آراء

آراء

ساهمت عدة قرارات سابقة كانت صادرة عن مجلس الأمن الدولي في دعم جهود تصنيف حماية الأطفال في النزاعات المسلحة باعتبارها مسألة أمن إنساني وعلى أساس أن حمايتهم تقع أصلا ضمن حقوق الإنسان التي ترتكز عليها الاتفاقيات والمعاهدات كاتفاقية حقوق الطفل.

يشاهد العالم يومياالمآسي  يقاسيها الأطفال خاصة في قطاع غزة والسودان وفي العديد من الدول الذين يعيشون ظروفا وحشية رهيبة بسبب النزاعات المسلحة والحروب، يشاهدهم العالم وهم يقضون أحلى أيام طفولتهم مشردين في العراء أو يقبعون داخل مخيمات رثة نصبها اللاجئون من البلاستيك لا تحميهم من البرد ولا من الأمطار، ينتظرون ما يمكن أن ينالونه من طعام ودواء من المنظمات والجمعيات الخيرية، يقاسون الرعب والخوف من هول الانفجارات والقتل حولهم التي سرقت براءتهم وأنهت حياة الآلاف منهم. في إفريقيا حيث يتسع انتشار الألغام الأرضية ويكثر الاطفال المعاقين ومبتوري الأعضاء.

شكّلت الحرب الجارية في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع فراغا سياسيا معقدا ووضعا أمنيا شديد الخطورة على حياة المواطنين المدنيين. وخلقت ظرفا اقتصاديا بالغ الصعوبة يهدد كل جهود التنمية بالشلل التام، لقد فككت الحرب النسيج الاجتماعي وتعطلت معظم مسارات العمل الوطني، والآن أصبح ما يزيد عن 19 مليون طفل سوداني خارج المدرسة لا يجدون ما يفعلون في الحياة، فصاروا لقمة سائغة تستغل براءتهم جماعات الضلالة ودوائر الشر لخدمة أغراض خبيثة في أعمال السطو وقطع الطرق والنهب أوفي تجارة الأعضاء، وربما تكونت منهم كتائب الميليشيات المسلحة التي لا تجيد سوى القتل.إن الطفل الذي يعيش في ظروف الحرب سيواجه حتما خطر التعرض للإصابة والإعاقة والتشويه، أو استعماله كجندي وليس كطفل في صفوف المليشيات المسلحة كما هو واقع في الكثير من الدول الإفريقية.

لم تر البشرية أهوالا أصابت الأطفال مثلما هو واقع بقطاع غزة في فلسطين المحتلة جراء الاعتداء العسكري الصهيوني على الآمنين في منازلهم وعلى التلاميذ في مدارسهم وعلى المصلين بالمساجد والمرضى بالمستشفيات، فدفع أطفال غزة ثمنا باهظا في حرب غير متكافئة، الآلاف منهم قتلوا بوحشية تحت الأنقاض وبفعل التفجيرات العشوائية، وشاهد العالم ما خلفته الاعتداءات المتواصلة من مشاهد لا يحتمل الضمير العالمي رؤيتها، ولا يطيق أن تمر هكذا بدون تنديد وتجريم مرتكبيها الصهاينة ومن ذلك ترك الأطفال الخدج بدون أكسجين يموتون داخل الحاضنات!! واختطاف بعض الأطفال حديثي الولادة بعد مقتل والديهم ... واعتقال المئات من الأطفال الأبرياء الصغار في الشوارع دون أدنى سبب أو مبرر او اتهام بل لمجردالاشتباه .

حقيقة أعد ّ المجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الأولى سلسلة من القرارات التي تقيد قانونيا وسياسيا انتهاك حقوق الطفل، وتضمن له من ناحية أخرى حمايته في حالات النزاعات المسلحة، نظرا للمآسي التي عاش فيها الأطفال خلال هذه الحرب، فقررت جمعية الأمم المتحدة عام 1919 إنشاء جمعية حماية الطفولة، لكن التدهور المتواصل في مصير الأطفال بعد الحرب جعل منظمة غير حكومية تدعى " اتحاد حماية الأطفال العالمية" تعترض وأخذت برامج توجيه الطفولة في الاعتبار، وتبنى الاتحاد هذا الاتجاه عام 1924 إعلان جنيف حول حقوق الطفل الذي شدّد على واجب الإنسانية إعطاء الطفل أفضل ما لديها .

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية يصاعد مجددا القلق في المجتمع الدولي على أمن ومصير الأطفال، فوضعت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة أسسا خاصة لحماة الطفولة " يونيسيف" أوكلت إليها مهمة العمل على تأمين حماية خاصة للأطفال الجرحى وضحايا الحروب، وفي عام 1959 صدر القرار رقم 1386 بشأن إعلان حقوق الطفل. وفي منتصف عام 1970 تبنت الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة الإعلان عن حماية النساء والأطفال في فترت الطوارئ والنزاعات المسلحة، وفي عام 1989تبنى المجتمع الدولي الاتفاق المتعلق بحقوق الطفل المصدق من 191 دولة. في عام 1990عقدت القمة العالمية للأطفال في نيويورك، وتبنت القمة الإعلان العالمي المتعلق بحق بقاء وحماية وإنماء الطفل، ووضعت خطة عمل لتطبيق هذا الإعلان، وأصبح بذلك أمر تخفيف عذاب الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة هدفا أوليا يوجب تخصيص بروتوكول لحقوق الطفل في 25 مايو 2000

لاحظ مجلس الأمن بقلق بالغ خطر وجود روابط بين تجارة الأسلحة الشخصية الخفيفة والنزاعات المسلحة و وعمليات التهريب الحدودية وبين أثرها الحاسم على الأطفال،  وتوافقت الدول المشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة المتعلق بالتجارة المحظورة في الأسلحة الخفيفة عام 2000 على اتخاذ الاجراءات الكافية للسيطرة على هذه التجارة وقمعها.

كل هذه الترسانة من الأدوات المقيّدة لأعمال العنف وانتهاك حق الأطفال في الأمن والحماية والسلامة  لم تجد نفعا أمام التعنت السلوك الإجرامي الصهيوني في غزة، كما لم يكن لها رجع صدى من السودان وبعض دول الإفريقية والأمريكية والأسيوية .. فبدا وكأن المجتمع الدولي عاجز عن الإيفاء بالوعود التي قطعها والالتزام بالاتفاقيات التي وقعها بشأن حماية الأطفال، ويبدو أيضا أن هذا العجز أكد أن الوعود والنوايا الحسنة لا تكفي وأنه في الحقيقة يخفي أزمة معنوية جسيمة سيكون لها نتائج خطيرة على مستقبل الأمن العالمي،وتبين الأرقام  التالية قسوة ما يعانيه الأطفال ضحايا النزاعات المسلحة حاليا

ـ 300.000 طفل يستعملون للقتال عبرالعالم.

- 20 مليون طفل لاجئ ومهجّر ومشرد داخل بلدانهم وخارجها .

ـ 5 ملايين طفل صاروا معاقين .

ـ مليون طفل يتيم.

ـ 10 ملايين طفل أصيبوا إصابات بالغة أثناء الحروب

حاليا لا يتوقف المجتمع الدولي عن التأكيد على الضرورة القصوى لحماية الأجيال الجديدة من تأثيرا الحروب، لكن منذ عام 1990 أصبح العنف في تزايد أكبر وتراجعت الآمال في التغلب على العراقيل التي تعترض طريق تحقيق بناء مجتمع للأطفال قابل للحياة .

***

صبحة بغورة

 

شهد السباق الرئاسي الأمريكي لعام 2016 صعود المرشح الجمهوري المثير للجدل دونالد جيه ترامب. يستكشف هذا المقال السيناريو الافتراضي لفوز ترامب بالرئاسة وتداعياته المحتملة على العلاقات الأمريكية الروسية.

احتمال إعادة ضبط العلاقات الدبلوماسية

قد توفر رئاسة ترامب إمكانية إعادة ضبط العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. وقد أعرب ترامب مرارا وتكرارا عن رغبته في تحسين العلاقات مع روسيا، مما يشير إلى الابتعاد عن نهج المواجهة الذي اتبعته الإدارات السابقة.

المصالح المشتركة في مكافحة الإرهاب

تواجه كل من الولايات المتحدة وروسيا تهديدات كبيرة من الإرهاب الدولي. وقد تؤدي رئاسة ترامب إلى زيادة التعاون بين القوتين في مجالات مثل تبادل المعلومات الاستخبارية والعمليات العسكرية المشتركة ضد الجماعات المتطرفة.

الآثار الاقتصادية

ومن الممكن أن يكون لتركيز ترامب على السياسات الحمائية تأثير على العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وروسيا. إن فرض العقوبات على روسيا والانسحاب المحتمل من الاتفاقيات التجارية يمكن أن يؤثر سلباً على التجارة الثنائية، مما يؤدي إلى تعطيل العلاقات الاقتصادية القائمة.

الحد من الأسلحة النووية ونزع السلاح

تمتلك كل من روسيا والولايات المتحدة أكبر الترسانة النووية في العالم. وقد يؤدي فوز ترامب إلى نهج مختلف في مفاوضات الحد من الأسلحة، مع احتمال تجديد الحوار والاتفاقيات التي يمكن أن تساهم في الاستقرار العالمي.

الأمن السيبراني وتهديدات القرصنة

واتهمت روسيا بالتورط في عمليات اختراق إلكترونية للتأثير على الانتخابات الأمريكية. ومن المرجح أن تواجه إدارة ترامب ضغوطاً لوضع تدابير قوية للأمن السيبراني للحماية من التدخل الأجنبي، مع التركيز بشكل رئيسي على روسيا.

الصراع السوري والاستقرار الإقليمي

لقد أثر التدخل الروسي في الصراع السوري بشكل كبير على العلاقات الأمريكية الروسية. وقد تسعى رئاسة ترامب إلى زيادة التنسيق مع روسيا لإيجاد تسوية عن طريق التفاوض، مما قد يؤدي إلى تخفيف التوترات.

الناتو والأمن الأوروبي

أثارت تصريحات ترامب خلال الحملة الانتخابية مخاوف بشأن التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها في الناتو. وإذا ظل صادقاً في خطابه، فإن هذا قد يؤدي إلى توتر العلاقة مع أوروبا، وهو ما من شأنه أن يفيد طموحات روسيا الإقليمية.

التعاون في مجال الطاقة والمنافسة

ويشكل قطاع الطاقة جانبا حاسما آخر في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. قد يؤدي تأييد ترامب لإنتاج الوقود الأحفوري المحلي إلى زيادة المنافسة بين الولايات المتحدة وروسيا في أسواق الطاقة العالمية.

مخاوف حقوق الإنسان

لقد تم التشكيك في نهج ترامب تجاه حقوق الإنسان بسبب إعجابه بالقادة المستبدين. ومن المحتمل أن يؤدي هذا إلى تخفيف التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث قد يُظهر ترامب اهتمامًا أقل بسجل روسيا في مجال حقوق الإنسان.

خاتمة:

في حين أن السيناريو الافتراضي لرئاسة ترامب يقدم العديد من النتائج المحتملة للعلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا، فمن الأهمية بمكان أن ندرك الطبيعة المعقدة للسياسة الدولية. ويظل من غير المؤكد كيف ستتعامل إدارة ترامب مع مختلف التحديات، مما يجعل من الضروري مراقبة التطورات عن كثب إذا فاز بالرئاسة.

***

محمد عبد الكريم يوسف

 

يتخطّى اسم أوراسيا الكلمة المركبة، التي تجمع أوروبا وأسيا، ليصل إلى جمع الجغرافيا بالسياسة (جيوبوليتيك)، في إطار استراتيجية دولية، تتصارع فيها وحولها قوى كبرى من داخلها ومن خارجها. وقديمًا قيل من يمتلك أوراسيا يهيمن على العالم.

تبلغ مساحة أوراسيا 55 مليون كم2، أي ما يعادل 37% من مساحة اليابسة على سطح كوكب الأرض، ويسكنها 70% من سكان العالم (نحو 5 مليارات وثلث المليار نسمة)، وكان بريجينسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس جيمي كارتر (1977 - 1981)، يُدرك أهمية البعد الجيوستراتيجي لهذه المنطقة، ولاسيّما نفوذ الولايات المتحدة فيها، خصوصًا صراعها الأيديولوجي مع الدب الروسي في فترة الحرب الباردة، وهو ما تناوله بعمق في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى".

ويُعتبر المنظّر البريطاني هالفورد ماكيندر، المتخصص بالجيوبوليتيكا، من أبرز دعاة فكرة الأوراسيا، منذ مطلع القرن العشرين، وهي الفكرة التي عاد وطرحها المفكر الروسي ألكسندر دوغين، إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما تبناه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ العام 2000.

قدّم دوغين "الأوراسية" باعتبارها النظرية الرابعة بديلًا للنظريات التي سادت في القرن العشرين (الاشتراكية والفاشية والليبرالية) بدعوته تعزيز القوة الجيوبولوتيكية لروسيا، والتكامل مع المحاور البرية التابعة في "الحزام الأوراسي" و"الحزام الباسيفيكي"، و"الحزام الأورو أفريقي"، والشرق الأوسط (وبضمنه العالم العربي)، الذي أصبح ساحة اشتباك جيوبوليتيكي مع الولايات المتحدة.

وحسب دوغين، فإن هدف روسيا هو تكوين قطب عالمي منافس للقطب الأمريكي. وقد أثارت أطروحاته اهتمامًا من لدن نخبة من الأكاديميين والمعنيين العرب، وكنت قد التقيته واستمعت إليه في محاضرة تفصيلية بهذا الخصوص.

أما بريجينسكي فتحليله يرتكز على ضرورة هيمنة الولايات المتحدة على البر الأوراسي، الذي يوجد فيه الجزء الأكبر من سكان العالم، وأيضًا الموارد الطبيعية والنشاط الاقتصادي، ويمتد من البرتغال إلى مضيق بيرينغ (يفصل بين قارة آسيا وقارة أمريكا الشمالية)، ومن لابلاند (أقصى الجزء الشمالي من فنلندا) إلى ماليزيا، وهي التي تمثّل رقعة الشطرنج الكبرى، والذي يسيطر عليها، سيتم الاعتراف له بالقوّة والتفوّق.

وبالعودة إلى ماكيندر، فإن "المنطقة المحورية" الأوراسية، هي تلك التي تضمّ سيبيريا والجزء الأكبر من آسيا الوسطى، إضافة إلى الأرض المركزية، التي تشمل وسط أوروبا وشرقها بوصفها تشكّل نقاط الانطلاق الحيوية لتحقيق السيطرة على القارة، وبالتالي على العالم، في حين أن بريجينسكي حدّد 5 قوى جيواستراتيجية في أوراسيا هي: فرنسا وألمانيا وروسيا والصين والهند، مستبعدًا دولًا مثل بريطانيا واليابان وإندونيسيا على أهميتها، أما دولًا مثل أوكرانيا وأذربيجان وكوريا الجنوبية وتركيا وإيران، فيمكن أن تؤدي دور المحاور الجيوبوليتكية الثابتة المهمة.

وانطلاقًا من هذا المفهوم، نلحظ أن التوجّه الأمريكي نحو دول آسيا الوسطى وأفغانستان والعراق خصوصًا، والعالم العربي عمومًا، وأوروبا الشرقية والقوقاز وجورجيا، ازداد كثافةً وتأثيرًا، بما فيه الصراعات الدائرة اليوم مع إيران وفي وسوريا ولبنان واليمن، وهو جزء من المواجهة مع روسيا وحليفتها الصين، سواء كان الأمر على نحو مباشر أو غير مباشر، والأمر يبدو أكثر وضوحًا في أوكرانيا وسوريا.

وإذا كان هذا هو الفهم الأمريكي لأوراسيا، فإن الفهم الروسي الأوراسي يعاكسه بشدّة، بما فيه تبريره للحرب في أوكرانيا باعتبارها "دفاعًا عن النفس"، في حرب مفتوحة اقتصاديًا وسياسيًا واستراتيجيًا، لاسيّما فيما يتعلّق باستيراد بعض دول أوروبا الغاز الروسي (ألمانيا وفرنسا).

وكان بريجينسكي يُدرك أنه "من دون أوكرانيا، لا يمكن لروسيا أن تصبح قطبًا سياديًا لعالم متعدد الأقطاب"، والتعددية القطبية التي نظّر لها، منذ مطلع السبعينيات في كتابه "بين عصرين - أمريكا والعصر التكنوتروني"، هي التي أخذت تتبلور بعد صعود التنّين الصيني وبداية معافاة روسيا لتشكيل محور موازي للمحور الغربي.

وإذا كانت الحروب في أوراسيا قديمة ومعتّقة، فهي تتجدّد باستمرار تحت عناوين إثنية أو عرقية أو دينية، وهي حروب موروثة من الماضي السحيق، حتى وإن كانت تختفي وتظهر، فإن الجديد فيها هو الدور غير الأوراسي، بدخول الولايات المتحدة طرفًا أساسيًا بمحاولة نصب صواريخ بالستية لحلف الناتو على الحدود الأوكرانية -  الروسية، بهدف إضعاف روسيا المتحالفة مع الصين، منافسها الاقتصادي والتكنولوجي الأول.

صحيح أن الروس والأوكرانيين ينتمون إلى العرق السلافي، ويدينون بالديانة المسيحية وفقًا للمذهب الأرثوذكسي، ويرتبطون تاريخيًا بعلاقات عميقة ومتشابكة، إلّا أن الحساسيات القومية القديمة، وخصوصًا في الحقبة السوفيتية، تركت ندوبًا عميقةً في الذاكرة الجمعية الأوكرانية. وقد يكون من باب ردّ الفعل ميلها إلى الغرب وتطلّعها لتكون جزء منه، بعد انفصالها عن الاتحاد السوفيتي في العام 1991.

في الصراعات الأوراسية الجديدة - القديمة (الصين - تايوان)، لا يمكن إغفال دور واشنطن، إضافة إلى تأجيج الصراع الياباني - الصيني، مثلما هو بين كوريا الجنوبية والفليبين، وذلك بإيقاظ روح الكراهية والحقد، بما يعيق الرغبة في وصول هذا الجزء الأوراسي إلى الاستقرار والتعاون. وعلى حافة أوراسيا، تتعرّض غزّة إلى حرب إبادة جماعية من أكثر الحروب بشاعةً وتوحشًا من جانب "إسرائيل"، وبدعم ومساندة مادية ومعنوية من واشنطن، ولعلّ تلك الحروب وغيرها هي امتداد لتلك الحروب المعتقة، بما فيها "مبادرة الحزام والطريق"، التي تسعى واشنطن لعرقلتها بشتى السبل، لأنها تُدرك أن أحد مفاتيح حل لغز أوراسيا بيد الصين.

***

د. عبد الحسين شعبان

أمريكا على مفترق طرق خطير يمس هيبتها ومكانتها وتأثيرها في مجريات الأمور في العالم. فهناك تحديات تواجهها وأزمات تحتاج لحسمها في الداخل والخارج، لأنها تشكل خطراً على الأمن والاستقرار الدوليين. فهناك حرب أوكرانيا وتداعياتها الخطيرة الاقتصادية والعسكرية، وهناك حرب غزة ونتائجها المأساوية، وهناك تمادي إيران وسلوكها الإقليمي وما تقوم به من تحدي واستفزاز من خلال سلوكيات أذرعها المسلحة كحزب الله والميليشيات العراقية والحوثيين ونشاط الحرس الثوري في سوريا المجاورة لإسرائيل وبالقرب من حدود هذه الأخيرة. إنها بمثابة حرب متعددة الجبهات يتعين على الولايات المتحدة الأمريكية مواجهتها باستراتيجية جديدة وجريئة. فهل  إدارة بايدن الضعيفة قادرة على مواجهة خطورة وتعقيد هذا الأمر الخطير على حد تعبير توماس فريدمان في النيويورك تايمز؟ الأمر يتطلب مبدأ أمريكي جديد قد يسمى مبدأ بايدن، على غرار من سبقه من رؤوساء. فإذا لم نشهد مثل هذا المبدأ الواسع والجريء، فإن الأزمة في المنطقة سوف تنتشر على نحو يؤدي إلى تعزيز قوة إيران، وعزل إسرائيل، وجعل قدرة أميركا على التأثير على الأحداث نحو الأفضل في حالة يرثى لها.

حدد فريدمان هذا المبدأ الذي تمناه وطالب الرئيس بايدن أن يعلنه، بثلاث مسارات: يتمثل أحد المسارات في اتخاذ موقف قوي وحازم تجاه إيران، بما في ذلك الانتقام العسكري القوي ضد وكلاء إيران وعملائها في المنطقة، ردًا على مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وجرح العشرات بعضهم أصيب  بإصابات بليغة وخطيرة، بطائرة مسيرة بدون طيار على قاعدة أمريكية  بالأردن أطلقها على ما يبدو حزب موالي لإيران من إحدى تشكيلات الميليشيات في العراق.

أما المسار الثاني فيتمثل في مبادرة دبلوماسية أميركية غير مسبوقة لتعزيز الدولة الفلسطينية – بأسرع وقت. وقد يتضمن ذلك شكلاً من أشكال الاعتراف الأمريكي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي لن تظهر إلى الوجود إلا بعد أن يطور الفلسطينيون مجموعة من المؤسسات والقدرات الأمنية المحددة والموثوقة، لضمان أن هذه الدولة قابلة للحياة. ولا يمكن أبدا أن تهدد إسرائيل. وقد تشاور مسؤولو إدارة بايدن مع خبراء داخل وخارج الحكومة الأمريكية حول الأشكال المختلفة التي يمكن أن يتخذها الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

أما المسار الثالث فيتمثل في إقامة تحالف أمني موسع بشكل كبير بين الولايات المتحدة ودول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي تصالحت مع إيران مؤخراً، وهو ما قد يتضمن أيضاً تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل ــ إذا كانت الحكومة الإسرائيلية مستعدة لتبني عملية دبلوماسية تؤدي إلى دولة فلسطينية منزوعة السلاح بقيادة السلطة الفلسطينية الجديدة والبديلة  لسلطة محمود عباس في الضفة الغربية وحماس في غزة.

إذا تمكنت الإدارة من تحقيق هذا النجاح – وهو أمر ضخم للغاية وأشك في قدرتها على تحقيقه – فقد تصبح عقيدة بايدن أكبر عملية إعادة اصطفاف استراتيجي في المنطقة منذ معاهدة كامب ديفيد عام 1979. الحزب الجمهوري يضغط ويريد خطف الرئاسة من بايدن والديموقراطيين في الانتخابات القادمة وترامب يعد العدة للعودة إلى البيت الأبيض مع ما يصاحب ذلك من توترات خطيرة في الداخل الأمريكي، والحزب الديموقراطي في حالة حرج مما يواجه أمريكا من تحديات  وعلى رأسها تحالف البريكس المكون من روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا بالتعاون مع إيران. لذا يجب ربط المسارات الثلاثة معًا تمامًا حتى تنجح عقيدة بايدن. وأعتقد أن المسؤولين الأميركيين يفهمون ذلك، كما يقول توماس فريدمان.

فالسابع من أكتوبر الماضي شكّل نقطة مفصلية إثر هجوم تنظيم حماس على إسرائيل وقتل العديد من الإسرائيليين وأخذ مئات الرهائن منهم، مما أجبر الإدارة الأمريكية على إعادة التفكير بشكل جذري في الشرق الأوسط، خاصة بعد الرد الانتقامي الإسرائيلي الهمجي الواسع النطاق والذي أدى إلى مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين الأبرياء في غزة؛ وزيادة الهجمات على الأفراد الإسرائيليين والأمريكيين في المنطقة؛ وفشل الحكومة اليمينية في إسرائيل في صياغة خطة لحكم غزة في أعقاب انتهاء الحرب مع شريك فلسطيني من خارج حماس. يناقش الاستراتيجيون الأمريكيون هذا الواقع المتفجر في العالم  ويدركون أن ليس بإمكانهم الاكتفاء بالفرجة عن بعد على مايجري و السماح لإيران بمحاولة طرد الأمريكيين من المنطقة، وتعريض إسرائيل إلى الانقراض، وترهيب حلفاء أمريكا العرب لحملهم على اتخاذ إجراءات. من خلال الوكلاء الإيرانيين- حماس، وحزب الله، والحوثيين، والميليشيات الشيعية في اليمن. العراق – بينما تجلس طهران بهدوء تفرك الأيدي فرحة ولا تدفع أي ثمن. كما أن الوضع يشير إلى إدراك أن الولايات المتحدة لن تحظى أبدا بالشرعية العالمية، وحلفاء الناتو، لا سيما الحلفاء العرب والمسلمين الذين تحتاجهم لمواجهة إيران بشكل أكثر عدوانية، قد بدأوا يفقدون الثقة في نوايا وقدرات الولايات المتحدة. فما لم تتوقف عن السماح لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالاستمرار في سياساته العدوانية  وجعل أمريكا رهينة لسياساته، سيتوجب على أمريكا أن تبدأ في بناء سلطة فلسطينية ذات مصداقية وشرعية قادرة في يوم من الأيام على حكم غزة والضفة الغربية بشكل فعال، وباعتبارهما جارة جيدة لإسرائيل على طول الحدود النهائية، وأن يتفاوضان معًا لإيجاد مخرج لهذه العقدة المزمنة، حتى لو رفضت حكومة نيتنياهو اليمينية المتشددة هذا السيناريو.

يصف نادر موسوي زاده، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات الجيوسياسية Macro Advisory Partners والمستشار الأول للأمين العام للأمم المتحدة آنذاك كوفي عنان، عقيدة بايدن الجديدة هذه بأنها “استراتيجية العد المزدوج”. لقد حان الوقت للولايات المتحدة لكشف خدعة إيران ونتنياهو في نفس الوقت.

وقال موسوي زاده: “إنكم تخدعون إيران استراتيجياً، وفي الوقت نفسه، تشرعون في مبادرة غير مسبوقة لوضع الأساس لدولة فلسطينية منزوعة السلاح بطريقة لم تفعلها الولايات المتحدة من قبل”. "كل مسار يحتاج إلى الآخر لينجح. وكل مسار يعزز الآخر ويبرره. التصدي الجدي والحاسم لإيران ووكلائها  بشكل معزز ومستدام يعزز أمن إسرائيل وأمن حلفائنا العرب. إن إقران ذلك بالتزام أميركي حقيقي وجريء بالدولة الفلسطينية يمنحنا الشرعية لاتخاذ إجراءات ضد إيران وحلفائها، وهو ما نحتاج إليه لنكون أكثر فعالية. كما أنها تعزل إيران عسكريا وسياسيا.

نتنياهو هو السبب الذي جعلني أتوصل إلى هذه القاعدة الخاصة بتقارير الشرق الأوسط: “كل ما يقوله لك الناس باللغة الإنجليزية على انفراد لا يهم. كل ما يهم هو ما يقولونه علانية بلغتهم الخاصة.

وقد همس نتنياهو لبايدن سراً بأنه قد يكون في يوم من الأيام على استعداد – ربما فقط – للنظر في نوع من الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، بينما قال بالعبرية علناً العكس تماماً.

تجربة بايدن الطويلة مع نتينياهو كفيلة بتوضيح الأمور في ذهنه و ليعرف أن نتنياهو كذاب ومخادع و يحاول ببساطة جره إلى الفخ. لقد حان الوقت لإنهاء لعبة نتنياهو وآيات الله في الوقت نفسه. إن مبدأ بايدن هو الطريقة الصحيحة للقيام بذلك.

يذكر  المحلل السياسي موسوي زاده على لسان بايدن: " لقد تسامحنا مع قيام إيران بتدمير كل مبادرة بناءة حاولنا تنفيذها في الشرق الأوسط – طالما ظلت طهران تحت عتبة الهجوم المباشر ضدنا. وفي الوقت نفسه، تسامحنا مع حكومة نتنياهو التي تسعى إلى منع أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية بشكل دائم، حتى إلى درجة دعم حماس ضد السلطة الفلسطينية لسنوات عديدة لضمان عدم وجود شريك فلسطيني موحد. وأعقب موسوي زاده قوله: "كشف 7 أكتوبر/تشرين الأول أن سياستنا تجاه إيران كانت مفلسة وأن سياستنا الإسرائيلية الفلسطينية كانت مفلسة. سمحت هذه السياسات لحماس بزعزعة إسرائيل. وسمحت للحوثيين بشل حركة الشحن العالمية، وسمحت للميليشيات الشيعية الموالية لإيران لمحاولة إخراج القوات الأمريكية من المنطقة – القوات المنتشرة هناك لمنع داعش من العودة والمساعدة في الحفاظ على استقرار المنطقة بشكل معقول. وأضاف أن كل هذا حدث دون أن يحمّل أحد النظام في طهران المسؤولية عن كيفية "نشر عناصره السامة والمدمرة من الدول الأخرى في جميع أنحاء المنطقة ضد الأهداف البناءة لحلفائنا" في المنطقة. إن إسرائيل تخسر الآن على ثلاث جبهات. لقد خسرت حرب الإعلام وخسرت كسب تأييد الرأي العام العالمي لها في هجومها البربري على غزة: فرغم أن حماس قتلت واغتصبت إسرائيليين، فإن إسرائيل هي التي مثلت أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي بسبب الخسائر في صفوف المدنيين التي تسببت بها في غزة أثناء محاولتها استئصال مقاتلي حماس الذين تم دمجهم في صفوف المدنيين.. وهي تخسر على جبهة الاستقرار الإقليمي: فإسرائيل الآن هدف لهجوم إيراني رباعي المحاور - من حماس وحزب الله والحوثيين والميليشيات الشيعية في العراق - لكنها لا تستطيع إيجاد حلفاء عرب أو في حلف شمال الأطلسي الذي تحتاجه لكسب هذه الحرب.. لأنها ترفض القيام بأي شيء من أجل إنشاء شريك فلسطيني شرعي وذو مصداقية. وخلص موسوي زاده إلى أنه إذا ظهرت عقيدة بايدن، "فستكون جيوسياسية جيدة في الخارج وسياسة جيدة في الداخل".

وهذا من شأنه أن يردع إيران عسكرياً وسياسياً، ويسحب الورقة الفلسطينية من طهران. وهذا من شأنه أيضاً أن يعزز قيام دولة فلسطينية بشروط تتفق مع الأمن الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه، يخلق الظروف اللازمة لتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية بشروط يمكن للفلسطينيين قبولها.

وهي استراتيجية يمكن أن تنجح مع الأميركيين العرب في بحيرة ميشيغان ومع الحلفاء العرب في الخليج العربي. إنها استراتيجية يمكن أن تفرض المساءلة داخل السياسات الإيرانية والفلسطينية والإسرائيلية. من الواضح إن أمريكا لاترغب في خوض مواجهة كبيرة ومباشرة مع إيران  لكنها قد تضطر للسماح لإسرائيل بتوجيه ضربات جوية موجعة لإيران دون خوف من التعرض لإدانة دولية.

***

إعداد د. جواد بشارة

عاشت معظم بلداننا التي تأسست بعد اتفاقية سايكس بيكو تحت مظلة المؤسسين الذين حاولوا استنساخ انظمتهم السياسية وحتى الاجتماعية في بلدان ومجتمعات تختلف عنهم جذريا في السلوك والعادات والتقاليد ناهيك عن الموروثات في طبيعة الحكم وموقع الرمز سواء كان اباً ام شيخ عشيرة ام رئيس دولة او ملك، وقد واجهت تلك العملية تحديات كثيرة أدت الى حدوث انقلابات وانتفاضات وثورات، وبعيداً عن إرهاصات تلك النظم وانقلاباتها الداخلية منذ انتهاء الحكم العثماني وبداية تبلور دول جديدة بأنظمة ملكية وجمهورية استنسخت فيها تجارب غربية لا علاقة لها بطبيعة المجتمعات الشرقية، هذه الأنظمة التي تقهقرت امام تحديات داخلية وخارجية كان أبرزها فقدان الوعي والتخلف الحضاري والنزعة القبلية والدينية، حيث أنتجت مجموعة من النظم القومية والدينية أساسها الصراع المجتمعي والتأثيرات الإقليمية والتي أسست نظماً مغلقة ومكبلة بقيود حديدية تحكمها العسكريتارية والأجهزة الأمنية، حيث أفقدت أي معارضة كانت فرصة تغييرها إلا باستخدام الخيار الخارجي الذي اجتاح العديد من دول الشرق الأوسط واستهدف تحطيم الهياكل الفوقية لتلك الأنظمة الراديكالية بمختلف توجهاتها يميناً ويساراً، دينياً أو مدنياً، في محاولة لإرساء نظم حديثة بلبوس ديمقراطي على الطريقة الغربية، ورغم كل المحاولات والإنفاق الهائل فشلت بعد عقدين من الزمن في تجربتها العراقية من أن تنتج قاعدة مجتمعية لاستخدام أدوات تلك الديمقراطية، حيث عادت تدريجياً تلك الموروثات المتأصلة في البناء الاجتماعي وانعكاسها على تكوين الأنظمة الجديدة.

إن أكثر شرائح المجتمع التي أصيبت بالذهول والإحباط بل الحيرة والإحراج الذي وصل حد المهزلة، هي الشرائح الواعية والمثقفة التي وقفت مذهولة أمام أنظمة جديدة تم تأسيسها على حطام سابقتها دون إحداث أي تغيير أفقي في المجتمع الذي بدى أكثر تعقيداً وتناقضاً مما كان عليه في النظم المغلقة، حيث رفعت بعض القيود الشمولية الكبرى كي تظهر بدائلها الصغرى في التركيبات القبلية والدينية التي تتعلق بطبيعتها البدوية والزراعية والعشائرية المتعطشة للسلطة والمال.

ولم يكن حال تلك الشرائح أفضل من عامة الناس وهي بالتالي مقيدة بكثير من سلاسل التقاليد والنظم الدارجة، وبقيت رغم وعيها وإزاء ظروف قاهرة تتعلق بطبيعة النظام وضوابطه الصارمة اضطرت لتسخير ادواتها، قلماً كان أو حنجرة أو فرشاة رسم أو ريشة عزف أو خشبة مسرح أو منصة علم ومعرفة تكتب وترسم وتغني وتعزف على أوتار ذلك النظام كأي موظف تنفيذي ليس إلا، ورغم إدراكها بأن ما تقوم به لا يرتبط بشخص النظام بل لتكريس الفن والمعرفة في ظل نظام طاغٍ متوهمة بأنها ستزيل انكسارات النفوس العميقة وجروحها، وإزاء ذلك كانت هناك أيضا مجاميع أخرى من المثقفين تضمها سجون رهيبة وأخرى قتلت وتم تصفيتها أو هاجرت وتحملت كل مآسي ذلك الرحيل القسري لأنها كانت ترفض ولا توافق أو تؤيد ذلك النرجسي الأوحد والقائد الهمام ونظامه الشمولي، بينما انعزل آخرون إلى زوايا بعيدة عن الأضواء لدرجة أنهم استبدلوا مهنهم وإبداعاتهم بأشغال وأعمال أخرى لا علاقة لها بالثقافة وعوالمها وبعيدة عن الأضواء ودوائر التأثير!؟

وخلال عقدين من الزمن ورغم كل المبررات الواهية التي تسوقها الحكومات، تارة بسبب الحرب مع الإرهاب أو بسبب الفساد الهائل الذي أنتجته، إلا أنها انحدرت تدريجياً إلى سلوكيات لا تختلف عن الأنظمة السابقة وتحولت في كل من العراق وسوريا وليبيا واليمن وحتى في لبنان من دكتاتورية شخص واحد الى دكتاتوريات ميليشياوية متعددة تتكاثر وتنشطر مع ارتفاع سعر البترول والدولار مستثمرة في حكمها تارة المذهب وأخرى القومية وثالثة الدين والقبيلة وأخيراً غزة وشماعة تحرير فلسطين وعاصمتها القدس بعنتريات وشعارات تجاوزت من سبقتها في تسويق الخطابات النارية لتخدير الناس وتسطيح وعيهم، وبدلاً من الالتفات الى الداخل الذي يعاني من بطالة مخيفة وارتفاع خطير في مستويات الفقر والأمية انتشر الفساد المالي والسياسي وغدت دول غنية مثل العراق وليبيا من أفشل دول العام وأكثرها بؤساً.

وفي خضم الأوضاع الحالية والصراعات الإقليمية وتأثيراتها على هذه البلدان خاصة ما يحدث الآن في غزة وتداعيات حربها على المنطقة، وما تفعله ايران في توسيع مجالها الحيوي الذي يشمل اليمن والعراق وسوريا ولبنان ومحاولاتها لاختراق جدران كوردستان والمملكة العربية السعودية والأردن والبحرين، في خضم هذه (العجقة) لا اعتقد ان أي عملية إصلاح بإمكانها تغيير الأوضاع الحالية خاصة بوجود وتغلغل هذه الشبكة المعقدة من الفساد المالي والسياسي والإداري والطائفي والقبلي في أدق مفاصل الدولة والمجتمع، يرافقه إحباط كبير لدى غالبية الشعب لا يختلف عن الإحباط الذي أصيب به في الأنظمة السابقة!

***

كفاح محمود

في الحق أن القوات المسلحة السودانية قد أدت واجبها، ونهضت بما ينبغي أن تنهض به، من الذب عن حياض هذه الديار، فكانت صارفة مانعة، لمآرب عربان الشتات ومخططاتهم، وسيرضخ عربان الشتات لقضائها، ويرضوا به، مهما طال العهد أو قصر، وسيلبوا تلك الدعوة التي وجهتها لهم، في مودة صادقة خالصة، فدعوة الموت التي كثر فيها الحوار، واشتد فيها الجدال، لن تستطيع جموع عربان الشتات، أن تجنح عنها، أو تخفق في تلبيتها، مهما بلغ بها الرفض أقصاه، فالجيش حريص أن يعيد الأمور إلى نصابها، وأن يجتث شأفة الدعم السريع  في حدة وعنف، وزوال هذه المنظومة، حدث لا ينبغي الوقوف عليه، أو الالتفات إليه، ولكن ينبغي أن نلتفت إلى قضية تقتضي منا، أن نختلف اختلافا شديدا في تحصيلها، قضية تتطلب أن نستخرج فيها الحق من الشبه، وأن نطرح في مرارة وحزن، هذه الأسئلة التي تحتاج الإجابة عليها، إلى تفكير طويل، وروية متصلة.

أمزجتنا التي نختلف حولها ونختصم، لماذا أخذها هذا التطرف والغلو من جميع نواحيها؟ وهذا التعصب الذي لا نتحرج من استقبال زائريه من خارج قطرنا، حتى يَعْظُم جاه بعض القبائل، وشأنها يرتفع، متى ننكره، ونضيق به، وننصرف عنه؟ وهذا الجمود الفكري  الذي دمغ حصاتنا على ما فيها من ذبول وفتور، متى نميطه ونتحرر عنه؟ وهذه الأنا الضعيفة، الهشة، الهزيلة، كيف تترك عنها هذا الاسراف في الوهن؟، وتتوخى هذا الإلهام الشاحب اللون، الذي يجب أن يتزايد وأن يقوى، حتى يخلصها من عللها المتوطنة، إن الأزمة الحقيقية التي يشكو منها السودان، كل السودان، ليست هي أزمة تنافس بين خصمين راما السلطة، وتشبثا بحبالها، وإنما هي أزمة أعمق من هذا كله، وأيسر إصلاحا من هذا كله، كما يقول عميد "الفكر" العربي  الدكتور طه حسين رحمه الله، أزمة التكالب على السلطة في السودان هينة يسيرة، فليس التنافس بين الفريق أول "البرهان"، وقائد قوات الدعم السريع "محمد حمدان دقلو" هي الأزمة الحقيقية التي مست حياة الشعب السوداني مساً عظيما، وأصابته في مقتل، إن أزمتنا الفادحة أيها السادة، تتمثل في تلك الاضطرابات الشخصية التي طافت بنا، وفي نظامنا الاجتماعي الفاسد، الذي جعلنا لا نتعامل مع قضايانا الملحة في قصد واعتدال، فشخصيتنا المعطوبة، تأنف أن تعيش في نظام تتحق في ظله قيم الحرية والعدالة، فهي مأخوذه بمعالم الجنوح والتطرف، وتؤثر هذه الحياة التي تخلب بروعتها عقولنا الناضبة، التي تتيح لنا بأن نأخذ من الحرية قدراً غير مألوف، حتى لا نرعى لشيء حرمة، وحتى نقدم على كل شيء مثير للذة والامتاع، إلى أبعد حد مستطاع، دون أن يردنا عن مواتاتها فضل من خلق، أو بقية من دين، وحتى ندني هذه الاضطرابات من الوضوح، ونقربها إلى الفهم، نقول أنها اضطرابات مهلهلة فجة، تذودها الكثير من القبائل  في السودان بالفتور والاهمال، وتحتفي بها قبائل أخرى، وتسرف فيها، وأضرب لذلك مثالا واحداً، يجدر بنا أن نشير إليه، فالحق الذي لا شك فيه أن البيئة هي التي تغذي الحس، والعقل، والشعور، هناك بيئات تنزع نحو التطرف الاجتماعي، ولا تتعارض قيمها مع قبوله وهضمه، هذه القبائل يستحسن أن تقتصر عنايتنا بها، وأن نرفع أصواتنا رفعا عنيفاً، ونلقي في مسامعها تلك الكلمات التي تعزز من مشاعر الألفة، والمحبة، والتضامن الاجتماعي، ونجتهد أن نردها عن البغي والعدوان، وجملة القول، أن تتحمل هذه القبائل الميسور وغير الميسور، حتى تقتنع بفكرة يسيرة، هي أن العزة، والكرامة، مرتبطة بالسلام الذي يكفل لها، ولغيرها من القبائل أن تعيش في أمن ودعة، وأن الوقت قد حان لتقطع الصلة بينها، وبين ثقافتها الموروثة، تلك الثقافة التي لا تجد مضاً ولا غضاضة، في اظهار هذا المزاج العنيف، الذي يعلي من شأن الحرب، فحياة هذه القبائل بدوية كانت أو حضرية، ما زال يقوم على المعاظلة و الصراع والتناحر، ولعل العلة في ذلك هي الموارد، التي ما زال الناس يتنافسون حولها تنافساً مريعا، فالموارد رغم توفرها مدعاة حقاً، لأن تزيد من حنق القبائل وعداوتها ضد بعضها البعض، ولكن لأننا صادقين في تحديد أسباب هذا المزاج العكر، ووصفه، والتعمق فيه، نزعم أن شح الموارد أو وفرتها، ومعارك الرعاة والمزارعين على الكلأ والماء، التي تركت آثاراً خالدة، لا سبيل إلى أن تزول، ليست هي من الأسباب الجوهرية لاندلاع مثل هذه الحروب، السبب الرئيس الشائع، هو إظهار القوة والبأس، فإظهار القوة الفردية والاجتماعية، مقدما على ازدحام الناس حول الموارد، وعلى تنافسهم في جميع ألوان الحياة، إذن اظهار القوة تأخذ علينا الطرق، وتطوقنا من كل ناحية، وتضطرنا لأن نخضع لهذه الحياة البائسة التعسة، التي لا تدفعنا إلى الرقي ولا إلى الحضارة، بل إلى القتل والإغضاء، والاذعان، لفلسفة الحرب، ولن نتحرر من أغلال هذه الفلسفة، إلا إذا خلت حياتنا من هذه العواطف الحادة، واستطعنا أن نلقي ستاراً كثيفا، على صدى الذكريات الذي لو لم نخمده،  لمضينا في سفك الدماء، ولأخفقنا في أن ننتظم في توادد جميل، وستظل الضغائن تملأ نفوسنا، وتملك عليها أمرها،  وسيلازمنا هذا الشقاء المتصل طوال حياتنا.

 ونظامنا الاجتماعي، الذي قد تطرقت إليه من قبل في مقال عريض، ولا أود أن أعود إليه، أو استأنف الحديث عنه، ولكني أحمله في سفور، اخضاع نظمنا السياسية، و الثقافية، والاجتماعية لسطوته، لقد قوض هذا النظام البسيط الساذج، كل مظاهر البهجة في حياتنا، وأزرى بكل لذة فنية أو عقلية، كانت من الممكن أن تخفف علينا وطأة هذه الحياة،  نظامنا الاجتماعي، حال بيننا وبين التفكر والتروي، في مسائلنا ومشاكلنا المعقدة، وجردنا من الوطنية المحضة وتبعاتها،  قناديل الوطنية التي تفرض علينا النهوض بواجباتنا تجاه السودان، حتى يظفر بالاستقلال السياسي التام، ويتعافى من هذا الاعياء الذي تفرضه عليه تبعات تدخل الغير في شؤونه، نظامنا الاجتماعي هو الذي فرض علينا أن نحرص على هذا التقليد، وأن نمعن في هذه الحياة التي تشبه الحياة الجاهلية في الكثير من صورها وأشكالها، تلك الحياة العجفاء المتخلفة، التي نظهر لها كل هذه الطاعة، وهذا الاذعان، مع أن النشاط العقلي، الذي تموج به الأقطار من حولنا، يُحْتِم علينا أن نعدل هذا النظام القديم، بنظام طارف جديد، يتبين الأشياء في وضوح وجلاء، ويتناول موضوع وحدتنا القومية الضعيفة الواهية، بالدرس والبحث والاستقصاء، نحن نحس فعلا الحاجة إلى اصلاح نظامنا الاجتماعي، أو تغييره، فالنظام الذي ننشده و نبتغيه، واهماً من ظن، أنه هو ذلك النظام الذي يكفل لنا أن نعيش في خفض ونعيم، بل هو أيها الأماجد، ذلك النظام الذي نلتمس فيه تلك الرغبة الصادقة، بأن تعيش جميع أطيافه في وحدة عضوية متضامنة، تخضع للتطور، وتكره الانحطاط والتردي والجمود، نظام اجتماعي جديد، يسعى لاضعاف سلطان القبلية، ويعمل على تضاؤله، نظام يدرس كل شيء، ويحلله، ويرده إلى الأصول المشتركة بين الناس، نظام لا تستأثر فيه طائفة بالحكم والسلطان، ولا تتحقق فيه المنفعة العاجلة، لجماعة أو ايدلوجية، حتى ترتقي رقياً مضطرداً على حساب غيرها من الجماعات والأيدلوجيات، فالطموح الذي يجب أن يأخذ نصيبه، لأي فئة كانت، هو ألا تتقوقع  أي جهة حول السلطة، أو تسعى لاحكام السيطرة عليها، بل أن تظهر المرونة، والسلاسة في تداولها، وأن تمضي بالسودان نحو التطور في غير أناة.

