود، بينما إسرائيل ابتلعت كل فلسطين، حتى تلك المناطق التي يجب أن تكون خاضعة كلياً ـ بحسب اتفاقية أوسلو ـ للسيطرة الفلسطينية.

بات معظم العرب يتبنى الرواية الصهيونية على حساب المصالح والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وبعضهم أصبح يعتبر فلسطين وشعبها وقضيتها عبئاً يجب التخلص منه. حيث باتت معظم الدول العربية تتعمد تهميش القضية الفلسطينية، وتتجاهل حقيقة أن حالة الصراع الفلسطيني الصهيوني لا يمكن بترها وعزلها عن المحيط العربي والعمق الإقليمي، فكل العواصم العربية هي في قائمة المصالح والاستهداف الصهيوني.

هذا الوضع الذي نشأ في منظومة الصراع العربي الإسرائيلي أضعف منظمة التحرير الفلسطينية، وجرى إخضاعها للسلطة الفلسطينية بقيادتها الراهنة. ثم قامت أنظمة التطبيع العربية باستغلال هذا الضعف لزيادة التقرب من الدولة الصهيونية، وتأسيس علاقات ثنائية تطبيعية معها دون النظر في كل ما يعانيه الشعب الفلسطيني. وشجع إسرائيل على الاستمرار في سياسة القتل والاغتيالات والقمع والاعتقالات، وهدم منازل الفلسطينيين، والتمادي في إقامة المزيد من المستوطنات على حساب الأراضي الفلسطينية. وضاعف الانقسام الفلسطيني من إمعان إسرائيل في التنكر للحقوق الفلسطينية التاريخية.

غير مؤهلون للدعم

الموت السريري العربي أفضى إلى عدم وجود أية استراتيجية عربية حول إسرائيل، لا استراتيجية مواجهة ولا استراتيجية سلام. يشهد الوضع العربي تراجعاً في الدعم لفلسطين التي أخذت تتحول إلى أندلس جديدة سنفقدها للأبد أمام أعين الجميع.

يدرك الفلسطينيين أن الواقع العربي مثقل بالأعباء والأمراض والإشكاليات والتعقيدات السياسية والاقتصادية والأمنية، ويواجه الصراعات الداخلية والتحديات الاستثنائية بفعل سياسات الاستبداد لمعظم هذه الأنظمة، التي جعلت الشعوب العربية تلهث خلف لقمة العيش، وجعلتها عاجزة عن دعم القضية الفلسطينية، التي طالما جعلتها مطية لتحقيق المآرب على حساب مصالح الشعب الفلسطيني الذي يواجه مرحلة شديدة الخطورة، حيث يتعرض لأقذر المؤامرات وأفتكها وأكثرها سمية منذ قرن من الزمن، بهدف اغتيال القضية الوطنية الفلسطينية، وإماتة الحقوق الوطنية العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، ووأد حلمه في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

أخفقت معظم الأنظمة العربية الاستبدادية في تحقيق شعاراتها المرتبطة بالوحدة والاشتراكية والاستقلال الوطني والحريات، وعجزت عن إحداث أية تنمية وتطوير في البنى الرئيسية، ولم تتمكن من إحراز مهام التقدم الاجتماعي. لكن هذه الأنظمة حققت نجاحاً لافتاً في بناء المؤسسات والأجهزة الأمنية التي تخصصت وأبدعت في قمع وقهر المواطنين وسحقهم، وحل كافة مؤسسات المجتمع المدني، وأغلاق أية إمكانية لتطور الوعي السياسي للناس، وتقويض مفهوم المواطنة، والقضاء على الحوار المجتمعي، وتشجيع الولاءات العرقية والإثنية والعشائرية والمناطقية، ونشر الفساد في مفاصل الدولة والمجتمع، والسماح للمفسدين أن يسمنوا ويتغولوا، وإعلاء المصلحة الخاصة على حساب قيم المنفعة العامة.

حضور إسرائيلي طبيعي

بعد مرور خمسة وسبعين عاماً على النكبة تغيب معظم الشعوب والأحزاب والقوى العربية غياباً فعلياً كاملاً عن المشهد السياسي والفعل المرتبط بفلسطين والقضية الفلسطينية. وتحضر الأنظمة العربية الاستبدادية المنهزمة أمام إسرائيل، والمنتصرة على شعوبها.

ويحضر الحكام العرب الذين يبدون ممانعة للاستجابة لأية مطالب من شعوبهم في تحقيق نوع من العدالة الاجتماعية والمساواة، وإحداث بعض التحولات التي تخترق جدار التسلط والقمع والتحكم وتفضي إلى مناخات ديمقراطية، لكنهم يُظهرون الليونة والقابلية والتأييد لإقامة علاقات طبيعية للغاية مع الكيان الصهيوني، وعلى حساب المصالح والحقوق الفلسطينية.

غاب الجميع وحضرت إسرائيل في أكثر من عاصمة عربية، وحضر النشيد الوطني الإسرائيلي في داخل القصور الرئاسية والمدرجات الرياضية العربية.

تواصل إسرائيل نجاحها في اختراق العواصم العربية، في وقت تمعن فيه بقتل الفلسطينيين وتهوّد القدس. وأصبحت  تتأقلم وهي سعيدة مع وضعها الجديد كعضو مقبول ومرحب به من معظم الدول العربية، لذلك هي تعمل على تجاهل القيادة الفلسطينية، وشطب العمل الفلسطيني من حساباتها، وتتغافل عن أية حلول لصراعها مع الفلسطينيين، طالما أن علاقاتها مع معظم الأنظمة العربية والإسلامية في أحسن حال. كما أسقط معظم العرب من حساباتهم شرط إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، والتوصل إلى حل عادل وشامل يفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس، كشرط مسبق لقيام تطبيع عربي وعلاقات مع الكيان الصهيوني.

كانت وستبقى

في ذكرى النكبة الكبرى الخامسة والسبعين، التي تصادف الخامس عشر من أيار/مايو الجاري نؤكد أن فلسطين كانت قبل 7500 عام قبل الميلاد في جبل القفرة جنوبي الناصرة وسفح الرمل قرب طبريا. فلسطين الكنعانية كانت في العام 3000 قبل الميلاد. وكانت تحت الاحتلال اليوناني عام 332 قبل الميلاد. فلسطين كانت تحت الاحتلال الروماني في منتصف القرن السابع الميلادي. فلسطين وصل إليها عمر بن العاص حاملاً معه رسالة الإسلام العام 643 ميلادي، وتحررت فلسطين من الروم على يد خالد بن الوليد في معركة اليرموك الشهيرة. كانت فلسطين أموية في العام 661. وعباسية في العام 750. ثم دخلها الطولونيون والقرامطة. ثم احتلها الصليبيون العام 1095. وخاض صلاح الدين الأيوبي معركة حطين الشهيرة، واسترد بيت المقدس العام 1187ميلادي. وصدّ سيف الدين قطز والظاهر بيبرس الغزو المغولي على فلسطين العام 1259 ميلادي في معركة عين جالوت بعهد الدولة المملوكية. فلسطين دخلها العثمانيون العام 1516 ميلادي، مكثوا فيها أربعة قرون وخرجوا وظلت فلسطين. وهزمت مدينة عكا الفلسطينية بأسوارها حملة نابليون بونابرت العام 1799 ميلادي. فلسطين دخلها الجيش البريطاني العام 1917 ميلادي وخرج منها العام 1948، حين احتلها الصهاينة وأعلنوا فوق أراضيها دولة لهم. كان قد سبق هذا الإعلان حوالي نصف قرن من التخطيط والتنظيم والتدبير، وسوف يخرجون كما خرج غيرهم.

فلسطين التي كانت محور التقاطعات والتجاذبات والصراعات تاريخيا، سوف تظل في قلب الأحداث التي تجري مستقبلاً. فلسطين كان اسمها وسوف يظل، ولا يمكن للمنطقة أن تستقر دون حل عادل وشامل وكامل للقضية الفلسطينية، يعيد للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المسروقة، وتمكينه من إقامة دولته المستقلة فوق أرضه وعاصمتها القدس الشريف.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

الميزانية بيان اقتصادي سنوي لزيادة الضرائب أو خفضها والتحكم بالسياسة المالية والانفاق الحكومي، ومعظم الأحيان يتضمن خطط لسنوات عدة مقبلة، ويحمل توقعات اقتصادية مالية ونقدية لها أبعاد سياسية وأجتماعية وتنموية.

لكن هذا البيان السنوي قد يكون خبر قديم في خضم المعارك السياسية اليومية والتغيرات المتسارعة في الحياة العصرية وبغض النظر عن الحزب الحاكم تستخدم الحكومة والمعارضة كل ما لديها من الأمكانيات الدعائية والإعلامية للترويج وتسريب المعلومات التي تريد إيصالها دون غيرها للمواطنين لكسب معركة الرأي العام.

الرابحون والخاسرون المقاربة التقليدية لأي ميزانية في السنوات الخوالي، حيث كانت الحكومات تستطيع التحكم بمسار السياسة المالية لفترات قد تطول او تقصر وكانت السوق تتجاوب مع التوقعات وتبني سياساتها على هذه التوقعات.

لكن مع التطورات المتسارعة والسرعة الهائلة للزمن والدورة الإخبارية على مدار الساعة وترابط اقتصاديات العالم وفقدان القرار الوطني بنسب معينة ومتفاوتة جعلت من الميزانية تصبح بسرعة خبر قديم (كما تقدم) وقد تجاوزته الأحداث وتبدأ الحكومة باللهاث وراء الحدث أما للحد من التداعيات السياسية او لتعزيز رأسمالها السياسي اذا ما سارت الرياح كم تشتهي سفنها.

وفي عرض مبسط للميزانية التي قدمتها الحكومة الفيدرالية ألأسبوع الماضي ومن دون الدخول في تفاصيل أرقام النفقات ومن ربح ومن خسر نرى أن الازمات الدولية خصوصاً الحرب الأوكرانية كان لها تأثيرات سلبية واخرى إيجابية، ومن التأثيرات السلبية إرتفاع نسبة التضخم والتي أتت على القدرة الشرائية للمواطنين واضطرت البنك المركزي لرفع نسبة الفائدة إحدى عشر مرة خلال الأثنا عشر شهراً الماضية لتصل الى 3.85%.

أم التأثيرات ألإيجابية لتلك الحرب (وكما يقال مصائب قوم عند قوم فوائدُ) فكان ارتفاع أسعار الصادرات الأسترالية من المواد الأولية من الغاز والفحم والحديد و المنتجات الزراعية فارتفع الدخل الوطني الاسترالي مما جعل الميزانية تحمل فائض قيمته 4.2 مليار دولار لأول مرة منذ 15 عاماً، وقد ساهمت الضرائب على الدخل الفردي في تحقيق هذا الفائض حيث نسبة البطالة دون 4 بالمئة، هذا وسوف تنفق الحكومة حوالي 14.6 مليار دولار في السنوات الأربع القادمة على قطاعات الصحة والإسكان والعائلات والطاقة والعاطلين من العمل والباحثين عن عمل وغيرها.

لكن الميزانية لم تأتِ على ذكر اي شيء حول كيفية تأمين الواردات لتمويل الإنفاق العسكري الضخم، وبرنامج نظام إعانة ذوي الاحتياجات الخاصة، وقطاع رعاية المسنين التي تسحوذ على النسبة الأكبر من النفقات الحكومية الى جانب الفوائد التي تدفعها الحكومة على الدين العام الاسترالي الذي يقارب 900مليار دولار، وهذا ما سيكون له تأثير على مالية الدولة والميزانية العامة وهذا الأمر ليس صدفة، رغم ان الحكومة قالت في الميزانية سوف توفر عشرات المليارات من ميزانية وبرنامج نظام إعانة ذوي الاحتياجات الخاصة من خلال ترشيد الإنفاق والحد من الهدر والفساد في هذا القطاع.

رئيس الوزراء وصف الميزانية بأنها ميزانية حزب العمال بامتياز وطبعاً لا يمكن أن يقول غير ذلك، وبشكل عام فلسان حال حزب العمال يقول نحن نقوم بالكثير من الأشياء ، لكن لا يمكننا ان نقدم كل شيء دفعة واحدة.

لكن الخبراء الاقتصاديين يتخوفون من ارتفاع التضخم مما قد يدفع البنك المركزي لرفع نسبة الفائدة مجدداً، واذا ما حصل هذا الامر يؤكد ان الحكومة رغم نشوتها بالتقديمات الاجتماعية والصحية وغيرها التي ترضي البعض وتغضب البعض الآخر الذي لم يحصل على جزء من تلك التقديمات او تعرض لضرائب جديدة غير قادرة أي الحكومة على التحكم بمسار الأمور، عندها ستكون الحكومة في وضع لا تحسد عليه رغم تأكيدها في السراء والضراء على أستقلالية البنك المركزي لكن تلك الأستقلالية قد تسبب للحكومة وجع رأس سياسي كبير لان المواطن العادي يحمل السياسيين مسؤولية تراجع قدرته الشرائية، وعدم قدرته للوفاء بدفعات الديون العقارية وغيرها لأن البنك المركزي لا يواجه الناخبين والرأي العام والمعلوم أن حاكم البنك المركزي كان قد توقع أن أسعار الفائدة لن ترتفع قبل العام 2024 لكنه عاد ورفع سعر الفائدة الى 3.85% كما تقدم بسبب سياسة البنك المركزي للجم ارتفاع التضخم.

المعارضة الفيدرالية والتي ما زالت في غيبوبة سياسية نتيجة خسارتها انتخابات السنة الماضية ومع استمرار تراجع شعبيتها في استطلاعات الرأي وخسارتها انتخابات أستون الفرعية لأول مرة منذ 100 عام تخسر المعارضة انتخابات فرعية لصالح الحكومة، ترى المعارضة ان ميزانية حكومة العمال اضاعت فرصة لتعزيز الوضع الاقتصادي في البلاد.

زعيم المعارضة بيتر داتون في رده الرسمي على الميزانية أيد بعض بنود الميزانية وتحفظ على البعض الآخر منها الزيادة المتواضعة للباحثين عن عمل (40 دولار كل أسبوعين) وتحفظ داتون بشدة على زيادة عدد المهاجرين في ظل غياب البنى التحتية ورأى أن الميزانية سوف تساهم في زيادة التضخم معترفا ان عوامل خارجية لعبة دوراً في ذلك لكن العوامل الداخلية كان لها تأثيراً أكبر وهاجم سياسية الحكومة المتعلقة بتأمين الطاقة المستدامة وراى ان الميزانية تؤذي العائلات الاسترالية.

ينوي زعيم المعارضة جعل المهاجرين الورقة السياسية الرابحة مجدداً ليكونوا كرة في ملعبه السياسي هذه الورقة التي يجيد داتون استخدامها بامتياز، وفي حملة غير بريئة حذر داتون من زيادة أعداد الماهجرين مما قد يثير عاصفة شعبوية تحول المهاجرين إلى كبش فداء.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يعتقد داتون ان هذا التخويف سوف يقدم له حبل النجاة السياسي في ظل إستمرار تراجع شعبيته في إستطلاعات الرأي؟

هنا لا بد من الإشارة وحسب صحيفة سدني مورننغ هيرلد الى أن حكومة الأحرار برئاسة سكوت موريسن التي شغل فيها داتون وزارة الهجرة وحماية الحدود ووزارة والدفاع كانت تنوي إحضار نفس العدد من المهاجرين قبل وباء الكورنا منذ عام 2019 واستيعابهم في العام 2022.

إذاً، تبقى الميزانية عملية توقعات عما سيحدث في الاقتصاد خلال تلك الفترة الزمنية ، وسيناريوهات حول ما يفترض حدوثه ولها تأثيرها من الناحية الإقتصادية على الناتج المحلي الإجمالي والتضخم والبطالة.

لكن محرر الشؤون الاقتصادية في سيدني مورنينغ هيرالد روس غيتنز يرى أن الاعلام يلعب دوراً محورياً في الترويج للميزانية في اليومين الأولين ويعطي انطباعاً ملائماً للحكومة، مما يجعل الميزانية تبدأ بداية جيدة مع الناخبين قبل الأطلاع على شياطين التفاصيل القذرة المخبأة بعناية ولكنها حقيقية.

أخيراً، مهما كانت التوقعات لكن قد تقع أحداث تطيح بكل التوقعات وتقلب الأمور رأساً على عقب خصوصاً أن هناك من يقرع طبول الحرب في جنوب شرق آسيا، وخير مثال على ذلك ما حصل قبل ثلاثة أعوام عندما تفشى وباء الكورنا، ومنذ عام عندما اندلعت الحرب الأوكرانية، وقبل فترة أنهيار بعض البنوك الأميركية والأوروبية وقبلها الأزمة المالية العالمية عام 2008.

***

عباس علي مراد - سدني

نعم، ان دين المساواة الذي جاء به محمد بن عبدالله، دُفن معه وفي قبره،. فليس لاحدٍ حق الادعاء به بعد، مالم يقل المؤرخ الحقيقة، سنبقى تحت نظرية الخطأ في حكم الدولة دون تغيير.

لم يتهيأ للعرب والمسلمين تكوين دولة منذ البداية، بعد ان أخفيت وثيقة المدينة السياسية التي كتبها الرسول(ص) قبل وفاته بقصد، والتي استبدلوها بشورى السلطة المحدودة دون عامة الناس ومن عارض قتل، بينما استعادت الدولة الرومانية سلطة القانون بعد سقوط القسطنطينية عام 1453 م على يد محمد الفاتح العثماني، حتى ظلت القوانين الرومانية ثابتة التطبيق، فاستعادة الدولة دولة المواطن من جديد، بينما أخفيت مبادىء التغييرالتي نادوا بها اليوم في حكومات الزمن الرديء اصحاب "مؤتمر لندن الخياني عام 2002" حين استبدلوها بدكتاتورية سلطة مذاهب التفريق"المحاصصة" دون حقوق المواطنين، اذن من هم الافضل الرومان ام اصحاب سلطة المسلمين،؟

ان أخطر اسرار التخلف الحضاري في الوطن العراقي اليوم يكمن في التمسك بدين فقهي مجهول غير دين محمد الامين،اصحابه غير مؤتمنين عليه،حتى اصبح المنكر معروفاً والمعروف منكرا عندهم،وخاصة عند اصحاب سلطة الحاكمين، بعد ان استبدلوا فلسفة القانون، بالعقيدة ولا ندري اية عقيدة يقصدون؟ حين صنعوا منها مذهبية باطلة لا أساس لها في النص من يقين،وعلى مقاساتهم ليحكموا شعبا خططوا على تدميره بعناية مع المحتلين والمجاورين، حتى تراهم كُثر كغُثاء السيل منتزعة المهابة من قلوبهم ووجوههم حتى اصابهم الوهن لسلطتهم الباطلة وكراهيتهم للحق المبين. فعاشوا ولا زالوا في الوهم يعيشون، تساندهم مرجعيات دينية ميتة لا تنطق ولا تُرى ولا تتكلم لا بل صامتة صمت القبور تحكم من تحت الظلام،والشاهد على الحاضر وجوب.

كان عليهم وجوب أنكار المنكر لان به قوام الامروامتلاكه كي لا يعم العقاب الطالح الوطن ليبقى طالب الاصلاح ساعيا في تحصيل رضا الله والناس الذين ادعوا ان من اجلهم جاء التغييرالقابل باليد لتحقيق اعلى درجات الكمال وانفع متطلبات المقال الذي به يتحقق اصلاح القلوب والاعمال والاخلاق بين البشر فهو أمانة،والامانة وضعت على الجبال فأبينَ حملها فحملها الانسان، وحتى لا تبقى نظريات الوهم السائدة بين الناس حقيقة، فالحياة تجارب لمن يريد حكم الناس بالعدل ليفوز من التزم بها، عدلا واستقامة حتى يصبح التغيير الذي ينادون به اليوم حقيقة "بالقلب" لعلهم يجدون في تطبيقه واقعا يخرج الوطن مما هو فيه اليوم من محنة الزمن من منظور منهجي يتوخى الفهم الموضوعي لتاريخية هذا الاختلاف املاً في منظور مستقبلي لتحقيق الهدف والغاية من الدين، يقول الحق:"نحن نقص عليك نبأهم بالحق أنهم فتية آمنوا برهم وزدناهم هدىً،الكهف 9 وما بعدها"، فهل هم منهم،؟

نحن اليوم لسنا بحاجة الى، تفسير قرآني وتأليف فكري كتبوه وفق مقتضى التصور الديني السائد القديم "نظريات الاحكام السلطانية والسياسة الشرعية عند البويهيين والسلاجقة بين الكليني والماوردي "أوهام حولوها الى حقيقة، حتى بدت رفوف المكتبات العامة والخاصة اليوم ملأى بكتب الفقه الميت والتفسير الأجرد السقيم، والذي يُصرف على طباعته الملايين، فظل التفسير القرآني يعكس مرحلة تاريخية قديمة دون تطوير.

، ومناهج دراسية رثة يلفها الغموض كتبها ساطع الحصري وخبراء الاحتلال البريطاني الغاشم على العراق،حتى عارضونا الحكام الجدد حين أقترحنا تطويرها لصالح المنهج الحديث،، فأورثونا هذا الاختلاف الكبيرفي مذاهب الدين المتعارضة فقهياً والتي لا وجود لها في النص المقدس المكين، ولا زال انصاف المتعلمين تستشهد بهم على انهم حقيقة العلم والتاريخ والدين، وألغاءعلم الفلسفة في التدريس لأستبداله بعقيدة الدين ولاندري اي دين يقصدون دين الرواديد لاحياء سنن القديم أم نظريات الترادف اللغوي التي ضيعت مفاهيم حقيقة النص في الدين،

يالمهزلة القدر في التاريخ، فهل هؤلاءحقا يستحقون حكم الوطنيين، وهم القائمون على نظرية فرق تسُد حتى في العيد، بعد ان وصل علم الفلك الى اكتشاف المريخ، أنهم الجهلاء اعداء الانسان والوطن والدين. همهم السلطة والمال والجنس وما ملكت ايمانهم وفساد اليقين ولا غير، "سلطة الدولة ومرجعياتها بأجمعها دون تفريق"، انهم لا يؤمنون بأخلاق ودين، فهل من هؤلاء ستخرج نخبة الحاكمين،؟

قصة الكهف في القرآن التي جاءت على سبيل العضة والاعتبارحققت في النابهين عملية تغيير "المنكر بالقلب"، وهو أعلى درجات التغيير، الدين استقامة وعدل مطلق بين الناس والحاكمين، لكنه بنظرهم أدعية وزيارات لمراقد الصالحين واستخارات وسلطة تجهيل واموال هائلة تجبى لصالح وكلاء المراقد وتفريق واستحواذ على اموال المواطنين بالباطل،أنظر صفقات القرن،وصفقات أوقاف المتلاعبين، واموال الطاقة المنهوبة والميزانيات الانفجارية بلا حسابات ختامية دون رقيب او حسيب، وجعل الوطن باسم المذهب والدين تابع لأعدائه الأخرين. ودك ولطم على السالفين منتظرين الحياة من موتى السالفين، لاستمراية نظرية التفريق بين العراقيين، مستمدين اراؤهم من القرون الهجرية الاولى على هذا الطرح الجامد القديم حتى استطاعت البويهية والسلجوقية والقاجارية تحويلة الى مذهبية دين،

ولكن اي دين ياليتنا لم نراه لندخل في مرحلة الموت البطيء، من هنا فالدين لم يصنع لنا دولة المواطنين، بل صنع تصور وهمي خلق لنا عقل قياسي لا وجودي في التطبيق، وتخبط في التفكير ادى بنا الى محنة "المسموح به وغير المسموح "،ليبقى مرجع الدين القابع في صومعته يعيش ويسيطرعلى العقول بغباء البشر، ولتبقى كل ادوات الحضارة المتقدمة بدعة في نظر المتخلفين، لا لن نتقدم الا بالتغييرالتأويلي للنص الصحيح ليبقى استخراج المكنون من النص هو الاصيل،ولانهاء دور العمامة الملونة وشعرها المتدلي على الجبين،

نحن نستنكر هذه السياسة الدينية الغريبة التي حلت عند العراقيين وغيرهم بعد التغيير الاكشر على العراقيين الذي نفذته فئة خرجت على مفاهيم الاصلاح الديني واليقين،نعم نستكر المنهج الذي تسلكه السلطة الضائعة بين المتشددين في تكوين العقيدة،لذا ثار ثوار تشرين الابطال عام 19 لتحقيق الصحيح ليكن لهم في بلدهم مرفقاً، لذا بقي موقف الفتية الصالحة واضحا وصريحا لا تردد فيه اقوياء في ايمانهم بالوطن مستكرين ما عليه قومهم اليوم من فساد العقيدة وفساد المجتمع والسياسة معا ليبقى الوطن لهم دون عامة الناس.هنا اختلف المنهجان،فلا سبيل للالتقاء ولا المشاركة في حياة قيادة الوطن بين المؤتمن والفاسد، لذا لابد من الاصرار حتى النجاح على سقوط المقصرين، فهل يؤمل ممن قتل العلماء والمفكرين ان يعترف بقسم ويمين لا ابدا، فعَدو العدالة ليس له قيم انسانية ودين،؟

المطالبون اليوم بالحقوق الضائعة ليسوا رسلا بل اصحاب عقيدة ودين كل ما عندهم الا دفاع عن وطن مكلوم ليحمونه من بطش حكامه الظالمين ليبقى احساسهم في هدم نظريات التخريب وهدم سجون الحاكمين بشيء واحد لا غير هو الايمان بالعدل، هنا يجب كشف الحقائق المزيفة التي يقبع في جوفها الارتداد عن الدين، ليبقى الذين خانوا الامانة وسرقوا السلطة وقتلوا العلماء والمفكرين ونهبوا المال العام في حفرة الاطيان لا يتحركون وهم بلا دين.

نحن ندعو الشباب المخلص للوطن والدين الى ضرورة الالتزام بنظرية "تغيير المنكر بالقلب" ليتبعها كره المنكرات والاعراض عنها قبل ان تستفحل كمنهج فاسد في الرأس عند المفكرين والناس معا، ورفض الباطل وكل ما يمكن ان يعول عليهم بنفع دنيوي رخيص وتحصين انفسهم من الخطأواحتقارهم العلني للعاملين فيه ومقاطعتهم وعدم منحهم الثقة مهما قالوا وقدموا فهم والمنكر متحدين، وحتى لو دعا الامر الى عصيان مدني ضد قوى الظلام من الحاكمين، مرضى السلطة والمال والمنكر الرخيص، نعم نحن مسلمون وموحدون، لكننا لا نسير وراء القطيع،

أما المناهج المدرسية أصبحت تخضع لسياسة ولي الفقيه الجامدة والفاسدة في الوطن تحت اسم المؤسسة الدينية التي لاتقبل النقاش او حوار التغيير، دكتاتورية مقدسة صرفة لا تقبل رأي الاخرين ماتت من زمن بين الشعوب المتحضرة والقرآن يعترف بالرأي الاخر "لكم دينكم ولي دين"،. حتى اصبحت المعلمة التي يلفها الغموض تعلم طلابها اللطم والزنجيل في صف دراسي رسمي باعتباره مادة دراسية ملزمة التطبيق. وهذا لم يحصل حتى في عصور الظلام عند احتلال المغول لوطن العراقيين، يقول الامام علي(ع) :"لو كشف الغطاء ما أزددت يقيناً، " لذا ان اتباعه اليوم لا يؤمنون به الا كغطاء وسياج حماية لهم وليس ايمانا بعقيدته، وما يدعون به بالولاء لأهل البيت والصحابة مجرد خُرافة في رؤوسهم، ليس سوى مظهرية وتدليس،

ألم يقل "محمود المشهداني رئيس مجلس النواب السابق المتهاون في حقوق الوطن: نحن ما جئنا لبناء دولة،بل جئنا للتفليش"والا لماذا لا يطبقون دينهم وهم اليوم يحكمون، فاين هم، واين مهديهم المنتظر الوهَم، ولماذا السارق والفاسد المعترف على نفسه لا يحاكم أمام القانون كما قال المالكي كلنا فشلنا وانا واحد منهم ولا زال يحكم ويحكمون؟ ألم يأمر الامام علي(ع) شريح القاضي بمحاكمته مع اليهودي الذي اتهمه بسرقة السيف حين سمع الاتهام من الاخرين حتى تمت براءته امام الله والقانون، فأين اصحابه اليوم من القانون، في دولة اللاقانون،؟، هؤلاء يدنسون اهل البيت بأدعائهم الانتماء اليهم، والقانون.

"اذا أردت ان تقتل وطناً، أقتل فيه الصحة والتعليم" وهذا مافعلوه مع شعب العراق المغفل الكظيم، الصدريون قتلوا وزارة الصحة في عهد عديلة حمود، والدعوويين قتلوا التعليم حتى اصبح وزير التعليم العالي اليوم يلغي علم الفلسفة ليستبدله بفقه العقيدة ولا ندري اية عقيدة دينية يقصد،؟ وهل ان هذا الوزير درس في مدرسته الدينية فلسفة العلم الاصيل، وهو خريج مدرسة دينية يلفها الغموض، ووزراء للصحة باعوا حتى أدوية المرضى بلا ضمير.؟

، وهل يحق لامريكا الحرية في عهد الرئيس بوش الابن ان تسقط نظاما قائما على الدكتاتورية لتستبدلة بنظام الفساد والتجهيل والتهديد وتدمير مستقبل المواطنين وتسلمه لاعدائه الاخرين، أمر غير معقول، وغير مقبول.يتنافى مع دستور الامريكيين. ، فنحن لسنا بحاجة لدين المذهبية الباطلة والتجهيل ولا نظام المحاصصة البغيض وكأن العراقيين كتل متنافرة لا شعب واحد. واشكاليات خلقوها من العدم كمشكلة المرأة في الاسلام،ومشكلة التفسير للنص،والعصبية القبلية دون معايير. وحين تقرأ احكامهم وكأنك تفهم ان الاسلام جاء ضد المرأة وحقوقها الطبيعية وضد عدالة التقسيم متجاهلين الأية 180 من سورة البقرة التي تدعو للوصية ومساواة التقسيم. أما الفلسفات الانسانية القديمة لاعتقادهم فتجاهلوها وقالوا عن قصد : "ان كل ما انتجه الفكر الانساني يقع في هامش الباطل والخطأ "، وان كل ما انتجه هذا الفكر الانساني هو عدو للدين حتى لم يعد بامكاننا تعريف ما هو الاسلام والى اليوم سوى اراؤهم المتضاربة في التحديد، فعن أي أسلام يتحدثون اسلام شيعة السلطة ام اسلام سُنة السلطة اعداء الشعوب، وما فائدة دين لاينفع المتدينيين،اما كان الافضل لنا لو كنا بلا دين مثل اليابان والصين؟.

من هنا فقد خلت الدراسات الاسلامية وحتى اليوم من نظرية اسلامية المعرفة الانسانية لتعطينا منهجا في التفكير العلمي، فأدى ذلك الى التفكك الفكري والتعصب المذهبي المخترع منهم، الذي انتج الاتهام بالكفر والالحاد والزندقة والهرطقة للأخرين، لعدم تمكنهم من الخروج من مآزقهم الفكرية الميتة فكانت مواقف التشنج والسذاجة وضيق الافق تحميهم سلطة الباطل بقوة اللاقانون ، وفقدانهم الارضية العلمية للفلسفة التي هي ام العلوم.لذا سنبقى نعيش في ازمة فقهية حادة لا تعالج الا بفقه جديد معاصر يستند على نظرية جدلية الانسان في التكوين ورمي كل كتب التفسير والمرجعيات الدين للاحاديث النبوية المزورة في البحر اوحرقها كي لاتعود الينا بثوب جديد، من هنا نحن ندعو الى التوقف عن نشر كتب التراث وزجها بالاطاريح الجامعية التي اصبحت القابا علمية للفخفخة لا غير، لكونها انتجت لنا اسلام الفقهاء المشوه لا اسلام القران الكريم.

نحن نقول ان الحضارة ظاهرة انسانية عامة لها عقل يمكنها من التفكيردون ربطها بالنص المقدس الذي يريدونه جامدا دون تحريك ناسين او متناسين ان الانفتاح الفكري والاستقرارالعقلي هو يعني ميلاد حضارة، لا التعلق في فوضى الاحاديث الموضوعة من المنتحلين مسلم والبخاري وبحار الانوار الوهم اللامعقول.

، طبقة حاكمة خائنة سارقة فاسدة لا تؤمن بوطن ولا بدين وان تظاهرت بهما حتى اوصلوا الشعب الى قبول سلة غذاء التسول منهم - وهم الفاسدون السارقون المتسولون-، ووجعلونا طبقة مُعدمة بلا حقوق، يبيعون نفطنا باسم الاخرين وشعبنا يقتله الاسى والحرمان والجوع، ومن حارب الوطن من الاعداء لهم الرواتب التقاعدية منا والمواطن العراقي هو المحروم ينتظر سلالهم والعياذ بالله منها ومنهم، ولكن فلتعلم هذه الطبقة الفاسدة المنفصلة عن جماهير الامة اصبح فسادها منفصلا عن كتلة الشعب السليمة البنيان رغم فقرها الشديد وظلمها من قبل عصابات الحاكمين، لكن العتب كل العتب على مقتدى الصدر الذي انتخبه الشعب، فتنازل للخائنين بأوامر الأخرين ولا عتب عليه فهو من الاساس كان من اللا مخلصين، فالمتقلب الاهواء لا يؤمن بوطن ودين،. أنه لا يستحق الولاء ولا حتى قدسية الدين.بعد ان خان امانة التبليغ.

لقد ظلت وستبقى طبقة الشعب محاطة باطار اخلاقي معنوي قومي سليم لتبقى الروابط الاسرية والعلاقات بين الناس قوية لتسلم من التدهور والتفكك ومعاداتها للفساد والفاسدين الظلمة. من هنا نحن نأمل ان يبقى الشعب سليما، ليبقى التدهور والفساد يلف الطبقة الحاكمة الظالمة ولا غير، وتبقى طبقة الشعب في مجموعها سليمة لتعود مرة اخرى لتبني دولة القانون، ولتقدم كل الخونة والمجرمين من سراق المال العام الى مقاصل القانون كماحصل لملك فرنسا لويس السادس عشر وماري انطوانيت بعد الثورة الفرنسية عام 1789،والنذر اليوم تظهر بدايتها بانتحار الفاسدين واعترافات الفشل في ادارة العملية السياسية الخائنة، ليعود شعار الحرية والاخاء والمساواة يحتل فكر المواطنين، نعم، عادت دولة الفرنسيين.وذهب لويس السادس عشر وماري انظوانيت لمقصلة التاريخ،

وغداً سيذهبون،؟

نحن متفائلون من صنع رؤية جديدة لمستقبل الانسان العراقي قائمة على العقل والعلم والحرية رغم كل ادوات القمع التي تمارسها عصابات التخلف المدعية بالدين كذبا وزورا من الحاكمين وعصاباتهم القاتلة للعلماء والمفكرين وكل ما هو نافع للوطن والشعب لتنفصل "سلطات الدولة عن حقوق الناس" وننهي الى الابد سلطة الاحزاب الفاسدة ومن يرأسها ممن حملت السلاح مع الاعداء لمقاتلة العراقيين، وهي المدعية بالدين والوطن اليوم كذبا وزورا في وطننا الاسير، وخاصة من يدعون الوطنية تضليل،

وسيبقى علم الفلسفة الذي هو ام العلوم، الحقيقة المطلقة في الوجود، ليعود بنا الى رسالة الاسلام الحقيقية لا المزيفة التي التي بها يتم التأويل دون التفسير الناقص الذي يرفعه اعداء الوطن والدين، فالدين عدالة وحقوق،وليس دولة وسياسة ودكتاتورية وجود فلا امل بالخلاص الا بفصل دينهم المزيف عن السياسة وحكم المواطنين، وهاهم المتدينون انظروا اليهم كيف يديرون دولة الباطل في الوجود.

وأخيرا نقول : أختاروا الدواء الصحيح فالموت قادم عليكم ""نحن لسنا بالكافرين كما تتهموننا، فالكافر هو الظالم، هو الخائن، هو السارق، هو الفاسد، هو القاتل، اذن هو أنتم الكافرون ومن يصدقكم، فلا تشيعوا باعلامكم الرخيص شيوع الاعجاب بالالقاب والطواغيت من اهل الفسق والفاحشة، فهم الذين لا يؤمنون بعقيدة دين،؟

لكل داءٍ دواء، يستطب به  الا الحماقة أعيت من يداويها.

***

د.عبد الجبار العبيدي

الجولة الحالية من العدوان على جبهة غزة قد تكون السابعة منذ عام 2008 ما بين الحرب والتصعيد، وفي كل جولة يتم الحديث عن هدنة أو تهدئة وتقول إسرائيل إنها حققت أهدافها بالرغم من تعرضها لإطلاق عشرات وأحياناً مئات الصواريخ على بلدات غلاف غزة ومدن رئيسة فيها ، ونفس الأمر بالنسبة لفصائل المقاومة التي تتحدث دائماً عن انتصارها مع أنه سقط خلال هذه المواجهات أكثر من أربعة آلاف شهيد وآلاف الجرحى وخراب ودمار للبنية التحتية دون تحرير ولو شبراً واحداً من فلسطين أو يتم رفع الحصار عن غزة كما تواصل تطوير قدراتها الصاروخية وتعلن رسمياً معاداتها لإسرائيل ورفضها لعملية السلام.

بالرغم من مرور سنوات على هذا الوضع فإن إسرائيل تتعامل بسياسة النفس الطويل مع الفصائل في غزة وتصبر على ما تتعرض له من صواريخ تسيء لقوة الردع عندها، وتبرر ذلك بأن استمرار حكم حماس في غزة يخدم إسرائيل استراتيجياً من خلال تكريس الانقسام والفصل بين غزة والضفة وجعل مشروع الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة وعاصمتها القدس مستحيلة التحقق،وهذا ما كرره نتنياهو أكثر من مره في رده على معارضيه في الحكومة أمثال بن غفير كما أن هذا الوضع في غزة يبعد الأنظار عن معركتها الحقيقية على الضفة والقدس لاستكمال مشاريعها الاستيطانية.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن:إلى متى ستستمر المعادلة القادمة في غزة بعد توقف عملية السلام وصيرورة غالبية الضفة والقدس تحت السيطرة الإسرائيلية؟ وإذا كانت إسرائيل تراهن على تحييد حماس من ساحة المواجهة بما مكنته لها من تسهيلات اقتصادية ومالية، فهل من ضمان باستمرار الوضع على حاله وخصوصاً بعد خروج/ إخراج غالبية قيادات حماس من جماعة الإخوان المسلمين الذين شاركوا في صناعة الانقسام من قطاع غزة ؟ وإلى متى سيصبر الكيان الصهيوني العنصري الذي تقوده حكومة يمينية عنصرية إرهابية متطرفة على تطوير فصائل المقاومة في غزة وخصوصاً حركة الجهاد لقدراتها الصاروخية وغياب الأمن والأمان،في الوقت الذي يهدد هذا الكيان بضرب إيران ويسعى بدولة يهودية تمتد من النيل إلى الفرات ويتبجح بأنه الدولة الأعظم في الشرق الأوسط؟ والى متى سيستمر حكم حماس مستقراً وألا تتغير معادلة السلطة في غزة؟

نستحضر هذه التساؤلات ونحن نشهد جولة التصعيد الحالية،فمع أن إسرائيل كانت تعلم بأن  الجهاد الإسلامي سيرد على اغتيال قادته الثلاثة فجر الثلاثاء التاسع من مايو الجاري  بإطلاق الصواريخ ومع ذلك أقدمت على فعلتها وما زالت تواصل عمليات الاغتيال وترفض أي هدنة، وهذا يطرح تساؤلات حول أهداف إسرائيل من هذه العملية؟

وفي اعتقادنا أن أهداف إسرائيل ليس فقط اغتيال قادة الجهاد وليس فقط لحسابات داخلية سواء ترضية بن غفير وسموترتش اللذان يريدان التعامل بقسوة مع حماس وغزة، أو محاولة نتنياهو صرف الأنظار عن أزمته الداخلية والاتهامات الموجهة له بالفساد، بل لها أهداف إستراتيجية بعيد المدى منها: محاولة خلق فتنة وحرب أهلية داخل القطاع بين حركة الجهاد وحماس وقد يصل الأمر بتهديد حركة حماس باستهداف قياداتها إن لم توقف الجهاد الإسلامي عن إطلاق الصواريخ وإنهاء وجوده المسلح في القطاع أو استيعابه في سلطتها، وربما تأمل إسرائيل بفتنة  بين الجهاد والشعب في مراهنة أن يثور الشعب على حركة الجهاد ويُحملها مسؤولية معاناته إن استمر إغلاق المعابر وتعطيل سير الحياة العادية.

ولكن،لأن نجاح مخطط نتنياهو بخلق فتنة داخلية غير مؤكد فقد يسعى العدو لتغيير المعادلة القائمة في قطاع غزة بإنهاء الدور الوظيفي لحماس وخلق واقع جديد في القطاع وخصوصاً إن شاركت حماس في المواجهة، وفي هذا السياق فإن حركة حماس في وضع صعب فإن لم تشارك في الحرب تفقد مصداقيتها داخلياً كما ستفقد الدعم والتمويل  الإيراني، وإن دخلت الحرب ستتعرض سلطتها وقياداتها لردة فعل قوية من إسرائيل.

بعيداً عن تهويل وتضخيم بعض الفضائيات ومن تستضيفهم من محللين سياسيين وأمنيين واستراتيجيين  لقدرات المقاومة وتحقيقها لتوازن الردع والرعب مع إسرائيل وما يمكن أن تحققه صواريخ المقاومة من إجبار العدو على الخضوع لشروط المقاومة وشروط الجهاد الإسلامي  أيضا مع احترامنا للمحللين السياسيين الذين يهدفون لرفع الروح المعنوية عند الشعب والمقاتلين ومع تقديرنا لبطولات المقاتلين في حركة الجهاد وكل فصائل المقاومة في كل ربوع فلسطين .... علينا استحضار تجربة الحروب السابقة حيث تم إطلاق آلاف الصواريخ على إسرائيل والكل يعرف النتيجة، ولذا نتمنى على حركة الجهاد الإسلامي أن تتوقف عن إطلاق الصواريخ حتى بدون شروط لأن المعركة ليست معركتها لوحدها مع إسرائيل وليست معركة غزة مع إسرائيل بل معركة الكل الفلسطيني حتى وان كان المستهدفون بالاغتيال من حركة الجهاد.

نتمنى أن تتوقف المواجهة في أقرب وقت لأن العدو الصهيوني قد يلجأ لإطالة أمد الحرب  لاستدعاء تدخلاً دولياً ومرابطة قوات دولية على حدود غزة وبالتالي يتم ترسيم حدود غزة مع اسرائيل تمهيداً لإعلان دولة الفلسطينيين في إطار حل الدولتين الذي يطالب به المجتمع الدولي وبهذا يصل مخطط الانقسام وصناعة دولة غزة إلى مرحلته النهائية، ولا نريد أن تبدو حركة الجهاد الإسلامي وكأنها جزء من هذا المخطط..

***

إبراهيم أبراش

المواجهات بين المقاومة الموحدة و"إسرائيل" أماطت اللثام عن تطور استراتيجي حصل في معادلة التوافق بين فصائل الفلسطينية في غزة للرد على العدوان الإسرائيلي المستمر وهذا يسجل للمقاومة الموحدة.

إنه اشتباك غير معهود منذ تأسيس غرفة العمليات المشتركة من خلال إعادة توزيع الأدوار وخاصة بين الفصيلين الكبيرين حماس والجهاد الإسلامي وفيه تداخل ذكي ما بين السياسي المعلن والميداني الفعّال في غرفة القيادة المغلقة فلا يتسرب منها سوى ما يندرج في خانة الإعلام العسكري في سياق بيانات رسمية.