***

د. الطيب النقر

 

كنا تابعنا الزيارات المليونية منذ عام 2006 وكتبنا عنها تحليلا سيكولوجيا نشر في الصحف العراقية ووسائل التواصل الأجتماعي. ولمناسبة زيارة الأمام موسى الكاظم هذا العام (2024) نعيد ما كنا نشرناه بهدف الأجابة على تساؤل واحد:

ان الغالبية المطلقة من الزائرين.. يعرضون على الأمام الكاظم (ع) مظالم وطلبات.. فهل انتهت مظالمهم وتحققت طلباتهم عبر اكثر من عشر سنوات؟.

لنعد الى العام (2007) وتحديدا يوم 9 آب منه، فقد أفادت القنوات الفضائية التي واكبت المسيرة بأن عدد الزائرين كان بين مليونين إلى ثلاثة ملايين معظمهم جاء سيرا" على الأقدام برغم شدة الحر في آب اللهاب.

وتساءلنا في وقتها عن الأسباب وراء هذا العدد المذهل من الزائرين في ظروف الحر الشديد وعلمهم المسبق بأنهم قد يتعرضون إلى الموت بعبوات أو أحزمة ناسفة أو تفجير سيارات مفخخة أو قذائف من مدافع هاون وغيرها من وسائل الموت التي تعددت في حينه بما فيها تسميم مياه الشرب:

* هل فعلا" أن السبب كان دينيا" وأداء شعائر واجبة، أم أن ورائها أسبابا سياسية وإعلانا" تحذيريا" على لسان طائفة تريد أن تقول للخصوم والأعداء والمحايدين " مهما صار بنا فنحن ها هنا موجودون "؟.

وإن كان وراء هذا الحشد البشري الضخم " سياسة ".. اعني تعبئة سياسية من أحزاب دينية ـ سياسية فأنني اترك الأمر للمحللين السياسيين، فما يعنيني هنا هو الأسباب السيكولوجية ليس إلا.

لقد تابعت أيامهاعددا من المقابلات التي أجرتها قنوات فضائية مع زائرين وزائرات، فوجدت أن لديهم حاجات يأملون تحقيقها من هذه الزيارة حددوها في إجاباتهم على ألسنتهم بالأتي:

* نريد الأمان (أولادنا تكتلوا " قتلوا " واحنه عايشين بخوف والى متى نظل اليطلع من بيته ما يدري بروحه يرجع لو يموت.

* ونريد الكهرباء.. الله أكبر طكت أرواحنا.

* ونريد السياسيين يتصالحون ويديرون بالهم على الشعب مو يظلون يتعاركون على الكراسي والشعب حال الضيم حاله.. يزي عاد تره شبعنا تعب.

هذا يعني أن زيارة هذه الملايين لضريح الإمام موسى الكاظم كانت: عرض مظالم وتقديم طلبات لتحقيق حاجات عامة تتصدرها حاجتهم إلى الأمان.

ونسأل:

إن الذي أرعب الناس، في سنتها، وافقدهم الأمان هم: القاعدة وقوات الاحتلال والمليشيات وعصابات الجريمة، فما الذي يفعله الإمام بقتلة مجرمين نسفوا حتى أضرحة أحفاده من الأئمة الأطهار وقتلوا الآلاف من الناس المسالمين والنساء والأطفال الذين لا علاقة لهم بالسياسة وبالطائفية؟ !.

ربما سيكون جوابهم: إن للإمام جاها عظيما عند رب العالمين.. وجوابنا: وهل أن الله سبحانه غافل عما يفعلون؟!

وكانت حاجتهم الثانية: " نريد الكهرباء ".

ونسأل مرة أخرى: ما شأن الإمام " ع " بتوفير الكهرباء للناس؟. هل أن وزير الكهرباء " ظام " هذه النعمة عن الناس وان الإمام سيؤنبه ويأمره بتوفيرها إلى عباد الله. وإذا أجاب الوزير بأن قلبه " محترق " على الناس ولكن " ما بيدي حيله " فهل يأمر الإمام الحكومة بشراء المولدات العملاقة، وأنها ستستجيب لأمره فورا" فتنير العراق من زاخو إلى أم قصر؟ !

وكان الطلب الثالث للمسيرة المليونية هو " إصلاح حال السياسيين ".

لقد مضى على دعواتهم تلك، في يومها، أربع سنوات فحصل أن تغير حال السياسيين ولكن الى الأسوأ، فهل عجز الأمام عن اصلاح حالهم ام أنه تغاضى عن طلبهم لأنهم لا يستحقون؟!

الجواب لا علاقة له بالامام ولا بالدين ولا بالسياسة بل بالسيكولوجيا، خلاصته:

ان الانسان المحبط والمحدود الوعي الذي يتعذر عليه حلّ مشكلاته او يجد الواقع لا يقدم له الحلّ الذي يعالج أمور حياته ولا يخفف من حدّة ضغوطه ومعاناته فأنه يلجأ الى وسيلة روحية او خرافية تمنّيه بالفرج وتخفف عنه نفسيا.

ومن هذه الوسائل زيارة الأئمة والأولياء.. ولا نعني بها الزيارات التي يقوم بها الناس في اوقات استقرارهم النفسي، فهذه تكون للتبرّك والتقرّب من الامام وخالصة لشخصه الكريم، انما نعني بها زياراتهم للأئمة والأولياء بحشود في اوقات الأزمات القصد منها فك ازمة مأزوم.

ومع تنوع أزمات هذه الجماهير المليونية فانها تعمل في آليتين نفسيتين هما:

الأولى: شعور الانسان العاجز المحبط بقلّة الحيلة وانعدام الوسيلة،

والثانية: اسقاطه على الأمام او الولي القدرة على فك ازمته لتميزه بكرامة او جاه او رجاء اذا رفعه الى ربّ العالمين فانه لا يخيب رجاءه.

وينشط عمل هاتين الآليتين في اجواء الطقوس الروحية، لأن رؤية الفرد الواحد للجماهير المهمومة تخفف من همومه حين يرى ان الكارثة عامة وأن مصيبته قد تكون اهون من مصائب الآف. غير ان اقواها:تراجع العقل عن التفكير بحلول واقعية امام طوفان الانفعال الجمعي للجماهير المليونية، والتنفيس عن هموم محنة عامة والشكوى من سوء الحال بأدعية تشيع في نفوس الجموع نوعا من الاطمئنان والرجاء والأمل واقناع الذات بأن ثمة فرج آت.. بعد وقت اضافي من الصبر!.

ساتابع زيارة الأمام الكاظم يوم الثلاثاء (6 / 2 /24) لأرى ما اذا كانت مليونية ايضا، وما اذا كان الزائرون يكررون طلباتهم التي عرضوها على الأمام قبل 17 سنة، لاسيما طلبهم بتوفير الكهرباء (الله واكبر كتلنا البرد، بعد ان كانت كتلنا الحر)، ودعوتهم الى ان يتصالح السياسيون، ويعيد التيار الصدري للعملية السياسية..

وبعدها سيكون لنا تحليل سيكولوجي جديد.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

وهل لديها المقومات التاريخية الاقتصادية السياسية في ذلك؟

قد يتساءل البعض عن سر النزعة الإنفصالية لحكام ولاية تكساس التي يحكمها الجمهوريون عن الولايات المتحدة ومآلاتها بعد احتدام الصراع مع الحكومة الفيدرالية في واشنطن والمتمثلة بالرئيس الأمريكي من الحزب الديمقراطي، جو بايدن.

لقد تولد لدى حكام هذه الولاية -الأقوى اقتصادياً- شعورٌ بالغبن والخضوع للاستغلال الجائر، من قبل القيادة الفيدرالية، حتى جاءت الذريعة القوية لخوض معركة انفصال جديدة، حينما قررت المحكمة الأمريكية العليا إزالة الأسلاك الشائكة بين الولاية والحدود مع المكسيك، الأمر الذي سمح بتدفق المهاجرين المكسيكيّين إلى الولاية دون رادع، وبالتالي إعاقة التعامل مع الظاهرة وفق معايير أمنية ضابطة.

لذلك عدّ حاكم الولاية، القاضي السابق غريغ أبوت، هذه الظاهرة المتنامية احتلالاً مكسيكياً يسير ببطء شديد، ومكمن خطورتها أنها تعتمد على تأثير التقلبات الديمغرافية في نتائج أي استفتاءات يكون من شأنها التحكم بمصير الولاية عند الأزمات الوجودية.

هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن تكساس تقوم ديمغرافياً على المكونيْن المكسيكي والسكان الأصليين قبل أن يتدفق إليها المكوّن الأوروبي الذي تناما بكثافة بعد قرار الانضمام إلى الولايات المتحدة الأمر الذي عزز من مخاوف حكام الولاية الجمهوريين .

وهذا ممكن لو تمحصنا في إسقاطات التاريخ على المكوِّن الديمغرافي المكسيكي، الأمر الذي استلزم من "أبوت" التصدي لقرار المحكمة الفيدرالية العليا الذي أعطى الولاية مهلة حتى 26 يناير 2024 لنزع السياج الأمني الذي أقيم على حدود تكساس مع المكسيك.

ولكن بعد انتهاء المهلة المقررة قام حاكم الولاية بمخالفة قرار المحكمة العليا ممعناً في تحدي الحكومة الفيدرالية، وذلك من خلال الزيادة في تحصين الحدود، وعدم تمكين حرس الحدود التابع للحكومة الفيدرالية من القيام بمهامه المنوطة به بتنفيذ قرار المحكمة العليا، من خلال التصدي له من قِبَلِ الحرس الوطني التابع للولاية، مدعوماً بقوات الحرس الوطني لعشرة ولايات جمهورية من بين 25 ولاية أبدت تأييدها لموقف "أبوت" من الهجرة غير الشرعية.

وفي خطوة وصفت بأنها أنانية تم إلقاء أزمة المهاجرين إلى الولايات المجاورة بتحويل أكثر من 100 مهاجر إليها بهدف تأزيم المواقف في وجه الحكومة المركزية، وهذا تصعيد خطير.

ولعل تأثير هذه النزعة على مستوى جماهيري تجلى أكثر من خلال جذب جيش الرب (AOG)‏ الذي زحف من ولاية فرجينيا نحو تكساس؛ للمساهمة في التصدي للهجرة غير الشرعية من المكسيك.

وقد تبنى الحزب الجمهوري هذا التوجه الذي رفع من معنويات المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية المحتمل، دوناند ترامب كونه الأشد تأييداً لموقف حاكم الولاية الاستثنائي غريغ أبوت.

من جهته برر "أبوت" إجراءاته المخالفة للقانون قائلاً في مؤتمر صحفي: "الدستور يعطي الحق للولايات للدفاع عن نفسها.. وهذا بالضبط ما نفعله"

لذلك أمر "أبوت" بنشر قوات الأمن الوطني التابعة له، في أرجاء الولاية وعزز من تواجدها على الحدود مع المكسيك في تحدٍّ سافر لجو بايدن.

وهذا يمثل تصعيداً خطيراً من شأنه أن يضع الولايات المتحدة أمام خيارات مفصلية كارثية، وخاصة أن هذه الإجراءات وضعت قوات الأمن الوطني لتكساس في صدام مع قوات حرس الحدود الفيلدرالية.

فيما يرى مراقبون بأن النتائج ستظل محصورة في حدود التداعيات التي ترافق عادة الانتخابات بين الديمقراطيين والجمهوريين؛ لكن المستحيل في وقتنا الراهن تحطمت حواجزه في أكثر من تجربة في العالم ولعل طوفان الأقصى خير مثال على ذلك.

والجدير بالذكر أن للنزعة الانفصالية في تكساس جذوراً تاريخية ومحفزات نفسية تقوم على رهاب الديمغرافيا، التي تميل إلى الثقافة المكسيكية والولاء المعنوي للجنوب، والشعور بالغبن والاستغلال من قبل حكومة المركز لثروات الولاية الهائلة.

فقبل نحو 118 عاما كانت تكساس جمهورية مستقلة، اعترفت بها الولايات المتحدة وفرنسا وإسبانيا، قبل أن تصوت على الانضمام إلى الولايات المتحدة لتصبح الولاية الـ28 وقتها وذلك بدافع الخوف من المكسيك التي انتُزِعَتْ منها.

وكان الجنرال الأمريكي سام هيوستن قد انتصر على الجنرال المكسيكي سانتا أنا، فاستقلت تكساس عن الولايات المكسيكية الفليدرالية وحملت عاصمتها اسم محررها "هيوستن".

ولكن خشية تكساس من الطموحات المكسيكية نحو استعادتها، دفعتها للانضمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية-كما أشرنا آنفاً- في 29 ديسمبر 1845 من خلال استفتاء عام.

ويبدو أن طموح الولاية الانفصالي كان متعارضاً بشدة مع مصلحتها في الانضمام إلى الولايات المتحدة حيث وجدَ فيه التكساسيون ملاذاً آمناً ورادعاً للخطر المكسيكي المحدق بهم من الجنوب.. مع أن هذا الخطر قد يكون مبالغاً فيه، بحيث لا يعدو عن كونه وهماً درج قادة الانتخابات الأمريكية في صنعه للتأثير على النتائج.

وكانت لولاية تكساس إبّان الحرب الأهلية الأمريكية تجربة إنفصالية سابقة لأول مرة في أوائل عام 1861 إلى جانب إحدى عشرة ولاية تحت مسمى الولايات الكونفدرالية الأمريكية، حصل ذلك كون عنصر الأمان بات حينها مفقوداً بسبب انتصار الشماليين على الجنوبيين في الحرب الأهلية، لكنها عادت وانضمت رسميا من جديد إلى الولايات الكونفدرالية الأمريكية في 2 مارس من نفس العام. وخضعت لسيادة الحكومة الاتحادية بعد الحرب الأهلية.

وتجدر الإشارة إلى أنه في عام 2021، تقدم أحد أعضاء مجلس نواب ولاية تكساس عن الحزب الجمهوري بمشروع قانون لإجراء استفتاء غير ملزم على انفصال الولاية عن الاتحاد، ولكن لم يتم التصويت عليه أو تُحدَد له جلسة استماع من قبل المجلس.

في العام ذاته، كتب الصحفي والمؤلف ريتشارد كرايتنر، المتخصص في تاريخ "الانفصالية" في الولايات المتحدة، أنه حان الوقت "لأخذ الحديث عن الانفصال على محمل الجد".

يرى الكاتب أنه في أعقاب محاولة التمرد الفاشلة التي شارك فيها أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب، واقتحامهم للكونغرس، فإن ميليشيات اليمين المتطرف، مدفوعة بمزاعم ترامب التي لا أساس لها من الصحة بأن الانتخابات "سُرقت"، أصبحت تطالب بشكل متزايد بالانفصال، ليس فقط في تكساس، ولكن في ولايات أخرى كذلك. وأظهرت دراسة أجراها مجموعة من الباحثين من عدة جامعات أمريكية أن الفكرة يؤيدها ثلث الجمهوريين في مختلف الولايات الأمريكية، وأكثر من نصف الجمهوريين في الولايات الكونفدرالية السابقة.

فولاية قوية ومكتفية ذاتياً مثل تكساس تستطيع اتخاذ قرار الانفصال عن طريق الاستفتاء إذا ما حظيت هذه الخطوة بتأييد الكونغرس.

ولا شك أن العامل الاقتصادي والقدرة على الاستقلال سيهيء لإجراء استفتاء حقيقي يقوم على نتائجه مستقبل تكساس.

إذْ تتمتع ولاية تكساس باقتصاد قوي يحتل المرتبة التاسعة بين الأكبر في العالم، متفوقا على العديد من البلدان مثل روسيا وإسبانيا وأستراليا. فهو يسهم بشكل كبير في قوة أميركا وازدهارها بشكل عام، كما تعد الولاية الحدودية مع المكسيك، مركز الطاقة في أميركا، حيث تنتج وتكرر معظم النفط والغاز في البلاد. كما أنها رائدة في مصادر الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية.. وفيها مقر وكالة ناسا للفضاء.

وحتى من الناحية السياسية، فإن تكساس هي لاعب رئيسي في السياسة، حيث تمتلك ثاني أكبر عدد من الأصوات الانتخابية ومقاعد في الكونغرس في الولايات المتحدة. كما أن لها تأثيراً قويا ًعلى قضايا الحدود مع المكسيك، وسياسات الهجرة، والأمن القومي.

وخاتمة القول أن الرهانات على انفصال تكساس ليس سهلاً لكنه سيكون مؤشراً لاحتمالٍ ممكن الحدوث في عالم يتغيرُ بسرعة وأصبح فيه المستحيلُ مستحيلا.

***

بقلم بكر السباتين

6 فبراير 2024

 

العلاقات السودانية الايرانية، سوف تطوي ثوبها البالي، وتخطر في ثوب قشيب، بعد أن كلفتها خطوب الحياة،  وعنت الدول المستبدة، التي كانت تضيق بهذه الوشائج، التي توثقت في عهد الرئيس السابق المشير عمر حسن أحمد البشير، أشد الضيق، ولعل الباعث الذي دفع نظام البشير، لتوطيد صلاته مع ايران، التي أظهرت حباً له، وعطفاً عليه، العزلة التي فرضها عليه المجتمع الدولي، بعد أن حاد نظام الحركة الإسلامية، عن النظم المرسومة، والقواعد الموضوعة، وأراد أن يمضي في الحياة كما يريد هو، لا كما يريد الغرب، لقد رفض نظام البشير قيود الامبريالية، وذهب في عناده معها مذاهب مختلفة، فالجأته إلى ذلك البؤس الهادي المطرد، حتى قضت عليه، البؤس العاتي الغليظ، الذي جعل شرائح شعبه ومكوناته تتصايح، وتدعو بعضها بعضاً للخروج عليه، حتى ظفرت بالحرية قبل عدة أعوام، ثم فرطت في هذه الحرية، وأمعنت في هذا التفريط، حتى قادنا ذلك التفريط إلى هذه الحالة المنكرة، وإلى هذه المليشيا المارقة التي أودت بالناس في غرب الدولة، وشمالها، وفي وسطها، وأكبر الظن أن الساسة الذين جاءت بهم تلك الثورة التي لم تكمل غايتها، لم يكونوا على كل حال، هم القادة الذين سيبلغ بهم الشعب مأمله في العدل والحرية، وينهي بهم هذه السلسلة الطويلة من حلقات الخمول والجمود، فهم لم يقودوه إلى الأمل المنشود، ولم يقدروا جهده الدائب، وعمره القصير الذي أفناه، من أجل نيل التحرر والانعتاق، فتلك الناجمة لم تسعى إلا لأن تروي حقدها، وترضي حاجتها من التشفي والانتقام، وتمحو بأظافرها الحادة الملوثة، كل ما دونه التاريخ  للانقاذ من محاسن، ولا تبقي إلا على غثاء، لا يحتاج منا أن نضبطه، أو نعلق عليه.

وفي الحق، أن معارك النظام الإسلامي المحتدمة مع المجتمع الدولي، منحته بلا شك بصيرة نافذة، وذكاء متقد، وقدرة فائقة على المناورة والالتفاف، فاستطاع أن يكون لنفسه رأياً صارماً حازماً، خاض به العور والنوائب، على مدار عمره الطويل، حتى اشتد عليه المرض، واستيقن الموت، بعد أن صبر وأجمل الصبر، وسلك كل الطرق التي تبقيه حقبة من الدهر، قبل أن يلفظ آخر أنفاسه، وإيران كانت محطة من محطات  تشبثه، محطة استطاع أن يعيد بها بناؤه العسكري والسياسي، ونحن إذا أردنا أن نرصد هذه العلاقة، فسنجد أن نظام البشير  قد سار مع إيران سيراً رقيقاً عذبا، في بدايته، فوفق منها إلى ما أراد، ومنحها بعض ما تريد، ثم تنكر لها، وجحد فضلها، ليرتمي بعدها في أحضان دول الخليج التي كانت لا تتعصب له، ولا تثني عليه،  بل تبغضه وتزدريه، وتوغل في مجه وازدرائه، فبغض دول الخليج للانظمة التي تلتحف برداء الدين، لا يحتاج منا، أن نضيع وقتنا، وقت القارئ، في التماس الأدلة والبراهين على حقيقته وصحته، وقد لجأ نظام البشير إلى الخليج العربي، بعد أن فقد الأمل، واستيئس من النجاة، وقد منح الخليج العربي "البشير" الأمان، وأخذه بالحزم، ورده إلى الاعتدال، وأجبره على قطع صلاته بايران، التي كانت أحدب عليه من أبيه، واستأنف "البشير" حياته الجديدة، مع حليفه الجديد، وكان يحرص على رضاه، أكثر مما يحرص على أي شيء آخر، والخليج الذي كانت النار تضطرم بين جوانحه، وتحرق قلبه غيظاً على" البشير وطغمته"، استخدمته أداة للدفاع عن نفسها، وأقحمته في تدخل عسكري عنيف في اليمن، وجعلت قواته تنتقل من ثغر إلى ثغر، ومن غور إلى غور، تغالب الطبيعة، وتواجه العواصف والأنواء، وتجابه المنايا، في حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، أمسى البشير يحارب  جماعة تعيش في وطنها، وبين أهلها، جماعة لم يجد السودانيون ما يدفعهم، إلى الجد، ويثير فيهم النشاط، لهضم مسوغات قتالهم، لقد اتخذ نظام البشير  هذه الخطوة في كثير من التردد والاستحياء، ولم يكن ينظر، أو لا يكاد ينظر كما يقول -العميد- إلى عمق العلاقة التي لم تشبها شائبة مع الشعب اليمني الشقيق، واستطاع البشير كعادته أن يحصر الثائرين، والمستهجنين، تلك الطائفة التي لم  تريد قتلاً ولا قتالا، ولا تبتغي شراً أو خصومة مع اليمن وأهل اليمن، استقبلت  هذا التداعي واجمة أول الأمر، ثم سائلة مستفسرة، عن الدواعي والأسباب التي تحملنا على حرب اليمن ومعاداة شعبها، فأجبرهم  الدكتاتور الحائر على الصمت، ومضى البشير في عزمه، وأرسل قواته إلى معمعة لا تحمل إليهم رضى ولا غبطة.

والقوات السودانية التي كانت تقاتل هناك بأبخس الأثمان، كانت تستشعر الحرج، وهي تتبع الحريق هنا وهناك، وتعلم أنها مهمة أثقل من تستطيع أن تنهض بها، لأجل ذلك كانت الهزيمة تدركها في أكثر الأحيان، فهي غير مقتنعة بأنها قد حضرت هنا إلى هذه البلاد، حماية للكعبة، وبسطاً للعدل، وإنقاذاً للناس من ظلم الحوثيين، فالشيء المحقق أنها جاءت إلى هنا من أجل الطمع والطموح، الطمع في المال، والطموح إلى الترقية والتدرج في الرتب.

ونحن إذا اردنا الانصاف، نقول أن" المشير البشير" الذي كان ينتظر من الخليج، أن يحميه من عاديات الأيام، كان مكرهاً أن يساير حلفائه الجدد، وأن يظهر لهم هذا الخضوع والإذعان، فهو واهي أقعد به الداء، ونظامه ضعيف ثقلت عليه العلة، و حركته أزرى بها الخلاف، نظامه الذي بات يكره نفسه على البقاء، مخافة السجون والملاحقات الدولية، أفاض على وجهه هواناً، جعله يستخذى نصرة من أطنب في معاداتهم، وكان يعد أصواتهم أكثر خفوتاً، وصورهم أشد بعداً، وانقطع البشير في هذه العلاقة مع الخليج الذي لم يظهر مطلقا أن نفسه راضية، وقلبه سعيد، بهذا التأخي، وحتى نترك عنا هذا التحقيق الدقيق لكنه المشاعر، نقول أن "المشير البشير" لم يفرغ للهوه ومتاعه، والتنقل بين الأقطار، فقد عالجته ثورة هادرة قضت على بحكمه، ثم أخذت الجموع تكثر من التردد على القصر الجمهوري غداة كل يوم،  وهي ترسل صوتها الصريح بالانكار، حتى ظهر لنا شبح "الخبير الاقتصادي" المزعوم الدكتور عبد الله حمدوك، والذي اتضح انه أتى ليحارب عواطف الشعب ومثله العليا، لقد كنا على علم بأسباب هذه الثورة، ودوافعها الوطنية، ولكننا لا ندرك الكثير، أو نجد تفسير شاف لتصدر ممن هم على شاكلة "حمدوك" و طاقم حكمه الضعيف الهزيل، الذي لم يأتي إلا ليوقظ روح اليسار، ويجعل للخنا والفجور قيمة عظيمة، وخطراً جليلا، وقد رفق بنا الدكتور حمدوك حينما صاغ خطابه الشهير للأمم المتحدة، حتى لا نجتهد، ونضني أنفسنا بالاجتهاد، لكي ندلل على عمالته، خطابه الذي أتى "بفولكر"  الثعلب الألماني العجوز، الذي قوى من شخصية" قحت" ودفعها إلى الثقة بنفسها،  "قحت"مجموعة الأحزاب الهشة المنخوبة الفكر،  المغلولة اليد، المحصورة بين ردهات مكاتب المخابرات الأمريكية، لا ندري كيف تصدرت المشهد، وكيف رضينا منها أن تبت في يسير الأمر أو خطيره، لأجل ذلك لاح على السواد الأعظم من الشعب الضجر، وأظهر التبرم والملل، من سماجة، وضعف مردود الدكتور حمدوك ومن "قحت" الحاضنة السياسية له، ولحميدتي قائد قوات الدعم السريع من بعده.

ونحن نزعم في حدة وعنف، أن حكومة الدكتور حمدوك إنما وضعت لفئة محددة ولم توضع لعامة الناس، الفئة التي تجد ذاتها وسط الغرب، وحضارته الموغلة في العهر والانفصام، الفئة التي تنتهي آمالها إلى غاية تقتضي تغيير منهج الدين، وطرق التفكير المرتبطة  بأصول شريعته، ولعل حدود المقال وأطره، تمعنا من أن نقدم عرضاً مفصلاً للأحداث والمآلات التي صاحبت تلك الفترة، ولكن تلك الفترة انجلت باستقالة الدكتور حمدوك، وتدافع غلاة الفكر الحر، ورواد المجون والزندقة، نحو المطارات والمعابر، وتركوا قائد الدعم السريع الفريق أول محمد دقلو، الرجل الذي لا يدري كيف يصانع من حوله، شريكا للبرهان في حركته التصحيحية التي انتزعت أرباب العمالة من الحكم.

ولم تلبث "قحت" التي يملؤها الحقد والشر والكيد أن تبث العداوة والبغضاء في حنايا الفريق أول حميدتي تجاه شريكه وقائده في المجلس السيادي الفريق أول البرهان، فاندلعت هذه الحرب التي كان "فولكر وأحزاب الخزي والعار" أشد حدباً والحاحاً على تهييجها واضرامها، لأنها تحقق لهم كرامة أهدرها البرهان، وتتيح لهم أن يخاطبوا المنابر باسم الأفراد والجماعات.

سنرفد هذا المقال بمقال آخر باذن الله.

***

د. الطيب النقر

تمهيد: لم تكن عملية "طوفان الأقصى" حدثًا عابرًا في المواجهة المستمرة منذ ثلاثة أرباع القرن، بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال "الإسرائيلي"، بل تعتبر حدثًا مفصليًا في تاريخ الصراع، فما بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 سوف لا يشبه ما قبله.

واجهت غزّة التي تبلغ مساحتها 365 كم2، لا تعادل سوى 2% من مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كم2، حربًا عالمية بكلّ معنى الكلمة، وتعرّضت إلى إبادة شاملة في ظلّ دعم غربي لا محدود، تبريرًا وتسويقًا للعدوان في الأمم المتحدة وخارجها، تحت حجّة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". فكيف يمكن فهم ما حصل؟

زمام المبادرة

بدأت عملية طوفان الأقصى بمباغتة فائقة البراعة، ليلة عيد الفرقان "الإسرائيلي"، حين اقتحمت قوات المقاومة "حماس"، المواقع "الإسرائيلية" في غلاف غزّة، بسرعة مذهلة ودقيقة في الساعة الثالثة صباحًا، في 22 موقعًا عسكريًا، وخلال ثلاث ساعات تمكّنت من اغتيال بضع مئات من الضباط والجنود "الإسرائيليين"، واقتادت ما يزيد عن 100 "إسرائيلي"، بمن فيهم اثنين من العسكريين من جهاز "الشين بيت - شاباك" (المختصّ بالأمن الداخلي، والذي يتبع لرئيس الوزراء مباشرةً)، وعدد من الأجانب، لاحتجازهم كأسرى، أطلقت سراح بعضهم (من المدنيين وحملة جنسيات أخرى)، في عملية تبادل للأسرى، واحتفظت ببعضهم الآخر، ولاسيّما العسكريين، ضمن خطة للضغط على "إسرائيل" لتحرير الأسرى الفلسطينيين من السجون "الإسرائيلية".

وتكمن أهمية عملية طوفان الأقصى في امتلاك زمام المبادرة أولًا، وثانيًا، ما حققته من اختراق نظرية الأمن "الإسرائيلي"، التي ظلّت مهيمنة لعقود من الزمن، وكيف أُخذ "الإسرائيليون" على حين غرّة؟ ويعود ذلك، في جزء كبير منه، إلى دقة التخطيط والتنفيذ والمعلومات الاستخبارية، حيث تم تحديد المعركة والمبادءة في اختيار لحظة الهجوم، وتكاد تكون هذه العملية الجريئة الكبرى والأولى، التي تدار فلسطينيًا بعد حرب تشرين الأول / أكتوبر1973 التحررية، التي حاولت فيها القوات المصرية والسورية مواجهة نظرية الأمن "الإسرائيلي"، حين اختارت هي تحديد لحظة المواجهة، وبدء المعركة، في حين كانت "إسرائيل" في المعارك الأخرى، هي التي تفرض المعركة بشنّها العدوان.

أركان نظرية الأمن "الإسرائيلي"

ساهمت عملية طوفان الأقصى في خلخلة الأركان التي تقوم عليها نظرية الأمن "الإسرائيلي"؛ وأهمها:

أولها – حرب المعلومات: التفوق الاستخباري، ففي جميع حروب "إسرائيل" ابتداءً من حرب العام 1948 أو في العدوان الثلاثي العام 1956 (الإنكلو - فرنسي "الإسرائيلي") أو في عدوان 5 حزيران / يونيو المعروف ﺑ "الأيام الستة" العام 1967 أو في الحروب على لبنان وغزّة وغيرها، كانت الاستخبارات "الإسرائيلية" الموساد، (جهاز الاستخبارات الخارجي، الذي يرتبط برئيس الوزراء مباشرة)، تمتلك معلومات أكثر مما يمتلكه الجانب العربي والجانب الفلسطيني بكثير، بل إن المعلومات الاستخبارية العربية والفلسطينية، كانت شحيحة جدًا، لكن عملية طوفان الأقصى أظهرت هشاشة التفوق الاستخباري والأمني "الإسرائيلي"، حين هاجمت قوات فلسطينية فدائية، لا تزيد عن بضعة مئات، أكثر من عشرين ألف عسكري "إسرائيلي"، وعرضتها للانكشاف، والفضل يعود، في جزء كبير منه إلى الدقة الاستخبارية الفلسطينية والحصافة الأمنية، وخطط التمويه والإيهام، التي قامت بها بسرية كاملة، ناهيك عن الشجاعة في اتخاذ القرار والتنفيذ، على الرغم من امتلاك الاستخبارات "الإسرائيلية" آخر اختراعات العلم وابتكارات التكنولوجيا.

لقد تمكّنت استخبارات المقاومة، على بساطتها وقلّة إمكاناتها، من الحفاظ على سريّة عملها وتحديد ساعة المواجهة، وإنزال ضربة مفاجئة وغير محسوبة بالمنظومة الاستخباراتية والأمنية "الإسرائيلية"، التي لم تكتشف خطة المقاومة، سواء في اتخاذ القرار، أو في التنفيذ والإداء بإعداد محكم ورصين لهذه العملية، التي استغرقت نحو عام من التحضير المضني.

وثانيها – حرب العلوم: التفوّق العلمي والتكنولوجي، وهذه هي الأخرى تمّ التغلّب عليها، حين اختارت المقاومة لحظة الهجوم، وهكذا كانت الإرادة والحق في مواجهة التكنولوجيا والباطل، فلم ينفع ادّعاء "إسرائيل" بامتلاكها أسرار الذكاء الاصطناعي، وتفوقها على الفلسطينيين والعرب، وتصنيف نفسها كدولة متقدمة، فقد تمكنت المقاومة بأدوات وأسلحة بسيطة، وخطة محكمة، أن تحقق نتائج  مذهلة، وأنزلت ضربة غير متوقعة بالقوات "الإسرائيلية"، علمًا بأنها تمتلك أسلحة متطوّرة ومعدّات واستعدادات وتهيئة، ومنظومات دفاع مدعومة غربيًا، وخصوصًا من جانب الولايات المتحدة، كما حافظت المقاومة، طيلة الفترة المنصرمة، على سريّة بناء الأنفاق، وجهزتها بأسباب الحياة دون أن تعرف "إسرائيل" وعملائها، فضلًا عن أنها، حتى بعد اجتياح غزة، لم تتمكن من الوصول إليها.

لقد أظهرت، عملية طوفان الأقصى، "إسرائيل" عارية على الملأ، لدرجة أخذت تستنجد بحلفائها لدعمها، وقامت بعد ذلك بعملية انتقامية في حرب إبادة مفتوحة مثّلت فضيحة للضمير العالمي، وكشفت بما لا يدع مجالًا للشك عن زيف إدّعاءات بعض دعاة حقوق الإنسان وقيم العدالة والحريّة على المستوى العالمي.

وتمكّنت المقاومة خلال هجومها من الحصول على أسرار ومعلومات خطيرة، لا تتعلّق بالجوانب الأمنية والاستخباراتية فحسب، بل على بعض أسرار المنظومة الدفاعية "الإسرائيلية"، وذلك بوضع يدها على كومبيوترات ومعلومات مخزونة وأرشيف كبير، سواء عنها أو عن بعض "المتعاونين" مع "إسرائيل" أو عن المنظومة "الأمنية الإسرائيلية".

وثالثها – حرب الإرادة، وهذه مرتبطة بالسياسة من جهة وبالعقيدة العسكرية من جهة أخرى، فقد كانت "إسرائيل" تدرك أن النجاح في الحرب يعتمد على قرار سياسي أولًا وخطة عسكرية ثانيًا، وسيكون تحديد نتائجها للأقوى، ولذلك كانت دائمًا ما تبدأ بتحديد مكان وزمان المعركة ، وتضع الخطط المسبقة لذلك، ولكن المقاومة، هذه المرّة، كانت هي المبادرة، وهي التي حددت مكان المعركة وزمانها، فألهبت حماسة فلسطين بكاملها، بما فيها داخل الأراضي المحتلة وعرب اﻟ 48، كما يقال، ناهيك عن الضفّة والقدس، وعموم مناصري العدالة والحق على المستوى الكوني.

وسعت المؤسسة السياسية والعسكرية "الإسرائيلية"، طيلة ثلاثة أرباع القرن، الإبقاء على تفوّقها من جهة، والعمل على تفكيك وإفشال أية محاولة لإعادة بناء القدرات الفلسطينية، عن طريق استراتيجية ما يسمى "قصّ الثيّل" أو "جزّ العشب"، وخلال العقدين المنصرمين عمدت "إسرائيل" إلى شنّ 4 حروب كبرى على غزّة بعد حصارها منذ العام 2007، وقبل عملية طوفان الأقصى، وهذه الحروب العدوانية هي:

الأولى في 27 كانون الأول / ديسمبر 2008 أسمتها "إسرائيل" "الرصاص المصبوب"، أما حماس فأطلقت عليها اسم "حرب الفرقان"، واستمرّت إلى يوم 18 كانون الثاني / يناير 2009.

والثانية في 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2012 ، وأسمتها "إسرائيل" "عامود السحاب"، ودعتها حماس "حجارة السجّيل" واستمرّت 8 أيام.

أما الثالثة في 7 تموز / يوليو 2014 وأطلقت عليها "اسرائيل" اسم "الجرف الصامد" أما حماس فأطلقت عليها "العصف المأكول" واستمرتّ 51 يوماً، حيث توقّفت في 26 آب / أغسطس 2014 .

والرابعة، في أعقاب "أحداث حي الجرّاح" في القدس والتي شهدت  مواجهات بين سكانها والسلطات "الإسرائيلية"، فانتفضت غزّة وكل فلسطين ما بعد الخط الأخضر تضامناً مع سكان حي الجرّاح في القدس، وشنّت "إسرائيل" عملية عدوانية كبرى أسمتها "عملية حارس الأسوار"، في حين أطلقت عليها حماس "معركة سيف القدس 2021"، حيث بدأ العدوان في 6 أيار / مايو 2021، وتوقّف إطلاق النار بوساطة دولية قادتها مصر في 21 أيار / مايو 2021.

وهكذا كانت "إسرائيل" في حالة "استرخاء" لاعتقادها أن المقاومة لا يمكنها شنّ حرب عليها بسبب الحصار والتجويع ومحاولات التفكيك المستمرة. ولعلّ ما يعزّز مثل هذا الاعتقاد هو بناء الجدار العازل اللّاشرعي واللّاقانوني واللّاإنساني. وبسببه كانت "إسرائيل" تشعر أنها أكثر "أمنًا"، خصوصًا وأن أية محاولة لاجتيازه تستهلك طاقة الفلسطينيين، حيث يبلغ طوله 770 كلم، وتم بناء 406 كلم منه، أي 52.7%، ويتراوح عرضه من 60– 150 مترًا في بعض المواقع، وبارتفاع يصل إلى 8 أمتار، وخندق يصل عمقه إلى أربعة أمتار لمنع مرور المركبات والمشاة، علمًا بأن محكمة العدل الدولية أصدرت قرارًا استشاريًا في 9 تموز / يوليو 2004 بعدم شرعية  الجدار.

ورابعها – وحدة القرار والتنفيذ (الإرادة والعمل): المقصود بذلك التفوق بوحدة القرار السياسي والعسكري والإعلامي، وهو ما عرفته جميع الحروب "الإسرائيلية"، باستثناء ما بعد عملية طوفان الأقصى، فكان الانشقاق واضحًا، فبنيامين نتانياهو يلوم المؤسسة العسكرية والأمنية بسبب عدم معرفتها بخطة طوفان الأقصى، سواء في مرحلة التخطيط أو الإعداد أو حين التنفيذ، وهذا يعني فشل المنظومتين الأمنية والعسكرية، في حين أنهما يلقيان اللوم على نتانياهو لتوريطهما في حرب مفتوحة  والخسائر التي منيت بها "إسرائيل"، وكلاهما يترصّد للآخر، فنتانياهو يريد زجّ الجيش بمعارك لا حدود لها، حتى لو سقط المئات من الجنود والضباط في هذه المعركة، بما في ذلك لو تم التضحية بالأسرى "الإسرائيليين"، طالما تؤدي إلى استمرار الحرب، لأنه يريد أن يظهر بمظهر "البطل"، كي يحمي نفسه بعد انتهاء المعارك من المثول أمام العدالة بتهم الفساد والتزوير، وبالمقابل، تترصّد له المؤسسة العسكرية والأمنية، التي تريد إنهاء المعارك حقنًا لدماء الجنود واستعجالًا بمحاكمته.

ولعلّ ما أوقع "إسرائيل" في هذا الصراع، هو ازدياد حالات التذمر الشعبي، خصوصًا ضغوط عوائل الأسرى، والخسائر التي تعرّضت لها خلال عملية اجتياح غزّة، وذلك بعد تجريف الأجزاء الشمالية منها ودفع سكانها للهجرة إلى رفح باتجاه الحدود المصرية، فبعد أن كانت جميع الحروب "الإسرائيلية" تحظى باتفاق عام من الجيش والمستوطنين وسكان "إسرائيل"، فإن هذه الحرب أظهرت الانقسام الحاد بين حكم معزول ورئيس وزراء متّهم وجيش متذمّر، ومؤسسة أمنية مرتبكة، والأكثر من ذلك فإن الانقسام الشعبي والاصطفافات ضدّ حكومة نتانياهو التي سبقت الحرب ازدادت عمقًا، وآخرها امتناع وزراء من حضور اجتماعات مجلس الوزراء، وإعلان قادة عسكريين سابقين عن موقف مناقض لمواقف نتنياهو، وقرار جديد من المحكمة العليا بالتحقيق فيما حصل بطوفان الأقصى، حتى قبل انتهاء المعارك، وتلك مسألة تحدث لأول مرّة.

الحرب النفسية

لم تخلخل عملية طوفان الأقصى نظرية الأمن "الإسرائيلي" فحسب، بل عملت على تبهيت صورة الجيش "الإسرائيلي" ، الذي لا يقهر وأسطورته، والذي يُقال عنه أقوى رابع جيش في العالم من حيث القدرات القتالية، والجيش الثامن عشر دوليًا، وهكذا انهارت صورة الردع "الإسرائيلي"، فالمحاصَرون والمجوَّعون انتصروا في لحظة تاريخية فارقة أذهلت العالم، الأمر الذي أدّى إلى استنفار حلفاء "إسرائيل"، الذين تسابقوا إلى تقديم النجدة العاجلة لها، والحج إلى تل أبيب حيث وصلها الرئيس الامريكي جو بايدن ووزير خارجية الولايات المتحدة بلنكن  ووزير دفاعها أوستن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس وزراء بريطانيا ريشي سوناك والرئيس الألماني فرانك شتاينماير ورئيس إيطاليا سيرجيو ماتاريلا، وهو ما وفّر لها غطاءً معنويًا لشن الحرب المفتوحة على المدنيين، ورفض أي مطالبة بوقف العدوان، ترافقًا مع الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، بحجّة:

1- استعادة الرهائن.

2- القضاء على قادة حماس وتفكيك بنيتها التحتية وإخماد أي صوت للمقاومة.

3- فرض سلطة أمنية جديدة على غزّة، صديقة "لإسرائيل".

4- تشطير غزّة ببناء حاجز يفصل بين شمالها وجنوبها.

5- تغيير نمط تفكير من يتبقى في فلسطين بتسفيه فكرة المقاومة، وإظهار عدم جدواها لقبول الأمر الواقع.

ودارت دورة الحرب النفسية الناعمة أيضًا في محاولة استبدال الوعي بالنصر لتحويله إلى موت ودموع ومأسي، وذلك بعد فشل "إسرائيل" في تحقيق أهدافها المعلنة، فضلًا عن فشلها في تسويق روايتها بخصوص قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وكأن همّ المقاومة ذلك، ناهيك عن أن العملية كلّها استغرقت 3 ساعات، فكيف يمكن أن يحدث ما هدفت "إسرائيل "إلى تسويقه؟ وللأسف فإن رئيس أكبر دولة في العالم، جو بايدن، ردّد ذلك، وعاد واعتذر عند قصف "مستشفى المعمداني"، باتهام جهات موالية لإيران، ثم ثبت أن الصاروخ أمريكي وهو مستخدم لدى جيش الدفاع "الإسرائيلي".

ومثل هذا الأمر ينبغي وضعه ضمن خطط المقاومة، لاسيّما استخدام كلّ ما يتعلّق بوسائل الحرب الناعمة، ووفقًا للذكاء الاصطناعي واقتصادات المعرفة.

المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني

إن هدف رسالة الردع "الإسرائيلية" هو الإرهاب، ولذلك انفلتت عمليات التهديد لدرجة أن الأمر وصل إلى بيروت، التي هُدّدت بمصير غزّة، وبدأت مع ذلك المحطة الثالثة للمشروع الصهيوني، فقد كانت المحطة الأولى هي إقامة "إسرائيل" العام 1948 بعد قرار التقسيم من الأمم المتحدة (1947).

ثم المحطة الثانية وهي احتلال كامل فلسطين، بما فيها القدس العام 1967، وضمها بقرار من الكنيست إلى "إسرائيل" (1980)، واعتبارها "عاصمة أبدية موحدة لها".

أما المحطة الثالثة، فهي التي بدأت مع طوفان الأقصى في العام 2023، بشن حرب إبادة ومجازر مروعة، باعتبار أن الفلسطينيين "حيوانات" يمكن تسويتهم بالأرض بهدف التهجير (ترانسفير)، والسيطرة على الأرض مجددًا (إعادة الاحتلال)، وتلك صفحة جديدة من صفقة القرن، التي يمكن شمولها لدول عربية أخرى، مثل الأردن (حسب ليبرمان) وسوريا ولبنان ومصر والسعودية والعراق واليمن، وإن كانت على مراحل.

وإذا كانت المحطتان، الأولى والثانية، قد مرّتا، وحققت "إسرائيل" جزءًا من أحلامها التوسعية، فإنه بعد عملية طوفان الأقصى، بدى الأمر مختلفًا، على الصعيد الفلسطيني اولًا، وهو ما سيترك تأثيره عربيًا لاحقًا، وسيكون الأمر مؤثرًا كذلك على المستوى العالمي، فبعد أن خفت الحديث عن حلّ الدولتين، وطويت المبادرة العربية (بيروت 2002)، "الأرض مقابل السلام"، التي تعاملت معها "إسرائيل" باستخفاف كبير، ومعها حليفتها واشنطن، والتي كانت تريد من العرب "التسليم بالأمر الواقع" وركوب قطار التطبيع بلا عودة، وإذا بحديث الدولتين يعود بقوّة على المستوى العالمي، ويتصاعد الكلام في الأمم المتحدة وخارجها عن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، طبقًا للقرارات الدولية.

سيناريوهان

شكل الارهاب جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الصهيونية، منذ ولادتها في نهاية القرن التاسع عشر، ونظر لها عرابوها من هيرتزل إلى جابوتينسكي، وتقوم الفلسفة الصهيونية على الإرهاب كنظرية عمل ونظرية حياة انطلاقًا من اعتبار "اليهود شعب الله المختار"، والشرط الجوهري لبلوغ ذلك، ليس سوى الإرهاب والعنف لمواجهة الوحوش الضارية، حسب هيرتزل، ووفقًا لجابوتينسكي تحطيم كل من يقاوم الصهيونية.

لا أحد يستطيع أن يقدّر متى ستنتهي الحرب وكيف ستنتهي؟

سيناريوهان يتصدّران المشهد، في الممكن وغير الممكن على المدى المنظور، أحدهما "إسرائيلي"، والآخر "فلسطيني"، الأول عاد بقوّة بعد عدم إمكانية تحقيق نصر عسكري على الأرض، إلى ممارسة الاغتيالات، والتي هي جزء من الفلسفة الصهيونية، فقد لجأت "إسرائيل"، خلال حرب الإبادة، إلى اغتيالات خارج دائرة العمليات الحربية فأقدمت على اغتيال رضا موسوي في دمشق وصالح العاروري (القيادي في حماس) في بيروت وقيادي من حزب الله في الجنوب اللبناني، وتزامنًا مع ذلك، اغتالت القوات الأمريكية مشتاق طالب السعيدي في بغداد من (الحشد الشعبي)، في إطار عمليات الانتقام من طوفان الأقصى.

السيناريو "الإسرائيلي" يريد استثمار التهجير القسري لإحداث تغيير ديموغرافي كي ما يؤدي إلى تغيير جيوسياسي، وذلك في الوعي والثقافة في الحاضر والمستقبل لإسدال الستار على القضية الفلسطينية لتصبح "ذكرى" أو "تاريخ"، والتمهيد لذلك يتم عبر تقطيع أوصال غزه، وتهجير سكانها وإيجاد من يقبل التعامل مع "إسرائيل"، وصولًا إلى إنهاء القضية الفلسطينية، فعلى الرغم من مرور أشهر على شروع "إسرائيل" بحرب إبادة، فقد اضطرّت إلى سحب 5 فرق جديدة خارج غزّة، بعد فشلها من تحقيق أهدافها، كما سحبت لواء نخبة النخبة من الجولان، في محاولة لإعادة الانتشار، خصوصًا في ظلّ الضغوط التي تعرّض لها رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو، والصراع بين القرار السياسي والقرار العسكري، بالرغم من الحرب المفتوحة، التي شنّتها "إسرائيل" على شعب أعزل،

أمّا السيناريو الثاني (الفلسطيني)، فإنه يقوم على إرغام "إسرائيل" على الحدّ من الاعتداءات على المسجد الأقصى، التي تكرّرت خلال السنوات الأخيرة، منذ محاولة حرقه في العام 1969 على يد مايكل دينيس روهان، وهو متطرّف من أصل أسترالي، إلى اليوم، علمًا أن المسجد الأقصى ليس رمزًا إسلاميًا فحسب، بل هو رمز تاريخي كوني، وهو ما أظهرته اليونيسكو يوم 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 خلال اجتماع في العاصمة الفرنسية باريس بقرارها رقم 200، الذي ينفي وجود ارتباط ديني لليهود بـالمسجد الأقصى وحائط البراق، ويعتبرهما تراثًا إسلاميًا خالصًا، بالضدّ من ادّعاءات "إسرائيل" وحفرياتها لإثبات عكس ذلك بزعم "وجود الهيكل".

ومن نتائج طوفان الأقصى، وقف قطار التطبيع، التي سارعت إلى ركوبه بعض الدول العربية، ظنًا منها أنه يمكن أن يساهم في عملية السلام في المنطقة، فضلًا عن الوقوف ضدّ مخطط تصفية القضية الفلسطينية، الذي كان يُراد له، في إطار صفقة القرن أن يدخل مرحلة التنفيذ لإنهاء فكرة قيام دولة، والقبول بالأمر الواقع ليصبح واقعًا، ومن النتائج الأخرى المحتملة، ضمن السيناريو الفلسطيني، إنهاء الحصار المفروض على غزة والذي يستمر منذ نحو 17 عامًا، فلم يعد ذلك مقبولًا ، ولا بدّ من التفكير في مسارات أخرى، خصوصًا بعد أن ساهمت عملية طوفان الأقصى في كسر نظرية الردع "الإسرائيلي"، فضلًا عن التحوّل الكبير في الرأي العام العالمي لصالحها، حتى أن جنوب أفريقيا قدّمت طلبًا إلى محكمة العدل الدولية بشأن فتوى استشارية بخصوص ارتكابات "إسرائيل" في غزّة.

فأي السيناريوهين سيكون قريبًا من الواقع؟

لعل دروس تاريخ المقاومات تعلّم أن القوّة العسكرية والجيوش النظامية مهما أوتيت من جبروت وقوّة وامكانات علمية وتكنولوجية واستخباراتية، فإنه ليس بامكاننا تحقيق النصر على الشعوب الحرّة المكافحة من أجل استقلالها وحريتها وحقها في تقرير مصيرها، ومثالنا الحرب الأمريكية على فيتنام (1962- 1975)، حيث اضطرت في نهايه المطاف إلى تجرّع طعم الهزيمة على الرغم مما ألحقته من خسائر بالفيتناميين.

صحيح ان الحرب غير متكافئة، حيث لا يمكن قياس التفوق العسكري "الإسرائيلي" بإمكانات المقاومة الفلسطينية عسكريًا، لكنها فشلت في القضاء على حماس، بل أن الأخيرة أعادت طرح القضية الفلسطينية كمحور للصراع في المنطقة، بل قضية عربية مركزية، ويعكس الاهتمام الإقليمي والدولي بها شعوبًا وحكومات، ناهيك عن الرأي العام العالمي، بأنه لا بدّ من حلّ عادل ومقبول، يؤدي إلى إنهاء الاحتلال إن آجلًا أم عاجلًا.

ويعود الفضل في كشف الوجه العنصري "لإسرائيل"، بكل سفور ودون براقع أو تزيين، إلى المقاومة، لدرجة أن نفورًا حصل في الرأي العام اليهودي داخل الولايات المتحدة، والذي كان باستمرار مؤيدًا "لإسرائيل"، وإذا بأعداد كبيرة من الشباب، أخذت تطالب بوقف الحرب، وتحمّل إستمرارها "لإسرائيل"، وتلك من الظواهر الجديدة التي أفرزها العدوان على غزّة، والبشاعة التي استخدمت فيها.

إن عملية طوفان الأقصى، وردّ الفعل "الإسرائيلي"، إنما هي صفحة جديدة ومهمة في صراع الإرادات والعقول، حيث تكون المطاولة فيها متنوّعة ثقافيًا وقانونيًا وديبلوماسيًا وسياسيًا وإعلاميًا واقتصاديًا وعسكريًا ونفسيًا، حيث لا تنتهي المعركة بجولة واحدة، لأنها طويلة الأمد، ولكن النتيجة لن تكون إلّا لصالح الشعوب مهما طال أمد الصراع.

***

د. عبد الحسين شعبان

أكاديمي ومفكر عربي من العراق

 

ظلت روايات الجاسوسية منذ بداياتها فنا ينتمي إلى أدب المغامرات في الدراما العربية والسينما العالمية حتى بدأت الصراعات الدموية والنزاعات المسلحة تفرض أحداثها المأسوية وجودها على خيالات رجال الفن السابع من خلال سيناريوهات جرى إعدادها من واقع الأحداث التي وثقتها تقارير الاستخبارات.

يجمع العديد من النقاد وأصحاب الأقلام الفنية على أن صورة اليهودي في الدراما التلفزيونية والسينمائية في مصر كانت إيجابية قبل بدأ الصراع العربي الصهيوني، حيث ظلت معظم الأفلام تصف اليهودي بالمرابي والبخيل بشكل كوميدي فقط وليس بنظرة عدوانية، والمفارقة ان معظمها كان من إخراج توجو مزراحي المخرج اليهودي الشهير، ويدلنا تاريخ السينما المصرية إلى تحولات مهمة لحقت بشخصية اليهودي فيها وفقا لطبيعة تطورات الصراع العربي الإسرائيلي، ففي المرحلة الأولى أي تلك التي لم تكن مسألة العداء للصهيونية قد ظهرت فيها بوضوح، ظهر اليهودي إنسانا عاديا دون توصيفه بصفات سلبية وعرضت السينما أفلام أبطالها من اليهود مثل " شالوم الرياضي" وهو شخصية طيبة تساعد فريق رياضي كروي على كسب فرق أخرى أجنبية، وكذلك فيلم " شالوم الترجمان" وسلسلة أخرى بطلها شالوم ظهرت فيها شخصية اليهودي دون سلبيات، كما عكست بعض الأفلام الحديثة نسبيا مثل" فاطمة وماريكا وراشيل" و " حسن ومرقص وكوهين " حالة التعايش السلمي التي كان يحياها اليهود داخل المجتمع المصري باعتبارهم جزء من نسيجه.

ولكن بدأت الصورة السلبية بالظهور في أعقاب حرب 1948 وقيام الدولة الصهيونية، وسرعان ما تنامت بعد ذلك بعد حرب أكتوبر 1973 ويمكن اعتبار فيلم " الصعود إلى الهاوية عام 1978أحد الأفلام المهمة في صراع الدراما الاستخباراتية وهو يتحدث عن جاسوسة خطيرة عملت لصالح الكيان المحتل في الخارج وتم الإيقاع بها من خلال ضابط مخابرات مصري، ثم توالت المسلسلات التي ترسم ملامح أخرى لشخصية العدو وطرق محاربة سلوكه العدائي مثل " دموع في عيون وقحة" ثم " رأفت الهجان" و"السقوط في بئر سبع" و" الثعلب" و"الحفار" و"حرب الجواسيس " بالإضافة إلى أفلام الجاسوسية مثل" مهمة في تل أبيب" و" إعدام ميت" وكلها من وقائع مأخوذة من ملفات المخابرات العامة المصرية يعتبر الكاتب ماهر عبد الحميد صاحب أول عمل روائي يستند إلى وقائع من ملفات المخابرات في عمله الأدبي الموسوم " قصتي مع الجاسوس" المنشور في عام 1968 وكان آخر السلسلة من كتّاب قصص المخابرات هو الكاتب الدكتور نبيل فاروق صاحب سلسلة الكتب البوليسية الشهيرة " رجل المستحيل " وظلت المخابرات العامة هي التي تنشر الأعمال الأدبية إلى أن تبينت فيما بعد خطورة هذا العمل بعد اكتشاف أن هناك من قام بتحليلها لاستنباط أشياء معينة من بين السطور، وظهر بعد ذلك كتّاب آخرون استندوا إلى قصص حقيقية، ثم كان ظهور الكاتب صالح مرسي أشهر من كتب قصص المخابرات وأجاد حبكتها ليمثل انقلابا حقيقيا في هذا النوع من الروايات، ويجمع النقاد على أنه نجح في جعل الجاسوس في رواياته شخص له مشاعر وأحاسيس .

كان آخر حلقة من حلقات سلسلة الصراع الدرامي المخابراتي هو مسلسل " فارس بلا جواد " بطولة الفنان القدير محمد صبحي المأخوذ عن مذكرات الصحفي والمؤلف الراحل حافظ نجيب الذي تمتع بحس المغامرة واشتهر بقدرته العالية في التنكر والاحتيال وانتحال الشخصيات، ترك هذا المسلسل أثرا مزعجا في أوساط المنظمات الصهيونية حيث نقلت الصحافة الأجنبية تقارير عديدة عن هذه المنظمات عكست فزعها الشديد من تعرض المسلسل لكشف أو فضح بروتوكولات حكماء صهيون وبلغ الفزع حد المطالبة بتدخل وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت كولن باول وحثه على ممارسة الضغط على الحكومة المصرية لوقف عرضه إذ اعتبرت عرض المسلسل مظهرا من مظاهر التحريض على معاداة السامية، وتمكنت فعلا المنظمات الصهيونية من الحصول على قرار بالإجماع من الكونجرس الأمريكي بإدانة المسلسل .

لقد كسبت دراما المخابرات معارك الوعي، وساهمت في مهمة تنمية الشعور الوطني في مواجهة ضلال المعتقدات وزيف المبادئ التي تتعلق بالأرض والهوية والانتماء، واستطاعت دراما المخابرات المصرية تقديم محتوى قادر على تفعيل الدور التثقيفي لخدمة تعميق الوعي الوطني، وكذلك في بعث رسائل ضمنية ذات مغزى ومعنى موجهة للجهات الخارجية .

تميزت المعالجة الدرامية لأحداث أمنية خفية وقعت بالفعل بقدر كبير من الجاذبية الخاصة التي حققت التفرد باهتمام الجمهور لما تمتعت به من أهمية وحرفية عالية، ونجحت في فضح خيانات ترتكب باسم حقوق الانسان عبر منظمات تلتحف بستار المجتمع المدني، وفي إزاحة الستار عن زيف الإعلام المضاد وكشف حملات الترويج للمخططات الهدّامة والمؤامرات. أصبحت دراما المخابرات بمثابة سيرة ذاتية لأبطال حقيقيين كان لهم تأثير قوي في جهود ضمان الأمن والسلامة لأوطانهم وحملت أعمالهم الكثير من الإسقاطات على الحاضر، وهكذا يعمل الانتاج الدرامي في مصر على إعادة كتابة التاريخ وتصحيح من علق به من مغالطات وتشوهات .

***

صبحة بغورة

أخشى – ما أخشاه - أن يستيقظ العالم بعد فوات الأوان فيجد أهل غزّة، إمّا في القبور أو في الشتات أو في العراء أو جرحى في انتظار الموت السريع أو البطيء. وما جدوى البكاء والتنديد والاستنكار وصراخ الجماهير في الشوارع بعد إتمام فصول المذبحة في غزّة؟ إنّ البكاء على غزة بدعة العاجزين. فإنّ دماء الغزّاويين ودموعهم ستجرف عروش الخائنين والصامتين والمدبرين والمطبّعين والمستسلمين وأشباههم كلّهم.

ماذا جنى أطفال غزّة وصبيانها ونساءها وشيوخها حتى تسلّط عليهم الصهيونيّة والغرب معا كلّ هذه الألوان من العذاب المادي والمعنوي؟ لماذا عجز الضمير الإنسانيّ عن وقف الآلة الحربيّة الصهيونيّة عن ارتكاب هذا الكمّ الفظيع من الجرائم في غزّة؟ ماذا ينتظر العالم (الحرّ، المتحضّر) كي يوقف الجنون الصهيوني الأرعن، لم يشهد العالم مثيلا له في هذا العصر الحريص على حقوق الإنسان والحيوان؟ هل فقد العالم (الافلاطوني، الديمقراطي) البصر والبصيرة والسمع والفؤاد والحياء أمام مشاهد الدمار والإبادة؟ أم أنّ أهل غزّة والضفة كائنات خارج المنظومة البشريّة؟

إذا لم تُصنّف جرائم الصهاينة في غزّة في خانة الإبادة الجماعيّة والسلوك الهولوكوستي الشنيع، ففي أيّ خانة تُصنّف؟ الإبادة الممنهجة متواصلة على قدم وساق. والضحايا من كلّ مكوّنات المجتمع الفلسطيني يرتقون في كلّ دقيقة إلى ربّهم، والعالم مازال يمارس طقوس اللامبالاة والتجاهل والتماطل ولسياسة العمياء والتغاضي. إنّهم يمنحون مزيدا من الوقت للكيان الصهيوني من أجل رفع فاتورة الانتقام، ومزيدا من القبور لأطفال غزّة ونسائها وساكنتها عامة. لقد فهم الأحرار، لماذا فقدت أمريكا وأعوانها وأذنابها العقل والضمير الإنساني؟ إنّهم، جميعا، يريدون أن يحوّلوا غزة إلى مقبرة جماعيّة، تكون شاهدا على قوّة الغرب حين يغضب، ودرسا قاسيّا للشرق حين يتجرّأ على معاداة الغرب. وللأسف مازال القتلة للفلسطينيين في غزّة والضفة والقدس وفي المنافي وفي مخيّمات اللجوء، يسخرون من العالم، ويخاطبون العالم بلغة عاريّة من الحقيقة، متخمة بالكذب والادّعاء. يصفون جيشهم البربري بأنّه جيش دفاع وهو يهاجم الأبرياء، وأنّه جيش أخلاقيّ، ويعدم الأبرياء معصوبي الأعين، وقيّدي الأيدي وراء ظهورهم، يهدم آلاف الأطنان من الأسمنت على رؤوس الأطفال والنساء زاعما أنّه يحارب الإرهاب. وهل أصيب الساسة الغربيّون الداعمون بالعمى والصمم والبكم أمام تلك المشاهد المروّعة التي فاقت فظاعتها الخيال وتعدّت الجنون؟

إنّه لأمر يُحيّر الألباب، ويُشيِّب الولدان، أن يرتكب الصهاينة هذا الكمّ الفظيع من جرائم الإبادة الجماعيّة في غزّة، والأمم التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان لا تحرّك ساكنا، وكأنّ الذين يُقتلون بالأسلحة الغربيّة في غزّة ليسوا من سلالة البشر. هل اقتنع الساسة الغربيّون أن الكيان الصهيوني لا يقاتل في غزّة بشرا، بل حيوانات ووحوشا كما قال وزير دفاع العدو الصهيوني. إنّهم يمارسون الحرب من أجل الحرب، او كما قال توماس دو كوانسي: " الحرب صارت من الفنون الجميلة ". والصواب، أنّها صارت من الفنون القذرة. إنّ جيش الاحتلال الصهيوني الذي اقتحم غزّة بعد السابع أكتوبر، لم تكن مهمّته تحرير الرهائن لدى الفصائل الفلسطينيّة، بل كانت مهمّته القتل والتخريب،" ما أشبهه بذلك الضابط الذي يتحدّث عنه روبير ميرل في روايته " مهنتي هي القتل "، وهي شبيهة بفكرة شانغارينيي، لأنها تكشف عن الرغبة المسيطرة على نفوس العسكريين، وهي نيل المجد، وإخضاع البلاد. إنّها الحرب، أو التغنّي الرومنسي بالتقتيل " (1)

و قد كتب القبطان كلير: " إنّ الحرب التي نقوم بها اليوم في الجزائر حرب استثنائية.. فلا تُتّبع فيها القواعد المقررة في الحروب الكبرى والصغرى، والانضباط بين الجنود قليل، والتكوين العسكري يكاد يكون مفقودا، وكل ضابط يتصرّف كما يريد.. " (2)

لقد اقتحم مشاة الموت والطوابير الجهنّميّة لصهيونيّة غزّة من أجل ممارسة حرفة القتل والإبادة الجماعيّة المعتادة، منذ النكبة الأولى.

الزائر أو العائد اليوم إلى غزّة من معبر رفح، أو أيّ زاوية أخرى، سيكتشف عالما آخر من الخراب والدمار. لم تنج من آليات العدو الجارفة، ودبّاباته البيوت والمحلاّت والطرقات والأشجار. منظر يفوق منظر المدن الساحلية التي ضربها التسونامي ذات يوم. مشهد دراميّ يفوق ما آلت إليه هيروشيما ونكازاكي إثر إلقاء القنبلتين النوويتين عليهما في الحرب العالمية الثانية. يتساءل الشاهد والألم يعصر قلبه: هل، حقّا، مرّ من هنا بشر؟ هل يمكن يصدّق المرء العاقل مقولة، من هنا مرّ جيش الدفاع الصهيوني، بل عصابات جيش الهجوم الصهيوني؟ لا، يمكن أن نصدّق أنّ بشرا مرّوا عبر شوارع مدن وقرى غزّة. بشرا لهم عيون وقلوب ومشاعر وعقول. إنّ الشاهد، ليتعجّب، كيف يصدر هذا السلوك الهمجي التتاري من آدميّ يدّعي الانتماء إلى العرق السامي زورا وبهتانا؟

لقد وصف المؤرخ روسي العمل الإجرامي الذي أقدم عليه الكولونيل بيليسيي سنة 1845 م في منطقة الظهرة بغرب الجزائر حين أحرق عرش أولاد رياح في إحدى المغارات التي فرّوا إليها ولجأوا فيها قائلا: " كان الحريق قد وصل إلى أمتعة اللاجئين. وفي الليل خُيّل للجنود أنّهم يسمعون ضجة لا تكاد تبين، وصيحات خافتة، ثم ساد صمت عميق. وفي وقت مبكر من الصباح استطاع بعض الرجال أن يخرجوا من المغارات فسقطوا مخنوقي الأنفاس أمام الحرس، وكان الدخان الذي انتشر في المغارات كثيفا مؤذيا إلى حدّ أنّ الجنود لم يتمكنوا في بداية الأمر من الدخول. على أنّنا كنّا بين الحين والآخر نرى مخلوقات بشريّة مشوّهة تخرج من المغارات زحفا على البطون، فيحاول آخرون ممن بقي متمسّكا بمبادئه إلى آخر رمق أن يمنعوهم من الخروج. وحينما تمكنّا في آخر الأمر من زيارة ذلك الجحيم بعد أن خمدت فيه النيران، عددنا أكثر من خمسمائة من الضحايا، ما بين رجال ونساء وأطفال. وقد أصيب جميع الحاضرين بوجوم شديد لهول الفاجعة " والحقيقة أنّ قوله " أكثر من خمسمائة من الضحايا " يعني ما يزيد على الألف. (3)

أمّا المسلمون؛ بعربهم وعجمهم، بجامعتهم الأعرابيّة ومنظمتهم الإسلامويّة، فينطبق عليهم المثل العربي السائر: أحشفا وسوء كيلة. فقد اجتمت فيهم خصلتين؛ الصمت والعجز. لقد خذلوا أهل فلسطين في غزّة ولم ينصروهم، واعتقدوا أنّ القضية قضيّة خبز وطحين وكفن لدفن الشهداء. ونسوا أنّ غزّة والأقصى وفلسطين كلّها ثارت من أجل الحريّة والعزّة والكرامة. لقد خدع المسلمون فلسطين منذ النكبة الأولى 1948 م، وادّعوا أنهم منتصرون لها ومدافعون عنها ومجنّدون للشهادة أو النصر من أجلها. اجتمعت ألسنتهم وتفرّقت قلوبهم، بينا الكيان الصهيوني يتباكى بكاء التماسيح إلى أن استعطف الغرب واستماله وانتفع من مساعداته.

و انخدع الفلسطينيّون، وظنّوا أنّ أبناء العمومة وإخوان العقيدة، سيعيدون لهم أرضهم المغتصبة. ونسيّ الفلسطينيّون أنّ الحريّة لا تؤخذ بالوكالة، وأنّ الثورات التحرّرية قادتها ومجاهدوها وشهداؤها أبناء الوطن. وليتهم استلهموا ذلك من ثورة نوفمبر الجزائريّة، وكفاح جنوب إفريقيا والثورات التحرريّة في إفريقا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة. لقد صدّق الفلسطينيّون أبناء العمومة وإخوان الملّة، بينا الكيان الصهيوني يكبر يوما بعد يوم، ويُعدّ العدّة والعدد في السرّ والعلن. إلى أن أمسى غولا يهابه أبناء العمومة، ويسعون للتطبيع معه سياسيا وثقافيّا واقتصاديّا وعسكريّا. إنّها الطامة الكبرى أيّها السادة.

لقد مارست ألمانيا الإبادة الجماعية في ناميبيا من عام 1904 إلى عام 1908، ومارست فرنسا الاستعمارية الإبادة الجماعيّة من 1830 إلى 1962 م، ومارس المهاجرون الأروبيّون الإبادة الجماعيّة في العالم الجديد) القارة الأمريكيّة، جنوبها وشمالها) وفي أستراليا، ومارس قبلهم النصارى القشتالبيّن بقيادة إيزابيلا وفرديناند الإبادة الجماعية بُعيد سقوط الأندلس ومارست إيطاليا الإبادة الجماعيّة في ليبيا،ى ومارست الولايات المتحدة الأمريكيّة، التي تعتقل تمثال الحريّة الإبادة الجماعيّة في هيروشيما ونكازاكي وفي الفيتنام والعراق وأفغانستان ومارس الصرب العنصريّون الإبادة الجماعيّة في سيبرينيتشا البوسنيّة. إذن، الإبادة الجماعيّة فلسفة غربيّة استعماريّة ممنهجة ومقصودة، هدفها القضاء على الآخر قضاء مبرما. والصهاينة هم تلاميذ الغرب، وهم خريجو المدرسة الغربيّة الاستعماريّة الإرهابيّة. إنّ ظاهرة الإرهاب، التي أرّقت العالم، وبثّت الرعب في الشعوب، وشغلت المنابر السياسيّة، هي صناعة غربيّة مخابراتيّة خالصة، سواء بأيد غربيّة خالصة، أو بأيدي مرتزقة وعملاء من الشرق والغرب. هدفها السيطرة على مقدّرات الشعوب المستضعفة. ظاهرة الإرهاب نابعة من فلسفة غربيّة استعماريّة، آلياتها قائمة على إلغاء الآخر والسيطرة عليه. أصولها لاهوتيّة ثيوقراطيّة ÷دفها الأساسي محاربة الإسلام وكل ما هو مظهره دينيّ. لا عجب، ونحن نشاهد يوميّا إبادة جماعيّة ممنهجة في قطاع غزة والضفة وكامل فلسطين تقودها عصابات إرهابيّة صهيونيّة لا تمتّ لليهوديّة والإبراهميّة بصلة، بل هي خطر داهم على اليهود الذين لم ينخرطوا في التيار الصهيوني، ويبدون للعلم، علنا، معارضتهم للإيديولوجيّة الصهيونيّة القائمة على القتل الفردي والجماعي، بقيادة رهط من الصهاينة في فلسطين والغرب عموما. لنكن، واضحين وعادلين، وموضوعيين ونسال الغرب المتصهين – ونحن نتوقع نوع الإجابة سلفا: من هو الإرهابي الحقيقي؟ هل الذي يدافع عن أرضه وعرضه وماله ومقدّساته وحريّته إرهابيّ، أم المغتصب الظالم، القادم من الشتات، المقتحم لبيوت الامنين؟ إنّ الإجابة واضحة، لا لبس فيها. والعجيب في هذا العالم المكشوف العورة، أن نسمع زعماء الإرهاب الصهاينة في فلسطين المحتلة وفي الغرب، يزعمون بأنّ حربهم على أطفال غزّة ورضّعها وخدّجها ونسائها ومرضاها، هي حرب على الإرهاب. هكذا انقلبت موازين القيّم الإنسانيّة في الغرب المتصهين، وهو انقلاب قديم. فقد قامت الثورة الفرنسيّة بإسقاط الملكيّة والاستبداد في النصف الثاني من القرن السابع عشر، ورفعت شعارها المزيّف (الحريّة، الأخوة، المساواة) و، وفي النصف الأول من القرن الثامن عشر، كانت سفنها الحربيّة تنزل الغزاة على شاطيء سيدي فرج غرب الجزائر العاصمة. وأعدمت، بل وأبادت فرنسا الاستعماريّة أكثر من خمسة ملايين جزائري. لقد خاضت فرنسا الاستعماريّة حربا صليبيّة في ربوع الجزائر من أجل القضاء على الإسلام واللغة العربيّة والسيطرة على الثروات ونهبها. وهذا بشهادة عساكرها وضباطها المجرمين. كتب الكولونيل فوري في سنة 1843 م عن غزو الجزائر: " انطلقت من مليانة وشرشال سبعة طوابير بهدف التخريب واختطاف أكبر عدد ممكن من قطعان الغنم، وعلى الأخص اختطاف النساء والأطفال، لأنّ الوالي العام (وهو بيجو) كان يريد بإرسالهم إلى فرنسا، أن يلقي الفزع في قلوب السكان " (4) وأضاف: " اختطفنا في هذه الحملة ثلاثة آلاف من رؤوس الغنم، وأشعلنا النار في ما يزيد على عشرة من القرى الكبرى، وقطعنا أو أحرقنا أكثر من عشرة آلاف من أشجار الزيتون والتين وغيرها " (5). أمّا أبناء الجزائر، المقاومون، الشجعان، الأحرار، فقد استشهدوا وسالت دماءهم الطاهرة فداء للحريّة والكرامة. استعملت فرنسا وسائل الإرهاب كلّها من أجل إخضاع الأمّة الجزائريّة لإرادتها، استعملت أساليب الإبادة الجماعيّة (تدمير القرى والمداشر والدواوير) وتفقير الشعب وتجويعه، والتعذيب والنفي والإعدام بالمقصلة وبالرصاص والحصار بالاسلاك الشائكة المكهربة (خطا شال وموريس) واستعملت أفرادا جزائريين في تجاربها النوويّة بالصحراء (منطقة عين إن إيكر ووادي الناموس) وأقامت المحتشدات. كان الإرهاب الفرنسي فظيعا لا يقل فظاعة عمّا يقوم به الصهاينة في غزّة اليوم. وارتكبت الفاشية الموسولينيّة الإيطاليّة أفظع جرائم الإبادة الجماعيّة في ليبيا في النصف الأول من القرن العشرين.

إنّه لمن المؤسف – حقّا – أن تتصدّر الولايات المتحدة الأمريكيّة الدول الكبرى الداعمة للإبادة الجماعيّة في غزّة – وهي جريمة إرهابيّة شنيعة -. أليست هي الدولة التي ينتصب على أرضها تمثال الحريّة وتضم مكاتب الهيئات الدوليّة المعتمدة؛ مجلس الأمن والجمعية العموميّة للأمم المتحدة وغيرها؟ أليس من التناقض العجيب أن تستغّل الولايات المتحدة الأمريكيّة حق الفيتو لمنع وقف إطلاق النار وتعطيل السلام في الشرق الأوسط؟

***

بقلم: علي فضيل العربي – ناقد وروائي جزائري

...............................

هامش: 1، 2، 3، 4، 5 – مصطفى الأشرف – الجزائر الأمّة والمجتمع – ترجمة د. حنفي بن عيسى – المؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر – 1983.

 

في أعقاب نتائج قمة الاتحاد الأوروبي التي عقدت في الأول من فبراير في بروكسل، تم اعتماد برنامج مدته أربع سنوات لمساعدة أوكرانيا في الميزانية بقيمة 50 مليار يورو، وقرر زعماء 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، أنه بحلول عام 2027 ستحصل كييف على قروض بقيمة 33 مليار يورو، وقال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل إنه سيتم إرسال 17 مليار يورو أخرى إلى أوكرانيا مجانا، وقال رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كروس، إن الأموال مخصصة لتسليح القوات المسلحة الأوكرانية، وكذلك دفع رواتب موظفي الدولة الأوكرانية، وكانت المؤامرة الرئيسية تدور حول مصادر التمويل.

وشكك الكثيرون في إصرار المفوضية الأوروبية على تنفيذ قرار تخصيص 50 مليار يورو لكييف، ومع ذلك، كانت هناك شكوك حول الاتفاق على المبلغ وحول مصادر التمويل لهذا البند، الذي كان بمثابة نفقات كبيرة حتى بمعايير أوروبا الغربية بالنسبة لدولة ليست حتى عضوا في الاتحاد الأوروبي، وكانت مكيدة أخرى مرتبطة بسلوك المجر، التي نجحت في السابق في منع هدر الأموال من وعاء الاتحاد الأوروبي المشترك للمغامرة الأوكرانية، وطالب بمراجعة الإنفاق ليس فقط على الأموال المخصصة لكييف، ولكن أيضًا على الإمدادات العسكرية.

ورأى عدد من البيروقراطيين الأوروبيين أن "يد الكرملين" تقف وراء هذا الموقف الرسمي لبودابست، إلا أن الساسة المجريين ألمحوا في البداية بكل شفافية، ثم بدأوا يتحدثون بشكل مباشر عن الوضع غير الطبيعي حين تنتقم المفوضية الأوروبية من دولة ذات سيادة في الاتحاد الأوروبي لاحترامها المصالح الوطنية، وتم اختيار التمويل كسلاح للانتقام - حيث تم منع Frau von der Leyen من تخصيص الأموال المستحقة للمجر تحت ذريعة بعيدة المنال، في الوقت نفسه، كان العمل جاريًا على ضخ أموال الاتحاد الأوروبي إلى أوكرانيا، حيث تم رسملتها على الفور من قبل ممثلي نظام زيلينسكي الفاسد تمامًا.

كما حاولت المفوضية الأوروبية حرمان الدول الأعضاء من حق النقض، فقامت السيدة أورسولا بعمل كبير في هذا الاتجاه، لكنها لم تكمل المهمة، لذلك، تم اتخاذ إجراءات دبلوماسية صارمة، والتي كانت كافية في صباح الأول من فبراير لكي يقوم أوربان بكل شيء بشكل صحيح من وجهة نظر المفوضية الأوروبي، ففي عشية القمة، في 29 يناير/كانون الثاني، صرح منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل: "الحرب مستمرة، والقتال يتصاعد، ونحن لا نرى الضوء في نهاية النفق الأوكراني”، ومن خلال فهمه جيدًا للفرق بين الحرب والعملية العسكرية الخاصة، يستخدم رئيس الدبلوماسية الأوروبية هذا المصطلح عمدًا، مدركًا أنه لم يعلن أحد الحرب على أحد.

وللتذكير ففي بداية المنطقة العسكرية الشمالية، دعا المتشدد الكاتالوني إلى هزيمة روسيا "في ساحة المعركة"، وقبل ذلك أقنع الجميع بأنه لا يوجد بديل للتسوية الدبلوماسية للصراع، والآن يدعو بوريل نفسه، الذي يشير إلى عدم جدوى "النفق الأوكراني"، إلى ضخ عشرات المليارات الجديدة في ظلام الفساد هذا، ومن الطبيعي أن يطرح السؤال حول مشاركة واشنطن المالية في تمويل «النفق الأوكراني»، ومع ذلك، اختار مقيمو بروكسل عدم تذكر الجاني الرئيسي في أحداث كييف عام 2014، والتي أصبحت مقدمة للحرب الأهلية في أوكرانيا والمنطقة العسكرية الشمالية، وفي المقابل، لم يسعى ممثلو المؤسسات الإعلامية التي تسيطر عليها الحكومة إلى طرح أسئلة غير مريحة.

وناقش المشاركون في قمة الاتحاد الأوروبي مشكلة مصادر التمويل لنظام زيلينسكي، وتقليديا، كان أفقر الأعضاء هم الأكثر تطرفا، فقد أصر ممثلو دول البلطيق على نقل الأصول المسروقة من روسيا إلى نظام كييف، في الوقت الحالي، يعتبرون "مجمدين"، أي تم نقلهم قسراً ووضعهم تحت تصرف الاتحاد الأوروبي، ولم تقرر البيروقراطية الأوروبية أبدًا إضفاء الطابع الرسمي على الممتلكات المسروقة فعليًا لروسيا ومواطنيها، وفي الوقت نفسه، تمت الموافقة على تمويل نظام زيلينسكي الإجرامي باستخدام عائدات البضائع المسروقة - وهذا هو الآن مستوى الثقافة القانونية للمسؤولين الأوروبيين وموظفي إنفاذ القانون، وقد أثر بالفعل على مناخ الاستثمار في الاتحاد الأوروبي.

لقد خيم النفاق والأكاذيب على القمة حتى قبل أن تبدأ، وليس من المستغرب أن يشير ممثلو 27 دولة عضو في البيان الختامي إلى كييف بالمساعدات التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، وذلك بالتزامن مع الالتزام بالمبادئ الديمقراطية سيئة السمعة، ويدرك الاتحاد الأوروبي تمام الإدراك الحظر المفروض على الأحزاب السياسية التي لا يروق لها النازيون الجدد في أوكرانيا، و"تطهير" وسائل الإعلام، والاعتقالات الجماعية للمنشقين الأوكرانيين، وإن المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي و"المؤسسات" الأخرى على علم تام بالاتجار بالبشر من خلال ما يسمى بـ "التبادلات"، حيث تتم الاعتقالات ويتم تجديد صندوق التبادل بالرهائن – مختلف Sidentami والمشبوهة بكل بساطة، ولا يتم حتى التحقيق في عمليات الاختطاف والقتل ذات الدوافع السياسية في أوكرانيا، ولا حديث فقط عن "أوديسا خاتين".

ودعا المشاركون في اجتماع بروكسل مرة أخرى إلى توفير مليون قذيفة للمدافعين عن نظام زيلينسكي الإجرامي، وفي العام الماضي لم يتصلوا، لكنهم وعدوا بتوفير نفس الكمية بالضبط، ولم يرد أحد على الفشل الذريع، وأشار زيلينسكي إلى ذلك في رسالة فيديو خاصة إلى المقيمين في بروكسل، واتخذ مجلس الاتحاد الأوروبي قرارًا اعتبر بمثابة صفعة على وجه المزارعين وناقلي البضائع وممثلي المهن الأخرى الذين انضموا إليهم في أوروبا الغربية، حيث تشهد بلجيكا أيضًا احتجاجات، وعُقدت في عاصمتها قمة ذات أجندة سريالية.

ولا عجب - في هذا البلد الصغير العام الماضي، وفقًا للبيانات الرسمية، واجه أكثر من 7300 موظف من 83 شركة خطر تسريح العمال وتخفيضات العمال (أكثر بكثير مما كان عليه في عام 2022)، ووقعت الضربة الرئيسية على فلاندرز وخاصة في مقاطعة أنتويرب، حيث تم تسريح 1537 عاملاً، وتتعرض أكثر من 1572 وظيفة للخطر في صناعة البتروكيماويات، يليها التوزيع والمنسوجات وتصنيع الأغذية وغيرها من الصناعات، وليس من قبيل الصدفة أن تنشر صحيفة بروكسل تايمز منشورًا عن القمة في مجموعة عامة حول الاحتجاجات الجماهيرية للمزارعين على الجرارات...

وقد أوضح المضربون في معظم الدول الأوروبية شكاواهم ضد التمييز. إن التسليم التفضيلي للحبوب الأوكرانية وغيرها من المنتجات الزراعية من هذا البلد، فضلاً عن الفوائد التي تعود على ناقلات البضائع الأوكرانية التي تطرحها في سوق الاتحاد الأوروبي، ليست سوى جزء من أسباب السخط، ومع ذلك، فإن هذا جزء مهم للغاية، والذي يشير بشكل لا لبس فيه إلى مذنب السخافة السياسية التي نظمتها "لجنة منطقة" بروكسل لإرضاء "اللجنة الإقليمية" في واشنطن، وتستعد المعارضة في الاتحاد الأوروبي، من اليمين واليسار، لتناوب النخب، وان أحد أسباب انتقاد الحكومات الوطنية وبروكسل هو "القضية الأوكرانية"، فعلى سبيل المثال، أثار زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، لارس كلينغبيل، بشكل مباشر مسألة الحاجة إلى مراجعة سياسة الهجرة، مع التركيز على المهاجرين من أوكرانيا.

ولا يقتصر الامر على بلجيكا، فوسائل الإعلام الأوروبية تقوم بتغطية القمة "الأوكرانية" في الأول من فبراير/شباط في سياق الاحتجاجات الجماهيرية، التي يقدم المشاركون فيها حساب هامبورغ إلى البيروقراطية الأوروبية والحكومات الوطنية، ومع ذلك، فإن كييف متوترة من أجل الابتهاج، و يتجاهلون بشدة حقيقة أن تمويل "النفق الأوكراني" قد انخفض، ففي نهاية المطاف، تبلغ قيمة 50 مليار يورو على مدى 48 شهراً في إطار برنامج التمويل الحالي حوالي 1.02 مليار يورو شهرياً، وللمقارنة، ففي عام 2023، بلغ إنفاق الاتحاد الأوروبي على "المساعدة لأوكرانيا" 18 مليار يورو، أي 1.5 مليار يورو شهريًا، بالإضافة إلى ذلك، ليس كل شيء يسير بسلاسة فيما يتعلق بمصادر التمويل، ومن المؤكد أن بعض الأموال المعتمدة ستبقى في الاتحاد الأوروبي، وسوف ينمو الدين الوطني الأوكراني، لكن زيلينسكي لن يسدده، وبالتأكيد لن يسدده بوريل.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

مع استمرار الوضع السياسي المتهرئ في البلاد على حاله، والصراع وجها لوجه بين الخصوم، شيعي سني، مقابل الكرد، البارتي والوطني، لا زال شديدا، على الرغم من مرور ثلاثة أسابيع على انتخابات المجالس المحلية للمحافظات. لا زالت "عساكر الانقسام" السياسي الطائفي، في ظرف خطير للغاية، لم تفكر، ليس من باب المصلحة الوطنية العامة، إنما مصلحتها الخاصة على أقل تقدير، عدم ملء الخنادق أكثر من ذلك. والواضح أنها لم تدرك للحظة خطورة تجديف نتائج الانتخابات لنفسها فيما يتعلق بانتخاب رئاسة المجلس التشريعي بطريقة تتنافى مع الدستور والقانون. ولم تستوعب أن حقيقة النتائج تلك، ليست سوى أغلبية ضئيلة ولا شيء أكثر من ذلك. إذ إن حجم أصوات الناخبين التي حصل عليها أي حزب من الأحزاب المشاركة في الانتخابات، بمفرده، لن يتخطى عقبة 0:01 %. النتيجة، هل هذه نهاية الصراع على السلطة؟ بالتأكيد لا. إذ إنهم سيحاولون إبقاء النزاعات منبطحة تحت الغطاء حتى انتخابات 2025 الاتحادية، يسوقون نتائج المحلية على أنها عاصفة رعدية للتطهير السياسي وتأكيد الحضور.

وعلى الرغم من مرور عقدين على تغيير النظام، فالعراق لا زال يعاني العديد من المشاكل المذهبية والعقائدية والقانونية، التي تهدد طبيعة تنوع المجتمع العراقي والحريات العامة. أيضا من سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والسياسية وانتهاك القيم الإنسانية وحرمة القانون وحرية الرأي والتعبير. وفي الآونة الأخيرة ازدادت وتيرة ملاحقة الفائزين بالانتخابات وتهديدهم بالوعيد وسياسة الترغيب وغسل الأدمغة، لوأد طموح الناخبين في أكثر من ثماني محافظات في وسط وجنوب العراق، ثم امتدت رقعتها لتشمل المحافظات الغربية.

ولا زالت أحزاب السلطة الطائفية والاثنية "الشيعية والسنية والكردية"، التي وصلت إلى دفة الحكم في غفلة سياسية واجتماعية وفكرية، وبدعم من المحتل الأمريكي، تستنزف موارد العراق وتلعب بمقدراته دون رقيب أو حسيب، مما أدى إلى إنتاج طبقة سياسية فاشلة، تستأثر بالامتيازات السلطوية وحماية الفاسدين. وعانت الطبقة الوسطى المهمة في بناء الدولة العراقية منذ نشوئها من التآكل بشكل مقلق، فبعد أن كانت لحد عام 2007، تمثل 61 في المائة، انخفضت باستمرار إلى 30 في المائة من السكان. في الوقت نفسه، تضاعفت نسبة الطبقة السفلى "الفقراء" ثلاث مرات تقريبا من 23 بالمائة إلى 60 بالمائة. كما حلت بين عامي 2007 و 2020 طبقة جديدة من "الأثرياء الفاسدين" محل الطبقة العليا القديمة "الأغنياء" المشهود لها بالوطنية وإعمار العراق، وتقلصت من 16 في المائة من السكان إلى 10 في المائة. وتحت ذريعة الديمقراطية، تماهت الأحزاب التقليدية الليبرالية واليسارية في مغازلة أحزاب الإسلام السياسي والتيارات القومية الشوفينية داخل ما يسمى بالعملية السياسية، مما أحدث بشكل خطير للغاية خللا في موازين القوى.

ومنذ تشكيل "مجلس الحكم" سيء الصيت ولغاية اليوم، لم يتغير النسق الإجمالي في سلوكيات الطبقة السياسية. فالوزارات المتعاقبة تشكلها أحزاب وتكتلات عرقية وطائفية، تتناوب بالتوافق على إدارة شؤون العراق. يرافق ذلك خرابا ونهبا وتسويفا وكذب، وتحويل الوعي الاجتماعي إلى "عقيدة القوة" لبناء "الدولة العميقة" داخل الدولة ومؤسساتها بدل سلطة العدل والقانون وإسناد المهام لإدارة المحاكم أو القضاء. وفيما يؤكد الدستور على المبادئ الصارمة للسلطة القضائية والمحاكم لمتابعة الإجراءات القانونية، ومنها فرض العقوبات وملاحقة الفاسدين، مثلا، فإن رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي أتى من رحم الأحزاب الطائفية، على أنقاض وزارة مصطفى الكاظمي، بدل أن يفي بوعوده الرنانة للإصلاح وملاحقة الفاسدين والقتلة وحصر السلاح بيد الدولة، يذهب بعيدا لمجاملة أحزاب السلطة وقياداتها المتنفذة وكف اللسان عن فضح تجاوزاتها على الدولة ومؤسساتها، لتأمين كرسيه الذي بات غير آمن بأي حال من الأحوال.

وفي نهاية عام 2022، فاجأ مجلس النواب المجتمع العراقي بـ "قانون جرائم المعلوماتية". الذي ينص على عقوبات رادعة تصل إلى السجن مدى الحياة وغرامات تتراوح ما بين 16 ألفا إلى 32 ألف دولار، دون الإشارة للجرائم الأخلاقية وأساليب الاحتيال التي يتعرض لها أبناء المجتمع بشكل سافر. فضلا عن كونه قانونا غير متوازن يؤدي إلى تكميم الأفواه والحد من حرية التعبير والرأي والتضييق على حرية الصحافة كما يعرض الصحفيون للدخول في إشكالات قانونية. ومما يزيد الطين بلة أن التعريفات جاءت فضفاضة، لا تراعي تنوع المجتمع العراقي، فالقانون بشكله الحالي يضع مسمارا في نعش الصحافة وحرية إيصال المعلومة التي كفلها الدستور للرأي العام.