وهذا من شأنه أن يفسر ذلك القصف الصاروخي الكثيف للعمق الإسرائيلي من قبل غرفة العمليات المشتركة، بتطوير التكتيكات العسكرية لاستنزاف القبة الحديدة، من خلال إطلاق قذائف الهاون غير المكلفة بغزارة، وبذلك يتم إهدار طاقات القبة الحديدية التي ارتبك أداؤها فلم تعد قادرة على مشاغلة صليات الصواريخ الكثيفة متفاوتة المدى بكفاءة.. مع العلم بأن تكلفة كل صاروخ فيها يتجاوز ال 100 ألف دولار مقابل قذائف هاون لا تتجاوز كلفتها الخمسين دولار وصواريخ لا تكلف سوى بضعة آلاف.

والنتيجة أن الصواريخ المحسنة تجاوزت غلاف غزة حتى عمق 80 كم نحو جنوب تل أبيب والقدس وبيت لحم على اعتبار أن كل هدف منها يشكل رسالة ذات دلالات أمنية وسياسية.

ورغم أن عمليات الرد على العدوان الإسرائيلي كانت مشتركة من قبل جميع فصائل المقاومة بما فيها حماس التي تسيطر على قطاع غزة وذلك تحت قيادة الجهاد الإسلامي التي تصدرت المشهد، إلا أنه بدا وكأن حماس توارت في الظل ولو إعلامياً ما ترك موقفَها عرضةً للتكهنات- سنقف على سر ذلك لاحقاً في سياق هذا المقال-.

وهو ما يسعى الإعلام الإسرائيلي إلى إظهاره وفق استراتيجية حكومة اليمين الإسرائيلية المتطرفة في خطابها الإعلامي الجديد بغية شرذمة المقاومة الفلسطينية الموحدة وتفكيك غرفة العمليات المشتركة والتأثير سلبياً على قاعدتي الحركتين الجماهيرية وستكون بمثابة "ضربة معلم" بالنسبة لنتنياهو لو أصاب هدفه، وذلك من خلال التركيز على فصيل دون الآخر.. في عملية أطلقوا عليها اسم"القوس" مستهدفة قادة الجهاد الإسلامي الأمنيين الخمسة بغية إرباك عملية قصف الصواريخ، وهذا لم يحصل إذْ أن الضبط والربط كان السمة البارزة في أداء الجهاد الإسلامي الذي توسع في قصف العمق الإسرائيلي باقتدار. وعلى رأي المثل: "كأنك يا أبو زيد ما غزيت".

وتمسكاً منها بمطالبها الثابتة فقد أطلقت المقاومة على العملية اسم"ثأر الأحرار" لأنها تسعى من خلالها إلى تحقيق عدة أهداف أولية طياً لهذه المرحل العصيبة التي فرضت عليها:

-ردع الاحتلال ومنعه من استهداف قادة حركات المقاومة.

-تسليم جثمان الشهيد خضر عدنان القائد في الجهاد الإسلامي الذي قتله الإهمال الطبي الإسرائيلي الممنهج.

-وقف مسيرة الأعلام الإسرائيلية التي ستنطلق بعد تسعة أيام انطلاقاً من باب العامود مروراً بالحي الإسلامي حتى باب المغاربة" وفق ما قالته القناة 12- العبرية.

وهي شروط أبلغتْ بها المقاومةُ الوسطاءَ (مصر وقطر ومبعوث الأمم المتحدة).

إن محاولة إثارة الفتنة بين فصائل المقاومة من أهم أهداف عملية"ثار الأحرار" وهذا ما يؤكده تركيز بيانات الحكومة الإسرائيلية على الجهاد الإسلامي فيما أخذت تتعامل مع حماس كطرف محايد لا يجب أن يتدخل في قصف العمق الإسرائيلي.. موحية إليه بما يشبه الاتفاق الضمني فيما لو اقترفت حماس ذلك؛ فإن القصفَ سيستهدف المواطنين في غزة دون حساب. وعلى رأي المثل القائل" أكلت يوم أكل الثور الأبيض".

كل ذلك يثبت بأن صمت حماس النسبي ليس تنسيقاً سرياً مع الاحتلال كما يوحي إليه الخطاب الإعلامي الحربي الإسرائيلي؛ بل هو استراتيجية مدروسة بالتوافق مع حركات المقاومة أل(12) المنضوية تحت غطاء "غرفة العمليات المشتركة".. في إطار إعادة توزيع الأدوار التي حافظت على زخمها، وذلك للتهرب من ضغوطات ثاني اكبر حلفاء حماس بعد إيران.. والمقصود هنا (تركيا) كون حماس تدير قطاع غزة، ولديها حسابات دبلوماسية مع داعمي القطاع تنموياً، مع مراعاة بقاء رد المقاومة إزاء كل عدوان متنامياً في إطار وحدة الساحات؛ لذلك حافظ القصف الصاروخي على زخمه رغم استشهاد أهم قادة الجهاد الإسلامي الميدانيين.

وتعلم القيادة الإسرائيلية بأنه دون حماس سيكون إرباك قيادة الجهاد في مثل هذه الظروف هو الموقف المتوقع وهو ما لم يحصل.

ولا ريب أن هذه اللعبة كانت مكشوفة لقادة الاحتلال الإسرائيلي وعلى رأسهم نتنياهو؛ الذي آثر غض الطرف عنها لحفظ ماء الوجه أمام الإسرائيليين الذين هم على استعداد لقلب الطاولة على حكومته وخلط أوراقه السياسية، وبالتالي العودة إلى خيار الانتخابات المبكرة والنتيجة أن نتنياهو سيزج به في السجن على خلفية قضايا سابقة.

فزخم حماس العسكري موجود في غرفة العميلات المشتركة ضمن قواعد اشتباك تقليدية ولكن هذه المرة دون المساس العشوائي بالمواطنين من قبل الطيران الإسرائيلي كما كان دارجاً في السابق والمرهون بمشاركة حماس المعلنة- وفق ما سنرى-.

وتمهيداً لتفسير التَغَيُّرِ الحمساويِّ الشكليِّ وثباته جوهرياً؛ لا بد من معرفة أن حركة الجهاد الإسلامي لا تتلقى الدعم إلا من قبل محور المقاومة الذي يناصب "إسرائيل" العداء المعلن، خلافاً لما تعانيه حماس التي تتلقى الدعم المفتوح من محور المقاومة كعضو فاعل فيه، إلى جانب داعمي التنمية في غزة وهم: قطر وتركيا والجزائر.

وكانت تركيا التي استعادت زخم علاقاتها مع "إسرائيل" قد خَلُصَتْ -من منطلق مصالحها الاقتصادية- إلى تفاهمات ضمنية مع حماس بضمان عدم مشاركتها في أية عمليات ضد الاحتلال مقابل عدم استهداف المواطنين في غزة عشوائيا من قبل الطيران الإسرائيلي كما كان معهوداً في السابق حرصاً من أنقرة على سلامة المواطنين في القطاع وحماية تنميته المتعثرة، وإرضاءً للشريك الإقليمي الجديد في اتفاقية مرور خط الغاز الإسرائيلي عبر تركيا إلى أوروبا.. وعليه فقد اكتفت تركيا بالحدِّ من تحركات قادة حماس السياسيين فيما دفعت بالقادة العسكريين إلى الخروج من أراضيها تباعاً.

هذا ما يستشف مما قالته صحيفة هآرست في مايو 2022 على إثر التقارب مع "إسرائيل" وتبادل السفراء بين البلدين في أن الطرف الإسرائيلي آنذاك طلب من تركيا إخراج قادة حماس من أراضيها.

وظلت تركيا تلعب دور الوسيط ولكن من خلال الدور القطري الفاعل بحكم التحالف بينهما.

لذلك قامت حماس بترتيب الأدوار في غرفة العمليات المشتركة كما ذكرنا آنفاً.

وعليه.. فبعد ثلاثة أشهر من التفاهمات أعلاه، تم تطبيق استراتيجية حماس الجديدة بالمشاركة في غرفة عمليات مشتركة تقودها الجهاد الإسلامي مع توفير الغطاء السياسي لها في عملية "وحدة الساحات" أوغسطس 2022 حيث استفردت "إسرائيل" بالجهاد الإسلامي موحية بإكذوبةِ حياديةِ حماس التي قامت بدورها الكامل في الظل، بغية تأمين عدم التعرض للمواطنين وفق التفاهمات مع تركيا، فيما أدت دورها العملياتي باقتدار باعتراف الجهاد الإسلامي.

وهذا مجرد افتراض يجيب على سؤال ملحٍ ما لبث قائماً منذ ذلك الوقت.

صحيح أن القيادة الإسرائيلية ليست غافلة عن الأمر وقد فشلت في استغلال ذلك لزرع الفتن بين فصائل المقاومة المتلاحمة؛ لكن الجماهير الإسرائيلية المتضررة معنوياً تلقت الرسالة عكسياً والأسئلة تعصف برؤوسهم المصدوحة:

أإلى هذا الحد يتمكن فصيل واحد وهو الجهاد الإسلامي من إلحاق كل هذا الضرر ب"إسرائيل"! فماذا لو شاركت حماس! لا شك أنها ستكون وخيمة وقاضية.

وإمعاناً في التضليل الإعلامي، طلب نتنياهو عدم تهديد حماس إعلامياً.

جاء ذلك رداً على ما قاله الوزير وعضو المجلس الأمني الوزاري المصغر، يسرائيل كاتس، (ليكود) الثلاثاء الماضي: “إنّه في حال شاركت حركة حماس في الرد سنشرع باغتيال السنوار والضيف.

وتدخل نتنياهو لمنع مثل هذه التصريحات وكأنه معني بحيادية حماس في صورة إعلامية كاذبة سعى لترسيخها، وقد فشل في ذلك على صعيدين فلسطيني وإسرائيلي.

وفي ذات السياق، رأى عاموس هارئيل، مُحلِّل الشؤون العسكريّة في صحيفة (هآرتس) العبريّة، الثلاثاء الماضي، أنّ قيام "إسرائيل" باغتيال ثلاثة من قادة الجهاد الإسلاميّ في غزّة سيؤدي إلى جولة تصعيدٍ ستستمِّر بحسب التقديرات عدّة أيّامٍ، بيد أنّ دخول حماس في المعركة سيؤدّي إلى تحسين القدرات الفلسطينيّة، وقد تتسبب بإشتعال الجبهات الأخرى.

وقد فشل الوسطاء بإرغام الطرفين على هدنة طويلة بسبب رفض "إسرائيل" لشروط المقاومة (حماس والجهاد).

لكن احتدام الاشتباكات وخاصة استهداف العمق الإسرائيلي المستمر بالصواريخ الدقيقة، إلى جانب الخسائر التي يتكبدها الاحتلال بسبب فشل القبة الحديدة في رصد ربع الصواريخ التي أصابت أهدافها في العمق الإسرائيلي، بسبب التكتيك الجديد الذي تبنته المقاومة من خلال استنزافها، بتصديها لقذائف الهاون التي كانت تطلق لهذا الهدف قبل كل صلية صواريخ، فإن هذا كله سوف يرغم "إسرائيل" على القبول بهدنة ظل يكابر على قبولها.

إن ردّ المقاومة المؤثر والذي حيد نسبياً القبة الحديدية أظهر فشل نتنياهو في لجم صواريخها حتى بهتت صورته أمام مؤيديه.

فكلما كان يدّعي بقرب انتهاء عملية (القوس) بعد تحقيق الأهداف الإسرائيلية كان يواجه بقصف صاروخي يطول حتى مدن جنوب العاصمة تل ابيب!

فعلى صعيد سياسي فإن خسارة نتنياهو ستكون فادحة لأن قراره أضر ب"إسرائيل" وأثبت هشاشتها؛ وذلك وفق ما قاله خبراء ومراقبون من خلال البرامج التحليلية واللقاءات التي سجلت في الشارع عبر القناة 13 الإسرائيلية، فقد عجز نتنياهو عن إقناع الإسرائيليين بأن العملية حققت أهدافها لمعرفتهم بأنه فعل ذلك لتصدير الأزمات الداخلية إلى غزة فكانت النتيجة معاكسة.

حيث تعطلت الحياة في "إسرائيل" ما زاد من فاتورة العملية الباهظة المفتوحة.

لا بل أنها أثبتت وجود ترهل في الجيش الإسرائيلي إلى جانب عزوف الشباب عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، فيما تزايدت الرغبات المتصاعدة في مغادرة الحلم الإسرائيلي الذي حولته المقاومة إلى مصيدة للموت.

كل ذلك أدّى إلى انخفاض شعبية بن غفير الذي ورّط الجيش الإسرائيلي في مواجهات فضحت فشله الذريع في التصدي لصواريخ المقاومة.

خلافاً لذلك، نجحت المقاومة في اللعب بأعصاب الإسرائيليين المختبئين في الملاجئ، من خلال صمت ما قبل العاصفة الذي انتهجته قيادة غرفة العمليات المشتركة في سياق رهاب المستقبل.

***

بقلم بكر السباتين

13 مايو 2023

تثبت الأحوال والتطورات التي تجري في الدول التي أسقطت أنظمتها السياسية، ودخلت مرحلة بناء نظام سياسي جديد، وتوافقات مجتمعية جديدة، أن الهدم مهما كانت صعوباته وعقباته، أسهل بكثير من مشروع البناء لما يحقق التطلعات والطموحات العامة.. لأنه دائما لحظات الانتقال السياسي والاجتماعي من نظام سياسي إلى آخر ومن شبكة مصالح مستقرة وقائمة، إلى بناء شبكة أخرى وفق شروط ومواصفات مختلفة أقول أنه دائما لحظات الانتقال، يرافقها بروز لكل الطموحات والتطلعات بحيث يسعى كل مكون اجتماعي أو سياسي للتفكير في مصالحه ورفع الصوت من أجل عدم التعدي أو تجاوز ما يعتبره هذا المكون أو ذاك أنه مصالحه الحيوية..

أسوق هذا الكلام ليس من أجل تحبيذ سياسة إبقاء  ما كان على ما كان، وإنما للقول: إن مرحلة البناء في أي فضاء اجتماعي أو سياسي أو وطني، يتطلب لياقات وإمكانات بشرية قادرة على تجاوز كل العقبات وعدم تضييع البوصلة في زحمة الأزمات والاستحقاقات المتفاوتة.. ولكي تتضح هذه الرؤية بشكل دقيق ومفصل وانطلاقا من تجربة دول الربيع العربي خلال عام وأشهر في بناء واقعها السياسي الجديد أذكر النقاط التالية:

1 - ثمة أطراف محلية وإقليمية ودولية عديدة، تعمل بوسائل مختلفة على وأد الربيع العربي وعدم وصوله إلى نهاياته السياسية في بناء دول ديمقراطية – تعددية.. ولا شك أن حضور القوى الحية في الشعوب العربية وإصرارها على النزول إلى الميدان والمعترك السياسي، سيساهم في إفشال الإرادات المحلية والإقليمية والدولية المضادة..

2- تؤكد تطورات الأحداث في دول الربيع العربي، أن قوى الإسلام السياسي أمام فرصة تاريخية للمساهمة في مشروع التحول الديمقراطي في المنطقة.. وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي الالتزام بمسألتين أساسيتين وهما:

1- الالتزام بالديمقراطية بكل آلياتها وميكانيزمات عملها، بوصفها الخيار الوحيد لإدارة المجال العام على أسس جديدة في المنطقة العربية.. فالديمقراطية ليست تكتيكا للتمكن السياسي، وإنما هي خيار نهائي..

إذا تمكنت قوى الإسلام السياسي من الالتزام بالديمقراطية ومقتضياتها، فإن هذه القوى وبزخمها الشعبي، ستساهم بإيجابية في عملية التحول الديمقراطي في المنطقة..

2-عدم اسقاط المنطقة في الفتن الطائفية والمذهبية وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي، خلق مقاربة فكرية وسياسية جديدة لحقيقة التعدد الديني والمذهبي في المنطقة..

ولا ريب أن انزلاق قوى الإسلام السياسي نحو الفتن الطائفية والمذهبية، سيضيع فرصة مشاركتها الفعالة في مشروع التحول الديمقراطي..

3- يبدو من مجموع المعطيات السياسية والإستراتيجية والأمنية المتوفرة، عن بلدان الربيع العربي، أنها تتجه إلى توزيع مصادر القوة في الاجتماع الوطني بين العسكر والحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها وأطيافها وألوانها.. بحيث تكون الدولة والخيارات الاستراتيجية بيد المؤسسة العسكرية، أما السلطة كفضاء للتنافس والتداول، فسيكون في أغلب هذه الدول بيد الحركات الإسلامية..

وطبيعة المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، ستكون مرهونة إلى حد بعيد إلى طبيعة العلاقة التي ستتشكل بين العسكر والإسلاميين.. فإذا كانت العلاقة قائمة على أساس التناغم التام، فإن الأمور تتجه إلى أن تكون دول الربيع العربي أشبه ما يكون إلى النموذج الباكستاني.. أما إذا كان الإسلاميون ينشدون بناء دولة مدنية – ديمقراطية، ويبادرون باتجاه بناء كتلة سياسية – ديمقراطية واسعة تتجه صوب هذا الهدف، وتحول دون هيمنة العسكر، فإن النتيجة حتى ولو كانت هناك صعوبات حقيقية آنية من جراء التنافس والتدافع والصراع، هي اقتراب دول الربيع العربي من النموذج التركي..

4- في سياق التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، يتم الخلط الدائم بين الفكرة الديمقراطية التي قد لا تختلف عليها القوى السياسية والاجتماعية.. وبين النظام الديمقراطي، الذي يتطلب في المرحلة الأولى تفكيك النظام السابق وشبكة المصالح القائمة وبعد ذلك تأتي مرحلة إرساء معالم النظام الديمقراطي الجديد..

فالفكرة الديمقراطية هي فكرة حالمة، لأنها تتحدث عن ما ينبغي أن يكون، دون الوقوف أمام مشاكل الانتقال وطبيعة الانقسامات والصراعات الاجتماعية والسياسية الناتجة من تناقض المصالح أو الخوف من ضياعها وخسارتها.. وبين النظام الديمقراطي الذي يتطلب وقائع اجتماعية جديدة وممارسة سياسية واجتماعية تعتني بإدارة اللحظة بكل زخمها وتبايناتها وتناقضات القوى المختلفة التي تشكلها.. فبناء الديمقراطيات يتطلب مغالبة دائمة لكل نزعات الاستبداد، وتأسيس مستمر لوقائع وحقائق الحرية والديمقراطية في الفضاء السياسي والاجتماعي.. ووجود أزمات ومشاكل وانقسامات اجتماعية ونزاعات سياسية، كلها ظواهر طبيعية في مجتمع يريد الانعتاق والتحرر.. كما أن الديمقراطية لا تنهي هذه النزاعات والانقسامات، وإنما تنظمها في إطار تنافس سياسي – سلمي، محكوم بقواعد دستورية وقانونية..

وإن شروط نجاح جهود المصالحة والانصاف في مجتمعات الربيع العربي هي الآتي:

1- الالتزام بمقتضيات التغيير الديمقراطي – السلمي في الدولة والمجتمع..

2- بناء التحالفات السياسية والاجتماعية الواسعة..

فالتحالفات السياسية العابرة للمشارب الأيدلوجية والفكرية والسياسية، هي القادرة على إنجاز المصالحة والإنصاف، وضبط نزعات الثأر والانتقام..

3- الديمقراطية حق الجميع: لعل من الأخطاء الكبرى في مرحلة العدالة الانتقالية، والتي تساهم في شحن النفوس والبحث عن آليات للدفاع عن الجماعة الخاصة، هو العمل بعقلية (ديمقراطية الاستثناء) التي تتجه لاعتبارات معينة في استبعاد شريحة أو فئة من الواقع السياسي الجديد..

4- فالاستثناء والإقصاء يخرب العملية السياسية، ويفتح المجال للنافذين إلى التلاعب في هذا الحق.. وهذا بطبيعة الحال يقتضي إعطاء أولوية إلى بناء مرجعية قانونية ودستورية حتى يتم التنافس بين مختلف القوى في سياق مرجعية دستورية، تكون هي الحكم والفيصل حين النزاع، أو في تحديد الأولويات وجدول الأعمال الوطني للإصلاح والتغيير..

***

محمد محفوظ – كاتب وباحث سعودي

شهدت موسكو جولة جديدة من مشاورات التسوية التركية السورية بوساطة روسيا وإيران - وهذه المرة على مستوى وزراء الخارجية، (الروسي سيرغي لافروف، والإيراني حسين أمير عبد اللهيان، والسوري فيصل المقداد، والتركي مولود تشاووش أوغلو، ليكون هذا اللقاء، البوابة للمرحلة المقبلة، التي تؤدي الى لقاء قمة بين قادة سوريا وتركيا.

اللقاء الرباعي حول سوريا وكما أشار الوزير لافروف، إلى أن الاجتماع الحالي هو أحد مراحل تسوية سورية طويلة الأمد، سبقتها عدة جولات من المفاوضات على المستوى العسكري، وممثلي الخدمات الخاصة، وعلى وجه الخصوص، في 25 أبريل، عقد الاجتماع الثاني في روسيا الاتحادية بمشاركة وزراء دفاع روسيا وسوريا وتركيا وكذلك إيران، التي انضمت إلى هذا الشكل، ويفترض أن تكون نتيجة المسيرة الدبلوماسية مفاوضات على مستوى رئيسي سوريا وتركيا.

ويبدو إن موسكو حققت نجاحا، بمحاولة جديدة للتقريب بين دمشق وأنقرة، في الاجتماع الذي طال انتظاره لوزراء خارجية الدول الأربعة، وكانت احدى نتائجه المهمة، هو قرار وضع "خارطة طريق" لتطبيع العلاقات التركية السورية، ومن الواضح أن الأطراف مستعدة للتعاون في القضايا الأمنية، لكن المصالحة الكاملة بين تركيا وسوريا لا تزال بعيدة، وقالت وزارة الخارجية الروسية في بيانها، إن وزراء خارجية روسيا وتركيا وسوريا وإيران، ناقشوا إعادة العلاقات بين الدولتين السورية التركية، واتفق المشاركون في الاجتماع، على توجيه نوابهم لإعداد "خارطة طريق" لتعزيز العلاقات بين أنقرة ودمشق بالتنسيق مع عمل وزارات الدفاع والخدمات الخاصة في الدول الأربع.

واقترح وزير الخارجية الروسي، بصفته مضيف الاجتماع، وضع خارطة طريق لعدد من المشاكل التي تعيق المصالحة بين أنقرة ودمشق، وتحدث الدبلوماسي عن اعتراضه على "التدخل الخارجي الفاضح في شؤون المنطقة خاصة مع استخدام القوة العسكرية"، في الوقت نفسه، على حد قوله، بدأت الولايات المتحدة الآن تشكيل ما يسمى بالجيش السوري الحر بمشاركة مسلحين من أجل زعزعة استقرار الوضع في البلاد، وقال " - حسب معلوماتنا "، بدأ الأمريكيون في تشكيل ما يسمى بالجيش السوري الحر، في محيط الرقة السورية، بمشاركة ممثلين عن العشائر العربية المحلية ومسلحي داعش (منظمة محظورة في الاتحاد الروسي) و المنظمات الإرهابية الأخرى، والهدف واضح – هو استخدام هؤلاء المسلحين ضد السلطات المسلحة الشرعية في سوريا العربية، لزعزعة استقرار الوضع في البلاد.

وأشار الوزير الروسي بشكل عام، إلى أهمية تطبيع العلاقات بين الجمهورية العربية السورية ودول أخرى في المنطقة، بما في ذلك مصر والمملكة العربية السعودية، وكذلك استئناف الاتصالات الدبلوماسية بين الرياض وطهران من خلال وساطة بكين، وكذلك تم في 7 مايو، الإعلان عن عودة سوريا لعضوية جامعة الدول العربية، وفي 19 مايو، تمت دعوة الرئيس السوري بشار الأسد لحضور قمة لهذه المنظمة، والتي ستعقد في المملكة العربية السعودية، وأقترح لافروف بعد نتائج الاجتماع الرباعي، وضع خارطة طريق للتطبيع السوري التركي، والتي سيتم تقديمها إلى رؤساء الدول، يوجب أن تتيح الخريطة هذه، تحديد مواقف الأطراف المتعاقدة - سوريا وتركيا - بوضوح بشأن الموضوعات ذات الأولوية بالنسبة لهم، مما يعني حل مهمة استعادة السيطرة على الحكومة السورية في جميع أنحاء البلاد، وضمان أمن موثوق وبحسب الوزير لافروف، فإن الحدود المشتركة التي يبلغ طولها 950 كيلومترا مع تركيا تقضي على احتمال وقوع هجمات عبر الحدود وتسلل إرهابيين، بالإضافة إلى استعادة روابط النقل واللوجستيات والتعاون التجاري والاقتصادي بين تركيا وسوريا، والتي كانت مقطوعة في السابق بسبب الأعمال العدائية، وتسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين السوريين إلى الأراضي التي تسيطر عليها دمشق.

وبدوره فقد قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو عقب المحادثات "أكدنا على أهمية التعاون في مكافحة الإرهاب وتوفير البنية التحتية للعودة إلى الوطن ودفع العملية السياسية ووحدة أراضي سوريا"، في حين سبق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الاجتماع الرباعي، بالقول، بإن عمليات القوات المسلحة التركية على الحدود مع سوريا والعراق لم تكتمل، وأن أنقرة تنتظر اللحظة المناسبة، وقبل ذلك، قال الممثل الرسمي للرئيس التركي، إبراهيم كالين، إن أنقرة مستعدة لعملية عسكرية جديدة في شمال سوريا ويمكن أن تبدأ في أي لحظة، في غضون ذلك صرح الرئيس السوري بشار الأسد، خلال زيارته لموسكو في مارس / آذار أنه وافق على لقاء نظيره التركي فقط إذا سحبت تركيا قواتها من سوريا.

وكما هو معلوم الان فان حوالي 65٪ من أراضي سوريا هي تحت سيطرة الحكومة السورية، ومعظم المحافظات الشمالية الشرقية في الرقة والحسكة، وكذلك الأجزاء الشمالية من محافظة دير الزور، تخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وتتكون بشكل رئيسي من الميليشيات الكردية، وجزء من إدلب احتلته حركة تحرير الشام المتطرفة (منظمة محظورة في روسيا الاتحادية)، وتقع عدة مناطق في حلب والرقة والحسكة وإدلب تحت حماية الأمر الواقع لأنقرة، والتي تأسست نتيجة العمليات العسكرية التركية درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، لذلك تركيا مهتمة بهذا الاجتماع، ولا يمكن لها إلا أن تشارك، لأنها في إطار عملية أستانا التي حققت بعض النتائج، وبالنسبة لتركيا هذا أحد الأطر الرسمية التي تضفي الشرعية على وجودها في سوريا، وأن هناك شيئًا آخر، تركيا عضو في الناتو، وهذه الكتلة ليست غير مبالية على الإطلاق عندما تتاح الفرصة لأحد أعضائها للمشاركة في مثل هذا الشكل .

ومع ذلك، في الوقت الحالي، من المستحيل القول على وجه اليقين، من في القمة السورية التركية، في حالة انعقادها، يمكن أن يمثل أنقرة، حيث ستجرى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في البلاد في 14 مايو، في الوقت نفسه، ووفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، فإن فوز أردوغان ليس مضمونًا بأي حال من الأحوال، ومع ذلك، حتى لو نجح مرشح المعارضة، كمال كيليجدار أوغلو في الانتخابات، فإن أنقرة لن تسحب قواتها، كما يعتقد المحللون الروس، ويشيرون إلى أن "هناك مصالح موضوعية، ولا يمكن لأي من القادة المنتخبين في البلاد، بغض النظر عن توجهه السياسي، أن يتجاهلها"، ومع ذلك، فإن مشاركة تركيا في هذا الاجتماع الرباعي في موسكو يجب أن يُنظر إليها على أنها حضور غير مباشر لعضو في الناتو في التسوية السورية .

و كانت المناقشات بين دمشق وأنقرة أكثر حدة، وقال وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، رغم أن هناك فرصة للعمل المشترك مع تركيا، ولهما أهداف ومصالح مشتركة، فإن وقف الوجود العسكري الأجنبي غير الشرعي في سوريا، بما في ذلك التواجد التركي، يمثل أولوية لبلاده، وشدد على أنه "بدون إحراز تقدم في هذه القضية سنبقى في مكاننا ولن نتوصل إلى أي نتائج حقيقية"، لذلك  ما زال من الصعب جدا على سوريا وتركيا، إيجاد تقارب في المواقف من هذه القضية، وإن التسوية السياسية للوضع في سوريا لا تعتمد فقط على موقف تركيا، بل المشكلة الأساسية هي إعادة دمج مناطق شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، وهي مليشيات ذات أغلبية كردية، وإن التسوية السياسية للأزمة السورية من غير المرجح أن تكون ممكنة دون مراعاة مصالحهم.

وركز الوفد التركي على التعاون في مكافحة الإرهاب، وهو ما يعني في المقام الأول بالنسبة لأنقرة، احتواء القوات المسلحة الكردية على حدودها، فضلاً عن الجهود المشتركة لتهيئة الظروف لعودة اللاجئين السوريين، وهاتين المسألتين لهما أهمية خاصة بالنسبة لتركيا، بما في ذلك في سياق الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة في نهاية الأسبوع، حيث وعد الخصم الرئيسي للرئيس التركي كمال كيليجدار أوغلو، بضمان عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم في حال فوزه، والسلطات التركية الحالية لا تريد التنازل عن هذا الموضوع للمعارضة، في الوقت نفسه، أشار المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، عشية لقاء موسكو، إلى أن مفاوضات تطبيع العلاقات مع سوريا تتطلب صبراً ووقتاً طويلاً.

وبغض النظر عن مدى تقدم العملية السياسية للتقارب بين أنقرة ودمشق، فإن الصراع الأمني بينهما قد بدأ بالفعل، فعشية الاجتماع الرباعي، أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أيضًا عن موافقة الدول الأربع على إنشاء مركز تنسيق عسكري، ومن نقاط الاتصال المشتركة بين جميع الأطراف الموقف السلبي من الوجود الأمريكي في سوريا، وكذلك النزعة الانفصالية الكردية.

وبشكل عام، كان موقف إيران قريبًا من موقف روسيا، وهو يؤكد على انسحاب جميع القوات الأجنبية من الأراضي السورية، إذا لم توافق دمشق على وجودها ( الحديث هنا عن التشكيلات التركية والأمريكية)، بالإضافة إلى ذلك، كان من المهم للوزير الإيراني حسين أمير عبد اللهيان بشكل عام التأكيد على دور الوساطة لطهران، وأعرب عن أمله في أن الاجتماع سيكون "إشارة قوية على أن تركيا وسوريا تركزان على حل سياسي"، وبحسبه، في المناطق الحدودية في سوريا، ازدادت احتمالية اندلاع صراع عسكري سابقًا، وبُذلت جهود دبلوماسية كثيرة لمنع التصعيد

إن الاجتماع الرباعي حول سوريا في موسكو، يعكس الصراع السياسي الدولي على النفوذ في هذا البلد، وبما أن سوريا عنصر أساسي في سياسة موسكو في الشرق الأوسط، ترغب الأخيرة المحافظة على وجودها العسكري هناك، وايران التي تحافظ على نفوذها أيضا، لن تغادر سوريا بسهولة، وإن التسوية السياسية للوضع في سوريا لا تعتمد فقط على موقف تركيا، بل المشكلة الأساسية هي إعادة دمج مناطق شمال شرق سوريا، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، وهي مليشيات ذات أغلبية كردية، وإن التسوية السياسية للأزمة السورية من غير المرجح أن تكون ممكنة دون مراعاة مصالحهم، ولكن الاجتماع الذي عُقد هو انتصار دبلوماسي أكيد للاتحاد الروسي، فالوضع في الشرق الأوسط لازال غامضا .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

مرت العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث في العراق بكثير من حالات التقارب والتنافر، وبخاصة بعد عودة حزب البعث الى الحكم ثانية في السابع عشر من تموز 1968، إذ دعا البعثيون في البيان رقم (1) الصادر صباح يوم السابع عشر من تموز 1968 الى تناسي خلافات الماضي. كما وعد البيان بتشكيل مجلس يمثل القطاعات الوطنية والشعبية كافة على أساس تكافؤ الفرص وسيادة القانون، ويبدو أن الدعوة الى تناسي خلافات الماضي كانت موجهة للشيوعيين أكثر من غيرهم.

عقدت حكومة البعث في التاسع من نيسان 1972 معاهدة بالغة الأهمية مع الاتحاد السوفيتي، وكانت هناك ضغوطات من قبل السوفييت على قيادة الحزب الشيوعي العراقي بالتفاوض والموافقة على التحالف الجبهوي مع حزب البعث، وافق الحزب الشيوعي العراقي وقبل أن تخرج مباحثات تشكيل الجبهة بنتيجة، عرض البعثيون على الشيوعيين الاشتراك في الحكومة القائمة بوزيرين، فوافق الشيوعيون على العرض وتناسوا مقتل قياداتهم واعضائهم بشكل وحشي في الثامن من شباط 1963، وبناءً عليه عُين في الخامس عشر من ايار 1972 مُـرشحا الحزب الشيوعي كل من المحامي عامر عبد الله وزيراً للدولة، وعضو اللجنة المركزية للحزب مكرم طالباني وزيراً للري، وقد جاءت معظم أو كل هذه الإجراءات في سياق تقوية موقف الحكومة استعداداً لتأميم النفط، الذي حصل لشركة نفط العراق في الأول من حزيران 1972، ودعم الحزب الشيوعي خطوة التأميم بحماس، لكن تداعيات عملية التأميم قد تسببت بتوقف المفاوضات الخاصة بتشكيل الجبهة من دون التوصل الى اتفاق.

وبناءً على ما تقدم يمكن القول ان العلاقة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث قد شهدت الكثير من حالات الشد والجذب، أو بمعنى أدق انها قد شهدت الكثير من حالات العنف والقليل من حالات العمل المشترك، الذي مهد الطريق لتشكيل ما سُميَّ بـ(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية) عام 1973.

أصبحت الأجواء في خريف عام 1972 مهيأة لعودة الحوار بخصوص تشكيل الجبهة بعد نجاح عملية التأميم، لذا نشطت من جديد المفاوضات بين الحزب الشيوعي وحزب البعث من أجل الخروج بصيغة توافقية لتشكيل التحالف المنشود.

برزت في أثناء المفاوضات التي نشطت من جديد العديد من نقاط الخلاف، لعل أهمها إصرار حزب البعث على قيادة الجبهة ورفض الحزب الشيوعي لهذه المسألة. لكن هذه الخلافات لم تجد طريقها للحل إلا بعد مرور عدة أشهر تعرض خلالها الحزب الشيوعي إلى العديد من الضغوط ومن عدة جهات في سبيل الموافقة على تشكيل الجبهة بشروط حزب البعث.

حثت الدول الاشتراكية وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي الحزب الشيوعي العراقي على الدخول في تحالف جبهوي مع حزب البعث من دون تحفظات، إذ بات لهذه الدول في العراق كثير من المصالح السياسية والاقتصادية، لذا سعت بقوة لتعزيز نظام حكم حزب البعث فيه، فيما ساندت الأحزاب الشيوعية العربية عموماً النظام البعثي في العراق، لانتهاجه بحسب ما ترى سياسة معادية للمصالح الغربية، وكان للحزب الشيوعي السوري دور مميز في الضغط على نضيره العراقي، ولا يبدو هذا الأمر غريباً إذا ما علمنا أن الأول قد دخل مع حزب البعث السوري في تحالف جبهوي بشروط مشابهة لما طرحه حزب البعث الحاكم في العراق مثل قيادة الجبهة واحتكار العمل السياسي في الجيش.

تأثر الحزب الشيوعي العراقي كسائر الأحزاب الشيوعية في بلدان العالم الثالث بنظريات التحول اللارأسمالي نحو الاشتراكية التي كانت رائجة في الاتحاد السوفيتي أبان عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكان ينظر الى نظام حزب البعث بأنه متجه نحو الاشتراكية من هذا الطريق، غير أن بعض الباحثين يرى بأن تبني حزب البعث للاشتراكية لم يكن نابع من إيمانه بها، بل كان مقدمة لفرض سيطرته على الاقتصاد العراقي بشكل كامل، لأجل توطيد سيطرته السياسية في البلاد.

ومهما يكن من أمر، فعلى الرغم من كل ما تعرض له الشيوعيين من ضغوط إلا أن قيادتهم ظلت مترددة، وغالبية قواعد الحزب كانت رافضة لفكرة التحالف مع حزب البعث، بسبب ما لها معه من ذكريات مؤلمة، بيد إن هذا الوضع حسم بضغط كبير مارسته موسكو على الشيوعيين العراقيين للقبول بالشروط التي طرحها حزب البعث للتحالف، وبعبارة أخرى إن الحزب الشيوعي العراقي ما كان لينضم إلى تحالف جبهوي يقوده حزب البعث لولا الضغط الكبير الذي تعرض له من جانب الاتحاد السوفيتي، الذي كان يفضل التعامل مع الحكومات أكثر من التعامل مع أحزاب المعارضة.

اضطر قادة الحزب الشيوعي إزاء هذا الضغط الكبير إلى إبداء المرونة تجاه القضايا الخلافية وفي الجانب المقابل وافق حزب البعث على إعادة صياغة القضايا المختلف عليها في الميثاق، لكن الصياغات الجديدة لم تختلف من حيث الجوهر عن الصياغات القديمة باستثناء وضعها في أطر فضفاضة، وخصوصاً النقطة المتعلقة بقيادة الجبهة التي تم إعادة صياغتها بالشكل الآتي: (إن إقرار ميثاق العمل الوطني بصيغته اليوم، يعتبر الإعلان الرسمي لقيام جبهة الأحزاب.. ويحتل حزب البعث.. موقعاً متميزاً في قيادتها وهيئاتها، ويقود السلطة السياسية في الدولة كما يقود مؤسساتها الدستورية). وإن كانت هذه الفقرة لا تنص صراحة على قيادة حزب البعث للجبهة غير إنها تعني ذلك من حيث الجوهر، وإن موافقة الشيوعيين على هذا الأمر يعد خروجاً على مقررات المؤتمر الوطني الثاني للحزب الشيوعي، أي أنه خروجاً على الشرعية الحزبية، لأن المؤتمر الوطني يعد أعلى سلطة قرار في الحزب الشيوعي، مما يعني إن أي إجراء أو قرار مهم يراد اتخاذه خلافاً لمقررات المؤتمر السابق يستدعي عقد مؤتمر جديد وهو ما لم يحصل.

أما بخصوص عبارة (تصفية الكيان الصهيوني) الواردة في ميثاق العمل الوطني لعام 1971 فقد عدلت على النحو الآتي: (النضال ضد الصهيونية كحركة عنصرية عدوانية وكنظام عنصري عدواني....)، وإلى جانب ما تقدم هنالك عبارة أخرى تخص الأكراد جاءت في ميثاق 1971 بالصيغة الآتية: (إن ممارسة الجماهير الكردية لحقوقها القومية المشروعة بما فيها الحكم الذاتي تتم ضمن إطارها الطبيعي الذي تجسده وحدة السيادة الوطنية ووحدة الأرض ووحدة النظام السياسي في الجمهورية العراقية.. كما تتم أيضاً على أساس الإقرار والإيمان بان العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي). وتم تعديل هذه العبارة بحذف الجملة التي تشير إلى أن العراق جزء لا يتجزأ من الوطن العربي، ولم أجد كباحث فيما توافر لديَّ من وثائق ومصادر شيوعية أي ما يشير إلى الاعتراض على ما جاء في هذه الفقرة من ميثاق عام 1971، وعلى ما يبدو إنها عُدلت لكسب ود الأكراد على أمل الموافقة على الدخول في التحالف الجبهوي المزمع تشكيله، وهكذا تم تجاوز أهم العقبات التي كانت تقف عائقاً أمام تشكيل الجبهة من وجهة نظر البعثيين والشيوعيين دون الأكراد الذين رفضوا التفاوض بشأن الجبهة أصلاً.

عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي اجتماعاً في السادس من نيسان عام 1973، لمناقشة آخر مستجدات المشهد السياسي وفي مقدمتها العلاقة مع حزب البعث، وأشار التقرير الصادر عن الاجتماع إلى أن الحزب الشيوعي قد قدم بعض التنازلات من دون توضيح طبيعة تلك التنازلات، فيما أكد الفقيد زكي خيري بوصفه عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي ومن الذين حضروا الاجتماع على إنه قد تم التصويت في الاجتماع المذكور على نتيجة المفاوضات مع حزب البعث التي تم قبولها من أعضاء اللجنة المركزية للحزب بأغلبية صوت واحد من مجموع الأعضاء الحاضرين في الاجتماع، أما الحزب الشيوعي العراقي فقد ابلغ حزب البعث بموافقته على الدخول معه في تحالف جبهوي على وفق الشروط التي تم التوافق عليها بين الجانبين، غير إن حزب البعث أهمل الموضوع ولم يرد عليه إلا في تموز 1973، على أثر المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها مدير الأمن العام ناظم كزار في الثلاثين من حزيران 1973.

كشفت محاولة ناظم كزار عن أن صراعاً مريراً كان يجري داخل حزب البعث الحاكم حُسم بالنهاية لصالح صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، الذي تبنى بنفسه بعد هذا الحدث حواراً سريعاً عجل بالإعلان عن تشكيل ائتلاف جبهوي مع الحزب الشيوعي، ليظهر صدام بمظهر الرجل الحريص على التعامل السلمي مع الأطراف السياسية الأخرى، ملقياً اللوم على ناظم كزار في ممارسة جرائم الاغتيال والتعذيب لكوادر الحزب الشيوعي أمثال كاظم الجاسم وستار خضير وشاكر محمود وأحمد الخضري، غير إن تحميل ناظم كزار لوحده مسؤولية الأعمال اللا أخلاقية التي كان يقوم بها جهاز الأمن مسألة من الصعب قبولها. كما ليس من السهولة بمكان التسليم بأن تلك الأعمال كانت تجري من دون علم القيادات الأعلى في الحزب والدولة.

اُعدم ناظم كزار في السابع من تموز 1973، وبعد عشرة أيام صدر عن حزب البعث والحزب الشيوعي بياناً مشتركاً أعلن فيه عن الاتفاق على ميثاق العمل الوطني، ولم يختلف هذا الأخير عن الميثاق الذي أعلن عام 1971 باستثناء النقاط التي اشرنا إليها قبل قليل. وقع البيان المشترك في السابع عشر من تموز 1973 كلٌ من احمد حسن البكر بوصفه أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث في العراق وعزيز محمد السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، وبهذا ولدت ما اسماها البيان بـ(الجبهة الوطنية والقومية التقدمية)، وعقب إذاعة البيان ألقى احمد حسن البكر كلمة بالمناسبة. وبقيام الجبهة انتقل الحزب الشيوعي من خنـدق المعـارضـة إلى قصر السـلطـة، الــذي حــل فيــه مجبراً أو مختــاراً ضيفــاً محدود الحركة والتصرف.

ويبدو مما ذكره حسن العلوي بوصفه أحد الكتاب الذين كانوا على مقربة من مصادر القرار البعثية آنذاك، إن تحالف حزب البعث مع الحزب الشيوعي لم يكن نابعاً من الإيمان بسياسة إشراك الآخرين في الحكم، إذ أكد العلوي على إن القيادة القطرية لحزب البعث قد وزعت في اليوم التالي لإعلان التحالف مع الحزب الشيوعي تعليمات على الجهاز الحزبي تطلب فيها تقديم أفكار ومقترحات لتفتيت الحزب الشيوعي، وكان اخطر المقترحات التي قدمت وأخذ طريقه للتنفيذ هو دس عناصر من حزب البعث في صفوف الحزب الشيوعي، وأكد الشيء نفسه رحيم عجينة ممثل الحزب الشيوعي في اللجنة العليا للجبهة، مشيراً الى اكتشاف العديد من حالات الاندساس من عناصر بعثية بين صفوف المنظمات الشيوعية.