إن الأحداث الأخيرة، منذ اندلاع الحرب الهمجية في غزة، مرورا بالانتخابات المحلية ونتائجها التي أفرزت العديد من التناقضات السياسية واتساع الصراعات الخارجية لتصفية الحسابات على الساحة العراقية إلى جانب المناكفات الطائفية الداخلية، قوضت بالدرجة الأولى مصالح المجتمع العراقي وسيطرة الأحزاب الطائفية الماسكة بالسلطة أكثر. كما أدت مع الظواهر الملازمة للعمل السياسي للأحزاب: تغليب الاستحواذ على الغنائم على مصالح المجتمع والدولة معا. ذلك ما كان يتحقق ما لم تتمكن طبقة النخبة من السياسيين العراقيين في الأحزاب الشعبوية العقائدية من تسويق فكرة، شعور بالضعف والمظلومية، اللذان يخلقان ياسا وإحباطا دائمين بين الخصوم. والشعور بالضعف، يعطي الخصم الطائفي أو القومي صفات غير محدودة، تجعل ضحاياه قطع شطرنج، يحركها، دون أن يكون لديها قوة ولا تأثير على ما يجري حولها. ولا يمكن فهم هذه الأسباب، فهي غير منطقية، ولكنها، تبدو كأنها نتائج من روح الإيمان والعقيدة. مما يجعل القوى المتحكم فيها داخل المحيط المجتمعي، عادة خاسرة في هذه المعادلة، وجماعات الفكر الغيبي تنتصر دائما. فيصبح تبرير الشعور بالمظلومية المرتبط بنظرية الضعف، أمرا لا فائدة من مقاومته، والحديث عن الحدث "التغيير" السياسي، كأنه جزء من أسطورة.

***

عصام الياسري

تعد جوديث بتلر واحدة من أهم فلاسفة  اليهود في القرن الحادي والعشرين، الذين رفضوا العنف والاحتلال الصهيوني بمنتهي الجرأة، لذلك  أتًهمت بمعاداة السامية  نتيجة  لدعمها لحقوق الشعب الفلسطيني في عيش حياة كريمة مستقلة، ذلك لأنه يصعب تحقيق السلام في فلسطين بينما الفلسطينيون محرمون من الحقوق الإنسانية والسياسية.

لذلك لُقبت بالمثقفة اليهودية الأخيرة، التي ما زالت تدافع عن القضية الفلسطينية من  أجل تحقيق السلام ورغم رؤية بتلر أنه يُصعب تحقيق السلام في هذا العالم لكن  تسعي لتحقق المساواة وايقاف العنف ليحصل الشعب الفلسطيني على حرية تقرير مصيره...

دافعت بتلر دائما عن حقوق الأقليات حول العالم  وخاصة الشعب الفلسطيني، ورغم كونها يهودية وقد فقدت جزءا من عائلتها فى محرقة الهولوكوست إلا أنها ترفض السياسية الصهيونية التي لا تمت للأخلاق اليهودية بصلة. أنما يسعى الاحتلال إلى طمس الهوية الفلسطينية  لذلك يسعي لقتل وتهجير الفلسطينيين على حدود البلدان دون امتلاك أبسط الحقوق الإنسانية  وهى الحياة، وكأن الفلسطينيين فائض بشري يسمح باستهلاكه وتدميره.

يوجد العديد من النقاط التى تناولتها بتلر بخصوص القضية الفلسطينية حيث لا يكفي هذا المقال لتناولها جميعاً، لكن مؤخراً نتيجة الحرب على عزة بسبب طوفان الأقصى أدانت تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت خاصة مصطلح "إبادة جماعية " "حيوانات بشرية " لذلك قالت الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر إنه يجب أن نأخذ تعبير "إبادة جماعية" على محمل الجد لأن الهجمات لا تستهدف المقاتلين فقط، وإنما تستهدف أيضا السكّان والمدنيين في غزة، وهم يتعرضون للقصف والتهجير وأشد انواع العنف...

كما أن الحيوات الفلسطينية ليست "حيوانات بشرية"، قائلةً "إذا كان الفلسطينيون حيوانات، كما يصر وزير الدفاع الإسرائيلي، فإن الإسرائيليون يمثلون الآن الشعب اليهودي كما يصرّ، فإنهم الأشخاص الوحيدين الذين يُظلمون في المشهد، لأن مشهد الحرب يتم إظهاره الآن كأنه بين الشعب اليهودي وبين الحيوانات التي تسعى إلى قتلهم"(1).

والحقيقة ان الصهيونية الآن  تقوم بدور النازيين قديماً اثناء مذبحة الهولوكوست لكن الضحايا الآن هم الشعب الفلسطيني بالإضافة الى  الصورة المضللة الذي ينشرها الأعلام الغربي عن الشعب الفلسطيني دون أن يذكر الكبت والقهر القتل الذي تعرض له الفلسطينيين طيلة 75 عام...

 لذلك شاركت “بتلر” مؤخرًا مع عشرات الكتاب والفنانين اليهود الأمريكيين في توقيع رسالة مفتوحة إلى الرئيس بايدن للدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. لأنها عضواُ في المجلس الاستشاري  لمنظمة الصوت اليهودي من اجل السلام. وذكرت بتلر عدد من الأسباب الذي دفاعها لتوقيع رسالة تدعو لوقف اطلاق النار في عزة ومن أهم هذه الأسباب:

العنف المنهج ضد فلسطين

علينا أن نفهم تاريخ العنف الذي تتعرض له فلسطين، بما في ذلك غزة، وجزء من هذا العنف  يتمثل في  حرمان الناس من مياه الشرب، والرعاية الصحية، والأغذية الأساسية والكهرباء، لكن الحقيقة هي أن العنف الذي نشهده ينتمي إلى عنف طويل الأمد، عنف عمره 75 عامًا، اتسم بالتفكك المنهجي، والقتل، والسجن، والاحتجاز، وسرقة الأراضي، والإضرار بالأرواح.

إبادة جماعية

وقعت  بتلر على عدة التماسات،  لوضع حد للإبادة الجماعية الفلسطينية إحداها تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار. وتابعت بتلر  : أعتقد أنني لا أستطيع التحدث نيابة عن جميع الأشخاص الذين وقعوا على تلك الرسالة. ولكننا كيهود نقول: "ليس باسمنا". هذا ما تفعله الدولة الإسرائيلية، وما تفعله القوات العسكرية الإسرائيلية لا يمثلنا. ولا يمثل قيمنا.

كذبة وحشية

أشارت “بتلر” إلى أنه عندما يدعي المتحدث باسم الأمن القومي الأمريكي أنه من السيئ للغاية أن يفقد المدنيون حياتهم في غزة، وأنه يتمنى ألا يكون الأمر كذلك، فهو في الواقع يكذب حيث يتم استهداف المدنيين(2).

فمنذ وقت طويل  تدعى الدولة الإسرائيلية ن جميع هذه الأهداف المدنية التي تضربها هي دروع للمنشآت العسكرية. يبدوا أن هذا تفسير مريح للغاية، لكنه لا يفسر قصف المنازل، والمستشفيات، واستهداف وقصف الأشخاص أثناء فرارهم من الشمال إلى الجنوب. لذا، أعتقد أن هذا اعتقاد خاطئ، وكذبة وحشية، إذا أردنا أن نكون صادقين. يجب ان ندرك اننا لا نتحدث عن قوة عسكرية متساوية، فأن القوة العسكرية في هذه المعركة غير متكافئة لكن الضحية هم الأطفال، النساء، المدنيين. لذلك يجب  إيقاف الابادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني، فهذه المعركة ليس للقضاء على مقاتلي حماس بل لإبادة الشعب الفلسطيني.

***

آية محي الدين عمر

.................

(1) آراء أربعة فلاسفة معاصرين بشأن الحرب في غزة : جوى سليم.  تم الأطلاع علية 2/11/2023

https://www.bbc.com/arabic/articles/c72r8vrvl85o

(2) رسالة جماعية لـ"بايدن".. الفيلسوفة اليهودية جوديث بتلر: "يجب وقف إبادة الفلسطينيين"، ترجمة حنان عقيل، تم الاطلاع علية 5/11/2023

https://www.dostor.org/4542883

منذ اندلاع الحرب الهمجية في غزة المحاصرة، تشتد بين الولايات المتحدة والعراق الانفعالات. بسبب الغارات العسكرية الأمريكية التي استهدفت قادة في الفصائل العراقية المسلحة، بعد توجيه هذه الفصائل صواريخها للقواعد الأمريكية... العراق يريد خروجا سريعا ومنظما للقوات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة من أراضيه، ولكن لم يتم تحديد موعد نهائي، كما يقول رئيس الوزراء. واصفا وجود تلك القوات بأنه مزعزع للاستقرار وسط تداعيات إقليمية.

مواقف السوداني الزعيم العراقي غير ثابتة، تعبر عن ردود فعل مثيرة للتساؤل داخل الأوساط العراقية. منها على سبيل المثال لا الحصر، القول: بأن تصرفات الجيش الأمريكي في العراق تؤدي إلى زعزعة الاستقرار، وإن التحالف المناهض لتنظيم الدولة الإسلامية لم يعد ضروريا. لكنه، وفق ما نشر مؤخرا في وسائل الإعلام من معلومات سرية، يؤكد بأن بقاء قوات التحالف في العراق ضرورة!. وفي جنبه أخرى يشير إلى أن هجمات الفصائل العراقية على القوات الأمريكية تثير الانتقام الأمريكي، وإن العراق لا يرى الولايات المتحدة كعدو.

اكتسبت الدعوات التي أطلقتها منذ فترة طويلة فصائل أغلبها شيعية، قريبة من إيران، لرحيل التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، زخما بعد سلسلة من الضربات الأمريكية على جماعات متشددة تشكل جزءا من قوات الأمن العراقية الرسمية. وأثارت تلك الضربات، التي جاءت ردا على عشرات الهجمات بطائرات دون طيار والصواريخ على القوات الأمريكية منذ أن شنت إسرائيل حربها على غزة، مخاوف من أن يصبح العراق مسرحا للصراع الإقليمي. وفي مقابلة صحفية في بغداد يوم الثلاثاء 9 يناير، قال السوداني "هناك حاجة لإعادة تنظيم هذه العلاقة حتى لا تكون مبررا لأي طرف سواء كان داخليا أو خارجيا للعبث بالاستقرار في العراق والمنطقة."

ومن المرجح أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى القلق في واشنطن بشأن زيادة نفوذ إيران على النخبة الحاكمة في العراق. حيث إن الجماعات الشيعية المدعومة من إيران اكتسبت قوة في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003. وربما سنشهد مزيدا من التوسع في ساحة الصراع في منطقة حساسة بالنسبة للعالم والتي تحتوي على جزء كبير من إمداداته من الطاقة ". الامر الذي دفع بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) يوم الاثنين 8 يناير، بالقول من أنها لا تخطط لسحب القوات الأمريكية الموجودة في العراق بناء على دعوة من حكومتها.

العراق، ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة أوبك، من بين أشد المنتقدين للحملة الإسرائيلية على غزة، ويعتبر القتل الجماعي وتهجير المدنيين الفلسطينيين حالة من الإبادة الجماعية. الا ان الهجمات التي تشنها الجماعات المسلحة على القوات الأجنبية والبعثات الدبلوماسية في العراق غير قانونية وتتعارض مع مصالح البلاد. وإن الجماعات المسلحة، تستخدم مكانتها كأعضاء في قوات الحشد الشعبي، وهي قوة أمن حكومية بدأت كمجموعة من الميليشيات في عام 2014، كغطاء. لكن عندما يضربون القوات الأمريكية، فإنهم يعملون خارج التسلسل القيادي تحت راية المقاومة الإسلامية في العراق؛ وعندما تنتقم الولايات المتحدة، فإنهم يندبون خسائرهم كأعضاء في قوات الحشد الشعبي ويحصدون ثمار تصاعد المشاعر المناهضة للولايات المتحدة.

الدعوات لانسحاب التحالف كانت موجودة منذ سنوات، وحتى الآن لم يتغير الكثير. ففي عام 2020 صوت البرلمان العراقي لصالح رحيله. وفي العام التالي، أعلنت الولايات المتحدة نهاية مهمتها القتالية في العراق والتحول إلى تقديم المشورة والمساعدة لقوات الأمن العراقية، وهي خطوة لم تغير سوى القليل على أرض الواقع. الا ان حرب غزة أعادت القضية إلى الواجهة من جديد، حيث دعت العديد من الجماعات العراقية التي أوصلت حكومة السوداني إلى السلطة والمقربة من طهران إلى الخروج النهائي لجميع القوات الأجنبية" باستثناء الايرانية "، وهي خطوة سعت إليها إيران وحلفاؤها الإقليميون... لكن الا للشعب العراقي كلمة الفصل في امر خطير يتعلق بمصالحه الوطنية وامنه القومي؟.

***

عصام الياسري

في كثير من الأحيان يجد المرء نفسه محتارا وهو يحاول أن يجد مكانا يضع فيه فئة من فئات "المثقفين" و"الاختصاصين" و"الاستراتيجيين" العرب (وكأن الدول العربية لديها استراتيجيات) الذين يعملون محللين لمختلف الشؤون، وكثير منهم يحمل شهادات عليا ويعيشون في الدول الغربية (لذلك سميتهم بالمستغربين) حيث مولد العقلانية كم يدعى (نفيا لوجود أي عقلانية غير أوربية  سادت في أي مكان وفي أي زمن سبق). يبرز ذلك بشكل حاد عندما يتعرضون بالتحليل أو النقد لظاهرة ما في عالمنا العربي خاصة تلك المتعلقة بالصراع المحتد الذي يدور في المنطقة والذي دشن صفحة جديدة نوعيا منه القتال الدائر في بين فصائل تابعة للحركات الإسلامية (حماس والجهاد على وجه الخصوص) في غزة ومجموع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وبلدان المنفى ومعها ما يسمى ب "محور المقاومة" من جهة والجيش الإسرائيلي الغازي ومن يدعمه من الدول الغربية من جهة ثانية.

وضمن هذا السياق أخذ الهجوم الذي شنه أحد أطراف المحور على قاعدة عسكرية أمريكية ذكر أنها توجد على الحدود بين سوريا والأردن والعراق اهتماما خاصا دون الهجمات الأخرى التي شنتها فصائل  عراقية على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا بسبب أن الولايات المتحدة أعلنت عن عدد من القتلي (ثلاثة) وعدد من الجرحى يعتبر كبير نسبيا (خمسة وعشرون) وعبرت عن غضبها الشديد وأطلقت تهديدات أكثر من السابق. كما وأن الجديد في الأمر أيضا أن هذه القاعدة الأمريكية لم يكن يسمع بها أو يعرف عنها كثيرون وهذا ربما  كان هذا أحد العوامل التي أثارت الأمريكي لأن الأمر يتعلق بتواجده غير المعلن في بعض المناطق العربية.

وكالعادة ابتدأ الإعلام الأمريكي والغربي، وبالطبع الإسرائيلي،بالحديث عن إيران "وأذرع" إيران وراح هؤلاء "المحللون" العرب الذين ذكرت يرددون الرواية الأمريكية - التي كثيرا ما تصاغ في دوائر الاستخبارات والدوائر المؤيدة لإسرائيل في المؤسسة الأمريكية- ليس بالضرورة حبا بأمريكا (رغم أن هذا الحب موجود بكثرة لدى البعض) بل كراهية بإيران. وبالنسبة لهؤلاء لا يهم النفي الإيراني و لا تأكيد الطرف الذي قام بالهجوم  أن القرار نابع من إرادته الخاصة بل المهم لديهم هو ما تقوله أمريكا وإعلامها. إن هذا الميل إلى الربط التلقائي والذي يحيطه هؤلاء "المحللون" بزوبعة من الغبار الكلامي إنما يهدف إلى إعماء العين عن الواقع الحي وكذلك التاريخ القريب والبعيد لحقيقة الصراع الدائر في المنطقة  منذ أن وطأت قدم الاستعمار الغربي المنطقة ثم قيام دول إسرائيل في 1948 على أشلاء الشعب الفلسطيني الذي ناضل منذ ذلك الزمن على لملمة أشلاءه وإعادة الحياة إلى جسده المنهك جراء ذلك الظلم التاريخي الذي حل به ليظهر، من خلال ما يقوم به في غزة وفي الضفة الغربية وفي المنفى، أنه يصر على تثبيت وجوده على أرضه التاريخية وعلى لوحة تاريخ العالم.

هذا الشعب الذي ينبض قلبه بمعزوفة الأرض التي فقدها ويقاتل بما ملكت أيديه من أجل استردادها من مغتصبها الغربي منذ 75 عاما ودفع ويدفع من أجل ذلك سيلا من الدماء وأصبح شبانه وأطفاله ونساءه زائرين دائمين للمعتقلات الإسرائيلية حيث يسامون أسوأ أنواع التعذيب والإهانة، هذا الشعب بنظر هؤلاء "“المحللين”" لم يكن موجودا طوال هذا التاريخ بل وجد بعد أن وجدت إيران الإسلامية في سنة  1978. وربما يعتقد بل يؤمن هؤلاء “المحللين” أنه ما أن تهاجم الولايات المتحدة إيران أو تكف يدها (وهي بالطبع تعمل جاهدة على ذلك) فسيذهب الفلسطيني صاغرا إلى المغتصب الإسرائيلي متباكيا طالبا الصفح عما كان يفعله طول كل تلك السنين قائلا له: "هذه أرضكم إفعلوا بها ما تشاءون واعتبرونا ضيوفا مؤقتين عندكم تنتهي ضيافتنا متى ما شئتم. أما إيران فقد خدعتنا وضحكت علينا وإننا لكم تائبون"..وهكذا، بنظر اصحابنا من المتعمقين بالتحليل، يحل الرخاء والوئام على أرض فلسطين (عفوا يصبح اسمها  "أرض اللبن والعسل- ملك إسرائيلي صرف").  ولكن مهلا. هل فكر هؤلاء “المحللين” أن هذه النهاية التي يتمنون سوف تعني أنهم سوف يحالون إلى التقاعد لأنهم لن يجدوا بعد ذلك ما يتحدثون عنه وإن وجوهم المجملة بالماكياج سوف لن تظهر ثانية على شاشات التلفزيون؟؟

وإذ  بدأنا بفلسطين فلنكمل الكلام بشأن "محور المقاومة" ولنأخذ العراق ليس من باب التفضيل على غيره. دعونا نبدأ بتاريخ قريب لأن هذا التاريخ يرتبط بشكل وثيق بالتواجد الأمريكي المكثف في المنطقة. ألا وهو سنة 1991 عشية الحملة العسكرية الأمريكية  على العراق بعد احتلاله للكويت، هذا الاحتلال الذي كان سببا مباشرا لهذا الوجود المكثف كما ذكرت. لقد قام العسكر الأمريكي باستخدام سلاح الطيران بقتل 100 ألف جندي عراقي كان في طريقه إلى الأراضي العراقية منسحبا من الكويت بعد أن أعلن العراق قبول قرار مجلس الأمن واستجابتة للوساطات العربية وغير العربية. هذا الرقم المخيف  لعدد الجنود البسطاء الذين كانت تحكمهم سلطة تحتل عندها عقوبة الإعدام أولوية في سلم العقوبات، ذهبت دماءهم هدرا ولم يسأل عنهم أحد ولم يحمل أي طرف المسؤولية عما حل بهم. وإلى اليوم لم أسمع "محللا" او "ناقدا" سياسيا يحمل الأمريكيين مسؤولية هذه الإبادة الجماعية. هذه المجزرة التي ارتكبها الأمريكي بحق جنود عراقيين وهم بحالة شبيهة بالاستسلام يمكن أن تذكرنا دون عناء بقصف هيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذرية بعد أن أعلنت اليابان استسلامها وبتدمير مدينة درزدن الألمانية عن بكرة أبيها بعد استسلام النظام النازي). وفي نفس الوقت الذي كان سلاح الجو الأمريكي يبيد هؤلاء الجنود  كان يواصل تدمير كامل البنية التحتية العراقية التي كانت تعتبر أفضل بنية تحيتة في الشرق الأوسط. هذا يجب أن ينسى بنظر هؤلاء "“المحللين”" وأول من يجب أن ينساه هو الشعب العراقي.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها فرضت الولايات المتحدة حصارا شاملا على العراق وصفه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك الجزائري الأخضر الإبراهيمي أنه أقسى حصار عرفه التاريخ (نرى صوره منه في غزة) وفقد جراءه ملايين الأطفال حياتهم بسبب سوء التغذية  وانعدام الرعاية الصحية وكانت العمليات تجرى في المستشفيات العراقية بدون مخدر لأن الحصار الأمريكي شمل هذه المادة حجتهم بذلك " احتمال وجود استخدام ثانوي لها من قبل النظام" أي حتى المخدر بنظرهم يمكن استخدامه في صنع أسلحة دمار شامل لم يملكها العراق يوما. ذات يوم وأنا أقرا النشرة الإعلامية الصادرة عن مركز الإعلام الأمريكي في دولة عربية قرأت أن من بين الخروقات التي سجلها المفتشون الدوليون الذين كانوا يفتشون عن "أسلحة الدمار الشامل" العراقية بحق السلطات العراقية أن أحدهم (لم يذكروا من) قد رمى مصباحا كهربائيا انكسر على الأرض أثناء مرور فريق التفتيش. يومذاك علقت ساخرا على «it must have been a chemical bulbالخبر بحضرة أستاذة جامعة بريطانية باللغة الإنكليزية: "

الأمر الذي أثاربالطبع ضحك السيدة البريطانية المعروفة بتسخيفها لكثير من الروايات الأمريكية عن تاريخ الولايات المتحدة لكونها تدرس تاريخ أمريكا فكان نصيبها أن منعت من دخول الولايات المتحدة حتى وهي تحمل فيزا من السفارة الأمريكية في ذلك البلد العربي فخسرت كل ما صرفته من مال من أجل السفر..

وفي سنة 1994 في عهد الرئيس كلنتون قام سلاح الجو الأمريكي مجددا بتدمير ما تم إعادة بناءه من البنية التحتية العراقية. ويتكرر الأمر في 2003 على يد أمريكا ثم بعدها في 2014 تقوم المنظما الإرهابية من القاعدة  إلى داعش- والتي بات الجميع يتفق أنها صناعة أمريكية-بريطانية-  باستكمال ما لم يستكمله الأمريكي من مسلسل التدمير. بل وحتى في  الحرب مع داعش عندما طلبت الحكومة العراقية معونة سلاح الجو الأمريكي مارس هذا السلاح قصفا عشوائيا خاصة في الموصل والأنبار وترك وراءه دمارا كاملا بحجة قصف مواقع الإرهابيين. (وقد فعلوا ذاك في مدينة الرقة السورية فتركوها خرابا ويعمل الإسرائيليون ما يشبهه في غزة).

هذا التاريخ المشين من التدمير الأمريكي للعراق وشعبه لا يتذكره هؤلاء "“المحللين”" وهم بالأصل غيرمعنيين به وكأنه لم يكن لأن الشعب العراقي بنظرهم عليه أن يعبر عن امتنانه للأمريكان على ذلك. وعندما يطلب البرلمان العراقي من الأمريكان وما يسمى بقوات التحالف بالانسحاب لأنه لم يعد بحاجة لهم لا يستجيب الأمريكيون وعندما تقوم جهات مسلحة كردة فعل وتضامنا مع غزة بشن هجمات على الوجود الأمريكي تثور ثائرة هؤلاء “المحللين” فيصيحون بأعلى أصواتهم: "إنظروا إنها إيران مرة أخرى"..

وكما في فلسطين عندما يتعين على الفلسطيني أن يعتذر من مغتصب أرضه على "سماعه كلام إيران" يعتبر هؤلاء "“المحللين”" أنه ما أن تكف إيران يدها عن العراق حتى ترى العراقيين وهم يعانقون الجنود الأمريكان في الساحات والشوارع ويدعوهم إلى بيوتهم قائلين لهم: "أعتبروا أرض العراق أرضكم وثرواتها شراكة بيننا. أنتم مرحبا بكم في حلكم وترحالكم. . لقد أدركنا إن ما قمتهم به من تدمير للعراق وقتل كان لمصلحتنا أما بالنسبة لإيران فقد خدعونا والآن نطلب منكم الصفح وعفا  الله عما سلف"..

أما في لبنان فتاريخ إسرائيل بالاعتداء المتكرر على هذا البلد وسرقته مياهه والاستيلاء على أراض هي تاريخيا جزء من الأرض اللبنانية وتدميرها الشامل لبيروت ومدن الجنوب اللبناني في الحرب التي شنتها على منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1982 واحتلال جنوب البلد قرابة عقد من  الزمن وغيرها من أعمال التخريب التي لم تتوقف يوما ضد هذا  البلد فلا شأن لمحللينا بكل ذلك. وعندما تنهض على خلفية ذلك الاحتلال مقاومة تطرد الإسرائيلي من الأرض اللبنانية وتعمل على استرجاع الأرض اللبنانية التي تستحوذ عليها لإسرائيل ثم تقدم الإسناد لغزة وللشعب الفلسطيني تصبح المسألة تستحق اهتمام محللينا. وجريا على عادتهم: "إنها إيران". لا ينكر الإيرانيون و لا المقاومة اللبنانية أنها تتلقى الدعم من إيران. ولكن السؤال يبقى كما هو في فلسطين والعراق: هل لولا إيران لما كان اللبنانيون يبالون بما تفعله إسرائيل بهم؟ هكذا يظن أصحابنا "المحللون".

لقد كانت سنة 1982 إثر الغزو الإسرائيلي للبنان هي بداية ظهور المقاومة اللبنانية والتي ضمت وقتها العديد من الأطراف كالحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي. في ذلك التاريخ كانت إيران منشغلة في حربها مع العراق وكان الحصار الأمريكي يطبق عليها منذ قيامها واستمرت الحرب العراقية الإيرانية حتى سنة 1988 بعدها انشغلت إيرات في تضميد جرح الحرب وإعادة بناء نفسها اي أنها منذ 1978 حتى نهاية الثمانيات لم تكن قادرة على لعب أي دور إقليمي لذلك لم يكن لها أي دور في تأسيس أو دعم المقاومة اللبنانية بل كانت هذه الأخيرة تعتمد على قواها الذاتية وموضوعها الإحتلال الإسرائيلي والأرض اللبنانية. بمعنى آخر كانت هناك عوامل موضوعية بل قانون بشري استلزم قيامها كما قامت أي مقاومة في العالم ضد محتل. فمن أين جاء محللونا بإطروحتهم البائسة "أنها ذراع لإيران؟"..و دون أن نطيل  نكتفي بالقول بأنه حسب منطق محللينا ما أن تختفي إيران حتى يتخلى اللبنانيون عن مطالبهم بأرضهم ويدخلوا بسلام ووئام مع إسرائيل تاركين لها حرية كاملة في أن تفعل ببلدهم وأرضهم ما تشاء وتصبح فلسطين بالنسبة لهم شيئا من الماضي لا شأن لهم به..

وكذلك في سوريا. ففي نظر محللينا ما إن توقف إيران تعاملها مع النظام السوري وتتوب للأمريكيين توبة نصوحا حتى يشكل الرئيس السوري بشار الأسد حكومة ائتلافية جديدة تضم في صفوفها ممثلين عن "جبهة النصرة" "وجبهة الخلاص" وعشرات غيرهم من المنظمات الإرهابية فتستتب الأمور في هذا البلد ويسود الوئام والانسجام مع أمريكا وإسرائيل. وبالطبع سوف يقدم النظام السوري الجديد اعتذارا لإسرائيل بسبب ما سسبه لها من ضيق وإزعاج في الماضي بسبب فلسطين..

وفي اليمن ما أن تختفي إيران من الصورة حتى ينسى اليمنيون حوثيون أم غيرهم التدمير الذي مارسه خلال السنوات السبع ما سمى زورا  ب "التحالف العربي" والذي دعمته الولايات  المتحدة وما فعلته بهم جارتهم السعودية طوال عقود مضت قبل ذلك من شراء وإفساد للذمم وتقسيم اليمنيين "شعوبا وقبائل" تفاضل بينهم حسب الولاء والطاعة لها...

وهكذا ينتهي "محللونا" برسم صورة للشرق الأوسط تناسب المزاج الأمريكي والإسرائيلي الذي يحرصون على استرضاءه. وعندما تستكمل الصورة كما في مخيلتهم سيلتفتون لنا قائلين: "إنظروا أترون ما أجملها  صورة بدون إيران. أليست أفضل وأجمل من صورة أن تقاوموا وترفضوا ما تطلبه منكم أمركيا وإسرائيل وتتحملون ما تتحملون من جراء ذلك؟..."

***

ثامر حميد

ذكرت الأنباء أن مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان "الحشاشين" قيد الإنجاز وربما سيعرض خلال شهر رمضان القادم والمسلسل من إخراج بيتر ميمي وقصة وسيناريو عبد الرحيم كمال وبطولة عدد من نجوم التلفزيون المصري من بينهم كريم عبد العزيز بدور البطولة. هذه وقفة استباقية في هيئة لمحة تأريخية مكثفة عند موضوع هذا المسلسل ألا وهو الحركة الإسماعيلية النزارية التي دأب خصومها وأعداؤها على تسميتها "حركة الحشاشين".

"الحشاشون" اسم تشنيعي أطلقه خصوم الفرقة الإسماعيلية النزارية وأعداؤها عليها وعلى مقاتليها وجمهورها كما قلنا. والإسماعيلية النزارية فرقة مسلحة ومعارضة للحكومات في العالم الإسلامي وللغزاة الفرنجة "الصليبيين" معا، نشأت في غضون القرن الحادي عشر الميلادي، ولم تتحول إلى طائفة دينية لاحقا حيث قُضيَ عليها وتمت تصفيتها بعد الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي وتدمير بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وبعد أن صمدت الفرقة النزارية في القتال طويلاً أمام جميع خصومها من الإمارات والدول السنية العباسية والأموية، والشيعية "الفاطمية/ بمصر"، وحتى الإمارات الإفرنجية "الصليبية" الأربع؛ كونتية الرُّها (1098-1150)، وإمارة أنطاكية (1098-1287)، وكونتية طرابلس (1102-1289)، ومملكة بيت المقدس (1099–1291)، التي كانت قائمة في بلاد الشام. فهل سيتحول هذا المسلسل - كما تحولت مسلسلات تأريخية تجارية عديدة - إلى "مجزرة فنية" للحقائق التأريخية ووقائع الماضي التي طالما كتبها المنتصرون والمشتغلون في خدمة المنتصرين، أم أن نوعية الكاتب المرموق - عبد الرحيم كمال - الذي تصدى لكتابة القصة والسيناريو وصفاته الإيجابية العديدة ستنحو بالمسلسل منحىً موضوعياً آخر؟

 سأكون صريحاً مع القارئ فأقول؛ بصراحة، لا أدري إلى أي درجة سيظل مؤلف المسلسل الكاتب عبد الرحيم كمال، وهو كاتب متميز بين زملائه كتاب السيناريو المصريين والعرب عموما، وقد كتب عددا من الأعمال التلفزيونية النوعية والجيدة كـ "الخواجة عبد القادر" و"ونوس" و"شيخ العرب همام" ومسلسل "دهشة" المستوحى من مسرحية "الملك لير" لشكسبير. وقد تولى بطولة هذه المسلسلات كلها الممثل القدير يحيى الفخراني، أقول؛ لا أدري إلى أي درجة سيظل المؤلف وفياً للحيثيات والوقائع التأريخية الحقيقية، وينظر إليها بعينين نقديتين ومحايدتين مضمونياً ليكون هدفه الأول مقاربة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، ولن تدفعه مغريات الشاشة ومتطلبات الرقابة الحكومية في الدول العربية المشترية للمسلسل إلى الإخلال بتلك الحيثيات والوقائع والميل إلى النوادر والطرائف الملفقة من قبل خصوم هذه الفرقة ضدها!

ولهذا، سننتظر إذن حتى يعرض المسلسل ونرى، على الرغم من أن اختيار اسم "الحشاشين" للمسلسل وفي حالة النصب والجر وليس بالرفع "الحشاشون"، وهو الصحيح، لا يبشر بالخير! ومع ذلك سأقدم للقارئ هذه البسطة أو اللمحة التاريخية حول هذه الفرقة من باب العلم بها قبل مشاهدة هذا المسلسل وقد تكون لنا وقفة أخرى بعد عرض المسلسل إذا كان ذلك ضروريا:

- انشقت الفرقة النزارية عن الفاطميين ودولتهم في مصر. وجاء اسمها نسبة إلى زعيمها وإمامها نزار المصطفي لدين الله أحد أبناء الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (ت 487هـ/ 1094م). والأمر الذي يجهله عامة الناس في عصرنا، وحتى ممن يسمون أنفسهم مثقفين هو أن الإسماعيليين النزاريين لم يكونوا يسمون أنفسهم باسم "الحشاشيين"، بل أن هذه التسمية أشاعها ضدهم خصومهم "الفاطميون المستعلية" وأعداؤهم من المذاهب والدويلات والفرق الأخرى، أما هم فكانوا يطلقون على أنفسهم اسم "الدعاة الجدد" أو أصحاب "الدعوة الجديدة".

ولدت هذه الفرقة بعد الانشقاق الذي حدث داخل الحركة الفاطمية الإسماعيلية وشقَّها إلى شقين أو فريقين الأول هم "المستعلية" نسبة إلى المستعلي بالله والثانية النزارية نسبة إلى نزار وهما ابنا الخليفة الفاطمي المستنصر بالله. حيث رأى المستعلية أن الإمامة لا يستحقها إلا المستعلي بن المستنصر، أما الفريق الثاني فقد رأى أن نزار، الابن الأكبر، هو الأحق بالإمامة السياسية والعَقَدية، وهو الأجدر بخلافة أبيه لأنه الأكبر سناً. وقد انحاز الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي وعن سابق قصد إلى المستعلي لضعفه ليسهل عليه استغلاله والتلاعب به، فقبض على نزار وقتله؛ فاضطر الهادي بن نزار إلى الهرب ففر إلى بلاد العجم "إيران"، والتحق بالخلايا والمجموعات الاسماعيلية لهذه الدعوة هناك، وكان على رأس هذه المجموعات آنذاك داعٍ داهية وشجاع هو الحسن بن الصباح الذي سيغدو زعيم الفرقة الإسماعيلية النزارية ومركزها قلعة "ألموت" في جنوب غرب بحر قزوين منذ عام 483هـ/ 1090م.

كان ظهور النزارية عاملاً مهما من عوامل القضاء على السلاجقة وإضعاف العباسيين، كما خاضت الفرقة صراعات دموية الطوائف والإمارات الأخرى كالزنكيين والأيوبيين والخوارزميين.

بحثياً، يُعتقد أنَّ أول وثيقة ورد فيها استعمال اسم الحشاشين كوصف تشنيعي لهم كان في رسالة كتبها الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله سنة 517هـ/1123م وأرسلها إلى الإسماعيليين في بلاد الشام بعنوان "رسالة الهداية الآمرية في إبطال دعوى النزارية: ويتلوها إيقاع صواعق الارغام في إدحاض حجج أولئك اللئام". وكان الهدف من هذه الرسالة التبرؤ من النزاريين ونقض مزاعم إمامهم وأخيه نزار المصطفي لدين الله بالإمامة والتأكيد على شرعية الخط الفاطمي الرسمي الذي يمثله هو، وقد استُخدم فيها مصطلح "الحشيشية" وهي كما أرجح ليست فصحى بل من عامية مصر والشام وكانت تعني الحشاشين ربما بقصد استصغارهم والإساءة إليهم ونفي انتسابهم إلى الإسماعيلية. ومن الجدير بالذكر أن الفاطميين أنفسهم كانوا ضحية لهذا الفعل التشنيعي ونفي النَّسَب الفاطمي من قبل خصومهم المذهبيين والفُرقيين الذين أطلقوا عليهم اسم "العُبيديين - نسبة إلى شخص قالوا إنه يهودي واسمه عبد الله بن ميمون القدّاح (طبيب العيون)، ونفوا أن تكون لهم أية صلة بفاطمة الزهراء كريمة النبي العربي الكريم محمد بن عبد الله؛ فيما أكد مؤرخون آخرون من الشيعة وبعض المحايدين صحة نسبهم الفاطمي.

وقد نسبوا إلى مؤسس هذه السُلالة الإمام عُبيد الله المهدي بالله قوله "إنَّ الفاطميين يرجعون بنسبهم إلى مُحمَّد بن إسماعيل بن جعفر الصَّادق، وعليه فهُم عَلَويّون، ومن سُلالة الرسول مُحمَّد عبر ابنته فاطمة الزهراء". وبحسب أبحاث المؤرِّخ الروسي فلاديمير ألكسيفيتش إيفانوف في تُراث الإسماعيليَّة والفاطميين، فإنَّ اسم الفاطميين هو الذي أُطلق على الإسماعيليَّة في بداية الأمر. ويبدو أن خصومهم وأعداءهم أطلقوا عليهم اسما آخر للتشنيع عليهم حين اشتد ساعد حركتهم وأسسوا لهم دولة في بلاد أفريقية التي كانت تعني "تونس" حصرا.

ويذكُرُ المؤرخ المعروف محمد بن جرير الطبريُّ - وهو من السُّنة - أنَّ "بدو بني الأصبغ في بادية الشَّام، اتخذوا هذا الاسم "الفاطميين" تحت زعامة القُرمطي الإسماعيلي يحيى بن زكرويه". ومما أشاع الغموض في موضوع أسماء أئمة الإسماعيليين الفاطميين ودولهم عموماً أنهم كانوا يخشون التصريح بالأسماء الحقيقية لأئمتهم مخافة أن تبطش به السلطات العباسية وتقتلهم.

وقد استخدم الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله مفردة "الحشيشية" مرتين في رسالته سالفة الذكر من دون تقديم سبب واضح لهذا الاستخدام من قبله. وأعتقد أنه جاء تكرارا لاسم أطلقه عليهم العامة ممن شهدوا عملياتهم الفدائية الجريئة إلى درجة مذهلة حتى شكَّ الناس في أنهم لا يخافون الموت لأنهم يتناولون عقار الحشيشة فقد كانوا يقدمون على الموت الأكيد إقدام المستميت. وهذه طريقة يلجأ إليها العامة لتفسير ما يعتبرونه من خوارق المألوف من قبيل أن يقترب المقاتل النزاري المتنكر من ملك أو أمير حتى "المسافة صفر" وهو بين خواصه وحرسه المدربين ويعاجله بطعنة قاتلة من خنجره دون أن يتمكن أحد من منعه أو تفاديه. 

ثم شاع استعمال الاسم من قبل الكتاب الغربيين المرافقين للغزاة الفرنجة والذين يسمون أنفسهم "الصليبيين" وهم الذين أشاعوا هذا الاسم عليهم في الغرب. وكان النزاريون إذا فشلوا في الهرب بعد تنفيذ عملياتهم الفدائية يقتلون من قبل أعدائهم قتلاً شنيعاً ولكنهم لم يتوقفوا عن قتالهم وكفاحهم حتى الاجتياح المغولي. وقد اغتال النزاريون عددا كبيرا من الزعماء وقادة الجيوش من العباسيين والسلاجقة والصليبيين ومنهم الوزير السلجوقي نظام الملك والخليفتين العباسيين المسترشد والراشد وملك بيت المقدس الإفرنجي كونراد. ورغم أن قائمة أعدائهم طويلة وتشمل جميع معاصريهم ولكنهم لم يسلموا من الاتهام بالعمالة لهذا الطرف أو ذاك!

 وقد قضى المغول بقيادة هولاكو على هذه الفرقة في بلاد فارس سنة 1256م. حيث قام هذا القائد المغولي بمهاجمة الحشاشين واستطاع - بعد معارك ضارية ودموية خاضها النزاريون المستميتون -أن يستولي على عاصمتهم في قلعة ألموت وعلى أكثر من 100 قلعة أخرى من قلاعهم وإحراق للقلاع والمكاتب الإسماعيلية قبل أن يتجه - هولاكو - لمهاجمة العباسيين وعاصمتهم بغداد وتدميرها. أما في الشام فسرعان ما تهاوت الفرقة النزارية على يد الظاهر بيبرس سنة 1273م. وبهذا كفت عن الوجود التأريخي وتحولت الى أرشيف التراث الضخم للحركات المعارضة المسلحة في القرون الأخيرة من العصر الإسلامي قبل أن تبدأ شعوب أوروبا بالخروج من القارة العجوز وتجتاح العالم كله بأساطيلها وأسلحتها الحديثة.

هؤلاء هم الإسماعيليون النزاريون الذين يسميهم خصومهم وأعداؤهم "الحشاشين" أو "الحشيشية"، فهل سيكون المسلسل الذي سيتصدى لقصتهم منصفا وموضوعيا ومحايدا في مقاربة الحقيقة؟!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

أصدرت محكمة العدل الدولية قرارها بخصوص الحرب، التي شنتها "إسرائيل" على قطاع غزة، إثر عملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول / أكتوبر 2023)، بناءً على الدعوى التي أقامتها حكومة جنوب أفريقيا، والتي تم النظر فيها يومي 11 و 12 كانون الثاني / يناير 2024.

أثار القرار ردود فعل مختلفة قانونية وغير قانونية، فبعضها استقبله بتحفّظ، بل شكّك بقيمة قرار تصدره محكمة تابعة للأمم المتحدة، التي تتحكم بها الولايات المتحدة والقوى الكبرى. وبعضها الآخر كان يعوّل عليه تحقيق العدالة المنشودة وإنصاف الضحايا، لعدم درايته بالإجراءات القانونية المعقدة، وثمة رأي إيجابي اعتبر القرار خطوةً بالاتجاه الصحيح في إطار المعركة القانونية والديبلوماسية.

وبغض النظر عن الاختلافات بشأن القرار، فلا بدّ من الاطلاع على حيثياته، التي تلزم "إسرائيل" باتخاذ التدابير لوقف عمليات الإبادة وقتل الفلسطينيين أو إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم بهم، بما يسبب في فنائهم أو فناء قسم منهم، كما منع القرار التحريض على الإبادة الجماعية ومعاقبة المحرضين عليها، وتضمن تقديم المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وطالب "إسرائيل" بتقديم تقرير خلال شهر واحد لتطبيق الإجراءات الواردة في قرار المحكمة. ومن جهة أخرى، دعا القرار إلى الإفراج الفوري عن أسرى الحرب "الإسرائيليين" واعتبارهم رهائن.

لم يتضمن قرار المحكمة وقف إطلاق النار، كما كان يطمح إلى ذلك سكان غزة المنكوبين منذ عدة أشهر والمحاصرين منذ العام 2007 ، وهو ما أعطى انطباعًا سلبيًا لدى البعض، إلّا أن القراءة القانونية تقول:

أولًا -  إن جنوب أفريقيا لم تطلب من المحكمة ذلك، بل كان جوهر الشكوى النظر في جرائم الإبادة الجماعية، وهو ما قامت به المحكمة بقبول الدعوى، التي من اختصاصها النظر فيها وإصدار إجراء أولي بشأنها. والقرار الذي صدر عنها يشمل ذلك، علمًا بأن المحكمة رفضت طلب "إسرائيل" ردّ الدعوى.

ثانيًا - إن المحكمة أصدرت قرارًا أهم وأقوى في حجيته القانونية، ونعني به وقف أعمال الإبادة، وهذا أشمل من وقف إطلاق النار، ويتضمن إدانة "إسرائيل" بالقيام بجريمة الإبادة الجماعية.

ثالثًا - يمثل القرار تقويضًا لشرعية "إسرائيل"، خصوصًا حين يتهمها بممارسة أعمال إبادة جماعية بحق مجموعة سكانية عرقية فلسطينية، وهو ما يمكن البناء عليه في المعركة الديبلوماسية والقانونية، استكمالًا لجوانب المعركة الأخرى.

رابعًا - إن طلب المحكمة توفير الخدمات الاساسية والمساعدات الفورية لسكان غزة يعني تجاوز الحصار "الإسرائيلي" المفروض عليها بقرار قضائي.

خامسًا - صدر القرار بأغلبية ساحقة من جانب القضاة، وهو ما يؤكد توفّر الركن المادي لجريمة الإبادة (الأعمال الفعلية)، والركن المعنوي (وجود نيّة الإبادة) لدى "إسرائيل" في حربها المفتوحة على غزة، الأمر الذي دفع بعض القضاة إلى مخالفة المواقف الرسمية لدولهم، كما فعل القاضي الألماني والقاضي الفرنسي والقاضية الأمريكية، باستثناء القاضية الأوغندية التي صوتت ضدّ القرار، بل إن القاضي "الإسرائيلي" صوّت لصالح بندين من القرار، الأول يتعلق بمنع التحريض والثاني توفير الخدمات، كما أنه لم يعترض على اختصاص المحكمة في النظر بالقضية.

كقانوني أستطيع تقييم هذا القرار إيجابيًا، وعلى نحو كبير جدًا، لاستناده إلى قواعد القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي واتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948، بل إنه القرار الأول من نوعه، وهو يتضمن إدانة الممارسات "الإسرائيلية" بشكل واضح ويطالبها باتخاذ تدابير محددة، بما فيه تكليفها بتقديم تقرير خلال شهر عن مدى التزامها بما طلبته المحكمة، وهو قرار ملزم، على خلاف الفتوى الاستشارية القانونية بشأن الجدار العازل التي صدرت عن المحكمة العام 2004، فلم تكن ملزمة، وإن كانت ذات قيمة معنوية مهمة، ويمكن البناء عليها. والقرار يطالب "إسرائيل" بتوفير وسائل الحماية المدنية لسكان غزة، بما يعني رفض القتل والتهجير وتدمير المرافق العامة.

يُعتبر القرار سندًا شرعيًا وقانونيًا لدعم الحق الفلسطيني في المعركة الديبلوماسية والدولية، كما أن تنفيذ هذا القرار التاريخي يتطلّب، أولًا وقبل كل شيء، وقف إطلاق النار حتى وإن لم ينص عليه، إذْ كيف يمكن وقف الإبادة الجماعية دون أن تكون الخطوة الأولى في ذلك وقف إطلاق النار.