يتضح مما تم استعراضه آنفاً إن الجبهة بالنسبة لحزب البعث كانت ضرورة آنية أملتها الظروف الداخلية والخارجية التي كانت تمر بها حكومة حزب البعث، ولم تكن سياسة التحالف يوماً منهجاً استراتيجياً نابعاً من إيمان حزب البعث بتلك السياسة، كما أكد احمد حسن البكر في كلمته التي ألقاها عقب الإعلان عن تشكيل الجبهة، بل إن المسالة معكوسة تماماً، إذ كانت الجبهة بالنسبة للبعثيين تمثل خطوة تكتيكية لعبور مرحلة معينة، ولم يختلف الأمر كثيراً بالنسبة للشيوعيين، إذ كان التحالف الجبهوي يمثل لهم مرحلة انتقالية نحو الاشتراكية لكنه تنازل تحت وطأة الظروف عما أفترضه من دور قيادي في المرحلة الانتقالية.

وبصرف النظر عن هذه الرؤية أو ذلك التحليل، فقد توجه الحزبان بعد التوقيع على ميثاق العمل الوطني إلى استكمال الجوانب التنظيمية للجبهة، وبهذا الشأن برزت مسألة مهمة وهي طريقة اتخاذ القرارات داخل الجبهة هل تتم بالأكثرية أم بالإجماع، إذ كان الحزب الشيوعي يؤيد طريقة الإجماع وحزب البعث يرفضها ساعياً بكل حرص إلى تأكيد حيازته أغلبية المقاعد في الجبهة، على الرغم من أن السلطتين التشريعية والتنفيذية كانتا تحت سيطرته، ومع ذلك تم الاتفاق على مبدأ الإجماع من دون أن ينص الميثاق أو قواعد العمل في الجبهة على هذا الأمر، وإنما تم الاكتفاء بتعهد من صدام حسين باسم حزب البعث بالالتزام بهذا المبدأ. وفي السادس والعشرين من آب 1973 نشرت صحيفة (الثورة) البعثية النظام الداخلي وقواعد العمل في الجبهة من دون أية إشارة الى طريقة اتخاذ القرارات.

إن سياسة التراجع التي انتهجها حزب البعث أكدت أن هذا الحزب كان يرمي من الجبهة أن تكون واجهة لنظامه، وأن يؤيد الشيوعيون جميع قراراتهم ولا يعارضونه. وفي ظل هذا التراجع، عقدت اللجنة المركزية اجتماعاً لها في آذار (مارس) عام 1978، وأصدرت تقريراً طالبت فيه وبإصرار من البعث بضرورة وقف حملات الاعتقالات والشروع بإرساء دعائم النظام الديمقراطي. وقد كانت الاعتقالات بصفوف الشيوعيين الذين أقاموا تنظيمات لهم داخل المؤسسة العسكرية العراقية وهو أمر محظور، وتم فعلاً إعدام 31 من العسكريين والمدنيين الشيوعيين لقيامهم بالإعداد لمحاولة انقلابية وفق مفهوم حزب البعث، ومن ذلك التاريخ بدأت الجبهة الوطنية تتآكل شيئاً فشيئاً حتى انهارت بعد بدء الحرب العراقية. الإيرانية ورفع الحزب الشيوعي شعار "انتهاء الحرب بإسقاط النظام"؛ فخرج الشيوعيون من العراق وعقدوا مؤتمرهم الرابع بعد تقليص عدد أعضاء اللجنة المركزية إلى 15 عضوا وترشيح 10 أعضاء ليكونوا قيادة الظل وهو ما أعتبره البعض إنهاءً للجيل القديم من القيادات الشيوعية ومن ذلك التاريخ أصبح الحزب الشيوعي العراقي ضعيف التأثير في محيطه وتعيش أغلب كوادره خارج العراق والقليل منها في منطقة كردستان العراق التي كانت تشكل حليفا استراتيجيا لهم، حتى جاء وقت احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا 2003م ليظهر الحزب الشيوعي مشاركا في النظام الجديد ومتحالفاً مع تيارات إسلامية كالتيار الصدري وسواه وهو ما أفقد الحزب الكثير من تاريخه النضالي الذي كان يرتكز على معاداة الإمبريالية ومناكفة الاستعمار.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

أستوقفني بوست طويل كتبه صديقي الدكتور أحمد سالم ونشره على الفيس بوك بعنوان "جامعات السراب وكليات الوهم"، حيث قال: "ذهبت إلى الجامعة في الصباح لإجراء الامتحانات الشفوية للطلاب.. وقد حددت لهم إجراء الامتحان الشفوي في جزء من المقرر وليس كل المقرر بما لا يتجاوز 80 صفحة.. دخلت في الصباح لإجراء الامتحان مع زملائي.. وللأسف قابلت اليوم كل طلاب الدفعة والذى يصل إلى حوالى 300 طالب.. لم يكن يحضر منهم المحاضرات سوي خمسين طالب.. رأيت كل الوجوه التي لم تكن تحضر أي محاضرات على الإطلاق.. لم يذاكر مقرر الشفوي كاملا سوى طالبين فقط.. أما الباقي فكل واحد ذاكر موضوع واحد فقط ولم يذاكره جيدا.. يريد الطالب أن اساله فيما ذاكر هو وهو جزء لا يعادل سبع المقرر تقريبا.. اليوم راجع حزين ونفسى مكسورة لأنى بذلت جهدا كبيرا معهم.. لأن جهدي مجرد سراب.. وتعبي وسعي فى تعليمهم لا يثمن ولا يغنى من جوع.. دع عنك التعرض لحرق الدم من الطلاب.. طالب بسأله لم يجب.. فسألته مذاكر إيه.. قال لي لم أذاكر أنا فقط عرفت إن فيه امتحانات شفوي فجئت.. ونماذج أخرى تحزن وتحرق الدم.. دع عنك دخولهم بحالة من اللامبالاة.. وعدم الإكتراث.. وحين أنهيت الامتحانات لم أستطع الجلوس فى الكلية.. وأخذت نفسى وعدت للمنزل.. وأنا راجع نفسى حزينة وبقول لنفسي ملعونة أم التمثيلية الفاشلة دى.. قال أنا استاذ جامعة.. وبعمل فى جامعة.. كلام فارغ أصبح ليس له أي معنى.. حاجتى فقط هي ما تدفعني للذهاب لمكان فارغ من أى مضمون.. وتمثيلية فاشلة ليس لها أي جدوي.. وتضحك حين تسمع الكلام عن جودة في التعليم.. وتسمع المسئولين لا يجيدوا سوى عرض أخبارهم علي صفحات المؤسسات.. وكل يوم يقالوا كل حاجة بخير.. المؤسسات إلى الأمام.وبعضهم يبالغ ويكلمك عن العالمية.. ودوره اللي محصلش في الارتقاء بالعملية التعليمية. حقيقي هذه التمثيلية الفاشلة ليس لها أى جدوى أو عائد على المجتمع.

وعقب قراءتي للمقال قمت بالرد فورا: صدقت والله يا صديقي.. التدهور وصل لمستوى غير مسبوق وغير متصور.. فلم يعد الطالب طالبا ولا الأستاذ أستاذا !!.. ماذا تتوقع من طالب لم يكتب سطرا واحدا طوال حياته الجامعية وقبلها ؛ فهو منذ ما يزيد عن أربع سنوات لا يعرف سوى التظليل على ورقة الإجابة عند اختياره من متعدد!! وأسئلة الامتحانات التي يطلقون عليها الامتحانات الموضوعية تافهة متكررة ولا تقيس أي مخرجات تعليمية مستهدفة.. أسئلة من قبيل: الجائع يأكل أم يشرب أم يجري أم ينام!!

أسئلة الامتحانات متكررة محفوظة لا تقيس أي شيء سوى ضمان النجاح للجميع!! منذ كورونا وقبلها والتحول نحو التقويم بنظام الاختيار من متعدد أصبح يتخرج في الجامعة أميون لا يجيدون القراءة والكتابة ويصاب الجميع بالرعب إن هددتهم بالعودة إلى نظام الامتحانات التي تتطلب الكتابة.. ومعظم الأساتذة يفضلون بقاء هذا النظام في التقويم؛ فهم لا يريدون العودة إلى وضع امتحانات تحتوي على مقالات وتعدد في أسئلة تقيس القدرات بما يتطلب من الاستاذ بذل الجهد في وضع الامتحان وقراءة أوراق الإجابة ووضع درجات لكل طالب.

لماذا يتعب عضو هيئة التدريس ونظام التقويم السائد مريح جدا ويضمن له نفس المكسب المادي؟!!.. أصبح المعيد وهو الأول على دفعته لا يجيد القراءة والكتابة ولا يدرك أنه ضعيف المستوى؛ وهذه هي الكارثة على التعليم التي ستأخذنا جميعا إلى حافة الهاوية إن لم نكن قد وقعنا في الهاوية ولا ندرك ذلك!!

كانت الدفعة الواحدة، أيام زمان، بها شعراء وكتاب قصة وموهوبون في مجالات عديدة فضلا عن حب الجميع للقراءة الحرة والتوجه نحو الثقافة العامة.. أصبح الآن مظهر الطالب الجامعي لا يوحي لا بعلم ولا ثقافة ولغته المتداولة ركيكة مبتذلة سطحية تخدش الحياء.. إلى أين تأخذنا ما يطلقون عليها منظومة التعليم؟!!

والأخطر من كل هذا كما قال علي حسن عمار أن هناك جيلًا ممن يحملون لقب «أستاذ» ويشرفون على الأطروحات الجامعية، هم أنفسهم أبناء هذا المسار المعوج، ومن ثَمَّ فإنه لا طائل من انتظار أن يخرج من تحت أيدى هؤلاء باحثون، يرتقون بوظائف البحث العلمي. إن الحالة المزرية التي عليها أغلب الأطروحات العلمية في مجال الإنسانيات، والتي تغص بها أرفف المكتبات الجامعية، لن تتبدل وينقضي سوؤها إلا إذا أُعيد النظر في العملية التعليمية برمتها، فانتقلت من حرص مريض على تخريج حفظة متعالمين بأي شكل وأي صيغة، إلى إصرار قوى وعفِىّ على صناعة جيل جديد من العلماء الحقيقيين، الذين تبدأ بهم رحلة مضادة للقضاء على الأمية المنهجية في كلياتنا الجامعية ومدارسنا، ودون ذلك سيستمر ما نحن فيه من خسران مبين... الله المستعان.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

من خلال الحلقة الثالثة من مقالنا (الأحزاب الشيوعية العربية وذيليتها للاتحاد السوفيتي) نستطيع أن نعود لواحدة من تلك المهازل لتاريخ العلاقة بين العراق والاتحاد السوفيتي وبالذات على عهد الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث طُلب من الحزب الشيوعي العراقي أن يأخذ موقف المساندة الدائم للزعيم قاسم والامتناع عن إثارة الخلافات معهُ، لا بل ضرورة الاصطفاف معه وتأييده في مجمل سياسته، وقد وقفت القيادة السوفيتية موقفاً قامعاً لجميع الأصوات داخل الحزب الشيوعي العراق والتي كانت تندد بسياسة الزعيم عبد الكريم أو تشير لبعض أخطائه. ويعود السبب الرئيسي لهذا الموقف لضمان وقوف الزعيم عبد الكريم والدولة العراقية مع الاتحاد السوفيتي في المحافل الدولية. فلم يكن الاتحاد السوفيتي بحاجة لنفط العراق ولا خيراته الأخرى، ولكن صوت العراق وموقفه الايجابي من سياسات الاتحاد السوفيتي، كان السبب الرئيس في المساعدات التي قدمت للعراق. ونفس السياسة كانت تستخدم مع باقي البلدان وبالذات السائرة في طريق التحرر والاستقلال الوطني، ولم يكن هذا الموقف ببعيد عن بلدان المنظومة الاشتراكية التي كان الاتحاد السوفيتي يبذل قصارى جهده لكي تقف على قدميها فيقدم لها العون المادي والمعنوي.

فكان السوفييت يقدمون للعديد من البلدان أسلحة بالمجان وبأبخس الأثمان، ويرسل خبرائه ومعداته ويساعد في بناء ورش ومصانع وأبنية. فضلاً عن انتشار الفقر بين اوساط الشعب السوفيتي واشاعة طرق الرشوة وسرقة المال العام، فكان بعض اساتذة الجامعات يتقبلون الرشوة بابتذال ومثلهم أفراد الشرطة والأمن لا بل الكثير من موظفي الدولة. فالطالب الموفد للدراسة في الاتحاد السوفيتي يحصل على راتب كمنحة من الدولة قدره 90 روبلاً والمهندس السوفيتي وصاحب التحصيل العلمي العالي يستلم راتباً قدره 90 روبلاً، والطبيب يستلم بين 90 إلى 100 روبل، وهذا ينطبق على العديد من موظفي الدولة وذوي الاختصاصات العلمية العالية. في الوقت الذي كانت تعمل القيادة السوفيتية على تخصيص جل ميزانية الدولة للأنفاق العسكري، لذا ترك الناس يعيشون في تلك الأماكن الضيقة وظروف سكن قاسية ووضيعة. كان سباق التسلح وتخصيص جل ميزانية الدولة للمؤسسة العسكرية وصناعة الاسلحة اخلالاً فاضحاً في مستوى انجاز باقي قطاعات الاقتصاد.

لكن بعد الاطاحة بحكم الزعيم عبد الكريم قاسم عام 1963، ومن ثم اطيح بحكم حزب البعث في العراق من قبل حليفهم عبد السلام عارف، قام الأخير بزيارة القاهرة ورغب بنقل التجربة المصرية إلى العراق، وقد طرح عارف فكرة تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تقليداً لخطوة جمال عبد الناصر، شعرت القيادة السوفيتية بالكثير من الارتياح وكأنها وجدت في ذلك ما يشفع لها للذهاب بعيداً نحو خيار الطريق اللارأسمالي في بناء الاشتراكية. وعدت القيادة السوفيتية خطوة عبد السلام توجه سليم ومكسب كبير، ورموا بعيداً ما كان يمثله عبد السلام عارف من طبيعة دموية فاشية بعد مشاركته في قتل الزعيم عبد الكريم قاسم ورفاقه، وكذلك إيغاله ومشاركته في اغتيال قادة وأعضاء ومؤازري الحزب الشيوعي العراقي في انقلاب شباط 1963م. وكان رأي مسؤول العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية بوناماريوف قد لعب الدور الفاعل في رمي ذلك الانطباع بعيداً عن عبد السلام عارف.

ومع تشكيل الاتحاد الاشتراكي العربي في العراق تصاعدت آمال السوفييت بالقدرة على إعادة تجربة ما حدث في مصر وتكرارها مع الحزب الشيوعي العراقي، لذا اتخذوا بالضغط على قيادة الحزب الشيوعي العراقي للتهيؤ بما يتناسب والاستعداد للدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي الذي كان قد أسس حديثاً. وكانت حجج الجانب السوفيتي تركز على طبيعة الحزب الشيوعي العراقي واعداده الغفيرة التي لو قيض لها الدخول في الاتحاد الاشتراكي العربي فأنها سوف تصبح القوة الرئيسية فيه، وعندها يمكن لها أخذ زمام المبادة وتحويل مسيرة الاتحاد نحو الوجهة الصحيحة في السير قدماً نحو بناء الاشتراكية.

عملت قيادة الحزب الشيوعي السوفيتي على توجيه ضغط هائل بدأته بين أوساط قيادة الحزب الشيوعي العراقي وكوادره وأعضاءه الموجودين في عموم الاتحاد السوفيتي، ومنهم عزيز محمد سكرتير اللجنة المركزية وسلام الناصري وغيرهم. وتوجهت حملة ممنهجة وواسعة عبر وسائل عديدة حزبية واعلامية في الداخل لدغدغة مشاعر الشيوعيين العراقيين ودفعهم للقبول بالدخول إلى الاتحاد الاشتراكي العربي بقيادة عبد السلام عارف.

في هذا الأمر وتلك المرحلة فإن التاريخ يسجل للحزب الشيوعي العراقي كقيادة وقواعد موقفاً قوياً وذكياً في القدرة على المراوغة وعدم الأخذ بالرأي غير الحكيم لقيادة الحزب الشيوعي السوفيتي. ولذا لم يصدر عن اللجنة المركزية أي قرار لا بالموافقة على الدخول ولا بحل الحزب وفي ذات الوقت امتنع الحزب عن اصدار ما يفند الرغبة بذلك. لكن بعض التوجهات الشخصية صدرت من بعض الكوادر دعت للدخول إلى الاتحاد الاشتراكي ومن ضمن هؤلاء السيد باقر إبراهيم عضو المكتب السياسي واللجنة المركزية حينذاك، ولكن تلك الدعوات واجهت انتقادات حادة وهجمة شرسة من داخل الحزب الشيوعي العراقي، افشلتها وقضت على رغبة القيادة السوفيتية.

كان موقف الحزب الشيوعي العراقي موقفاً ثابتاً ومبدئياً، فرغم قوة الضغط الهائلة التي مورست على الحزب الشيوعي العراقي من قبل القيادة السوفيتية، إلا أنهم لم يستطيعوا تغيير موقف الشيوعيين العراقيين في أحد أهم المفاصل التاريخية في حياته كحزب شيوعي. وتلك كانت نقطة هامة وفعالة أثبتت صحة موقف قيادة الحزب وخياره في طريقة إدارة شؤونه التنظيمية والعقائدية، وبقائه ككيان مؤسساتي له ثقله الفعلي داخل العراق.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

منذ الصِغر ونحن نقرأ عن السياسة الاستعمارية البريطانية التي تشتغل تحت شعار (فرِّق تسد) ونفذتها في كل البلدان التي استعمرتها من الهند إلى مصر وفلسطين الخ، ويبدو أن الكيان الصهيوني صنيعة بريطانيا يعمل على هدي هذه القاعدة في تعامله مع الشعب الفلسطيني وحتى في تعامله مع الأنظمة العربية.

فعندما عجز هذا الكيان المصطنع مدعوما بتحالفاته مع غالبية قوى الغرب الاستعماري طوال مائة عام من الصراع عن كسر إرادة الشعب الفلسطيني ودفعه للاستسلام من خلال القوة العسكرية فإنه يسعى لتدمير المجتمع الفلسطيني داخلياً من خلال إثارة الفتنة والشقاق ونشر الفساد والمخدرات واستقطاب بعض الأفراد والمكونات الاجتماعية إلى جانبه، وقد نجح العدو بالفعل في تحقيق اختراقات بهذا الشأن عند فلسطينيي الداخل ويواصل محاولاته عند فلسطينيي الضفة والقدس وغزة، وحتى عند فلسطينيي الشتات فبصماته واضحة في كثير من الخلافات بين أبناء الجالية .

يسعى العدو لتحقيق هذا المخطط عند سكان القدس وفي الضفة من خلال الفصل بين المدن والقرى وخلق أوضاع مغايرة سياسياً واجتماعياً واقتصاديا في كل منطقة مع محاولة صناعة قيادات عشائرية وسياسية واقتصادية محلية، أيضاً نشر الفساد وتسهيل دخول السلاح لأطراف محددة، وحتى داخل السلطة وحزبها يعمل على خلق فتنة من خلال تقريب بعض القيادات له على حساب أخرى أو الإيحاء بذلك وترويج شائعات وأكاذيب عن بعض القيادات. 

وفي هذا السياق نحذر مما يخطط له العدو في قطاع غزة من محاولة خلق فتنة وحرب أهلية بين حركتي حماس والجهاد الإسلامي، من خلال مساعدة حركة حماس على إدارة القطاع وتسهيل الحياة في القطاع من خلال السماح لآلاف العمال من غزة بالعمل في الداخل وتسهيل دخول الأموال القطرية واستمرار المشاريع المصرية مع تجنب استهداف قيادات حماس ومقراتها الرسمية وغير الرسمية، وفي نفس الوقت استهداف قيادات حركة الجهاد الإسلامي في القطاع وفي الضفة.

نُدرك أن حالة الانقسام والخلافات الداخلية لا تعود لإسرائيل وحدها بل هناك أطرافا أخرى  تتحمل المسؤولية، وتاريخيا كانت الأنظمة العربية تتدخل في الشأن الفلسطيني تحت عناوين كالبعد القومي للقضية والأمن القومي العربي أو مساعدة الشعب الفلسطيني وفي بعض الحالات كانت هذه التدخلات تُضعف الوحدة الوطنية وأحيانا تؤدي إلى صدامات وخلافات شديدة، كما كانت تدخلات باسم البعد الديني للصراع حيث لعبت جماعات الإسلام السياسي دورا سلبيا في الحالة الفلسطينية وما زال دورها سلبيا، إلا أن سيطرة الكيان الصهيوني على كل فلسطين وتحكمه بكل مناحي الحياة فيها جعل قدرته أكبر وأخطر على التدخل في الشأن الداخلي الفلسطيني بشكل مباشر أو من خلال التنسيق بشكل مباشر أو غير مباشر مع أطراف عربية وإقليمية.

لقد نجحت القيادة الفلسطينية وخصوصا الرئيس أبو مازن في تجنيب الشعب الفلسطيني حرباً أهلية عندما قامت حماس بانقلابها على منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها في يونيو 2007 حيث كان العدو يراهن على حرب أهلية في قطاع غزة وفي الضفة إلا أن القيادة كانت حذرة لهذا الأمر ولم تسمح به حتى وإن اتهمها البعض بالعجز والتواطؤ في تنفيذ مخطط الانقسام، وحتى بعد اندلاع فوضى ما يسمى (الربيع العربي) تعاملت قيادة منظمة التحرير بحكمة وهدوء وتجنبت الانجرار لهذه الفوضى أو دعم طرف على آخر، بالرغم من أن حركة حماس انزلقت نحو ذلك وسعت لتعزيز حالة الانقسام وهناك اتهامات لها من السلطة الفلسطينية بمحاولة نقل الفتنة والحرب الأهلية إلى الضفة.

نأمل من حركتي الجهاد الإسلامي وحماس الاحتكام إلى العقل والتوصل لتفاهمات مع بقية الفصائل في القطاع لكيفية الرد على العدوان الصهيوني وعدم تمكينه من تحقيق أهدافه بخلق فتنة وحرب أهلية تقضى على ما تبقى من مقومات صمود عند فلسطينيي القطاع، وأن تكون هذه التفاهمات مقدمة لوضع استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة استراتيجية الحرب والإرهاب عند العدو في الضفة والقطاع وفي الداخل وفي الشتات.

***

ا. د. إبراهيم ابراش 

إن استقراء وتحليل جذور اسم «العراق»، ومناقشة النظريات العلمية حوله وربطه علمياً بجذره الجزيري «السامي»، كلّ ذلك يرتبط أوّلاً وقبل كل شيء بحقيقة وجود هذا الاسم في القرن الثامن قبل الميلاد بصيغة «أراكيا/ أراقيا» في الوثائق الآشورية التي نشرها وحلّلها العالم والمؤرّخ الأميركي ألبرت أولمستيد صاحب كتاب «HISTORY OF ASSYRIA». وهذا التوثيق الآثاري/ الأركيولوجي الذي يقدّمه أولمستيد يمكن أن يلخص لنا، وبشكل غير قابل للدحض، الهوية العربية الجزيرية لهذا البلد، بدءاً وحاضراً، رغم أنه يختلف في التفاصيل عن التخريجة الإتيمولوجية/ التأثيلية والفيلولوجية بالمعنيين اللذين يستبطنهما فقه اللغة ودراسة النصوص القديمة، التي تربط بين اسم العراق واسم «أوروك»، كما سيأتي بيانه بعد قليل. ويكشف لنا كيف تطورت المفردة عبر التاريخ مثلما تطور نسيج البلاد الإناسي/ الأنثروبولوجي والسكاني/ الديموغرافي واستقر عند التجلي الجزيري الأخير، «العربي»، قبل أربعة عشر قرناً مستمرة، مروراً بسلسلة التمظهرات الإناسية (الأنثروبولوجية) الجزيرية السابقة انطلاقاً من هويته الأكدية ثم الأمورية فالآشورية والآرامية فالكلدانية التي انتهت بالاحتلال الفارسي الأخميني ثم اختُتمت بهوية جزيرية جديدة هي العربية التي سادت وأمست عماد الحضور الديموغرافي العراقي بعد أكثر من أربعة عشر قرناً أعقبت الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي.

إن قراءة السردية والحيثيات التاريخية في تسلسلها الزمني (الكرونولوجي) الخاصة باسم «العراق» تعكس بدقة ووضوح هذا الواقع الهوياتي العربي، وإنْ بشكل غير مباشر أو غير مقصود، ولكن بشكل لا يمكن نكرانه أو التلاعب به كما يحاول المناهضون المعاصرون لعروبة العراق الحضارية والإناسية أن يفعلوا بعد الاحتلال الأميركي سنة 2003. ونقول «العروبة الحضارية والإناسية» لا العروبة العرقية السلالية. فهذه الأخيرة أمست في عموم المشرق خرافة فارغة من أي محتوى منذ قرون عديدة، بفعل الهجرات الواسعة النطاق والكوارث الطبيعية وعوامل المناخ والحروب والغزوات التي قامت بها شعوب المنطقة جمعاء وطاولت كل زاوية من زوايا الشرق تقريباً، بل وشارك فيها الغرب الأوروبي بقسط وافر في صنع وكتابة تاريخ المنطقة قديماً وحتى حروب الفرنجة، التي سمّاها الغربيون لا العرب «الحروب الصليبية» ومزجت في مرجل التاريخ والديالكتيك شعوب المنطقة مزجاً عميقاً على صعيد الإنثوغرافي مع احتفاظه بهويته الثقافية - اللغوية - الجزيرية السامية العربية في العراق والشام وشبه الجزيرة ثم امتداداً إلى مصر وبلدان شمال أفريقيا لاحقاً.

عوداً إلى موضوع اسم العراق القديم، نجد أن بعض الباحثين والمترجمين والإعلاميين العرب - وحتى بعض العراقيين- يستعملون الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» للمصطلح الآرامي العريق «بيث نهرين/ بين نهرين» دون الإشارة إلى أنها ترجمة لهذا الأخير. ويصرّون أحياناً على استعماله بما يوحي وكأنه الاسم الأصلي للعراق القديم. والنهران المقصودان هما دجلة والفرات. وهناك مَن لا يستعمل عبارة «ما بين النهرين» أو «بلاد الرافدين» التي تعنيها تماماً، بل يكرر الترجمة الإغريقية «ميزوبوتاميا» بالحرف العربي؛ أمّا عبارة «العراق القديم» فهي من المهملات أو ربما المحرمات عند بعضهم، ولهذا التصرف تفسيراته التي لا علاقة لها بالموضوعية البحثية غالباً بل الجانب النفساني والسلوكي للباحث الفرد وبعدم معرفته بهذه المعلومة.

إن اعتبار مصطلح «بلاد ما بين النهرين/ بلاد الرافدين» ترجمة عربية مأخوذة عن المصطلح الإغريقي «ميزوبوتاميا/ ميتسوبوتاميا»، هو كلام خاطئ جملة وتفصيلاً، يتكرر في الموسوعات المعلوماتية على النت وفي الدراسات الإناسية الاستشراقية والعربية، وهو غير دقيق تماماً؛ فعبارة «بيث نهرين» الآرامية هي الأصل، وكانت متداولة في عهد الدولة الآشورية التي تأسّست في بلاد الرافدين خلال القرن الرابع عشر ق.م، وزالت من الوجود كدولة في القرن السابع ق.م. هذه العبارة «بيث نهرين» هي الأقدم تاريخياً من ترجمتها الإغريقية «ميزوبوتاميا»، ثم الروماني لفترة قصيرة كاسم لمقاطعة محتلة من قبل الرومان في شمال بلاد الرافدين في عهد الإمبراطور تروجان سنة 116 م، حتى انسحاب الرومان منها في عهد هادريان بعد سنوات قليلة، والتي ولدت في القرن الثاني ق.م. وكما أن اللفظة الأصلية الآرامية «بيث نهرين» هي الأطول عهداً والأوسع استعمالاً والأقدم من ميزوبوتاميا الإغريقية بعدة قرون، ومرادفها العربي الصحيح والحرفي هو بلاد «ما بين النهرين»، واختُصرت في الاستعمال اليومي إلى «بلاد الرافدين» لخفّتها وسلاستها النطقية. وتكون النسبة إليها «الرافداني» على منوال «البحراني» وصنعاني وبهراني كما ورد في موسوعة «لسان العرب» لابن منظور ومراجع أخرى، في موضوع النسبة العَلَمية.

أمّا ترجمة «بيث نهرين» إلى عبارة «بيت النهرين» ترجمة خاطئة، فمنشؤها - كما يكتب أحد المهتمين بالموضوع - الخلط بين كلمة «بيث» و«بيت» التي تعني البيت والمنزل، ولكن التدقيق في هيئة الكلمتين بالخط الآرامي لا يظهر لنا أي فرق بينهما كتابة، فهل هناك فرق لفظي لا نعرفه؟ يبقى هذا السؤال مفتوحاً في الوقت الحاضر على الأقل. أمّا ترجمتها إلى «وطن النهرين» فالراجح أنها ليست ترجمة بعيدة عن المضمون، إذْ إنَّ البيت يعني في ما يعني الوطن، ليس في اللغات الجزيرية السامية فحسب، بل حتى في اللغات الهندوآرية كالإنكليزية المعاصرة.

إذاً، «بيث نهرين» هو اسم العراق القديم في اللغة الآرامية - وهي أقرب اللغات الجزيرية «السامية» إلى العربية، وقد تطورت الآرامية لاحقاً إلى السريانية؛ وتعني عبارة «بيث نهرين» باللغة العربية «بين نهرين»، وهي المناطق الواقعة بين نهري دجلة والفرات ومحيطهما وكذلك روافدهما. والاسم يشير أيضاً إلى المنطقة باعتبارها حول الأنهار، وليس فقط حرفياً بين الأنهار. ومنه اشتقاق «نهرايا»، وهو المعادل الآرامي لـ«بلاد ما بين النهرين».

وعن العلاقة بين الآرامية والسريانية، يمكن التذكير هنا بأن بعض الباحثين يرى أنها هي اللغة نفسها تقريباً، أو ربما تكون لهجة منها، ولكنّ المسيحيين العرب والشرقيين نأوا بأنفسهم عن اسم «آرامية» لأنه عندهم ذو محمولات وثنية فاستقروا على اسم «السريانية»، فيما نسب الشيخ الباحث جعفر المهاجر أخيراً، في مقالة له في «الأخبار» 16 حزيران 2022، السريان إلى مدينة سمّاها «سورى» قرب الحلة العراقية. وهي بلدة «سورا أو سوراء» على نهر بهذا الاسم واختلفوا في صيغة النسبة السائدة إليها بين (السّوراني، والسّوراوي، والسّيوري). ووجهة نظر المهاجر تستحق التمحيص والتحليل المنهجي باستعمال طرائق البحث العلمي الإيتيمولوجي والفيلولوجي والأدلة الآثارية «الأركيولوجية» إنْ توفّرت ولا يعول فقط على الإنشاء الانطباعي والمقاربات التخمينية. أمّا نسبة السريان والسريانية إلى سوريا، فهي وجهة نظر أخرى يتبناها باحثون عديدون لهم حججهم وفيها نقاط ضعفها مثلما فيها نقاط قوتها، ونأمل أن نخصص لهذا المفصل من البحث وقفة أخرى مستقبلاً.

إنَّ اسم العراق الآرامي موثّق منذ اعتماد الآرامية القديمة كلغة مشتركة للإمبراطورية الآشورية الحديثة في القرن الثامن ق.م. أمّا الاسم اليوناني، ميزوبوتاميا، فالأرجح أنه صيغ لأول مرة كترجمة لبيث نهرين الآرامية في القرن الثاني ق.م، من قبل المؤرّخ بوليبيوس خلال الفترة السلوقية. وهناك صِيَغ أخرى قريبة في السريانية الكلاسيكية «الآرامية» الأقل شيوعاً الأخرى للاسم منها بيت ناهراواتا (بين الأنهار)، و (Meṣʿaṯ Nahrawwāṯā) أي (وسط الأنهار).

وقد استخدم مصطلح بلاد ما «بين نهرين» في جميع صفحات الترجمة السبعينية اليونانية للتوراة (حوالي 250 قبل الميلاد) كترجمة معادلة للمفردة الآرامية والعربية نهرايم (Naharaim). وهناك استخدام يوناني سابق لاسم بلاد ما بين النهرين بصيغته الآرامية ورد في «أناباسيس الإسكندر= تاريخ رحلات الإسكندر الحربية» بلفظة بوتاموس نهرايم. ورد هذا الاستخدام في الأناباسيس في عهد الإسكندر، الذي كُتب في أواخر القرن الثاني الميلادي، ولكنه يشير على وجه التحديد إلى مصادر أقدم من زمن الإسكندر الأكبر. ويشمل المصطلح آنذاك مقاطعة تشكل جزءاً من بلاد الرافدين القديمة ويشمل هذا الجزء الأرض الواقعة شرق نهر الفرات في شمال سوريا الحالية.

-كما استخدم مصطلح «بيريتم ناريم / بيريتم biritum / birit narim» ذو الأصل الآرامي في التوراة مرات عديدة أيضاً.

-يشمل إقليم «بيث نهرين» الرافدين، الأراضي الواقعة بين نهري الفرات ودجلة، ويغطي حوالي 35،600 كيلومتر مربع، ويضم قديماً جميع مناطق جمهورية العراق المعاصرة إضافة إلى أجزاء من جنوب شرق تركيا وشمال غرب إيران، شمال شرق سوريا انفصلت عنه في العصور اللاحقة مع ولادة الدول المعاصرة بعد فترة الغزو (الاستعمار) الأوروبي.

- بعد زوال الحضارات الرافدانية القديمة ومع الاحتلال الفارسي الأخميني ثم الساساني حتى الفتح العربي الإسلامي، ظل مصطلح بلاد الرافدين «ما بين نهرين» مستعملاً بصيغة «آرام نهريم» في الآرامية القديمة (السريانية)، وظل مستعملاً من قبل رجال الدين والمتدينين اليهود المتعاملين مع كتابهم المقدّس «التوراة» ولم تستعمل صيغة «ميزوبوتاميا» الإغريقية.

هذا بخصوص بلاد الرافدين «ميزوبوتاميا»، فماذا بخصوص اسم العراق العربي وبهذا اللفظ تحديداً، ومتى ظهر هذا الاسم وما هي أقوى التفسيرات والتأويلات له؟

يعتقد كثيرون أن اسم العراق هو اسم حديث جاء به العرب المسلمون الفاتحون في القرن السابع الميلادي وهذا خطأ شائع آخر. فقد ورد اسم العراق بلفظه العربي الحالي في الشعر الجاهلي في عصر ما قبل الإسلام كثيراً. وعلى سبيل المثال يذكر سالم الآلوسي الذي خصَّ اسم العراق بكتاب عنوانه «اسم العراق: أصله ومعناه عبر العصور التاريخية» ما قاله الشاعر المتلمّس الضبعي (تـ 580 م) في هذا البيت الجميل:

إنَّ العِراقَ وَأَهلَهُ كانُوا الهَوى **** فَإِذا نَأى بيَ وُدُّهُم فَليَبعُدِ

والمتلمّس الضبعي هو خال الشاعر طرفة بن العبد والذي يرجّح المؤرخون أنه ولد حوالي سنة 543، وكانا شاهديْ عيان على ما كان فيه ملك الحيرة العربي في جنوب العراق، عَمرو بن المنذر، المشهور بعمرو بن هند، وأخوه قابوس، من ترف واستبداد وظلم؛ فنظما أشعاراً في هجائهما فقرر الملك الانتقام منهما بحيلة الرسالة المختومة فقُتِلَ طرفة ونجا المتلمس.

وخلال بحث سريع في المصادر والمراجع عن أمثلة أخرى وجدت هذه الأمثلة:

لعنترة بن شداد العبسي -المولود وفق بعض الروايات سنة 525م قياساً على مشاركته في حرب داحس والغبراء سنة 568م- قصيدة يذكر العراق فيها مرتين ويقول مطلعها:

تَرى عَلِمَت عُبَيلَةُ ما أُلاقي **** مِنَ الأَهوالِ في أَرضِ العِراقِ

أمّا مليح الهذلي - وربما كان المقصود أبا مليح الهذلي من عصر صدر الإسلام - فذكر العراق المُساحِل للبحر في بيت له قال:

مساحلة العراق البحر حتــى رفعنَ **** كأنمّا هن القصـــور

وهذا التاريخ - القرنان السادس والسابع بعد الميلاد - لا يعني تاريخ ولادة اسم العراق بل هو مجرد إشارة إلى أن الاسم كان متداولاً بشكل طبيعي بين العرب قبل هذا التاريخ بفترة لا يمكننا الجزم بها بدقة وقد تصل إلى عدة قرون سبقت.

تترسّخ هذه الحيثية المؤكّدة لأصالة اسم العراق باللفظ العربي الحي بالكشف المهم الذي أعلن عنه المؤرخ الأميركي ألبرت أولمستيد في مؤلّفه الضخم «HISTORY OF ASSYRIA»، وهو كتاب مهم ولكنه لم يُترجم إلى العربية حتى الآن رغم أن طبعته الأولى صدرت في عام 1923 وصدرت منه طبعات لاحقة لكونه مرجعاً في موضوعه، وقد ذكره العلامة العراقي الراحل طه باقر في كتابه «مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» الصادرة طبعته الأولى سنة 1951م، بشكل محايد وعرضي، ولكنه قال إن أولمستيد يعتقد أن اسم العراق جاء من إقليم أيرقا كاسم لبلاد بابل والذي انتشر في العهد الكيشي منتصف الألف الثاني ق.م في وثيقة تأريخية ترقى إلى القرن الثاني عشر («مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة» - مج 1 - ص 21؛. ولم يوضح باقر معنى كلمة أيرقا للأسف.

يذهب أولمستيد، كما يلخّص لنا سلام طه في ورقة أعدّها حول الموضوع، إلى «أن أول استعمال لكلمة العراق وردت في العهد البابلي الكاشي/ الكيشي» في وثيقة ترقى إلى حدود القرن الثاني عشر قبل الميلاد عن العاهل الآشوري أورتا توكلتي، وجاء فيها اسم إقليم على هيئة لفظة «أراكيا - أراقيا» والذي صار في ما بعد الأصل العربي لبلاد بابل. وعلى هذا يمكن الترجيح وبقوة أنها الكلمة نفسها بالعين والقاف «عراق» وذلك لأن الحرفين العين والقاف لا وجود لهما في اللغة الأكدية - والآشورية التي تُعتبر لهجة من لهجاتها - فقد جاء الاسم بهذا اللفظ «أراكيا» ثم أخذ الحرفين، العين والقاف، في اللفظ العربي فصار «عراقيا، عراق».

إن أوضح استعمال شاع لمصطلح العراق بدأ ما بين القرنين الخامس والسادس الميلاديين، وهذا يعني أن اسم العراق الذي شاع في الشعر الجاهلي وفي لغة العرب في هذين القرنين يجد امتداده وتعبيره الصوتي/الفونولوجي القديم في هذا الكشف الممتدّة جذوره حتى عهد الملك الآشوري أورتا توكلتي في القرن الثاني عشر ق.م.

يبقى، إذاً، أقرب التفاسير الإتيمولوجية إلى الصحة لاسم العراق، إضافة إلى تفسير أولمستيد باسم إقليم «أراكيا - أرقيا»، هو الذي قال به العلامة العراقي الراحل طه باقر وبعض زملائه ومنهم الراحل هادي العلوي من أنه لفظ عربي حديث قبل الإسلام بعدة قرون لاسم أوروك السومري بقلب الهمزة عيناً والكاف قافاً ومدّ الراء بالألف وليس بالواو.

معنى ذلك أن «لفظ العراق يرجع في أصله إلى تراث لغوي قديم، وهو مأخوذ إمّا من السومريين - الذين يخضع وجودهم كشعب لجدل وتشكيك كبيرين - أو من قوم آخرين من غير السومريين كالجزيريين/ الساميين الذين استوطنوا السهل الرسوبي منذ أقدم عصور ما قبل التاريخ. وإن لفظ العراق مشتقّ من كلمة تعني المواطن/ المستوطن ولفظها «أوروك» أو «أونوك»، وهي الكلمة التي سميت بها المدينة السومرية الوركاء.

أمّا أضعف تفسير، فهو ذلك الذي يقول إن العراق هو ترجمة عربية لعبارة فارسية تعني البلاد المنخفضة أو البعيدة، وهذا تفسير متهافت تماماً، فالعراق بلد مجاور لإيران وليس بلداً بعيداً عنها. ثم إن هذا التفسير أو الاسم لم يرد في أية وثيقة أو دليل آثاري فارسي قديم، بل على العكس نجد في اللغة الفارسية مصطلح «میانرودان ميان رودان» أي بلاد ما بين نهرين، وهذه ترجمة حرفية لاسم العراق الآرامي «بيث نهرين» مثلما تُرجمت العبارة إلى الإغريقية حرفياً بلاد «ما بين النهرين»!

وأخيراً، فإن من المؤسف حقاً، أن هذا الكشف والنظرية التفسيرية التي بنيت عليه، والتي قدّمها المؤرخ أولمستيد قبل حوالي القرن في كتابه السالف الذكر لم ينالا الاهتمام البحثي والعلمي اللازم من قبل المتخصّصين العراقيين ومن المؤسسة الأركيولوجية العراقية، فكتاب أولمستيد لم يُترجم إلى العربية حتى اليوم رغم أهميته الفائقة فيما يخصّ الحضارة الآشورية الرافدانية، رغم أن الباحث العراقي الآثاري الأشهر طه باقر قد نوَّهَ به في منتصف القرن الماضي تقريباً، والذين قرأوه بلغته الأصلية وكتبوا عنه لم يهتموا بأمر وثيقة أورتا توكلتي ويحاولوا الحصول عليها ودراستها بحثياً، وتقديمها لطلاب العلم في فروع الآثاريات بالجامعات العراقية!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

بعد مضي عقدين على غزوه، والبلاد لم تجد حتى الآن استقرارا دائما. يعود ذلك في نفس الوقت إلى حقيقة أن على العراق أن يتعامل اليوم مع العديد من الأزمات والصراعات السياسية والعقائدية والفئوية التي تحيط به كمنظومة جيوديموغرافية من كل الجهات. وكان على الشعب العراقي أن يتحمل خلال العقدين الأخيرين الكثير: التدخل الأجنبي في شؤونه الداخلية، فقدان الأمن والفساد والابتزاز والانقسامات الاجتماعية، مظالم معيشية وإنسانية وحقوقية وآثار نقص المياه والكهرباء ومراكز الصحة والتطبيب وتغير المناخ. في حين أن أيا من الأزمات لن يكون من الممكن التغلب عليها والبلاد تسير في طريق سياسي وإداري مسدود، لدرجة أن أي حكومة فاعلة تاتي، ستجد صعوبة في مواجهة كل تلك التحديات...

في وقت مبكر من عام 2019، نزل الشباب العراقي على وجه الخصوص إلى الشوارع بأعداد كبيرة، طالب المشاركون في ما عرف بحراك تشرين: وضع حد للتدخل الخارجي وإلغاء ما يسمى بنظام المحاصصة وعودة الدولة للسيطرة على مركز القرار لإنقاذ البلد ووضع حد لتقاسم المغانم بين الأحزاب على أساس عرقي- طائفي. كانت هذه الأهداف للمنتفضين تهدف إلى وقف التمييز العرقي الطائفي في أعقاب تمدد "الدولة الإسلامية" داعش... في تشرين الأول أكتوبر 2022 شكلت حكومة أخرى ووعد رئيس الحكومة الجديد، محمد السوداني، باتخاذ إجراءات ضد الفساد والتحضير لانتخابات جديدة في المستقبل القريب. ولكن بعد ستة أشهر، لم يحدث أي شيء وبات من الواضح بشكل متزايد أنه لا يمكن توقع بداية سياسية جديدة ووضع نهاية لسياسة الأحزاب الطائفية المستأثرة بالسلطة ومؤسسات الدولة ومواردها.