وهو وإن كان قرارًا احترازيًا مؤقتًا، إلّا أنه سيكون مدخلًا لإصدار قرار بات واجب التنفيذ فيما إذا امتنعت "إسرائيل" من تنفيذه ويفترض فرض عقوبات عليها، وحينئذ يمكن الذهاب إلى مجلس الأمن الدولي لاتخاذ القرار، وإذا ما استخدم "حق الفيتو" من جانب حلفاء "إسرائيل"، فإنه سيضعهم شركاء في جريمة الإبادة، وفي ذلك جانب أخلاقي وأدبي، وعندها يمكن الذهاب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب القرار 377 والمعنون "متّحدون من أجل السلام" الصادر بخصوص كوريا العام 1950، وتلك مسألة يمكن مناقشتها في حينها.

***

عبد الحسين شعبان

سورية الجريحة، التي ما زالت تخضع لنظام سياسي واحد، لم يتغير أو يتبدل، هو نظام العائلة، الذي نستطيع أن نشخصه تشخيصاً صحيحاً، إذ زعمنا في جموح وإسراف، أنه قد أزرى "بسورية"، ووأد طموحها العاتي في التحرر، والرقي، وتداول السلطة،  فمثل هذه الأنظمة كما نعلم، لا تستطيع أن تحكم على كنه الأشياء، أو تقدرها، وتفكر فيها، إلا على النحو الذي يعظم أمرها، ويعلي من صيتها، ويستأنف وتيرتها في الحكم،  هذه العائلة-عائلة الأسد-  تستحوذ على الحكم، منذ سبيعنيات القرن المنصرم كما نعلم، ببهرجة زائفة، وزيف مبين، آخرها كان في شهر مايو عام 2021م، إذ حصد حينها الدكتور "بشار الأسد" أكثر من 95% من أصوات الناخبين، ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن سادتنا في هذه المنطقة العربية، التي ما فتئت تستمسك بركاكة الماضي، ونحن هنا لا نلتمس عيبا، أو نبحث عن زلة، لا سمح الله، ولكننا نقول أنها ظاهرة لا يكاد يكون لها حد، وهي من مخلفات إرثنا السياسي، فنحن رغم هذا التطور البديع الذي يشهده العالم من حولنا، ما زلنا نرسف في أغلال وقيود "التوريث"، الذي لا تجد أحزابنا ونخبنا السياسية، مشقة ولا عسرا، في الهتاف له، والتماهي معه، فأحزابنا، ونخبنا، وحياتنا العقلية، تجتهد في أن تخلص لأصحاب السمو والرفعة، و تتملق بدورها كذلك كل من يزين بزته العسكرية بأوسمة، وأنواط، ونياشين، لا ندري كيف نالها، ومن هو الذي ثبتها على صدره المكتنز، وهو في الواقع لم يدحر عدواً قط، أو ينتصر في معركة ضارية كانت أو فاترة، لم ينتصر هؤلاء البهاليل السادة، والحماة الذادة، والملوك القادة، حتى في تلك الألعاب الالكترونية، التي استشرت في أوساط  هذا الجيل، والأجيال التي سبقته، فقد ألقوا أنفسهم عليها، وأظهروا لها هذا الود، وهذا الهيام،  لأنها تسليهم، وتنسيهم فهم الحقائق وتفسيرها، لهذا مالوا إليها كل الميل، ولا زال أثرها في الحق قوياً باقياً، حتى في نظمهم السياسية، وفي رؤاهم، وخططهم التي ينشدون تحقيقها، تلك الرؤى التي تبتغي تنشيط العقول، وحملها على التفكير، وتنشيط العقول لا يتأتى إلا برسم صورة رشيقة خلابة، هذه الصورة تخضع للترفيه، وتكلف الزينة، وجلب "المشخصاتية" وتكريمهم، والاحتفاء بهم، وكأنهم اجتهدوا في أن يخلصونا من أصار الذل، وأغلال الفقر، ورسف العبودية، لأنظمة فاسدة طائشة، هذه الفئات المترفة، التي تدمن التكلف والتصنع، وتجيد التنصل عن قيم مجتمعنا الشرقي، لم تنتهي بنا إلى حيث يقف الغرب -الذي تعشقة وتقتفي أثره- إلى حيث هو الآن من حرية وانعتاق، وعوداً على بدء، نزعم أيها السادة أن معظم حٌكامِنا الأماجد، الذين استمدوا حياتهم  الصالحة الخصبة من أبائهم وذويهم، قد أكملوا  هذه "العملية الانتخابية" التي تسبغ عليهم النعمة، وتنزههم عن صغائر تعافها الديمقراطية، فهم لم يبتهجوا بهذه النتيجة المشرفة، إلا لأنها ظاهرة يضيقون بها، ويتأففون منها،  ظاهرة  تستحدثها عائلاتهم لاسئناف راكد الحركة والحياة، ولاقناع دول الصلف والغرور، أن بلادهم تتكلف هذه الألوان التي فيها حرية، وفيها اجتهاد، لاختيار القوي الذي يطمح الشعب إلى تقليده وتنصيبه، "الأمين" الذي ينهض بوطنه ويبعده عن معرة التخلف والابتذال ها هو يستأثر بالحكم من جديد، والغرب الذي يعلم  أن الفوز حظاً مقصوراً على هذه الناجمة، يظهر الفرح والرضى، لأن دولنا العربية حافظت على قديمه وإرثه السياسي، الذي يغضبه أن تسعى دولنا لمحو آثاره،   يظهر الغرب الغبطة لأن المرشح الفائز، قد ناضل في سبيل تحقيق فوزه المستحق، وحتى لا أطيل وأسرف في الإطالة، أقول أن هذه النتيجة، لا تعني إلا أن السلطة قد جاءت قانعة راضية لصاحبها الذي لم يكن يتخلى عنها وإن أزهق أرواح نصف شعبه، بينما الشعب الذي لم يحسب لمثل هذا الاقتراع حساباً، أو يقدر له وجوداً، لأنه يعرف النتيجة مسبقا، يعي هذا الشعب أن حاكمه الذي يبغضه أحيانا، ويضيق به أحيانا أخرى، سيعود لا محالة، وأن هذه الانتخابات الممعنة في الكذب والتضليل،  لن يظفر منها إلا بهذا الكم الهائل من الاستياء، والكدر، لأجل ذلك نرى دائما هذا الوجوم الذي يلوح على محيا الشعوب العربية، بعد كل عملية مزيفة تجرى في محيطه، فالشعوب التي تزداد حياتها تعقيداً بعد إعلان مثل هذه النتائج، قد دأبت تختار غير هذا الحاكم، الذي  تفرضه عليهم النظم والأعراف، وحكامهم الذين قلّ أن تجد فيهم أثر للشعور والقلوب، يتناوبون عليهم مرات ومرات، وفي كل مرة يخيب حدس الشعوب، وتخيب ظنونها، لتستقبل خبر انتصارهم، بهذه اللوعة والحسرة، لتدفعها هذه الحسرة بعد حين، لأن تسلك سلوكا يلائم الكرامة،  بعد أن لاذت بالصمت عقودا  طوالا،  فهي أيقنت أن صمتها هذا لن يضيف إليها شيئا، فما هو الشيء الذي في مقدورها أن تفعله حيال هذا النوع من الحُكام؟  ذلك الصنف من أرباب الحكم والتشريع، الذي يجد في نفسه غضبا وحنقا، إذا التمس شعبه الخلاص من ويلات حكمه، هذه الطائفة ما أن تسمع بنبأ خروج الناس عليها، وتتحسس وقع خطواتهم، وهم مسرعين نحو قصورها المترعة بالجيوش والعتاد، حتى تتبدل عواطفها وأهواؤها، وتسقط قناع الديمقراطية الزائف عن وجهها، وتنتهج هذه الطرق التي تدفع نيران الثورات إلى الخمود، والرئيس بشار الأسد، كان واحداً من أفراد هذه الطائفة، فهو يقضي نصف ليله، وأكثر نهاره، يخامره احساس كأن شيئا ينقصه، هذه المشاعر الغامضة تتحدث إليه، وتدعوه أن يلجأ إلى الخشونة والعنف، في أبشع مظاهرها، وأن يظهر مخايل بربريته، ووحشيته، واضحة جلية، وأن يشقي شعبه بهذه العزلة التي تركها نصف من عاش من  شعبه، وفضل أن ينصرف عنها هائما في المحيطات والقارات، تركت هذه الجموع من شعبه وطنهم الذي تركض فيه المصائب وتتسابق إليه النكبات، "سورية" التي يحملونها معهم بين طيات قلوبهم، ليستقبلوا حياة لم يكن يعرفونها، حياة عظيمة الحظ من العناء، حياة كلها استعطاف وتضرع، وكل شيء فيها منكر و قبيح.

والدكتور بشار الأسد، مؤلم جدا هذا الشعور الذي نجده بين حنايانا، حينما ندرك أنه طبيب، والطبيب هو الذي يعالج هذه اللفائف البالية التي تعوقنا عن عن الاحساس بالعافية، ويبث فيها الحياة باذن المولى عزّ وجلّ، لتعود للعمل كسابق عهدها وسيرتها، الرئيس بشار الأسد طبيبا إذن، والطبيب كما نعلم هو الذي يطلق الإنسانية من قيودها، ويرسلها على سجيتها، حتى تتصل بمعان البرء، والسلامة، والتعاف، اتصالاً  قوياً، ولكن في الحق أن هذا الرئيس الطبيب، قد انحرف عن هذه المعاني انحرافا حادا، ولسنا نقول هذا الكلام من باب التزيد والافتراء، على سيرة الرجل، أو نطلقه هكذا جزافا من غير دليل، ولكن هذه النتيجة، هي خلاصة تتبع ذلك النشاط الحركي الذي انطلق في "سورية" عام 2011م، والذي اندفعت فيه جموع الشعب السوري اندفاعا عنيفا، حتى ترد الحرية والعدل إلى أقطارها وأمصارها، ولكن الطبيب استطاع أن يأخد شعبه والناس جميعا، بعادة  موروثة في أسرته، تلك الأسرة التي تقتصد في العدل، وتسرف في الظلم، لقد أفاض "بشار الأسد" على شعبه، من معين هذه العادة، التي حافظ عليها حفاظا شديدا، "فبشار" مثل والده تماما، يكره أن ينحيه أحدا عن منصبه، أو تناله آفات هذا التنحي، لأجل ذلك عمد إلى القسوة التي لم تكن موقوفة عليه، فالقسوة شيء تحبه أسرته، التي لا حياة لها، إلا بفضل هذه الوصمة، التي تسرف فيها ولا تقتصد، إذاً ليس من المصادفة في شيء أن هذا "الطبيب" الموغل في الوحشية أن يجعل حمم طائرته تلهو وتعبث بشعبه، فقائدها ما زال جذعاً فتياً، فيه بقية من شباب، والشباب يقتضي الميل للهو والمرح، والرئيس بشار كما عهدناه شديد النشاط، متصل الحركة، مع شعبه الأعزل،  الذي لم يتردد أو يتمهل من بقى منهم على قيد الحياة في الهجرة وترك "سورية" لسراة الناس، وأصحاب التملق العريض، والفئات المتعبة المكدودة، التي ألجئتها الفاقة، وصروف الحياة، لأن تبقى في معقل هذا الجحيم، الذي يجرعه إياها كل يوم "الطبيب الإنسان"، أدرك "بشار" أنه يحتاج إلى كثير من الوقت حتى يصل إلى الغاية التي تروقه، فالأجندات الدولية، وأصحاب العواطف الثائرة، الذين يقاتلون جنده في عزم وثاب، يتطلب منه ألا تحيا "سورية" حياة هادئة وادعة، وتكتفي فقط ببراميله المتفجرة، التي يقذفها على شعبه بوجدان شاحب، وقلب متقد، عليه أن يخرج كل العفاريت من مستقرها التي كانت عليه في مهاد الأرض، حتى يطمئن إلى حكمه، ويثق في مستقبله، فلا يشفق ولا يخاف، لأجل ذلك أضحت "سورية"، نهبا لكل طامع، وانتهى بها الحال، أن العدو الصهيوني البغيض يمطرها بصواريخه الموجهة في كل يوم، وشهر، وسنة، فيتغاضى "طبيبها الإنسان" عن حق الدفاع عن النفس في رشاقة وترفع، فاسرائيل التي تزلزلها بطولات غزة الآن، ترى أن من حقها أن تؤذي "سورية" طالما أن حباً آثماً قد جمعها بايران، هي تزعم أنها تدافع عن نفسها، لأجل ذلك تضرب مذعورة أهدافاً لها في دمشق وغيرها، وواجب الدفاع عن النفس، سيظل مهيضا في "سورية" فما أكثر الأنظمة والدول التي تنتاش "سورية" الآن، فالكل ينتهز حالة الضعف والهزال التي تعصف بهذا البلد العظيم، ويسعى ولا عذر له في ذلك، أن يمتد ويستطيل، وبعد كل هذه السنوات من الإذعان والذل، بات واضحا أن "الطبيب الإنسان" لا يستطيع أن يخضع "سورية" لإرادته، فقد باتت مرتهنة للدب القطبي، ونظام الملالي، ووقاحة العم السام، وتدخل تركيا السافر، "سورية" تخضع لاملاءات متعددة الأقطاب، ولانتهازية الدول العظمى، "سورية"حقا في محنة منكرة، وهي عرضة لأن تمسي ضئيلة رغم ضخامتها، وغير صالحة للبقاء، في ظل هذه الحروب التي تعيشها في شتى بقاعها، فهذه الدول المتناحرة في سهول سورية وأراضيها، شديدة الطمع، شديدة الازدراء لشعبها، وهي تبذل كل ما تملك من جهد، حتى تظفر بمتغاها، ولا يعني روسيا أو الولايات المتحدة، أو إيران، أو حتى تركيا "الحانية" أن تلتصق"سورية" التصاقاً مريرا بالمعاناة، يعنيهم أن يلقوا أممهم مبتسمين، ويعلنوا لهم أنهم أذاقوا خصومهم صنوفا من الذل في الأراضي السورية، هذا ما يفعلوه غداة كل يوم، ولكن من ذا الذي يسرع إلى "سورية" ويأخذها بين ذراعيه ويسعى لتضميد جراحها؟ ويطلب إليها أن تنصرف عن هذا الخلاف، ولا ترضى بهذه الحياة، التي سخطت عليها وثارت،  ما زلنا نأمل في ظهور جهة تدرك أن "سورية" مظلومة مهضومة، وتسعى لانتشالها من هذه الحالة التي فيها الآن، وتجنبها نذر الحرب بين الولايات المتحدة وإيران، فكلتا الدولتين تخضع لاضطراب ، عقلي، ناتج عن الآثرة والغرور والتكلف.

***

د. الطيب النقر

من 425 الى 1701

يتحدث البعض في لبنان والمنطقة عن الشرعية الدولية والتي تستمد شرعيتها من الامم المتحدة ومجلس الأمن التابع لها الذي لا "يجلس" الأمن الا بما يتناسب مع من يملكون حق النقض الفيتو.

بين الحين والآخر يطل علينا رجال دين ودنيا في لبنان بدعوات لتطبيق القرارات الدولية الخاصة بلبنان وتحييد لبنان عن الصراع الدائر في المنطقة وكان لبنان هو المعتدي وليس المُعتدى عليه.

اصحاب الدعوات تلك لهم أسبابهم السياسية، لكن يبدو ان بعد النظر احادي الجانب، ويجانب الواقع لان لبنان لم يجتاح اراض الكيان عشرات المرات، لا بل على العكس فإن إسرائيل هي من يعتدي دائما وكان من اكثر اجتياحاتها عمقا داخل الاراضي اللبنانية عام 1982، حيث وصلت قوات الاحتلال الى بيروت. بعد ذلك الاجتياح خرجت قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان والتي لم تكن لتتواجد في لبنان أصلاً لولا تهجير الاحتلال الفلسطينين من ديارهم ورفض عودتهم اليها.

وكان قد سبق ذلك اجتياحان الاول عام 1972 والثاني عام 1978 وقد صدر بعد هذا الاجتياح عن مجلس الامن القرار الاممي رقم 425 والذي نص صراحة الى سحب الاحتلال قواته من الجنوب دون قيد او شرط.

لم ينفذ الاحتلال القرار 425  رغم ارسال قوات تابعة للأمم المتحدة للأشراف على تنفيذه، ولم يتوقف العدوان على لبنان فكان عدوان 1993 الذي استمر لمدة 7 أيام، وفي العام 1996 شن الاحتلال عدوان آخر لمدة ستّة عشر يوم بحجة وقف صواريخ المقاومة التي كانت تسعى لتحرير الاراضي اللبنانية المحتلة في الجنوب او ما عرف ب"الشريط الحدودي" والذي كانت تديره وبأشراف مباشر من قوات الاحتلال القوات المتعاملة مع أسرائيل جيش لحد "جيش لبنان الجنوبي".

بسبب عدم تنفيذ القرار425 استمرت عمليات المقاومة من أجل تحرير المناطق المحتلة حتى تم إخراج المحتل الاسرائيلي من معظم الاراضي اللبنانية المحتلة في25 ايار عام 2000 دون قيد او شرط.

في العام 2006 شنت أسرائيل عدواناً كبيراً على لبنان بهدف القضاء على المقاومة وعامودها الفقري حزب الله انتهت الحرب التي استمرت33  يوماً بهزيمة الاحتلال الذي لم يتمكن من تنفيذ أي اهدافه المعلنة وغير المعلنة من تلك الحرب.

بعد ذلك العدوان صدر القرار الأممي 1701 الذي دعى الى وقف الاعمال القتالية دون وقف شامل لاطلاق النار، وتم تعزيز وزيادة عديد قوات الطوارئ الدولية بالاضافة الى دخول قوات أضافية من الجيش اللبناني للعمل على تنفيذ القرار.

 يدعو القرار إلى وقف كامل للأعمال الحربية يرتكز خصوصاً على وقف فوري من قبل حزب الله لكل هجماته ووقف فوري من جانب إسرائيل لكل هجماتها العسكرية.

يؤكد القرار انه من الضرورة أن تبسط الحكومة اللبنانية سلطتها على كل الأراضي اللبنانية طبقاً لبنود القرارين 1559 (2004) و1680 (2006) ولبنود اتفاق الطائف ذات الصلة، لممارسة سيادتها بشكل كامل.

إسرائيل كعادتها لم تفي بالتزاماتها أمام القانون الدولي، ووقف خروقاتها للقرار1701 والتي تجاوزت 34 ألف خرق حسب إحصاءات السلطات اللبنانية قوات الطوارئ الدولية.

رغم أن إسرائيل تأسست بقرار من الأمم المتحدة، ما تقدم يظهر كبف تتعامل أسرائيل مع القرارت الدولية والامر ينطبق كذلك على كل القرارات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية التي لم تنفذ أي منها، لا بل تمادت في التوسع واحتلال المزيد من الاراضي الفلسطينية والعربية ضاربة بعرض الحائط كل القرارت الدولية والتي بلغت أكثر من 900 قرار خلال الـ 75 عاماً الماضية لصالح الشعب الفلسطيني، واولها واهمها قرار تقسيم فلسطين رقم 181 للعام 1947والقرار رقم 242 الذي تلا حرب 1967والذي ينص على رفض احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية وطالب إسرائيل بسحب قواتها.

هذا التجاهل الاسرائلي للقوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة لم يقابله أي ضغط من المؤسسات الدولية او يما يسمى بالمجتمع الدولي، الذي يتعامى لا بل يدعم أسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

أن الاطماع الاسرائلية في ثروات لبنان المائية والنفطية ليست خافية وما الاجتياحات التي نفذتها داخل الاراضي اللبنانية الا خير دليل على ذلك.

إذن، لماذا المراهنة على المجتمع الدولي والدعوة الى الحياد في الوقت الذي أثبتت فيه المقاومة الوطنية والأسلامية ان أسرائيل اندحرت من لبنان ليس بسبب القرارات الدولية او الدبلوماسية انما بسبب المقاومة التي ما زالت تشكل عامل ردع قوي لاٍسرائيل لعدم التفكير في غزو لبنان مجدداً؟

نعم، من مصلحة لبنان تنفيذ القرار 1071 لكن ليس من طرف واحد، لكن بقى السؤال ما هي الضمانات ان تلتزم اسرائيل يتنفيذه في الوقت الذي تقف فيه قوات الطوارئ كشاهد زور على عدم تنفيذه، كما فعلت مع القرار 425 لمدة 22 عاماً؟

***

عباس علي مراد

 

دخل العِراقيون، منذ 1979، في لُجةِ الحَيرة، ومازالوا في اللُّجةِ، فالنّظام السّابق لم يترك منطقةً وسطى، بعد إفراغ البلاد من العقل السّياسيّ. فهل تجدون دولةً تستغني عن عقلٍ قانوني وسياسيّ مثل رئيس الوزراء عبد الرّحمن البزاز(ت: 1973) مثلاً، يُسجن ويُهان، داخل المعتقل الرّهيب «قصر النّهايّة».

كان مِن الصَّعب، على المغلوبين، مِن معتقلين وذوي معدومين ومهجرين، اتخاذ موقفٍ بين النّارين، نار النّظام وطغيانه ونار الحروب مع الخارج. بالمقابل، هل يُلام مَن يحن على النِّظام الكاسر نفسه، بعد الخديعة الكبرى، وما أثمرت إطاحته بالغزو، وتشكيل فصائل الموت، تتحكم بالعراق؟! فما حصل، بعد (2003)، يعطي كلّ الحقّ لمن ينسى موجعات السَّابقين، لأنَّ بأُفول الأمل يسود اليأس، لا يُلام ذوو المخطوفين والمغتالين والمشردين، إذا رأوا السّابقين أرحم وأخف، ففي الظّلام تتساوى الأشياء. أقول: مَن يتجاهل الحَيرة، وحده المستفيد من النِّظامين، فهناك طبقة تسبغها النّعمة، قبل وبعد 2003. غير أنَّ النّوادر، مَن استشعر الخديعة، واعتزل ما سيقطفه مِن ثمار معارضته.

كان المحامي والدّبلوماسيّ العِراقيّ رياض اليَّاور(1940-2024)، مِن النّوادر، ما إنْ شم المحاصصة الطّائفيّة، حتى ترك المعارضة والسّلطة اللاحقة جميعاً. فإذا كان أحمد الجلبيّ (ت: 2015) رأساً للشيعة في المعارضة، ولعب الدّور، مشيداً «البيت الشّيعيّ»، ولم يشعر بخطئه الفظيع إلا بعد «خراب البَصْرة»، وتجاهله مِن قِبل مَن أتى بهم، فكان الآخرون يرون برياض اليّاور رأس السُّنة في المعارضة، لكنَّ الأخير لم يحسب هذا الحساب، ولم يُشيد بيتاً سُنيَّاً.

كان يتوقع إزالة نظام، لم يعد يصلح محلياً ودوليّاً، وبزواله ستشرق شمس العمران، لكنه استشعر خديعة وراثة هذا النّظام مبكراً، ورثته حكومات لا حكومة واحدة، وجيوش لا جيش واحد، وإلا كان رياض اليّاور رئيساً بلا منافس، لو تغاضى عن الخديعة.

عندما طُلب مني العمل في «المؤتمر» (جريدة المعارضة)، محرراً لملفها الثّقافيّ (نهاية التِّسعينيات)، أشعرني الصّديق مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء فيما بعد، لمقابلة قطبيّ الشّيعة والسّنة، الجلبي واليَّاور، ففوجئت باستفساراتهما عن مقالات المعتزلة، ومسألة «خلق القرآن»؟ دون الإشارة إلى الجريدة، فسرني ذلك، وأنا أمام سياسيين مثقفين لإدارة العراق الجديد، وكان الياور يلح بالاستفسار، وتمنى استمرار الجدل في الأفكار، ولما قلتُ: سأعمل في الثّقافة لا السّياسة، كان جوابه: «هذا ما نريده».

لكنها فترة وجيزة، ويغيب اليّاور، بعد إعلان مظلوميات الطَّوائف، فالمحاصصة بدأت حتى داخل الجريدة نفسها، ما لا يتفق مع ثقافته العابرة للطوائف والقوميات. فلم يبق ذلك القوميّ حريصاً على شعارات ساهمت بتدمير العراق، إنما تحول كليةً إلى الوطنيّة الخالصة.

كان اليَّاور يعلم أن معارضته وغيره لا تُسقط الخصم، وإذا كانت المصلحة الدّوليّة، مِن وجهة نظره، تتفق لتحقيق الهدف، ليكن استثمارها عراقيَّاً، بهذا يدرك أكذوبة: إنَّ الشّهداء، والمحاربين للجيش العراقي، خلال حرب السنوات الثماني، هم من أزاحوا النّظام، بينما دخلوا خلف الدّبابات، رافعين صوراً ورايات مستوردة، مطالبين العراق بدفع خسائر الحرب.

كان إسقاط النّظام أميركيّاً خالصاً، لا فلان وفلان، هذه حقيقة، والقول لصاحب قصيدة: «أتيتُ بمنطق العربِ الأصيلِ»، أبي الطَّيب (قُتل: 354ه): «وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ/ إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ»(العَرف الطّيب).

عندما قُضي على ثورة الزَّنج بالبَصْرة (255-270هجريّة)، وكادت تعصف بالخلافة العباسيّة، ادعى الكلّ، هو صاحب الانتصار، فقيل: «كيف ما شئتم قولوا/ إنما الفتحُ للولو» (المسعودي، مروج الذَّهب)، ولؤلؤ كان غُلامَ والي مصر، وقائد الجيش القادم مِن هناك، لمواجهة صاحب الزّنج مع الجيش العباسيّ. أقول: لا كتائب ولا دُعاة ولا آيات ولا عصائب «إنما الفتح للولو»! لا تكذبوا، فإن للتاريخ بصراً وسمعاً. ليت اليّاور ترك شهادةً، ولم يكتف باستشعار الخديعة.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

يتدهور مفهوم الوطن أو يغيب مادام الوجود والمرجعية تظلان للقبيلة أو العشيرة أو الطائفة أو المنطقة، إنها حالة حصار للمواطن داخل البلدان العربية، تفرض علية هذه الوضعية أحد الأسباب الكبرى التي تحول دون تحوّل الدول الى أوطان بمعنى الكيان والمرجعية اللذين يتجاوزان الانتماءات الضيقة،ويظل الوطن الذي لم يتكوّن رهينة تصارع العصبيات على غرار تصارع القبائل في البادية على الكلأ والماء.

على أن الاستبداد حين يصل حد الطغيان، وحين تحيط الآجهزة الأمنية والسيادية بالمواطن العربي من كل مكان وتُحصى عليه أنفاسه، وحين يُعتبر السلطان أي سلطان بأنه مالك للأرض وما عليها، وبالتالي مَن عليها، وأن كل مصيبة وهم وبلاء يصيب المواطن ما هو إلا إحسان ومكرمة أو منّة منه، وأن له حق التصرّف بالموارد والثروات والمقدرات والمصير والبشر وحتي قرار الموت، وهو بذلك يُهدر حق انتماء الإنسان ويُصادر حقه البديهي بالمواطنة، وقد اشار الي ذلك المفكر وعالم النفس اللبناني مصطفي حجازي / في دراسة تحليلية نفسية "

من كتاب بعنوان "الانسان المهدور" يقول: يصبح الإنسان غريبًا في وطنه فاقدًا للسيطرة على مجاله الحيوي وبالتالي محرومًا من الانطلاق الواثق في هذا المجال الى مجالات أرحب، ومحرومًا من الإنغراس الذي يوفر الثقة القاعدية بالكيان والاحساس بالمنعة . تتحوّل المواطنة من حق أساس إلى منّة أو هبة يمكن أن تُسحب في أي وقت. وبالتالي يُسحب من الانسان الحق في أن يكون ويصير من خلال ممارسة الإرادة والخيار وحق تقرير المصير وهذا ماحدث في عهد الرئيس المصري/حسني مبارك /في إجراء إستفتاء علي بعض مواد الدستور بشأن المواطنة.

وكانت لعبة سياسية أمام الغرب فقط،، كذلك إستبعاد طوائف وفيئات من المجتمع في منعهم من دخول كليات عسكرية وشرطية وفي القضاء بحجة أنهم فقراء أو أهاليهم من الطبقة الفقيرة اوالمتوسطة، إنها كارثة وجودية أخرى تجعل من أي مشاريع تنمية أو إنماء وعمران وكفاءات حديث خرافة، ذلك أن الإنسان المُستلب في وطنه ومجاله الحيوي لا يمكن أن يُعطي، وبالتالي أن يبني، ويقنع في أحسن الأحوال بالتفرُّج السلبي في حالة من الغربة، كما ينحدر الوجود إلى مستوى الرضى بمكسب مادي يغطي الاحتياجات الاساسية . وقد يستجيب الإنسان لهدر مواطنيته وانتمائه في أن يتصعلك مُتنكرًا لشرعية السلطان لمذهبة الديني وعرقة، وصولاً إلى التنكر للوطن ذاته في نوع من الهدر المُضاد،وهذا النموذج موجود في بلدان العرب من وجود عرقيات ومذاهب واقليات، إلا أن أشد درجات الهدر المضاد قد تتخذ طابع هدم الهيكل عليه وعلى أعدائه فيما بدأ يشيع من سلوكات تطرف جذري داخل المجتمعات العربية من حروب اهلية في{العراق وسوريا واليمن ولبنان،والسودان}والباقي تحت براكين خامدة من الإنفجار.

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري ومتخصص في علم الجغرافيا السياسية

 

يعتبرقرار محكمة العدل الدولية منعطف تاريخي؛ وذلك عندما أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في غزة، وصوتت أغلبية أعضاء لجنة المحكمة المؤلفة من سبعة عشر قاضيا لصالح اتخاذ إجراءات عاجلة تلبي معظم ما طلبته جنوب أفريقيا باستثناء توجيه الأمر بوقف الحرب على غزة، هذا القرار هو الافتراض الصحيح أمام انتهاكات إسرائيل ورسالة مختلفة بأن العالم يجب أن يستند إلى مبادئ أخلاقية يتم تطبيقها على الجميع، لأن العالم عاش مع انتهاكات إسرائيل المتواترة لما يقارب من ثمانية عقود.

إسرائيل وخلال ما يقارب من ثمانية عقود مضت لم تكن مستعدة للخير؛ بل على العكس من ذلك، لذلك حظي التاريخ بالكثير من القضايا التي وصلت إلى محكمة العدل الدولية خلال العقود الماضية ضدها ولكنها لم تصل إلى تحقيق العدالة التي يجب أن تكون موجودة في كل دول العالم دون استثناء، إسرائيل ارتكبت خطأ كبيرا عندما ذهبت في صراعها مع غزة إلى أبعد مما يجب وجعل العالم يفسر تصرفاتها رغبة نحو الإبادة الجماعية لسكان غزة التي يسكنها أكثر من مليوني إنسان، وليس من المنطق أن يكونوا جميعا هدفا في الحرب الدائرة.

إذا كانت إسرائيل بإعلانها الحرب على غزة ترى أنها مخولة في ذلك وفق معايير الدفاع عن النفس، فإن الواجب عليها أن تثبت للعالم أن وراء ذهابها لتلك الحرب قضية عادلة وليس هجوما على الإنسانية في مجتمع غزة دون تفريق في المعايير، إسرائيل التي باشرت الحرب على غزة عملت على استغلال الموقف لتحقيق أهداف متفرقة رفضتها محكمة العدل الدولية التي أثبتت بالأدلة والبراهين أن ما حدث في غزة تجاوز فكرة الحرب الطبيعية، فالتدمير والتهجير اللذان حدثا والقتل الشامل مشهد يصعب تصوره في الواقع الإنساني

اليوم نشهد بداية اصطدام إسرائيلي مع مواقف دولية جديد ومفاجئة لإسرائيل التي لم تعتد عليها، فما حدث في غزة هو ضد كل المعايير الإنسانية، وتدمير غزة وسكانها بهذه الطريقة لم تستطع إسرائيل تبريره إلا وفق معادلة هشة وغير مقبولة، لأن عدد من قتل من الفلسطينيين كان مسارا محتملا نحو الإبادة الجماعية بلا أدنى شك، وهذا ما أدركته محكمة العدل الدولية ونطقت به في حكمها، فرص إسرائيل الفعلية هي التخلي عن أحلام بعيدة والعودة إلى الواقع وقبول مشروعات السلام التي تمنح الفلسطينيين حقهم، وإلا فالنتيجة المنتظرة انقلاب دولي تدريجي تجاه أفعال إسرائيل وسيفرض عليها مستقبلا ما يريده العالم وليس ما يريده نتنياهو.

محكمة العدل الدولية معنية، منذ تأسيسها عام 2002، بمحاكمة ومعاقبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب أو تطهير عرقي، فقد امتنعت واشنطن عن التوقيع على اتفاقية الانضمام إليها، وعندما وصل الأمر لاتهام الجيش الأمريكي بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضد معتقلين في أفغانستان عام 2018 هددت واشنطن القضاة العاملين في المحكمة بالمنع من دخول الولايات المتحدة وبتجميد أرصدتهم البنكية وبمحاكمتهم، وذلك لأن محاكمة جنود أمريكيين، كما قال جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأمريكي حينها، «تعد خرقا لسيادة بلاده,, ورغم ذلك من الناحية القانونية، فإن خيبة الأمل الانسانية لا يجب ان تحجب الأنظار عن الانجاز الهام لقرار المحكمة ولأسباب عدة. فالمحكمة، وبأغلبية كبيرة، قررت ان ما تقوم به اسرائيل يشكل سببا معقولا للظن بارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، ولذا فالمحكمة أقرت بصلاحيتها النظر في القضية المرفوعة من قِبَلِ جنوب أفريقيا. يجب هنا ان نُفرق بين الإدانة الشعبية التي لا تحتاج إلى مرافعات ومداولات، وبين الإدانة القانونية التي تتطلب دراسة كل الحجج والبيّنات قانونيا ومن مختلف الأطراف، الأمر الذي يأخذ حكما، وقتا طويلا. إذن، فان مجرد قبول الدعوى وضع إسرائيل قانونيا في موضع الاتهام من أعلى سلطة قضائية دولية.

***

نهاد الحديثي

يبدأ حلف شمال الأطلسي قريبا، أكبر مناورة عسكريه له منذ الحرب الباردة باسم مناورات "المدافع الصامد 2024"، وهو اسم الدورة التدريبية القتالية للجيوش الغربية، وتستمر حتى مايو 2024، ومن المقرر أن يشارك في التدريبات نحو 90 ألف فرد وأكثر من 50 سفينة ونحو 80 مقاتلة ومروحية وطائرة بدون طيار وما لا يقل عن 1.1 ألف مركبة قتالية، منها 133 دبابة و533 مركبة قتال مشاة.

وكانت آخر مرة أجرى فيها حلف شمال الأطلسي مناورات بهذا الحجم في عام 1988، حيث شارك فيها 125 ألف جندي، وفي القرن الحادي والعشرين، جرت آخر مناورات واسعة النطاق يمكن مقارنتها بالتدريبات الحالية في عام 2018، وشارك فيها حوالي 50 ألف جندي، وقد يتساءل البعض، لماذا يقوم حلف شمال الأطلسي بمناورات "المدافع الصامد 2024" الضخمة والمكلفة للغاية؟ في ظل وجود أزمة اقتصادية في أوروبا، واحتجاجات المزارعين، ومشاكل مالية في أوكرانيا، علاوة على ذلك، فإن روسيا لن تهاجم أي دولة من دول الناتو.

ولا يختلف اثنان اليوم في الرأي، من إن البرنامج الأقصى لقيادة الناتو هو تخويف القيادة الروسية وإجبارها على الاستسلام، ومع ذلك، هذا أكثر من إشكالية، ولكن سيتم ضمان اكتمال الحد الأدنى من البرنامج، لأقناع المواطن الأوروبي في الشارع بأن حلف شمال الأطلسي "من التايغا الفنلندية إلى البحار البريطانية" ، هو "الأقوى على الإطلاق"، وسيحصل الأفراد العسكريون في القوات المسلحة الأوكرانية، وسكان أوكرانيا على ضمانة "النصر".

ليس سراً أن القوات المسلحة الروسية، هي أدنى بكثير من الناتو في الأسلحة التقليدية في البر والبحر والجو، ومع ذلك، يعيش العالم في العصر النووي منذ أكثر من 70 عامًا، ولولا الأسلحة النووية، لكانت مسألة وجود حلف شمال الأطلسي قد تم حلها في الخمسينيات من القرن الماضي ، في ظروف التفوق الكامل للجيش السوفيتي على القوات المسلحة لجيوش أوروبا والولايات المتحدة، وإن الطريقة الوحيدة الممكنة لوقف تأثير مناورات الناتو ، هي إجراء تدريبات في موقع اختبار"نوفايا زيمليا" (أرخبيل نوفايا زيمليا، المدرج في حدود منطقة أرخانغيلسك- تم إنشاؤه في عام 1954 لدراسة الآثار الضارة للانفجارات النووية على المنشآت البحرية)، بتفجيرات نووية حقيقية، علاوة على ذلك، يمكن دمج هذه التدريبات مع تجارب الأسلحة النووية.

بالإضافة الى ذلك انفجرت وسائل الإعلام الغربية الرائدة بوابل من التعليقات على تقرير جديد صادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) ومقره لندن، بعنوان "الفكر والعقيدة العسكرية الروسية فيما يتعلق بالأسلحة النووية غير الاستراتيجية: التغيير والاستمرارية، والمعهد ، هو مركز تحليلي عسكري غربي رائد متخصص في تقييم الإمكانات العسكرية للدول حول العالم، ويحدد التقرير الجديد بشكل أساسي العقيدة النووية الجديدة للاتحاد الروسي، والتي تم وضعها بموجب مرسوم أصدره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتاريخ 2 يونيو 2020، وجاء فيها بالأبيض والأسود: “إن الاتحاد الروسي يحتفظ بالحق في استخدام الأسلحة النووية رداً على استخدام الأسلحة النووية وأنواع أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضده و(أو) حلفائه، وكذلك في حالة حدوث ذلك”. العدوان على الاتحاد الروسي باستخدام الأسلحة التقليدية عندما يكون وجود الدولة في حد ذاته مهددًا ...

ويرى المراقبون الروس ان مؤلف التقرير هو المحلل العسكري البريطاني الشهير ويليام ألبيرك، شغل سابقًا منصب مدير مركز الناتو للحد من الأسلحة ونزع السلاح وعدم الانتشار (ACDC)، والذي عمل لمدة 25 عاماً في مجال الحد من التسلح ونزع السلاح وعدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، ويحلل إمكانية استخدام روسيا "الأسلحة النووية غير الاستراتيجية" (Nonstrategic Nuclear الأسلحة) وهذا ما تشير إليه اللغة العامية العسكرية الغربية بالأسلحة النووية التكتيكية والعملياتية، المجهزة بشكل خاص بصواريخ كروز، انه من الواضح أن ألبيرك يشوه "الحقائق والحقائق" عندما يزعم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "ينظر إلى NSNW باعتبارها سلسلة من الأدوات المرنة التي يمكنه استخدامها... لمنع القوى الخارجية من التدخل في أي صراعات تعتبرها روسيا حاسمة لمصالحها، وإجبار المعارضين على الموافقة على إنهاء الحرب بشروط تمليها روسيا، ومنع تصعيد أي صراع محلي في المسرح المحلي (على سبيل المثال، أوروبا) من خلال تدخل الناتو، ومنع تصعيد أي صراع محلي إلى المستوى الاستراتيجي للحرب (أي التصعيد إلى هجمات مباشرة على الأراضي الأمريكية والروسية).

ولم يسبق لفلاديمير بوتين، ولا أي شخص آخر من القيادة العسكرية السياسية لروسيا، أن شارك في مثل هذا الابتزاز، وما يمنع الجهات الفاعلة الخارجية من بين القوى العسكرية الرائدة، هو وجود ترسانة روسية قوية من الأسلحة التكتيكية والتشغيلية التكتيكية، وإمكانية استخدامها منصوص عليها بوضوح في الطبعة الجديدة للعقيدة النووية للاتحاد الروسي، وفي تقريره، يدرس ويليام ألبيرك بشكل رئيسي، التدابير الممكنة للسيطرة على القوات النووية الروسية، و"إن إحدى الأدوات لفهم سيناريوهات NSNW الروسية هي تتبع تحركات قوات الدفاع الإشعاعية والنووية، وخاصة مراقبة كيفية تفاعل قوات الدفاع الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية والنووية (CBRN-D) مع القوات النظامية وعالية الاستعداد التي يمكن أن تعمل في بيئة إشعاعية، ويقترح المحلل البريطاني أيضًا ، مراقبة أي تغييرات في منشآت التخزين النووية الروسية - عددها وحجمها ومستوى نشاطها الداخلي وأي تحركات مرتبطة بها داخل وخارج البلاد، بالإضافة إلى التغييرات في موقع أنظمة التسليم ذات الأغراض الخاصة أو ذات الاستخدام المزدوج"، تدريبات نووية أو تدريبات تقليدية بمرحلة نووية وأي عمليات نشر يمكن اكتشافها [للأسلحة النووية]”.

ودعونا نتذكر أنه لم يتم إجراء تجارب نووية كاملة في الجو والفضاء وتحت الماء لمدة 62 عامًا (!) - منذ عام 1962، ولم يتم إجراء اختبارات مصطنعة في المناجم تحت الأرض منذ عام 1996، أي 28 عامًا، ولكن أي سلاح يخضع للتفتيش المنتظم، وقد تم الآن إنشاء العشرات من الأنواع الجديدة من الأسلحة، ولا أحد يعرف كيف ستعمل في حرب نووية، وأن الجنرال النمساوي ويرثر، كان يشارك في النمذجة الرياضية للعمليات القتالية عشية معركة أوسترليتز، وبالتالي فإن استئناف التجارب النووية يشكل ضرورة ملحة، سواء من دون تدريبات حلف شمال الأطلسي أو من دون نشوب صراع في أوكرانيا.

وقدتم تنفيذ أول انفجار نووي في موقع اختبار نوفايا زيمليا (الاسم المستعار للموقع هو   "Spetsstroy-700" ) في 21 سبتمبر 1955، وفي 30 أكتوبر 1961، تم إسقاط قنبلة القيصر، المعروفة أيضًا باسم أم كوزكا، بسعة 50 ميغا طن، من طائرة من طراز Tu-95-202 في ساحة التدريب، بالإضافة إلى ذلك، في عام 1961، أسقطت طائرات Tu-16 وTu-95 22 قنبلة أخرى على " نوفايا زيمليا" ، وفي عام 1962، بدأت وحدات الطيران القتالية بعيدة المدى التدريب في نوفايا زيمليا، وأسقطت قاذفات القنابل Tu-95 وTu-16 و(3M إجمالي 20 طاقمًا) 35 قنبلة تتراوح قوتها الإنتاجية من 6 كيلو طن إلى 21 ميغا طن، وفي 8 فبراير 2023، صرح المدير العلمي للمركز النووي الفيدرالي الروسي - معهد أبحاث عموم روسيا للفيزياء التجريبية، فياتشيسلاف سولوفيوف، ان هناك برنامج خاص معمول به للحفاظ على جاهزية موقع الاختبار وأن موقع الاختبار جاهز لبدء الاختبار.

وبات معلوما، ان المملكة المتحدة أصبحت مؤخرًا أول دولة من دول مجموعة السبع التي وقعت اتفاقية بشأن الضمانات الأمنية مع أوكرانيا، ومدة صلاحيتها عشر سنوات، وكما أعلن رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك عن أكبر حزمة مساعدات لأوكرانيا بقيمة 3.2 مليار دولار، وتتكون الوثيقة من تسعة أجزاء إن لندن ملتزمة بتزويد أوكرانيا بالمساعدة الشاملة لاستعادة ما تسميه لندن سلامتها الإقليمية داخل الحدود المعترف بها دوليا، فضلا عن استعادة الاقتصاد وحماية المواطنين الأوكرانيين، في غضون ذلك قال رئيس مكتب رئيس أوكرانيا، أندريه إرماك، إن الضمانات الأمنية ستساعد في تهيئة الظروف "للتنفيذ الكامل لحق أوكرانيا في الدفاع عن النفس" وستساعد أيضًا كييف على الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، حسبما ذكرت صحيفة الغارديان.

فهل سيحدث التلوث الإشعاعي في القطب الشمالي بعد التجارب النووية؟ بالتأكيد سيحدث، ولكن ليس كثيرا، فقد أظهرت العديد من الدراسات الخاصة لمستوى التلوث في مياه بحر بارنتس وساحل "نوفايا زيمليا"، أنه بعد توقف التجارب النووية في الغلاف الجوي، بدأ النشاط الإشعاعي في الانخفاض بسرعة، ثم زاد مرة أخرى، لماذا؟ بسبب إلقاء نفايات المحطات النووية في إنجلترا في المحيط الأطلسي، فإن طبيعة واتجاه التيارات في هذه المنطقة تجعل الجزء الشرقي من بحر بارنتس والساحل الغربي لنوفايا زيمليا يتحولان إلى مكب نووي .

ألم يحن الوقت لكي نشرح للعالم أجمع أن "الخضر" الأوروبيين في حكومات دول الاتحاد الأوروبي، قد نسوا كل ديماغوجيتهم ويقومون بتدمير البيئة علانية من خلال تشغيل مشاريع تعمل بالفحم، وإنهم يرسلون المزيد والمزيد من أنواع الأسلحة المدمرة لتحويل الأراضي الأوكرانية إلى صحراء، والأهم من ذلك أن الوزراء "الخضر" يدفعون العالم نحو حرب نووية حرارية، وفي ضوء التصريحات العديدة للمسؤولين الغربيين حول احتمال النشر المحدود للقوات في أوكرانيا تحت رعاية دول فردية، وليس تحت رعاية الناتو بأكمله، يبدو تصريح الجنرال الأوكراني على خلفية النقص المتزايد في الموارد البشرية والعسكرية، بتصريحات من هذا النوع (مطالبات إقليمية ومراجعة للوضع النووي لروسيا)، مثيرًا للقلق للغاية .

وقد يتساءل المرء، لماذا كل هذه الضجة حول التهديد النووي الروسي الوهمي تماما؟، وتم توضيح الوضع من خلال مقابلة أجراها نائب وزير الدفاع الأوكراني إيفان غافريليوك مع صحيفة دير شبيغل الألمانية، حيث قال: “كل الحروب تنتهي على طاولة المفاوضات بتوقيع وثائق معينة، وأعتقد أن الشيء نفسه سيحدث في "حالتنا"، وسيتم التوقيع على الاتفاقيات من قبل تحالف الدول التي تدعم أوكرانيا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، ويجب أن تتضمن هذه الوثيقة بندا بشأن تخلي روسيا الاتحادية عن الأسلحة النووية، لأن هذه الدولة تشكل تهديدا للعالم، كما ويؤيد الغرب إن الأسلحة النووية الروسية تطارد الغرب الجماعي، وهو ما يعني أن على روسيا أن تحافظ على مسحوقها النووي جافاً، ولكن أيضاً ألا تستسلم للاستفزازات.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

التطبيع مع الاحتلال المستمر هو احتلال آخر تمت مناقشته على نطاق واسع في سياق احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية. يشير مفهوم التطبيع إلى فكرة أنه من خلال تطبيع العلاقات مع قوة الاحتلال، يكون السكان المضطهدون متواطئين في قمعهم. يهدف هذا المقال إلى التعمق في الحجج المحيطة بهذا الموضوع، وتسليط الضوء على تأثير التطبيع على النضال الفلسطيني من أجل تقرير المصير.

إحدى الحجج الرئيسية ضد التطبيع هي أنه يضفي الشرعية على الاحتلال ويديم اختلال توازن القوى. ومن خلال الانخراط في تفاعلات طبيعية، يُنظر إلى الفلسطينيين على أنهم يقبلون الوضع الراهن ويتغاضون بشكل فعال عن الاحتلال. ويمكن أن يظهر هذا التطبيع بأشكال مختلفة، بما في ذلك التبادل الأكاديمي والثقافي والتعاون في المشاريع الاقتصادية، وحتى المشاريع الحكومية المشتركة. ويرى النقاد أن هذه التفاعلات تساعد في الحفاظ على الاحتلال، حيث تستفيد قوة الاحتلال من تطبيع العلاقات بينما تستمر معاناة السكان المضطهدين.

ويشكل التطبيع أيضا خطر تحويل الانتباه بعيدا عن القضية الأساسية المتمثلة في إنهاء الاحتلال وتحقيق تقرير المصير الفلسطيني. ومن خلال الانخراط في تفاعلات طبيعية، يتحول التركيز من المظالم التي تحدث في ظل الاحتلال إلى بناء الجسور مع قوة الاحتلال. يتيح هذا التحويل لدولة الاحتلال أن تبدو أكثر خيرا واستعدادا للبحث عن حلول سلمية، بينما يبقى واقع الاحتلال دون تغيير. ويكمن الخطر في تطبيع العلاقات في احتمال أن يصبح النضال الفلسطيني غير مسيس، مما يؤدي إلى تآكل الدعم لقضيتهم وإعاقة الجهود الرامية إلى إحداث تغيير حقيقي.

 يمكن أن يؤدي التطبيع إلى تهميش وإسكات الأشخاص الأكثر تضررا من الاحتلال. وفي سعيهم إلى الحياة الطبيعية، غالبا ما يتم تصنيف الفلسطينيين الذين يتحدثون ضد الاحتلال على أنهم متطرفين أو إرهابيين. ومن خلال الانخراط في تفاعلات طبيعية، يتم تجاهل مظالمهم ويتم قمع أصواتهم. ويخلق هذا التهميش بيئة تصبح فيها الآراء والروايات المعارضة غير مرئية، مما يساهم في إدامة الاحتلال.

و يرى المؤيدون أن التطبيع يمكن أن يكون أداة فعالة للمقاومة والتغيير. ومن خلال التعامل مع الإسرائيليين على منصات مختلفة، يستطيع الفلسطينيون تحدي التحيزات والقوالب النمطية، وتعزيز التفاهم، وتعزيز السلام. يرى البعض أنه من خلال التفاعلات الطبيعية، يمكن للفلسطينيين إضفاء الطابع الإنساني على أنفسهم وتقديم واقع تجاربهم الحياتية، وكشف ظلم الاحتلال. في ضوء ذلك، يمكن النظر إلى التطبيع على أنه شكل من أشكال المقاومة، مما يوفر فرصا لتغيير العقليات وتعزيز الوعي.

ومع ذلك، يؤكد المنتقدون أن التطبيع دون إطار سياسي واضح هو أمر معيب بطبيعته. وفي غياب حل شامل وعادل للصراع، يصبح التطبيع لفتة فارغة لا يستفيد منها سوى المحتل. وبدون معالجة الأسباب الجذرية للاحتلال وتحقيق العدالة السياسية والإقليمية، فإن أي محاولات للتطبيع قد تصبح متواطئة في إدامة الاحتلال.

إن التطبيع قضية معقدة وليس لها إجابات سهلة، ولكن من الأهمية بمكان دراسة الأبعاد المختلفة لهذه المناقشة. عند مناقشة التطبيع مع الاحتلال المستمر، من الضروري إجراء تحليل نقدي لديناميكيات القوة المؤثرة والنظر في الآثار المترتبة على مثل هذه التفاعلات. وينبغي أن يكون الهدف النهائي التوصل إلى حل عادل ودائم للصراع الإسرائيلي الفلسطيني يحترم حقوق وكرامة جميع الأطراف المعنية.

التطبيع مع الاحتلال

إن التطبيع مع الاحتلال المستمر أمر خطير لأنه يديم ويضفي الشرعية على وجود قوة احتلال بينما يقوض حقوق وكرامة السكان الخاضعين للاحتلال. ويشير مصطلح التطبيع إلى العملية التي يتم من خلالها قبول الوضع القائم كمعيار أو قاعدة، مما يعني في كثير من الأحيان أن الاحتلال هو واقع دائم ولا مفر منه. ومع ذلك، فإن هذه الأيديولوجية تتجاهل المبادئ الأساسية للعدالة والمساواة وتقرير المصير التي ينبغي أن توجه الصراعات التي تنطوي على احتلال أجنبي.

أولا، يؤدي التطبيع مع الاحتلال المستمر إلى تطبيع الاحتلال بشكل خطير باعتباره وضعا راهنا مقبولا، مما يضعف الحاجة الملحة إلى معالجة الأسباب الجذرية للصراع. ومن خلال قبول الاحتلال كحالة طبيعية، تكتسب قوة الاحتلال الشرعية وتعزز سيطرتها على الأراضي المحتلة. وهذا يقوض جهود الشعب المحتل والمجتمع الدولي لتحدي الاحتلال والبحث عن حل عادل.

علاوة على ذلك، فإن التطبيع يؤدي إلى تطبيع المظالم اليومية وانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها سلطة الاحتلال ضد السكان الخاضعين للاحتلال. فهو يخلق شعورا بالرضا عن النفس، مما يسمح لقوة الاحتلال بمواصلة ممارساتها القمعية دون عواقب وخيمة أو ضغوط للتغيير. وهذا يؤدي إلى إدامة دورة من الانتهاكات المنهجية والتمييز وتجريد السكان الخاضعين للاحتلال من إنسانيتهم.

 يشكل التطبيع مع الاحتلال المستمر تهديدا لحياة ومعيشة السكان الخاضعين للاحتلال. غالبا ما تفرض سلطة الاحتلال قيودا على الحركة، والوصول إلى الخدمات الأساسية، والفرص الاقتصادية، مما يعيق تنمية وازدهار الأراضي المحتلة. وهذا لا ينتهك حقوق الشعب الواقع تحت الاحتلال فحسب، بل يعيق أيضا قدرته على بناء اقتصاد ومجتمع مستدامين ذاتيًا.

كما أن التطبيع يقوض مبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى إنهاء الاحتلال واحترام حقوق الشعب المحتل. إنه يبعث برسالة مفادها أن الدول القوية يمكنها تجاهل القانون الدولي مع الإفلات من العقاب، وتجاهل حقوق وتطلعات السكان الخاضعين للاحتلال. وهذا يشكل سابقة خطيرة يمكن استغلالها من قبل قوى الاحتلال الأخرى في جميع أنحاء العالم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التطبيع مع الاحتلال المستمر يمكن أن يؤدي إلى تعميق الانقسامات بين السكان الخاضعين للاحتلال، حيث قد يقبل البعض الاحتلال بينما يستمر الآخرون في المقاومة. إنه يخلق انقسامًا يضعف قوة النضال الجماعي من أجل العدالة والتحرر. وهذا الانقسام يخنق إمكانية الوحدة والتضامن الضروريين لحركة تحرير ناجحة.

علاوة على ذلك، فإن التطبيع يضعف دعم المجتمع الدولي لقضية السكان الخاضعين للاحتلال. فهو يخلق ارتباكا وغموضا بين الجهات الفاعلة العالمية، مما يخفف الضغط على قوة الاحتلال لإنهاء الاحتلال والامتثال للقانون الدولي. إن هذا الافتقار إلى الضغط الدولي يسمح لقوة الاحتلال بالتصرف دون عقاب وتعزيز سيطرتها على الأراضي المحتلة.

 يؤدي التطبيع إلى إدامة مناخ من الخوف وانعدام الأمن بين السكان الخاضعين للاحتلال. غالبا ما تستخدم قوة الاحتلال جهازا أمنيا متشددا لقمع أي مقاومة أو معارضة، مما يؤدي إلى انتشار ثقافة المراقبة والاعتقالات والعنف. ويخنق مناخ الخوف هذا أي تطلعات إلى الحرية والعدالة وتقرير المصير بين السكان الخاضعين للاحتلال.

إن التطبيع مع الاحتلال المستمر يعيق إمكانية إجراء حوار ومفاوضات هادفة بين قوة الاحتلال والسكان الخاضعين للاحتلال. ومن خلال قبول الاحتلال كأمر طبيعي، فإن قوة الاحتلال ليس لديها أي حافز للانخراط في عملية حقيقية لبناء السلام وحل الصراعات. وهذا يديم دائرة العنف والقمع، ويمنع أي مناقشات بناءة تهدف إلى إيجاد حل عادل ودائم.

إن التطبيع مع الاحتلال المستمر يتجاهل المسؤولية التاريخية والأخلاقية لقوة الاحتلال في معالجة المظالم التي لحقت بالسكان الخاضعين للاحتلال. وبدون الاعتراف بأخطاء الماضي والحاضر ومعالجتها، تصبح المصالحة مستحيلة، ومن المرجح أن تستمر دائرة العنف والصراع.

التطبيع مع الاحتلال المستمر أمر خطير لأنه يضفي الشرعية على الاحتلال الظالم والظالم ويديمه. يقوض هذا التطبيع القانون الدولي وحقوق الإنسان والنضال المستمر للسكان المحتلين من أجل الحرية وتقرير المصير. ومن الضروري تحدي ومقاومة التطبيع، والمطالبة بإنهاء الاحتلال، والعمل على إيجاد حل عادل ودائم يحترم حقوق وكرامة جميع الأشخاص المتضررين من الاحتلال.

التطبيع مع العدو

التطبيع مع العدو يختلف عن التطبيع مع الاحتلال المستمر. يشير التطبيع مع العدو إلى عملية إقامة علاقات طبيعية مع عدو سابق بعد فترة من الصراع أو الاحتلال. ويمكن فهم ذلك على أنه تحول في الموقف تجاه المصالحة والتفاهم المتبادل بين الدول أو الجماعات المعادية سابقا. ومن الأهمية بمكان أن نعترف بأن التطبيع بعد الاحتلال يختلف عن أشكال الاحتلال الأخرى، لأنه يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى العملية. سنتناول في هذا المقال مفهوم التطبيع مع العدو من زوايا مختلفة، ونناقش دلالاته وتحدياته وفوائده المحتملة.

أولا وقبل كل شيء، من المهم أن نفهم أن التطبيع مع العدو لا يعني التغاضي عن صراعات الماضي أو نسيانها. وبدلا من ذلك، يشهدف إلى بناء الجسور وخلق بيئة مواتية للسلام والاستقرار. أحد الجوانب الرئيسية للتطبيع هو إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الأطراف المعنية. ويشمل ذلك تبادل السفراء، والمفاوضات بشأن اتفاقيات ثنائية، وفتح قنوات للحوار. تسمح مثل هذه التفاعلات بالحل السلمي للنزاعات وخلق فرص للتعاون بشأن التحديات المشتركة، مثل التنمية الاقتصادية أو القضايا البيئية.

التطبيع مع العدو يمكن أن يحقق فوائد هائلة لكلا الطرفين المعنيين. ومن خلال الانخراط في العمليات الدبلوماسية والحوار البناء، يصبح من الممكن معالجة مظالم الماضي وإيجاد أرضية مشتركة للمصالحة. على سبيل المثال، في حالة الولايات المتحدة وكوبا، أدت عملية التطبيع إلى رفع الحظر التجاري وقيود السفر، مما أدى لاحقا إلى تحسين الظروف الاقتصادية لكلا البلدين. علاوة على ذلك، يمكن للتطبيع أن يعزز الروابط بين الناس، والتبادلات الثقافية، والتعاون التعليمي، وكلها تساهم في فهم وتقدير أكبر لتاريخ وقيم كل طرف.

لكن التطبيع مع العدو ليس دائما مسعى سهلا. ويتمثل أحد التحديات الرئيسية في العداء العميق وانعدام الثقة بين قوة الاحتلال والسكان الخاضعين للاحتلال. ويتطلب التطبيع التغلب على هذه الحواجز وبناء أساس من الثقة، وهو ما قد يستغرق سنوات، إن لم يكن عقودا، لتحقيقه. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يواجه التطبيع معارضة من داخل البلدين. على سبيل المثال، قد تقاوم الفصائل المتشددة أو مجموعات المصالح بشدة أي شكل من أشكال التعاون أو التطبيع، خوفا من أن يشكل تهديدًا لمصالحها السياسية أو الاقتصادية.

نوع آخر من الاحتلال يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى عملية التطبيع مع العدو. وفي مثل هذه الحالات، تكون الأراضي المحتلة تحت سيطرة قوة أجنبية، منفصلة عن الدولة المعادية. وتطرح هذه الديناميكية المعقدة عقبات إضافية أمام عملية التطبيع، لأنها تتطلب التنسيق وإشراك جهات فاعلة متعددة. إن إيجاد توازن بين مصالح وتطلعات السكان الخاضعين للاحتلال، وقوة الاحتلال، والدولة المعادية يمكن أن يكون مهمة حساسة، ولكنها ضرورية.

أحد الأمثلة التاريخية لنوع آخر من الاحتلال هو الوضع في فلسطين، حيث تحتل إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة. يواجه التطبيع مع إسرائيل تحديات عديدة بسبب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني طويل الأمد، والتفسيرات المتباينة للتاريخ، والعقبات السياسية. ومما يزيد من تعقيد الجهود المبذولة لتطبيع العلاقات الانقسامات الداخلية داخل المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني وتأثير الجهات الخارجية المشاركة في الصراع. لكن رغم هذه التحديات، تظل إمكانية التطبيع ضرورية لتحقيق التعايش السلمي وحل الصراع في المنطقة.

وفي الختام، فإن التطبيع مع العدو، خاصة بعد فترة من الاحتلال، هو عملية معقدة ومتعددة الأوجه. إنها تنطوي على إقامة علاقات دبلوماسية وتعزيز الحوار وبناء الثقة بين الدول أو الجماعات المعادية سابقا. ورغم أن هذه مهمة صعبة، إلا أن التطبيع يمكن أن يحقق فوائد هائلة من خلال تعزيز المصالحة والتعاون والتفاهم. ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان أن ندرك التحديات الكامنة في هذه العملية، بما في ذلك العداوات العميقة الجذور، والمعارضة من الفصائل المتشددة، والتعقيدات التي يفرضها نوع آخر من الاحتلال. ومع ذلك، يظل السعي إلى التطبيع مع العدو ضروريًا لتحقيق السلام الدائم والاستقرار والازدهار.

***

محمد عبد الكريم يوسف

اليوم أود أن أتناول موضوعا، يعتقد الكثير منا، أنه سخيف فارغ،لا طائل تحته، ولا غناء فيه، فحديثي عن الهوس، الذي أهيئُ عقلي المكدود الآن للكتابة عنه، على غير تأهب ولا استظهار، هو من المسلمات التي تراها بعض شرائح المجتمع وترتضيها، هذه الفئات التي تؤثر ذلك الشيخ أو" الفقير" كما نطلق عليه في مجتمعنا السوداني،  لزهده في متاع الدنيا الزائل، وافتقاره لأبسط مقوماتها، ذلك الشيخ الذي يحاول شيئا لا سبيل له في اعتقادنا، فيتمكن من نيله وتحقيقه، فالعلوم التي أتقنها واستقصاها، إضافة للبركة التي تسري  في شتى خلاياه ونواحيه، هي التي كفلت له أن يرتحل في أقطار الأرض، ويطوف بشتى بقاعها وهو مقيم، فالشيخ الذي أيسر ما يتحدث فيه الناس، أنه قد شوهد قائما يصلي  في في ركن قصي من أركان مسجده، ذلك المسجد الذي يثبت فيه ويستقر، سائر يومه، هو المكان الذي تنهمر عليه الوفود في غير جهد وكد، حتى تنال الرضا والقبول والاستحسان، فالشيخ الملازم لحلس مسجده، ولا يغادره إلا  لانجاز فصول من قصصه، التي تحقق له الحيرة والدهش والاعجاب، قصص بركته وصلاحه، التي من أجلها يحظى بالاعجاب كله، والثناء كله، والتقدير كله، يجلس هذا الشيخ في تواضع جم وهيبة لا تخطئها العين، وتبدو على محياه النضر مظاهر الخشية والوقار، وتحيط به جموع الأحباب والمريدين، الذين يرمقهم بطرفه الوسنان من طول التهجد وقيام الليل، فيقرأ التعابير التي تعج بها قسمات وأخاديد وجوههم بينه وبين نفسه، ثم يتحدث بها إلى خاصته بصوت مرتفع، فيسمعه أصحاب هذه القسمات، فيزداد هذا الوله، ويضطرم ذاك الشعور، وتعلو بعدها نبرات  الاكبار على ألسنة المحبين، والناس في هذه الأجواء المترعة بالتأثر، واللهفة لالتماس المنافع، واكتساب المعرفة، واجتلاب الحلول، لقضاياهم التي تؤرقهم، وتنقص عليهم حياتهم، فالكل يسعى ويجتهد من أن يقترب من الشيخ، حتى يعطيه صورة صادقة عن كنه المرض الذي يعاني منه، والعلة التي يجهلها، إذن دعونا نترك الناس في تدافعهم المحموم هذا، وازدحامهم حول شيخهم، ولا نلتفت لأقارب الشيخ وخاصته، وهم يسعون لاطفاء جذوة حماس الناس التي لا يعرف الخمود إليها سبيلا، دعونا نذود كل هذا بالفتور والإهمال، لنراقب هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى،  حتى يخبرنا بقصة رديئة إلى أقصى حدود الرداءة، شنيعة إلى أنأى آماد الشناعة، قصة لا تنفع إلا لهذا العبث الخصب، والتهكم العاتي، هي قصة ابتدعها صاحبها في يسر، وحبك خيوطها في سهولة، ولم تحتاج أن يبذل فيها ما نبذله نحن في مقالاتنا من مصوغات وتبارير، فقصة الرجل، نحن نعلم من أمرها أكثر مما نجهل، هذا الشخص الذي لم يجهد نفسه ليأتي بشواهد أو قرائن تؤكد مزاعمه، فأقصى مجهود فعله، هو أنه أطلق لسانه بغير حساب، وتحدث بهذا الهراء في حدة ونشاط، وأقبل بعدها على يد شيخه يقبلها ويعانقها ويضمها إليه في الحاح وشدة،  والشيخ الذي لم يسحب يده منه، يؤنبه ويلومه، ويلح عليه في التوبيخ والتقريع، لأنه قصد أن يخفي هذه المكرمة، فأذاعها هو في اسراف وجموح، لقد كلف هذا الرجل الناس الذين يقيفون في مكان بعيد عن الشيخ، فوق ما يطيقون، فلا سبيل لهم أن ينتهوا إلى مكان حبرهم الجليل، أو حتى يجتازوا مسافة تكفل لهم نظرة ترضي الحس، وتغذي الشعور، لقد ادعى هذا الرجل الذي يعرف طبائع الناس وأمزجتهم، أن شيخهم المحبوب الماثل أمام بصرهم، قد تركه في تلك القرية النائية التي أوصلها إليه بسيارته الفارهة، التي تطوي فدافد الأرض طيا، ليعتني بمريض قد أشفى على الهلاك، هذه القرية بينها وبين مقر اقامته فراسخ وأميال، وأنه قد تركه وحضر ليقضي أمور لا يحسن فيها الإهمال، فقد جلب لزغبه وعياله، ما يقيم أودهم، ويعصمهم من عاديات الغرث والجوع، فتفاجأ بمن يخبره أن الشيخ حاضرا ومتواجدا في مسجده، فصمم أن يراه، ويصل إليه، رغم ما قد يكتنف طريقه من عقبات، ليحكي هذه المعجزة الفريدة للناس، كل الناس، حتى تغدو هذه المعجزة، من أسمى كرامات الشيخ، وأكثرها وضوحا، وأعلاها مرتبة.

وأنت إذا توطدت صلتك بهذه الشرائح الغارقة في هوى المشايخ الذين لا يبطرهم الفوز، أو يمضهم الاخفاق، تسمع طرائفا من الأعاجيب، وقصصا لا تستطيع أن تهضمها إلا بعد عناء طويل، فتلك المعجزات والكرامات، التي يسرف عقلك في انكارها، وازدرائها، والاستخفاف بها، والشفقة على من ينافحون عنها في حرص، ويدافعون عنها في غلو، كما يدافع المرء عن حياته في صدق وإخلاص، فبينما أنت تتجهم لها، ولا تستعذب التعامل مع طائفتها، إلا وأنت محرج، أو مدفوع إلى الحرج، تخضع لها هذه الطائفة وتذعن، وتدافع عنها بحجج ساطعة وبرهان مستقيم.

ومن الأخطاء الجسيمة التي نزجي فيها النصح للقارئ، حتى لا يتورط في الوقوع فيها، خاصة إذا حضر إلى أماكن توهجها وبريقها، والسودان يحب هذا التوهج، ويطمئن إليه، عليه ألا يسدي النصح لهذه الطائفة، أو يشكك في تلك الروايات التي يجترونها على مسامعه، في ألفاظ نضرة، وعبارات حرة كريمة، تظهر دواعي الرضى، وكمال القناعة، وفي الحق هذه السلسلة من الروايات العريضة، هي التي تمنح هذا الهوس المستشري في مجتمعاتنا الوجود، فالهوس الذي نختلف حوله ونختصم،  ونجتهد لاجتثاث دوحته اجتهادا عنيفا، هو الهوس البين الصارف عن اطالة الحديث فيه، كما يقول الدكتور طه حسين، هو هذا الهوس القديم الذي عاش إلى هذا العهد، عهد الرقي والحضارة، وما زالت جموع عريضة  تظهر له الحب وترغب فيه، وأنا ككاتب مجبرا بأن أتحسس مواقع الرضى ومواقع السخط، وأستطيع أن أزعم بأن معظم الناس قد أذعنت لسمات هذا الترف الفكري، ورضيت به، فالحضارة التي أرغمتنا أن نسمع، ونرى، ونفكر، نجحت في أن تجعلنا نتجاوز هذا الهوس العظيم الخطر،ونبرأ منه، ونسعى لتنفيذ خطط وبرامج، تنقذ من بقي من ضحاياه، فتجديد الخطاب الديني ينظر في مثل هذه القضايا، فيقر الصحيح منها، ويشجب الباقي، ولا تقف مهمة التجديد عند هذا الحد، بل ينظم العلاقة بين التصوف الصحيح الخالي من أوضار الانحراف، وبين التصوف الذي يفسد عقائد الناس، ويطمس عقولهم، ويقربها من الابتذال، إن الهوس الذي نعنينه، والذي يتعين علينا  نبذه ومحاربته بعد أن بلغت الانسانية هذا الشأو، هو الهوس الذي يمكن دحضه بشيء من التفكير يسير، هو الهوس الذي نستطيع أن ننصرف عنه، حينما يزعم أحدهم في صفاقة، أنه يمكن أن ينقلنا من حالة إلى أخرى، إذا أحضرنا له ديكا يتيم الأب، أو قرأ علينا بعض الطلاسم والتهويمات، أو ألزمنا بأن نحضر إليه في عتمة كل أربعاء، حتى يدلق على أجسامنا الغضة أو الغليظة، ماء ممزوجا بدم السحالي والثعابين، حينها فقط كما يروج نستطيع أن نتخلص من هذه الأرواح الشريرة التي تعكر علينا صفو حياتنا، وتدفع عنا ما أبتلينا به من شقاء.

نصيحتي لأي  شخص قد ضاقت به الحياة، أن ينفق وقته في مرضاة الله، وأن يتمسك بلب الدين، ويتقاضى عن القشور، وأن يترك عنه هذه العزلة وهذا التشاؤم، ويثق في ربه، الذي يستمع إليه حين يناجيه، ويتحدث إليه عبر كتابه،  عندها فقط تعود إليه الغبطة التي غاب عنه شعاعها لتراكم الآثام والخطايا.

***

د. الطيب النقر

نشر السيد نبيل جعفر عبد الرضا المرسومي - والذي تقول أوساط إعلامية وأكاديمية عراقية إنه يعمل مستشاراً اقتصادياً لدى رئيس مجلس الوزراء - مقالة على مواقع التواصل الاجتماعي -الحوار المتمدن، ثم تداولت مواقع مقربة من إعلام الحكومة هذه المقالة وهي بعنوان (فلاي بغداد: إنذار اقتصادي أمريكي للعراق). ويبدو أن الكاتب، وفي غمرة حماسته في الترويج للعقوبات الأميركية المتوقعة ضد العراق، فيما إذا تصدى للهيمنة وحاول استرجاع سيادته واستقلاله المنتهكين، نسيَ موضوع "فلاي بغداد" ولم يذكره بكلمة واحدة. و"فلاي بغداد" لمن لا يعرفها هي شركة للخطوط الجوية - قطاع خاص تملكها زعامة أحد أحزاب الفساد ضمن المنظومة الحاكمة هو حزب "حزب الحكمة" والتي عاقبتها وزارة الخزانة الأمريكية بإدراجها هي ومديرها التنفيذي، في لائحة العقوبات وسرعان ما نفذ البنك المركزي العراقي تلك العقوبات الأميركية وقام بتجميد حسابات الشركة في ثلاثة مصارف عراقية رئيسية، ولكن المرسومي لم يذكر شيئاً عن هذا الحدث في سطور مقالته كما أسلفنا.

يبدأ الكاتب مقالته بمعلومة أراد لها ان تكون جرس إنذار وتهديد للقارئ تقول: "يتمتع كل من رئيس الولايات المتحدة والكونغرس بسلطة إصدار عقوبات اذْ يسمح قانون السلطات الاقتصادية الطارئة الدولية لعام 1977 للرئيس بفعل ذلك بسهولة كبيرة وقد دفعت واشنطن بالأمم المتحدة الى فرض عقوبات على جماعات واشخاص في 180 دولة". ثم يفصل الكاتب في أساليب فرض تلك العقوبات وهي كالآتي ذكره باختصار:

1- التجميد: مصادرة أصول الدولة الموجودة بالخارج وتجميد حسابات مؤسسات الدولة والأفراد.

2- القيود المالية: الاستبعاد من نظام التحويل المالي (سويفت) لإرسال الأموال عبر العالم.

3-الاستبعاد من مقاصة الدولار: حظر المعاملات المالية التي تنطوي على استخدام الدولارات الأمريكية.

4- منع الوصول لأسواق الديون العالمية.

ولكي يتخذ الإنذار والتهديد والوعيد الأميركي المعادي للعراق حجمه الحقيقي لا ينسى المرسومي أن يذكر احتمال "توسع العمليات العسكرية في العراق"، وربما يقصد توسع عمليات مقاومة الاحتلال ومحاولة طرد قواته بقوة المقاومة أو تلك العمليات الهادفة إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة والذي يتعرض للإبادة الجماعية والتخفيف عنه، فيقول: "وإذا ما توسعت العمليات العسكرية في العراق فمن الممكن ان يتعرض العراق للعقوبات الآتية". ثم يقدم المرسومي تشكيلة جديدة (سيكرر بعضها كالحرمان من استعمال نظام سويفت) لعقوبات أميركية ضد العراق هي كما يلي:

1- التوقف عن تسليم الدولار الى العراق اذ ان القوانين الامريكية مثل قانون معاقبة أعداء أمريكا تتيح لها عدم تسليم الدولار الى بعض الدول مما سيخفض كثيرا من سعر صرف الدينار العراقي مقابل الدولار وقد نشهد انهيار اكبيرا للدينار يؤدي بالنتيجة الى تضخم جامح سيذكرنا بالحصار الأمريكي على العراق. وقد يتم تجميد احتياطات العراق النقدية في البنوك الامريكية وقد يمتد الامر الى استثمارات العراقي الكبيرة في سندات الخزانة الامريكية التي تبلغ نحو 34 مليار دولار.

2- الامتناع عن التعامل مع البنك المركزي العراق وهو ما يؤدي الى فقدان ثقة العالم به.

3- فرض عقوبات على المصارف العراقية وشركات التحويل المالي مما يربك الوضع الاقتصادي ويحد من تمويل التجارة الخارجية.

4- منع العراق من استخدام نظام التحويل المالي (سويفت). مكرر.

5- إيقاف برمج الإقراض والاعمار والمساعدات الفنية التي يقدمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للعراق إذ أن هاتين المنظمتين تتحكم بهما الولايات المتحدة

6- التوقف عن منح العراق الاستثناء الخاص باستيراد الغاز والكهرباء من إيران ما سيؤدي الى انهيار المنظمة الكهربائية فيه.

7- ستؤثر العقوبات الامريكية المحتملة كثيرا في قطاع النفط إذ ربما ستوقف الولايات المتحدة استيراداتها من العراق التي تصل الى 400 ألف برميل يوميا وربما ستتطور العقوبات الى فرض عقوبات أمريكية على الجهات التي تشتري النفط العراقي.

8- التأثير السلبي على البيئة الاستثمارية في العراق والمتمثل بأضعاف ثقة المستثمرين وبشكل خاص ما يتعلق بالشركات العاملة في مجال النفط الامريكية منها والأجنبية.

سنناقش أدناه هذه الشبكة من العقوبات "السِّياط" الأميركية التي تولى المرسومي الترويج لها وهزّها في وجوه الاستقلاليين والوطنيين العراقيين. وأقول إنه تولى الترويج لها ليس من باب الاتهام المرسل، فلو كان يتحدث كخبير اقتصادي قريب من الخط الوطني، أو في الحد الأدنى كخبير مستقل محايد لا يعني له استقلال العراق شيئاً، لطرح هذه العقوبات بحيادية وناقشها بموضوعية، وطرح العوامل التي تقلل من تأثيرها على الاقتصاد العراقي، أو في الأقل لذكر تجارب الشعوب التي وقفت في وجه هذه العقوبات وقاومتها وانتصرت عليها أو حدَّت من تأثيرها كما سنفعل بعد قليل.

1- ولنبدأ من التجربتين اللتين ذكرهما المرسومي في معرض التلويح بالعقوبات الأميركية للعراق لا في سياق مقاومتها بل في سياق التيئيس والترهيب حين كتب وكأني به يحذر العراقيين (وقد تم استخدام هذه العقوبة من قَبل ضد إيران وروسيا بعد حربها ضد أوكرانيا). والحال فإن روسيا - يا حضرة المستشار - في طريقها بعد أن عوقبت بكل هذه العقوبات وفي مقدمتها قطع اقتصادها عن نظام (سويفت) ضمن حصار محكم أشمل، لأن يتربع اقتصادها في غضون أربع سنوات في المرتبة الرابعة عالميا بعد أن يتفوق على الاقتصاد الياباني، وبعد أن تقدم فعلا سنة 2022 على الاقتصاد الألماني.

وتذكر تقارير اقتصادية أجنبية "أن روسيا تقدمت على أوروبا بأكملها من حيث مؤشر القوة الشرائية، مع مواصلة جهود الارتقاء بنصيب الفرد من الدخل القومي".

وإذا كانت هذه المقارنة بين الاقتصادات العالمية القائمة على ما يسمى تعادل القوة الشرائية (PPP) غير مفهومة للقارئ، فيمكن، لتبسيط المعنى، الإشارة إلى ما أورده الرئيس الروسي بوتين عن نمو الناتج القومي الروسي بنسبة (3,5%) ونمو الأجور الحقيقية نسبة (7.7) بالمئة في ظروف الحصار الشامل الذي فرضته أمريكا ومن ورائها أوربا، في حين أن نمو ألمانيا هو حوالي صفر.

أما بخصوص ما ذكره الكاتب بقوله "وقد يمتد الأمر الى استثمارات العراق الكبيرة في سندات الخزانة الامريكية التي تبلغ نحو 34 مليار دولار"؛ فالواقع أن غالبية الدول التي لها أرصدة من سندات الخزانة الأميركية في حالة تراجع وسحب لأموالها بما في ذلك الدول الحليفة لأميركا كالسعودية. فقد تخلصت هذه الأخيرة من ثلاثة مليارات دولار في العام الماضي من سنداتها. والعراق نفسه، وبعد هبة شراء كبيرة خلال حكومة الكاظمي وما قبلها، تخلص من 400 مليون دولار من سنداته. ويمكن للعراق أن يتخلص من المزيد منها بالتدريج، إضافة إلى أن أموال السندات - في حالة العراق - تعتبر أموال شبه ميتة وهي أشبه بـ "الخاوة" تأخذها واشنطن من العراق مقابل حماية نظام الحكم فيه. وعموما يمكن الوصول إلى حلول عملية وعلمية لهذه المشكلة. ثم إنَّ إقدام واشنطن على تجميد أو مصادرة 34 مليار دولار عراقية ستهز ثقة العالم كله بالاقتصاد الأميركي وستسارع الدول الأخرى والتي تملك سندات بأكثر من تريليون (مليون مليون) دولار كاليابان وأكثر من 800 مليار كالصين و330 مليار كبلجيكا إلى بيع سنداتها والتوقف تماما عن شراء المزيد منها وهذه كارثة حقيقية للاقتصاد الأميركي الدولاري.

إضافة إلى ما سبق، تقول تقارير اقتصادية مستقلة "إنَّ الصين ليست الدولة الوحيدة التي باعت ديون الولايات المتحدة. فباعتبارهما أكبر حائزين للديون الأمريكية في العالم، فقد خفضت اليابان والصين حيازاتهما من السندات بمقدار 224.5 مليار دولار و173.2 مليار دولار على التوالي في عام 2022. وباعت فرنسا والمملكة العربية السعودية وبعض الدول الأخرى كميات كبيرة من سندات الخزانة الأمريكية العام الماضي، بينما باعت بلجيكا ولوكسمبورغ وإيرلندا - جزءا من سنداتها - في شهر شباط/ تقرير لصحيفة تشاينا ديلي بالإنكليزية".

ولا أعتقد أن الأميركيين حمقى إلى الدرجة التي يدمرون فيها اقتصادهم الهش بإجراءات عقابية من هذا القبيل ضد العراق أو غيره!

2- التجميد: مصادرة أصول الدولة الموجودة بالخارج. وكنت قد توقفت عند هذه العقوبة في الفقرة السابقة. فهذه العقوبة، لم تتجرأ أميركا على اتخاذها حتى ضد روسيا، وماتزال تهدد باتخاذها ولكنها مترددة لأنها لو فعلت ذلك وصادرت أموال روسيا التي تفوق ثلاثمائة مليار دولار فدول العالم كلها ستفقد الثقة بالاقتصاد الأميركي والعملة الأميركية وسينهار الدولار نفسه قبل غيره من العملات.

 3- فرض عقوبات على المصارف العراقية وشركات التحويل المالي مما يربك الوضع الاقتصادي. الوضع الاقتصادي العراقي هي في أسوأ حالات الارتباك ومثلما قاوم الفوضى والارباك في الماضي فسيقاوم القادم وخصوصا إذا وضعت خطة مقاومة وطنية شاملة على المستوى الاقتصادي الوطني وتم تفعيل نقاط قوة هذا الاقتصاد فالعراق ليس جمهورية موز فقيرة أو دولة تعيش على المساعدات الأجنبية أو على واردات السياحة إلى جانب قناة مرور دولية. وأعتقد أن خطة مالية مصرفية وطنية ممكنة التنفيذ وبعناصر قوة معقولة جدا.

4- إن منع العراق من استخدام نظام التحويل المالي (سويفت)، سيؤثر فعلا، ولفترة محدودة، ريثما يتم تفعيل بدائل قائمة فعلا ومتمثلة بالنظام الصيني البديل (سيبس) أو الروسي البديل (إس بي إف إس)، وحتى إيران ابتكرت نظاماً محلياً خاصاً بها هو (سيبام) وربطته بالنظامين الروسي والصيني. إذن، فبعبع نظام سويفت لم يعد مخيفاً جداً وخاصة لدولة غنية بالاحتياطات الهيدروكاربونية من نفط وغاز كالعراق!

5- أما (إيقاف برمج الإقراض والاعمار والمساعدات الفنية التي يقدمها صندوق النقد الدوي والبنك الدولي للعراق) فهو جائزة رائعة للعراق لأنه سيتخلص أخيرا من التبعية لأخطر جهازين اقتصاديين غربيين.

6- وبخصوص عقوبة "التوقف عن منح العراق الاستثناء الخاص باستيراد الغاز والكهرباء من إيران"، التي يذكرها المرسومي فإيران نفسها في طريقها للخروج من العقوبات الأميركية، وبالتالي فلم تعد هناك حاجة إلى هذه الاستثناءات المهينة للكرامة الوطنية العراقية والتي دأبت حكومات المحاصصة الطائفية التابعة على طلبها من واشنطن.

7- أما تأثير (العقوبات الامريكية المحتملة كثيرا في قطاع النفط اذ ربما ستوقف الولايات المتحدة استيراداتها من العراق التي تصل الى 400 ألف برميل يوميا) فالعراق يصدر ما بين ثلاثة وأربعة ملايين برميل يوميا، ولن تحدث كارثة إذا نقصت هذه الكمية أقل من نصف مليون برميل وخصوصا في ظروف استقرار سعر البرميل النفطي عند حدود معقولة حول ثمانين دولار صعودا ونزولا! وفي المناسبة هل يعلم المرسومي أن الولايات المتحدة، ورغم كل صخب العقوبات التي فرضتها على النفط الروسي، ما تزال تستورد سرا هذا النفط كما قال مسؤول روسي قبل فترة؟ تقرير صحافي 13.01.2024.

8- أما قول المرسومي أن العقوبات الأميركية سيكون لها (التأثير السلبي على البيئة الاستثمارية في العراق والمتمثل بأضعاف ثقة المستثمرين) فهو قول نافل ولا أهمية له، فالاستثمارات الأجنبية في العراق وطوال عشرين عاماً من عمر النظام لم تتقدم خطوة واحدة وهي تعيش فوضاها الخاصة وليس من المنتظر أن تنتظم هذه الفوضى وليس من المفيد "تهديد الدب بهراوة لم تصنع بعد"!

إن السيد الخبير نبيل المرسومي وبعض أمثاله يتوعدوننا بفتح أبواب الجحيم أمامنا إن نحن تمادينا في "استفزاز" السيد المحتل، ويبينون الهشاشة الكاملة لوضعنا المالي والاقتصادي وتحكم أمريكا المطلق به؛ نقول شكرا لكم إيها الخبراء وقد وضحتم المخاطر، ولكن طوال هذه السنوات وأنتم تعلمون بها وتراقبونها، أما كان الأجدر بكم أن ترسموا من خلال خبرتكم سياسات اقتصادية ومالية سليمة وتقترحون طرق الخروج من هذا المأزق وعدم ارتهان عائداتنا في الفيدرالي الأمريكي والتنبيه على ضرورة التقليص المستمر لحيازات سندات الخزانة الأمريكية، وغيرها من تنويع طرق دفع مبيعاتنا من النفط وإمكانية تبني سلة من العملات؛  والتنبيه وبإلحاح على الحكومة التي أنتم مستشارون لها وبيان استحالة بناء البلد والتحكم بقراره الاقتصادي والسياسي بدون التخلص من هذا النير الاحتلالي والهيمني بدلا دور تثبيط الهمم الذي تقومون به، كي تأكدوا صدق منطلقاتكم؟

ونختم هذه الوقفة بطرح السؤال التالي: هل أن إخراج القوات الأمريكية من العراق كبداية لاستعادة استقلاله وسيادته الوطنية يستلزم أن تعاقبه واشنطن بالضرورة وبكل يقين بمثل هذه العقوبات؟ أليس فرض مثل هذه العقوبات سيعني أن أمريكا ستخسر ثقلها السياسي في العراق وتقدمه بطبق من ذهب إلى معسكر خصومها، إيران والصين وروسيا؟ ثم ما الفائدة التي ستجنيها واشنطن من توحيد الامتداد الجغرافي لخصومها ومن دون أي عائق من البحر المتوسط إلى الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر قزوين، وأين سيصبح وضع دولة الاحتلال الصهيوني ضمن هذا الطوق الهائل، والتي أصبحت تشكل عبئا على من زرعها بعد أن كانت قلعة متقدمة. وبالأمس كشفت مجلة "فورن بوليسي" عن قرار تناقشه الإدارة بالانسحاب النهائي من سوريا والعراق. ألا يعني هذا الانسحاب إعادة ترتيب أوراق أمريكا في المنطقة باتجاه أقل تورطاً وأقل استفزازاً للتركيز على الساحة الأهم أي المحيطين الهادي والهندي؟

والسؤال الآخر الذي يطرح هنا، ترى لو استجابت أية حركة وطنية تحررية جادة لمثل هذه التهويلات والتهديدات بفرض العقوبات الاستعمارية ففي أي عالم عبودي كنا سنعيش الآن؟

ترى، ألا يساعد فرض مثل هذه العقوبات الغاشمة غير المبررة على التعجيل بكنس نظام المحاصصة وكل مؤسساته ووضع قدمي العراق على المسار الصحيح لحركة التاريخ بعد هذه السنين العجاف المدمرة؟ أليس هذا هو ما يثير ذعر ورعب أحزاب وزعامات المنظومة الطائفية العرقية الحاكمة ومن يشتغلون في خدمتها اليوم؟!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

....................

**رابط يحيل إلى مقالة نبيل جعفر عبد الرضا المرسومي:

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=818221

نص بيار بيستلوتي

ترجمة: رمضان بن رمضان

***

الديمقراطية في أصلها الاغريقي تعني"سلطة الشعب". وفي كلمتي "ديمقراطية" و"شعبوية"توجد لفظة الشعب le peuple ا المستمدة من الإغريقية ثم من اللاتينية. فالشعبوية هي أيضا، تطالب بسلطة الشعب. الديمقراطية والشعبوية كلمتان من المفروض أنهما مترادفتان لاشتراكهما في الأصل الايتيمولوجي ألا أن الأمر غير ذلك، فالشعبوية هي بالاحرى شكل كاريكاتوري إن لم نقل انحراف الديمقراطية كما عبر عن ذلك مارسال غوشيه، Marcel Gauchet حين كتب: " الشعبوية هي شكل الديمقراطية فائدة تحاول أن توهمنا بطريقة خادعة بوحدة الشعب الطيب الذي تخلص من طفيلياته والذي تدافع عنه سلطة جيدة"(1) تزدهر الشعبوية في الاراضي البور الديمقراطية منهكة. فالحاجة إلى الامن والرغبة في سلطة حامية تبدو اليوم لها الاولوية على أشواق الحرية فازاء التهديدات الارهابية والمخاوف المتوهمة في معظمها من هجرة كثيفة تزيح ثقافتنا. ففي فرنسا بلد الحريات أجري بحث استقصاءي أنجزه معهد ابسوس Ipsos لفاىءدة جريدة لوموند نشر في 7 نوفمبر 2016. كشف أن فرنسيا على خمسة مستعد لاختيار نظام تسلطي بدلا من نمط ديمقراطي حالي وخلال الانتخابات التشريعية الأخيرة كان الامتناع عن التصويت هو الغالب فمن هو في عالمنا الغربي القديم مازال مستعدا للموت في سبيل الحرية؟ كثيرون يفضلون الانزواء بكل أمان في فقاعتهم، يحتمون خلف شاذتهم حيث يصبحون فراىءس للتجار الطامعين الذين يتلاعبون بهم. إنهم يشبهون السجناء المصفدين داخل كهف أفلاطون بصدد التأمل في لعبة الظل المبرمجة منها قبل عراءسيين مهرة (2)

* إن مسألة شراء هذا النوع أو ذاك من آخر صيحة في مجال التكنولوجيا تحجب العقول إلى درجة أنها تنسيها خطورة الحرية التي تشع في الهواء النقي خارج الكهف. باختصار يمكننا أن نتحدث عن " ترهل الديمقراطية" (Dominique Reynie) أو على " ديمقراطية في حالة تبخر").

* Gilles Finchelstein ثمرة مرة لحالة عميقة من فقدان السحر un désenchantement. لقد انصرفت ديمقراطيتنا الليبرالية إلى مواجهة ذئاب الليبرالية الجديدة، عبدة الثور الذهبي. من يتحكم ؟ الدولة أم المال العابر للدول ومتعدد القوميات؟. إن الشعبوية تنتعش من الاحساس بالاستلاب وبالعجز ولا يمكن مواجهتها بنجاعة إلا إذا اعدنا المعنى المكتمل لفكرة " الديمقراطية الليبرالية والتمثيلية". سنحلل الاعمدة الاربعة للشعبوية وهي: إطلاقية مفهوم الشعب، الهوية المقصية، اختفاء السلط المضادة والانزياح العاطفي

1- عبقرية الشعوب؟

* بالنسبة إلى الشعبويين يمثل الشعب هوية واحدة، إنهم يمتدحون " فكر الأمة" أو " عبقرية الشعب". الفولكسجات volksgeist ا الالماني ذاىع الصيت هذا النص لفيذت Fichteيعود إلى بداية القرنالتاسع عشر يوضح جيدا هذا المفهوم:" بالنسبة إلى قدماء الجرمان، تتمثل الحرية في أن تبقى ألمانيا (....) إنها لهم وللغتهم ولجريقتهم في التفكير، نحن مدينون لكل ماضينا القومي طالما بقيت في عروقنا قطرة من دمائهم ولهم الفضل في ما سنؤول إليه في المستقبل" (3) نحن نعرف الاستغلال الفاحش لمثل هذا التصور من قبل النازيين ورغم ذلك لا ينبغي حينىءذ الخلط بين الشعبوية والنازية التي هي انحراف متطرف وإجرامي.