وعلى ما يبدو، أن الفصل الطائفي في المجتمع العراقي لا زال لم يتجاوز السياسة. فمثلا حتى عام 2003، عاش الشيعة والسنة والكرد والمسيحيون وغيرهم من القوميات جنبا إلى جنب في العديد من الأماكن في العاصمة العراقية بغداد وغيرها من المحافظات. لكن الصراعات العنيفة على السلطة بين الجماعات المختلفة، سيما بين الطائفتين الشيعية والسنية، أدت في أعقاب سقوط صدام حسين، وانتشار الإرهاب في أجزاء كثيرة من البلاد إلى تعميق الانقسامات في المجتمع العراقي. اليوم، بغداد مقسمة إلى حد كبير حسب الدين والعرق، ولا يوجد سوى عدد قليل من الأحياء المختلطة.

بعد عام 2003، تم ملء فراغ السلطة في العديد من الأماكن في البلاد من قبل الميليشيات المسلحة. وكان لها دور في القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014، وكان العديد من هذه الجماعات تنتمي إلى قوات الحشد الشعبي، وأصبحت فيما بعد جزء من القوات المسلحة العراقية. لكن ولاءها للدولة في الواقع، ضعيف، وجزء كبير منها له علاقات وثيقة مع إيران. وبعد الانتصار على داعش في عام 2017، قامت قوات الحشد الشعبي في ظل انهيار مؤسسات الدولة ببسط نفوذها في الأعمال السياسة والإدارية والاقتصادية.

إن توزيع عشرات الآلاف من الأسلحة النارية على الميليشيات: "عندما تكون الدولة في وضع غير مستقر للغاية، فإن عقيدة فكرة بسيطة لديك، تعتقد أنه عليك فقط تسليم المسدس إلى الأخيار، عندئذ، سينتهي الأمر حتما إلى فوضى مطلقة" ويصيح في بلد كالعراق، يعاني منذ أكثر من ستة عقود أوضاع سياسية معقدة، نادرا ما تناقش العواقب النفسية للحروب والأزمات التربوية والبيئية والمعيشية والمجتمعية. في دراسة أجرتها عام 2016 مجلة نيويورك تايمز عن الاضطرابات النفسية بين الشباب العراقي "إناث وذكور"، أن 56 في المائة من المشاركين لديهم علامات اضطراب ما بعد الصدمة وأكثر من 60 في المائة لديهم أعراض الاكتئاب. ومع ذلك، بالكاد توجد نقاط تواصل معهم: في عام 2019، قدرت وزارة الصحة العراقية عدد الأطباء النفسيين في البلاد ب 138 طبيبا- حوالي واحد لكل 300000 شخص تقريبا.

أما الاقتصاد لا يزال متعثرا، يعتمد بشكل أساسي على صادرات النفط دون بذل الجهود لتطوير الصناعة والزراعة، مما يجعله عرضة للأزمات. فيما يمنع الفساد والمحسوبية القيام بإصلاحات ضرورية، لأن السلطة السياسية مقسمة بحكم الأمر الواقع في المناطق ذات الغالبية العربية بين السنة والشيعة، وفي المناطق ذات الغالبية الكردية في شمال العراق، بين عائلتين كبيرتين، هما بارزاني وطالباني. أدت في السنوات الأخيرة للاحتجاج ضد الظلم والفساد وزيادة القيود على حرية التعبير وحقوق الإنسان، سيما في المحافظات الجنوبية التي يسيطر عليها أحزاب الإسلام السياسي والميليشيات، ولكن أيضا في المحافظات الشمالية التي يسيطر عليها الحزب البارتي والاتحاد.

ولا يزال ما يقرب 1.2 مليون عراقي يعيشون كنازحين داخليا. بالإضافة إلى ذلك، غالبا ما يجد العائدون مصدر رزقهم مدمرا بالكامل مع نقص في العمل والسكن والحصول على الخدمات الأساسية. فيما وصل حد الفقر بين طبقات المجتمع العراقي المختلفة حسب أحدث تقارير المنظمات الدولية الرصينة إلى أكثر من 38 % مقابل 31 % في عام 2020، والبطالة ارتفعت إلى 21 %، غير أن المسؤولين يغضون النظر عن هذه الأوضاع المعيشية الخطيرة. أما ندرة المياه وآثار أزمة المناخ، فقد أصبحت واضحة بشكل متزايد في السنوات الأخيرة. فأقل من عشر كميات المياه التي تتدفق تصل إلى العراق من إيران، وثلثها فقط من تركيا. الأمر الذي يؤدي إلى الجفاف وتغير المناخ في العراق بالإضافة إلى اجتياح العشرات من العواصف الرملية البلاد وازدياد حدتها وتواترها بسبب التصحر وتضاؤل الغطاء النباتي. دون عمل المسؤولين ما يكفي لمعالجة هذه الظواهر واتخاذ موقف حازم إزاء تركيا وإيران، إن لم تلتزم بتنفيذ استحقاقات العراق المائية وفقا لما تنص عليه القوانين والاتفاقيات الدولية.

أوضاع العراق صادمة. وليس هناك متسع من التفكير الطويل للبحث عن الحلول أو الإجابة على كيفية إجراء ذلك، عندما الشك يكون: بأننا نعتقد أو نفكر بان الأمر انتهى. دون التأكد من أننا موجودون، والاهم، وفقا لنظرية الفيلسوف "رينيه ديكارت": لا يمكننا أن نحلم إذا لم نكن موجودين. لذلك نستنتج بان دورة الاستيقاظ من النوم قادمة لا محال، ولا يمكن لأي إنسان أن يفكر في شيء مثالي بمفرده!

يحاول الرئيس السوداني، تنعيم بَشَرَة أداءه الحكومي، قبل مجيء يونيو، بـإعادة تفصيل الحقائب الوزارية في كابينته، وفق مقاساتِ أشخاصٍ جُدُد، بمقصِّ الإقالة. أيضاً، أعلن رغبته، بتغيير قِماشة الطبقة البيروقراطيَّة؛ التي تقود مؤسسات الدولة العراقيَّة. الأدبيات القانونيَّة السائِدة، تُسمي المنتمين لهذه الطبقة بـ "أصحاب الدرجات الخاصَّة".

المُفارقة، إنَّ أدبيات الميديا العراقيَّة، بدورها، والتي نستطيعُ وصف معظمها، بأنها فمٌ للنظام، ولِسانٌ للأحزاب، اعتبرت التغيير الوزاري، طحيناً شبع طحناً؛ فاللوائح الحزبيَّة؛ التي قُدِّمت لرئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، لتشكيل الكابينة الوزارية، كانت ومنذُ البداية، مليئة بأسماء عدَّة مُرشَّحين ولكُلِّ وزارة. بالتالي، سوف يأخذ رئيس الحكومة، الحقائب الوزارية، من زيد ليعطيها إلى عمرو.

اللِّسان الحزبي للميديا المحليَّة، وَجَدَ، أن يافطة أصحاب الدرجات الخاصَّة، تحديداً منصب: وكيل وزير، مدير عام، ومحافظ، هو الرغيفُ الساخن؛ الذي يجبُ تقطيعه، رغم أن الفئات البيروقراطية المنتمية إلى هذا التصنيف، واسعة.

و نسألُ هنا: ما وراء يونيو وما سبب إشعال أفران التغيير للوزراء وأصحاب الدرجات الخاصة!؟

الرئيس السوداني، يحاولُ إزالة طبقة، من الجِلْد الإيراني، عن حقائبِ كابينته الوزارية، وهدم نسبة من "المكاتب الاقتصادية الخاصَّة" للأحزاب؛ التي هي مستمرة، ومنذُ عقدين من الزمن، بلعبِ دور المبازل، للخدمات والمشاريع العامَّة، وقناة لإيصال أموال الدولة، بشكلٍ صافٍ، إلى جيوب المسؤولين الفاسدين. طبعاً، ليس من المهم بالمرَّة، القيامُ بذلك. الأهم، هو قُدرة تصريحات رئيس الحكومة، على أخذِ "سيلفي" دولي له، قبل وصول قاطرة الزيارة الأمريكيَّة، في يونيو القادم.

المائة والثمانون يوماً، تقريباً، والتي مرَّت على رئاسة السوداني للحكومة، تقييمُها مهمٌ حصراً، للهوس الحزبي. على وجه الدَّقة، للعُصب الميليشياوية الإيرانيَّة، الصغيرة، وتلك التي خلقها الصراع السياسي، مثل ميليشيا عصائب أهل الحق، من قبل رئيس الحكومة الأسبق، نوري المالكي، لتقليم أظافر ميليشيا جيش المهدي، التابع للتيار الصدري.

الصغيرة ومخلوقات الصراع السياسي، على وجه العموم، امتلكت ريشاً برلمانيَّاً جيَّداً، بعد انسحاب التيار الصدري، من الدورة البرلمانيَّة الأخيرة، لكنها مازالت ذات زغبٍ حزبي، على اعتبار إنَّها واجهات لأحزابٍ أكبر، أو تنتمي مباشرةً لبلدها العقائدي؛ بلد ولاية الفقيه.

كائنات الريش والزغب هذه، تُريد أن تعرِف مصيرها، قبل أن تدق ساعة الانتخابات القادمة. هكذا فإنَّ مهمة الرئيس السوداني، هي تحفيزُها على اختيار، إحدى البيوت السياسيّة العتيقة. ولهذا ربّما، لم يكن تصريح عمار الحكيم، أمين عام تيار الحكمة "الشيعي"، جُزافاً، عندما ذهب إلى قُرب انتهاء "المرحلة الانتقالية" للنظام السياسي؛ الذي ولِد بعد 2003م. علماً إنَّ لغة الحكيم الشاب، في تصريحاته السياسيَّة، دائماً ما كانت نظيفة وبخيلة، لكي نحصُل منها على تأويلٍ واضح. عادةً ما تحاول أن تترك آثار معركة، وغنائم مؤرِّخين. الباقي، الغير قابل للتلميع السياسي؛ سيكون جُلُّه ضحايا ورحَّالة.

رئيس الحكومة، مهتم حقيقةً، بمعرفة مديات نجاح عملية الجِراحة التجميلية للنظام، والتي قام بها سريعاً، بعد ترأُسِه للحكومة، حيثُ استطاع ضمان الحضور الكامل، لجميع مكوِّنات " الإطار التنسيقي "، في صالةِ عمليات، إزالة شِعار جدولة "انسحاب أو الانسحاب الكامل" للقوات الأمريكيَّة من العراق. كذلك هو يُلقي بالاً، لعرضِ نتائج التبييض السياسي لوجه حكومته، والتي بدأها فؤاد حسين، نائِبُه ووزير الخارجيَّة أيضاً، خلال زيارته إلى واشنطن، في فبراير 2023م.

الوزير حسين، قدَّم الرئيس السوداني، أمام مراكز البحوث الأمريكيَّة (معهد اتلانتيك) في 15 فبراير 2023، كخلفٍ لرئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي. لم يكتفِ حسين بذلك؛ بل زاد بالإشارة، إلى أن موسى "ورقة الإصلاح البيضاء" للكاظمي، يُدامُ شحذُ شفراتِها بعنايةٍ من قبل السوداني. إذاً نحنُ أمام حكومة الكاظمي الثانية، أو حكومة الكاظمي السودانية/ أو "الإطاريَّة".

واشنطن، لم تدَّخِر وسعاً، وعلى لِسان باربارا أ. ليف، مسؤولة الشرق الأدنى، في وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة، بإرسال إشارات إيجابية لبغداد، عندما دعَّمت موقفها من حكومة السوداني، بخُرسانة مُسلَّحة من الكلِمات، طابقت ما ورد في البيان العراقي الأمريكي المشترك، بخصوص اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين البلدين، والذي بحسب الطرفين، أشار إلى ضرورة وضع أزرار حقيقية لبدلة الاتفاقية: اقتصادية، اجتماعية، وغيرها، بدلاً من الزر الأمني اليتيم. ليف، اختارت مفردات خبَّاطة: "نحنُ مع العراق 360 درجة".

السؤال المفيد والأخير: ما الذي يمكننا توقعه حقيقةً من حكومة الكاظمي الإطاريَّة؟

القيمةُ الأمريكيَّة لحكومة العراق الآن – ما قدَّمته من عروض – إنَّها تلعبُ دوراً مفهوماً. الشقُّ الأول من هذا الدور، إيراني. هي تعرِضُ على واشنطن، صفقة سويسريَّة مُعدَّلة. الأصليَّة، وبحسب تريتا بارزي، مؤسس المجلس الوطني الإيراني الأمريكي، في كتابه (حلف المصالح المشتركة / التعاملات السرية بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة)، نقلها القائم بالأعمال الأمريكيَّة، السفير السويسري في إيران، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، سنة 2003م. خُلاصتُها: مساعدة الولايات المتحدة، على تأسيس دولة مدنية وديموقراطية في العراق، خالية من تجاعيد الإسلام السياسي.

التعديل الذي جرى على الأصليَّة، في 2022-2023، إنَّ طهران، تريدُ عودة واشنطن، إلى ليالي فيينا النووية، بدون مرور الصفقة، في الأنابيب المشتركة، بين "إسرائيل" والمؤسسات الحزبيَّة الأمريكيَّة. تودُّها أن تكون، من الأصول الجيوستراتيجية الصافيَّة للعاصمتين.

الشقُّ الثاني، سيناريو النظام السياسي في بغداد. هو مختلف ومتواضع، جدّاً، قياساً بما يريدهُ الآريون الافتراضيون واليانكي. لا يريد سوى توثيق القياسات الأمريكيَّة والإيرانيَّة، المطلوبة منه، قبل أن يترك مرحلة النظام الانتقالي، ويُعيد تأسيس الدولة العراقيَّة، على صورة الأحزاب العتيقة، والتي نجحت في ترك مساحة هامشيَّة، لطبعة أحزاب "مستقلة"، صغيرة وعصبويَّة، تكون بديلاً عن المكوِّن الميليشياوي.

إعادة توزيع "الدرجات الخاصَّة"، بالطبع، له علاقة وثيقة، بقيمة الأحزاب المُعتَّقة، مثل حزب الدعوة الإسلاميَّة، في التأسيس الجديد، بعد الانتهاء من حفلة الشرعيَّة الديموقراطية، في الانتخابات المقبلة، وتشظية البيت "السُّني"، إذ إنَّ الصراع مع الرئيس النيابي، محمد الحلبوسي، ليس لإضعاف هذا البيت فقط، وإنَّما لتوفير النفوذ، لأحزاب الإسلام السياسي "الشيعي"، في مناطق العراق الغربيَّة. تلك التي لن تمتلِك نفوذاً هناك؛ ستكون عُرضة لانخفاض درجة ائتمانِها السياسيَّة. يكادُ ينطبق ذلك على البيت العراقي الكردي، والذي يحاول "الإطار التنسيقي"، زيادة حصَّة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني فيه، على حِساب الديموقراطي الكردستاني.

نستطيع القول أن واشنطن وطهران، تمتلِكان فُرصة ربحٍ صافي، لمشاريعهِما مع بغداد، ونِظامها السياسي؛ الذي يُعاني من خيالاتٍ استشراقيَّة، لا تتفق مُطلقاً مع حقائقه التاريخيَّة، حيثُ لن يعدو دوره، سوى القول: رحِمَكُم الله على ما سبق وأن عطست به عواصِمُ القرار.

***

مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي، و باحث عراقي

ظهرت بين أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي وبالذات داخل لجنة العلاقات الخارجية في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي لعموم الاتحاد السوفيتي التي كان يرأسها وقتذاك بوناماريوف آراء جديدة حول العلاقات بالأحزاب الشيوعية في البلدان النامية وهوية العمل من أجل تحقيق الاشتراكية في تلك البلدان، وتبني التطور اللارأسمالي في بناء الاشتراكية.

كان رأي بونوماريوف والأعضاء المحيطين به حول طبيعة الثورة الاشتراكية وطرق انضاجها أو القيام بها في البلدان النامية، يحمل الكثير من التشاؤم والتطيّر، لا بل كان مفرطاً باليأس ويستكثر على الأحزاب الشيوعية في تلك البلدان النامية القدرة على تحريك الجماهير أو قياداتها للقيام بمهام الثورة، وإن التفكير بمثل هذا الأمر يبدو ضرباً من الخيال يستحيل تحقيقه.

بعد فترة من الزمن وضمن حملة ممنهجة ظهر رأي بونوماريوف إلى العلن، وبدأ الترويج له داخل أوساط الحزب الشيوعي السوفيتي، وأخذت حملة التنظير تتسع بعرض الفكرة القائلة عن إمكانية تحقيق الاشتراكية عبر النضال السلمي وطريق التطور اللارأسمالي، والتخلي عن التفكير بركوب موجة الثورات وضرورة قيادة الأحزاب الشيوعية لعملية تغيير أنظمة الحكم.

وأخذت تطفو على السطح وبشكل واسع فكرة الضغط على الأحزاب الشيوعية في البلدان النامية للأخذ بهذا التوجه دون سواه، رغم وجود آراء مخالفة لذلك عند العديد من السياسيين والباحثين السوفييت. كان حقل التجارب الأول في مصر بقيادة جمال عبد الناصر، فقد كانت هناك داخل القيادة السوفيتية رؤية خاصة ايجابية عن شخصية الرئيس عبد الناصر، ولقيت خطواته التي اتخذها في طريق بناء مصر واستقلالها تقييماً إيجابياً، وبالذات حين رفع شعار الطريق نحو الاشتراكية العربية والتزامه بالنهج الثوري لتحقيق ذلك. وهذا ما أغرى البعض في القيادة السوفيتية بالرغم من كون خطوات عبد الناصر في تطبيقه للاشتراكية كانت غامضة، لا بل متقلبة بين العروبة والإسلام والطوباوية، وكانت لا تعدو سوى خطوات لا ترقى حتى للمربع الأول في طريق بناء الاشتراكية. فراحت بعض القيادات السوفيتية ومثلهم في بعض معاهد الدراسات والصحف وبجهود استثنائية تكيل المديح وتشيد بسلطة عبد الناصر، واعتبرت اتخاذه قرار السير نحو الاشتراكية بداية جيدة ممكن أن تفضي في النهاية ليناء الاشتراكية العلمية، وكان من أكثر المتحمسين لهذا الرأي بوناماريوف ويشاطره في هذا الرأي يفغيني بريماكوف وأيكربيلاييف، وهؤلاء كانوا مقتنعين بشكل ناجز بأن مصر تحت قيادة عبد الناصر تسير في الاتجاه الصحيح، وليس المهم التسميات إن كانت اشتراكية إسلامية أم عربية وإنما المهم هو الابتعاد عن سياسة السوق الرأسمالية وبناء الاشتراكية.

وحين طرح مشروع الاتحاد الاشتراكي من قبل عبد الناصر أراد من الشيوعيين المصريين أن يتوافقوا كلياً مع رأي وتوجهات السوفييت في البناء السلمي للاشتراكية، ولذا عليهم أن يدخلوا طوعاً ومن ثم الذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي. وبدورهم كان الشيوعيون المصريون لا يميلون لرأي القيادة السوفيتية ويترددون في تأييد جمال عبد الناصر، لا بل إن أغلب قواعد الحزب الشيوعي المصري والكثير من قيادته يعتقدون بأن حكم عبد الناصر كان حكماً عسكرياً دكتاتورياً، ودليلهم على ذلك تفرده بالقرار وتضييقه المستمر على حزبهم وحملات الاعتقال المستمرة لأعضائهم من قبل أجهزة السلطة. لكن الضغوط السوفيتية التي وجهت للحزب الشيوعي المصري لقبول الذوبان في الاتحاد الاشتراكي العربي مما سرع بالدخول الطوعي كفصيل داخل الاتحاد الاشتراكي العربي، ومن ثم اقناع الشيوعيين المصريين بحل حزبهم.

تبني هذا النهج في بناء الاشتراكية مما بذل القادة السوفيت بعيداً لتنفيذها في العديد من البلدان النامية، منها: غانا بقيادة كوامي نكروما وغينيا بقيادة أحمد سيكوتوري وأثيوبيا بقيادة منغستو هيلي مريام والصومال على عهد محمد سياد بري. ففي تلك البلدان أنشأت حكوماتها بمساعدة الحزب الشيوعي السوفيتي مدارس حزبية لإعداد كوادر وطنية وفق النظرية الماركسية اللينينية، وكانت تقدم لهذه المدارس مساعدات كبيرة لغرض تطوير الدارسين فيها وبناء قاعدة واسعة منهم تقود بلدانها مستقبلاً نحو الشيوعية.

في المحصلة العامة، قاد «طريق التطور اللارأسمالي» إلى رأسمالية واضحة المعالم، وليست تحت أسماء أخرى، كانت فيها «السلطة» طريقاً إلى «الثروة» أو الأولى مظلة للثانية. هذا شمل القاهرة ودمشق والجزائر. في مصر، التي هي بوصلة العرب منذ عام 1919، قاد التحول من «رأسمالية الدولة» إلى «اقتصاد السوق»، إلى تحولات مرافقة في السياسة الخارجية وفي «الأيديولوجية الرسمية»، وفي اسم الحزب الحاكم. لم يحدث هذا بعد، ولأسباب عدة متشعبة، في دمشق والجزائر. وفي النتيجة ذهبت نظرية التطور اللارأسمالي لبناء الاشتراكية ادراج الرياح.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

منذ تشكيل حكومته في أكتوبر 2022، ورئيس مجلس الوزراء محمد السوداني يتحدث: بانه جاد في تحقيق الاستقرار الاقتصادي للبلاد والحد من نفوذ الجهات الأجنبية والميليشيات. لكن الوضع السياسي والاقتصادي والامني على ما يبدو- لا يزال غير مستقر، والاحتجاجات تخطت أسباب الصراع وخلفيته مع عدم وجود نهج للمعالجة ووضع حلول لاعادة الإعمار في المناطق التي لم يحصل فيها أي اصلاح للبنى التحتية منذ عقدين، نتيجة الفساد المالي والاداري ونقص التمويل وسوء الإدارة والمضاربات التي تمارسها احزاب السلطة ولجانها الاقتصادية. فيما تستغل الميليشيات والاحزاب "الشيعية" التي تعمل بتعليمات إيرانية، واتت بالحكومة الجديدة على اثر تحالفها مع الكتلتين "السنية والكردية" بعد انسحاب الكتلة الصدرية من البرلمان والمشهد السياسي، لتعزيز موقعها في السلطة وفي جهاز الدولة العراقية وبسط مناطق نفوذها في العديد من المحافظات، وممارسة أساليب بطريقة رجعية غريبة على المجتمع العراقي بحق من ينتمون إلى أديان مختلفة. بالاضافة الى تقييد حرية الرأي والتعبير والحد من عمل الصحفيين ومعاقبة أفراد مجتمع الفكر والفن والعلوم الناقمين على مثل هذه الممارسات. ويقدم البرلمان العراقي الذي جاء نتيجة انتخابات 2021، مشهدا اسوأ بشكل كبير عما كان عليه قبل عقد من الزمن، ولا أحد يستطيع أن يدعي مشروعية قيادة واضحة.

فيما تعاني البلاد من تقاعس الحكومة في مواجهة الأزمة الاقتصادية، والبنية التحتية المتدهورة، والفقر المتفشي، وتحويل العراق إلى نوع من دولة المافيا. فالمسؤولون عن رفع التظلمات في مؤسسات الدولة، هم نخبة فاسدة تملأ جيوبها. بيد أن الميليشيات ترهب السكان والقوى الأجنبية تؤثر على ثروات البلاد من وراء الكواليس. فيما يشير نمو الاحتجاجات وسوء الاوضاع المعيشية وإنتشار التمييز العرقي وتعدد أنواع البلاء والكوارث في جميع المحافظات، إلى طبقة سياسية، أجندتها، دفع المشاكل الواقعية إلى عودة المجتمع المدني العراقي إلى ما وراء السرديات الطائفية. 

ومن جانب آخر، فإن مؤسسات الدولة التي أقيمت بعد عام 2003 معطلة إلى حد كبير، ونظام التعليم العراقي الذي كان نموذجيا في يوم من الأيام في حالة كارثية. وينطبق هذا أيضا على نظام الرعاية الصحية، الذي طغت عليه الزيادة الحادة في حالات الإصابة بفيروس النهب والفساد. الأزمة الاقتصادية وتفاقم تداعياتها بسبب التلاعب بأسعار الدينار مقابل سعر الدولار. والأخطر ارتفاع معدل البطالة، يفرض نقص الإيرادات الحكومية وإجراء تدابير تقشفية واسعة النطاق، مما يزيد من تفاقم إفقار السكان. إلى ذلك فإن الأزمة أدت إلى تفاقم صراعات التوزيع بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان العراق، مع آثار سلبية على التعاون في ضبط الحدود وتأمين موارد الدولة الكمركية والضريبية والتجارية. فيما يؤدي تغير المناخ إلى تسريع التدمير البيئي وتهديد الإنتاجية الزراعية التي هي منخفضة أصلا، حيث تخنق السدود التركية مستويات المياه في نهري دجلة والفرات، كما أن الوصول إلى مياه الشرب أصبح أكثر ندرة ونوعية المياه تتدهور. في الوقت نفسه، يتزايد عدد السكان.

باستثناء فترة استراحة قصيرة بين عامي 1988 و 1990، لم يشهد الشعب العراقي فترات سلام لعقود: الحرب الإيرانية العراقية التي دامت ثماني سنوات (1980-1988) أعقبتها حرب الكويت عام 1991 و"حروب أخرى" في زمن الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة (1990-2003). في عام 2003، أطاحت الولايات المتحدة بالدكتاتور صدام حسين ونفذت قرارات كارثية بحق العراق ومستقبله، سيما حل الجيش العراقي وجهاز الشرطة والأمن والترويج الفعال للهياكل العرقية والدينية في بناء النظام السياسي الجديد. وهي المسؤولة إلى حد كبير عن حقيقة أن البلاد انغمست في وقت لاحق في العديد من الصراعات الفاعلة الشيعية والسنية، فضلا عن التعصب الطائفي والأيديولوجي والعنف المتطرف.

***

عصام الياسري

لأجل استجلاء بعض مما يحدث من تغيير أو اجتهاد في النظرية والتطبيق وما شاب ذلك من أحداث داخل الاتحاد السوفيتي والعلاقات التبادلية مع الأحزاب الشيوعية العربية على المتتبع الاطلاع على وثائق الحزب الشيوعي السوفيتي التي تم كشفها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

كانت تتواجد داخل قيادات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي خصومات وصراعات كبيرة، وأيضاً أفكار وآراء مختلفة ومتضاربة داخل مؤسسات الأبحاث العلمية، ولكنها لا تظهر للعلن، وتلك طبيعة راسخة عند جميع الأحزاب الشمولية. ومن ضمن تلك القيادات يفغيني بريماكوف، وهو سياسي وصحفي سوفياتي، أوكراني المولد روسي الوظيفة، اشتغل بالصحافة خدمة للحزب الشيوعي فاكتشف الشرق الأوسط وألف عنه عدداً من الكتب، وعمل في جهاز الاستخبارات أيام الاتحاد السوفياتي وبعد تفككه، ثم أصبح رئيسا لوزراء روسيا. فكان يقدم للقيادة السوفيتية صورة سيئة جداً عن طبيعة الأحزاب الشيوعية العربية وعملها، في حين رئيس معهد الاستشراق السوفيتي السيد بابا جار غفوروف يحمل تصور آخر ويتحدث بالضد مما يقدمه بريماكوف. ولكن الغريب أن جميع هؤلاء فضلاً عن اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي حين يحضرون اجتماعاً مشتركاً تختفي النزاعات ونبرة الخلاف لصالح توحيد الخطاب الآيديولوجي لعموم الاتحاد السوفيتي.

علماً كانت هناك رغبة عارمة تجتاح بعض معاهد الدراسات السوفيتية وأيضاً داخل أوساط اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي. تلك الرغبات والسياسات تعمل لأجل حل وإنهاء وجود الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية والنامية، وتعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية بالذات مع البلدان التي تسلك الطريق اللارأسمالي. فلم يكن هناك بين أوساط القيادة السوفيتية ايجابياً لجميع الأحزاب الشيوعية العربية، وكان يؤشر لحضور أعضاء قياداتها إلى موسكو فقط لغرض تلقي التعليمات والاستجمام.

ودائم ما كانت القيادة السوفيتية تجد ما يصعقها ويثير استغرابها من تصرفات وأفكار غير واقعية يعرضها بعض قادة الأحزاب الشيوعية العربية. وبدورها فإن تلك الأحزاب كانت تؤله الحزب الشيوعي السوفيتي وتجد فيه المرشد والمعلم والأب الروحي الذي لا غنى عنهُ، ودائماً ما تجد فيه العصا السحرية لحل مشاكلها حتى الداخلية منها. وبدورهم كان السوفييت يدركون جيداً هذا الأمر ويتعاملون مع تلك الأحزاب بشيء من عدم المبالات، فتراهم لا يعيرون اهتماماً جدياً للآراء التي تقدمها الأحزاب الشيوعية العربية، وفي الغالب يهملون طلباتها التي لا تتوافق والسياسة العامة للدولة السوفيتية. وفي العديد من المرات تراهم يجدون في طلبات الأحزاب الشيوعية العربية ما هو غير واقعي لا بل لا يمكن تناوله والنقاش فيه أو حوله.

وفي الكثير من الأوقات أهمل السوفييت علاقتهم هذه، ولهذا وضعوا موظفين صغار أغلبهم يعملون في أجهزة المخابرات وليس لهم مناصباً حزبية مؤثرة ليكونوا وسطاء بين الأحزاب الشيوعية العربية والحزب في الاتحاد السوفيتي. ولم يكن ليمر طلب لمقابلة أو اتصال أو التماس وحتى حاجة بعينها إلا من خلال هؤلاء. وعلى سبيل المثال يذكر السيد خليل عبد العزيز في كتابه (هارب من الإعدام ذاكرة شيوعي بين الموصل وموسكو) ص228 "فإن أحد هؤلاء كان يدعى (نيجكين) عمل في فترة ما بعد ثورة 14 تموز 1958 ملحقاً ثقافياً في السفارة السوفيتية في العراق. ثم عين وسيطاً مخابراتياً. نيجكين هذا كان يبتز مسؤولي الحزب الشيوعي العراقي ولا يوافق على إيصال طلباتهم إلى القيادة السوفيتية دون أن يقدم له رشا معينة، ودائماً ما كان يحددها هو وليس هم... وعند قدومي إلى موسكو قابلت الرفيق سلام عادل فنصحني بأن لا أقبل الذهاب إلى مصح أو منتجع لو عرض علي ذلك، فسألته عن السبب، فأجابني بأن ذلك يمثل شيء من الاستخفاف وعدم الجدية للمناضل العراقي".

كانت القيادة السوفيتية تحمل الحساب للحزب الشيوعي الوحيد وهو الحزب الشيوعي السوداني بقيادة عبد الخالق محجوب. فقد كان لهذا الحزب رأي حر ومستقل ودقيق وثابت وناضج في علاقاته مع السوفييت، ولم يكن ذيليلاً في يوماً ما خلال قيادة محجوب، ودائماً ما كان الشيوعيون السودانيون يوجهون نقداً حاداً للسياسة الدولية للسوفييت، وهذا الموقف كان يسبب صداعاً وحرجاً للقيادة السوفيتية، لذا كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وفي بعض الأحيان كانت تمتنع عن دعوة الحزب الشيوعي السوداني لحضور لقاءات الأحزاب الشيوعية العربية.

وفي الجانب الآخر فقد كان أكثر الأحزاب الشيوعية خنوعاً وذيلية، هي بعض الأحزاب الشيوعية العربية مثل: الحزب الشيوعي السوري بقيادة خالد بكداش واللبناني بقيادة نيقولا الشاوي والحزب الشيوعي الأردني بقيادة فؤاد نصار وحزب التقدم والاشتراكي المغربي بقيادة علي يعته. فلم تكن لهؤلاء كلمة أو رأي يعتد به عند السوفييت، وإنما عرف عنهم الخضوع وقبول أي رأي يعرض عليهم، فقد كانوا في حالة موافقة دائمة ورضوخ لجميع ما يمليه عليهم الجانب السوفيتي.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وجدت وثيقة هامة تم الكشف عنها، ويذكر خليل عبد العزيز في مذكراته ص230 قائلاً: "تشير لرسالة موجهة من قبل السيد خالد بكداش سكرتير الحزب الشيوعي السوري إلى زعيم الأممية الاشتراكية ديمتروف يطلب فيها اعتماده مسؤولاً مباشراً ووحيداً عن جميع الأحزاب الشيوعية العربية، وتحصر العلاقة به ومن خلاله في جميع ما يخص تلك الأحزاب، وبدوره فقد قام ديمتروف بإحالة رسالة خالد بكداش إلى المكتب السياسي للحزب الشيوعي (السوفيتي) الذي رفض طلب بكداش رفضاً تاماً".

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

الانفجارات التي أصابت بعض منشآت الطاقة في قلب أمريكا

استعار معركة الظل الاستخباراتية بالتوازي مع الحرب الأوكرانية المكشوفة بكل تفاصيلها للقاصي والداني أكدت على وجود ذراع أمريكية خفية تمتد من البنتاغون وتطول القارات الخمس فتراها تعوث فساداً وكأنها معلقة في السماء دون أن تشير إلى من يتحكم بها.

فهل تعجز روسيا التي تمتلك نظام كي جي بي قوي عن فعل ذلك!؟ فالعين بالعين والبادئ أظلم.

وهذا يفسر كيف أن أمريكا تقف وراء الكثير من العمليات النوعية السرية التي نفذت ضد المصالح الروسية لتخلط الأوراق دون أن تترك اثراً وراءها.. معتمدة على تعويم التهم وتفريق الدم على القبائل سوى أن التسريبات كانت تؤكد على الدوام الدور الأمريكي الضالع فيها.

وذلك على نحو تفجير خطوط الغاز الروسية.. حيث أفادت صحيفة "تايمز" البريطانية بأن تحقيقاً أجراه الصحفي الاستقصائي الأميركي سيمور هيرش توصل إلى أن الولايات المتحدة مسؤولة عن تفجير خطي أنابيب الغاز الروسي "نورد ستريم 1 و2" ببحر البلطيق في سبتمبر 2022.

ناهيك عن المسؤولية الأمريكية غير المباشرة في محاولة تفجير أحد أجزاء خط أنابيب السيل التركي لنقل الغاز في اكتوبر 2022.

وغيرها من التفجيرات التي ظلت مبهمة دون تفسير فيما بقي الدور الأمريكي متوارياً خلف ما أثير من غبار حولها.

ثم يأتي الهجوم بمسيَّرَتَيْن على الكرملين بغية اغتيال بوتين فاتهم البعض أمريكا بالوقوف وراء الحادث مباشرة من خلال إناطة المهمة بالقيادة الأوكرانية رغم رفض أنتوني بلينكن لهذه التهم الغير رسمية.

ولكن في معركة الظل الاستخبارية؛ فإن روسيا أثبتت من جهتها قدرة استثنائية في إدارتها من وراء حجب خلال عدة عملية نوعية، وبالتالي خلط الأوراق من حولها دون ترك دلائل على مقترفيها.

أنا اتحدث هنا عن موسكو التي كان لها الدور السيبراني المعقد في الانتخابات الأمريكية التي تسببت بفوز دوناند ترامب الصديق المقرب لبوتين في انتخابات الرئاسة الأمريكية أكتوبر 2020 والذي يدّعي اليوم بأنه الوحيد القادر على وقف الحرب الأوكرانية لو فاز في الانتخابات الأمريكية المقبلة.

وهذا قد يأخذنا إلى إمكانية ضلوع روسيا في تدمير أهداف حيوية في العمق الأمريكي؛ ما يفسر الصمت الروسي المطبق إزاء ما يتعرض له الدب الروسي من كوارث ناجمة عن الموقف الغربي المتحالف مع أوكرانيا بدءاً من الحصار الغربي الفاشل، مروراً بتزويد أوكرانيا بالسلاح النوعي، وصولاً إلى قيام الناتو ومخابراته العسكرية بعمليات سرية ضد روسيا بإيعاز أمريكي.

فسجّل في سياق ذلك الانفجار الضخم المجهول الذي وقع في إحدى محطات نقل الطاقة جنوبي ماريلاند، في 20‏/08‏/2022 حيث أشارت مصادر لـCNN إلى أن وزارة الأمن القومي أكدت أنه لم تتوافر أي مؤشرات على أن انقطاع الكهرباء نجم عن "عمل تخريبي." لكن بعض الصحف الأمريكية كان لها رأي آخر حيث اتهمت الروس في الوقوف وراء الحادث الذي عانت من جرائه مناطق واسعة في العاصمة الأمريكية واشنطن من انقطاع مفاجئ في الكهرباء أصاب العديد من المباني الحكومية، من بينها البيت الأبيض، ووزارة الخارجية، كما امتد تأثير انقطاع الكهرباء جزئياً إلى خطوط شبكة المترو.

كذلك هناك التسريبات (وهي أخبار غير مؤكدة رسمياً) الجديدة للبنتاغون عن هجوم روسي!! على خط النفط الرئيسي الرابط بين كندا و الولايات المتحدة ، والمُزَوِّدِ الرئيسي للنفط الكندي لـ أمريكا ، منوهة إلى أن روسيا قادرة على تفجير الخط بالكامل من خلال التلاعب بضغط انابيب النفط في الشركة الكندية المنتجة.

ونُذَكِّرْ أيضاً بما أشارت إليه الصحف الأمريكية باحتمالية ضلوع روسيا من خلال عملائها في استهداف قطار الشحن الأمريكي في 3 فبراير 2023، الذي كان يحمل أشد المواد خطورة (كلوريد الفينيل، بوتيل أكريليت، إيثيل هكسيل أكريلات، وإيثيلين 2-بوتوكسي إيثانول)، وإخراجه بالتالي عن مساره على طول خط نورفولك الجنوبي للسكك الحديدية في شرق بلدة "فلسطين" بأوهايو في العمق الأمريكي.. فيما أدت تسريبات المواد السامة الناجمة عن الحادث في الهواء إلى إجلاء السكان داخل دائرة نصف قطرها 1 ميل (1.6 كم) وهنا تكمن الخطورة.

ثم يأتي في السياق نفسه انفجار كبير يوم الأحد الماضي في محطة كهرباء تعمل بالغاز -قيد الإنشاء- في ميدلتاون بولاية كونيتيكت الامريكية.

ووفق قناة دبليو.اف.اس.بي التابعة لمحطة سي.بي.اس المحلية بموقعها على الانترنت، فقد نجم عن الحادث إصابة نحو 250 شخصاً بجروح.

وخلافاً لتحليلات بعض الصحف الأمريكية التي توجهت بالاتهام الضمني إلى روسيا، فقد عزا المحققون الأمريكيون أسباب الانفجار إلى خلل في بعض التجارب التشغيلية للمحطة التي تعمل بالغاز وتبلغ طاقتها 620 ميجاوات وكان من المقرر البدء في تشغيلها في الصيف.. فيما يظل الشبح الروسي يحوم فوق رؤوسهم.

وفي 25 أبريل 2023، الأحد الماضي أفادت قناة "إن بي سي شيكاغو" الأمريكية بأن انفجار ضخم أعقبه حريق وقع في مصفاة للنفط بولاية إلينوي- بلدة ليمونت- في مؤسسة مملوكة لشركة سينيكا بتروليوم.

ويبدو أن العمليات السرية لن تتوقف.

إنه غموض مرتبط بحرب الظل الخفية بين روسيا من جهة وأمريكا إلى جانب أوكرانيا التي تحارب بالوكالة عن النيتو من جهة أخرى .

فالحرب مستمرة في كافة الصعد ويبقى الرد الروسي على استهداف الكرملين بمسيَّرتيْن -في ظل الصراع الخفي - وارد دون تحديد المكان والزمان وربما يصيب الرد قبة البيت البيض!

حيث أكد سيرغي لافروف في شنغهاي: بأن روسيا سترد بإجراءات ملموسة على الهجوم الأوكراني ضد الكرملين. وهذا ما يقلق الأمريكيين.

***

بقلم: بكر السباتين

8 أبريل 2023

من حق روسيا ان تحتفل، وتفتخر، بنتائج نصرها على النازية العالمية في عام 1945، بعد حرب ضروس قدمت فيها العوائل السوفيتية أروع صور من التضحية والفداء، وتقديم مواكب الشهداء، والذين وصل عددهم الى عشرات الملايين من الأشخاص، كل هذا، حتى ينعموا اهاليهم اليوم بالحرية والاستقلال، ورفض سياسة العبودية، التي حاول الغرب فرضها على الاتحاد السوفيتي في ذلك الزمان.

وكما يقول المثل " ما أشبه اليوم بالبارحة "، فروسيا اليوم، أيضا تسطر أروع صور الفخر والاعتزاز ببطولات أبنائها، وهم يدافعون عن وحدة بلدهم، بالالتفاف خلف قيادتهم، والتصدي الى ما يحاول الغرب رسمه لبلادهم، من تقسيم وتدمير، ومحاولة أخضاع الشعب الروسي لأرادتهم " كسابايا "، لا سامح الله، فا هو الغرب يتكالب كله ضد روسيا، سواء في العقوبات الشرسة التي يفرضها على الشعب الروسي بالدرجة الأساس، وحرمانه من ابسط حقوقه في العيش الحر الكريم، وتجريده من كافة مقومات الحياة الاجتماعية والثقافية والرياضية، وحتى لغته الام، التي يحاربه الغرب في أي مكان تطال يديه له، وخير مثال ما قامت به السلطات البولندية من عملية اقتحام المدرسة الروسية في وارسو، وطالبت بأغلاقه، أو تحريم استخدام المصادر التاريخية والثقافية والفنية الروسية، لمحو كل ما له علاقة بروسيا من العقل الغربي، او بالحملة " المسعورة " لتسليح الجيش الاوكراني المغلوب على أمره للقتال ضد روسيا .

واليوم تحتفل روسيا والعالم الحر، بذكرى الانتصار الثامنة والسبعين على النازية، فقد كان لهزيمة الفاشية في عام 1945 أهمية أساسية لسير التاريخ العالمي لاحقا، فقد تم خلق الظروف المواتية لتشكيل النظام العالمي بعد الحرب، الذي أصبح ميثاق الأمم المتحدة عماده الرئيس، والذي لا يزال حتى يومنا هذا المصدر الرئيسي لمعايير القانون الدولي، ولا يزال نظام الأمم المتحدة المركزي يحتفظ باستقراره، بل ويتمتع باحتياطي كبير للمتانة. وهو بمثابة "شبكة للأمان" تضمن التطور السلمي للبشرية في ظروف تضارب المصالح، الطبيعي إلى حد كبير، والتنافس بين القوى الرئيسية، ولا تزال الحاجة قائمة للاستفادة من الخبرة المكتسبة في سنوات الحرب من التعاون الخالي من الأيديولوجية بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية المختلفة.

ومن المؤسف وكما يؤكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في أحدى مقالاته لمجلة السياسة الدولية، أن بعض القوى المتنفذة في الغرب، تلتزم الصمت بشأن هذه الحقائق الواضحة، بل وتتجاهلها، وعلاوة على ذلك، ازداد نشاط أولئك الذين يودون "الاستئثار" بالنصر، ومحو دور الاتحاد السوفيتي في هزيمة الفاشية من الذاكرة، ونسيان مأثر التضحية المتفانية للجيش الأحمر في سبيل التحرير، وعدم تذكر الملايين العديدة من المواطنين السوفييت المسالمين الذين قضوا في سنوات الحرب، ومحو ذكر عواقب السياسة المهلكة لاسترضاء المعتدي من صفحات التاريخ، ويظهر بوضوح، من وجهة النظر هذه، جوهر مبدأ "المساواة بين الأنظمة الشمولية"، وهو ما يهدف ليس فقط لمجرد التقليل من نصيب الاتحاد السوفيتي في النصر، بل وحرمان روسيا بأثر رجعي من الدور الذي حدده التاريخ له كمهندس وضامن للنظام العالمي ما بعد الحرب، ثم وصمه بصفة "الدولة التحريفية" التي تهدد رفاهية ما يسمى "بالعالم الحر".

إن انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين الذي كان يفصل بين المعسكرين، وزوال المواجهة الأيديولوجية الشديدة، التي كانت تحدد معالم السياسة العالمية في جميع المجالات والمناطق تقريبا – إن هذه التغييرات الجذرية لم تؤد للأسف الى انتصار الأجندة الجامعة، ولكن بدلا من ذلك أخذت تتعالى إعلانات ظافرة عن حلول "نهاية التاريخ"، وأن مركز اتخاذ القرارات العالمية بات من الآن فصاعدا واحدا فقط، ومن الواضح تماما اليوم أن محاولات إقرار النظام أحادي القطبية فشلت، وارتدت عملية تغير النظام العالمي طابعا لا رجعة له، ويسعى اللاعبون الكبار الجدد الذين يملكون قاعدة اقتصادية متينة إلى زيادة التأثير على العمليات الإقليمية والعالمية، وكذلك يطمحون لمشاركة أوسع في اتخاذ القرارات المحورية، وتتزايد الحاجة إلى نظام أكثر عدالة وشمولا، وترفض الأغلبية المطلقة من أطراف المجتمع الدولي الآراء الاستعمارية الجديدة المتعجرفة التي تمنح بعض الدول الحق في أملاء إرادتها على الأخرى، وهو ما يثير إنزعاجا واضحا لدى من تعوّد على صياغة قوالب التطور العالمي وفقا لامتيازاته الاحتكارية، وتسعى أغلبية الدول إلى إنشاء منظومة أكثر عدالة للعلاقات الدولية وإلى تأمين احترام واقعي وغير شكلي لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وتواجه هذه المساعي إلى الحفاظ على النظام الذي لا تستفيد في ظله من ثمار العولمة إلا مجموعة محدودة من الدول والشركات العابرة للقارات .

أما أوروبا، فيتعايش فيها المدافعون عن الفكرة اللبرالية برضى تام عن الانتهاكات الجمة لحقوق السكان الناطقين باللغة الروسية في عدد من دول الاتحاد الأوروبي وجيرانها، حيث تصدر القوانين التي تنتهك بصورة وقحة الحقوق اللغوية والتعليمية للأقليات القومية المنصوص عليها في الاتفاقيات المتعددة الأطراف، ولا يقبل الغرب اليوم بواقع أنه بعد مئات السنوات من الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية بدأ يفقد صلاحياته الأحادية في صياغة الأجندة العالمية، ومن هنا نما نهج "النظام القائم على القواعد " وإن نوايا مبادري نهج "النظام القائم على القواعد" كما يشرحها الوزير لافروف في مقاله، تمس حصرا صلاحيات مجلس الأمن الدولي، ومن الأمثلة الأهم على ذلك، عندما لم تتمكن الولايات المتحدة وحلفاؤها من إقناع مجلس الأمن بالموافقة على القرارات المسيّسة التي تتهم دون أية أدلة قيادة سوريا في استخدام المواد السامة المحظورة، فقد بدأوا بطرح "القواعد" الضرورية لهم عبر منظمة حظر الأسلحة الكيمائية، وبالتلاعب في الإجراءات الموجودة وبانتهاك فاضح لمعاهدة حظر الأسلحة الكيمائية، تمكنوا (بأقلية أصوات الدول الأعضاء في هذه المعاهدة) من منح الأمانة الفنية لمنظمة الحظر صلاحية تحديد المذنبين في استخدام الأسلحة الكيمائية، فأصبح ذلك اقتحاما مباشرا في صلاحيات مجلس الأمن الدولي.

وفي السياق ذاته نجد مبادرات تنظيم عمل الصحافة الرامية إلى التضييق الطوعي على حرية وسائل الإعلام، وكذلك أيدولوجية التدخل تحت مسمى "مسؤولية الحماية"، والتي تبرر "التدخل الإنساني" العسكري الخارجي دون أي عقوبات من قبل مجلس الأمن تحت ذريعة ظهور تهديدات على أمن المواطنين المدنيين، كما ان هناك حاجة لإعارة اهتمام خاص لمفهوم "مكافحة التطرف العنيف" المثير للجدل، والذي يحمّل مسؤولية نشر الإيديولوجيات المتطرفة وتوسيع قاعدة الإرهاب الاجتماعية على الأنظمة السياسية، التي يدّعي الغرب أنها غير ديمقراطية وغير ليبرالية واستبدادية، وإن تركيز هذا المفهوم على العمل المباشر مع منظمات المجتمع المدني "التفافا" على الأنظمة الشرعية لا يترك أية شكوك بشأن الهدف الحقيقي له، وهو سحب الجهود في مسار مكافحة الإرهاب من تحت "مظلة" الأمم المتحدة والحصول على آلية للتدخل في الشؤون الداخلية للدول.

إن نسف واشنطن بداية لمعاهدة الدفاع الصاروخي، ومعاهدة التخلص من الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بتأييد بالإجماع من قبل أعضاء حلف الناتو، تشكل مخاطر تهديم بناء الاتفاقيات والمعاهدات الدولية في مجال السيطرة على الأسلحة الصاروخية النووية، وما برحت أفق معاهدة ستارت الجديدة غير واضحة تماماً بسبب عدم الرد الظاهر لدى الطرف الأمريكي على المقترحات الروسية، مما يبعث على الشك في مستقبل الوثيقة بالغة الأهمية بالنسبة للسلام والأمن العالميين، وقد بدأت واشطن تنفيذ خططها لنشر الأسلحة في الفضاء الكوني، رافضةً أية مقترحات للتوصل إلى اتفاق الحظر العالمي على ممارسة نشاط كهذا.

وفي المجال الاقتصادي باتت "القاعدة"، هي فرض الحواجز الحمائية وسياسة العقوبات واستغلال وضع الدولار، كوسيلة أساسية في المعاملات، وتوفير الامتيازات التنافسية التفافاً على الأسواق وتطبيق القانون الوطني الأمريكي خارج الحدود، بما في ذلك فيما يتعلق بأقرب الحلفاء، في الوقت نفسه، يسعى الأمريكيون كما يبدو لحشد كل ما استطاعوا من شركائهم الخارجيين من أجل ردع روسيا والصين، وهم في الوقت نفسه لا يخفون الرغبة في إيقاع الخلاف بين موسكو وبكين، وإعطاب وتقويض التحالفات متعددة الأطراف المتنامية خارج إطار السيطرة الأمريكية التجمعات الاندماجية الإقليمية في أوراسيا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي، كما يمارسون الضغوط على الأطراف التي لا تلعب وفقا "للقواعد" التي تفرضها عليها واشنطن، وتتجرأ على تبني خيار "خاطئ" لصالح التعاون مع "خصوم" امريكا.

ان ما تعرضه روسيا لا يخالف واقع اليوم، فهي تدعوا قبل كل شيء، الى ضرورة مواكبة الزمن، والاعتراف بأمر بديهي، ألا وهو حتمية عملية تشكيل هيكلية عالمية متعددة الأقطاب، وذلك مهما حاولوا كبح هذه العملية بشكل مصطنع، خصوصا وان غالبية الدول ترفض أن تكون رهينة لحسابات جيوسياسية أجنبية، بل تحرص على ممارسة السياسة الداخلية والخارجية السيادية، وأن تتسم التعددية القطبية بطابع عادل ديمقراطي موحد، وتأخذ بعين الاعتبار نهج ومخاوف جميع أطراف المجتمع الدولي من دون استثناء، وتسهم في تأمين مستقبل مستقر وآمن.

وغالباً ما يصرّون في الغرب على أن تعددية الأقطاب ستؤدي حتماً إلى زيادة الفوضى والمواجهة، لأن "مراكز القوة" لن تكون قادرة على الاتفاق فيما بينها واتخاذ قرارات مسؤولة، لكن لماذا لا نجربها أولا؟ فربما ننجح؟ وكل ما نحتاجه من أجل هذا هو البدء بالمفاوضات، بعد الاتفاق المسبق على السعي لإيجاد توازن في المصالح، ويجب من الآن فصاعدا، التقيد الصارم بالمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، بدءًا من احترام المساواة في السيادة بين الدول - بغض النظر عن حجمها أو شكل سلطة الدولة أو نموذجها التنموي.

كما يجب استخدام إمكانات "مجموعة العشرين" إلى أقصى حد ممكن - وهي منظومة واعدة وواسعة النطاق للإدارة العالمية، حيث يتم تمثيل مصالح جميع اللاعبين الرئيسيين، ويتم اتخاذ القرارات باتفاق جماعي، وتلعب الرابطات الأخرى التي تعكس روح التعددية الديمقراطية الحقيقية دورًا متزايدًا، ويستند عملها على التطوع ومبدأ الإجماع وقيم المساواة والبراغماتية السليمة ورفض المواجهة والنهج التكتلي، من بينها مجموعة "بريكس" ومنظمة شانغهاي للتعاون.

لقد حان الوقت للاتفاق على تفسير موحد لمبادئ وقواعد القانون الدولي وعدم الاعتماد على الحكمة المعروفة التي تسمح بتفسير فضفاض للقانون، وإن التوصل الى الاتفاق أصعب من توجيه الإنذارات الأخيرة، لكن الحلول الوسط المتفق عليها بصبر ستكون آلية أكثر موثوقية لإدارة الشؤون الدولية التي يمكن التنبؤ بها، واليوم هناك حاجة ماسة لهذا النهج للبدء بمفاوضات موضوعية حول معايير منظومة موثوق بها وعادلة للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوروبا الغربية وأوراسيا.

إن تحقيق النجاح في عملية تشكيل العالم المتعدد الأقطاب، عبر التعاون والتوافق بين المصالح، بعيدا عن المواجهة والنزاعات يتوقف على جهودنا المشتركة، أما روسيا وكما شدد الوزير لافروف، فسوف تستمر في ترويج الأجندة الإيجابية التوحيدية التي ترمي الى إزالة خطوط الفصل القديمة، والحيلولة دون ظهور خطوط الفصل الجديدة، وقد تقدمت روسيا بمبادرات في مجالات عدة، بما فيها منع سباق التسلح في الفضاء الكوني، وإنشاء أدوات فعالة لمكافحة الإرهاب، لا سيما الإرهاب الكيميائي والجرثومي، إضافة الى تنسيق التدابير العملية الخاصة بالحيلولة دون استخدام الفضاء السيبراني لتقويض أمن أي دولة ناهيك عن تطبيق مخططات إجرامية أخرى.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

هناك موقف حدث فى بدايات رمضان الماضي تداولته وسائل التواصل عن مواطن مسيحى قام بإعداد مائدة رمضانية طويلة يشارك به المسلمين احتفاءهم بشهر رمضان الكريم.. لم يكن موقفاً إعلامياً.. ولم يكن الوحيد.. حدث ويحدث فى مصر فى كل محافظة ومدينة بشكل أو بآخر..

موائد الرحمن فى كل عام منذ نشأتها تجمع المسيحى والمسلم. بالعكس هناك مسيحيون يحبون موائد الرحمن ويحرصون على التواجد بها فقط لأنها تعبر عن روح المشاركة والترابط على المستوى الإنسانى قبل الدينى.. الأعياد والمناسبات السعيدة كانت دائماً هى الموائد التى تجمعنا جميعاً نسيجاً واحداً مكونا من عنصرين مسلم ومسيحى..

لو أردنا أن نتحدث عن مفهوم الوحدة الوطنية كمصطلح عام فإن المقصود به هو اجتماع كل المواطنين فى الدولة تحت راية واحدة من أجل تحقيق هدف مشترك يسمو فوق أى خلاف حزبي أو عرقى أو طائفى.. مثل هذا التعريف ينسحب على أى شعب ودولة.. هناك دول يمثل المسلمون فيها أقليات فهل تتمتع تلك الدول بوحدة وطنية؟ الأمر يختلف باختلاف القوانين والدساتير التى تحكم تلك الدول.. أما فى مصر فالأمر يتجاوز القوانين المجردة إلى ما هو أعمق وأرقى..

الوحدة الوطنية فى مصر لم تكن أبداً وطوال تاريخها الطويل مجرد شعارات أو قوانين تصاغ فتحكم العلاقة بين المسلم والمسيحى، أبداً.. فحتى فى غياب هذه القوانين أو غياب تطبيقها، كان المسلمون والمسيحيون يتعايشون بصورة رائعة لدرجة أنك فى كثير من الأحيان تجد جيراناً بينهم علاقات ود وتعاملات اجتماعية وتجارية من كل نوع ثم تكتشف من خلال الأسماء فقط أنهم مسلمون أو مسيحيون..لطالما سارت الحياة فى مصر بين مكونى النسيج الوطنى على هذا النحو...

نعرة التفرقة لم تظهر فى مصر سوى مع الاحتلال.. وربما لهذا كان أول ما فعله المصريون فى ثورة 19 أنهم أشهروا فى وجه عدوهم المحتل راية الوحدة الوطنية.

المنيا نموذجاً

لعل من أكثر محافظات مصر الشاهدة على مظاهر وحدتنا الوطنية كانت محافظة المنيا.. تاريخياً وجغرافياً..

أولاً هى عروس الصعيد الواقعة فى منتصف الوادى الخصيب، كأنها رمانة الميزان بين طرفيه.. وهى زاخرة بعشرات المساجد والكنائس والأديرة فى كل ركن ومدينة ، بعضها أثرى عتيق ضارب فى عمق التاريخ والبعض الآخر معاصر. مساجد الصحابة والأولياء كثيرة فى المنيا يقصدها المسلمون من كل مكان.. وفى المقابل يمثل دير السيدة العذراء بمدينة سمالوط مقصداً للمسيحيين من كل الأنحاء.. أنت أمام مشهد يعبر بكل جلاء ووضوح عن وحدة وطنية حقيقية عميقة وغير مصطنعة تبدو فى كل مظاهر الحياة والمعيشة اليومية بين سكان عروس الصعيد خاصة إذا توغلت فى شوارعها وقراها ورأيت كيف يعيش المسلم بجوار المسيحى فيتشاطران الحياة اليومية بكل مظاهرها حلوها ومرها وبكل أحداثها السعيدة والتعيسة..

نحن لا نشعر بكلمة الوحدة الوطنية لأننا نعيشها حقيقة واضحة.. لكن الذى قد يتعجب من مظاهرها الواضحة الجلية فى مصر هم الزائرون من خارجها..فالأجانب بعضهم لديه تصور مسبق مغلوط عن طبيعة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين بسبب ما تمارسه بعض قوى الشر المغرضة من محاولات لتأجيج صراعات فردية أو معارك مفتعلة من حين لآخر حقداً وبغضاً لتلك الحالة الفريدة الطبيعية والتاريخية من الوحدة الوطنية فى مصر..

شعار أم ضرورة

حتى فى أمريكا بلد الحريات لطالما كانت هناك تفرقة فظيعة بشعة فى أقسي وأعنف صورها بين الأمريكيين البيض من ناحية وبين فئات مجتمعية مختلفة على رأسهم الزنوج.. ثم المواطنين الأصليين من أحفاد الهنود الحمر، ثم الأقليات الأخرى من المهاجرين من دول أمريكا اللاتينية وغيرهم..هذه التفرقة كانت لها مظاهر اجتماعية وسياسية واقتصادية ودينية كثيرة شملت تضييقاً فى السكن والعمل والترقى الوظيفى والحقوق المدنية ومظاهر ممارسة العبادة وغيرها.. تلك المظاهر تفاوتت قسوتها وشدتها من حقبة زمنية لأخرى.. غير أنها كانت وما زالت موجودة بصورة أو بأخرى.. نحن فى مصر مختلفون عن كل هذا.. طبيعة البلد نفسها تستوعب وتهضم الاختلاف فى العقائد والعرقيات والطوائف  على مدار التاريخ.. وخير شاهد على هذا ما حدث من نزوح لأشقائنا العرب إلى مصر بالآلاف وانسجموا واندمجوا داخل النسيج المصرى دون أن يشعروا بأدنى تفرقة أو اختلاف.

الحق أن الوحدة الوطنية الطبيعية بين عناصر المجتمع المصري كانت دائماً ركيزة لحالة الأمن والأمان السائدة بين أرجائه.. لا يعكر صفوها إلا ما كان يحدث أحياناً من قلاقل نادرة إذا قيست بما يحدث حولنا فى أى مكان بالعالم.. طبيعى أن تكون فى كل مجتمع بعض العناصر الإجرامية أو المتطرفة لكنها تبقى مجرد استثناء يؤكد القاعدة..

فى التاريخ المصري نماذج كثيرة مشرفة من الأخوة الأقباط برزوا ولمع نجمهم فى كل مجال وموقع سياسي أو قضائى أو فنى أو طبى أو عسكرى.. ولو توقفت عند بعض الأسماء البارزة المعاصرة أو السابقة فلن يسعنى الوقت وسأظلم أسماء كثيرة قد أنساها.. الدور الوطنى نحو مصر لا يفرق بين مسلم ومسيحى ، فنحن جميعاً نتحرك مع وطننا ونحركه فى اتجاه النجاة.. ولو أن إحدى دفتى المسيرة توقفت فلاشك أن الوطن كله يتضرر..

سمات وحدتنا الفريدة

فى مصر ظهرت وحدة وطنية ذات شكل وفورم فريد قلما ترى مثله فى أى مكان بالعالم.. وهى وحدة لها سمات ومظاهر تشكلت عبر التاريخ وتجلت بوضوح فى أوقات الأزمات المشتركة.. بداية من المحاولات الاستعمارية الأولى خلال الحروب الصليبية..تلك التى أظهرت مدى قوة روح المواطنة لدى أقباط مصر الذين شاركوا المسلمين فى مقاومة المستعمر الغاشم حتى طردوه.. هذا أحد المظاهر المتكررة فى تاريخ الوحدة الوطنية المصرية الأصيلة ومشاركة المسلمين والمسيحيين معا فى طرد الغزاة منذ الحروب الصليبية وحتى حرب أكتوبر المجيدة..

الشخصية المصرية لها طابع متوارث شديد العمق والرسوخ لعل إحدى أهم سماته أصالة الطابع الوطنى فيه بغض النظر عن أية اعتبارات طائفية أو عرقية..

الوحدة الوطنية انتصرت دائماً وعبرت جميع مراحلها الصعبة  ونجحت فى تخطى سائر الاختبارات الصعبة بدايةً من ثورة يوليو 52 ومروراً بالعدوان الثلاثى ونكسة 67 وحتى حرب العاشر من رمضان.. وحتى عندما حدثت بعض حوادث التفجيرات التى اتضح أنها كانت مفتعلة وبتحريض من أطراف لا تحب لتلك الحالة من الانسجام أن تستمر فإن الوحدة الوطنية التى تجرى فى ثنايا الشعب المصري مجرى الدم فى العروق نجحت فى سرعة نبذ تلك الحوادث وتجاهلها باعتبارها أمر عارض عابر لا يؤثر على متانة العلاقة بين عنصري المجتمع المصري.

معارك التحدى والوجود

منذ أحداث 25 يناير ثم 30 يونيو ومصر تعيش حالة من التقلب أحيانا والتغير أحياناً والتطور أحياناً أخرى.. تحديات كثيرة واجهت المجتمع المصرى.. لكن العجيب أن الوحدة الوطنية بقيت كما هى لم تمس أو تتأثر.. بل وربما لا أبالغ

إذا قلت إن الارتباط بين المسلمين والمسيحيين ازدادت مظاهره وقويت أواصره..

وأعود لأؤكد أن تلك الحالة من الوحدة الوطنية الأصيلة بين عنصري النسيج المصرى هى الضمانة الكبري لدوام حالة الاستقرار وشيوع الأمن والأمان فى ربوع الوطن. وأن هذا المضمون والهدف يدركه كل مصرى ويعمل على ترسيخه والدليل أن وحدتنا لم تتأثر يوماً رغم كل ما واجه مصر من تحديات.

الشعب المصري أثبت دائماً أنه على وعى تام بأن بقاء الوطن وازدهاره يعتمد فى الأساس على بقاء تلك الحالة من الانسجام والوئام بين عنصري الوطن تحت الشعار الذى رسخته ثورة 19: "عاش الهلال مع الصليب"..

***

عبد السلام فاروق

مقدم الى دولة محمد شياع السوداني مع التقدير

توطئة: تحدثنا في الحلقة الأولى عن اسباب الفساد في العراق منطلقين من حقيقة علمية تؤكد انه لا يمكن معالجة اية ظاهرة دون البدء اولا بتشخيص اسباب ظهورها، وقد استوفت تلك الحلقة الخطوة الاولى من هذا المشروع، لتنقلنا الى خطوة تتضمن توثيقا لحجم الفساد في العراق من مصادر موثوقة توصلنا الى حقيقة اعلنتها وزارة التخطيط في (نيسان 2023) ان (22%) من العراقيين تحت مستوى خط الفقر، وان نسبة البطالة بلغت (16%)، ومع ان النسبتين لا تعكسان الحقيقة، فأن عدد الفقراء والعاطلين، وفقا للنسبتين، يبلغ (17) مليونا في بلد يعدّ الأغنى في المنطقة و أحد أغنى عشرة بلدان في العالم.

*

كنا تابعنا هذه الظاهرة من بداياتها واصدرنا عنها كتابا بعنوان (الفساد في العراق – تحليل سيكوبولتك لأقبح ظاهرة في تاريخه) وصفه استاذ علم الأجتماع المقيم في لندن الدكتور فجر جودة بأن ما فيه " يوجع مثل وخز على اطراف الاصابع، يوجع مثل سياط جلاد فقد الاحساس بوخز الضمير، ويوجع مثل آلام المسيح ومثل حجم مأساة الحسين".. اليكم اهم ما وثقه من حقائق وأرقام.

* صرح كبير المفتشين الأمريكيين في العراق، ستيوارت بوين بأن حجم الفساد في الحكومة العراقية يبلغ أكثر من أربعة مليارات دولار.وأشار في تقريره الذي نشرته هيئة الإذاعة البريطانية في 9/11/2006 إلى أن حجم الفساد في العراق يتجاوز أكثر من 10 بالمائة من إجمالي الناتج الوطني العراقي.

* قالت منظمة الشفافية العالمية المعنية بالكشف عن الفساد حول العالم في تقريرها السنوي الأخير لعام 2008 أن العراق يحتل المرتبة الثالثة في قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم.

* أعلنت هيئة النزاهة في العراق أنها تمكنت في18/5/2009 من تنفيذ أوامر إلقاء قبض بحق 33 متهما بقضايا فساد، في إطار سعي الهيئة لتنفيذ أوامر إلقاء قبض على 997 متهما بقضايا فساد لم تنفذ.

* جاء في تقرير لهيأة النزاهة أن 317 مرشحا قدموا خلال انتخابات المحافظات الأخيرة شهادات مزورة في طلباتهم، وأن مسئولا في وزارة الدفاع العراقية جمع عشرات الآلاف من الدولارات من خلال فرض مبلغ 500 دولار يدفعه كل مجند في الجيش العراقي.

* قال أعضاء في لجنة النزاهة التابعة لمجلس النواب العراقي، إن مستويات الفساد المالي والإداري العالية في العراق، سببها تدخل رئيس الوزراء السيد نوري المالكي في عملهم، ومنعه إحالة أي وزير سابق أو حالي للتحقيق في قضايا الفساد إلا بعد موافقته.

* كشف القاضي راضي الراضي الرئيس الأسبق لمفوضية النزاهة، أن 31 من أعضاء المفوضية قتلوا إضافة إلى 12 من اسر موظفي المفوضية، بينهم مساعده محمد عبدو سالف الذي أطلق عليه الرصاص هو وزوجته الحامل في شهرها السابع.

* رئيسان سابقان متقاعدان تناوبا على ترأس دروة واحدة للبرلمان، رئيسان اسلاميان، يوعظان الناس بالزهد وبتطبيق الشريعة ويقولان بان الاسلام هو الحل، رئيسان محالان على التقاعد هما محمود المشهداني وأياد السامرائي يتقاضى الواحد منهما 57,000,000 مليون دينار، وهو ما لا يتقاضاه اي رئيس لدولة عظمى في العالم.

* كشف النائب جواد الشويلي عن رواتب فلكية لمسؤولين:

- رئيس الجمهورية 000، 000، 82 مليون دينار

- نائبا الرئيس يستلم الواحد منهما 000، 000، 62 مليون دينار

- رئيس الوزراء (000، 000،65)مليون دينار

- حسين الشهرستاني يستلم (000، 000، 57) مليون دينار

- رئيس البرلمان (000، ، 33000) مليون دينار

- كل نائب برلماني يستلم مبلغ (20 000 000) مليون دينار

* من عام 2003 الى عام 2018 تسبب الفساد السياسي والمالي والاداري بسوء صرف أكثر من ترليون دولار أميركي، منها مدخولات جناها العراق قرابة ٨٠٠ مليار دولار.

- نعم، جميعنا فاسدون بمن فيهم أنا. لقد عرض عليّ أحدهم خمسة ملايين دولار لوقف التحقيق معه، أخذت المبلغ وظللنا مستمرين في مقاضاته.. أغلب الأسماء الكبيرة في البلاد مسؤولة عن سرقة كل ثروة العراق تقريبا، أشخاص في قمة هرم السلطة، سيقتلونني إذا لاحقتهم./مشعان الجبوري لمراسل صحيفة الغارديان مارتن شولوف.

- مشكلتنا الأكبر هي الجنود الوهميين؛ فهناك ما بين خمسمئة وستمئة مليون دولار تُدفع مرتبات شهرية لجنود لا وجود لهم"./هوشيار زيباري وزير المالية الأسبق - الغارديان.

- الفساد في العراق يقاس بالمليارات وليس بالمفرد.. وهو من فعل كبار المسؤولين والساسة ونواب الشعب./موسى فرج – نائب رئيس لجنة النزاهة سابقا.

- قال المتحدث الرسمي لمجلس القضاء الأعلى القاضي عبد الستار بيرقدار إن "المجلس قرر نقل دعوى رئيس مجلس محافظة البصرة المتهم صباح البزوني والمتعلقة بتهمة تقاضي الرشوة إلى محكمة جنايات الرصافة المختصة بقضايا هيئة النزاهة للنظر فيها وفق القانون بعد أن كانت أمام محكمة جنايات البصرة". / JAMC.

- مدير شركة التجهيزات الزراعية السابق (عصام جعفر عليوي) المحسوب على احدى القوى الاسلامية الشيعية المشاركة في الحكومة والبرلمان، اعترف للجنة النزاهة بأنه دفع مليار ونصف المليار دينار لنائب سابق لغرض تهريبه، وكشف عن فساد مسؤولين ورجال اعمال./(الشرقية 5 ايلول 2017).

- لديّ ملفات للفساد لو كشفتها لأنقلب عاليها سافلها. / تصريح موثق لرئيس الوزراء السابق السيد نوري المالكي.

- حاول بعض كبار المسؤولين العراقيين بقيادة رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي وبتشجيع من رجل الدين آية الله علي السيستاني شن حملة ضد الفساد، لكنهم فشلوا.واعلنت المرجعية (لقد تحدثنا كثيرا حتى بُحت أصواتنا، ورغم ذلك لم يستمع إلينا أحد).

* وفقا لتصريح رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي في البصرة بتاريخ (22 شباط 2018)، فانه تم صرف سبعة ترليونات دينار على مشاريع لم ينجز منها شيئا.

* وفقا لتقرير منظمة الشفافية الدولية (شباط 2018)فأنه تم سرقة مئة مليار دولار(الترليون يساوي واحد وامامه 12 صفرا، والمليار يساوي واحد وامامه تسعة اصفار).

*في (4/3/20239 اعلنت هيئة النزاهة في العراق ان القضاء امر باعتقال اربعة مسؤولين في حكومة مصطفى الكاظمي بتهمة (تسهيل الاستيلاء) على 2.5 مليار دولارا (بي بي سي و الجزيرة).ولا تزال المفاجآت تتكشف حول تفاصيل "سرقة القرن" التي هزت العراق اثر نهب المليارات من العائدات الضريبية في البلاد "العربية".

هذه ألأرقام والحقائق تكشف لنا حقيقة خطيرة يواجهها السيد محمد شياع السوداني هي ان الفاسدين اسسوا دولة عميقة لها اذرع في كل مؤسسات الدولة بما فيها البرلمان الذي يفترض فيه ان يكون ممثلا للشعب!

كل محاولات الاصلاح كانت.. فاشلة

ابرز تلك المحاولات هي أن الكتل السياسية المشاركة بحكومة الوحدة الوطنية اصدرت في عام 2014 (وثيقة الأتفاق السياسي) تضمنت بندا صريحا ينص على (محاربة الفساد المالي والاداري ومحاسبة المفسدين واجراء الاصلاحات اللازمة في الجهاز الاداري للدولة، واعتماد اسس وستراتيجيات جديدة بما في ذلك مراجعة واقعية لمنظومة مكافحة الفساد وتجاوز الثغرات القائمة).. فضلا عن ان البرنامج الحكومي تضمن في (خامسا: الاصلاح الاداري والمالي للمؤسسات الحكومية) فقرة خاصة بمكافحة الفساد تضمنت اربع نقاط بينها: (انجاز الستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد (2014 ـ 2017) بالاشتراك مع الاجهزة المعنية، ودعم استقلالية ومهنية الاجهزة المعنية بمكافحة الفساد واجهزة انفاذ القوانين).. ما يعني ان على اصحاب وجهة النظر هذه ان يراقبوا اداء الحكومة في تنفيذ برنامجها الخاص بمكافحة الفساد بانواعه الثلاثة:المالي والاداري والسياسي، ثم يقرروا ويحكموا.

وما حصل ان هذه الوثيقة التي وصفت حينها بأنها (وثيقة شرف) قد فشلت .. هي والتي قبلها والتي بعدها، لسبب حدده بالصريح رئيس الوزراء الأسبق الدكتور حيدر العبادي يوم وعد بضرب الفاسدين بيد من حديد (حتى لو يقتلوني) واضطر الى ان يعلن بخطاب له بجامعة بغداد في 27 /11/ 2017 الى القول بأن" الفساد .. مافيا، يملكون القوة والمال والفضائيات.. " ما يعني ان الحال نفسه يواجهه الآن السيد محمد شياع السوداني، وأن أية محاولة ستفشل في مواجهة اشرس المعارك واعقدها ما لم تتضمن استراتيجية علمية يعدها اختصاصيون ليس فقط خبراء في مكافحة الفساد بل واكاديميون ايضا في القانون وعلم النفس والاجتماع السياسي.

يتبع في الحلقة الثالثة

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

في أتون الحرب الأوكرانية التي طال أمدها لا يمكن تشخيص الأحداث مهما صغرت إلا بالعدسة المحدبة التي تضخم الأشياء وتبين خطورتها على المشهد العالمي برمته دون مبالغة.. على نحو الاستخفاف بالطرف الأقوى في هذه الحرب التي اثبتت قدرة روسيا على التشبث بأوراق اللعب مقابل ما يتكبده الطرف الغربي الأوكراني من أوراق على كافة الصعد.. وكأن قادته بمن فيهم أمريكا يرون في شخصية الرئيس فلادمير بوتين "الجوكر الروسي" والعقبة الكأداء أمام الاستراتيجية الغربية الرامية إلى هزيمة روسيا وتفكيكها.

فكيف إذن يُفسَرُ الهجومُ بمسيرتين على الكرملين صباح الأربعاء الماضي، بغير أنه تجاوز ٌسافرٌ وكارثيٌّ لكل المحاذير التي اتفق عليها الناتو مع روسيا بلغة الإشارة والإيماء، في تفاهمات غير رسمية بين الطرفين، وفق قواعد اشتباك حساسة وضع الروسُ شروطَها، بعد فشل كل الضغوطات الغربية عليهم والتلويح بالخيار النووى إذا ما تعرض الاتحاد الروسي للتفكيك، بفعل قلب الموازين لصالح أوكرانيا، سواء كان ذلك بدعم أوكرانيا بالأسلحة بعيدة المدى، وإعطاء الضوء الأخضر لاستخدامها أو من خلال بعض التجاوزات غير المحسوبة، كاستهداف رأس القيادة الروسية بنيّة تحفيز الشعب الروسي للانقلاب على "الجوكر" المؤثر بوتين الذي تجتمع عليه كلُّ الرهانات.

إذن فالقيادة الروسية إزاء ذلك وُضِعَتْ على محك الاختبار إذا ما ثبت فعلياً بأن السيناريو الغربي بات يستهدف رأس القيادة الروسية، وهذا لعب بالنار ومحاولة يائسة لتغيير قواعد الاشتباك.

والسؤال الملح هو: كيف حدث ذلك الاختراق الذي نجم عنه وصول المسيّرتين إلى هدفهما -تحديداً- فوق قبة الكرملين، بوجود عَلَمِ روسيا الاتحادية مرفرفاً فوقها.. على اعتبار أن وجود العلم فوق السارية يُعَدُّ إشارةً أمنية متفق عليها، تؤكد على وجود بوتين في اجتماع تنسيقي عالي المستوى تحت القبة التي شاهد العالم تعطيل وانفجار إحدى المسيرتين فوقها، ربما باستخدام الموجات الرادارية كإحدى التفسيرات الفنية غير الرسمية.

وشاهد العالم عدداً من مقاطع الفيديو التي اظهرت طائرة مجهولة واحدة من دون طيار كانت تحلق باتجاه الكرملين، ثم انفجرت دون إصابتِها الهدف. أيضاً إظهار نشوب حريق مع تصاعد دخان في جانب آخر من مبنى الكرملين، ما يؤكد إصابة المسيّرة الثانية لهدفها.

وعليه فقد قال المتحدث الرسمي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن بوتين كان موجودا بمقر إقامته بضواحي موسكو في "نوفا أوغاريوفا"، ولم يصب بأي أذى ولم يتغير جدول أعماله. واعتبرت الرئاسة الروسية الهجوم محاولة فاشلة، لاغتيال بوتين.

ومن الطبيعي أن يتهم الكرملين مبدئياً أوكرانيا بالوقوف وراء الحادث، كما هو دأبها على نحو انفجار جسر القرم العام الماضي مع تنامي الحديث الإعلامي حول إمكانية شن أوكرانيا هجوماً مباغتاً على أهداف مختلفة داخل روسيا باستخدام المسيّرات؛ لكن أحدًا لم يتحدث عن إمكانية وصولها إلى المقر الرئاسي.

لكن البعض يتهم أمريكا بالوقوف وراء الحادث مباشرة كسابقتها في تفجيرات (نورد ستريم 1،2 ) تحت بحر البلطيق، وربما من خلال إناطة المهمة بالقيادة الأوكرانية.

إلّا أن زلينسكي رفض الاتهامات الروسية والتي وصفها الأمريكيون -من جهتهم- على لسان أنتوني بلينكن بأنها مبهمة فلا يستطيعوا تأكيدها أو نفيها.

إذن هل كانت عملية الاختراق جزءاً من لعبة أمنية روسية بغية استثارة الشعب الروسي لهدف تعبوي طارئ! كما تشيع بعض الصحف الغربية! بذريعة أنه من الصعب اختراق المستويات الدفاعية الروسية الثلاثة التي توفر الحماية للعاصمة موسكو كما سنوضح تالياً، وبوسع القارئ استنباط نتيجتين من خلال البحث في المستويات الدفاعية الروسية:

الأولى التوافق مع الرواية الغربية غير الرسمية في أن العملية تعتبر جزءاً من عملية روسية استخبارية لغايات تعبوية

والثانية أن تكون عملية استخبارية أوكرانية بتورط أمريكي بغية التخلص من الجوكر الروسي "بوتين" وبالتالي خلط الأوراق وتحفيز الشعب للانقلاب على رئيسهم.

فاختراق أجواء موسكو أشبه بالمستحيل، فما بالكم والعملية نفذت فوق قبة الكرملين بوجود العلم فوق ساريته تزامناً مع اجتماع مفترض للقيادة الروسية رغن نفي الكرملين!

ولفهم ذلك سنعرج بكم إلى المستويات الدفاعية التي تضمن أمن موسكو:

- المستوى الدفاعي الأول وهو مسخر ضد الأهداف المعادية الأخطر والباهظة التكاليف وتضم منظومة صواريخ S-500، إلى جانب منظومتي (S-300 S400).

ووفق الخبير العسكري يوري كنوتوف، فأن المنظومة الصاروخية الروسية الجديدة S-500 يمكنها إصابة الأهداف حتى في الفضاء. وهي عبارة عن مجمع روبوت، مزود بذكاء اصطناعي يمكنه ذاتياً تحديد وتمييز الأهداف إن كانت صديقة أم عدوة، واختيار الهدف الأخطر ونوع الصاروخ وإطلاقه، وهي مُعَدَّةٌ لإسقاط الأهداف الأكثر قيمة مثل: طائرات ف35، الأقمار الإصطناعية، أو صواريخ فرط صوتية.

بينما يمكن للنظامين الآخريْن استهداف ما دون هذا المستوى من الأهداف من حيث التقنيات والتكلفة كطائرات F16.

- المستوى الثاني وهو مسخر في الغالب للأهداف متوسطة المدى، باستخدام منظومة صواريخ بوك.

وهو نظام صاروخي ذاتي الدفع متوسط المدى، ملحق به نظام صواريخ أرض-جو. ولديه القدرة على مهاجمة أهداف أرضية؛ لصّد ومواجهة صواريخ كروز، والقنابل الذكية، والطائرات ذات الأجنحة الثابتة والدوارة، والطائرات بدون طيار إذا تم رصدها.

- المستوى الثالث فيضم منظومة بانستير S1 التي تسخر لكل الأهداف ذات التحليق الهابط خارج نطاق الرادارات الذكية.

النظام بوسعه إطلاق النار في حالة الحركة والتوقف وبإمكانه متابعة 20 هدفاً في وقت واحد وإطلاق الصواريخ على 4 منها. وتصل سرعة الصاروخ إلى 1300 م/ث.

فهو قادر على مجابهة جميع أنواع التهديدات المعادية سواء كانت طائرات مقاتلة، مروحيات، طائرات دون طيار -كالمسيَّرتين التيْن استهدفتا الكرملين صباح الأربعاء الماضي- أو صواريخ كروز، وذلك على مديات تصل إلى 20 كم وارتفاع حتى 15 كم.

فكيف إذن تخترق مسيَّرتان كل هذه المستويات الدفاعية! وخاصة نظام بانستير S1 الصاروخي القادر على رصد وملاحقة مستويات التحليق المنخفضة! فلا مفر! فاين يكمن السر!

وفي كل الأحوال فالعملية تتضمن العديد من الرسائل لعل أهمها أن التحالف الأوكراني الغربي ماضٍ حتى تحقيق الحد الأدنى من أهدافه ولو بالمفاوضات المشروطة أو بإلحاق الهزيمة العسكرية بروسيا.

ورسالة أخرى لقادة أوروبا في أن أمريكا تقود القارة العجوز إلى الهاوية ورغم ذلك يقفون إزاء إرادة العم سام عاجزين.

وهذا يفسر أيضاً حالة التذمر التي تعيشها أوروبا وخاصة ألمانيا وفرنسا والمجر، من خلال ما دعا إليه فيكتور أوروبان، رئيس وزراء المجر، الخميس الماضي، موجهًا حديثه إلى ترامب في إدانة مباشرة لجو بايدن نفسه:

"إرجع يا سيادة الرئيس، إجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى واجلب لنا السلام"، بحسب وكالة "أسوشيتد برس".

في المحصلة فإن التداعيات لن تتوقف عند تعهد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحافي عقب اجتماع شنغهاي للتعاون المنعقد في الهند.. بأن روسيا سترد بإجراءات ملموسة على الهجوم الأوكراني ضد الكرملين. إذْ تبقى الرهانات مفتوحة على المجهول.

فهل سَيُغَيِّرُ حادثُ الهجوم على الكرملين قواعدَ الاشتباكِ في حرب طاحنة لم يشهدْ لها العالم منذ بداية هذا القرن مثيلا.

***

بقلم بكر السباتين

6 مايو 2023

لقد عمد قادة الأحزاب، الشيعية والسنية والكردية، منذ استيلائهم على السلطة بطريقة يشوبها الكثير من العيوب القانونية ودستور غير شرعي وضعته أيادي غير عراقية دون استفتاء شعبي عام. إلى التظليل وإشاعة الفوضى السياسية الخلاقة بشكل منظم جعلت المواطن لأن يكون لفترة طويلة مضطرا للقبول بالأمر الواقع، أقرب لأن يوصف بعبد لا سيد نفسه. يحق له أن يقرر مصيره أو يرفض حكما مستبدا يسلبه مستقبله وقيم الحياة بطريقة تتعارض مع المفاهيم الإنسانية والأخلاقية. بل تميز الوضع مع الزمن وفقا لنظرية "التوازن الفعال" التي يتعكز عليها أصحاب السلطة بثلاثة أشكال سلبية خطيرة "الطغيان وحكم الأقلية والطائفية" بحالة أشبه بجحيم الدنيا قبل الآخرة.

وبات واضحا بأن الفوضى السياسية في العراق هي نتيجة ممارسات متأصلة في عقول طغمة مافيوية فاسدة لا تفهم في السياسة شيئا، وصلت إلى دفة الحكم في لحظة لم تتوقعها، وان الأحزاب التي تنتمي إليها ما هي إلا شركات عصبوية. بيد أن النظام الطائفي الذي ولد من رحم العملية السياسية الفاشلة التي أسسها المحتل الأمريكي، لم يأت لحد اللحظة بمجلس نيابي، يشهد له بالنزاهة والإخلاص والمهنية والروح الوطنية. بل يخضع لإرادة طغمة همها الاستئثار بالمقعد البرلماني بأي ثمن. لتستطيع ممارسة الاحتيال المنظم واستباحة القانون كما تشاء واستغلاله لاتهام أي حراك يدعو للإصلاح بالخيانة. وفيما يتعلق الأمر بتحقيق العدالة وحكم القانون والحفاظ على المصالح الحصرية والعامة للدولة والمجتمع، فطالما تتمرد على كل هذه القيّم بشكل يتعارض مع مبادئ النزاهة وأداء القسم.

في فلسفة السياسة لا يهم بأي يد تكون السلطة ما دام الوصول للحكم بطريقة شرعية وفق قانون انتخاب عصري ودستور حضاري يضمن حقوق المواطنين وصيانة كرامتهم دون تمييز، كما ويلامس مصالح البلد العليا. فيما تتضاءل القوة المفرطة ويحترم مبدأ سيادة العدل والمساواة بحق المواطنين في أي ناحية وتحت أي ظرف كان... إن ما حدث ويحدث خلال التظاهرات من صدامات دامية يذهب ضحيتها المئات من القتلى والجرحى، في بلد كالعراق، لم تهز قطعاً ضمائر المسؤولين في إدارة الدولة، بل لم يتحر أحداً عن مَن قام مطاع بممارسة تلك الجرائم، فتركوا انطباعا وكأنهم سعداء لسيل الدماء.

في ظل وضع سياسي معقد كالذي يمر به العراق منذ أكثر من عشرين عاما حيث لم يحصل المواطن على أبسط حقوقه. خرج المتظاهرون للشوارع احتجاجا على سوء الأوضاع وانعدام العدل وغياب دولة المواطنة والسلم الأهلي وحرية التعبير، دون جدوى. وعلى ما يبدو ليس هناك سبيلا أمام المحتجين على سوء إدارة الدولة والفساد، إلا الاستمرار بالتظاهر، الوسيلة الوحيدة لانتزاع الحقوق من يد طغمة لا تفهم إلا لغة العنف والتسويف. وعليهم أن لا يرتعشون أمام سكين الجزار، وأن يدركوا بأن، لا السوداني، ولا غيره من يكون في السلطة، قادر على الإصلاح أو التغيير، لأن الجميع متورطون ويتبادلون الأدوار لأجل مصالحهم المصيرية.. ولابد من التذكير: بأن الواقع السياسي للأحزاب والقوى الطائفية عندما ترتكب الخطايا، الجور والفساد وأعمال الخبث والقهر والدماء، لا تثنيها أي قيم، بل لا تجد أسهل من ممارسة الاتهام تحت ذريعة: من يقف ضدنا فهو متآمر!!.

إن كسر حاجز الخوف ومواجهة نمط حكم غير تقليدي وعقد سياسي سيئ في بلد تحكمه رؤوس خاوية لا هم لها إلا مصالحها. ومجلس نواب ليس لديه القدرة لأن يكون أساسا لبناء الدولة وحل مشاكلها الأساسية وإعادة إنتاجها. يقتضي، إنتاج قوى جديدة على المسرح السياسي من خبراء ومستشارين ضليعين في علم السياسة والاقتصاد والقانون، همهم في الدرجة الأساس مصالح الشعب والوطن وليس فئة أو حزبا أو طائفة. يكون بمقدورها تغيير اتجاه البوصلة السياسية ومواجهة مَن لا للمجتمع العراقي ثقة به بكل صدق وأمانة.

وإذا كانت مواقف بعض القوى والأحزاب السياسية العراقية المعارضة لنظام الحكم، كما تستبينه تجارب التحالفات السياسية خلال العقود الستة الماضية "متباينة أيديولوجيا"، أسفرت عن فشل في سلوك طريق التغيير والإصلاح لمقتضيات سياسية وحزبية ومصالح شخصية. فأن لنتائج التباين والإختلاف في المضمون والتداعيات في مراحل حاسمة عدة، أضرت بالبلد ومصالح شعبه. من هنا، لعل على العراقيين، والمقصود هنا "الأغلبية الصامتة"، ضبط إيقاع موقفهم على نحو صريح ومسؤول وجمعي. وأن يقرروا فيما إذا يريدون حقاً الإستمرار على هذا النهج وترك الأوضاع تسير على هذا النحو حتى يخسر الجميع الأرض التي يعيشون وينعمون فيها. أم أنهم على استعداد للتضحية لأجل إنقاذ ما تبقى من لمسات انتماء للعراق وتربته.. فالحكمة بالنوايا والمقدر والإصرار، لا البحث عن البديل بالتمني وعض الأصابع .

***

عصام الياسري

في حديث لجوزيب بوريل الممثل السامي للشؤون الخارجية بالاتحاد الأوربي يذكر "إن أوروبا حديقة وبقية العالم أدغال، لذا فمن الضرورة أن يقوم أصحاب الحديقة بحمايتها من زحف الأدغال".

رغم التجاذبات والخلافات التي حدثت داخل أوساط القادة السياسيين في الولايات المتحدة حول طبيعة الثورة الإيرانية وما رافقتها من أحداث قبل وبعد وقوعها، وعن الكيفيات الموجبة للتعامل معها كمنجز أربك بوصلة الكثير من قواعد العمل والتراكيب السياسية والاقتصادية، ليس فقط على مستوى بلد مهم ومحوري مثل إيران، وإنما في عموم الشرق، إن لم يكن العالم.

تلك الثورة ببرنامجها المذهبي ومعاييرها الدينية، قدمت صورة كانت تناسب مزاج ورغبات بعض الساسة الأمريكان، حيث اعتبرت في أيامها الأولى، جزءاً مهما يتواءم ونظرية القوس أو الحزام الإسلامي الذي يجب أن يُفعل ليحيط الاتحاد السوفيتي من الجنوب، وعندها يصبح عاملا رئيسيا في تسريع تفكك أو سقوط الاتحاد السوفيتي. تلك الرؤية أو النظرية السياسية كان قد وضع رؤاها البروفيسور زبيغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي على عهد الرئيس جيمي كارتر.وقد بنى رؤيته هذه على قاعدة وجود الاختلافات الثقافية والعرقية، ولكن الأهم ويتقدم كل ذلك استخدام الدين كمحرض في مواجهة الشيوعية وسلطة السوفياتات. فهناك وحسب المعلومات الاستخباراتية، توجد أرضية مناسبة للتحريض الديني بين أوساط شعوب الحزام الإسلامي الممتد جنوبي الاتحاد السوفيتي والمتكون من الجمهوريات الآسيوية ذات الغالبية الإسلامية وهي أذربيجان، أوزبكستان، طاجيكستان، تركمانستان، كازاخستان وقيرغيزستان. وهذا العامل التحريضي كان مقدرا له في حينه، أن يلعب الدور الأكثر إيلاما لسلطة الاتحاد السوفيتي.

ما حدث في إيران بعد سيطرة الأمام الخميني على مقاليد السلطة غير من طبيعة التخندقات وضرب عمق الرؤية الأمريكية للأحداث. فتغيرات دراماتيكية حدثت مع انتصار الثورة الإيرانية عام 1979 وتصاعدت معها نبرة الخطاب الديني المتشدد عند رجال الثورة، وظهرت فكرة جادة تدعو لتصديرها بمفاهيمها المذهبية إلى باقي شعوب المنطقة، ورافق كل ذلك ارتفاع وتيرة التحريض ضد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين. وبات معه رجال الدين في إيران يشكلون خطرا حقيقيا على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، وبالذات في منطقة الشرق الأوسط والخليج منه، لذا دفعت تلك البلدان حليفها صدام حسين ليقوم بهجومه العسكري انتقاما من موقف إيران العدائي للغرب وسياساتها العدوانية ضد إسرائيل، وسميت تلك الحرب المجنونة التي دامت أكثر من ثماني سنوات بحرب الخليج الأولى، خسر فيها الجانبان ما يقارب المليونين من البشر بين قتيل وجريح ومعوق ومفقود.

وقائع حرب الخليج الأولى بمجمل تداعياتها، أثارت مواقف ملتبسة وخلقت نعرات وتخندقات خطيرة في المنطقة، تصاعدت معها حدة الخلافات المذهبية وظهرت بمواجهة التطرف الإيراني ومحاولات تصدير مفاهيم الثورة وأفكار الأمام الخميني، ما يقابلها من ردود فعل موازية ومقابلة لها، تمثلت بتصاعد نبرة التيارات السلفية وتنامي مظاهر التدين السني، وارتفاع أنجم الأخوان المسلمين وأتباع المذهب الوهابي، ورافق ردة الفعل هذه رفع شعار الإسلام هو الحل، أي الرجوع إلى فطرة الدين وسيرة السلف الأول من الخلفاء الراشدين والصحابة، والسير وفق تعاليم الفقهاء من مثل ابن تيمية ومحمد عبد الوهاب وحسن البنا وغيرهم.

دائما ما شكل الصراع المذهبي أحد أكثر العوامل تعقيدا ولبساً في الشرق الأوسط، ولا ينحصر هذا الصراع بين أوساط المذاهب والملل الإسلامية، بل يمتد ليشمل باقي الديانات الأخرى، ونجد هذا الخلاف والخصومة والطعون وحتى قتل الآخر المخالف للعقيدة، موجود أيضا بين أوساط الطائفة الواحدة.

ففي المجتمعات الشرقية يقحم الدين في كل شيء ومن أجل أي شيء. فالدين يمثل العامل الحاسم في الكثير من الحراك المجتمعي. وبقدر ما يحمل من تناقضات ويخضع للتأويل والاجتهاد، نجده يدخل بضراوة في باب القدرة على شحن الخصومات وتغذية الفرقة والاختلاف، بما تفرضه طبيعة التزمت والتخندق والمغالاة، الذي تولده رؤية الطائفة لمذهبها، كحقيقة وحيدة مسلم بها وغير قابلة للنقاش، وان ما حولها من مذاهب وفرق، يشكلون بالأساس مجاميع مختلقة ومختلفة، تعمل بالضد منها، وتسعى لتدميرها ومعتقدها. وتشارك في تلك الجهود لتصعيد الشحن الطائفي، وسائل إعلام ومؤسسات سلطوية وسياسية ودينية، عبر التحريض والحض على مواجهة وتخوين الفكر الآخر، والدفع بكراهيته وتسفيه مفاهيمه ورؤاه مهما كانت طبيعتها.

وسائل تخوين الآخر واستعداء الطوائف على بعضها والدعوة للكراهية وقتل أو عزل مخالفي الرأي، تمتد جذورها عميقا في تأريخ المنطقة، وتستقر في وعي الكثير من الجماعات، وتكون عند بعض المجاميع من المتطرفين، بديهيات ومسلمات لا مبرر في الغالب لمناقشتها أو التمويه عليها أو الخجل منها، ومن الصعوبة بمكان أن تخرج هذه الجماعات عن هذه القوالب والقواعد والأعراف. فالعديد من ثقافة الإفتاء والاجتهاد تقدم وبشكل ناجز ما تحتاج له تلك المجتمعات من ذرائع لرفع حدة الحقد المذهبي والخصومة مع الآخرين من غير أبناء الملة، والجميع يتخندقون بطائفتهم وعائدية مقولة الفرقة الناجية الوحيدة، والباقون ذاهبون إلى جهنم، ليصبح الخطاب الطائفي خطابا شعبويا تعبويا يتغلغل في روح ووجدان الكثير من بؤساء الطوائف المتناحرة.

تلك الحقائق على الأرض لم تكن لتغيب عن بال العاملين في حقول الدراسات الستراتيجية لبعض الأقطاب من الرأسماليين والصهيونية العالمية، ودائما ما كانت محورا لبحوث مطولة، وخلال فترات زمنية مختلفة، وظهرت للعلن الكثير من تلك الرؤى والبحوث، وبالذات فيما يخص طبيعة الصراع المذهبي في عموم الشرق، والكيفيات التي تدير المؤسسات الدينية صراعاتها بالضد من خصومها المفترضين. كذلك اجتهدت تلك الدراسات في البحث عن سير الشخصيات التي تستطيع لعب الأدوار الحاسمة في رفع حدة الصراع وتغذيته، أو العكس، كبحه ووأده، ووضعت في هذا المجال دراسات كثيرة، حول حراك المجتمعات بهيكليتها وتخندقاتها المذهبية وردود فعلها تجاه مجاوريها، خصوما كانوا أو مناصرين، هذه الدراسات قدمت خدمة كبيرة للسياسيين والعسكريين في المعسكر الرأسمالي ساعدتهم على وضع قواعد عمل محددة، تستطيع التأثير وبقوة في مفاصل الحراك المجتمعي، وتلعب وبشكل ناجز أدوار حاسمة لحرف الصراع نحو مواقع مختارة تصب في النهاية لصالح الأهداف العليا ومطامع الدول الرأسمالية والصهيونية.

فالصراع المذهبي دائما ما كان مقدمة مهمة وعاملا حاسما في مشروع تفكيك المنطقة وإعادة تركيب هياكلها السياسية وحتى الجغرافية. ولأهمية وطبيعة المشروع الستراتيجية، كان من الموجب لمعاهد الدراسات الغربية التعمق في تحليل العوامل التي تتحكم بحركة الطوائف والملل، والعمل على استغلال الفطرة الدينية والصراع المذهبي لبناء خططها، اعتمادا على مقولة الاستشراق الغربية، أن شعوبا تمارس العزل الذاتي وتدور دون فكاك في فلك الخصومات المذهبية، وثقافتها تستمد شرعيتها من مقولات رجال الدين، وتعشق التعلق بالماضي والتعكز على ما فعله السلف، وتستطيب لغة التقية والتملق وقلب الحقائق دون تفاعل مع المستقبل، فهي وفي كل الأحوال غير مؤهلة تربويا وفكريا لتكون مجتمعات متحضرة أو حتى تسعى للتحضر، ومأزقها الثقافي والحضاري يجعلها غير قادرة على التكييف مع مستحقات العصر وثقافة التسامح والديمقراطية والحريات المدنية، لذا فمن المناسب أن تخضع لنمط من الإجراءات التي تفسح المجال للرأسمال العالمي لاستغلال وتسخير موارد بلدانها الطبيعية، وقبل هذا فرض نظم وهياكل سياسية تستند في إدارة دولها على تغليب خطاب ديني يحفز ويصعد الصراعات المذهبية داخليا وخارجيا.

ومن هذا وعلى وفق رؤية فاحصة للوقائع على الأرض، عملت الدوائر المخابراتية والعسكرية الغربية على تقديم يد العون والمساعدة في إبعاد الموديل القديم الذي مثلته الدكتاتوريات لإحلال بديل آخر يعتمد تغذية صراعات مجتمعية وخصومات مذهبية وقومية بين مكونات الشعب الواحد أو بين دول الإقليم. وهذا ما أفرزته مرحلة ما بعد انتفاضات الربيع العربي، حين قلبت الطاولة على صناع الانتفاضة الحقيقيين ووضعت لتلك البلدان والمنطقة خارطة طريق أعدت لبناء شرق أوسط جديد، يكون المشهد فيه صعود قوى جل ثقافتها تتمثل في تذكية الصراع المذهبي مع الآخرين.عندها يكون الصراع الديني والمذهبي العامل المناسب والقوة الأساسية لتدمير شعوب المنطقة لنفسها بنفسها ووضعها في دوامة لا تستطيع الانعتاق منها، وفي الأخير تنحدر نحو التفتت والتشظي إلى كانتونات يمكن إخضاعها والسيطرة عليها كليا.

***

فرات المحسن

استيقظ الشعب السوداني بالخرطوم صبيحة يوم 15 ابريل باندلاع حرب بين قوات الجيش الوطني السوداني، وقوات الدعم السريع، التي انشأها الرئيس الاسبق البشير عام 2013، للقتال في دارفور المعتمدة على مليشيات الجنجويد، ويقودها حميدتي، لم يكن أمرًا مستغربا بوجهة نظر المحللين السياسيين، فقد توقعوا حدوثه، بل انهم توقعوا ايضا تطور الاحداث الى وقوع حرب أهلية ثالثة بالسودان .

فالسودان يعيش فوق صفيح ساخن منذ فتحت القوى العظمى عينيها على مساحتها الشاسعة وخيراتها من الارض الزراعية الخصبة والذهب والمعادن وموقعها الاستراتيجي على البحر الاحمر وباب المندب، وكانت اولى نجاحات القوى العظمى بتمزيق السوادان انفصال الجنوب على الشمال واستقلاله .

واليوم، فان ما يجري هو استكمال لدائرة تقزيم السودان وتقسيمه بالحرب الاهلية مجددا عبر الصراع على السلطة بين القوتين العسكريتين فيها، وكل طرف منهم له اجندته ومصالحه الخاصة وعلاقاته بالقوى الدولية والاقليمية، والتي لكل منها مصالحها الخاصة في الاستفادة ونهب خيرات السودان، بينما امن واستقرار الشعب السوداني علي ارضه بات على المحك، بدليل نزوح الكثير من السودانيين الى مصر ودول الجوار بعد اندلاع الحرب الاخيرة بالخرطوم .

ورغم التحالف بين حميدتي والبرهان للإطاحة بنظام حكم عمر البشير عام 2019، وتحالفهما مجددا عام 2021 ضد التيار المدني ومنع الأحزاب من الاستيلاء على السلطة فانهما سرعان ما اختلفت مصالحهما لطمع حميدتي في تولي منصب وزير الدفاع في الحكومة الجديدة، ومن ثم رفض التوقيع على الاتفاق الإطاري الخاص بترتيبات استعادة الحكم المدني والديمقراطية لأنه يقلص من سلطاته بالبلاد .

بيد أن الصراع العسكري الدائر حاليا بالسودان بين القوتين العسكريتين لا ينطلق فقط من الرغبة في الاستئثار بالحكم السياسي والنفوذ العسكري، لكن الاهم هو السيطرة على خيرات السودان من ذهب ونفط والنحاس واليورانيوم وغيرها، مما جعل السودان مطمعا لقوى دولية واقلمية  تسعى للاستفادة من خيراتها وكل قوى منها تتحالف من احدى القيادتين العسكريتين .

وقد وجدنا بعض الاطراف العربية تدعم حميدتي للفوز بأكبر حصة من التجارة السودانية وامتيازات الموانئ وأطراف عربية أخرى تدعم البرهان لاستعادة تيار الاخوان لصدارة المشهد بالبلاد مجددا، بينما يصبح الشعب السوداني وحده الخاسر في صراعات المكاسب السياسية والمادية للمتصارعين على السلطة .

ولكني ارى الخسائر في هذا الصراع أكبر بكثير من خسارة الشعب السوداني نفسه، إذا تخسر مصر كثيرا من تمزق السوادان فهو ظهيرها، بل ان الهدف الاكبر من تمزيق السودان هو مصر، فاستمرار هذه الحرب يعني انشغال السودان بها عن سرعة التعاون مع مصر لوقف المليء الرابع لسد النهضة سد الخراب الذي يعطش ويجوع الشعب المصري وايضا السوداني .

وللأسف فان دائرة السوء التي بدأت بالعراق بتدمير قواها الاقتصادية والسياسية والعسكرية وانتقال التمزق الى سوريا وهما أكبر القوى العربية، فان الغنيمة الكبرى هي مصر، فاذا فلت زمام الامر ـ لا قدر الله ـ وانتقل الانفلات الامني والسياسي الى دول الجوار، فان العقد سينفرط ـ لا محالة ـ ويشمل باقي الدول العربية بما فيها بعض دول الخليج وبعض الدول العربية التي يدعم بعضها طرفي النزاع بالسودان .

فالكارثة ستعم باقي الدول العربية الى هلاكها جميعا، خاصة وان اسرائيل تقف خلف الستار تحرك الاحداث في اثيوبيا والسودان بطرق مختلفة، وكل المؤامرات التي تحاك بالسودان هي جزء اصيل من مخططات سايكس بيكو الجديدة التي يراد بها تنفيذ مخطط الشرق الاوسط الجديد لإعادة تقسيم دولنا العربية الى دويلات مفتتة لا طائل منها .

ولا شك ايضا ان الاحتراب السوداني الجاري هو جزء من حروب الوكالة الجارية في إطار الحرب العالمية الثالثة التي انطلقت بين روسيا وأوكرانيا،  كبدت شعوب ودول العالم خسائر اقتصادية فادحة وأدت الى انهيار البنوك العالمية

فالدول الغربية خاصة أمريكا وبريطانيا تخشيان من امكانية إنشاء قاعدة روسية بأم درمان على البحر الأحمر، وهو ما لا يعارضه قادة جيش السودان من ثم فان مصلحة الغرب تكمن في وحدة الجيش السوادني للحيلولة دون اقامة قاعدة عسكرية بأم درمان  .

والخلاصة ان السودان يواجه مؤامرة دولية تتورط فيها العديد من الاطراف الدولية والعربية والاقليمية لدفعها الى الحرب الأهلية لتقسيم السودان، والبقية تأتي وهذا يعني ان الوجود العربي نفسه بات مهددا، في الوقت التي تقف فيه جامعة الدول العربية كعادتها عاجزة عن التدخل وتكتفي ببيانات هزيلة من شأن القلق والانزعاج للاحتراب السوداني وعجبي !!!!

***

بقلم: سارة طالب السهيل

تتغير المسوغات الدلالية من حيث الظاهر حول ما يتعلق بالفساد، إلا انها في المضمون والمدلول تتفق وفق سياقات متناغمة ومتناظرة في بعض الأحيان، وغالبيتها تؤيد أن الفساد هو السبب الرئيسي للتفسخ الاجتماعي والانحلال والابتعاد عن القيم الإنسانية التي تعطي الانسان هويته، واختلافه عن باقي المخلوقات، فقد جاء تعريف الفساد من حيث اللغة: على انه ضد الصلاح، أفسد الشيء أي أساء استعماله، فسَدَ الرجلُ: جانب الصواب، عكسه صلَح، وفسَدَ الحالُ أو الأمرُ أو الشَّيءُ: اضطرب، خرِب، أصابه الخلل (أحمد مختار عبد الحميد عمر معجم اللغة العربية المعاصرة، فسد"2/1634)، اما مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فقد عرف الفساد على انه، التّلف والعطب وَالِاضْطِرَاب والخلل والجدب والقحط، (المعجم الوسيط، 2/688)، بينما عرفت معاجم أخرى لغوية الفساد بانه تحول الشيء من حالته الطبيعية الى حالة متفسخة (عماد صلاح عبدالرزاق، الفساد والإصلاح، ص32)، كما عرفه معجم اوكسفورد على انه انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة.

أما تعريف الفساد اصطلاحاً فقد تعددت المصادر التي تناولت الفساد، وكانت النظرة اليه ومحاولة تعريفه من الباحثين تتأثر بالمنظور الذي ينطلق منه الراغب في تعريفه، وبتعدد الاشكال التي يتخذها وتعدد المجالات التي يمكن ان ينتشر فيها، فعند الفقهاء أتى الفساد بمعنى بطلان العمل وعدم ترتب آثاره عليه، فالفساد اعظم من الظلم، لأن الظلم نقص: فإن من سرق مال الغير فقد نقص حق الغير، والفساد يقع على ذلك وعلى الابتداع واللهو واللعب (الكفوي، الكليات، ص692)، وعند القانونيين: هو خروج عن القانون والنظام (عدم الالتزام بهما) أو استغلال غيابهما من أجل تحقيق مصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية للفرد أو لجماعة معينة، فهو سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام تطلعا إلى تحقيق مكاسب خاصة مادية أو معنوية. وهناك اتفاق دولي على تعريف الفساد كما حددته "منظمة الشفافية الدولية" بأنه " كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعته "، إساءة استخدام السلطة الرسمية الممنوحة له سواء في مجال المال العام أو النفوذ أو التهاون في تطبيق النظام أو المحاباة وكل ما يضر بالمصلحة العامة وتعظيم المصلحة الشخصية (آمنة محمد علي، الدور الرقابي للنساء في مجلس النواب العراقي واثره في مكافحة الفساد، المجلة السياسية والدولية، ص939)، وعليه يمكننا أن نعرف الفساد بصفة عامة على أنه: خلل يعتري الفعل يوقع الضرر بالنفس أو بالغير، (امامة عماد حماشة، بيان مفهوم الفساد في سياق الآيات القرآنية والاحاديث النبوية وانواعه واسبابه، مجلة الجامعة للدراسات الإسلامية، ص769).

وبعيداً عن السياقات اللغوية والاصطلاحية والفقهية والقانونية للفساد، نجدنا أمام صور هي في الواقع تعاريف مباشرة للفساد، تعاريف تنم عن الفعل سواء السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وذلك من خلال رصد الواقع العياني الذي نعيشه وفق معايير الاجتماع، أو بعبارة ادق وفق المدلول السوسيولوجي، فما نجده من معطيات وافعال تصدر عن بعض الفئات ضمن الاطار العام للمجتمع لاسيما السلطة وارباب السلطة، تُعد في كينونتها المفهوم الحقيقي والصحيح لكل أنواع الفساد، حيث نلامس من تبعيات سلوكياتهم على المستويين (الفعل -القول )، انحلالاً واضحاً وابتعاداً سافراً عن الاخلاقيات الإنسانية، لاسيما فيما يتعلق بالنزاهة، والأمانة، ضمن الأطر العامة والخاصة، أو لنقل ضمن القطاع العام والمؤسساتي الوظيفي والخاص (حول ذلك ينظر: سليمان عبد المنعم، قراءة في ملف الفساد – السوس – الذي ينخر في عظام مؤسستنا، مجلة الديمقراطية، ص101)، والغريب في الامر أن الفساد في صورته العامة أُلصق بكل ما يتعلق بالقطاع الوظيفي الحكومي والسياسي السلطوي، فضلاً عن الذين ينخرطون ضمن دوائر الانتماء الحزبي وهو شكل آخر من اشكال الوظيفية – الفساد - الذي يُعرف ب (تحت الجدار)، أو الفضائيون، فضلاً عن الحكومات والقائمين على امرها واربابها واذنابها، وقلما نجد الاجتماع ينظر الى الفساد خارج تلك الدوائر على الرغم من أن الفساد المهيمن على القطاع الخاص لاسيما التجار والطبقة الوسطى المهيمنة على السوق، قد تحول الى حِرفة لديهم، فاصبح هؤلاء الوجه الثاني للفساد الكبير، واثاره الاجتماعية اكبر من الاخر، وذلك لأن الكسب غير المشروع المقرون بالغش، فضلاً عن حالات الاحتيال التي شاعت وانتشرت بين الأوساط العامة، هي في الأصل من اهم أسباب التفكك الاجتماعي وانتشار الفساد بين شرائح المجتمع، فضلاً عن الانحلال والاستغلال بكل اوجهه، (حول ذلك ينظر: مايكل جونستون، متلازمات الفساد – الثروة، والسلطة، والديمقراطية، ص 36-37)، ذلك التفسخ الاجتماعي يولد في الأصل خلل واضح في بنية المجتمع، بدءاً بالأسرة، وانتهاءً بالدولة، حيث نرى التفكك والأنانية تعم أفراد المجتمع، ومن ثم يسود بين أفراده الحقد والحسد ومكيدة بعضهم للبعض، فيصبح الفساد بصورته الاجتماعية تفككاً وفوضى، ويؤدي الى ضعف يطرأ على العلاقات الاجتماعية في المجتمع أو مكونات النسق الاجتماعي، وتدهور الضوابط الاجتماعية، وانهيار القيم والأخلاق في المجتمع، واضطراب النفوس، وكثرة القلق والحقد على الآخرين، وغير هذا من النوازع التي تسعى إلى تخريب المجتمعات، وتؤدي في بعض الأحيان الى سفك الدماء وانتشار الجرائم المختلفة، (ينظر: دراسة بعنوان، مواجهة الفساد الإداري من منظور إسلامي) .

عند اسقاط هذه المفاهيم على الواقع الذي نعيشه في مجتمعاتنا سنجد مدى تعمقها وتجذرها في كل البنى الاجتماعية وكل الشرائح دون ان نقيسها على شريحة واحدة، وبذلك يمكن القول أن الفساد تحول الى حِرفة يمتهنها اغلب فئات المجتمع، ولم تعد محتكرة على فئة دون أخرى، فالطبقة السياسية والحاكمة هي الواجهة المعروفة للفساد سواء الفساد السياسي أو الأخلاقي أو المالي أو الإداري وحتى الاجتماعي، وكل الاتهامات توجه اليها وأصبحت في مجتمعاتنا شمعة تقوم الفئات الاجتماعية الأخرى تحرق انحرافها وفسادها تحت مظلتها، والغريب اننا لا نستوعب الامر إلا بعد فوات الأوان، ودائماً نجدنا نعيب على الحكومات فسادها ونتجاهل النظر الى مكملات ذلك الفساد، والذي يؤثر بشكل كبير على جميع شرائح المجتمع، فالتاجر الذي يعايش المتحولات والمتغيرات الاجتماعية لا ينأى بنفسه عن استغلال واقع المجتمع المتردي، وتفشي الفقر بين فئاته لاسيما الطبقة العامة والكادحة، وحتى صغار الموظفين، فيحاول ان يتفق مع الشركات المنتجة الأجنبية على انتاج بضائع دون مستوى الجودة، وذلك لكسب بعض الأرباح، كما ان الصناعات المحلية ومالكيها، لا يتجنبون الاستغلال في صناعاتهم وتخريجها بأدنى مستويات الجودة، لكسب بعض الأرباح، حتى البائع العادي يغش في المعايير والموازين للكسب غير الشرعي، وقِسّ ذلك على جميع المجالات الأخرى، وذلك ما يثبت ان الفساد المنتشر بين فئات المجتمع ليس إلا مظهر حقيقي من مظاهر التفسخ الاجتماعي العام، والذي يشمل الحكومات وارباب الساسة والتجار والطبقات الأخرى، وبالتالي فان تفشي المحسوبية والوساطة والرشوة والابتزاز الوظيفي والاستغلال الوظيفي، وحتى إساءة استعمال السلطة، والإهمال الوظيفي، الاحتيال، النصب، الاختلاس، التزوير، غسيل الأموال، الاستيلاء على المال العام، العمولة، الغش، التدليس، التقصير، الإهدار، التهرب الضريبي، الانحلال الأخلاقي، تفشي المخدرات، والتباهي بالانحراف، وغيرها من اشكال الفساد تُعد بمجملها الواجهة الحقيقية للمجتمع، وبالتالي يكون اغلب فئات المجتمع مشاركين في تأصيل الفساد وانتشاره وتأمين مصادره، (حول ذلك ينظر: طه فارس، أسس مكافحة الفساد الإداري والمالي في ضوء السنة النبوية، ص9).

إن تحول الفعل والقول من حيث المدلول الفسادي، ليس مجرداً من التحولات العامة التي تساهم بشكل واخر في ترسيخ مبادئ الفساد نفسه، فحين نتهم الحكومات والأحزاب والمؤسسات بالفساد، فإننا لسنا اقل فساداً منهم، لأننا نرى فسادهم باعين بصيرة، وندرك حجمها واثارها السلبية على حياتنا العامة، وعلى مستقبل بلداننا، والقضايا التي ننادي بها، ونعلم بأنها في النهاية ستؤدي الى ضياع المكتسبات التي بين أيدينا، وستعيدنا الى مرحلة العبودية والخضوع للمنظومات الإقليمية والدولية، لكننا نتجاهل كل ذلك، ونحاول بكل الوسائل الكسب غير المشروع، لذلك فان ما نقوم به نحن من أفعال تعطي شرعية لفساد غيرنا، بحيث اصبح الفساد مهنة نمتهنها، وحِرفة نزاولها على جميع الأصعدة.

***

جوتيار تمر/ كوردستان

4-5-2023

بقلم عامر أبابكر

ترجمة: علاء اللامي

***

بعد أيام على مرور عشرين عاما على الغزو الأمريكي للعراق، في الوقت الذي يستعرض فيه العراقيون نتائج هذا الحدث، الذي أدى إلى تدمير أسس الدولة وبنيتها التحتية، وأعاد بدوره إلى الحالة الطائفية والقومية. فالانقسام القومي الذي فرضته المصائب التي مرت على بلاد ما بين النهرين كأمة حية، ضعفت في وقت وازدادت قوة في وقت آخر كباقي الدول. وإذا كان الغزو الأمريكي للعراق قد نجح في قلب النظام السياسي السابق وتغييره وفشل في إسقاط العراق، فإنَّ الطائفية السياسية التي نجحت في إحداث كل هذه التحولات سعت إلى إسقاط العراق كدولة كاملة ومحو خصوصيتها التاريخية التي عرفها التاريخ وشهد لها بها كنموذج لبلد يسوده الوئام بين القوميات والأديان.

نجحت الولايات المتحدة منذ البداية في صياغة مشروع طائفي عززت من خلاله مفهوم الانقسام الطائفي والمحاصصة، حيث أصبح الوجود الأمريكي حليفاً رئيسياً تسابقت من أجله الأحزاب الطائفية الشيعية والسنية، ومن أجله تسابق الأمراء الطائفيون وقاتلت النخبة الجديدة في العراق، في الوقت الذي عملت فيه الإدارات الأمريكية المتعاقبة ما في وسعها لكسبها لصالحها.

وهكذا أصبح قادة العراق الجدد حلفاء مقربين لـ "المحرر" من الخارج. وفي الوقت الذي احتدم فيه الصراع الداخلي للفوز بمقعد السلطة في العراق، سارعت المؤسسات العسكرية والسياسية الفاعلة في الإدارة الأمريكية إلى وضع اللمسات الأخيرة لاستكمال وتنفيذ فصول سيناريو احتلال العراق. وقد لا أبالغ عندما أقول إن هذا التشرذم الذي ما زال يشهده الساحة السياسية العراقية، وتقلبات سياسييها وتمسكهم بالسلطة، التي زادت حدتها وتشنجاتها منذ انطلاق عملية الانتخابات النيابية، ساهم في إدامة الفتنة والانقسام في المكون العراقي الاجتماعي والسياسي كما هي الحال في تصارع التيار الصدري والإطار التنسيقي. وأزمة محمد الحلبوسي مع مشايخ البادية الغربية.

وهكذا، وبعد عقدين من سقوط النظام العراقي السابق، ونتيجة لهذا الأسلوب الخاطئ والمتعمد في إعادة بناء الدولة، فإن الاختلاف في الرؤى فيما يتعلق بعلاقة العراقيين ببيئتهم الإقليمية لا يزال يهدد استقرار ما تبقى من العراق، حيث فشلت الأحزاب الدينية في تطوير نظام حكم شامل للجميع. وقد تعززت الانقسامات الطائفية الداخلية نتيجة الإصرار المتعمد على تكوين نخبة طائفية تسيطر على القاعدة الطائفية الشعبية، بدلاً من التركيز على أهمية وحدة القاعدة الجماهيرية الواسعة العابرة للطوائف. أصبحت مؤسسات الدولة بؤر صراع بين أطراف تتنافس على السلطة والثروة. ومع تزايد الاهتمام الأمريكي والدولي بهذه القوات، ازدادت محاولات الأحزاب السياسية العراقية لإرضاء اليد الأمريكية المؤثرة لتتويجها كقادة لحكم العراق. وهكذا نجحت الولايات المتحدة في لعبتها من خلال تقاربها مع المشروع الطائفي الإيراني، الأمر الذي ساهم في تصعيد الأزمة السياسية العراقية بالسماح للدين السياسي الطائفي بالسيطرة على الساحة السياسية، وبالتالي الاستيلاء على السلطة بقوة المال والسلاح، لدرجة أن معظم المؤسسات والفرق العسكرية أصبحت حكراً على الزعماء الطائفيين والعرقيين، في بلد تكون فيه العناصر الأمنية والطائفية هي مفتاح السيطرة والتأثير والتلاعب بملفات الفساد.

وعلى الرغم من وجود الدستور الذي ينظم عمل العديد من مؤسسات الدولة، إلا أن صقور الأحزاب الحاكمة لم يترددوا في السيطرة على البنك المركزي، وهو أحد الهيئات المستقلة المرتبطة بمجلس النواب، والذي حصنه القانون منه. أي تدخل حكومي مركزي، ضبط مصير مليارات الدولارات وإنفاقها دون حساب لتمويل أنشطة خاصة، وتحويلها إلى إيران وبعض دول المنطقة، في ظل تداعيات الصراع الأمريكي الإيراني على الساحة العراقية والمنطقة، وتحت غطاء الإجماع الأمريكي الإيراني على قبول نظام سياسي عراقي جديد يحظى مسؤولوه وأحزابه برعاية ودعم غربيين، يعتمد في استمراره والدفاع عن أسسه وفكره الطائفي على مليشيات الدولة المسلحة المدعومة من خلف الحدود، على الرغم من معرفة النخبة الحاكمة بأهمية الدور الأمريكي في الحفاظ على شرعية النظام دوليًا من جهة، ودور الجماعات المسلحة في دعم النظام في الداخل.

وهذا يفسر دقة هذه العلاقة التي يمكن وصفها بأنها علاقة مصالح وشكل من أشكال التشبث بالسلطة واللعب على الحبال.

إن استمرار المراوغة واللعب على الحبال الطائفية الإيرانية والأمريكية، أو ما يسميه مسؤولو النظام في بغداد بـ "الحياد"، سيصطدم عاجلاً أم آجلاً بواقع الأمر، في حال اقتضت المصالح الأمريكية تغيير بوصلتها تتماشى مع الواقع المقبل لجيران العراق. وبعد انتهاء حاجة النظام الطائفي لملء الفراغ الذي خلفه إسقاط الدولة العراقية، وهو الخيار الذي كان مهما لإدامة الوجود الأمريكي واستمراره من خلال كونه الوصي المخلص للنظام العراقي الذي خلقه بنفسه ... وهنا تكمن قدرة وأهمية العامل الأمريكي كطرف منظم وفعال وأساسي في قلب المشهد السياسي العراقي، مما يسهل عليه ممارسة الضغط السياسي على الأحزاب الحاكمة، ومن ثم رسم خارطة طريق وتحديد مسارها وفق السياقات والشروط المحلية والإقليمية التي قد تجدها السفيرة الأمريكية في بغداد مناسبة لإرضاء البعض، أو لتنبيه الآخرين، خاصة وأن إدارة بايدن، كما كان الحال في الإدارات الأمريكية السابقة، لا تزال تحتفظ بأوراق الضغط على النظام السياسي العراقي، من خلال عدم السماح للنظام السياسي العراقي بتجاوز الخطوط الحمراء المرسومة له. وهذا ما قد يدفع الجانب الأمريكي إلى إعادة رؤية الأمور، ورسم مستمر لشكل المشهد السياسي العراقي، من خلال ترتيب خارطة طريق سياسية عراقية جديدة تخدم استراتيجية الإدارة الأمريكية وأجندتها التي جاءت من أجلها في العراق والمنطقة. وهذا ما يراه العراقيون بجلاء في نشاطات السفيرة الأمريكية ومندوبة الأمم المتحدة وسعيهما المشترك لاحتواء القوى السياسية والمسلحة النشطة على الساحة العراقية تماشياً مع التطورات الداخلية والإقليمية المقبلة.

***

...........................

* الكاتب عامر أبابكر: حاصل على درجة الدكتوراه. شهادة من جامعة قبرص الدولية. تخصصه في السياسة في الشرق الأوسط. تشمل مجالات اهتماماته العلاقات الدولية والأمن الدولي والسياسة الخارجية والصراع العرقي.

* ترجمت المقالة عن صحيفة ومنبر ( moderndiplomacy ) الأوروبي

أطلق السوريون في الشهور الأولى للثورة شعارات كثيرة، كان أهمها شعار "الشعب السوري واحد"، كما أطلقوا على أيام الجُمع التي كانوا يخرجون فيها من المساجد تسميات كثيرة، كـ جمعة صالح العلي، وآزادي (الحرية)، وحماة الديار وغيرها من التسميات، التي كانت تعكس مواقف السوريين النبيلة، والتي ظهرت تجلياتها في المظاهرات الشعبية في عموم المحافظات السورية، قبل أن يدفعهم نظام الأسد إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وعوائلهم، وبخاصة بعد أن تكررت ممارساته الأمنية العنيفة.

وبعيدًا عن المواقف الأيديولوجية المسبقة، من الضروري أن ندرك أن رفع شعار "الشعب السوري واحد"، أو آزادي، أو أطلاق اسم صالح العلي على احدى الجُمع، لحثّ شريحة معينة على ضرورة أن تسلك سلوكًا وطنيًا تجاه الثورة، لا يعني بشكل طبيعي وأوتوماتيكي أن الآخر أصبح من أهل هذه القيم (الشعارات)، والدليل أن الواقع يُثبت أن من يُفترض بهم أن يتمثلوا سلوك صالح العلي (الوطني)، راحوا يعيثون فسادًا ودمارًا في البلاد والعباد، كما أن من رُفع لأجلهم شعار (آزادي) راحوا أيضًا يُهجّرون الناس من قراهم ومدنهم، ليقموا عليها كانتون قومي تحت الرعاية الامريكية.

من هنا فإن الخطر الحقيقي الذي يواجهنا كسوريين، على هذا الصعيد، هو أن يتم التعامل مع شعار "الشعب السوري واحد" بوصفه شعارًا ناجزًا، وأنه الحل السحري لمشاكلنا المختلفة، فـ شعار "الشعب السوري واحد" في بعده النظري، وبعده التطبيقي، ليس مشروعًا ناجزًا، وإنما هو من المشروعات المفتوحة على كل المبادرات السورية، التي نأمل أن تجد طريقها إلى النجاح يومًا ما، وعلى الجميع أن يعرف أنه لا يوجد شعب سوري واحد دون أن نؤمن جميعًا بوحدة الأراضي السورية، وإن أي شعار لا يصدقه الواقع هو شعار شكلي لا قيمة له، وإن حجر الزاوية في مشروع الشعب السوري واحد هو وحدة الأراضي السورية، كما أن حجر الزاوية في مشروع الحرية هو وجود الإنسان الحر، الذي يترجم قيم الحرية ويدافع عن مقتضياتها ومتطلباتها، مع ملحوظة أن هذه العملية لا تتم اعتباطًا أو صدفة، و إنما هي بحاجة إلى تهيئة وتنشئة وتربية.

ولهذا، فإن المطلوب ليس الصراخ باسم الشعارات الجديدة التي أطلقتها الثورة، وإنما العمل على التربية عليها، لأن التربية على هذه الشعارات والقيم والمبادئ هو الطريق الطبيعي لخلق وقائع مجتمعية منسجمة مع مقتضيات هذه القيم، وشعار "الشعب السوري واحد" كممارسة، ليس خطابًا يلقى، أو ادعاء يدعى، وإنما يجب أن يكون إرادة إنسانية صلبة، تتجه نحو التمسك بوحدة الجغرافيا السورية ومقتضياتها. وحيث تتوفر الإرادة الإنسانية المتجهة صوب وحدة الوطن السوري، تتحقق بذات القدر قيم المواطنة والانتماء والحرية، فحجر الزاوية في مشروع وحدة الأراضي السورية، هو إرادة السوريين. من هنا ينبغي الاهتمام بمفهوم (التربية على بناء إرادة قوية لا تسمح بتفكيك الوطن وتقسيمه كما يرغب بعضهم)، إذ إن المهمة العامة الملقاة على كاهل جميع النخب هي تربية شرائح المجتمع المختلفة على ضرورة أن يبقى الوطن السوري موحدًا، مع التأكيد أن التربية على مثل هذه الإرادة تحتاج إلى: استعداد نفسي تام للقبول بكل متطلبات المواطنة، وكذلك الاطلاع والتواصل الثقافي مع المنجز الثقافي الإنساني لكل أطياف الشعب السوري، الذي يؤسس لخيار وحدة الأرض ويبلور مضامينه.

من هنا يمكن القول: الوطنية سلوك وليست كلامًا في الهواء، لا تحدثني عن الوطن وأنت ترتمي في أحضان مخابرات الدول التي تتآمر على وطنك، ولا تحدثني عن الوطن وأنت تختصر الوطنية في شعارات تنشرها على صفحات التواصل الاجتماعي، أو أغنية وطنية تدغدغ مشاعرنا وتتحدث عن واقع افتراضي يتم تزييفه، ولا تُسطر لنا شعرًا أو نثرًا عن الوطنية وأنت لا تتمثله في سلوكك اليومي اتجاه وطنك..

الوطنية الحقة تعني أن تحصل على حقوقك وتؤدي واجباتك اتجاه وطنك دون نفاق أو رياء، والوطنية تقتضي ألا تستغل ثورة شعبك ضد الظلم لتتسلق عليها وتسرق مقدراتها، وتتآمر مع مخابرات الدول ضدها وضد وطنك.. ومن ثم، فإن المطلوب هو تربية وطنية جديدة تكون قادرة على بناء رؤية ثقافية متكاملة تساهم في تفكيك القيم المضادة لوحدة الوطن السوري، وبناء وقائع ومناهج وخيارات تُسهم في تعزيز خيار قيم الثورة في الفضاء الوطني الخاص والعام، فضلاً عن صياغة كيفيات وآليات التحول نحو القيم الجديدة والسلوك بموجبها في الحياة العامة.

***

صابر جيدوري

مع بداية العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أجمع الكثير من المحللين الرئيسيين الغربيين، أن أوروبا لم تكن أبدًا موحدة كما كانت في عام 2022، والدول التي لديها العديد من التناقضات والمطالبات لبعضها البعض تصرفت معًا، في محاولة لإلحاق أقصى قدر من الضرر الاقتصادي والسياسي بروسيا، وبدا للكثيرين أن أوكرانيا كانت قادرة حقًا على استعادة السيطرة على أراضيها، وكذلك إستعادة السيطرة على شبه جزيرة القرم، ولكن اليوم أصبح من الواضح أكثر فأكثر أن كييف ليست قادرة على مثل هذه الأعمال البطولية، وإن عش الدبابير الذي يسمى أوروبا الموحدة، في الواقع لم تكن هناك فيه أبدًا أي رائحة الوحدة هناك، وفي أي وضع حرج، قامت الدول الأغنى بسحب البطانية على نفسها.

وهكذا، فإن الدول الأوروبية، التي تعرب سلطاتها عن "دعمها" لأوكرانيا بكل طريقة ممكنة وتسعى في الغالب إلى تزويد نظام كييف بالأسلحة والذخيرة، فرضت مؤخرا حظراً تجارياً على المنتجات من أوكرانيا، ولاحظت وسائل الاعلام الغربية بالفعل أن الحظر الذي فرضه الاتحاد الأوروبي على الواردات الأوكرانية، يؤكد الانقسامات في جهود الكتلة لدعم أوكرانيا، وان "فائض الحبوب يقوض النوايا الحسنة التي تحتاجها كييف بشدة".

وبالطبع، تحاول بروكسل "حفظ ماء الوجه" وتنتقد قرارات دول الاتحاد الأوروبي بحظر الواردات من أوكرانيا، قائلة إن "الإجراءات الأحادية" غير مقبولة وانتهاك محتمل للسياسة التجارية للكتلة، واتهمت حكومتا المجر وبولندا بالفعل، الاتحاد الأوروبي بأن السلطات الأوروبية لا تهتم بمحنة المزارعين المحليين، لأن الانخفاض في أسعار الحبوب العالمية مقارنة بذروة العام الماضي أثر على المنتجين، وبالتالي تعرضت صادرات الحبوب من أوكرانيا للتهديد مرة أخرى، وتوقفت الإمدادات عبر البحر الأسود، حيث حظرت بعض دول الاتحاد الأوروبي استيراد المنتجات الأوكرانية، وتوقفت بولندا ورومانيا والمجر وسلوفاكيا وبلغاريا، عن استيراد الحبوب والذرة وبذور عباد الشمس، واستيراد السكر والفواكه والخضروات واللحوم والحليب والبيض وعدد من المنتجات الأوكرانية الأخرى، بسبب مخاوف من أن الإمدادات تلحق الضرر بأسواقها المحلية، وقام المزارعون المحليون بأعمال شغب، وأغلق البولنديون الساخطون الأسبوع الماضي خط السكة الحديد على الحدود بين أوكرانيا وبولندا في غروبيشيف.

وخسر المنتجون الزراعيون المجريون أكثر من ثلث دخلهم بسبب حقيقة أن حوالي 2.5 مليون طن من الحبوب تم تسليمها من أوكرانيا بأسعار زهيدة، وتم الإعلان عن هذه البيانات رسميًا من قبل رئيس وزارة الزراعة المجرية إستفان ناجي، والآن تحظر براتيسلافا استيراد الحبوب والبذور الزيتية وغيرها من المنتجات إلى البلاد من أوكراني، واعتبارًا من 19 أبريل، أوقفت سلوفاكيا مؤقتًا استيراد الحبوب وعدد من المنتجات الأخرى من أوكرانيا، أعلن ذلك رئيس وزراء الجمهورية إدوارد هيغر، وقالت سلوفاكيا إنه على الرغم من أنها لم تحدد موعدًا لرفع حظر الاستيراد، لا يزال بإمكان أوكرانيا نقل حبوبها عبر أراضيها، ولكن فقط في حالة العبور، مع وجود احتمال كبير، في المستقبل القريب، أن تمنع بلغاريا الإمدادات الغذائية من أوكرانيا، وأوضح وزير الزراعة البلغاري يافور جيتشيف أن حكومة البلاد "بحاجة إلى حماية المصالح البلغارية"، كما تم الإعلان عن التعليق المحتمل لاستيراد المنتجات الأوكرانية إلى أراضيها في رومانيا.

أما في الجانب الإنساني الذي خصص له الغرب مليارات الدولارات، على وسائل الاعلام الغربية والعالمية وحتى العربية، لتشويه صورة روسيا وتحميلها مسئولية هجرة الملايين من الاوكرانيين، ورسم صورة جميلة على التلاحم الأوروبي مع اللاجئين، وفتح البيوت الاوربية واعتبارهم ضيوفا " كرماء "على شعوبهم، لكن مع مرور الوقت، انكشفت حقيقة هذه الحملة الزائفة، وبدأت معاناة الاوكرانيين تتعقد يوما بعد يوم .

وبدأت البلدان الغربية تشعر بأن الزيادة الكبيرة في الإنفاق التي أثارها الصراع في أوكرانيا، تضع ضغوطًا على ميزانياتها، خصوصا في دول الجناح الشرقي للاتحاد الأوروبي (والتي هي أصلا تعاني الفقر والعوز)، مما أدى إلى قيام حكوماتهم بتخفيض مقدار المساعدة المالية للاجئين، ومحاولة إجبارهم على النظر للعمل، وتشير وكالة بلومبيرغ، الى أنه ومنذ بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أنفقت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أموالًا أكثر بكثير مما كان مخططا له في الأصل، في مجالات تتراوح بين زيادة الإنفاق الدفاعي، وإرسال الأسلحة إلى كييف، إلى دعم فواتير الخدمات بعد ارتفاع أسعار ناقلات الطاقة.

ويتم إنفاق الأموال أيضًا على محاولة التعامل مع ما تسميه الأمم المتحدة، أسوأ أزمة لاجئين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ويشير المراقبون الى أنه يتعين على الدول المجاورة لأوكرانيا، أن تنفق الكثير من الأموال لدعم ملايين اللاجئين، معظمهم من النساء والأطفال، وكل هذا يضع عبئا ثقيلا على الميزانيات الوطنية، وتحولت السلطات الرومانية إلى تنسيق جديد لمساعدة اللاجئين، مشيرة إلى حقيقة أنهم لا يملكون ما يكفي من المال، لأنهم أنفقوا بالفعل حوالي 500 مليون يورو، والآن سيتم تقديم المساعدة فقط لفئات معينة من اللاجئين، وسيحصل مواطنو أوكرانيا الأصحاء الذين ليس لديهم أطفال صغار على المساعدة إلا لمدة شهر واحد - سيتعين عليهم البحث بنشاط عن عمل، ووافقت حكومة بوخارست مؤخرًا على خطة رسمية لخفض المدفوعات إلى النصف لما يقرب من 100،000 لاجئ أوكراني يعيشون الآن في رومانيا.

كما أدى العبء المالي أيضًا إلى موجة جديدة من الاقتراض، حيث باعت رومانيا وبولندا سندات بلغ مجموعها 14 مليار دولار هذا العام، وبعد أن استقبلت بولندا ما يقرب من 1.6 مليون لاجئ على أراضيها، ألغت تدريجياً إعانة الإسكان البالغة 40 زلوتي (10 دولارات أمريكية) للفرد في اليوم لجميع الأوكرانيين القادرين على العمل، وأن السلطات البولندية لا تزال تحتفظ بمدفوعات أخرى، بما في ذلك إعانة شهرية قدرها 500 زلوتي لكل طفل والتعليم المجاني والرعاية الطبية، لكنها رفضت بالفعل وسائل النقل العام المجانية، في حين ستتوقف سلطات جمهورية التشيك أيضًا عن دفع رواتب الكفلاء الذين قبلوا اللاجئين وتبدأ في توفير الأموال لدفع تكاليف السكن للاجئين أنفسهم، وتخطط أيضًا لخفض المدفوعات لأولئك القادرين على العمل بحلول نهاية العام.

وينتهي برنامج بدل السكن في سلوفاكيا البالغ 24 يورو في اليوم للبالغين و 12 يورو لكل طفل في نهاية مايو، حيث قالت وزارة المالية إن "الاحتياطي المالي المخصص لأوكرانيا لا يغطي هذه التكاليف حتى نهاية العام"، وبدأت آثار هذه التخفيضات في الظهور بالفعل، والآن وبعد أن ألغت السلطات الرومانية تدريجياً المساعدة الحكومية، سيجد الكثيرون صعوبة في دفع الإيجار، الذي يبلغ متوسطه في بوخارست حوالي 400-500 يورو شهريًا، "من الواضح أننا أصبحنا عبئًا. قالت امرأة أوكرانية تبلغ من العمر 55 عامًا كانت تقف في طابور في محطة للصليب الأحمر في بوخارست للحصول على صندوق من البقالة".

وبالمناسبة، لا تكتب بلومبيرغ أي شيء عن روسيا، حيث وجد ما يقارب 5 ملايين لاجئ من أوكرانيا مأوى لهم أكثر من أي بلد آخر، في الوقت نفسه، لا تشكو المناطق الروسية من أي شيء، ووسائل الإعلام الغربية تتظاهر بأن أوروبا فقط هي التي تنفق الأموال على المهاجرين من أوكرانيا، وعلى ما يبدو، من غير الملائم جدًا الإجابة على الأسئلة حول سبب فرار الناس بشكل جماعي إلى روسيا، إذا كانت "دولة معتدية" ولماذا لا يواجه المهاجرون في روسيا الصعوبات التي تجبرهم على العودة من أوروبا؟ لماذا لا تعتبر روسيا اللاجئين من أوكرانيا "عبئا"؟.

كما بدا الغرب يستشعر ان أوكرانيا تتصرف بوقاحة تجاه أوروبا وتطالب بشيء ما باستمرار، ولذلك، فإن أورسولا فون دير لاين تضع على الفور شروطًا انتقامية لكييف، هذا ما قاله الخبير السياسي والاقتصادي إيفان ليزان لصحيفة VZGLYAD، ونقل عن رئيس المفوضية الأوروبية، أن الاتحاد الأوروبي على استعداد لتمويل استعادة أوكرانيا فقط، في مقابل الإصلاحات وتخضع لمكافحة الفساد، بالإضافة إلى ذلك، سئم الجميع في أوروبا من أوكرانيا، كونها تتصرف بوقاحة حقًا وتطالب بالكثير، وتطلق على نفسها اسم" ضحية العدوان "، بالإضافة إلى ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي يدرك أن هذه الأموال ستذهب مثل المياه إلى الرمال، وسيتم ببساطة نهبها .

ونتذكر أنه في نهاية أبريل، طلبت أوكرانيا من الإدارة الأمريكية مساعدة اقتصادية طارئة بمبلغ لا يقل عن 2 مليار دولار شهريًا، وفي وقت سابق من ذلك الشهر، طالب فلاديمير زيلينسكي بخطة إنقاذ شهرية بقيمة 7 مليارات دولار من الاتحاد الأوروبي، في الوقت نفسه، قالت زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية، مارين لوبان، إن زيلينسكي كان يطلب من الغرب أكثر مما يمكن أن يقدمه له، في الوقت نفسه، في كل من الولايات المتحدة وأوروبا، يتزايد الإرهاق من الأزمة، وانخفاض مستويات المعيشة، والتضخم، وبالتالي فشلت دول الاتحاد الأوروبي في الاتفاق على الشروط الفنية للمساعدة المالية الكلية الإضافية لأوكرانيا، لكنها أيدت الحاجة إلى دعم مالي كبير لكييف، في 17 مايو، وافق وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي على تخصيص 500 مليون يورو لكييف للمساعدة العسكرية.

ويشدد المراقبون، على أنه من الممكن أن يبدأ الناس قريبًا في طرح الأسئلة على قيادة بلدانهم حول أين تذهب أموالهم، وما هي الفائدة منها، ولماذا لا ينفقونها على احتياجات بلدانهم، وعلى سبيل المثال، وقد تطالب بروكسل بنقل تدفقات الميزانية داخل البلاد إلى سيطرة المسؤولين الأوروبيين، وفي اليوم الآخر، أعلن البولنديون أيضًا أنهم يريدون إدارة جميع الأموال التي تذهب إلى أوكرانيا، أي أنهم يريدون الجلوس على التدفقات المالية والسيطرة عليها، ولا نعتقد أن رغبات بولندا وتصريحات أورسولا فون دير لاين، ترتبط ارتباطًا مباشرًا ببعضها البعض، لكن هذا يتحدث عن الاتجاهات العامة في أوروبا تجاه أوكرانيا .

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

يقابلها غياب استراتيجية مقاومة فلسطينية

بداية نترحم على الشهيد خضر عدنان الذي طلب الشهادة فنالها بعد أن سجل شهادة فخر واعتزاز لكل فلسطيني وليس لحركة الجهاد الإسلامي فقط من خلال رفضه لسياسة الاعتقال الإداري وكشف الممارسات الإرهابية للعدو في سجون الاحتلال، ولكن ما يدور من تخوفات من تصعيد وحرب بين الكيان الصهيوني وحركة الجهاد الإسلامي وانتظار رد من حركة الجهاد على عملية الاغتيال إنما يعبر عن المنزلق الخطير التي تقع فيه حركة التحرر الفلسطيني بكل فصائلها، الأمر الذي يتطلب التوقف عنده وكشف مخاطره.

فمن المعلوم أن عمليات القتل والاغتيالات شبه اليومية بحق الفلسطينيين التي يقوم بها العدو في المعتقلات وخارجها وفي كل ربوع الوطن وخارج الوطن إنما تأتي في سياق سياسة واستراتيجية دولة الاحتلال وليست عملاً أو إنجازاً لهذا الحزب الصهيوني أو ذاك، ولكن غالباً ما يكون الرد عليها ليس في سياق استراتيجية وطنية بل رداً حزبياً أو مناطقياً وكأن المعركة بين دولة الاحتلال وحركة فتح أو بينها وحركة الجهاد أو حماس أو الجبهة الشعبية الخ، وأحياناً تبدو المعركة وكأنها بين دولة العدو وقطاع غزة فيما تقف الضفة موقف المتفرج وفي الفترة الأخيرة تنزلق الأمور الى مواجهة وحرب في الضفة بينما غزة تقف موقف المتفرج، وحتى داخل الضفة يبدو أن الاحتلال من جانب والانقسام الداخلي من جانب يعزز التخوفات التي كتبنا عنها وحذرنا منها في مقال سابق تحت عنوان (الحذر من تجزئة ساحات المقاومة)  حيث برزت جماعة (عرين الأسود) في نابلس  كما ظهرت (كتائب جنين) في مدينة جنين وكلا الجماعتين أعلنتا عن نفسها عبر وسائل الإعلام المصورة وبشكل استعراضي فيما بقيت المدن الأخرى شبه ساكنة، الأمر الذي أدى لتفرد جيش الاحتلال بكلتا الجماعتين وتصفية غالبية عناصرها.

عندما اغتالت إسرائيل القائد أبو على مصطفى في مكتبه 27 /8/2001 ردت الجبهة الشعبية باغتيال وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي وما أدى إليه العملية من توقيف قادة الجبهة الشعبية في الضفة وعلى رأسهم أحمد سعدات من طرف السلطة الفلسطينية حتى لا تغتالهم إسرائيل ثم تم اعتقالهم من داخل سجون السلطة من طرف جيش الاحتلال وما ترتب على ذلك من اتهامات متبادلة بين السلطة والجبهة الشعبية وتوتير للعلاقات ما زالت حتى اليوم.

ما بعد الانقسام وسيطرة حركة حماس على القطاع بدت الأمور وكأن الحرب هي بين إسرائيل وقطاع غزة، ففي ظل التزام السلطة الفلسطينية بعملية السلام شنت إسرائيل عدة حروب على القطاع كانت أحياناً بسبب وحينا ً بدون سبب وحينا آخر بمبادرة من أحد الفصائل في القطاع.

ففي 27 ديسمبر 2008 شنت إسرائيل حرباً على غزة حيث ألقت قرابة "مليون" كيلوجرام من المتفجرات على قطاع غزة كما هدمت أكثر من (4100) مسكن بشكل كلي، و(17000) بشكل جزئي، وفقد أدت عملية "الرصاص المصبوب"، إلى مقتل أكثر من 1436 فلسطينيًا بينهم نحو 410 أطفال و104 نساء ونحو 100 مسن، وإصابة أكثر من 5400 آخرين نصفهم من الأطفال.، فيما اعترفت السلطات الإسرائيلية بمقتل 13 إسرائيلياً بينهم 10 جنود وإصابة 300 آخرين.

في الرابع عشر من نوفمبر 2012ا قامت إسرائيل باغتيال القائد القسامي أحمد الجعبري وعلى إثر ذلك اندلعت مواجهات كبيرة أو حرباً ،أطلقت عليها المقاومة اسم "معركة حجارة السجيل " و امتدت لثمانية أيام شاركت فيها كل الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة وفيها وصلت صواريخ المقاومة التي وصل عددها خلال أيام الحرب 155 صاروخا لتل أبيب والقدس ومدن أخرى داخل فلسطين المحتلة ،وفي المقابل ردت إسرائيل موظفة كل قوتها العسكرية ملحقة دماراً وخراباً في البنية التحتية والمساكن في القطاع ،وسقط في الحرب 191 شهيداً وحوالي 1400 جريحا بينما سقط للإسرائيليين 5 قتلى وعدد من الجرحى ،وانتهت الحرب بهدنة برعاية مصرية ودولية .

في السابع من يوليو/تموز 2014، شنت إسرائيل حربها الثالثة على قطاع غزة، أسمتها "الجرف الصامد"، فيما أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اسم "العصف المأكول".

وعلى مدار "51 يومًا" تعرض قطاع غزة لقرابة 60 ألفًا و664 غارة جواً وبراً وبحراً تسببت بمقتل 2322 فلسطينيًا وجرح نحو 11 ألفا وفقا لإحصائيات صادرة عن وزارة الصحة الفلسطينية.

في المقابل، كشفت بيانات رسمية إسرائيلية عن مقتل 68 عسكريًا من جنودها، و4 مدنيين، إضافة إلى عامل أجنبي واحد، وإصابة 2522 إسرائيلياً بجروح و(حسب إحصائية، أعدتها وزارة الأشغال ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، فإن عدد الوحدات السكنية المهدمة كلياً بلغت 12 ألف وحدة، فيما بلغ عدد المهدمة جزئياً 160 ألف وحدة، منها 6600 وحدة غير صالحة للسكن).

وفي فجر الحادي عشر من نوفمبر 2019 استهدفت إسرائيل القيادي في الجهاد الإسلامي بهاء أبو العطا حيث استشهد مع زوجته في نفس الوقت جرت محاولة اغتيال القيادي الجهادي العجوري في منزله بدمشق واستشهد ابنه، وردت حركة الجهاد مباشرة وبقرار منفرد منها بالرد وأطلقت عشرات الصواريخ على مواقع إسرائيلية بالرغم من وجود غرفة عمليات مشتركة، وأسفرت الغارات الجوية عن استشهاد 34 فلسطينيا، وجرح أكثر من 100 آخرين،

في عام 2021 اندلعت معركة "سيف القدس" التي سمتها إسرائيل "حارس الأسوار. رداً على استيلاء مستوطنين على بيوت مقدسيين في حي الشيخ جراح واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى أطلقت المقاومة الفلسطينية أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، وأسفرت المواجهة عن نحو 250 شهيدا فلسطينيا وأكثر من 5 آلاف جريح، كما قصفت إسرائيل عدة أبراج سكنية، وأعلنت إسرائيل عن تدمير نحو 100 كيلومتر من الأنفاق في غزة، وفي الجانب الإسرائيلي تم الإعلان عن مقتل 12 إسرائيليًا وإصابة نحو 330 آخرين، وفق مصادر إسرائيلية.

وقد تم وقف إطلاق النار بعد وساطات وتحركات وضغوط دولية.

في يوم الخامس من أغسطس/آب 2022 اغتالت اسرائيل قائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس (الذراع العسكري لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، وردت حركة الجهاد الإسلامي بعملية سمتها "وحدة الساحات"، وأطلقت خلالها مئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، وأفادت وزارة الصحة في قطاع غزة بأن عدد الشهداء في هذه الحرب بلغ 24، بينهم 6 أطفال، في حين أصيب 203 بجروح مختلفة.

في كل المواجهات السابقة لم تكن هناك أي استراتيجية فلسطينية للرد وكانت الخسائر الفلسطينية تفوق كثيرا خسائر الاحتلال ومع ذلك كانت الأحزاب تعلن عن تحقيق انتصارات وانجازات، فهل سيكون رد حركة الجهاد الإسلامي وفصائل المقاومة مختلفا في هذه المرة وتستفيد من تجارب الماضي؟

لقد أثبتت حركة الجهاد الإسلامي منذ نشأتها عام 1987 وانفصالها عن جماعة الإخوان المسلمين أنها حركة وطنية فلسطينية تقاتل من أجل الحرية والاستقلال ولا تسعى للسلطة أو الجاه، وأن يكن لها توجهات إسلامية فهذا لا ينتقص من وطنيتها حيث لا تعارض بين الوطنية والإسلام فالغالبية العظمى من الفلسطينيين مسلمون وفي الوطن متسع للجميع.

نتمنى أن يكون رد الجهاد الإسلامي على جريمة اغتيال خضر عدنان، وهو ليس الوحيد الذي استشهد في سجون الاحتلال وعلى يد جيش الاحتلال ومستوطنيه في كل أرض فلسطين، ردا وطنيا عقلانيا من خلال العمل على صياغة استراتيجية وطنية للتعامل مع استراتيجية الحرب والعدوان الصهيونية في الضفة والقدس وكل فلسطين، في إطار استراتيجية وطنية شمولية وألا يقتصر ردها على إطلاق الصواريخ من غزة حيث كانت نتائج حرب الصواريخ مدمرة لقطاع غزة دون وقوع أضرار تُذكر عند العدو بل كان العدو يوظفها لعزيز الانقسام. ولفت الانتباه عما يجري في الضفة والقدس، ولن يلوم أحد حركة الجهاد إن تجنبت إطلاق الصواريخ.

***

بقلم الدكتور ابراهيم أبراش

مقدم الى السلطات الثلاث مع التقدير

الحلقة الأولى: اسباب شيوع الفساد بعد التغيير.. تحليل سيكوبولتك

تنويه: يتضمن هذا الملف تشخيص الأسباب التي اوصلت العراق الى ان يكون من بين الدول الأكثر فسادا في العالم بعد التغيير كشرط علمي في المعالجة ، وتوثيقا لحجم الفساد وأبعاده في العراق من مصادر موثوقة، وتلخيص موجز لتجربة سنغافورة في مكافحة الفساد وتجربة ماليزيا في التنمية الاقتصادية.. وصولا الى تقديم مشروع علمي يمكّن متخذ القرار من تحديد طريقة تعامل ناجحة مع ظاهرة خطيرة ومعقدة.. منطلقين من حقيقة ان محاربة الفساد تحتاج إلى"النضال الطويل والمكلف والمؤلم من أجل النجاح"، وفق ما يرى برتراند دو سبيفيل صاحب كتاب"OVERCOMING CORRUPTION" الذي يعدّ مرجعا أساسيا في مجال محاربة الفساد، وتوكيده بأن مكافحته تتطلب استراتيجية وطنية ذات أهداف واضحة وقابلة للتحقيق.

ان اشرس المعارك التي تواجه العراق الآن هي معركته مع الفساد، وهي مخيفة! بدليل ان رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي اعترف علنا بأنه لا يستطيع مكافحة الفساد لأنه لو كشف ملفاته لأنقلب عاليها سافلها. وحين تلاه رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي وعد بأصرار بانه سيضرب الفساد بيد من حديد (حتى لو يقتلوني) ثم اعترف بأنه غير قادر، لأن الفاسدين يمتلكون القوة والمال وانهم مافيا. وحاول السيد مصطفى الكاظمي كسابقيه، فيما حصلت في زمانه سرقة القرن.. ما يعني ان محاربة الفساد تحتاج الى متخذ قرار حازم وذكي واستثنائي يعتمد مشروعا علميا ، وهذا ما يتمناه العراقيون للسيد محمد شياع السوداني.

اسباب شيوع الفساد في العراق

لا يمكن معالجة أية ظاهرة دون معرفة أسبابها ، وتعد أستطلاعات الرأي أحد اهم أساليب البحث العلمي في تشخيص اسباب أية ظاهرة.ولهذا توجهنا عبر وسائل الاتصال الجماهيري والبريد الآلكتروني عن اسباب شيوع الفساد في العراق ، فحددتها بالآتي:

* غياب الرقابة المالية

* عدم تطبيق القانون

* عدم استقلال القضاء

* المحاصصة

* ازدواجية الفرد العراقي

* الفقراء بوصفهم مسؤولون عن اطالة مدة بقائه

* الوضع السياسي المنهار والفوضى الامنية

* عدم وجود موقف حازم للمرجعية الدينية.

وتضمنت الاجابات تعليقات ساخرة واخرى عامة من اكاديميين ومثقفين نوجزها بالاتي:

* الجميع فاسدون لا استثني احدا. وعلى رأي مظفرالنواب، استثني ابن عّم كونفوشيوس وابن خال الجاحظ وابن عمة ابن منظور وابن خالة الإسكندر الكبير صاحب البواسير السبعة ووارث عمامة الحجاج بن يوسف احد كلاب ثقيف فقد كان المسكين يحلم اثناء الأزمة.

* الجميع مسؤولون عن شيوع الفساد بمن فيهم الفقراء والضعفاء.. فحين يشيع الفساد تنتشر ما يسمى ثقافة الفساد.. فيسمى الفاسد ذكيا والامين مسكين ما يعرف مصلحته.

* صعب التحديد.. كلهم فاسدون وفاسقون بلا استثناء.

* للكاتب وليم كولدنغ رواية تسمى (الذباب).. ملخصها وصول مجموعة من الاطفال الى جزيرة غير مأهولة، وبغياب سلطة الكبار (القانون) والدين يتحولون بالتدريج الى قتلة.

* الشعب هو الذي يشجع على الفساد.. فلو امتنعنا عن الرضوخ الى كل مرتشي وفضحنا الاعيب البعض منهم وساهم كل فرد بأصلاح نفسه ونصح من حوله لما استشرى هذا المرض .

* الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين والخونة لا يعتبر ضحية بل شريكا في الجريمة. (جورج اوريل) .

وكنا اجرينا دراستين علميتين في (25 حزيران 2016) وفي(29/6/2020 )، عن اسباب فشل العملية السياسية في العراق.. حددت اهمها بالآتي:

* تعصب اوعدم نضج سياسي او مرض نفسي مصاب به العقل السياسي العراقي،

* عدم او ضعف الشعور بالانتماء الى العراق من قبل المسؤولين الذين يحملون جنسيات اجنبية ،

*اشخاص يأتمرون بتعليمات دول قوية (امريكا وبريطانيا) واخرى اقليمية،

* قضية اشخاص اضطهدهم النظام الدكتاتوري ويرون ان من حقهم الاستفراد بالسلطة والثروة،

* لعبة اقوياء استضعفوا واستغبوا الشعب.

وعزت نتائج الدراستين اسباب الفشل الى فريقين : الشعب لأنه مجتمعِ متفكك يرغب بالفوضى وطرق العيش العشوائية والتسلق على أكتاف الضعفاء، والأنجرار للميول الدينية والمذهبية والعنصرية الكاذبة، ولفكر بدوي عشائري تسلطي طائفي بثقافة اجتماعية هابطة جائت بفاشلين وافرزت طبقة سياسية هابطة، والسياسيين.. لخلل في تكوينهم المهني والاجتماعي والنفسي، فلا هم سياسيون يفقهون المبادىء ولاهم مهنيون يفهمون كيف تدار الدولة.

تحليل سيكوبولتك

تعود بدايات الفساد الى عام (1980) في المؤسسة العسكرية تحديدا" بين ضباط وميسوري حال من المجندين بدفع رشا و(هدايا) الى آمريهم للحفاظ على حياتهم او الحصول على اجازة يمارسون فيها اعمالا" تدرّ عليهم رزقا" أوفر من رواتبهم، و"شراء" قادة عسكريين بمنحهم اوسمة شجاعة بمكافئات مالية ضخمة واراضي، خلقت منهم فئة ثرية جدا" ولدّت لدى الضباط الآخرين الشعور بالحيف فأخذوا (حقهم) من الدولة بالرشوة والاختلاس، نجم عنها (تطبيع نفسي) مهد لقبول هذه الظاهرة.

وجاء الحصار الذي اضطر اساتذة جامعة ان يعملوا (سواق اجرة) ويفتح مدرسون (بسطيات.. جنبر)لبيع السجائر، فدخل الفساد المؤسسات التربوية المسؤولة عن صنع الأخلاق ليلوث الضمائر الفتية ويهيؤها لمرحلة القبول حين تصبح شابة، لينتقل (التطبيع) الذي مارس عملية (ترويض الضمير) لثماني سنوات، الى حالة (القبول) المبرر نفسيا.. لثلاث عشرة سنة.

في العام (2003) أطاح التغيير بالنظام ولم يطح بالفساد، بل توزع المحرومون على صنفين: سياسيون استلموا السلطة واستولوا على ممتلكات اشخاص ودولة، و(حواسم) نهبوا وفرهدوا ونطوا من الحضيض الى (القمّة).. بنوا العمارات في بغداد واشتروا الشقق الفاخرة في عواصم عربية.ولأنهم لم يحاسبوا، فقد ظهرت فئة من الناس اطلقوا على انفسهم (النوادم) لأن ضميرهم الذي عدّ النهب حراما" في لحظته، تبين لهم فيما بعد انهم اضاعوا الفرصة فصاروا من النادمين!. ويعني هذا سيكولوجيا، تعطّل الضمير الاخلاقي لدى الذين كانوا مترددين في حوادث النهب والفرهود، وزيادة مساحة قبول الفساد المالي اجتماعيا".

وبتعرض العراق لأخطار داخلية وخارجية ظهر عامل نفسي جديد ضاغط هو ( قلق المستقبل) اشاع الظاهرة اكثر في زمن البرلمانين الأول والثاني، وتحكّم بالغالبية المطلقة من المسؤولين فعدّوا وجودهم بالسلطة(فرصة)عليهم ان يستغلوها بما يؤمّن لهم ولأسرهم مستقبلا" ماديا" مضمونا".وبممارستهم له صار فعل الفساد( شطاره) وتوقف الضمير عن التأنيب بعدّ الفساد حراما".

وبتعمق المحاصصة والطائفية السياسية شاعت (سيكولوجيا الاحتماء) التي تعني ان ابن الطائفة يحميه حزبه الطائفي، دفعت بعدد من هذه الطائفة وتلك الى سرقة المال العام في اتفاق ضمني: (اسكت وأنا اسكت) منحهم الشعور بالأمن النفسي.وصار الفساد بحجم أكبر لم يشهده تاريخ العراق والمنطقة، و"الفضل" في ذلك يعود لأمريكان وأجانب جرّئوا عراقيين على "هبرات" كبيرة.. وأمّنوا لهم الحماية.

وحقيقة أخرى شخصها بريمر مبكرا في كتابه (سنتي في العراق)، انه وجد ان الشيعة يطالبون بحقوق الشيعة، والسنّة يطالبون بحقوق السنّة، والكورد يطالبون بحقوق الكورد.. ولا احد يطالب بحقوق العراقيين .وسبب ذلك في التحليل السيكولوجي ان من استلم السلطة بعد 2003 تحكمت فيهم (سيكولوجيا المظلومية) نجم عنها أمران: الأستفراد بالسلطة والثروة الذي تصاعد في (تموز- آب 2022) بين التيار الصدري والأطار التنسيقي ، وخلق أزمات ادت الى توالي خيبات في خراب سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي واخلاقي أصاب العراق بالشلل والفشل.. لتثبت الأحداث اننا لا نمتلك رجال دولة بل اشخاصا اعتبروا العراق غنيمة لهم فتقاسموه فيما بينهم بفساد مشرعن ثم تنازعوا على القسمة بعدعشرين سنة من الشراكة!

وبسكوت الحكومات السابقة عن محاسبة الفاسدين، وتبادل التهم بين معممين سياسيين بشكل خاص ومدّعين بالزهد والنزاهة.. افتقد الناس انموذج القدوة وصار الموظف البسيط يردّ على ضميره: (اذا كان قدوتي يرتكب هذا الفعل.. فأنا لست بأحسن منه.واذا كان حراما.. فلأضرب ضربتي.. ثم اذهب الى الحج واستغفر ربي.. والله غفور رحيم!).

ان تفاعل هذه الآليات على مدى (42) سنة أفرز نتيجة سيكولوجية هي أن الناس حين تضطر الى قبول أو غض الطرف عن سلوك كانوا يرفضونه، ويجدون أنفسهم غير قادرين على تغييره، انتشر بين غالبيتهم مخّرجينه بتبريرات واسقاطات تعطّل تأنيب الضميرعلى هذا الفعل، نصوغه بنظرية تشكل اضافة عراقية لعلم النفس والاجتماع العالمي، خلاصتها:

(اذا زاد عدد الأفراد الذين يمارسون تصرّفا يعدّ خزيا، وغضّ الآخرون الطرف عن أدانته اجتماعيا أو وجدوا له تبريرا، وتساهل القانون في محاسبة مرتكبيه.. تحول الى ظاهرة، ولم يعدّ خزيا كما كان).

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

القوى الديموقراطيّة العراقية لم تتبنى لليوم في برامجها السياسية وأنظمتها الداخلية وهي تعمل على أنهاء نظام المحاصصة الطائفية القومية، شعار الدولة العلمانية الديموقراطية، ولازالت ترفع شعار الدولة المدنية الديموقراطية كبديل لنظام المحاصصة، وهذا الشعار أشبه بالدواء الذي يهدئ آلام المريض دون علاجه، كما وأنّ نظام المحاصصة ليس ببعيد عن مفهوم الدولة المدنية من وجهة نظر الإسلاميين وشركائهم في السلطة. فنظام المحاصصة يطرح نفسه على أنّه ليس بنظام ديني بل أقرب الى المدنية، ويمنح القوى التي تصف نفسها بالمدنية هامش "كبير" من الحريّة والتي هي بالحقيقة مقنّنة وتتحرك ضمن أطر وخطوط حمراء لا تستطيع القوى الديموقراطية تجاوزها لتكون مؤثرّة في الحياة الأجتماعية والسياسية للبلاد، لا من خلال الأنتخابات التي لا تستطيع أي القوى الديموقراطية التي تطرح نفسها كقوى مدنية من إختراقها لصياغة السلطة مجموعة قوانين تحول دون حضور فاعل للقوى الديموقراطية في المشهد السياسي العراقي ومنه البرلمان من جهة، ولا من خلال العمل الجماهيري لغياب وحدة هذه القوى وتبنيها برنامج إنقاذ وطني في مواجهة قوى السلطة الفاسدة من جهة ثانية، ولغياب الوعي الأنتخابي وضعف الإنتماء الوطني مقارنة بالإنتماءات الدينية والطائفية والقومية والعشائرية لجماهير واسعة من أبناء العراق من جهة ثالثة. وكمدخل للتمييز بين ما تسمّى بالدولة المدنية والدولة العلمانية نرى أن لا ضير في العودة الى تعريفات اللغة لهما.

المدنيّة كما جاء في معجم المعاني الجامع إسم وهي: الجانب المادّي من الحضارة كالعمران ووسائل الإتصّال والترفيه، يقابلها الجانب الفكري والرّوحي والخلقيّ من الحضارة، وتعني كذلك الحضارة وإتّساع العمران. مدني: (اسم) منسوب إلى مَدينة، خاص بالمواطن أو بمجموع المواطنين، عكس عسكري. وقد تناول المعجم جملة من التعريفات المدنيّة كالقانون المدني، الدفاع المدني، الموت المدني، الطيران المدني، الحقوق المدنية، التربية المدنية، الحريات المدنية، المجتمع المدني، الخدمة المدنية والزواج المدني، ولم تتطرق معاجم اللغة مطلقا الى ما تسمى بالدولة المدنية. فالمدنية والمدني والمتمدّن يقابلها بالأنجليزية كلمة Civil، وهي غير كلمة العلمانية أو اللادينية في المعاجم الأنجليزية أي Secular، أما Secularism المشتقة من التي قبلها، فأنها تعني نظام دولة لا يلعب فيه الدين أي دور في تنظيم حياة المجتمع ولا دور له في البنية الأساسية في بناء ونهضة المجتمعات والدول الناجحة أي التعليم. كما وأننا لا نجد هذا المصطلح أو تعريفا له في المراكز البحثية الغربية ولا في حقلي العلوم السياسية والفلسفية.

ما تسمّى بالدولة المدنية ليست ضد أن يكون للدين دورا في الدساتير والقوانين التي تنظم حياة الناس الأجتماعية، كما ولا تقف أمام أن يكون للدين دورا في المناهج التعليمية خلال المراحل الدراسية المختلفة وصبغ التعليم بصبغة دينية، أو بصبغة يكون فيها للدين دور واضح وملموس فيها، وهذا ما يدفع الأسلاميون ومنهم أسلاميّو العراق للتواجد في المنطقة الرمادية وهم يتعاملون مع خطاب القوى الديموقراطية الواقعة في فخ ما تسمّيه الدولة المدنية من جهة، ومع منظمات المجتمع المدني ويخترقونها ويشترون ذمم بعض الناشطين فيها كما حدث مع بعض ناشطي أنتفاضة تشرين خدمة لمشروعهم المستقبلي أي أسلمة الدولة، وهذا ما يدفعنا للتساؤل حول إن كانت القوى الديموقراطية تريد بناء دولة متقدمة على أنقاض دولة المحاصصة التي دمرّت البلاد وستقوده للخراب فيما أذا أستمرت في السلطة، أم سترفع شعار تحقيق الدولة العلمانية الديموقراطية وتعمل من أجله بأعتبارها الطريق المفضي لتحرر البلاد من قبضة الفساد والفقر والجهل وسطوة الميليشيات المسلحة؟

الأسلاميون يستطيعون العيش مع ما يُطلق عليه الدولة المدنية، لكنّهم يُحشدّون كل قواهم ضد العلمانية والعلمانيين والدولة العلمانية. وكوسيلة لبدء هجومهم عليها يروّجون على أنّ العلمانية ظهرت في الغرب لمواجهة الكنيسة التي كانت تحتكر الدين وتبيع صكوك الغفران، وأنّ الاسلام لا يمتلك النظام الكهنوتي كما المسيحية، وأنّها ظهرت في الغرب لكسر هيمنة الكنيسة والتحرر من أغلالها. وكأننا في العراق على سبيل المثال وغيره من البلدان العربية، لسنا مقيّدين بفتاوى المؤسسات الدينية وتدخلاتها في الشؤون السياسية خدمة للمشروع الأسلامي الذي لم يستطع أن يقدّم لليوم نموذجا ناجحا واحدا في أي بلد عربي، علما أنّ جميع المؤسسات الدينية تعمل لصالح النخب السياسية ومصالحها في بلدانها وتمجّد صفوة رجال الدين وتمنحهم صفة القداسة، ومن خلال قداسة هؤلاء ووقفوهم الى جانب السياسيين كما في جميع مراحل التاريخ الأسلامي فأنّها تنشر العبودية في المجتمع وتتّهم بشكل غير مباشر من يناهضهم ويناهض الحكّام على أنّهم كفرة أي علمانيين بالمعنى السياسي للكلمة. وفي هذا الصدد يقول جان بودان في مؤلفه كتب الجمهوريات الستة: "بما أنّه لا يوجد أي أحد أكبر في الأرض بعد الله غير الأمراء السياديين، وإنّ الله أختارهم ضبّاطّا ليقودوا الناس الآخرين، فأنّ الحاجة ضرورية للنظر في مكانتهم من أجل أحترام جلالتهم بكلّ طواعيّة، والأحساس بهم والتحدث عنهم بكلّ شرف، لأن الذي يحتقر أميره صاحب السيادة يحتقر الله الذي هو صورته على الأرض". وإن كانت الكنيسة قد باعت صكوك الغفران لسرقة المؤمنين المسيحيين البسطاء، فأنّ المؤسسات الدينية ومن خلال فتاواها ولسرقة المؤمنين المسلمين البسطاء تحث الناس على طاعتها وبالتالي طاعة الأنظمة التي تعمل هذه المؤسسات لصالحها، فترسم لهم عالم آخروي جميل خال من الظلم والأضطهاد ليعيشوا حياة ملؤها الظلم والأضطهاد والفقر والمرض والجهل والتخلف في حياتهم الدنيا، وهذا بحد ذاته شكل من أشكال صكوك الغفران. وأذا تركنا التفسير اللغوي لأسم كهنوت وهو وظيفة الكاهن ومصدر الكهانة أي معرفة الأسرار أو أحوال الغيب، فأن رجال الدين الأسلامي اليوم هم أقرب الى الكهنة والكهنوت كما الكهنة والكهنوت في مختلف الأديان.

لقد ظهر مصطلح الدولة المدنية بوضوح وقوّة إثر ثورات الربيع العربي التي لم تنجح في إحداث تغييرات حقيقية في أيّ بلد عربي الّا بشكل جزئي في تونس مهد ثورات الربيع العربي، أمّا في أوربا فأنّ مصطلح المجتمع المدني وليس الدولة المدنية بدأ التداول به في القرن السابع عشر من قبل فلاسفة العقد الأجتماعي مقابل نظرية الحقّ الإلهي كتوماس هوبز وجون لوك وهيغل وماركس وغيرهم وغرامشي في العصر الحديث.

أنّ ما تسمّى بالدولة المدنية مصطلح حديث (عربي) يرجع أساسه لأستنتاجات غير علميّة لنظرية الحكومة المدنية لجون لوك، وإلى توافق غير معلن بين القوى الإسلامية كي لا تتّهم من أنّها تعمل لبناء دولة دينية إسلامية، والقوى الديموقراطية التي تخاف من طرح العلمانية كمبدأ نتيجة تكفير الإسلاميين للعلمانية والعلمانيين وإعتبارهم ملحدين. ولا وجود لها كما قلنا في أي معجم سياسي غربي أو مركز بحثي مهتم بالعلوم السياسية والفلسفية.

والدولة المدنية التي تريدها القوى الديموقراطية العراقيّة كبديل لنظام المحاصصة، لا تعالج أهم نقطة في بناء مجتمع جديد ومن ثم دولة جديدة وهو فصل الدين عن الدولة. أنّ أي تغيير سياسي لا يستحدث آليات سياسية وأجتماعية وأقتصادية وفكرية لنقل المجتمع للأمام وبناء جديد للدولة، هو تغيير فوقي وإستمرار للحالة السياسية التي سبقت التغيير من خلال عدم حلّ المشاكل التي كانت سببا لهذا التغيير ودافعا لحصوله. ومثلما لم تستطع قوى المحاصصة إستحداث الآليات السياسية والأجتماعية والأقتصادية والفكرية لبناء دولة عصريّة، فأنّ القوى الديموقراطية لن تكون قادرة هي الأخرى على إستحداث هذه الآليات من خلال ما يطلق عليه الدولة المدنية التي ترفع شعارها، لأنّها بحاجة الى تحقيق نقطة لا تستطيع "الدولة المدنية" تحقيقها وهي الفصل الكامل للدين عن الدولة كمقدمة لتفكيك أهم حليف للمؤسسة الدينية والقوى الطائفيّة أي المؤسسة العشائرية. وهذه المهمّة التي هي الحل الوحيد لأنقاذ العراق لا تأتي الّا عبر نظام عَلماني ديموقراطي حقيقي، يأخذ على عاتقه بناء مجتمع وفق آليات تختلف عن الآليات التي سبق وأن استخدمتها السلطات العراقية السابقة ومنها سلطة المحاصصة.

أنّ قيام نظام علماني ديموقراطي بالعراق سيقدّم أكبر خدمة للدين، بعد أن جعله الأسلاميّون ومنهم معممّون ومؤسسات دينية في وجه مدافع الإنتقادات، بنشرهم الفساد والفقر والجهل وقمع الحريّات وما ينتج عنها من آفات إجتماعية وخراب أقتصادي وأستعباد الناس، عن طريق منع الدين والمؤسسة الدينية للعب أي دور في مجال التعليم بإعتباره الركيزة الأساسية لبناء دولة متقدمة، لذا نرى إصرار الأحزاب الأسلامية ومعها المؤسسات الدينية على تدمير التعليم بالبلاد، عن طريق إضعاف المدارس والجامعات العراقية التي كانت يوما في مستوى متقدم عن طريق إنتشار المدارس والجامعات الأهليّة التي تمتلكها مؤسسات دينية وشخصيات من هذه الأحزاب، والتي يلعب الدين الطائفي والمفاهيم القوميّة في مناهجها دورا كبيرا. ومن خلال تجربة عراق المحاصصة اليوم نرى ضعف الدولة في مجال التعليم وعدم إمكانيتها في تطبيق نظام تعليمي حقيقي وموحّد بالبلاد، وترك الأمر لأهواء مالكي المدارس والجامعات الأهلية، الذين يبحثون عن الربح مع إستخدامهم المناهج التعليمية وفضاء هذه المدارس والجامعات كحاضنة آيديولوجية.

ويتجاهل الإسلاميون أن العلمانيّة حين تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، تكون قد جنّبت سقوط الدين في معتركات المصالح السياسية وتقلباتها، والتي تؤدي إلى تشويه صورة الدين في حال تم استخدامه في ألاعيب السياسة، وعن هذا كتب الفيلسوف الإنجليزي جون لوك قائلا:"من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيًا أو فكريًا أو اجتماعيًا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحراراً، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة"، وإذا ما أردنا أن نطبّق مقولة لوك هذه بالعراق فنستطيع القول "يجب أن تكون الدولة منفصلة عن المؤسسة الدينيّة، والّا يتدخل أيّ منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر العراقي القادم عصر العقل، ولأوّل مرّة في تاريخ العراق الحديث سيكون الناس أحرارا وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة".

الدولة العلمانية الديموقراطية ليست معادية للدين والتديّن، بل على العكس فأنّها ومن خلال قوانين حريّة الرأي والمعتقد والفكر والضمير تمنح المؤمنين وغير المؤمنين حقوقا على قدم المساواة دينيا، كما تمنح أبناء شعبها من القوميات والأثنيات المختلفة حقوقا متساوية أيضا. ومثلما توفّر الحماية للمؤمنين قانونيا فهي توفّر الحماية للملحدين من خلال مبدأ حريّة الرأي والمعتقد والضمير. أنّ الحروب الدينية الطائفية والحروب القومية معدومة تقريبا في ظل العلمانية الديموقراطية وهذا ما نحتاجه فعلا بالعراق اليوم، كون الطائفتين المسلمتين خاضتا ولأوّل مرة في تاريخ العراق الحديث حربا حقيقية وتتخندقان اليوم مقابل بعضهما البعض، وخلافاتهما الفقهية والتي يستغلّها ساسة الطائفتين مع خطر المواجهة القومية بين العرب والكورد، يهددان بتقسيم البلاد كما حصل في السودان ويوغسلافيا والهند وبعدها إنفصال بنغلاديش عن باكستان. وسيبقى الفصل القانوني وفق الدستور بين الدين والسياسة، والتعليم بفصله التام عن التأثيرات الدينية لأي دين أو طائفة، مهمّة لا ينجح بها الا نظام علماني ديموقراطي، مع الأخذ بنظر الأعتبار من أننا بحاجة الى دستور يكتبه فقهاء قانون وليس فقهاء دين.

العلمانية كنظام للحكم لم تظهر دون مخاض سياسي وأقتصادي وأجتماعي وأخلاقي خاضته البشرية طوال تاريخها، بل تطورت على أنقاض أنظمة الحكم المختلفة منذ العبودية لليوم، ونجح الراهب مارتن لوثر على سبيل المثال في نضاله ضد الكنيسة الكاثوليكية التي سنّت صكوك الغفران كوسيلة لإثراء كهنتها، عندما بيّن للناس أن سلوك الكنيسة كان بعيدا عن تعاليم الكتاب المقدس. فهل هناك مرجع ديني أو مصلح ديني أو سياسي قادر اليوم وللحفاظ على الدين والمذهب ان يبيّن للناس أنّ سلوك رجال الدين والساسة الإسلاميين هو على الضد ممّا جاء في القرآن، وأنّ هيمنتهم على السلطة ما هو الا اثراء لهم وإساءة للدين الذي يؤمن به الفقراء المؤمنون، كما كان الفقراء المسيحيّون المؤمنون وقتها؟

والآن فهل نحن بحاجة الى "دولة مدنية ديموقراطيّة" أم الى دولة علمانيّة ديموقراطية ..؟ سؤال موجّه الى القوى والمنظمّات السياسية التي على عاتقها يقع إنقاذ العراق وشعبه من شرور المحاصصة الطائفيّة القومية.

لا يمكن تحطيم اي شكل من أشكال العبودية إلا بتحطيم كل أشكال العبودية ... (كارل ماركس، نقد فلسفة الحق عند هيغل)

***

زكي رضا - الدنمارك

30/4/2023

طبقا لأغلب دساتير العالم تتكون مؤسسات الدولة الرئيسية من ثلاث سلطات هي السلطة التشريعية المناط بها تشريع القوانين ومراقبة السلطة الثانية وهي السلطة التنفيذية التي يقع على عاتقها تنفيذ ما تقرره السلطتان التشريعية والقضائية، اما السلطة الثالثة فهي السلطة القضائية وهي سلطة المحاكم في تطبيق القوانين التي تصدر أساسا من السلطة التشريعية والقرارات واللوائح المنسجمة مع الدستور، ولا شك بأن العديد  من القراء سيقودهم العنوان إلى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي تتكون منها الدولة بالمفاهيم السياسية والدستورية، وبصرف النظر عن طبيعة النظم السياسية في غالبية دول الشرق الأوسط ومن شابهها في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، فإن السلطات الثلاث مجرد أدوات بيد الحاكم وليس المحكوم، وإن ادعا البعض بأن إحداهن أي التشريعية منتخبة من قبل الشعب فهي بالتالي سلطته، على اعتبار أنهم استخدموا صناديق الاقتراع لانتخاب ممثلي الشعب!

وفي واقع حال هذه الدول وموروثاتها من التقاليد والعادات والأعراف المرتبطة ارتباطا جنينيا مع الدين وتفرعاته ومع النظام القبلي وتكويناته فإن السلطات الثلاث في حقيقة الأمر ليست كما يُعرفها المفكر أو المشرع الدستوري السياسي، بل هي سلطات أخرى بلبوس ومسميات تلك السلطات حيث يكون المحتوى الديني والمذهبي والنظام القبلي ورموزه ومجموعة العادات والأعراف الاجتماعية هي السلطات الحقيقية، بعيداً عن أي مفهوم مهني لتلك السلطة، حيث يحتل المحتوى أعلاه ورموزه من شيخ القبيلة ورجل الدين ومنظومة العادات مكانة القانون في توجيه بوصلة الحكم والفصل في كل القضايا، وما يحصل اليوم من تجارب في البلدان التي أُسقطت نظمها السياسية السابقة كما في العراق واليمن وإيران وأفغانستان والسودان وليبيا تعطي أفضل نماذجٍ لدول سلطات رجال الدين والمذهب والقبيلة والعادات. ورغم أن معظم هذه البلدان عاشت في تاريخها السياسي تحت حكم أنظمة شمولية والعديد منها كان يدعي اليسارية أو الليبرالية أو العلمانية أو الاشتراكية، لكنها أي هذه الأنظمة فشلت فشلاً ذريعاً في إحداث تغيير أفقي نوعي في تربية وسلوك تلك المجتمعات التي بقيت في تفاصيل حياتها خارج تأثير الحكم تمارس تلك الهيمنة غير المرئية لرجال الدين والقبيلة والتقاليد الموروثة، وبمجرد غياب الدولة إثر سقوط نظامها السياسي نهض ذلك التأثير المتكلس في ذاكرة وعقلية المجتمعات بدون استثناء وهيمنت الأعراف الدينية وتفرعاتها المذهبية والنظام القبلي ورموزه ومنظومة العادات والتقاليد، وكان ذلك جلياً في تجارب كثير من دول المنطقة ومن شابهها في عدة قارات، حيث توغلت سلطة التشريع الديني وهيمنة رجال الدين وشيوخ العشائر وأعرافها على معظم مفاصل الدولة وبالذات الأمنية والعسكرية، حيث بدأت تلك السلطات تدير الدولة من خلال الأحزاب ومصداتها الميليشياوية التي تسلقت سلم الانتخابات بتأثيرات الفتاوى والدعم القبلي وموروثاته في توجيه بوصلة الناخبين، مما أدى الى هيمنتها على أعلى سلطة في البلاد، وبذلك كانت السلطات الثلاث في معظم هذه البلدان لا تتجاوز سلطة الدين والقبيلة والتقاليد والأعراف، تحت عباءة ذات العناوين السياسية والدستورية  للسلطات!

***

كفاح محمود

الجميع في العراق يدعو اليوم لما تسمّى بالدولة المدنية، الشيوعيون، القوميون ، الماركسيون، الليبراليون، منظمات المجتمع المدني، النقابات، التشرينيون، العشائر، بل وحتى البعض من الأسلاميين وميليشياتهم!! فهل نحن بحاجة فعلا بعد مرور عشرات العقود على إنشاء الدولة العراقيّة الحديثة بهشاشة نسيجها الأجتماعي وأحتراب مكونّاتها العرقيّة والطائفيّة، وعقدين على تجربة نظام "ديموقراطي" أثبت فشله على كل الصعد لتضاف تجربته المريرة الى فشل أنظمة الحكم العراقية التي سبقته، اقول ، هل نحن بحاجة فعلا الى دولة مدنية ديموقراطية؟ هذه التي يدعّي جميع من جئنا على ذكرهم العمل لتحقيقها على الرغم من الفروقات الكبيرة بين القوى التي تتبنى هذا المفهوم لشكل الدولة، أم نحن بحاجة الى دولة علمانية ديموقراطية؟

العراق على الصعيد الأجتماعي يتحكّم فيه عاملا الدين/ الطائفة – القومية / العشيرة، ومن خلال هذين العاملين تأتي عوامل أخرى كتحصيل حاصل لدورهما وولاء الغالبية العظمى من الشعب العراقي لهما، نتيجة دور نفس هذين العاملين في ترسيخ التفرقة والتخلف والجهل عن طريق سرقة ما تبقّى من وعي عند الجماهير، علما من أنّ العراقيون لم يغادروا مربّع هذين العاملين منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة لليوم. ومن العوامل التي تساهم في ترسيخ مفهومي الدين/ الطائفة - القومية / العشيرة اليوم، هي أحزاب المحاصصّة الطائفية القوميّة المهيمنة على السلطة منذ الأحتلال حتى هذه اللحظة. ولمّا كانت المؤسستين الدينية/ الطائفية ومعها القومية/ العشائريّة غير قادرتين دستوريّا على تبنّي تعريف محدّد للدولة، فأنّ سلطة المحاصصّة أخذت على عاتقها من خلال هيمنتها على السلطة تعريف شكل الدولة التي تتماشى بالحقيقة مع ما تريده هاتين المؤسستين بما يضمن مصالحهما.

لو نظرنا الى الأحداث التي جرت وتجري في العراق منذ الأحتلال لليوم، لرأينا أنّ كل مناحي الحياة السياسيّة والأجتماعية والأقتصادية مشوّهة بشكل كبير. هذا التشّوه بالحقيقة له جذوره التي سبقت الأحتلال، لكنّ النظام السياسي الجديد لم يعالج كما كان منتظرا منه التشوّهات التي ورثناها من النظام البعثي والأنظمة التي سبقته في بنية الدولة والمجتمع، بل على العكس فأنّ النظام الجديد عمّق تلك التشوّهات خدمة لمصالح نخب سياسيّة وعائلية وعشائريّة على حساب مصالح الجماهير المسحوقة من جهة، ولصالح قوى إقليميّة ودوليّة من جهة ثانية. ولو عدنا الى أسباب أستمرار التشوّهات في ظل السلطة الجديدة سنرى أنّ الدستور العراقي هو الحجر الأساس في هذه التشوّهات، كون هذا الدستور مشوّه ومتناقض في أهمّ فقراته التي تحدد شكل الدولة وهويّتها. فالدستور لم يشر علنا الى أسلاميّة الدولة، الّا أنّه وضع الدولة في إطار أسلامي على المستوى القانوني/ التشريعي، وفي صورة أسلاميّة على المستوى الأجتماعي وحقل التعليم. فالدستور العراقي ينص في مادّته الثانيّة على:

أولّا: "الاسـلام دين الدولــة الرسمي، وهـو مصدر أســاس للتشريع"

أ‌- لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام

ب‌- لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية

ج- لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور".

ثانيا:- يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الاسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الافراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والآيزديين والصابئة المندائيين.

هذه المادّة الدستوريّة ليست تشوّها في الجسد الديموقراطي للدولة فقط، بل هي أساس قانوني ودستوري لضبابيّة شكل الدولة ونسفها مستقبلا. ولو عدنا الى اللجنة التي كُلّفت بكتابة الدستور فسنرى أنّ النسبة الأكبر من أعضائها هم سياسيّون ورجال دين من ثلاث مجموعات سكّانيّة (شيعة- سنّة - كورد)، مع عدد من ممثّلي الأثنيات العراقيّة الأخرى وعدد قليل من القانونيين والمختصّين كديكور ليس الّا، كونهم غير مؤثرّين لا في هذه اللجنة ولا غيرها. ولكي نتعرف على شكل الدولة التي رسم الأعضاء الواحد والسبعون (عدد أعضاء اللجنة التي كتبت الدستور) ملامحها، فعلينا أن ننتبه الى وجود ممثّل فيها كان له حقّ الفيتو غير المعلن وأملاء ما يريد وتمرير ما يريد وهو السيّد أحمد الصافي النجفي ممثل السيد السيستاني في تلك اللجنة. ولو عدنا الى الدستور العراقي لسنة 1925 لنقارنه بدستور اليوم فسنراه أكثر تقدميّة في هذه المادّة بالذات، فقد نصّ في مادّته الثالثة عشرة من أنّ: "الإسلام دين الدولة الرسمي، وحرية القيام بشعائره المألوفة في العراق على اختلاف مذاهبه محترمة لا تُمس، وتضمن لجميع ساكني البلاد حرية الاعتقاد التامة، وحرية القيام بشعائر العبادة، وفقاً لعاداتهم ما لم تكن مخلّة بالأمن والنظام، وما لم تناف الآداب العامة". "ولا يوجد في هذا النص ما يشير الى علاقة الدين بتشريع القوانين نفياً او ايجاباً. ومن الناحية العملية ظلت الأحكام القانونية تُستمد من أحكام الشريعة الإسلامية سواء في الأحوال الشخصية أو العلاقات العائلية أو في الحقوق المدنية" (1)

من خلال الأشكالية الدستورية أعلاه، وممارسات التيار الأسلامي والمؤسسات الدينية سلطويّا ومجتمعيا , ومن خلال حقل التعليم، علينا البحث عن أجابة لسؤال محدّد هو: هل العراق دولة دينية أم "دولة مدنية" يهيمن عليها الدين من خلال مؤسساته وأحزابه الذين يريدون فرضه أي الدين كأداة للحكم وفلسفة وقيم لقيادة المجتمع، وإن كنّا بحاجة لهما أو لأحدهما كنموذج للحكم للخروج من أزماتنا التي نعيشها اليوم كمواطنين وكبلد يشغل الدين فيه مساحات واسعة من العقل الجمعي لمواطنيه وقوانينه ويرسم سياساته ويؤثّر بشكل كبير على حياة سكّانه الأجتماعيّة، أمْ أنّ الدولة العلمانيّة الديموقراطية هي السبيل الوحيد لبناء دولة عصريّة على أنقاض الدولة "الدينيّة" أو "المدنيّة" التي نعيش خرائبها اليوم؟

الغالبية العظمى من الدول العربيّة والأسلاميّة ومن خلال دساتيرها هي شكل من أشكال الدولة الدينيّة على الرغم من أنّها مدنية الطابع إجتماعيّا وثقافيّا وفكريّا، ولا يخلو دستور فيها من أربعة نصوص رئيسية حول الأسلام وهي: أن يكون الأسلام دين الدولة الرسمي، والأسلام مصدر أساسي للتشريع، والأسلام مصدر من مصادر التشريع، والدولة راعية للدين. والدستور العراقي فيه هذه النصوص جميعها. وتبقى الجمهورية الأسلاميّة الأيرانيّة على سبيل المثال والتي تنصّ مادتها الدستوريّة الرابعة بأن:

"يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والأنظمة المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها. ويسري هذا المبدأ على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى على الإطلاق والعموم، ويتولى الفقهاء في مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك" هي دولة دينيّة دستوريا.

المادّة الدستوريّة الإيرانية هذه هي ترجمة حرفيّة لمفهوم (الحكم بما أنزل الله) والتي يتمّ تفسيرها سياسيّا كي تكون الشريعة الأسلاميّة هي الأساس في بناء المجتمع والأنسان، وهي التي ترسم من قبل الدولة طبيعة الحياة السياسيّة والأجتماعية والفكريّة والأقتصاديّة للمجتمعات الأسلاميّة، وهي التي تملك الوصاية على حقل التعليم وتوجيهه أسلاميّا، وهنا تحديدا تكمن الخطورة. وقد أرجع المودودي القانون الى الله وحده في معرض تفسيره حول حاكميّة الله القانونيّة فكتب "يقرر القرآن الكريم أنّ الطاعة لا بدّ وأن تكون خالصة لله، وأنّه لا بدّ من إتباع قانونه وحده، وحرام على المرء أن يترك هذا القانون ويتّبع قوانين الآخرين أو شرعة ذاته ونزوات نفسه" (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون – البقرة 229 (2) وقد حذا محمد باقر الصدر حذو المودودي في هذا الجانب ليقول "ما دام الله تعالى مصدر السلطات، وكانت الشريعة هي التعبير الموضوعيّ المحدّد عن الله تعالى، فمن الطبيعيّ أنْ تحدّد الطريقة الّتي تُمارَس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلاميّة" (3) وقد ذهب الخميني الى "أنّ القرآن الكريم كتاب قانون، يحمل بين دفتيه أصول الحكم وقواعده، ويستبطن مكوّنات دولة في طبيعة تعاليمه" (4) أمّا عن أسباب التشريع الأسلامي فأنّ "ماهية وكيفية القوانين الإسلامية وأحكام الشرع تدلّ على أنّها قد شرِّعت لإنشاء حكومة ولإدارة سياسية واقتصادية وثقافية للمجتمع" (5)

المؤسسات الدينيّة والأحزاب والمنظمّات الدينية والطائفيّة بالعراق، لم تتطرق لليوم الى شكل الدولة بالبلاد عدا بعض التنظيمات التنظيمات الشيعية، والتنظيمات الأسلاميّة المتطرفة ومنها تنظيمي القاعدة والدولة الأسلاميّة (داعش) الأرهابيين، اللذان دعيا لقيام دولة أسلاميّة يكون الحكم فيها لله أي وفق الشريعة. الا أنّ المؤسسات الدينية وغالبية الأحزاب والمنظمات الدينية الأخرى لم تبدِ وجهة نظرها بشكل علني حول شكل الدولة لظروف موضوعية تمر بها البلاد وليس لعوامل ذاتية، لذا نراها تعمل في المنطقة الرمادية لحين قدرتها على تغيير شكل الدولة نحو الدولة الثيوقراطيّة أي الدينية كما إيران وتنظيم الدولة أي داعش، مع التركيز على أنّ شكل الدولة وهي تحت سيطرة الأحزاب والمؤسسات الدينية ومراجعها يلتقي بشكل أو بآخر مع أهداف داعش من حيث العودة للقرآن والشريعة كوسيلة للحكم وبناء الدولة. لكنّه يختلف عنه بالعراق حيث الثقل الشيعي وميل واضح لغالبية التنظيمات السياسية الشيعية نحو الجمهورية الأسلامية الايرانية كنموذج يحتذى به لبناء دولة على غرار الدولة الأيرانية، أي دولة ولي الفقيه. وقد أكّد الخميني أنّ حق الحاكمية بعد الله كانت للنبي ثمّ "أنتقلت مسؤولية القيادة السياسية للمجتمع بعد النبي الى الأئمّة المعصومين" (6). وقد أوكل الله وفق وجهة نظر الخميني حقّ الحاكمية بعد النبي وأئمة أهل البيت بعدهم الى علماء الدين الذين ليس لغيرهم الحقّ في الحكم وهم "المصداق الحقيقي لأولي الأمر" (7)، وفي تشكيل حكومة عصر الغيبة يقول "عرّف الأمام المعصوم (عج) الفقهاء العدول بوصفهم قادة سياسيين للمجتمع والمسؤولين عن تشكيل الحكومة" (8). وقد كان يوسف القرضاوي شديد الوضوح وهو يكتب "فالحق أن الدولة الإسلامية: دولة مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها إلا أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية"!! (9)

هناك من يعتقد ومنهم سياسيّون ومثقفون من أنّ العراق بعيد كل البعد عن دولة ولي الفقيه لأنّ المرجعيّة الدينيّة في النجف لا تؤمن بمبدأ ولاية الفقيه، لكنّ هؤلاء لا يمتلكون الأجابة الدقيقة عن موقف مرجعيّة النجف بعد وفاة السيستاني من هذا الأمر، وبدأ الصراع لأنتخاب مرجع أعلى للشيعة بالعراق ودور إيران في حسم الصراع لصالحها عن طريق تأثيراتها الظاهر منها والباطن، متناسين على ما يبدو من أنّ التفسير الشيعي لمن له الأهليّة في قيادة الدولة إنتظارا لظهور المهدي، ينبع من إيمانها في أنّ الإمامة هي إمتداد للنبوّة، وأنّ المرجعيّة الدينية هي التي عليها قيادة الدولة والمجتمع إنتظارا لظهور المهدي المنتظر، أي أنّ المرجعيّة هي من تحدد شكل الدولة وهيكليتها وهي من تقودها، والتي ستكون بعد وفاة السيستاني أي مرجعيّة النجف إيرانيّة في فتاواها ونهجها بقوّة الأحزاب الشيعيّة تشريعيا وتنفيذيّا وبسطوة ميليشياتها "العراقيّة" المسلحّة التي أخترقت جسد "الدولة" العراقيّة.

الأسلام السياسي ومعه مؤسساته الدينيّة اليوم يعملون على قدم وساق لتشويه العلمانيّة بإعتبارها مناهضة للدين ومصادِرة لحقوق المؤمنين، ويسخّرون في هذا الأتجاه كل طاقاتهم الفكريّة والأعلاميّة ومنها منابرهم الدينيّة لتكفير العلمانيّة كنظام للحكم. فهل نحن بحاجة الى "دولة مدنيّة" كتلك التي يتعايش الإسلاميّون اليوم معها، أم الى دولة علمانيّة ديموقراطيّة لتكن بوابّة لبناء عراق جديد؟

***

زكي رضا - الدنمارك

27/4/2023

..................

(1) نظرة مقارنة في دستور (1925) ودستور (2005)، عبد الغني الدلي (وزير سابق) صحيفة المدى

(2) ابو علي المودودي، الخلافة والملك، دار القلم الكويت، تعريب أحمد إدريس، ص 16

(3) نظرية الدولة في الإسلام، سلسلة دروس في فكر الشهيد الصدر ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

(4) صحيفة النور 17: 252.

(5) الإمام الخميني، ولاية الفقيه: 28.

(6) الإمام الخميني، ولاية الفقيه: 51.

(7) الإمام الخميني، كشف الأسرار: 221 ـ 223.

(8) المصدر نفسه: 223.

(9) يوسف القرضاوي مقالة تحت عنوان " دولة مدنية مرجعيتها الإسلام.. كيف؟

لهذه الأسباب سينهار الدولار قريباً

إن الاستخدام الممنهج للعملة الأمريكية كأداة للعقوبات يؤدي إلى وقف استخدامها في العالم. جاء ذلك وفق ما قاله رجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك، حول تقييمه لآفاق الدولار مستقبلاً على صعيد عالمي منوهاً إلى أنه:

"إذا قمت (باستخدام) عملة ما (كسلاح) مرات كافية، فستتوقف الدول الأخرى عن استخدامها".

وهذا منطقي على الأقل من باب المعاملة بالمثل في ظل تشجيع دول العالم المؤثرة على التخلي عن الدولار وعدم الثقة به خوفاً من فخاخ العقوبات التي تلوح في أفق كل من يعارض السياسات الأمريكية على صعيد بيني. وبذلك يكون "قد شهد شاهد من أهله".

ووفق تعليق ماسك على تغريدة نشرها أحد الخبراء على شبكته "تويتير" فإن تخلي الاقتصاد العالمي عن الدولار أسرع بعشر مرات مما كان عليه في العقدين الماضيين" وهذا يعد الأخطر على مستقبل أمريكا برمته والذي يعتبر الدولار فيه من أهم مقوماته كونه مدعوماً بالسلطة الأمريكية عالمياً والآخذة بالتقلص اللافت.

صحيح أن أمريكا على صعيد تاريخي وفي ظل إدارة الرئيس "فرانكلين روزفلت" عام 1933 انسحبت من نظام "معيار الذهب"في محاولة أخيرة لإنعاش النمو الاقتصادي، لكن ظروف مشاركتها في الحرب الفيتنامية فاقمت من حالة التضخم التي غشت أمريكا آنذاك، ما استوجب انضمامها مجدداً إلى "معيار الذهب" كجزء من موافقتها على اتفاق "بريتونوودز".

وبدأت دول كثيرة تطالب أمريكا بالذهب مقابل حيازاتها من الدولار، وذلك بحسب التقرير الذي نشرته شركة البحوث الأمريكية "موتلي فول" لتأتي عقب ذلك ما عرف ب"صدمة نيكسون" تحديداً في 15 أغسطس 1971 فإزاء ذلك وافق "نيكسون" على سلسلة من التدابير الاقتصادية، أهمها كان إلغاء التحويل الدولي المباشر من الدولار الأمريكي إلى الذهب.

وعليه فإنه بحلول عام 1973 كان من الواضح أن التعليق المؤقت لمعيار الذهب سيدوم إلى الأبد، حيث قامت معظم الدول الأخرى بتحديد قيمة عملاتها بوسائل بعيدة عن معيار الذهب، وذلك رداً على خطوة "نيكسون".

وحتى اليوم ما زال تأثير "صدمة نيكسون" يُنَاقَشُ من قبل كبار الاقتصاديين ومنهم ماكس نفسه، لتأثير ذلك على الاقتصاد العالمي والسياسة النقدية في الولايات المتحدة كأكبر من أي حدث آخر شهده النصف الثاني من القرن الماضي.

وإزاء ذلك جاءت روسيا في ظل العقوبات الغربية التي تتعرض لها رداً على احتلالها لأوكرانيا مطلع العام الماضي، لتعلق الجرس أولاً بتجاوز الدولار وتبني سياسة التعامل بالعملات المحلية في التعاملات التجارية، ومنها سوق النفط ضمن سياسات مجموعة "بريكس"، وهي منظمة دولية تضم روسيا، البرازيل، الهند، الصين، جنوب أفريقيا، وتستحوذ على 23% من حجم الاقتصاد العالمي، و18% من التجارة الدولية. وهذا يبين مدى خطورة الخطوة الروسية على الدولار.

ويسعى عدد من الدول إلى الانضمام لهذه الكتلة الاقتصادية الضخمة، كالجزائر والأرجنتين وإندونيسيا وإيران والسعودية وفق ما كشفت عنه وزيرة خارجية جنوب أفريقيا ناليدي باندور في مقابلة تلفزيونية وذلك عن تلقي بلادها لـ 12 طلباً للانضمام إلى "بريكس" باعتبارها الدولة المستضيفة لقمة المجموعة شهر أغسطس المقبل.. حيث ستحدد مجموعة "بريكس"معايير الانضمام إليها وفق وكالة "بلومبيرغ" الأميركية.

وهذا يعزز ما أوضحه ماكس في تغريدته حول مصير الدولار حيث اشار إلى أن نصيب الدولار في التسويات العالمية انخفض إلى 55% في 2020 من 73% في 2001، ومع فرض العقوبات على روسيا انخفض المؤشر إلى 47%.

فيما توقع الخبير الاقتصادي والمدير العام لشركة "سبوتنيك لإدارة رأس المال" ألكسندر لوسيف، الاثنين الماضي، بأن الدولار سيفقد هيمنته في سوق العملات بحلول نهاية العقد كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية مع العملة العالمية الرئيسية حينها الجنيه البريطاني.

وقال: "نرى اتجاهاً هبوطياً في التسويات بالدولار وتراجعاً في احتياطيات البنوك المركزية المقومة بالدولار، فعلى سبيل المثال انخفضت حصة الدولار إلى أقل من 58% في الاحتياطيات الدولية للبنوك المركزية".

والنتيجة وفق توقعات الخبير الأمريكي أنه في أفق خمس إلى سبع سنوات، حتى نهاية العقد، في هذا الأفق سيفقد الدولار مكانته الريادية في التسويات الدولية، لأن دول العالم التي لديها الكثير من الديون المقومة بالدولار معرضة بشدة لاضطرابات النظام المالي العالمي القائم على العملة الأمريكية.

وعليه فالدولار قد يفقد بريقه كما حصل مع الجنيه البريطاني كما أشرنا آنفاً، والذي كان في يوم من الأيام العملة الرئيسية في العالم.

هذا ما خلص إليه صاحب القرار في أكبر شركة عالمية "سبوتنيك لإدارة رأس المال" وقد شخّص الاقتصاد العالمي غير الدولاري وغير الغربي، في ظل توقعاته على نحو أنه ينمو (بعيدا عن الدولار والاقتصادي الغربي)، وقد تجاوزت دول مجموعة "بريكس" بالفعل دول G7 (مجموعة الدول الصناعية السبع) من حيث مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

وهذا يفسر انهيار الهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للدولار . وبالتالي التوجه إلى عالم متعدد الأقطاب".

***

بقلم بكر السباتين

27 أبريل 2023

أحداث مريعة مرت مروراً خاطفاً  بالسودان كأنها عاصفة مدمرة لا تعبأ بما تركته خلفها من أنقاض!

ثمة هدنة بين أطراف النزاع دعت إليها واشنطن لإجلاء رعايا مختلف دول العالم ليظل الشعب السودانى يعانى الأمرين بين مطرقة وسندان..ولتبقى الآثار المدمرة لحرب اندلعت ولا يعلم أحد متى ستنتهى..

حصيلة الأيام الأولى

عشرة أيام انقضت منذ بداية المعارك وحصيلة الخسائر تزداد يوماً بعد يوم.. إحصاءات القتلى والمصابين تتفاوت بين تصريحات من هنا وهناك لتصل فى بعض التقديرات إلى نحو خمسمائة قتيل وحوالى أربعة آلاف مصاب وسط بقاء نحو ربع المرافق الصحية خارج دائرة الصلاحية إما لخلوها من العاملين أو لتعرضها لوابل النيران من الجانبين فى قتال انتقل إلى الضواحى والشوارع السكنية وبات خطره محدقاً على كافة المدنيين.. أغلقت المحال التجارية أبوابها وانعدم الوقود فى مناطق القتال. وبدأت المؤونة لدى السكان المحاصرين داخل بيوتهم تنفد شيئاً فشيئاً حتى بدأت مخاوف عودة شبح المجاعات المهلكة قائماً إذا امتد أمد الحرب.

أكثر من هذا أن بعض اللصوص استغلوا تلك الحالة الفوضوية للقيام بعمليات نهب واسعة النطاق للبيوت والمحال،بات الانفلات الأمنى هو سيد الموقف..وامتد الانفلات ليطال السجون التى يتم فتحها واقتحامها لتهريب سجناء من بينهم رموز نظام البشير ! فهل يمكن أن يكون لهؤلاء دور ما فى سير الحرب القائمة إما بالتهدئة أو بمزيد من الاشتعال؟!

العاصمة الخرطوم باتت هى مسرح الأحداث الدامية خلال الساعات والأيام القليلة الماضية التى أبدلت الأوضاع فى العاصمة السودانية وحولت الشوارع إلى ساحات حرب تختفى منها وجوه المدنية والتحضر وتتوالى الانفجارات ويغطى الدخان الأسود الآفاق وتنغلق المتاجر وتتوقف الحياة وتنعدم الخدمات ويخيم شبح الموت على أبرياء كثيرين لا يعلم أحد حجم ما يعانونه جراء اقتتال همجى لا يراعى أية مواثيق أو حرمات ولا يكترث لحجم الدمار والضرر الذى يلحق بالبلاد..

مطار الخرطوم خرج من الخدمة ، وتوقفت الرحلات بكل أشكالها. هذا وحده كفيل بحرمان السودان من حركة التجارة الخارجية لمدة قد تطول، ناهيك عن الشلل الذى أصاب قطاعات واسعة من الاقتصاد السودانى خلال أيام كلفت السودان عدة مليارات بسبب توقف البنوك والمصانع وحركة الإنتاج والنقل. فإذا كان مثل هذا الأثر المدمر قد حدث خلال أيام قليلة، فما الحال إذا استمرت المعارك لعدة أسابيع قادمة أو شهور؟!

خلف كواليس الهدنة

كلما تنفسنا الصعداء لإعلان هدنة بين الطرفين لا نلبث أن نرى الاختراقات تلاحقها من أحدهما ويعود الاقتتال ويستمر الصراع الدامى.. غير أن الملاحظ هنا أن أموراً كانت تدور خلف كواليس كل هدنة كأنها تهيئة لتطور جديد يجرى على مسرح العمليات القائم من هذا الجانب أو ذاك.. فبعد كل هدنة يتغير شكل الحرب من قتال مواقع إلى قتال شوارع، وتتغير الأسلحة لتأتى إمدادات متطورة من أطراف خارجية تتدخل لصالح كل طرف، لدرجة أن يصرح وزير الخارجية الروسي بأن السودان من حقه الاستعانة بقوات فاجنر وكأن الوضع المشتعل بالأساس ينقصه مزيد نار!

الهدنة الأخيرة التى تمت لأجل ترك الفرصة لإجلاء رعايا الدول الأجنبية والإقليمية حدث معها تطور نوعى هو فتح السجون وخروج رموز البشير. فمن الذى قام بتلك المهمة وما غرضه؟ وإذا كانت أطراف النزاع تستغل فترات الهدنة لإعادة ترتيب أوراقها فهل ستظل المعركة محتفظة بنفس وتيرتها وطريقتها أم نجد تغيرات نوعية أخرى فى تكتيكات التحرك ونوعيات الأسلحة وطرق المواجهة؟ لاسيما وقد تغيرت المعادلة بخروج البعثات الدبلوماسية وخلو الساحة تماماً لقتال مفتوح يكون الخاسر الأكبر فيه هو الشعب السودانى ..

الجميع خاسرون إلا هؤلاء

ما لا يدركه فرقاء الحرب أن استمرارها يحقق خسارة مؤكدة لجميع أطرافها .. لابد أن الذخائر ستنفد والقوى ستخور والأرواح ستفقد والدمار سيمتد والقوى الخارجية ستنفضح. وسوف يأتى الوقت الذى يكتشف الجميع أن حجم الدمار أكبر من قدرة الجميع على ملاحقة آثاره لإعادة بناء دولة كانت فى  الأصل تعانى أيما معاناة من أزمات اقتصادية ومجاعات وصراعات وفساد.

فقط عشرة أيام كانت كافية لكشف حقيقة الأوضاع المتدهورة والتى ازدادت تدهورا وتفاقماً فى الداخل السودانى.. انقطاع الخدمات تسبب فى موت بعض المدنيين لنقص الدواء وتوقف المواصلات.. أسعار السلع الأساسية تضاعف، واستغل بعض الجشعين فضاعفوا أثمان الخدمات والسلع عدة أضعاف.. وبدأت حركات النزوح من مناطق المواجهة تزداد لتصل فى بعض التقديرات إلى نحو 3.5 مليون نازح خلال أيام قليلة. ولا ريب أن استمرار الحرب الدائرة واتساع نطاقها سوف يؤثر على كل دول الجوار السودانى بحركات نزوح ولجوء وهروب وهجرة أكبر من قدرة هذه الدول على استيعابها.

غير أن الأطراف الخارجية المحركة للأحداث فى السودان ربما يكون لها رأى آخر بخصوص معادلات الخسارة والمكسب. ولاشك أن إسرائيل والقوى الدولية القديمة هى المستفيد الأول هنا.

حفاة على أرض الذهب

الوضع فى  السودان مؤسف ومحزن، لكن ما قد يزيدك أسفاً وتعاطفا أن هذا البلد فى حقيقته أغنى من كل دول أوروبا مجتمعة بما يملكه من موارد لا يستطيع الانتفاع بها بسبب دائرة صراعات لا يكاد يخرج منها إلا ليدلفها من جديد!

وفقا لتقرير لمؤسسة جولدمن ساكس الأمريكية فإن السودان تتصدر قائمة الدول التى تمتلك أراض صالحة للزراعة غير مستغلة بمساحة تصل إلى نحو 80 مليون فدان وأن تلك المساحة إذا تم استغلالها الاستغلال الأمثل سوف تكون السودان هى سلة غذاء للعالم لا للعرب فقط. المدهش فى الأمر أن السودان اليوم تستورد نصف احتياجاتها من القمح رغم قدرتها على زراعته بكميات وفيرة، وهى إذا كانت تصدر عددا من المنتجات الزراعية المميزة إلا أن هذا أقل كثيراً مما يمكن إنتاجه فى مساحتها الزراعية الضخمة الممتدة. أما عن مساحات الغابات الموفرة للأخشاب بالسودان فحدث ولا حرج. هذا بخلاف كميات من الماشية والثروة الحيوانية تفوق أكبر دولة أوروبية مصدرة للحوم ومنتجة للألبان بمقدار أربع أضعاف! ناهيك عن كميات كبيرة تم اكتشافها من المعادن والثروات الكامنة فى باطن الأرض من بترول إلى يورانيوم إلى ذهب إلى حديد ونحاس ومنجنيز وكروم ورخام وغيرها من المعادن.. السياحة أيضاً بإمكانها أن تكون من مصادر السودان الرئيسية للدخل بفضل ما بها من مناظر برية وساحلية مبهرة بخلاف آثار مهملة ضاربة فى القدم  لا يعرف عنها العالم شيئاً لأنها بلد لم يتم استغلالها سياحياً بعد!

كيف يمكن لبلد بمثل هذه الثروات الهائلة أن يظل شعبه يعانى ويلات الجوع والفقر؟! إنها الصراعات المستمرة منذ عقود مضت لم تدع البلاد إلا وقد تمزقت إلى شمال وجنوب، وها هى اليوم تواجه خطر المزيد من التمزق والانقسام والتشرذم!

المشهد النهائى..متى وكيف؟

أخوف ما أخافه أن يخرج المشهد كله عن السيطرة وتنفلت الأوضاع فى الداخل السودانى وحول حدوده المترامية..خاصة وأن السودان بما عرف أنه يملكه من ثروات فى مستقبل عالمى يواجه أزمات اقتصادية بات اليوم مطمعاً لقوى دولية وإقليمية كثيرة، وهو ما يجعل استنزاف قوة الجيش فى اقتتال داخلى خطراً عظيماً يواجه أمن السودان..فحركات النزوح تزداد، وتتابع مغادرة رعايا الدول الأجنبية معناه أن الأرجح لدى هذه الدول أن المعركة ستطول.

إن ما يحاك للسودان هو ذاته ما كان يحاك لها من قديم من خطط استعمارية لتقسيمها واستنزاف مواردها. ولابد لجميع الأطراف الاستجابة لصوت العقل والحكمة قبل فوات الأوان.

***

د. عبد السلام فاروق

يبدو أن السودان والكثير من بلدان العالم الثالث، لم تغادر حقبة الخمسينيات والستينيات. وتقبع في الذاكرة التاريخية طائفة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها منذ استقلالها في العام 1956.

ولعلّ ما يحدث اليوم من مواجهات عسكرية بين "الأخوة الأعداء"، باستعارة عنوان رواية الكاتب اليوناني كازانتزاكيس، إنما هو استمرار لذلك المسلسل الدرامي الذي ما تزال نهايته مفتوحة، فقد احتدم النزاع المسلّح  بين قوات "الدعم السريع"، التي نشأت في العام 2013 وعرفت باسم "الجنجويد" والقوات المسلّحة النظامية بعد فشل الاتفاق على حلّ يُنهي الأزمة السياسية منذ التغيير الذي حصل بإطاحة نظام الرئيس عمر حسن البشير في العام 2019، بل زادت تعقيدًا منذ الحركة الانقلابية العسكرية في 25 أكتوبر / تشرين الأول 2021، بقيادة رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان.

ومنذ إزاحة نظام البشير، انقسمت البلاد إلى فريقين، أحدها عسكري يتألف من جناحيين، هما القوات المسلحة التي يقف على رأسها عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع  بقيادة نائبه محمد حمدان دقلو "حميدتي"؛ وثانيهما مدني، وهي وإن اختلف فيما بينه، إلّا أنه يكاد يجمع على مطلبه بقيام حكم مدني وإعادة الجيش إلى الثكنات.

وبالعودة إلى سيناريو الانقلابات والانقلابات المضادّة، فيمكن القول أن أوّل انقلاب كان بقيادة الفريق ابراهيم عبود في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1958، وذلك على هامش الخلاف حول حركة التمرد في الجنوب، وقد أطيح به في ثورة  أكتوبر / تشرين الأول 1964.

ونظّم ما أُطلق عليه "الضباط الأحرار" تيمّنًا بالتجربة الناصرية المصرية انقلابًا عسكريًا في 25 مايو / أيار 1969، وذلك بقيادة الجنرال محمد جعفر النميري، الذي سرعان ما اختلف أقطابه، فنظم هاشم العطا انقلابًا في يوليو / تموز 1971، لكن الحركة الانقلابية فشلت، وتمكّن النميري من استعادة السلطة، وقام بإعدام قادة الحركة، من بينهم قادة الحزب الشيوعي مثل عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجورج قرنق، وشنّ حملة اعتقالات واسعة، وتدريجيًا اتّجه الحكم نحو التشدّد والغلوّ بزعم تطبيق "الشريعة الإسلامية"، ولم يكن ذلك سوى تكميم الأفواه وتقييد حريّة التعبير بشكل خاص، والحريّات بشكل عام.

ونجحت الحركة الشعبية في الإطاحة بالنميري في 6  أبريل / نيسان 1985، وحدث انفراج نسبي في الوضع السياسي. فتشكّلت حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الصادق المهدي زعيم حزب الأمة بعد إجراء انتخابات، حتى تمكن الفريق عمر حسن البشير من الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري  في 30  يونيو / تموز 1989، وذلك بتحالفه مع الجبهة الإسلامية القومية التي ترأسها حسن الترابي، لكن السودان لم يشهد الاستقرار المنشود والتطوّر السلمي المدني، خصوصًا بتعتّق الأزمات واستمرار الحرب الأهلية، لما يزيد عن ربع قرن.

وكنت في زيارة لي للسودان في العام 2000 قد سألت الرئيس البشير في حديث متلفز وعلى الهواء مباشرة، بثّه التلفزيون السوداني وتلفزيون المستقلة من لندن: هل لديكم مشروع بشأن حلّ مشكلة الجنوب بعد أن فشلت جميع الحكومات السابقة في التوصّل إلى تفاهم وحلّ مقبول؟ فأجاب، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي ينطق بها، ليس لديه اعتراض فيما إذا أراد الجنوبيون الانفصال. الجدير بالذكر أن الحركة الجنوبية هي الأخرى فشلت في تحقيق أهدافها عبر الحلّ العسكري. وقد جرى تضمين  موضوع استقلال الجنوب في اتفاقية نيفاشا للسلام (كينيا)، ووضع موضع التطبيق باستفتاء أشرفت عليه الأمم المتحدة (يناير / كانون الثاني 2011)، حيث انفصلت دولة جنوب السودان عن جسم السودان الأساسي وانضمّت إلى الأمم المتحدة.

وعلى الرغم من الإطاحة بحكم البشير العسكري، إلّا أن الجيش عاد ليلعب الدور المحوري، خصوصًا بعد انقلاب البرهان المذكور وازدواجية السلطة مع حميدتي، وتبدد اتفاق تقاسم السلطة مع المدنيين حتى موعد الانتخابات، وهو الأمر الذي قاد لتنافس العسكريين فيما بينهم، إذْ لم يعد ممكنًا استمرار السلطة برأسين (رئيس مجلس السيادة ونائبه)، وهكذا انفجر الصراع بين الجيش والدعم السريع.

أكّدت التجربة التاريخية أن كل انقلاب عسكري يولد انقلابًا جديدًا من بطنه، وهكذا يتمّ تفريخ الانقلابات، وتستمرّ دوّامة العنف. ففي جميع البلدان التي حكم فيها العسكر، عادت البلاد القهقري، و ذلك واحد من أسباب تعثّر التنمية المستدامة. ومقارنة بالبلدان التي سلكت طريق التطوّر السلمي المدني، فثمة هوّة عميقة بينها وبين البلدان التي عرفت الانقلابات العسكرية، فليس بالشعارات يمكن تحقيق التنمية والرفاه والعيش الكريم لعموم الناس.

ما ينتظره السودانيون، وهو ما لمسته خلال زيارتين لي في العام 2022، وخلال لقاءات مع مثقفين وأدباء وأكاديميين ومحامين وحقوقيين وإعلاميين، هو توفير الحدّ الأدنى من التفاهم وتحقيق قدر من التوافق لإجراء انتخابات حرّة يستطيع الشعب فيها أن يختار ممثّليه ويطوي صفحة الانقلابات العسكرية المليئة بالدماء والدموع.

***

عبد الحسين شعبان

في المثقف اليوم