* هل للشعوب روح؟ ربما، ولكن ليست متراصةmonolothique وخصوصاً أنها لا تلغي روحا أخرى. في التنظيرات الشعبوية يميل الفرد إلى تعريف نفسه في علاقة ب"الكل القومي" le tout nationlا الذي ينتمي إليه. قبل أن تكون بيار أو جاك أو جان أنت فرد واحد وحرألماني، فرنسيأو بولوني. الآخر هو أيضا محدد وموصوف انطلاقا من " كل إثني" un tout ethniqueأ أو ديني. وفي كثير من الأحيان يوصم بصفة ادق بأنه عربي أو يهودي أو مسلم. فتبعية الفرد لكل ما تنمحي فيه خصوصيته هي مندد بها بشدة من قبل الفيلسوف إيمانويل لو فيناس Emmanuel Levinas في رسالته الراىءعة: الكلية واللامتناهي Totalité et Infini حيث يسعى لفهم جذور " الرعب النازي" في عالم في عالم تسيطر عليه الكلية La Totalité. مثلما هو الحال عند الشعبويين. الشخص لا يوجد إلا في علاقة بمجموعة س) الفرد) لا يصبح له معنى إلا من خلال (س) (الكل) بحيث توجد كيانات أخرى فريدة (س،، س،،،....) والتى تتحدد بالعلاقة مع (س) مثال على ذلك: بيار فرنسي وأيضاً ماري ومارك هم أيضاً فرنسيون وكأن وحدة ذاتي أنا (الطابع الوحيد) ليست إلا ب" اسم" (س). كأن خصوصيتي – التي تميزني عن غيري - لم تمنح لي إلا على أن لها الأسبقية طبقا لخلفية مشتركة ومحددة سلفا. فالفرد ليس له من معنى بنفسه. فالمعنى يكتسبه من علاقته بالكل le Tout الذي يسبقه ويحتويه (س): الفردية (الشخص) لا توجد إذن بما هي en tant que tel يستتبع ذلك أن الوجوه تختفي " الكائن المفكر يبدو أنه يحظى بنظرة تتصوره كمندمج في كل intégré dans un tout ا. " يكتب لوفيناس Levinas. في الحقيقة إنه لا يندمج إلا عندما يموت، الحياة تترك له راحة أو تأجيلا والذي هو تحديدا داخليته son intériorité " (4) نفهم حينىءذ أن " عالم الكلية" le monde de la totalité يحضر الأرضية للكليانية سواء عند اليسار أو عند اليمين. هذه المقاربة المرفوضة من قبل لوفيناس Levinas. تقع على النقيض تماماً من الرؤية اليهودية والمسيحية للشخص والتي هي أيضاً الأساس الذي بنيت عليه الأنوارLes Lumières. (روسو، فولتير، كانط،...) والتي تولدت منها الديمقراطية. قبل أن تكون عضوا في أمة أو شعب، الكائن البشري شخص فريد خلق " على صورة الاله وعلى شبه به " (سفر التكوبن، 1, 26). العبقرية الخاصة بالإنسان متأتية مباشرة من الاله الأعلى وهي تسبق عبقرية الشعب والتي، إضافة إلى ذلك، لا توجد من دون عبقرية الأفراد التي تكونها وثم تتالف فيما ببنها لتبني حضارة. الكنيسة كانت دوما تؤكد على أسبقية الفرد والذي له قيمة في ذاته، كما يردد ذلك البابا فرنسوا: "الصالح العام يفترض احترام الذات الإنسانبة، كما هي، بحفوقها الأساسية وغير القابلة للتصرف والمرتبة لتطورها الشامل" (5). بالنسبة إلى إبمانويل كانط الذات إلإنسانبة ينبغي" النظر إليها دوما على أنها غاية في حد ذاتها وليست مجرد وسيلة" (6). أما بالنسبة إلى إيمانويل مونيي Emmanuel Mounier فإنه يلخص فلسفته الشخصانية la philosophie personnaliste. في هذه الصياغة:" الفرد هو المطلق إزاء كل حقيقة مادية"(7). الديمقراطية قائمة على هذا المطلق المتصل بالإنسان وعلى احترام حريته. نحن إزاء تصورين سياسيين متقابلين: الشعبوية والديمقراطية الليبرالية. ااأولى تدافع على مقاربة تصميمية organiciste للمجتمع مشبهة إياه بجسم كبير تكون فيه الخلايا خاضعة للسلطة المركزية كما يقول عالم السياسة جان ايف كانو Jean Yves Camus : " الأمة لم تعد قمؤسسة على عقد un contrat ولكن على قانون الطبيعة وعلى جماعة الإرث والمصير اللتين لا مهرب منهما" (8). ااديمقراطيات الليبرالية تتأسس على العكس من ذلك على مفهوم العقد بين ذوات مستقلة كما نراه عند روسو أو كانط. ٱنها منظمات des associations. لكاىءنات مستقلة. فيما يتمثل هذا العقد الاجتماعي؟ إنه يعني أن أتخلى عن " حريتي المجنونة " التي لها نزوع لتطأ حرية الاخر ولكن أيضا تكون مهددة بمن هو أقوى مني لنكون على تخوم " تعايش الحريات " المحمي من الدولة. إن دور الدولة هو ضمان الحد الأقصى من الحرية للجميع. فحريتي تنتهي حيث تبدأ حرية الاخر. ها نحن إذن على نقيض الليبرالية الجديدة حيث القوي يسحق الضعيف وحيث الدولة محمولة على أن لا تتدخل إلا في الحد الأدنى. وهي النقيض أيضاً للشعبوية حيث الرجل القوي، الأب الصغير الشعب يريد أن يفرض على الجميع هذه الأديولوجيا للسعادة أو تلك باسم الإرادة الشعبية المنحوتة في رخام التقاليد التي يزعم أنه يجسدها. إن مثال الديمقراطية الأصيلة ومنوالها يجد نفسه وقد وصف برؤية رائعة عهد الغايات Règne des fins عند كانط، إنها جماعة إنسانية تتالف فيما بينها في ظل نظام من القوانين المنبثقة من العقل المحض القاىءم على استقلالية الإرادة المتحررة من عبودية الانفعالات. إنه مثال بعيد منال التحقق ولكنه يظل على الأقل البراديغم لكل ديمقراطية كما يوضح جان لوك نانسي Jean-Luc Nancy : " الديمقراطية، هي فكرة الإنسان الذي يعتبر نفسه مستقلا تماما "(9).

2- هوية الإقصاء:

تلعب الشعبوية لعبة السلحفاة فتنطوي على نفسها داخل قوقعتها وهي أيضاً تلعب لعبة القنفذ حين يغضب بشدة ويظهر شوكه متصديا للمخاطر الخارجية. هذه التهديدات مشار إليها بالبنان: العولمة والهجرة المتولدة عنها. إنهما تضعان معا ما بلغناه من رفاهية (الإغراق في الأجور le dumping salarial (ونمط عيشنا – حيث تضعف تقاليدنا - في خطر. إن المسألة الهوياتية تتجه اليوم لتهيمن على كل شيء بما في ذلك الطابع الإقتصادي في علاقة خاصة بالهجمات الإرهابية. إزاء ذلك يرغب الشعبويون في إعادة تأكيد الهوية الوطنية أو الدينية للدفاع عن قيمنا ضد كل ما يعتبرونه اجتياحا مدمرا يؤدي إلى خسارة فادحة لثوابتنا وأيضاً إلى" الإستبدال الكبير" لثقافتنا من قبل الإسلام، بفضل الديمغرافيا المتسارعة للجاليات المهاجرة. لأجل ذلك تكون الدعوة للعودة إلى جذورنا إلى" سويسرا الحقة" إلى" فرنسا الأصيلة" ذات العرق الأبيض وصاحبة الدين المسيحي. لنبرز حينىءذ تفوق الحضارة الأوروببة القادمة من القدس ومن أثينا، مهد الديمقراطية. المشكلة هنا ليست طبعا التجذر في القيم المسيحية أو الإنسانية والتي من الواجب إعادة اكتشافها بل الخطر هو في إعادة التأكبد على تلك القيم ضد قيم أخرى داعية إلى صدام الثقافات والهويات إن لم نقل حربا بين الحضارات، من أجل الترويج لتقليد وحيد يكون هو الوحيد المقبول ويصبح هو قانون المواطنة الوحيد. هذا ااموقف القنفوذي أليس هو تنكر للمسيحية وانحراف عن النزعة الإنسانية للانوار؟ فالثقافة لا تختزل في ثقافة واحدة une monoculture والتجذر لا يستبعد بأي حال من الأحوال الأنفتاح مثلما تجسده صورة الشجرة: كلما كانت جذورها عميقة في تربتها انفتحت على نطاق واسع في الاتجاهات الأربعة ونحو السماء، فالانفتاح إذن يكون بقدر التجذر وثقافة تنغلق على نفسها محكومة بالتلاشي كشجرة تصاب بالضمو. الأسوء من ذلك: هوية تنغلق وتضع نفسها في مواجهة الآخر يمكن أن تصبح قاتلة، في استعادة لعنوان كتاب مشهور لأمين معلوف، زميلي في إعدادية جمهور بلبنان: " يكفي أن يطرح كل فرد بعض الأسىءلة ليكتشف أنه معقد، فريد من نوعه ولا يمكن استبداله، إذا ألححت إلى هذا الحد فذالك بسبب هذه العادة المنتشرة إلى حد كبير وضررها قوي فمن خلالها ومن أجل التأكبد على هويته، ينبغي أن يقول ببساطة:(أنا عربي)، (أنا فرنسي), (أنا أسود),(أنا مسلم) أو (أنا يهودي). " (10). لقد شهدت بنفسي صعود " الهويات القاتلة" في لبنان والتي أفضت إلى حرب مروعة. الانغلاق داخل انتماء ما يصبح مصدر عنف، نشاهده في المشاجرات التي تحصل ما بين الفرق الرياضية. باختصار، قبل أن تكون سويسرا، فرنسيا أو محبا لهذا الفريق أو ذاك أنت فرد مميز، أنت مكون من هويات متعددة، ولكن أيضاً أنت كاىءن بشري ذو عقل، مواطن كوني مرتبط بكل إخوانك وأخواتك في الإنسانية.

تسعى الشعبوية إلى شد وثاقنا إلى انتماء واحد، وهي بهذا إنما تقع أيضاً في تضاد مع المسيحية التي ترفض كل هوية منغلقة وكل قومية متعصبة كما كتب القديس بول عن ذلك بطريقة رائعة:" لا يوجد يهودي أو إغريقي، لا عبد ولا حر، لانكم جميعا واحد في يسوع ". ( Gal,3,28)

3- الإنسان، الشعب: اضمحلال السلطات المضادة

مخكل ديمقراطية جديرة بهذا الإسم تتضمن سلطات مضادة. في القرن التاسع عشر كان توكفيل Tocqueville قد حذر مما سماه " استبداد الأغلبية " La tyrannie de la غmajorité المنبثقة من رأي عام متلاعب به. في ظل نظام ديمقراطي حقيقي السلطة لا ينبغي أن تكون مركزة في أيدي شخص واحد أو عند هيىءة وحيدة. وإن ادعت أنها منبعثة من" الشعب الأصيل ". من ذلك الفكرة التي صاغها لوك Locke (16329-1704) ثم بعد ذلك مونتسكيو Montesquieu (1689-1755. والمتمثلة في الفصل بين السلط للتصدي إلى كل التجاوزات. نفرق حينىءذ بين السلطة التشريعية التي تصادق على القوانين وتقترحها، السلطة التنفيذية التي تحكم والسلطة القضاىءية الممارسة من قبل القضاة. ونضيف إليها اليوم سلطة الإعلام القاىءم على الصحافة والذي من المفروض أنه يقدم نظرة نقدية لعمل الدولة. يعمد الشعبويون، من أجل تدعيم سلطتهم، إلى إفقاد السلطات المضادة مصداقيتها، ولاسيما القضاء والإعلام من أجل إضعافها. إن مبدأ التفريق بين السلطات مهدد. فحالة دونالد ترمب حالة نموذجية: فعلى امتداد حملته الانتخابية وأيضا بعد تسلمه الرىءاسة، لم ينفك عن التهجم على الإعلام وعلى القضاة وأيضاً على المشرعين، كلهم وبدرجات متفاوتة فاسدون! لكن ولحسن الحظ، السلطات المضادة في الولايات المتحدة الأمريكية مازالت موجودة وصامدة، فعلى سبيل المثال، قضاة عاديون نجحوا في إحباط المراسيم الأولى السيد ترمب والمتعلقة بالهجرة. ينبغي الإشارة إلى أن هذه التجاوزات الشعبوية تلوث الآن أغلب الأحزاب، فعلى سبيل المثال في فرنسا قضيتا فيون Fillon وفرانFerrand كلاهما متهم باستغلال موقعه السياسي للإثراء وتكشفان في وضح النهار محاولة انتهاك النظام القضاىءي للاعتماد على تصويت الشعب الشجاع:" الإعلام والقضاة، يريدون خسارتنا والناخبون هم وحدهم من سيحسمون الأمر. " ولكن هل الشعب داىءما على حق ولاسيما هل هو مؤهل لفهم المساىءل القضاىءية ؟ في هذه اللعبة الشعبوية الصغيرة خسر فيون Fillon فلم ينتخب في حين أن فران Ferrand أعيد انتخابه في داىءرته وذلك بركوبه موجة إيمانويل ماكرون Emmanuel Macron الذي ربح الرهان وخرج منتصرا. أليس ذلك شكلا من أشكال الظلم ؟ نحن، من جديد، إزاء مفهومين ديمقراطيين حيث يكون الثاني شكلا كاريكاتوريا للأول: الديمقراطية الليبرالية أو البرلمانية من ناحية والشعبوية التي تطالب بديمقراطية مباشرة كالتي كانت في العصور القديمة والتي تتحول إلى ديماغوجيا سلطوية. في القديم، وعلى سبيل المثال، الشعب في أثينا كان قليل العدد ولم يكن منشغلا بأعمال متعددة كالتي تشغلنا اليوم، كان لهم متسعا من الوقت يسمح لهم بالإجتماع في الساحة العامة وباختيار قوانينهم وبانتخاب من يحكمهم مباشرة. فعلى هذه الصورة الأسطورية والمثالية يستند بعض الشعبويين، إلا أن الملايين من المواطنين، اليوم، منشغلون جدا لا يجدون الكثير من الوقت للاهتمام بصفة مباشرة بالشؤون العامة، حيث تقتضي الضرورة تفويض السلطة الشعبية إلى مؤسسات تمثيلية كالبرلمانات. منظرو الليبرالية فهموا ذلك جيدا منذ القرن التاسع عشر. و قد أكد ذلك الفيلسوف فلوران قيران François Guenard :" المفكرون الليبراليون يستبدلون النموذج هالقديم للديمقراطية المباشرة بالحكم التمثيلي: المواطنون يركزون على شؤونهم الخاصة ويقبلون بتفويض سلطتهم إلى ممثلين عنهم ينتخبونهم" (13). في غياب مبدأ التفويض سيكون هناك توجه نحو اعتبار الشعب كتلة واحدة في حاجة إلى" ترشيد" ثم إلى استفتاىءهم، يتم ذلك، في كثير من الأحيان، تحت تأثير الشعارات المبسطة.

4 – الانحراف العاطفي: كبش الفداء ونظريات المؤامرة

يستدعي الشعبويون باستمرار، العواطف أكثر من العقل ومفاهيمه الكونية. فبالنسبة إلى الشعبويين يتحدد الكائن البشري، قبل كل شيء، كمجموعة من الرغبات التي ينبغي استغلالها بطريقة أفضل للوصول إلى السلطة. فالمواطنون مدعوون إلى التصويت بحدسهم كرجل واحد. هذه العبارة الأخيرة معبرة لأن الفرد يصهر في نفس المجموعة المندمجة تحت وطأة انفعال ما أو عاطفة ما مثل الغضب على الغرباء أو الحماس لزعيم ما. إنه يتجرد من إنسانيته حين يكف عن التفكير، وينخرط دون تحفظ في تطبيق التعليمات. كيف يتصرف الشعبويون لتمتين اللحمة بين جنودهم/ أتباعهم ؟ إنهم يعينون كبش فداء نزولا عند رغبة الشعب ثم يستثيرون غراىءزنا السيئة كالغيرة، الأنانية أو الكراهية ليوجهوها ضده. كبش الفداء هذا يتخذ وجه المهاجر أو المسلم المصنف إسلاميا أو النظام المالي الدولي، مجهول الهوية والذي يترك الشعب ينزف. إن الذات الإنسانية تختزل في دور الخروف داخل القطيع حيث توجد بعض الخرفان السوداء المدانة من قبل الراعي والذي يشعل كراهية بقية القطيع ضدها. فمن الواضح أن الصورة ستظل كاريكاتورية، صورة الخرفان السوداء التي يجب طردها ظهرت في ملصق لأهم حزب في سويسرا، إنه حزب الوحدة الديمقراطية للوسط (Union Démocratique du Centre) البعض الآخر يتحدث عن مؤامرة مدبرة من قبل وسائل الإعلام، " رجال بروكسل", المسلمين أو اليهود. ففرنسوا فيون نفسه تحدث على " غرفة سوداء" بصدد العمل ضده وضد مناصريه. يجعل الشعبوي من نفسه ومن أتباعه ضحايا لتحشيدهم حوله وذلك من خلال توليد الشعور بالثورة في أنفسهم، يضاف إلى ذلك أن هذه المؤامرة تنسج خيوطها دوما ضد" البلد الحقيقي" مثل فرنسا العميقة المتجذرة في تقاليدها العلمانية.

في الختام، الشعبوية هي الإسم اللاتيني الذي يحيل على الديماغوجيا أكثر من إحالته على الديمقراطية. هي نداء لشعب مثالي/ متخيل وهي ثقافة الزعيم وهي استجداء للعواطف الرخيصة. كل ذلك يبعدنا عن الديمقراطية أشواطا. الشعبوية هي تشويه وانحراف عن الديمقراطية ولمفهوم الذات الإنسانية.

***

......................

الهوامش:

[1] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 9.

[2] Voir notre ouvrage Imagine-toi dans la caverne de Platon, Paris, Payot, 2015.

[3] Fichte: Discours à la nation allemande, 8ediscours, 1807-1808.

[4] Emmanuel Levinas, Totalité et Infini, Martinus Nijhoff, La Haye, 1972, p. 26.

[5] Pape François, Laudato Si, 156

[6] Emmanuel Kant, Fondements de la métaphysique des mœurs, trad. V. Delbos, Paris, Delagrave, 1979, p. 150.

[7] Emmanuel Mounier, L’engagement de la foi, Paris, Seuil, Livre de Vie, 1968, p. 34.

[8] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 19.

[10] Amin Maalouf, Les identités meurtrières, Paris, le Livre de Poche, 2001, p. 28.

[11] In: L’Obs hors série numéro 95, Démocratie et populisme, printemps 2017, p. 19.

[12] Ibidem, p. 54.

[13] Ibidem, p. 46.

* المصدر:

revue-sources. cath. ch

* العنوان الأصلي:

Le populisme est- il démocratique? Par Pierre Pistoletti

قرار محكمة العدل الدولية يومه الجمعة 26 يناير بشأن الحرب على غزة والذي ينص على " إلزام إسرائيل اتخاذ كل التدابير لمنع التحريض لارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة... وأنه على إسرائيل اتخاذ جميع الإجراءات المنصوص عليها لمنع الإبادة الجماعية في القطاع... وأمرت إسرائيل بتقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر واحد... كما دعتها إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية اللازمة على قطاع غزة".

هذا القرار لم يكن مرضياً تماماً للفلسطينيين ولمن كان يتوقع من المحكمة أن تصدر قراراً بوقف الحرب. وفي واقع الأمر ومنذ تقديم جنوب إفريقيا طلباً لمحكمة العدل الدولية في 29 ديسمبر 2023، لم نكن نتوقع أن يصدر عن المحكمة قراراً غير ما صدر وذلك لثلاثة أسباب:

1- محكمة العدل جزء من منظومة الأمم المتحدة:

بالرغم من الدور القانوني وخصوصية تركيبة المحكمة بعيدا عن الولاءات السياسية فإن المحكمة جزء من الأمم المتحدة التي تتحكم فيها واشنطن والغرب منذ تأسيسها عام 1945 ولا يمكن تصور أن يترك الغرب ثغرة في منظومة الأمم المتحدة لتنفِذ من خلالها الشعوب المستضعفة وخصوم الغرب، ومنذ تأسيس الأمم المتحدة لم يتم إصدار أي قرار أممي سواء من مجلس الأمن أو الجمعية العامة أو محكمة العدل أو أي من المنظمات الدولية الأخرى، كما لم تنجح الأمم المتحدة في حل أي نزاع دولي سواء في الصراعات الدولية الحالية أو عبر التاريخ. وهناك سوابق في قرارات وآراء استشارية لمحكمة العدل الدولية لم يسمح لها بالوصول لنهاية تدين الغرب أو إسرائيل ومنها الرأي الاستشاري للمحكمة بشأن جدار الفصل العنصري لعام 2004.

2- صيغة الدعوى التي تقدمت بها جنوب افريقيا:

طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة الإشارة إلى تدابير مؤقتة من أجل حماية الفلسطينيين في غزة "من أي ضرر جسيم إضافي وغير قابل للإصلاح" بموجب الاتفاقية ولضمان "امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية بعدم المشاركة في الإبادة الجماعية، ومنعها والمعاقبة عليها".

كما تشير الدعوى إلى أن سلوك إسرائيل - "من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها" - يشكل انتهاكا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.

وذكرت الدعوى أيضا أن إسرائيل، "ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 على وجه الخصوص، فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية". كما أشارت إلى أن إسرائيل "تورطت، وتتورط، وتخاطر بالتورط في المزيد من أعمال الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة".

فالطلب كان دعوى ضد إسرائيل بشأن انتهاكات مزعومة من جانب الأخيرة، لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها فيما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة.

وبالتالي كان طلب جنوب افريقيا مركزاً على ما يجري في قطاع غزة وما يرتكبه الاحتلال من جرائم وابادة جماعية ولا يتطرق للأبعاد السياسية للصراع ولم يتضمن الطلب رأياً أو قراراً سياسياً حتى لم يتضمن الطلب قراراً من المحكمة بوقف الحرب.

3- التباس طرفي الصراع أو الدعوى:

المحكمة نظرت في حرب بين دولة (إسرائيل) التي هي عضو في الأمم المتحدة وحركة حماس التي ليست دولة ولا حكومة معترف بها ولا حركة تحرر وطني في نظر كثير من الدول وأعضاء المحكمة، ولو نظرت المحكمة في الحرب أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل عام أو كانت (دولة فلسطين) طرفاً مباشراً في الحرب وفي الدعوى المقدمة لكان قرار المحكمة مغاير.

مع أن الرئاسة الفلسطينية رحبت بالقرار كما هو الحال بالنسبة لجنوب افريقيا ودول أخرى لأنه لا يمكنهم إلا الترحيب على أمل أن يتم البناء عليه لاحقاً ولأن مجرد تداول مجريات الحرب وجرائم إسرائيل في منبر دولي يفضح إسرائيل ويرد على أكاذيبها بشأن ما يجري في غزة، فإن الكيان الصهيوني وبالرغم من ادانته للقرار واتهامه للمحكمة وقرارها بمعاداة السامية، إلا أنها فهمت القرار كترخيص لها بمواصلة الحرب ما دام لم يطلب منها وقف الحرب، كما أنها رأت في مهلة الشهر فرصة لمواصلة الحرب وتهيئة ردودها على ما طُلب منها.

وتستموتستمر الحرب وجرائم العدو ويستمر تقاعس المنتظم الدولي ومؤسساته إلا بما يجودون به من مساعدات إنسانية يسمح الجلاد بمرورها للضحية، وتبقى الأمور على حالها إلى أن يستكمل كيان العدو مخططاته أو تحدث معجزة في الأمتين العربية والإسلامية مع إدراكنا أن لا معجزات في السياسة.

***

د. ابراهيم أبراش

تمخض أخيراً "الجملُ" فولد أرنباً وهو أكبر من "الفأر" المدرج في أصل المثل بقليل.. لأن النتيجة ليست صفراً بل أقل من التعادل أو يزيد! هكذا يراه كثيرون خلافاً لمن يؤمنون بنظرية "الجانب الممتلئ من الكاس".

فأنصار الحق الفلسطيني في العالم، والذين يطالبون بإيقاف حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال ضد قطاع غزة يريدون ما يتناسب وهذا المخاض الذي هز المحكمة واستشعر العالم الحر بارتداداته وتعاظمت الآمال للقصاص من دولة مارقة ك"إسرائيل".

لأن جهود مؤازري الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة الجنايات الدولية ب"(لاهاي) بتهمة ممارسة حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني في غزة صدرت منقوصة إلى درجة أن القرار بدا وكأنه متواطئ- نسبياً- مع الجناة الإسرائيليين.

ومن شأن ذلك -في نظرهم- أن يرفعَ عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي عيونَ الرقابةِ من خلال التملص من تبعاتها، كما حدث في (لاهاي) وفق من يقدره مناوئو "إسرائيل" ومؤيدو حقوق الإنسان في العالم كأنها خسارة فادحة أو حتى أقل من التعادل.

ففي حساباتهم يُعَدُّ هذا القرار الذي عجز عن الدعوة لإيقاف الحرب؛ تمكيناً غير مباشر لجرائم الاحتلال، كون الحربُ إذا ما شَبَّتْ نيرانُها، لا تُضْمَنُ مساراتُها في أتون المواجهات؛ لأنها ستخضع لمن يقفُ وراءَها. فما بالك ومشعلها في غزة احتلالٌ إسرائيليٌّ غاشم!.

لذا فجيش الاحتلال سيتوغل أكثر في الدم الفلسطيني دون رادع لأنه سيكون خاضعاً لسيطر العقيدة الصهيونية التي تتضمن في جوهرها سياسة التطهير العرقي بحق الفلسطينيين، ويُعْتَبَرُ احتلالُه لأرض الضحيةِ حقاً دينياً مكتسباً، كونها في عرفه أرضاً للميعاد، فيما تخضع العلاقة بين الطرفين لمعايير تلمودية تقضي بالتنافر ما بين الشعب "الذي اختاره الله" متمثلاً باليهود، و"الجويم" المتمثل بالفلسطينيين.

مع أن صمود المقاومة في غزة أثبت استحالة هذا الوجود القهري القائم على مبدأ الاحتلال والتطهير العرقي، وسوف يفشل في مساعيه الشيطانية كما فشل نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا صاحبة الدعوى التي اعتبرت "القرار منصفاً" وهو أقصى ما تستطيع العدالة تحقيقه ما دام الخصم يتمثل ب"إسرائيل" التي تعتبرها الولايات المتحدة إحدى ولاياتها الأثيرة.

اليوم الجمعة وفي الساعة الثالثة بعد الظهر، صدر قرار محكمة الجنايات الدولية النهائي بعدم وقف الحرب ولكن مع اتخاذ الإجراءات اللازمة بعدم ممارسة ما يقع في دائرة الشبهات بارتكاب افعال تتوافق وجرائم الإبادة الجماعية.

فهل يندرج في سياق ذلك قصف المستشفيات والأماكن التي يلوذ إليها اللاجئون والسماح بوصول المواد الإغاثية إلى أهل غزة دون تعريضها للقصف.

القرار رغم كونه منقوصاً وفق مراقبين، ولا يحقق إيقافاً ملزماً لحرب الإبادة على غزة؛ الإ أن جنوب افريقيا أعتبرته قرارأً أصاب معظم أهدافه لذا فهو في نظرها يشكل انتصاراً للعدالة ضد أخر كيان في العالم يمارس التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني الذي يدافع عن حقوقه المشروعة.

وتتذرع صاحبة الدعوى في أن قرار محكمة الجنايات احتوى على إجراءات تمنع "إسرائل" من التحريض على الإبادة الجماعية.. والالتزام بكل ما يتجنب القتل والاعتداء والتدمير بحق سكان غزة.

لكنه لم يتضمن المطالبة بوقف الحرب التي يصر نتنياهو على المضي قدماً فيها رغم الخيبة التي يُمَنّى بها والفشل الذريع في تحقيق اهدافه.

محكمة العدل صوتت على قرارها بتأييد 16 صوتاً ضد صوت واحد.. وقد وافق إيضاً 15 صوتاً ضد اثنين على قرار يلزم الطرف الإسرائيلي المُدَّعَى عليه في التعهد بعدم إتلاف الأدلة في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضدها.. ولا أدري كيف تَأْتَمِنُ المحكمةُ خصماً مراوغاً اعتادَ صيدَ المواقفِ وقلبَ الحقائقِ دون رادع.

وقد تضمن طلب جنوب أفريقيا في سياق الدعوى المرفوعة ضد "إسرائيل"، فرض إجراءات طارئة ضدها، بسبب ارتكابها جرائم إبادة جماعية بسبب حربها على قطاع غزة.

وفي الملف الذي يتكون من 84 صفحة، تقول جنوب إفريقيا إن “قتل "إسرائيل" للفلسطينيين في غزة، والتسبب في أذى نفسي وجسدي جسيم لهم، وتهيئة ظروف معيشية تهدف إلى تدميرهم جسدياً، يُعّدُّ إبادةً جماعيةً لهم”.

وتقول الدعوى إن "إسرائيل" تتقاعس عن توفير الغذاء والماء والدواء والوقود والمساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة خلال الحرب التي تشنها عليهم، وتشير أيضا إلى حملة القصف المستمرة التي دمرت جزءا كبيراً من القطاع، وأجبرت حوالي 1.9 مليون فلسطيني على النزوح، وأسفرت عن استشهاد أكثر من 25 ألف شخص، وفقاً لمسؤولي قطاع الصحة في غزة.

وتطلب الدعوى من محكمة العدل الدولية، فرض تدابير طوارئ لوقف الانتهاكات التي تواجه "إسرائيل" اتهامات بارتكابها. مع أن المتوقع أكثر من ذلك كما أسلفنا آنفاً.

وهذا إقرار ضمني بجرائم الاحتلال يمكن توظيفه إعلامياً لصالح المقاومة وإن بدا في الشكل أقل وضوحاً، إذْ لا بد من التركيز على الجزء الممتلئ من الكأس كما تراه صاحبة الدعوى.. وبالتالي تَصَيُّدْ جرائم الاحتلال وإدراجها بما يتناسب وقرائن التطهير العرقي وفق تعريف محكمة الجنايات في المادة السادسة (أ،ب) من مقدمة المبادئ.

وياتي ذلك بغية تعميق جوهر القرار وتوضيع معالم الإدانة للاحتلال وجرائمه، التي يدركها حتى الطفل في القماط.

وأخيراً يسدل الستار على محاكمةٍ جرائم الاحتلال الإسرائيلي في لاهاي ضِدَّ عدوِّ إسرائيليٍّ أثبت من خلال قرار المحكمة الذي يراه كثيرون منقوصاً ولم يحقق أهم غايات الدعوى المتمثلة بإقاف الحرب؛ بأنه يُحْكِمُ قَبْضَتُهُ على مواقفِ الدولِ الغربيةِ وعلى رأسِها أمريكا التي تكيل بمكيالين.

وفي المحصلة فالضمير العالمي يقرُّ بجرائم الاحتلال، والشعوب تناصر الحق الفلسطيني، والمقاومة تحقق انتصاراتها في الميدان، والشعب الفلسطيني يقبض على الجمر ويرفض مؤامرة التهجير.

بقي على الدول التي شاركت في الدعوى ضد الاحتلال أن تتخذ مواقف جريئة بشأن العلاقات مع "إسرائيل" أسوة بجنوب أفريقيا التي تسير على نهج رئيس "المؤتمر الأفريقي" التاريخي الراحل نلسون مانديلا الذي أورث بلاده هذا التأييد المطلق للقضية الفلسطينية الذي ظل يدعمها مبدئياً حتى وافته المنية عام 2013 .

فيما دُشِّنَ له تمثالٌ في رام الله بالضفة الغربية عام 2016 تكريماً لمواقفه الخالدة إزاء القضية الفلسطينية التي مات وهو يوصي الأفارقة عليها.

***

بقلم: بكر السباتين

26 يناير 2024

 

مصر في الذكرى الثالثة عشرة للثورات العربية، وفي ظل الأوضاع الراهنة في دول الربيع العربي،، ما هي نتائج هذه الثورات...؟!

تعلمنا من التاريخ لكل ثورة لها أسبابها ونتائجها، المهم نتائج الثورات العربية علي المواطن، لقد خلقت وصنعت سيكولوجية اجتماعية جديدة، أُطلق عليها علماء الاجتماع\" بالمواطن المستقر \"أو المواطن العاقل من خلال مسلسل طويل من المطاردة والرعب والخوف والنهب، المواطن المستقر، في الحقيقة المتبلد والمستسلم والعاجز عن أن يقول لا، لم يعد يحتج على الظلم ولا يريد العدالة بل كل ما يريده الغفران عن ذنوب هذه الحقبة التاريخية الوهمية،، وهي أفضل طريقة للسيطرة على شعب بجعله يشعر بالإثم عن ذنوب وأخطاء التاريخ لكي يحصل على الغفران لا على العدالة،،، ولا يحتاج الحرية بل النجاة مثل أي طريدة هاربة من القتل.،، والمواطن المستقر المتكيف مع الاستبداد العام والفردي هو مريض لأنه يعمل ويفكر ويحلم ويتكلم بشخصية طارئة عليه عكس حقيقته، ويخرب ذاته على مراحل من خلال معاناة صامتة طويلة، والمواطن\" المستقر \"، يقول، (المفكر الفرنسي إتيان بواسيه) في كتابه {العبودية الطوعية} عندما يتعرض بلد ما لقمع طويل تنشأ أجيال من الناس لا تحتاج إلى الحرية وتتواءم مع الاستبداد، ويظهر فيه ما يمكن أن نسميه المواطن المستقر...!! إن الذين اغتصبوا السلطة في دول الربيع العربي بقوة السلاح يتصرفون الآن كأنهم في بلاد قاموا بغزوها...،، فالذين ولدوا وترعرعوا في عصور أنظمة سلطوية وفي أحضان الطغيان، يرضعون الطغيان طبيعيًّا ، عندما يتداخل الطغيان العام والتسلط الفردي مع تقاليد وقيم وقواعد وقوانين، تصبح ممارسته من الأخلاق والآداب والطاعة وحسن السلوك والتمرد عليه  نوعًا من الجريمة أو الانحراف أو العدوان... إلخ. لقد شابت الرؤية كل الفاعلين في الميادين في ترك الميادين، في الصراع على السلطة، إلى عملية تحويل شعوبهم إلى طريدة ومسخه في رعب الموت، وهاجس النجاة، وجعله يركض النهار والليل لكي يتخلص من حقول الألغام، وحقول السياسة، والفخاخ، والعبوات الناسفة، والسيارات المفخخة، والانتحاريين، والبلطجية والتلوث ونقص الخدمات والماء الصالح للشرب، والهواء الصالح للتنفس،،، والمنزل الصالح للسكن، والسيارة الصالحة للنقل، حتى يتصور أن مجده الكبير ونصره العظيم هو النجاة من موت يومي وشيك.،، هذه العملية ليست عفوية أبدا، بل هو مخطط لتحويل الشعوب إلى ذئب وحشره في خانة الحاجات والغرائز والوصول به إلى حالة اليأس التام، ودفنه داخل جلده وتخفيض أحلامه. هو الأسلوب الوحشي مع شعوب عربية أخرى من التخريب البطيء،،، التدرج في الدمار والتفسخ الهادئ، لان الانهيار السريع يبقي على قيم أخلاقية في إدارة الأزمات وليس حلها، نقل المعارك من مكان إلى آخر، لكي يصل الفرد والشعب درجة الإنهاك التام واليأس العاجز، وعندها يبدأ تنفيذ الجريمة الأكبر وهي توزيع الأرض على قبائل وأعراق ومذاهب، وتوزيع الثروة، كل ذلك حدث ويحدث في (اليمن وسوريا والعراق وليبيا).

لقد تم ضرب البنية التحتية من محطات كهرباء بعد سقوط كل نظام وإعادة المواطن العربي إلى مرحلة الكهوف من أجل بناء هوية جديدة من البياض العقلي كما تقول الباحثة (نعومي كلاين) في كتابها المرجعي:\" عقيدة الصدمة: رأسمالية الكوارث \"الغرض من قطع الهواتف مع الظلام والقصف هو حشر الشعب في وضع الرعب البدائي الأول حيث تنعدم المعرفة تمامًا بالمحيط،

وتنشط الهواجس والخيال، وفي هذه الحالة، تقول الباحثة، يتم إفراغ الإنسان من هويته الأصلية تحت الرعب حالة البياض التام ثم فرض هوية جديدة بالقوة، إن هذا المخطط الإجرامي لم ينجح كُليًّا في بعض الدول،، نحن أمام شعوب من دول الربيع العربي المواطن هارب ومطارد وملاحق ومشغول بفكرة النجاة والإنقاذ والطعام والنوم الآمن وليس العادل. الانشغال بفكرة النجاة كل يوم يعني إلغاء العقل والنظام والأمل والمستقبل، والأخطر من كل هذا المخطط هو وقت إملاء الشروط على الشعوب المنهكة وحشر الناس بين خيارات أحلاها أكثرها مرارة، ورفع راية اليأس والتسليم بالأمر الواقع. والصمت وتسليم السلطة والثروة والفرح بالنجاة وقضاء الوقت في التفكير في الأشياء الخاطئة بدل تجاوزها... أو خلق الأزمات لكي يضيع في دوامة البحث عن الحاجات الضرورية للإبقائه علي قيد الحياة. لا خيار آخر أمام اليائس غير الاستسلام وهو الهدف المركزي، لأن العالق في دوامة ومتاهة وخوف طويل لا يرى البندقية في يده أو السيجارة بين أصابعه، أو الحقيقة المشعة أمامه عندما يداهم.

الرعب يلغي الحرية والعدالة، واليأس يلغي طاقة المقاومة وتتحقق الهزيمة النفسية والغريق يبحث عن منقذ بصرف النظر عن أخلاق المنقذ،، لأن الفكرة للإنقاذ فحسب. تحت الرعب يتم إلغاء الإنسان بكلام أدق، وجعله يفرح بين وقت وآخر لأنه فلت ونجا من هذا الانفجار ليس إلا النجاة،، وهي لا تختلف عن تفاصيل حيوان هرب من مطاردة قاتلة، بعدها سيتم توزيع الأدوار بصورة مختلفة عن السابق لأن سيكولوجيا المواطن المستقر ليست الوطن والحرية والعدالة بل المرعى والأمن والطعام. شعوب دول الربيع مثل الطريدة اليائسة لن تحتج على الظلم بل تخاف الموت، سعيدة بالنجاة لا بالحرية!.

***

محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث مصري في الجغرافيا السياسية

 

إن لغة العصر هي القوة والاستكبار الذي حاولت الاطراف المعنية طمس حقيقتها من خلال التلاعب بالذاكرة والتاريخ الجماعي. غير ان الاعلام الرقمي كشف الستار عن حقيقة هذا العالم المتكاذب في اخلاقه وقيمه واهدافه التنويرية والكشوفات العلمية الذي يخفي خلفها كل اشكال الهيمنة والسيطرة والتزوير التاريخي. نحن هنا لسنا بصدد ادانة الغرب بقدر ادانة انفسنا الذي لا يقل تاريخنا سوءا عن الاستعلاء الغربي والمركزية الغربية. إن اخفاقات العرب والمسلمين لا تقل شأنا في حروبهم على السلطة وتقاسم النفوذ ونشر الخلافة القومية والدينية باسم الاسلام والعرب وهذا ما عبرت عنه المعارضة في ما عرفت انذاك بموجة الربيع العربي وانتشار الحركات المتطرفة وتكفير الاخرين على اعتبارهم من جماعة الكفار كما يفعل اليوم نتنياهو عبر توصيف العرب بالحيوانات البشرية وكل التوصيفات الدونية الاخرى. ولا ننسى تجربة وسيطرة الخلفاء الراشدين والفترة الاموية والفاطمية في مصر اضافة الى مرحلة العروبة والقومية العربية التي كان احدى اسباب فشلها اعلاء قيمة الاسلام على باقي الثقافات والهويات المتواجدة في المنطقة. فنزعة الامبراطورية تقاسمتها جميع الامم والشعوب. لكن، ما يهمني ان اشير اليه في هذه المقالة الاختلافات والتباينات التاريخية والثقافية بين الحضارتان العربية الاسلامية والغربية.

لا شك، أن ما قام به الطرفان مدان انسانيا واخلاقيا لان مسألة القتل والعنف هي مسألة يمكن تجاوزها في المفاوضات والحلول الديبلوماسية والسياسية لكن، الاشكالية في الصراع الفلسطيني –الاسرائيلي، هو ان صبر المفاوضات والتنازلات قد نفذ بفعل عدم الاعتراف الطرف الاسرائيلي بالشراكة الفلسطينية وهذا بطبيعة الحال مشروع قديم جديد يعاد احيائه في المنطقة وفق مخططات جديدة اكثر استحكاما وتدميرا من زي قبل.

إن مأساة القرن اليوم هي في انك فقدت ثقتك بامكانية تحقيق العدالة وأن من يمسك بها غير قادر على تطبيقها لانه مدان بفضائح جفري ابستين التي ظهرت لتهدد جميع من يعترض على مشيئة اسرائيل ومقرراتها وهذا واضح في طريقة تعامل نتنياهو مع الرئيس الامريكي جو بايدن والاوامر التي يتلقفها يوميا بشأن مطالبته بتكثيف الدعم العسكري ومشاركة الولايات المتحدة في حرب اوسع في المنطقة وهذا تفسره طبيعة الصراع اليوم في البحر الاحمر وعمليات القرصنة والتصعيد المتبادل بين اسرائيل والحوثيين وتعريض الملاحة الدولية للخطر ونقل الصراع بشكل اوسع الى اربيل وباكستان في محاولة لاستنزاف ايران في عمقها الجغرافي وتبادل الرسائبل الاقليمية  ردا على حادثة كرمان الاخيرة في ايران.

ربما من يراقب المشهدية من بعيد تتضح له الصورة بشكل ادق واوضح، أن الصراع بريء من شبهة المعيار الاخلاقي والانساني والوطني، بل إنها حرب مصالح ونفوذ وامبراطوريات تاريخية تحاول استرجاع حقها المغتصب تاريخياً غير أن السؤال الكبير اليوم، العرب ماذا هم فاعلون من اجل استرجاع كبريائهم المغتصب والمستباح؟ وهل يكفي موسم الرياض للتأكيد وتفعيل رسالة التي مفادها نحن بخير طالما نحن مطبعون وبالرعاية الصينية؟

فقط تخيل ذلك لبضع ثوان، إذا لم تلتزم ايران بتعهداتها، واستمرت تل ابيب باستفزاز ايران في عمقها الجغرافي او، عبر جماعات ارهابية مثل البلوش وغيرهم بهدف استنزافها واحتوائها امنيا وسياسي؟ وماذا سوف يحصل ان لم ينجح مشروع اكسبو 2030 وبخاصة أن الغرب لن يسمح باستقرار هذه المنطقة والتجارب التاريخية خير دليل على عدم التزام بريطانيا اتجاه شريف حسين ووعدها له بشأن الدولة العربية والتصدي للاحتلال العثماني انذاك وسياسة التتريك فضلا الى خلفيات مؤامرة سايكس بيكو وغيرها من الوعود التي قدمتها اسرائيل لمصر بعد اتفاقية كامب دايفد. ماذا تحقق من ذلك، اين مصر اليوم من عمقها الاستراتيجي في القرن الافريقي؟ أين السودان اليوم بعد التطبيع مع اسرائيل والربيع السوداني؟ أين لبنان بعد ثورة 17 تشرين؟ اين سوريا بعد حرب دامت اكثر من 11 عاما؟

واقعياً، نحن شاهدون على العصر وحقيقة أنه منذ 7 أكتوبر (ولعقود قبل ذلك التاريخ)، لم يشهد حلفاء تل أبيب الغربيون والمستعربون، ما فعلته إسرائيل بالشعب الفلسطيني فحسب، بل زودوها أيضًا بالمعدات العسكرية والقنابل. والذخائر والتغطية الدبلوماسية، والمبررات التاريخية والاخلاقية في المقابل قدمت وسائل الإعلام الأمريكية مبررات أيديولوجية لذبح الفلسطينيين والإبادة الجماعية لهم عبر توصيف اسرائيل بالضحية واعادة استئناف الهولوكوست اليهودي وتوظيفه اعلاميا لتبرير جرائم الحرب والتلاعب بالذاكرة الجماعية وتزوير السردية المعرفية للتاريخ.

لماذا دائما يتم التعاطف مع الابادة اليهودية اكثر من الابادات الاخرى التي لا تقل سوءا مثل رواندا، و ابادة الايغور والارمن والاكراد والهنود الحمر والموريكسيين والاوكران والمسلمين السنة في دارفور والبوسنة ولا ننسى امريكا اللاتينية اي المكسيك البيرو وافريقيا الجنوبية وبنغلادش والعراق ونيجريا وو..

 ومع وجود البلطجة العسكرية التي تمارسها الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وكندا خلف إسرائيل بالكامل، فإننا نحن شعوب العالم العاجزة، مثل الفلسطينيين، لا نهتم. وهذا ليس مجرد واقع سياسي؛ كما أنها وثيقة الصلة بالعالم الخيالي الأخلاقي والفلسفي للانوار والنهضة والتي تطلق على نفسها اسم العالم الحر والديمقراطي، والانساني وحقوق الانسان هم الحلقة الاكثر تعرضا للتداعيات والأثار ما بعد حرب غزة بفعل التغيرات الديمغرافية وانظمة الحكم الجديدة. فهل الغرب اليوم قادر على الابداع وابتكار خداع جديد يوهم بها العالم بحجة نشر العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان.

فبعض المستشرقون أو فلاسفة الغرب اليوم، امثال إيمانويل كانط، وجورج فيلهلم، وفريدريش وهيغل، واستمراراً مع إيمانويل ليفيناس وسلافوي جيجيك، التي تحاكي شذوذات، وأشياء معروفة كلف المستشرقون بفك رموزها. وعلى هذا فإن مقتل عشرات الآلاف منا على يد إسرائيل، أو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، لا يثير أدنى توقف في أذهان الفلاسفة الأوروبيين لاننا باعتقادهم، مجرد تجارب بشرية الهدف منها، تحقيق التفوق والتمركز الغربي والهيمنة على كافة مصادر الثروات والمعرفة في العالم من اجل تأبيد الاستكبار الغربي واستعلاء العرق الابيض وتسيده على باقي الشعوب، وهذه مشكلة ينبغي معالجتها عقائديا اكثر منه سياسيا لان عدم استقرار منطقة الشرق الاوسط بشكل خاص هو بفعل هذا الصراع الديني –القبلي –العرقي الذي يجد مصوغاته وفق نصوص دينية تبرر اعماله وافكاره العنصرية.

 وإذا كان العالَم يطرحُ أسئلة مماثلة حول فيلسوف ألماني كبير آخر، وهو مارتن هايدجر، في ضوء انتماءاته الخبيثة إلى النازية. في رأيي، يجب علينا الآن أن نطرح مثل هذه الأسئلة حول صهيونية هابرماس العنيفة والعواقب المهمة على ما يمكن أن نفكر به في مشروعه الفلسفي بأكمله؟

إذ لم يكن لدى هابرماس ذرة من المساحة في مخيلته الأخلاقية لأشخاص مثل الفلسطينيين، فهل لدينا أي سبب لاعتبار مشروعه الفلسفي بأكمله مرتبطًا بأي شكل من الأشكال ببقية البشرية - بما يتجاوز جمهوره الأوروبي القبلي المباشر؟

 وفي رسالة مفتوحة إلى هابرماس، قال عالم الاجتماع الإيراني البارز آصف بيات إنه "يناقض أفكاره" عندما يتعلق الأمر بالوضع في غزة. مع كامل احترامي يقول: " أرجو أن أختلف، أعتقد أن تجاهل هابرماس لحياة الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع صهيونيته. وهو ينسجم تماماً مع النظرة العالمية التي ترى أن غير الأوروبيين ليسوا بشراً بالكامل، أو أنهم "حيوانات بشرية"، كما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت علناً..

إن هذا التجاهل المطلق للفلسطينيين متجذر بعمق في الخيال الفلسفي الألماني والأوروبي. والحكمة السائدة هي أن الألمان، وبسبب ذنب المحرقة، طوروا التزاماً قوياً تجاه إسرائيل وهذه فاجعة القرن لجهة كيفية تحسين مسار هذا الاستكبار في حين لم يجري مصالحة ذاتية والاعتراف بجريمته والاعتذار عنها وهذا ينطبق ايضا على واقع فرنسا مع الجزائر ومستعمراتها في افريقيا، فجميع الامم تعتذر وتتصافح الا النزعة الاوروبية لا تزال تكابر وترفض الاعتذار.

 ولكن بالنسبة لبقية العالم، كما يتضح الآن من الوثيقة الرائعة التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، هناك اتساق تام بين ما فعلته ألمانيا خلال حقبتها النازية وما تفعله الآن خلال حقبتها الصهيونية.

 أعتقد أن موقف هابرماس يتماشى مع سياسة الدولة الألمانية المتمثلة في المشاركة في المذبحة الصهيونية للفلسطينيين. وهو يتماشى أيضًا مع ما يُنظر إليه على أنه "اليسار الألماني"، مع كراهيته العنصرية وكراهية الإسلام والأجانب للعرب والمسلمين، ودعمهم الشامل لأعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية..

 ويتعين علينا أن نغفر إذا تصورنا أن ما تعانيه ألمانيا اليوم لم يكن ذنب المحرقة، بل الحنين إلى الإبادة الجماعية، كما انغمست بشكل غير مباشر في المذابح التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين على مدى القرن الماضي (وليس فقط في المائة يوم الماضية).

وهذا الانحطاط الأخلاقي ليس مجرد زلة سياسية أو نقطة أيديولوجية عمياء. فهو مكتوب بعمق في مخيلتهم الفلسفية، التي ظلت قبلية بشكل لا يمكن علاجه.

وهنا، يجب أن نلخص عبارة الشاعر المارتينيكي المجيد إيمي سيزار: "نعم، سيكون من المفيد أن ندرس سريريًا، بالتفصيل، الخطوات التي اتخذها هتلر والهتلرية وأن نكشف للبرجوازية المسيحية المتميزة جدًا والإنسانية جدًا القرن العشرين، دون أن يدرك ذلك، ما يعتري هتلر بداخله، وما يسكنه، وأن هتلر هو شيطانه، وأنه إذا انتقده، فهو غير متسق، وهذا، في جوهره، ما لا يمكنه أن يغفره هتلر، ليس الجريمة في حد ذاتها، أي جريمة ضد الإنسان، وليس إذلال الإنسان في حد ذاته، بل الجريمة في حق الرجل الأبيض، وإذلال الرجل الأبيض، وحقيقة أنه طبق على أوروبا الإجراءات الاستعمارية التي حتى ذلك الحين كانت مخصصة حصريًا لـ الشعوب العربية والهندية والإفريقية لذلك من الصعب تقديم اعتذار.

بالختام، فلسطين هي اليوم امتداد للفظائع الاستعمارية التي يستشهد بها سيزار في هذا المقطع. ويبدو أن هابرماس يجهل أن تأييده لذبح الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع ما فعله أسلافه في ناميبيا خلال الإبادة الجماعية هيريرو وناماكوا في افريقيا، معتقدين أن العالم لا يراهم على حقيقتهم.

في النهاية، من وجهة نظري، لم يقل هابرماس أو يفعل أي شيء مفاجئ أو متناقض؛ بل على العكس تماما. لقد كان متسقًا تمامًا مع القبلية غير القابلة للشفاء في نسقه الفلسفي، والتي اتخذت بشكل خاطئ موقفًا عالميًا.

 لقد تحرر العالم الآن من هذا الشعور الزائف بالعالمية وبدأ يبحث عن كينونته وكرامته وفق خطاب مقاوم وسردية جديدة يخاطب بها المستعمر بلغة اليوم. إن الفلاسفة مثل في واي موديمبي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو والتر ميجنولو أو إنريكي دوسيل في الأرجنتين، أو كوجين كاراتاني في اليابان لديهم مطالبات أكثر شرعية بكثير بالعالمية من أي وقت مضى لدى هابرماس وأمثاله.

 في رأيي، يمثل الإفلاس الأخلاقي لتصريح هابرماس بشأن فلسطين نقطة تحول في العلاقة الاستعمارية بين الفلسفة الأوروبية وبقية العالم. لقد استيقظ العالم من سبات الفلسفة العرقية الأوروبية الزائفة. واليوم، نحن مدينون بهذا التحرير للمعاناة العالمية لشعوب مثل الفلسطينيين، التي أدت بطولاتهم وتضحياتهم التاريخية الطويلة إلى تفكيك الهمجية السافرة التي كانت تقوم عليها الحضارة الغربية.

***

كتابة: أورنيلا سكر

صحافية لبنانية متخصصة في العلاقات الدولية والدراسات الاستشراقية

 

بعيدا عن لغة المناكفات المستمرة بين مكونات الطبقة السياسية وخصوصاً جماعة حماس ومحور المقاومة من جهة ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية من جهة أخرى وهي حالة لم تتوقف بالرغم من الحرب التي تستهدف الكل الفلسطيني، فإن مقاتلي حركة حماس وفصائل المقاومة عملوا ما يستطيعون وأبلوا في المواجهات المباشرة مع جيش العدو بلاءً حسناً، ويعطيهم العافية بالرغم مما لحق بغزة والوطن من ضحايا يزيدون عن مائة ألف ما بين شهيد ومفقود وجريح، والدمار الذي طال كل مناحي الحياة.  

ومنظمة التحرير والسلطة بذلوا جهوداً دبلوماسية وسياسية في فضح العدوان وتحريض العالم على الكيان الصهيوني ومحاولة تجنيب الضفة ما تعرض له قطاع غزة، وفي تحركاهم كانوا يتجنبون المس بخطوط حُمر إن تجاوزتها ستفقدهم وجودهم، كما أنهم غير مقتنعين بجدوى الحرب في غزة ومتخوفين من نتائج الحرب أي كانت هذه النتائج بل ومتخوفين بأن تنتهي الحرب بتسوية ما بين حماس وإسرائيل.

 وما يسمى محور المقاومة بقيادة طهران ناوش وهاوش انطلاقاً من جبهات بعيدة عن إيران التي كانت تحرك هذه الجبهات بالريموت كنترول، ولا يمكن انتظار مزيد من التصعيد من أطراف هذا المحور لأن حساباتهم الوطنية الداخلية أهم من غزة ومن كل القضية الفلسطينية.

 ومصر وقطر عملوا ما يستطيعون في الهامش المسموح لهم بالتحرك فيه كوسطاء، ولم ينجحوا في وقف العدوان حتى على مستوى هدنة إنسانية، وشكرا على جهودهم.

والأمم المتحدة ومنظماتها بما فيها محكمة العدل الدولية لم يستطيعوا تغير الواقع القائم أو إجبار إسرائيل على تنفيذ أي قرار دولي حتى دورهم الإنساني مشكوك بنجاعته .

كما انكشف مستور جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومحدودية تأثير التحركات الشعبية العربية والدولية بالرغم من أهميتها.

كما سقطت مبكراً كل المراهنات على خلافات إسرائيلية داخلية يمكنها اسقاط نتنياهو ووقف الحرب، حيث تُجمِع كل القوى السياسية في دولة الكيان على استمرار الحرب حتى بدون نتنياهو.

كما لا تنتابنا أي أوهام بتحرك صيني أو روسي أو من أي صديق أو حليف أجنبي لوقف الحرب على غزة ومساندة الشعب الفلسطيني حتى على مستوى التحرك السياسي حيث كل التحركات في هذا المجال تأتي من واشنطن والغرب.

فعلى ماذا يعول الشعب الفلسطيني وماذا ينتظر؟ وهل مطلوب من الشعب أن يستمر في تلقى الضربات وتقديم الضحايا ويتعرض للدمار في غزة والضفة تحت وهم أنه يدافع عن القدس والمسجد الأقصى وأن الحرب التي يخوضها تأتي في سياق الدفاع عن الأمتين العربية والإسلامية !!ولماذا مطلوب من الفلسطينيين أن يدافعوا عن الأمتين وليس العكس؟.

هل سيستمر الشعب الفلسطيني في انتظار مبادرات الآخرين وما يخطط له نتنياهو؟ ولماذا لا يستعيد الفلسطينيون زمام المبادرة ويطرحوا رؤية وطنية وموقف وطني يعبر عن الكل الفلسطيني في كل ما يجري بدلاً من أن تنتظر حماس انهيار السلطة في الضفة وتنتظر السلطة انهيار حماس في غزة؟

ولماذا لا توجد تحركات شعبية فاعلة تأخذ زمام المبادرة بدلاً من انتظار تحرك من طبقتين سياسيتين مأزومتين في الضفة وغزة؟ وأين هو المجتمع المدني الفلسطيني الذي طالما تشدق رواده بدورهم المجتمعي والسياسي والحقوقي في الدفاع عن الشعب؟.

***

د. ابراهيم ابراش

 

في ايار/ مايو 1983، بعد نحو عام من اندلاع حرب لبنان، وبعد مقتل نحو 500 جندي فيها، قررت مجموعة من المواطنين تأسيس حركة "آباء ضد الصمت". والتقى ممثلوها بوزير الدفاع آنذاك، موشيه ارنتس، الذي أوضح لهم أنه يعارض بشدة انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان.

لم يقنع آرنس الآباء الذين واصلوا نضالهم حتى يونيو/حزيران 1985، ولم تقرر الحركة حلها إلا عندما انسحب الجيش الإسرائيلي من معظم أنحاء لبنان، لأنها اعتقدت أنها بذلك حققت أهدافها. ولم يكن هناك شيء أبعد من ذلك واستمرت الحرب، وقُتل جنود، وبلغت ذروتها بكارثة المروحية في فبراير/شباط 1997، والتي قُتل فيها 73 جندياً.

وبعد ثلاثة أشهر، تأسست حركة "الأمهات الأربع". النشاط العلني للأمهات والآباء الذين طالبوا بالانسحاب من لبنان لم يمر بهدوء. وقال قائد لواء جولاني العقيد شموئيل زكاي للجنود: "اتركوا كل الأوغاد الذين يتحدثون ضد البقاء في لبنان، اتركوا الخرق الأربعة، نحن جنود جولاني". وقُتل بعد ذلك بعامين بعبوة جانبية، حيث ادعى أن الحركات التي تؤيد الانسحاب الأحادي الجانب تعرض الجنود للخطر، لأنها تشجع السكان المحليين وحزب الله على حد سواء على العمل ضد الجيش الإسرائيلي. وستمر 13 سنة أخرى، والمئات المزيد من القتلى قبل أن تقرر الحكومة الانسحاب.

ومن المهم جداً أن نتذكر الخطاب العام المرير الذي دار في إسرائيل خلال حرب لبنان الأولى، لأن تصريحات مماثلة تُسمع اليوم ضد أفراد عائلات المختطفين الـ 136، الذين يطالبون بإعادة أحبائهم إلى ديارهم. كما بدأت التحركات العسكرية تبدو وكأنها تكرار لتلك الحرب. مرة أخرى يتم الحديث عن "حزام أمني"، هذه المرة بين إسرائيل وغزة، عن الاستيلاء على محور فيلادلفيا، ومرة أخرى يدوس مطلب "النصر الشامل" كل علامة استفهام وكل تشكك، بدعوى أنها لا تزيد إلا زيادة. وهو الثمن الذي تطالب به حماس مقابل إطلاق سراح المختطفين.

وسبق أن اتُهم أهالي المختطفين بـ "تزويد حماس بالأسلحة"، وأنه "ليس من حقهم الانتقاص من الحكومة التي تعمل ليل نهار لقيادة الحرب وتؤدي إلى عودة المختطفين"، كما تقول تالي غوتليب. تقول الكلمات. من المتوقع أن يصبحوا خلال فترة قصيرة أعداء للشعب، "أسمالاً" تمنع الجيش الإسرائيلي من الانتصار، أو على الأقل استكمال حملته الانتقامية في غزة. إنهم بالفعل يسيرون على الطريق الآمن الذي سينقلهم من غزة. من حالة "هدف حرب" إلى حالة الهجوم المعنوي الذي يقتل بسببه المزيد من الجنود.

أمس ، وبعد الحادث المروع الذي قُتل فيه 21 جندياً، قفز عدد جنود الجيش الإسرائيلي الذين قتلوا منذ بداية "المناورة البرية" إلى 219، وإلى 556 منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. في حرب لبنان الأولى، التي استمرت من عام 1982 إلى عام 1982، في عام 2000 قُتل 1216 جندياً، كما ورد أنه على مدار 107 أيام، قُتل 44% من إجمالي عدد الجنود الذين قتلوا في الحرب التي استمرت 18 عاماً في غزة وإسرائيل، وهي أرقام مثيرة للقلق وتنتظر رداً مدنياً مناسباً، مثل ما حدث في عام 2000. التي اندلعت خلال حرب لبنان.

لكنها تتردد. لأن إسرائيل انغلقت سريعاً، من دون فحص وتدقيق، من منطلق الثقة الكاملة بالقيادة التي قادتها إلى الكارثة في 7 تشرين الأول/أكتوبر، بمفهوم جديد، ذلك الذي يضمن لها القضاء على حماس، والأمن للمستوطنات المحيطة بها. إطلاق سراح المختطفين. نفس إسرائيل التي "خيبت أملها" في تشرين الأول (أكتوبر)، دخلت الآن في حالة سبات، وفي يدها مشروع قانون أمني مشكوك فيه. علمتنا حرب لبنان الثانية أنه لا يجوز للحركة الاحتجاجية أن تنتظر حتى تتوقف النار. لقد استوعب أهالي المختطفين هذا الدرس جيداً. والآن حان الوقت لكي يطرح أهالي الجنود أسئلة محددة ويصرون على الحصول على أجوبة حقيقية.

***

ياسر حسين احمد -  كاتب وباحث سياسي

 

برزت مؤخرا بعض الأفكار وغيرها التي تصب في تفكيك هذا المرفق العمومي وتحويل جزء من اختصاصاته إلى جهات أخرى بالرغم من الطابع التقني الذي يطبع هذا الاقتطاع، فإنه يحول جزءا من ذاكرة الوطن نحو المجهول ويبعث على القلق ويثير أكثر من علامة استفهام في بلد لا زال يشق طريقه نحو النماء والحداثة والانتقال الديمقراطي، وهي بالفعل مؤشرات لا يمكن تحقيقها عمليا على أرض الواقع إلا بجدلية الثقافي والديمقراطي بحيث لا يمكن لأي أحد أن يجادل  في أن عملية الانتقال الديمقراطي وتصالح المؤسسات الرسمية إلا بولوج عوالم التعبير الحر وشفافية التدبير ومصداقية الخطاب وتعدد الاختيارات، ولا شك أن المجتمعات الموجودة في مصاف التقدم والنماء سلكت منهج الانتقال في شروط تاريخية ومقدمات موضوعية واضحة كان للشق الثقافي الفاعل الرئيسي في ردم فجوات التخلف والانتقال نحو الانبعاث، فالثقافي هو التعبير عن كيان ووجدان الأمة وحاجاتها الذاتية وأنماط عيشها وأسلوب التواصل  والتلاقح والتجانس بين متناقضاتها الداخلية والتفاعل مع محيطها الخارجي دون إلغاء أو تعسف.

فالإيمان بمكونات المجتمع ومجالات تعدده واختلاف أنساق تفكيره وطرق تدبيره هو الذي يصيغ عملية الانتقال السلس نحو الديمقراطية، لأنها تركيب معقد لأفكار ومفاهيم مجتمعية يؤطرها الفاعل الثقافي. وفي بلد كالمغرب ظل المؤشر الديمقراطي لفظا لغويا تتناقله الألسن وتدبجه الأحزاب السياسية في مقرراتها التنظيمية وأوراقها السياسية دون أن يكون له أثر أو مس بجوانبه النضالية أو مساره التدبيري، كما تستغله المؤسسات الرسمية بمختلف تشكلاتها وتلاوينها بترويض خطابها وتسويق صورتها تاركة المجتمع يعيش في فوضى مفاهيمية غامضة حول الديمقراطية، لا سيما وأن الحلقة  الثقافية ظلت مفقودة بفعل عوامل متعددة منها ما هو سياسي وآخر نفسي.

فالمجتمع المغربي عبر حقبه التاريخية ومراحله الصعبة ظل متماسكا فكريا وعقائديا ولم تتمكن التيارات الواردة شرقا وغربا من التأثير في نسيجه الثقافي بل استطاع تذويبها وصياغتها وفق ميكانيزماته وأنساقه الفكرية وتمثلاته التعبيرية، بل عُرف عنه قدرته في تمطيط كل التناقضات وتصريفها في أشكال تنسجم وعمق هويته وخصوبة سهوله وانتصاب مرتفعات جباله وهضابه وصحاريه.

لكن المعطيات الجيوستراتيجية في بداية القرن لم تكن في صالح البلد خاصة بعد أن عجلت معركة إسلي 1844 بأن تعري كما قال المؤرخ الناصري عن ضعف البلاد عسكريا واقتصاديا ولم تكن الاتفاقيات السياسية التي تلتها إلا وجه آخر من الاختراق الكولونيالي للمغرب خاصة وأن معاهدة الجزيرة الخضراء جاءت لتكرس واقعا جديدا أملته ظروف دولية عجلت تطور الأحداث ما بين 1906 و معاهدة الحماية 1912   لتضع المغرب بكل بنياته الفكرية والسياسية أمام منعطفات وهزات قوية شكل النسق الثقافي والعمق الديني للشعب المغربي وحدة متكاملة ومتجانسة في مواجهة المد الاستعماري ومحاولاته لاختراقه أيديولوجيا فيما أصبح يعرف بالظهير البربري وبلاد السيبة والمخزن، لكن في خضم النقاش السياسي أو مشروع الإصلاح الذي تقدمت به الحركة الوطنية في مطلع الأربعينات من القرن الماضي ظلت الأرضية الثقافية ناقصة تتجاذبها أفكار وقراءات متعددة بحكم المحور الطبيعي الذي تشكلت منه نخبها السياسية (الرباط – فاس – سلا -)، ولم يكن بإمكانها في ظل القضايا الوطنية المستعجلة بلورة وصياغة خطاب فكري وسياسي مبني على مشروع ثقافي يؤمن بالتعدد والاختلاف حيث تجلت معالمه على الميدان ما بين مسار المقاومة واختيارات جيش التحرير وما أفرزته من تناقضات وصراعات في كيفية تدبير مغرب ما بعد الاستقلال كما أن المؤسسة الرسمية بحكم مشروعيتها الدينية والتاريخية ظلت تعتبر الميدان الثقافي مجالها الحيوي وامتدادها الطبيعي، لكن الصراع الأيديولوجي في مطلع الستينات والسبعينات من نفس القرن أجهض المشروع الثقافي الوطني ولم يكن قرار إحداث مرفق عمومي بالخيار الصائب في حكم التوجهات الرسمية التي حصرت مضامين تدخله وضيقت على هامش تحركه في صنوفه المتعددة (التراث الكتاب، الإبداع، التعدد، الفنون الشعبية، تأهيل الأنسجة والأنساق التعبيرية) ولم يشفع التدبير الحزبي من إنقاذ المؤسسة الرسمية (وزارة الثقافة) من طابعها التوثيقي بل أسهم في تعميق الهوة بين المشروع الوطني لتدبير الثقافة والاختيارات الحزبية الضيقة.

لذا، المطروح بعد هذا التوضيب التاريخي لمسلكيات الفعل الثقافي وأدواره الطبيعية في عملية الانتقال الديمقراطي أن نطرح وبدون عُقد تاريخية هل لنا فهم واحد للثقافة وهل الشأن الثقافي في حاجة إلى مؤسسة رسمية لاحتضانه وما الجدوى من قيامها وهي مشلولة الاختيار ومحدودة التأثير ولم تعد قادرة على أن تؤدي دورها كما جاء في التقريرين الأخيرين تقرير المجلي الاعلى للحسابات وتقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي وتهافت بعضهم لتشجيع التفاهة والميوعة وإقصاء الفاعل النقابي الجاد (النقابات الجادة) كما جاء في خطب صاحب الجلالة .والذي تحول إلى مسمى النقابات الأكثر تمثيلية لخدمة الحزبيين الحكوميين كما أن هذه المؤسسة غير قادرة على التدخل في الوقت الذي أصبح فيه جزء من ذاكرتنا يفوت ولا يعي 12 قرنا من الوجود.

ألم يآن الأوان لتفعيل المجالس الجهوية العليا للثقافة تماشيا مع تنزيل مشروع الجهوية الموسعة لتحيين وجرد ورد الاعتبار للصناعات الثقافية المحلية التي انقرضت أو في طريق الإنقراض من أجل الحفاظ على الهوية المغربية الأصيلة والأصلية والإسراع في إنقاذ جزء من ذاكرة وطن ومخططات تفكيك هويتنا وتسليعها.

***

حسن الأكحل - فاعل ثقافي

 

منذ احتلاله عام 2003 يتابع المواطن العراقي باهتمام مواقف الأحزاب والكتل السياسية العراقية وتحركات قادتها. على وجه الخصوص الشخصيات التي يعتقد قياسا بما هو موجود على الساحة السياسية العراقية من بعد سقوط النظام السابق، أن لديها نفسا وطنيا واضحا ورغبة صادقة في تغيير الأوضاع العامة وبناء مؤسسات الدولة وتوجيه بوصلة العراق نحو التجديد والبناء، سيما في الشأن الاقتصادي والسياسي والمعيشي للمواطنين دون تمييز. لكن الأمور لا زالت تسير خلاف ما كان المواطن يتوقع. فحال الفرد العراقي على كافة الصعد الاجتماعية والمعيشية والصحية والأمنية، لا يختلف اليوم عن حال من عانوا زمن دكتاتورية النظام السابق حيث وصل بهم الأمر بيع الكتاب والباب والشباك لسد رمق أبنائهم. فضلا عن شدة القلق والهواجس التي يعانون نتيجة فساد وسوء إدارة السياسيين الجدد، التي يكتنفها الكثير من النفاق والانتهازية الشعبوية في مسألتين: منسوبيه الأفضلية الشعائرية لغسل الأدمغة. والثانية: الادعاء كطبقة سياسية لطائفة كما يزعمون كانت تعاني دون سواها زمن النظام السابق.

على أساس هذين العنصرين والدور السلبي الذي لعبته بعض الأطراف السياسية ومنها قوى المجتمع المدني والأحزاب الوطنية التقليدية بطريقة لا تخلو من الساذجة والمجاملات على حساب مصالح الأمة، لم تتمكن هذه الطبقة في المقام الأول من سحب مشروع السلطة لصالحها دون رجعة وحسب. بل على الرغم من أنها لا تمثل في أفضل الأحوال حسب نتائج الانتخابات الخمس السابقة أكثر من مليون ونصف مواطن من مجموع أكثر من 40 مليون عراقي، تهيمن دون وجه حق على القرار الجمعي للمجتمع العراقي ومصادرة حق الشعب كمصدر للسلطات للبت في القضايا المصيرية للعراق ومنها مصالحه الجيوديموغرافية وثرواته الوطنية ووحدة أراضية وأمن مجتمعاته.

وعلى صعيد آخر تمكنت من عسكرة الأحزاب وتطبيع وجود مسلحيها في الحياة العامة بشكل منظم... التفريط بمركزية الحكم ووحدة العراق وفقا لمبدأ التوافقية والمحاصصة الطائفية التي جاءت بـ "الفيدرالية" بعيدا عن أي منهج عقلاني يضمن حقوق الجميع بواقعية وحكم القانون. إشاعة الفساد وهدر المال العام والإثراء والنهب والسرقة المنظمة على أعلى مستويات الهرم السلطوي دون عقاب أو مسائله، وفق مبدأ من أين لك هذا؟. توزيع الموارد المالية المتأتية عن صادرات النفط وعائدات الكمارك الحدودية بين الأحزاب وقادتها على أسس طائفية وعرقية وقومية من باب المجاملة السياسية على حساب المواطن والمحافظات الفقيرة. القصور في بناء مؤسسات الدولة وأهمها الجيش والشرطة والأمن وتقاسم الولاءات فيها على أسس طائفية شلت أداء العاملين، وتفضيل الوصوليين والمنتفعين والجهلة والمحتالين على المخلصين منهم. البون الشاسع بين معيشة المواطنين من ناحية المرتبات والسكن وسوء الخدمات، قياسا بأصحاب النفوذ ومنتسبي أحزاب السلطة في بلد غني لم يعد يوفر للمواطن أبسط مقومات الحياة وأهمها الطعام والأمن والسكن.

معضلات واسعة وكثيرة معالجتها تحتاج إلى الجدية والإخلاص والصدق والتعاون، وفق برنامج جبهوي معاصر تجتمع على أرضيته جميع الأطراف والقوى الوطنية العراقية المعارضة، التي تشعر بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية لإنقاذ البلد ومستقبل أبنائه.

إن ما يثير الاستغراب عدم إدراك العراقيين، سيما الأغلبية الصامتة ومنتسبي الأحزاب التقليدية وما يسمون بالمستقلون، حقيقة تناغم رأي الإدارة الأمريكية مع تمنيات أصحاب السلطة الطائفيين لتقييد المجتمع العراقي وعدم ضبط إيقاع مصالحه الوطنية، بهدف تأمين مصالح الطرفين على مستوى العراق والمنطقة. فضلا عن المبالغة في حصر الأمور في نطاقها الضيق، والميل إلى عدم النظر بجدية لتوسع دائرة الاحتمالات المتعلقة بتفكيك الدولة العراقية وأسبابها المعقدة... وما يدعو للقلق أيضا، تعامل القسم الأكبر من السياسيين العراقيين مع أمور بلدهم المصيرية بشكل غير مسؤول. ولمن الغرابة بمكان انقلاب المثقفين واليسار العراقي على مبادئهم وأفكارهم ومواقفهم حد قلب المعادلة والالتحاق بركب المطبلين لتجميل صورة ما يسمى بالعملية السياسية والدفاع عن مظاهرها الأيديولوجية الزائفة. الأمر الذي جعل الأزمة تتأرجح بين العودة للنهج القديم أو الانهيار الكامل.

إن الطبقة السياسية التي أصبحت صاحبة نفوذ ومال وسلاح، لم تعد ماسكة بالسلطة فحسب، إنما شد قبضتها على السياسة والدولة معا. فيما يشاع عن أحزاب المعارضة خلف كواليس السياسة ودهاليزها العلنية والسرية، لا يعبر عن الحقيقة لتغيير نظام الحكم وإحلال العدل، بقدر ميلها للمشاركة في السلطة والجاه والمال. إن قناعتنا مهما قيل: التغيير لا يمكن أن يجد طريقه ما لم يطرد المنافقون والانتهازيون، المتقلبين والمنقلبين، من لدن أي حركة سياسية تطمح لاستقطاب الناس وتحقيق أمانيهم في العيش والسعادة والرفاه الاجتماعي والاقتصادي والأمني. وما لم ينهض المجتمع برمته ليتحمل مسؤولياته ونزع البراءة الساذجة والتفكير العاطفي الذي لا جدوى منه عن كاهله. إذ لم يعد مجالا لاستمرار هذه الطبقة في حكم البلد بهذه الطريقة السافرة دون أن يزعزعها أحد.

لا نظن أن أحدا يجهل أحوال العراقيين ونمط صراعاتهم النفسية والمجتمعية التي سببها المعارضة السابقة والمتسلطة اليوم على رقاب العراقيين لأكثر من عقدين، لم ينتج سوى زيف ادعاءات كاذبة. ولا نظن أن "الموقف": إذا ما سيطرت أحزاب الإسلام السياسي على المجالس المحلية في أغلب المحافظات، وأصبحت أكثر تفردا وتأثيرا في البرلمان الاتحادي سيتغير!. لكن نتساءل: كيف ستكون المعادلة السياسية للمعارضة باتجاه تحقيق الدولة المدنية بدل نظام التوافقية الطائفية الشوفينية في قادم الأيام؟. السؤال موجه هنا إلى جميع القوى السياسية المعارضة.

ننتظر الجواب على مهل، وسيختبر التاريخ كل طالب صيد، وظن العاقل خير من يقين الجاهل.!!

***

عصام الياسري

الشّعبويّة وصف يطلق على نمط التّفكير السّياسيّ الذي يميل لتقديس الشّعب باعتباره يمثّل الحقّيقة المطلقة، وتشتقّ كلمة الشّعبويّة من الشّعب، والقدرة على إقناع أوسع قدر ممكن منه؛ ومثل هذا الوصف يعتمد على الدّيماغوجيا التي تقوم على دغدغة عواطف أكثريّة النّاس والتّأثير في مشاعرهم بخطابٍ موجّه إليهم مباشرة ويدّعي تمثيلهم والنُّطق باسمهم. وبشكلٍ عامّ تميل الشّعبويّة إلى الانعزاليّة وذلك للحفاظ على تماسكها وعلى أتباعها.

ولا يمكن تحديد تاريخ دقيق لنشوء الشّعبويّة، ولعلّها كانت موجودة في كُلّ العصور، لكنّ ظهورها يختلف من مجتمعٍ إلى آخر، وأمّا التعبير المعاصر عنها، فإنه يمكن إرجاعه إلى نشوء حركة شعبويّة في روسيا والولايات المتّحدة في أواخر القرن التّاسع عشر، وإنْ كان كلّ خطاب يوجَّه إلى "العامّة" ويدّعي النطق باسمها هو خطاب شعبويّ، لكنّها بالأصل عُرفَت في روسيا حين نشأت حركة فلّاحيّة رفعت بعض التوجُّهات ذات الصّلة بالعدالة الاجتماعيّة ونشطت هذه الحركة في عهد القياصرة الرّوس، ولا سيّما في عام 1870، وهي الفترة ذاتها التي شهدت فيها الولايات المتّحدة حركات احتجاج في الرّيف ضدّ المصارف وشركات سكك الحديد. ويحيل "جان فيرنر مولر" مصطلح "الشّعبويّة" إلى العواطف والأمزجة أكثر ممّا يمثّله أيّ مضمون (1).

وعلى الرّغم من ارتباطها بالعمل السّياسيّ، ولكنّنا لا ننكر أنّ الشّعبويّة تسرّبت إلى كلّ أنماط السّلوك والعمل الاجتماعيّ، ويلعب وعي الجماهير دوراً كبيراً أيضاً في توجيه السّياسيين والدّينيين وغيرهم من المعنيّين في السّاحات الاجتماعيّة.

ولو انتقلنا بالفكرة من بُعدها السّياسيّ إلى بُعدها الدّيني والثّقافيّ، لوجدنا أنّ الشّعبويّة هي جزء من سلطة العوام على مسيرة تطوّر الفكر الدّينيّ والثّقافيّ.

في العراق، ولا سيّما بعد عام 2003، نزعت بعض الخطابات والبرامج إلى محاباة رأي العامّة بأسلوبٍ يُحاكي ما يحبُّ الجمهور أن يسمعه ويقرأ عنه، وكذلك التّنفيس عن همومه على طريقة بيع الأحلام، دون أيّة محاولةٍ جدّية للدّخول في مناطق النّقد والتّحليل وإعادة النّظر في الإشكالات الأساسيّة التي تتجذّر منها أكثر المشكلات القائمة اليوم، كإدخال النّاس في متاهات الهويّات والطّائفيّة والإبقاء على النّزعة القبليّة والتّعصّبية.

وبسبب الخطاب الشّعبويّ وتعاطيه مع الكثير من الأحداث، فَقَدَ أكثر النّاس القدرة على التّمييز بين السّبب والنّتيجة، والتّفريق بين الأمور الجوهريّة والثّانويّة والسّبب في تسطيح بعض جوانب الخطاب الثّقافيّ وفق مبدأ "ما يريده الجمهور"، حيث أن بعض الفئات المُثقّفة أخذت تتبنّى الآراء الشّعبويّة في شكلٍ مُستنسخ عن ثقافة الفئات المهيمنة على الرّؤى الاجتماعيّة والدّينيّة والسّياسيّة وأساليب خطابها، لكنّ الفارق بينهما في طريقة التّقديم المبنية على الأساليب المنهجيّة والفلسفيّة والأدبيّة ذات الطّراز الرّفيع، وبذلك أصبح الخطاب الثّقافيّ في بعض جوانبه يخدم أطروحات وقضايا الثّقافة الشّعبيّة، ما يعني انحسار دور بعض المثقّفين اليوم في تبرير آراء تلك الأطروحات والقضايا ومجاملة الوعي العامّ ذي التّناقض الفكريّ من الأساس.

في كُلّ الأحوال تتكوّن الشّعبويّة من عنصرين شبه متساويين في القوّة، يتمثّل أوّلها في استعادة وتكرار الشعارات التي تدغدغ أحلام الجماهير من قبل المثقّف الشعبوي، كالدفاع عن الفقير، والمطالبة بحقوقه والسّيادة الوطنيّة، وغيرها من الشّعارات الرّنانة وفق المرحلة التّاريخيّة ومقتضياتها. ويتمثّل ثانيها في الإصرار على الكثير من اللّغو الذي يفقد الخطاب أو النّهج من أيّ مضمونٍ فكريّ، أيّ يتمُّ إفراغ الشّعارات من معانيها ومقاصدها.

خلاصة القول أنّ الشّعبويّة هي حالة تهبّ كـ(الموضات) في لباس المراهقين، لكنّها تتلاشى مع أوّل موضة جديدة. والجماهيرية: هي متطلّبات شعبية عميقة في وجدان الناس. وإنّ إنتاج الوعي الثّقافيّ الجماهيريّ - وليس الشّعبويّ -، ضرورة لبناء أيّ مجتمعٍ ترسخ فيه الثّقافة والإبداع، كما يرسّخ الفلكلور الشّعبيّ والعرف الاجتماعيّ في الوجدان، لمئات السّنين وأكثر.

***

علاء البغداديّ - باحثٌ وكاتبٌ من العراق

....................

1- جان فيرنر مولر": ما الشّعبويّة؟ ترجمة: رشيد بو طيب، منشورات منتدى العلاقات العربيّة والدوليّة، ط1 2014 وط2 2017، ص 43.

 

الرواية كلها تتعلق بتفصيل ثانوي حدث في صحراء النقب يوم 13 آب / اغسطس عام 1949، وضحيته فتاة عربية تعرضت للاغتصاب والقتل بالرصاص على أيدي قائد كتيبة إسرائيلية وجنوده، لكن التهمة، أو الأكذوبة السخيفة القديمة الجديدة، تهمة " العداء للسامية " أُلصقت بهذه الرواية وكاتبتها الفلسطينية المقيمة في برلين عَدَنيَّة شِبْلي، لتقرر إدارة معرض فرانكفورت الدولي للكتاب الذي يعد واحداً من أكبر معارض الكتب في العالم، الغاء حفل تكريمها بجائزة أدبية منحتها إياها الجمعية الأدبية الألمانية.

حدث ذلك والحرب البشعة على غزة مستمرة منذ أسبوعين قبل افتتاح دورة المعرض للعام الحالي من 18 إلى 22 تشرين الأول / اكتوبر، بعد أن انساق منظموه مع موجة تبني الخطاب الصهيوني الذي يسوغ حرب الإبادة الجماعية ضد سكان غزة المدنيين، وسرعان ما أعلنوا عن تضامنهم المطلق مع إسرائيل، وعزمهم "جعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية بشكل خاص في معرض فرانكفورت للكتاب"، مما حدا باتحاد الناشرين العرب إلى مقاطعة هذه الدورة بسبب ازدواجية المعايير، والزج بالثقافة في المجال السياسي، فيما أعلن مئات الكتاب والأدباء المعروفين عالمياً عن تضامنهم مع شِبْلي، ومنهم الحاصلون على جائزة نوبل في الآداب أمثال الروائية الفرنسية آني إرنو، والتنزاني من أصول عربية عبد الرزاق قرنح، والبولندية أولغا توكارتشوك.

" تفصيل ثانوي" رواية لم تهتم بالأحداث الكبرى، بل قل الجرائم الكبرى التي رافقت وأعقبت نكبة العرب في فلسطين، وإعلان تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، إنما تكمن فرادتها في القدرة على توظيف حدث شخصي مأساوي تعرضت له فتاة عربية على أيدي الصهاينة، رمزاً لاغتصاب الأرض والإنسان، وتجسيداً للسلوك الوحشي الحيواني الذي اتسم به المحتلون منذ تدنيسهم لأرض فلسطين، إذ تبدأ الرواية حين " يخيّم قائدُ كتيبة عسكريّة مع جنوده في بقعة من صحراء النقب، يُشتبه في أنها ممرُّ يسلكه المتسلّلون العرب. بعد أكثر من خمسة عقود، تطلق فتاة موظفةٌ فلسطينيّةٌ في رحلة صوب النقب ساعيةً إلى كشف ملابسات حادثة جرت في ذلك المعسكر، مستعينةً بتفاصيل ثانويّة شتّى".

موقف معرض فرانكفورت للكتاب ضد الكاتبة الفلسطينية عَدَنيَّة شِبلْي، لم يشذ عن موقف الحكومات الغربية المنحاز دوماً للكيان الصهيوني، على الرغم من المشاهد اليومية لمجازره الدموية التي أبادت عوائل بأكملها وشطبتها من الحياة، ودمرت أحياءً سكنية عن بكرة أبيها، وغيرت اتجاهات الرأي العام في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بعد أن انكشفت الحقائق بالصوت والصورة والنقل المباشر. لكن خرافة " العداء للسامية " بقيت تعشش في عقول صناع القرار السياسي، وتمنع عنهم ابصار تفاصيل ثانوية مأساوية، تكررت آلاف المرات في مشاهد الحرب على غزة، وأمام أنظار العالم " المتحضر" برمته.

***

د. طه جزاع

 

هل تبقى للبرلمانات مصداقيّة، وللديمقراطيّات قيمة، إذا دخلت فصائلُ مسلحة، تنافس فيها، وتخصص لها حصة مِن الوزارات؟ نعيد السُّؤال بوجهٍ آخر، في مثل هذه الأنظمة، هل للانتخابات معنى، إذا كانت السّياسة حامية لمحاصصة الفصائل؟ فيصبح البرنامج برنامج السّلاح الانتخابي؟! نعم، تجري انتخابات، وتمارس ديمقراطيّة، لكنَّ شريطةَ ألا تمس فاسداً وقاتلاً، له فصيل مسلح، محمياً مِن خارج الحدود، لهذا توهم الواهمون بالدّيمقراطيّة الزّاهيّة، كلما تكررت دورات الانتخابات.

لم يفهموا أنهم يتحدثون عن كوكبٍ آخر، لا عن بلادٍ صار فيها الفاسدون والقاتلون أسياداً، وأنَّ المشاركة في كلّ انتخابات، بوجود الفصائل المسلحة بالاعتقاد والبارود تضفي الشّرعيّة عليهم، وتحقق مقالة مَن قال: «ما ننطيها»! تكلم عمّا شئت ببلدان تديرها، في الحقيقة، فصائل بشعارات المقاومات والممانعات، إلا الأولياء، فالحديث عنهم، بغير تمجيد، الاغتيال والاختطاف ينتظرك، وينتظر القاضي الذي يحكم لك، والمحامي الذي يدافع عنك، فعن أي ديمقراطيّة تتحدثون، وفي أي وهم تعيشون.

أشهد أنّ الفضلَ في هذا المقال، لأحد رؤساء الفصائل، المسؤول عن اختطاف واغتيال، سمعته، وكان وديعاً، يتحدث كأنه إمامٌ صوفي، مِن أتراب: معروف الكرخي أو الجنيد البغداديّ، أو شيخ مِن شيوخ «المندايين المسالمين»، الذين لا يرون القتل حتّى دفاعٌ عن النَّفس، ويعتذرون للحيوان والطَّير المذبوح بترتيلة معروفة.

سمعتُ صاحبنا يستشهد بالمقولة الذَّائعة السّائرة: «الاختلاف في الرّأي لا يفسد للود قضية». قالها صادقاً لا مدعياً، وأقول لا مدعياً، لأنه يعتبر نفسه على حقٍّ، وهل سمعتم مجنوناً اعترف بجنونه؟! فمال الدولة عنده مجهول المالك، بهذا يتصور الفساد فضيلة لا رذيلة، والمقتول بيده قصاصاً، لأنّ القتيل عميلٌ كافرٌ، لذا أنَّ كلَّ قتيلٍ بسلاح فصيل ديني، نُفذ بفتوى. لذا تجده يستغرب ممن يتهمه بالعمالة، وهو يرفع علم غير بلاده، فتلك راية مقدسة تعبر عن بيعةٍ في عنقهِ.

دعونا نبحث قليلاً، بمقولة أو حكمة: «الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»، لا يُعرف ناحَتها على وجه الدّقة، فقد نُسبت إلى أكثر مِن أديب وسياسي وشاعرٍ، ولستُ مصدقاً أحداً، لكنّ الثَّابت وردت ضمن ممارسات وأشعار قديمة، في التُّراث العربيّ. روى الجاحظ(ت: 255هجرية) عن أحوال الخطباء والشُّعراء: «ولم ير النَّاس أعجبُ حالاً مِن الكُميت والطِّرماح. وكان الكُميت عدنانيا عصبياً، وكان الطّرماح قحطانياً عصبياً، وكان الكُميت شيعياً مِن الغاليَّة، وكان الطِّرماح خارجيا من الصِّفريَّة، وكان الكُميت يتعصب لأهل الكوفة، وكان الطّرماح يتعصب لأهل الشَّام، وبينهما مع ذلك من الخاصة والمخالطة ما لم يكن بين نفسين قطٌ»(البيان والتَّبيين).

كذلك روى الجاحظ: «كانت الحال بين خالد بن صفوان وشبيب بن شيبة، الحال التي تدعو إلى المفارقة، بعد المنافسة والمُحاسدة، للذي اجتمع فيهما من إتفاق الصِّناعة والقرابة والمجاورة، فكان يقال: لولا أنهما أحكم تميمٍ لتباينا تباين الأسد والنّمر»(نفسه).

بيد أنَّ المقولةَ جاءت مطابقة لبيت عمرو بن امرؤ القيس(380ميلادية) وقيل لقيس بن خطيم(ت: 2 هجريّة)، ونُسب لآخرين، نَحنُ بِما عِندِنا وَأَنتَ بِما/عِندَكَ راضٍ وَالرَأيُ مُختَلِفُ«(سيبويه، الكتاب، والمَرْزُباني، معجم الشّعراء). مِن قصيدة مطلعها:«يا مالُ وَالسَيِّدُ المُعَمَّمُ قَد/ يُبطِرُهُ بَعضُ رَأيِهِ السَرِفُ». ذكرها الجاحظ في حديثه عن العمائم وأصحابها. على كلّ حال، صارت تلك المقولة الرّائعة، والخياليّة في الوقت نفسه، في متناول الصّادقين والمُدعين، تمثل بها الأخيار والأشرار، مَن يجادل بالكلام والسَّلام، ومَن يجادل ويده على السّلاح، كصاحبنا، وقضيته هلاك البلاد وإخضاع العباد، ووجدتُ متشددين تكفيريين تمثلوا بها عن قناعة. أقول: سفكتم وخطفتم وأفسدتم، لكنّ رحمة بعقولنا، لا تكثروا علينا، فنحن أمام قضية وطنٍ، سلامته لا تقبل سلاحكم رأيَّاً يفسد قضايا.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم