تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

لمناسبة عيد الصحافة.. تساؤلات

هل الصحافة مهنة تخص فقط من يحمل هوية نقابة الصحفيين؟ وهل من كان اكاديميا او موظفا وله نشاط صحفي مميز ويكتب في صحف عراقية وعربية وعالمية لا يعدّ صحفيا؟ ولا يحق له الاحتفاء بعيد الصحافة؟ ولا من واجب نقابة الصحفيين تكريم من امضى نصف قرن يكتب في الصحافة، لأنه لا يحمل هوية نقابة الصحفيين؟! وهل ان الصحافة الورقية ستنقرض، وبومتها يموت الصحفي ايضا، والشاطر من يثبت وجودة في الأعلام الألكتروني؟.

تجربة نصف قرن

لا اتذكر متى بدأت اكتب في الصحافة، والفضل للصحفي الكبير الراحل ( مظهر عارف ) انه كتب في (12 / 7 / 2020) مقالة في الحوار المتمدن جاء فيها بالنص: ( بدأت علاقتي الاخوية مع الدكتور العالم قاسم حسين صالح قبل ٤٠ عاماً عندما كان يزورنا في صحيفة "العراق " ككاتب وكصديق حميم لمديرتحرير الصحيفة الدكتور سمير خيري توفيق. كان قاسم انذاك مايزال يدرس في الجامعة، وكان سمير كذلك، ويتمتع كل واحد منهما بذكاء مفرط، وبروح شبابية وثابة، وبشجاعة رائعة رغم انهما لم يكونا يحملان العقيدة الفكرية والسياسية نفسها. فسمير كان بعثياً بينما كان قاسم يسارياً، ولكنهما كانا على اتفاق في الرؤية لحركة التاريخ وما هو حادث من تغيرات في هذا العالم في السياسة والاقتصاد والثقافة).

هذا يعني أنني بدأت اكتب في الصحافة بداية سبعينيات القرن الماضي. وهنا تنشط ذاكرتي يوم اعلنت مؤسسة الاذاعة والتلفزيون عن حاجتها الى مذيعين فتقدم اكثر من الف، اجتاز الاختبار عشرة كنت احدهم. ودخلنا دورة لثلاثة أشهر تلقينا فيها محاضرات نظرية وعملية في اللغة والصوت وفن الالقاء والدراما والتحرير الصحفي باشراف مدير برامج اذاعة صوت العرب (سعد لبيب) وصحفي مصري (كرم شلبي) وسعاد الهرمزي، بدري حسون فريد، عبد المرسل الزيدي، مالك المطلبي، وثامر مهدي.

الصحفي.. يتعلم

تعود اول تجربة ناضجة لي في الصحافة الى سبعينيات القرن الماضي. يومها كانت تعدّ مجلة (الأذاعة والتلفزيون) هي الأكثر شيوعا لأنها كانت تضم صحفيين من طراز خاص بينهم الراحلان فالح عبد الجبار ومحمد الجزائري، وسؤدد القادري و زهير الجزائري.. .تعلمت منهم مهارات الفن الصحفي، وكيف تكون صحفيا مقروءا. وعلمتني الصحافة ان اكون ذكيا في اربعة: السرعة والدقة واللياقة والدعابة. ولقد وجد رئيس تحريرها الشاعرالراحل زهير الدجيلي مبتغاه في (قاسم) فخصه باجراء تحقيقات صحفية مع مخرجين وفنانين وجد فيها انها توظف (السخرية) سايكولوجيا بما يجعل من تعنيه يبتسم او يندهش كيف ان فيه (كذا) وهو لا يدري!.. الا في حالة واحدة اغضبت صاحبها يوم ظهر مقال ساخر في صفحتها الأولى بعنوان (مكافحة الأمية في الوسط الأذاعي)، فاصدر مدير اذاعة بغداد امرا بانهاء علاقتي باذاعة بغداد حيث كنت اعمل مذيعا فيها، لكنني عدت اليها بعد ان نقله الصحاف الى دائرة السينما والمسرح!.

وتعلمت من صحفيين كبار مضمون (السلطة الرابعة) ووظيفة النقد، وان على الصحفي ان يتصف بثلاثة اخرى: عين سحرية ترى ما لا يراه الآخرون، ونباهة في التقاط المخفي و(المستور)، والمصداقية.. وأن يشعر بأنه محمي. ففي مقالة ساخرة لنا بمجلة الأذاعة والتلفزيون بعنوان (التلفزيون التربوي.. ربي كما خلقتني)، اتصل وزير التربية بمدير عام الأذاعة والتلفزيون (محمد سعيد الصحاف) يخبره بأنه سيحيل كاتب المقال الى المحكمة، فأجابه الصحاف: أقم الدعوى عليّ فانا المسؤول عن المجلة وليس الصحفي.

وفي هذه المجلة (الأذاعة والتلفزيون) تعلمت فنون التحرير والحوار الصحفي، واجريت تحقيقات صحفية مع فنانين عرب:وديع الصافي، نور الشريف، صلاح السعدني، ليلى طاهر، فردوس عبد الحميد.. ومخرجين وفنانين عراقيين:محمد القبنجي، مائدة نزهت، وعفيفة اسكندر التي حددت مدة اللقاء من السابعة الى الثامنة عصرا فامتد الى منتصف الليل!، لأنني اعتمدت وصية الصحفي المصري كرم شلبي (اذا ذهبت الى شخصية معروفة، فاذهب لها وانت معبأ!).. واكتشفت في هذا العالم معنى الجمال وفنون الحب وقيمة الكلمة وسلطة الصحفي في قول الحقيقة.

وفي الثمانينيات تحولت الى مجلة (ألف باء) وكان لي فيها عمود اسبوعي بعنوان (نوافذ سيكولوجية) استمر ثلاث سنوات .وحين غادرت الى اليمن (1998) كان لي عمود في جريدة (الجمهورية) اليمنية، ومقالات في جريدة (العرب) اللندنية.

جائزة التنوير الثقافي لعام 2016

في(11/3/ 2016) نشرت وكالات الأنباء :( بحضور الكثير من البرلمانيين والسياسيين والمثقفين والإعلاميين المخضرمين، وبمشاركة (22) صحيفة ومجلة، شهد الحفل الجماهيري الذي اقيم على حدائق ابي نؤاس الخميس 3 آذار توزيع افضل ثلاث جوائز، هي جائزة (هادي المهدي) لحرية التعبير، ومنحت للصحافي رحمن غريب، وجائزة (كامل شياع) لثقافة التنوير، وحصل عليها عالم النفس العراقي المعروف د. قاسم حسين صالح، فيما حصل رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة المدى عدنان حسين على جائزة (شمران الياسري) للعمود الصحفي).. وواضح أن أحد الثلاثة ما كان صحفيا، لكنه تقليد جميل ان من لا يحمل هوية نقابة الصحفيين، وله نشاط مميز في عملية التنوير.. يستحق التكريم من نقابة الصحفيين.

المدى.. تجربة متميزة

كانت المدى هي الجريدة الوحيدة بعد التغيير (2003) التي تتمتع بالجرأة في نقد السلطة والظواهر الاجتماعية، اذكر لها موقفا كاد ان يعرضني للتصفية الجسدية. فحين فتحت بريدي الألكتروني قرأت رسالة كانت بالنص (غدا يظهر لك مقال في المدى.. وين تروح منّا دكتور قاسم)، وكان الموضوع بعنوان (الزيارات المليونية تحليل سيكوبولتك- موثق في غوغل).. ما اضطر محرر الصفحة الصديق احمد عبد الحسين (رئيس تحرير الصباح حاليا) ان يكتب موضوعا يندد بالتهديد والتشهير وينتصر لحرية التعبير، وادانة بليغة موثقة من السياسي المخضرم الراحل عزيز الحاج من باريس.

وبدءا من العام (2004) الذي شكّل البداية لتحولات اجتماعية وسيكولوجية جديدة على صعيد الفرد والمجتمع، خصصت (المدى) صفحة كاملة لي بعنوان (الأنسان والمجتمع).ولأن الصفحة كانت تتطلب تغطية ميدانية لتلك التحولات، فأنني استعنت بطلبتي بقسم علم النفس (فارس كمال نظمي، ندى البياتي، وانعام هادي) لرفدها ايضا بتقارير صحفية وحوارات وتقديم مشورات لمشكلات شبيه بتلك التي كنت اقدمها في البرنامج الدرامي (حذار من اليأس).

الصحفي الناجح.. متنوع الأهتمامات

الشائع عن الصحافة هو انها متخصصة في نقل الأخبار عن الأحداث التي تهم الناس، لكن الصحفي الناجح هو الذي يستطيع ان يضيف نشاطا يكسبه شهرة جماهيرية، شبيها بتجربة (حذار من اليأس) بجريدة الصباح التي نشرت الحلقة الاولى منها بصفحتين ملونتين في (2009) واستمرت تسع سنوات، يكفي ان نذكر شهادات محرري الصباح بان مبيعات جريدة الصباح تزداد في يوم الخميس بسبب حذار من الياس، وشهادة مدير فرع الكلية الملكية البريطانية في الشرق الاوسط (ا. د . صباح صادق) الذي وصف هذا النشاط الصحفي بانه( يدعو الى الفخر والاعتزاز).

وكانت آخر المجلات التي حظيت بالشهرة هي مجلة (الأسبوعية ) وكان لنا فيها مقال ساخر في صفحتها الأخيرة.. وللأسف فقد توقفت لأسباب تمويلية، ومقالاتنا المستمرة في جريدة (الزمان) التي تحظى بالشهرة.

الصحفي .. والمبدأ

اذكر هنا ثلاثة مواقف فيها ما يفيد صحفيي الجيل الجديد.

الأول:كان لي عمود ساخر في جريدة (الجمهورية) يوم كان رئيس تحريرها الشاعر الراحل سامي مهدي، فدعاني احد الأيام الى مكتبه وقال:

* استاذ قاسم.. جاء تنبيه من جهة عليا يخص عمودك.. ارجوك خفف نقدك الذي توجهه الى الدولة.

وبعد حوار معه، واصراره عى (التخفيف).. شكرته وصافحته مودعا ولم أره من يومها.

الثاني: حصل ان تم تسمية رئيس تحرير المدى الأخ (فخري كريم) مستشارا للراحل المرحوم جلال الطالباني، فوجدت ان بعض العبارات يجري حذفها من مقالاتي.. فتوقفت عن الكتابة.ويوم غادر الأستاذ فخري مبنى الرئاسة، وصلتني رسالة من مدير التحرير الأخ (علي حسين) يبلغني فيها تحيات الأخ فخري ودعوته لي للعودة الى الكتابة.. فعدت.. ليتجاوز عدد مقالاتي فيها السبعمئة مقالا.. لتكون حكايتي مع المدى انموذجا للعلاقة بين هيئة تحرير تعتز بكتابها وكاتب يبادلها الأعتزاز ذاته وان اختلف معها.

والثالث: في العام 1988 تولى وزارة التعليم العالي اكاديمي تشبّع بثقافة فرنسية هو الراحل الدكتور منذر الشاوي، فاصدر جريدة بعنوان (الجامعة) اختار لها ستة صحافيين بينهم الدكتور ياس خضير البياتي رئيس التحرير والدكتور فجر جودة وحسب الله يحيى.. وانا مسؤول الصفحة الأخيرة ولي فيها عمود ساخر. وفي احد الأيام اتصلت بي سكرتيرة تدعوني لمقابلة السيد الوزير.. دخلت فقال:

* استاذ قاسم.. اصعب شي بالصحافة هو العمود الساخر.. وعمودك جيد، بس يحتاج شويه اتطوره.

فأجبته بكلمة واحدة: وتضمنى؟

ضحك واسند ظهره على كرسيه وقال:

· والله هاي راح تكون بين احتمالين.. لو للقمة لو للأمن العامة!

هل انتهت الصحافة الورقية؟

مؤكد انها ستنتهي بعد كذا سنة، لكن الصحفي لن ينتهي، وقد لا يبقى هنالك فرق بين (الصحفي) و(الكاتب).. وقد لا تبقى هناك نقابة باسم (نقابة الصحفيين) .. والشاطر هو من يصنع من شخصه (كارزما).. احد شروطها هو ان يكون ذكيا في التقاط ما ورد في هذه التجربة وتجارب اخرى اغزر وانضج لرموز كبيرة في تاريخ الصحافة العراقية (رفائيل بطي، حسين جميل المحامي، عبد الفتاح ابراهيم..) مثالا، ولنماذج استشهدوا من اجل الكلمة (قاسم عبد الأمير عجام، كامل شياع، رياض السراي..) مثالا، ومعاصرين محترفين (علي حسين، أحمد عبد الحسين، زيد الحلي، .. .) مثالا.. وآخرين يحملون اكفانهم على راحات ايديهم في زمن ديمقراطي! السلطة فيه لدولة عميقة تستسهل انتهاك قدسية الحياة!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

(ربما حان الوقت لنواجه كارما الإبادة الجماعية والعبودية واضطهاد النساء)

ترجمة: الحبيب الواعي

***

النص الذي بين أيدينا مقتطف من محادثة جرت بين آن والدمان والكاتبة ستيفاني لاكافا وسط مانهاتن. آن والدمان  Anne Waldman، شاعرة وفنانة وأستاذة وناشطة ثقافية ولدت بمدينة ميلفيل في ولاية نيوجرسي عام 1945 وترعرعت في جوار غرينتش فيلاج بنيويورك. حصلت على البكالوريوس من كلية بنينغتن، ومنذ الستينات انضمت إلى جماعة شعراء الساحل الشرقي بأمريكا، والتي أصبحت تعرف بالجيل الثاني لمدرسة نيويورك للشعر. خلال هذا الفترة وطدت والدمان أيضا علاقاتها مع الأجيال السابقة من الشعراء بما فيهم كتاب جيل البيت، وخاصة ألن غينسبرغ وويليام بوروز. ساهمت في تأسيس برنامج مشروع الشعر بكنيسة سانت مارك وشغلت منصب مديرته من 1968 إلى 1978. في أوائل الستينات اعتنقت والدمان البوذية، وأصبحت تدرسها جنبا إلى جنب مع ألن غينسبرغ تحت إشراف الزعيم التيبيتي شوغيام ترانغبا رينبوشي. أسست مجلة 'شعر ملائكي' مع الشاعر لويس وارش عام 1966 وصدر منها ستة أعداد إلى حدود 1978. في عام 1974 أسست مع كل من غينسبرغ وترانغبا رينبوشي وديان دي بريما مدرسة جاك كيرواك للشعر التي يوجد مقرها بجامعة ناروبا في بولدر بكولورادو. حصلت على جوائز عدة منها جائزة منظمة الشعر، وجائزة منظمة الفنانين المعاصرين، وزمالة منظمة غوغنهايم وجائزة مركز الكتاب الأمريكيين وشغلت منصب مستشارة أكاديمية الشعراء الأمريكيين. صدر لها أكثر من خمسة وأربعون كتابا في الشعر والنقد من أهمها: 'مناتي/إنسانية'، و'المرأة التي تتكلم بسرعة'، و'نذر من أجل الشعر. مقالات، حوارات وبيانات'، و'المسجد الأزرق'، و'ماكياج على أماكن فارغة' و'زواج' و'ثلاثية لوفيس: ألوان في ميكانيزم التخفي' و'نسوية محتالة' و 'ابنة صوت قلب لم يولد بعد'  و'بنية العالم مقارنة بفقاعة'، كما أشرفت على تحرير 'كتاب جيل البيت' و'كتاب جيل البيبت في ناروبا' و'العصيان المدني: الشعريات والسياسات كممارسة" و"عوالم متداخلة: شعريات عابرة للثقافات'.  تشارك في مشاريع فنية مع العديد من الرسامين والموسيقيين أمثال تورستن مور وكيكي سميت ومريديث مونك.3353 ستيفاني لاكافا

اطلعت والدتي فرانسيس لوفيفر على مؤلفات شعرية وفلسفية خطتها أنامل كتاب حداثيين ومعاصرين، وكانت إلى حد ما عصامية. نشَأَتْ مع أم عزباء شغوفة بالعلوم ومتشبثة بدينها المسيحي. أصيبت بالصمم في أذنها اليسرى منذ طفولتها لأن العلم المسيحي كان حينها يتفادى الأطباء وكان يعتبر المرض ابتلاء بسبب الابتعاد عن الإله. كانت ذكية للغاية، شاعرة محترمة، وكانت تترجم عن اليونانية والفرنسية. قضت عشر سنوات في اليونان رفقة زوجها الأول غلوكوس سكيليانوس، ابن الشاعر اليوناني الشهير أنجيلوس سيكيليانوس. هناك ستلتحق بجماعة فكرة دلفي  Delphic Idea، حيث ستعيد المسرح الكلاسيكي إلى الهواء الطلق تحت اشراف حماتها إيفا بالمر التي كانت أيضًا عضوة في جماعة ناتالي بارني. تعلمت والدتي اللغة اليونانية والحياكة، وهناك في اليونان سيولد أخي مارك. أنا ممتنة لأمي لأنها وهبت عقلًا صارما وجسورا وكانت تلهم وتعزز السكينة والطمأنينة بكونها فنانة.

كان زواجها الثاني من والدي جون والدمان، والذي كان حينها يشتغل موسيقيا. التقيا في حفل إسامو نوغوشي. كان والدي قد قضى فترة من خدمته العسكرية في ألمانيا وكان يدرس في جامعة نيويورك مستفيدا من مشروع قانون GI Bill  الذي استفادت منه قدماء محاربي القوات الأمريكية. عشنا بعد الحرب العالمية الثانية في الطابق العلوي لمنزل في شارع ماكدوغل في مكان ضيق مع كلب وقطة وأخي الأكبر وأخي الأصغر. تعلمت كيف أقضي حوائجي بما تيسر من مال لي وكنت أقدر قيمة المكتبة، لكن جيراننا في الطابق السفلي كانت تربطهم علاقة بهدي ليدبيتر الذي جلست في حضنه عندما كنت طفلة. يا له من صوت عبقري، يا له من شاعر عظيم، متغلغل في أعماق "الصنوبر".

درست بمدرسة فرندز سميناري، وهي مدرسة تمتلكها طائفة الكويكريين، على منحة جزئية خلال سنوات دراستي الثانوية. كان والداي مهتمين بتناقضات وتعقيدات التعليم الإنساني الليبرالي وكان نشطاء الكويكريين المناهضين للأسلحة النووية يخرجون إلى الشوارع للاحتجاج بينما كان التلاميذ يحتمون في الطابق السفلي. أستشهد بهذا وبأيامي الثمانية الأولى في المدرسة العمومية، ممسكة بإحكام بصفيحة كلبية تحتوي على معلومات عن هويتي، كبداية لمعموديتي كفنانة وناشطة. كان التنافر المعرفي يغلب على الاشياء. كيف يمكن أن تدل صفيحة كلبية على جسدك في محرقة نووية؟ لم يكن لذلك أي معنى على الإطلاق. من الأفضل أن تتواجد في الأماكن العامة وتحدث صخبا بدلاً من الاختباء في ملجأ تظن أنه يحميك من القنابل.

كنا جيلاً من المراهقين البوهيميين. كان ابن الروائي جون هيرسي يحمل معه نسخة من "الغذاء العاري" لويليام بوروز في حافظة قيثارته. وجذب جوناثان كوت انتباهي إلى ريلك و"حلم الغرفة الحمراء" لتساو شان. كان بيت بيتر سيجر في نفس الجادة غير بعيد عنا، وكنت أدرس حينها في نفس المدرسة الابتدائية مع راندا هينز التي ستصبح أولى المخرجات السينمائيات في هوليوود. كان يسمح لي بالذهاب إلى منزلها مرة في الأسبوع لمشاهدة التلفاز.

كان مدرس الديانة في مدرسة فرندز سميناري، إيرل ليزلي هانتر، ذو اطلاع شامل على الطاوية والهندوسية والبوذية، وكان مقرر الأديان المقارنة غني بصور المعابد والأضرحة والوضعيات التأملية والحركات الجسدية. لقد انجذبت إلى الصور والجماليات الشرقية: الأناشيد، وترانيم المانترا، والموسيقى الهندية بدقتها وارتجالها، والرقص والموسيقى الصوفية.

كان والداي لا يؤمنان بأي ديانة محددة بالرغم من أنه عندما وُلد ابني أمبروز كان هناك بعض الضغط من الجانب البريطاني -عائلة زوجي ريد الرائعة والأنيقة - لتعميد طفلي. قالت والدتي، "احصلي على كل المباركات الممكنة،" وكان الأمر كذلك، وفي الأخير لجأ ابني إلى البوذية بالرغم من أنه يميل أكثر إلى الفوضوية التي لا ترى مانعا في التصويت. إنه فنان بطبعه.

في أوائل الستينيات، التقيت بمعلمي البوذي الأول، اللاما المنغولي غيشي نغاوانغ وانغيال. كان عمري أنداك ثمانية عشر عامًا وكان غيشي وانغيال يعيش في منزل وردي في إحدى ضواحي نيوجيرسي مع حاشية من الرهبان الشباب، وكانوا يلبسون أردية بنية وعنبية ويأكلون لحم الدجاج. كانوا يملكون مجموعة من منحوتات العجين بألوان مختلفة (غطورما) موضوعة على رف الموقد، وكانوا يحرقون البخور –وكانوا يملكون تماثيل دكيني لنساء جامحات في وضعيات طقسية مختلفة. كان الجو ساحريا للغاية، وكنت أثق في معلمي، في صراحته ولطفه. كان ذلك خلال فصل صيف وكنت حينها أعمل في برنامج للفنون في أحد منازل مستوطنة الكويكريين. في ذاك الصيف حدثت أعمال الشغب في فيلادلفيا وقد عدت مرات عديدة إلى منزل المعلم وانغيال. كان وانغيال وطلابه، بما فيهم روبرت ثورمان النابغة ومعلم البوذية اللامع، يترجمون أيضًا النصوص والترانيم. كانت الترانيم تملئنا بالحيوية، وكانت أحيانًا تعليمية، ولكنها كانت أيضا غامضة مثل الشعر ومرعبة وجميلة في الوقت نفس.

انبثقت فكرة تأسيس مجلة شعر ملائكي Angel Hair من مؤتمر بيركلي للشعر عام 1965، وكان ذلك قبل تأسيس مشروع الشعر في كنيسة سانت مارك، وكانت الشعرية الأمريكية حينها تمر بظروف عصيبة مع اندلاع حرب الفيتنام. سافرت إلى جامعة بيركلي مع صديق درست معه وتوقفت لرؤية بعض أقارب سكيليانوس في الطريق إلى المؤتمر. أثناء قراءة شعرية لروبرت دنكن التقيت بالشاعر لويس وارش وارتبطنا ببعضنا البعض من خلال الشعر وعبر رحلة مخدر LSD (مختصر ثُنائِيُّ إيثيلاميد حَمْضِ الليسرجيك) التي أكدت وجود إحساس يربط بين الصداقة الكونية والنشاط الثقافي. كان لويس من المتحمسين لجاك سبايسر، وكان يجمع إصدارات وايت رابيت بريس. في مؤتمر بيركلي قطعت على نفسي عهدا لأعمل مع جماعة الشعر "المبشرة" هذه طوال حياتي. التمسنا سفرا مجانيا من سان فرانسيسكو إلى سان دييغو حيث نزلنا ضيوفا على أصدقائي هناك، ثم استقلنا الحافلة من تيخوانا إلى مكسيكو سيتي حيث مكثنا في فندق ربما لعشرة أيام. عندما غادرنا، استقلنا الحافلة إلى لاريدو بولاية التكساس، ومن هناك عدنا إلى مدينة نيويورك.3354 ستيفاني لاكافا

كانت الأمور تتغير في كوليج بنينغتون، وأتذكر الجدل الدائر حول تدريس غيرترود شتاين ومدى "خطورة" ألين غينسبيرج لأنني كنت أخطط لدعوته إلى فيرمونت. كانوا يقولون إن شتاين كانت رديئة وتافهة جدًا وترفض كل شيء بازدراء، وبأن إزرا باوند كان بالتأكيد وحشًا، إلا أن المجلة والصحيفة التي كنت أشرف عليهما تكللتا بالنجاح. كنت أعرف مطبعيا في فيرمونت قام بطباعة المجلة المدرسية، سيلو، التي قمت بتحريرها، وكان أحد أساتذتي كلود فريدريكس يملك مطبعته الشخصية وشجعنا على مواصلة العمل الذي كنا نقوم به. كنت على وشك الانقطاع عن الدراسة، وكان والدي يدعمني في قراري لكن والدتي كانت مصرة على أن أحصل على درجة جامعية، وهي فرصة فاتتها. فطنت أن كلية بنينغتون كانت توفر لي الظروف الملائمة أيضًا لأصبح فنانة ولذلك تشبثت بها.

ثم تم تعييني مباشرة سكرتيرة لبرنامج المشروع الشعري في نيويورك عام 1966، وفي العام الموالي أصبحت مساعدة، وبحلول عام 1968 تقلدت منصب مديرة المشروع. توافد العديد من الشعراء العظماء على المشروع، وكان بمثابة مجتمع شعري تداخلت فيه عواطف أخرى إلى جانب الشعر، كان حياة أدبية منظمة وطريقة ملتزمة في الكتابة، وتحرير المجلات ومؤلفات الآخرين، والعمل على مختارات شعرية، والسفر إلى الهند، و اكتساب تقنيات الإلقاء الشعري. كل أفراد الجيل الثاني لمدرسة نيويورك للشعر كانوا يجتمعون في صالة الجلوس داخل كنيسة سان مارك. كنت أعمل حينها على "أقاسيم دي كارلو" و "ليلة عظيمة" و " انهيار ميلاد الطفل".

لا بد لي من التوقف والتفكير في الرجال الذين لم يفهموا حقا والنساء اللواتي فهمن عمق القضية الإنسانية. كنا جميعًا فنانات نتصدى للكثير من التحرشات ولم نحصل على أي اعتراف أو امتنان كما ينبغي. لكن كل ذلك دفع بي إلى الأمام بإصرار غامض ومقدر نابع من إصرار والدتي على أن أصبح شاعرة. وكانت هناك أمثلة على نساء شاعرات مثل ديان دي بريما وجوان كايغر وأودري لورد، وباربرا غيست من مدرسة نيويورك و رساماتها أمثال جوان ميتشل الجسورة، وإلين دي كونينج ، ونيل بلين، كن جميعهن بطلات. اقترح على فرانك أوهارا أن أعمل كمتدربة في متحف الفن الحديث إلا أن وظيفة شاغرة في برنامج مشروع الشعر كانت أكثر إثارة: ثمانية آلاف دولار في السنة. لم أترك أبدا برنامج مشروع الشعر فقد ارتبطت به روحيا، وشكل هذا المشروع اللبنة الأساسية لباكورة الجماعة التي استمر نموها لثلاثة أو أربعة أجيال، ولا تزال تزهر ويوفر بيئة متقشفة وطاهرة ومتجددة على الدوام .

ثم هناك ملحمة جامعة ناروبا الطويلة والتي مازالت مستمرة حتى الآن لأربعة وأربعين عامًا – إنها مغامرة مستمرة. لدينا أرشيف رائع ألهم قصة رمزية ملحمية بعنوان Gossamurmur، تدور أحداثها حول إنقاذ الأرشيف الشفهي للشعر. الملاذ الآمن في المستقبل. أين هم أقطاب الثقافة للمساهمة في الحفاظ على أرشيف هذه المجموعة التي تضم أمثال غينسبرغ وبوروز وكيج وأشبري وكريلي وديان دي بريما وجوان كايغر ووبرناديت ما ير وسيسيليا فيسونيا وليزلي سكلابينو وأليس نوتلي، ومئات الآخرين؟ إنها مدرسة الشعر الوحيدة التي تقدم دروسا في اللغة السنسكريتية.

شاركت إلى جانب ألين غينسبرغ في الجولة الموسيقية التاريخية المعنونة ب Rolling Thunder    Revue  التي نظمها بوب ديلان عام 1976. كنت أنا وغينسبرغ من الشعراء المقيمين وكنا أعضاء في لجنة المستشارين لفيلم Renaldo & Clara والفيلم الوثائقي Hard Rain حيث حصلت على الامتنان مقابل مساهمتي في تصميم "أغطية الرأس"، وقد أحب الموسيقيون الوشاح الطويل الملفوف حول رأسي بخيط حريري، على طراز جوزيف أريمانتيا.3355 ستيفاني لاكافا

لقد كان إعدادًا مثيرًا حيث كنت مكلفة بإعلان قرب وصول قافلة هزيم الرعد Rolling Thunder  إلى المدينة قبل أربع وعشرين ساعة. كنا نحن الشعراء المقيمين نجلس بين الجمهور وكنا أعين وآذان الجشطالت، نسجل إحساس الجمهور. كان الجذمور كله نوعًا من القوافل الفاضلة، وكان يغلب عليه الحب والحسرة والصوت العظيم وتضاربات الأنا، وكان بوب ديلان، شاماننا، يحافظ على تماسك الكل.

كان صديقي والكاتب والممثل اللامع سام شيبرد حاضرا في تلك الرحلة. أعطتني جوني ميتشل درسا في آلة السنطور وكان درسي الأول والوحيد. كانت جوان مدهشة، فنانة متأقلمة وعازفة مذهلة وناشطة استثنائية. كتبت قصيدة بايين مهداة لبوب: "الشامان يهمس لك انسل مرة أخرى عبر الليل."

ذات ليلة، توقفت الحفل الموسيقي بسبب المطر الغزير، لذلك عدت إلى غرفة ملابس بوب وقلت "من فضلك، هذا وقت رائع لكي نسمح للشعراء بإلقاء أشعارهم تحت المطر." كان بوب يعد ألين بأشياء مستحيلة! كانوا ينتظرون ليتأكدوا إن كان بإمكانهم إعادة تشغيل مكبرات الصوت. قال ديلان، "حسنًا، حسنًا. يمكنهم قراء الشعر." اختار ألين قراءة قصائده القصيرة مثل قصيدة "على رماد نيل"، وهي قصيدة حب بوذية جميلة تنتهي بهذا السطر "كل شيء رماد، الكل رماد من جديد."

سمعت مؤخرًا أنهم سيعيدون حفر البلوتونيوم التي احتجنا عليها في السبعينيات، وسعيدون تنشيط موقع سافانا في ساوث كارولينا. منذ وقت ليس ببعيد، قلت لطالب في ناروبا: "هناك أناس جشعون ينتظرون في الأجنحة، يبحثون عن طريق للعودة. لا تسمحوا لهم بالعودة." كنا نحتج خلال السبعينيات والثمانينيات في موقع مصنع الأسلحة النووية بروكي فلاتس في كولورادو. لا أستطيع أن أتذكر كل الأشياء المختلفة التي حدثت. وأعتقد أن ذلك حدث بعد أن تم اعتقالنا في السبعينيات. ثم جاءت فضيحة المصنع نفسه. كان التلوث مروعا.3356 ستيفاني لاكافا

لقد أعددت مقطع فيديو موسيقي لـ قصيدتي "أووه، بلاتنيوم" مع صديقة تنتج أفلاما قصيرة من خلال شركتها هياسنت غورلز.  حصل شخص ما على المال لإعداد ثلاثة مقاطع فيديو وقاموا بالاشتغال على فيديو مع ألين وهو يغني قصيدته "بلوز وفاة الأب" متجولا في جزيرة إليس.

ذهبت ذات يوم إلى مظاهرة ولم أكن أعرف ماذا سأفعل. كنت أجلس في الجزء الخلفي لشاحنة صغيرة وكنا ملزمين بالعروج على مسكن ألين لنأخذه معنا وكنت أقول "يجب أن أكتب قصيدة لأحتج بها." كان لدى ألين جرة كبيرة من الفيتامينات على مائدته وفكرت، "حسنًا، ميغا... موت، ميغا ميغا ميغا" كترنيمة. لا تزال لدي تلك البذلة الصفراء في صندوق مغبر في مكان ما ويرغب طلابي في بيعها بالمزاد على موقع eBay ليحصلوا على المال لمنحهم الدراسية.

كنت في المنزل مع إد باوز عندما تلقيت خبر فوز ترامب في الانتخابات في وقت متأخرًا جدًا، وكنت أتحدث مع إيلين مايلز بعد خطوة كومي الغريبة ضد هيلاري. اعتقدت إيلين أن ترامب يمكن أن يفوز بعد ذلك، وكانت بالفعل تدافع عن هيلاري وكانت تتعرض للكثير من المضايقات. كانت تقول، "يجب أن تكون هناك امرأة في البيت الأبيض". اعتقدت أن المرأة، بغض النظر عما إذا كان لديها فرج أم لا، ستكون رائعة في البيت الأبيض. لقد ساندت مايلز بيرني ساندرز في المؤتمر الحزبي في كولورادو -مفترضة أن هيلاري ستفوز في جميع الولايات -ولكن بعد ما حدث كان علينا أن نصوت لامرأة أكثر من أي وقت مضى.

لم يكن الأمر مفاجئًا عندما ظهرت جيل شتاين في تلك الصورة مع مايك فلين وبوتين في روسيا. كان هناك شيء غريب يحدث. وكان هناك العديد من الشباب "يصوتون لضميرهم" ويدعمون شتاين بصفتها المرأة، ولا يعرفون في الحقيقة أي شيئًا عنها. إنه زمن العجائب والخطر والتلاعب! بالطبع نحن في وضعية تتحكم فيها "الدولة العميقة" -من يعرف هنا حتى في الدولة الفاشلة ما كان خفيا؟ قبل الانتخابات مباشرة، سافرت إلى العديد من الكليات لدعم هيلاري، وكان الشباب وحتى الشعراء والمفكرون الذين أعرفهم جيدًا قد أصابهم الصمت بشكل مخيف وأصبحوا سدجا. عندما كان التقدميون وحتى المتطرفون والزعماء السود وساندرز أيضًا والعديد من الناس يحذرون الشعوب من الرعب الذي سينتج عن رئاسة ترامب. زارني بعض الأصدقاء من المملكة المتحدة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وكانوا قلقين وقالوا "لا تكوني واثقة تماما." الأمر لا يبشر بخير.3357 ستيفاني لاكافا

نحن نعيش كارثة الأنثروبوسين (عصر الإنسان المهيمن) وعصر الرأسمال. ربما حان الوقت لنواجه كارما الإبادة الجماعية والعبودية واضطهاد النساء، ولذلك انكشف كل شيء الآن على حقيقته، والنساء القويات يرتقين إلى مستوى القيادة ويقاتلن من أجل عالم يتجاوز الثنائيات. كتابي الجديد "نسوية محتالة" هو نتيجة لهذه الكارثة الاجتماعية والثقافية وأنا أخط مساري عبر الزمن -كما آمل -بعمق وإحساس أكبر بجرائم النظام الأبوي. لكننا معرضون بشدة لخطر الانقراض ككوكب يتكون من الكائنات الحية والثقافات واللغات. نحن سكان هذا الكون الغامض نملك ضميرا حقيقيا وينبغي أن نحارب البشاعة إن كنا نريد أن نبقى على قيد الحياة. لا تتلكأ، أنت فقط تشاهد أشياء مشؤومة تحدث أمامك ولا مخرج منها. نقابات السامسارا. والآن، أمامنا قرارات فظيعة للمحكمة العليا وقد أحيل كينيدي على المعاش والعزيزة روث بيدر غينسبرغ تصارع الموت.

ومن جهة أخرى، النساء ينتفضن وربما الانتخابات ستنقلب على انتفاضاتهن. إنني أرى سنوات من الفاشية العرقية آتية. كتابي الجديد ينسج أفكارها وأطروحته من هذه التأملات لكنه يغتنم الفرصة للمشاركة في التظاهر والحفاظ على القوى العقلية ويستحضر كل قوى الآلهة السابقة والآتية. أحس بالضرورة الملحة وبالحاجة الملحة اتجاه كل شيء الآن وقد سقطت كل شبكات الأمان. نحتاج إلى الثورة والإصلاح ضد عمليات الترحيل الإجرامية والقاسية، وضد السجون والمخيمات. كم سيتحمل هذا الوطن من الفواجع الكارمية، وكم من الصدمات سيتغلب عليها ويكفر عنها؟ ماذا عن رأيي حول الأنترنيت وحيواتنا السايبورغية؟ نعم، يمكنك أن تحيط نفسك بالتشفيرات ولكن كيف ستتواصل مع أناس أخرين يكدون من أجل الثورة؟

***

د. الحبيب الواعي

شاعر ومترجم وأستاذ مساعد بشعبة الدراسات الإنجليزية وآدابها بجامعة ابن زهر بأكادير، المغرب. صدر له ديوانين شعريين بالإنجليزية ومجموعة من المقالات الأدبية عن التاريخ الأدبي والشعرية الأمريكية لما بعد الحرب العالمية الثانية بالإضافة إلى ترجمات لدواوين شعرية لكل من بوب كوفمان، وديان دي بريما ومايكل روتنبرغ وشعراء آخرين من جيل البيت.

المقهى الصغيرة أشبه بوكر يورث الأحزان، الغبار ينتهك زواياها المعتمة بالدخان، ويستفز روادها الذين يتوسدون أذرعة الأرائك الخشنة، مطلقين العنان لخيالاتهم، يتوافد عليها أولئك في أغلب الأوقات، من معلمي المدينة، وأصحاب الحرف والمهن، وأصحاب الحوانيت المتواضعة، وفلاحي القرى المجاورة أثناء النهار، مازالت تطالعني ملامح وجوه الفلاحين المعذبة، وإنطفاء عيونهم المحزونة، وأجسادهم المكدودة في توجعها الخفي، يتقاطرون في ضحى الأيام وهم أول المتجهين إلى مقهى محمد المدهوش في الغازية، الإنسان المتواضع بطيبته وحسن إستقباله لرواده .

لا تبعد المقهى سوى بضعة خطوات عن نهر الغرّاف، تحجزها عنه أشجار الصفصاف والدفلى، في أعلى جدار للمقهى، وبمسند خشبي تعلق (راديون ) بماركة (سيرا)، حصيناً منيعاً لاتناله سوى العيون، يعمل ببطارية إستغنى عنها سائق السيارة الوحيد في المدينة، الراديو الملفوف بستارة بيضاء مطرزة بالدانتيل، احال الدخان والغبار لونها الى اللون الرمادي، الراديو، الذي يغريني بالتأمل في هذا (الكائن) الغريب، وكأنه مصيدة سحرية تقتنص أسرار هذا العالم، الذي لاسبيل لإدراك أبعاده، وأنا أصغي لما يصدر من أصوات وموسيقى وغناء، كأنها تنثال من خفايا الماضي .

عبر أماسٍ كثيرة بالنجوم، وتحت أضواء (اللوكس)، وخفقات خفافيش الليل، تجتمع ثلة من أبناء المدينة بعد العشاء، حيث لاتسمع إلا وقع أحذية النواطير السهارى المتعبين، والبيوت غارقة في صمت الدروب، في هذه البقعة المنفصلة عن العالم، يناقش الحضور أزمة البحر الكاريبي، ويتجادلون حول : المنتصرالذي يكسب الرهان، الإتحاد السوفيتي بزعامة خروشوف، أم أمريكا بزعامة جون كندي ؟؟ بعد أن تصاعدت وتيرة التهديدات بين القطبين في ما يعرف بازمة الكاريبيي بوجود الصواريخ السوفيتية في كوبا، التي تهدد الامن حسب مزاعم الامريكان، بحرب عالمية ثالثة، مطلع ستينات القرن الماضي . يحتدم النقاش فيتدخل الحانوتي رضا ليحسم المعركة قبل ان تقع لصالح (سيلان)، معتقداً ان هذه الدولة قادرة على ردع السوفييت، ظاناً انها دولة عظمى، ما دامت تسد حاجة السوق العالمية من الشاي، دون علمه بموقعها ومساحتها وإمكاناتها البشرية والعسكرية . الحانوتي رضا يومذاك كان رجلاً إستثنائياً في إخباره، يترك في ذات أي من معارفه وأصفيائه أثراً من الآراء والمفردات الغريبة، مردداً مزاج وميول نجله الكبير (ف)، المتعاطف مع التيار القومي أو المنتمي إليه، مختلفاً مع كل ما له من صلة باليسار والتابعين له، وكثيراً ما يطلق (ر) مفاجأة يعجب بها أبناء المدينة، ويتندرون بذكرها طويلاً، سئل ذات جلسة عن فطوره في الصباح، فأجاب انه يتناول فقط (برداغ عصير اللوز)، ولنتخيل صدى هذا القول في مدينة، أغلب اهلها بالكاد يفطرون على الخبز والشاي ! ولمن يتتبع اصل هذه الخلطة العجيبة سيكتشف ان رضا عرفها او جربها فعلاً حينما كان عاملاً في السفن يجوب البحار.

يرتاد المقهى مضمد المدينة الوحيد (عليوي المدهوش) شقيق صاحبها محمد، عليوي تمكن من مهنته بدون دراسة في معهد أو مدرسة، وحين وصفه الناس بـ (الطبيب)، لأنه يحمل سماعة الفحص على صدره، لم يكن ذلك من قبيل المبالغة، بل لأنه يداوي المرضى، ويزرق الأبر ويدواي الجروح والدمامل، يوزع أقراص (693 سكسناي تري) لمعالجة كل حالات الصداع والحمى، فضلاً عن ختان أطفال المدينة، في عدته الطبية محرار لقياس درجة حرارة المريض، يمتنع الاطفال احيانا من قبول المحرار. في الفم، فيحوله الى فتحة الشرج، يجوب الشوارع بدراجته من ماركة (فيليبس) وكأنها سيارة إسعاف حديثة، ينوء رأسه بالزي القروي، فوجد سبيله إلى قلوب المنهكين بأمراض السل والدزنتري والبلهارزيا .

يقرر ابي شراء راديو (سيرا)، بسعر6 دنانير، شبيها براديو المقهى يسدد ثمنه بالأقساط الشهرية، أيام العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لشعور منه بمتابعة الأخبار وأحداث المنطقة الملتهبة، وليمضي بإهتماماته السياسية بعيداً عن أجواء المقهى وروادها، وهو يشع بالإمتلاء، مفعماً بالأمل، والقضية التي يؤمن بها، وهي غير قابلة للمراهنة ولا للإستبدال، فدخل الراديو لأول مرة في بيتنا، وعبره تشكلت بواكير وعيي الأول، كنت ألتقط الدلالات النفسية والصوتية في هذا العالم الصغير المكتظ بالمعاني حد الإنفجار، سمعت فيه لأول مرّة صوت المذيع المصري أحمد سعيد، ونشيد الله أكبر، وخطابات جمال عبد الناصر، ولأول مرة أسمع (دار السيد مامونة) يرددها نوري السعيد، وأحاديث إبن الرافدين، ولازمة مروياته التي يبدأها ب : هاي هيه القصة تفضلوا اسمعوها، واصوات المذيعين العراقيين المدّوية، عادل نورس ومال الله الخشاب .وموحان طاغي.

في الراديو تستحيل الأصوات إلى إمتدادات معذبة، تنطق بها نفوس تقودنا إلى ينابيع الأحلام، أصوات حضيري أبو عزيز، داخل حسن، زهور حسين ووحيدة خليل، وسهام رفقي، وملك، أصوات تواصل الحنين لكي لايطيح بنا الحزن، المغنون يدعونا دائما إلى الإمتثال الهادىء لحناجرهم، كي لايتبدد ذلك السحر الذي ينتشر كالفرح حول هذه العذرية .

أشهد أن بي (مسٌ) من الراديو لم يعالج، لا أجهزة التلفزيون أسعفتني، ولا التقنيات الحديثة جداً قدمت لي البديل، فهذا (الكائن) أودع في عشقاً لافكاك منه، فهو يمتلك كل حواسي، تستيقظ من خلاله المدن والنداءات والتاريخ، وكأني بمفتاحه الصغير أدخل الى العصر، ومازلت أذهب صوب الماضي البعيد، فصرت مضرباً للأمثال لما أقتنيه من عشرات (الراديونات )، بألوان وأحجام وأنواع نادرة، مع تصاعد ازمات الحروب، لا اكتفي بجهاز واحد، استمع لهذا واسجل بالاخر، في آن واحد، اسافر لبلدان العالم وبرفقتي جهاز للراديو، لا هدوء في الليل او سكون من دونه، وفي العودة معي جهاز جديد اشتريه (قرض فرض)،

انه لون من ألوان التعزية لمن يعاوده الحنين إلى تلك المرافىء الجميلة، التي أودعت في طفولتنا الأسئلة والحيرة، هو خيط سري يوصلني بالمكان . والزمان.

***

د. جمال العتابي

أعلمني الدكتور پـیـپـر (المدير العام للدعاية في شركة ميرك الألمانية للأدوية) أن شركة برنتاغ (دوسلدورف) لشراء وبيع النفط لها الرغبة في الدخول إلى السوق العراقية لشراء النفط العراقي بالمقايضة بمنتوجات ألمانية من مكائن وكهربائيات وسيارات وغيرها، وأنّ معاون مديرها السيد فيرأك سيأتي بغداد إن وافقت شركة النفط الوطنية (إينوك) على مثل هذه المقايضة. أتّصلت بالدكتور فاضل (مدير التسويق) وأعلمته فرحّب ووافق. وصل السيد فيرأك إلى بغداد ليلاً (كان الدكتور پـیـپـر يسمّي بغداد عندما يصلها ليلاً ويراها من الجو بقلعة النور Lichtenburg ) فاستقبلته في المطار وأوصلته إلى فندق بغداد. وفي الصباح ذهبت معه إلى (إينوك) وإلى مديرية التسويق فقدّمته إلى الدكتور فاضل فرحّب به وتفاهما مبدئياً على الخطوات الأساسيّة لهذه المقايضة ونوع البضاعة الألمانية. لم يبق السيد فيرأك سوى يومين وبعدها غادر إلى ألمانيا على أن يأتي ومدير الشركة السيد رومِلْمان فيما إذا وافقت إينوك على الاقتراحات التي قدّمها. كانت زيارة السيد رومِلْمان خاطفة، إذ لم يبقَ سوى يوم واحد وغادر وكان قد أكّد أنّ المقايضة قد تكون كبيرة وطويلة المدى وهذا مما شجّع إينوك أنْ تمضي مع هذا الاتفاق. وفي الزيارة التي تلت زيارتهما جاء ممثلان عن شركة الفولكس واگن الألمانيّة للإتّصال بالشركة العامة للسيارات لنفس الغرض، وهو المقايضة، على أنْ يكون سعر السيارة الواحدة 300 دينار. واتّصلا بالشركة العامة للسيارات التي أبدت استعدادها بشراء ألفيْ سيارة بمقايضة النفط وبواسطة برنتاغ. وتكررت الزيارات وتكررت المفاوضات وكانت الأمور تجري بصورة حسنة لولا غباء مستر مارتيني ومستر نويْهوف ممثليْ شركة الفولكس واگن الآلمانية، إذ دعوا مدير شركة الفولكس واگن البرازيلية ليتباحث مع الشركة العامة للسيارات. جاء هذا المدير الشاب ذو الشعر الأحمر وقدّم نفسه أنّه مستر (جيورجورا)، فدعوتهم إلى العشاء في أحد مطاعم شارع أبي نؤاس وأخذنا نتمشى في الشارع، وإذا بالممثل البرازيلي أخذ يقرأ لافتات المطاعم العربية. فاستغربت وسألته: كيف تعلمت العربية؟ أجابني ضاحكاً إنّه مصريّ وأن أباه كان طبيب الملك فؤاد، وهو قبطي درس في مصر وتخرج من الثانوية فيها وبعدها ذهب إلى إيطاليا وفرنسا والبرتغال وبعد أنْ درس فيها وتعلم لغاتها، ذهب إلى البرازيل وتجنس وأقام فيها وصار مدير شركة الفولكس واگن. وسيذهب غدا إلى الشركة العامة للسيارات للتفاوض معهم. عندها قلت في نفسي ، بهجت! فشلت الصفقة مع الألمان وكلّ تعبك ذهب في الشط، حيث فهمت أنّهم، حسب ما قال لي د. پـیـپـر، أنّ الشركة الألمانية ستعطيه مكافأة جيدة بعد نجاح الصفقة وسيتقاسم هذا المبلغ معي. ولكن بعد مقابلة (جيورجورا)، اسم العائلة، فقد نسيت اسمه، للشركة العامة للسيارات، أخبرني، فقد صرنا صديقين، رغم قصر المدة أو لأنّنا (أخوان) تجمعنا اللغة العربية، وقد فهم أنني ممثل شركة ميرك وإنني أساعد ممثليْ شركة الفولكس واگن الألمانية فقط لارتباط الصفقة بميرك ولا مصلحة لي غيرها. قال: عند اجتماعي بلجنة الاستيراد في الشركة العامة للسيارات لم أخبرهم أنني أعرف اللغة العربية لأعرف ما يدور من حديث بينهم، بل لاحطت رئيس اللجنة يتكلم الفرنسية (فقد تعلم في فرنسا) فأخذت أتكلم الفرنسية معه وهو مسرور متباهٍ أمام زملائه بأنه يتكلم الفرنسية (عقدة عراقي!) فقال لأعضاء اللجنة دعنا نقبل هذا العرض منه لأنه جيد! عندما أنهى السيد (جيورجورا) كلامه هذا، كتمت غضبي ولكنني هنأته وأثنيت على (شطارته) وفي اليوم التالي قلت للسيديْن مارتيني ونويْهوف إنّ جيورجورا (خمط) الصفقة منكما فقالا لا يستطيع، لأن لنا عقداً مع البرازيل يمنعهم من تصدير السيارات إلى أيّ بلد خارج البرازيل. ولكن ظهر أنّهما كانا مُخطئيْن! وهكذا لم أحصل من شركة الفولكس واگن سوى زيارة إلى معاملها في مدينة فولسبرغ (100 كيلومتر عن هانوفر مع تذكرة طائرة مجانية وليلة في فندق ذي خمس نجوم في هانوفر، ولم يكونوا متحمسين أيضاً، حيث قال لي مستر راينشتاين مدير المبيعات، عندما صعدنا على سطح المبنى ورأيتُ الساحات المتكدسة بسيارات الفولكس واگن، إنهم يصنعون سبعة الآف سيارة في اليوم و(طلبية) العراق ليست سوى بضع ساعات عمل، وإنّ هذه الصفقة لا تستحق كل هذا الصّداع وكلّ التعقيدات التي اشترطها العراق!

اما مستر فيرأك فكان جادّاً في عمله ولكنَّ خلافاً وقع بينه وبين إينوك. ذلك أنّ الدكتور فاضل طلب أن تكون 80% بضاعة و20% نقداً لأن العراق يحتاج إلى مال أيضاً نتيجة المقاطعة. ولكن فيرأك أبى إلا أن تكون كلّها بضاعة، وهكذا فشلت هذه الصفقة أيضاً. أما مقايضة ميرك، فنجحت ومرة أخرى هضمت ميرك حقوقي وأعطتني بعض ما أستحق. فقررت أن أنتهي من هذا العمل المضني وخصوصاً لا زلتُ عند فكرتي التي تمسكت بها: المال يأتي ويروح ولكن الشباب لا يعود! وشجّعني على المغادرة أنّ مدير التسويق في مديرية النفط أراد أن يضعني في مأزق كاد يودي بحياتي عندما ضغط خفيةً على زرّ وتركني وممثـلَ شركة النفط الألمانية ، السيد فيرأك ، في مكتبه لتسجيل حديثـنـا ، قائلاً إنّه سيذهب إلى مدير إينوك العام ليستشيره، فقد أحسستُ بعمله ولكني لم أكن أصدّق ، فقد كنت غشيماً (ساذجاً) حقاً في نظرتي إلى طيبة (الأصدقاء) فقد كنتُ أحسبه (صديقا) كما قال لي أو على الأقل (وفيّاً)، فأين الخبز والملح بيننا قبل ذلك اللقاء؟ وكيف نسي نصائحي الطبية له ولزوجته الطيّبة وجلبي لهما أدوية من ألمانيا ، نتيجة تقليص استيرادها إلى العراق لعدم وجود نقد كاف لدى الحكومة لشرائها. وبقيت برهةً بين مصدِّق ومكذِّب ، ولكنّ الألمانيّ الرائع فيرأك الذي يتجاوز طوله المترين قد رآه أيضاً ، فبعد مغادرته المكتب  قال لي لا تتكلم إنه يسجل حديثنا.

فلم ننبس ببنت شفة إلى أن عاد من مديره. ولو كنتُ تفوّهت بكلمة (تجارية) واحدة فقط أو نصيحة بما يتعلق بسعر برميل النفط الذي يتفاوض معه عليه، وهذا من حقّي لإنجاح الصّفقة، فماذا سيكون مصيري في ذلك الوقت (1972) الذي قاطعت الدول الغربية وأمريكا النفط بعد قيام حكومة البكر بتأميم شركة النفط العراقية (IPC) وقد قال لي إنَّ هدف السيد وزير النفط أو المدير العام هو فتح أسواق ألمانيا الغربية للنفط العراقي الذي قاطعته الدول الأخرى وقد كنت مترجماً ومرشداً للسيد فيرأك ، ممثل شركة النفط الألمانية ، بناء على اتفاق مع شركة ميرك للأدوية التي كنتُ مديرَ مكتبها في العراق ، والتي أرادت مقايضة الأدوية بالنفط . وخوفي من حسد الزملاء المنافسين في استيراد أدوية الشركات التي كانوا يمثّلونها من نجاحي الذي قد يجرّ الويلات عليّ، غادرت العراق وشركة ميرك إلى ألمانيا. ودار في رأسي قول شمس الدين الكوفي بعد غزو المغول:

واللهِ ما اخترتُ الفراقَ وإنّما**حكمتْ عليّ بذلك الأيّامُ3340 سيارة فولكس واكن

من اليمين: فيرأك (برنتاغ - نفط) مارتيني، نوْيْهوف (فولكس واگن) وبهجت في أكلة سمك مسگوف في مطعم صغير في سامراء بعد زيارة الملوية وقصر الخلافة في سامراء (صيف 1972)

***

د. بهجت عباس

جمع العلاّمة مُختار الأحمدي نويوات العديد من الخصال التي لا تتوافر إلا للعلماء من بلاغة التواضع، والخلق الكريم، وطيب المعشر، وبرحيله فقدت العربية واحداً من أفضل عشاقها، حيث كان منهلاً ثراً للباحثين، والحقيقة أن الجامعة الجزائرية قد أُصيبت برُزء فادح بوفاته  يوم:02ماي2023م؛ فقد قدم خدمات جليلة للعلم والمعرفة في الجزائر منذ سنوات الاستقلال الأولى، وبرحيله خسرت اللُّغة العربية والجامعة الجزائرية أحد فرسانها الأفذاذ، وأحد كبار العلماء الأجلاء الذين قدموا خدمات جليلة للغتنا العربية؛ فالعلاّمة نويوات يعد قامة سامقة من قامات العلم والمعرفة، وأحد كبار علماء المغرب العربي الشوامخ الذين عشقوا اللغة العربية، وأفنوا حياتهم في خدمتها ودراستها، وسبر أغوارها؛ لقد كان الراحل صاحب ثقافة موسوعية، ترك بصمات راسخة في شتى ميادين المعرفة، وخلف عدداً من الآثار العلميّة الثمينة،  وتخرج عليه خلق كثير من الطلاب في اللُّغة العربيّة وآدابها، وقد نال عدّة شهادات تقديريّة وفخريّة، كما كرّمته هيئات علميّة وثقافيّة جملة مرّات.

ولا ريب في أن جهود العلاّمة مختار نويوات تستحق الإشادة والتنويه؛ اعترافاً بمكانته وتقديراً لخدماته الجليلة في حقول اللُّغة والأدب والثقافة الشعبية، واعتماداً على السيرة الذاتية التي كتبها الشيخ مختار نويوات بنفسه عن نفسه؛ فقد وُلد خلال عام:1930م بأولاد عديّ لقبالة في ولاية المسيلة، وعن بداياته يقول في حوار له مع مجلة: «النور»:« ولدت سنة:1930م، بدأت بحفظ القرآن الكريم وعمري 5سنوات حتى أتممته، وفي سن السادسة بدأ والدي موسى الأحمدي نويوات يُحفظني الشعر وفقاً لقدراتي الفكرية، وكانت لي ذاكرة قوية...دأب والدي على ذلك حتى منحني قوة حب الشعر العربي، وصرت لا أستطيع أن أقضي يوماً دون حفظ الشعر ومطالعة الدواوين، ثم توجهت لدراسة الفرنسية في برج بوعريريج، وتخرجت لأدرس الإعدادي في مدرسة قسنطينة أين حفظت المتون الأساسية من نحو والألفية والأدب والفقه والعروض والأدب الفرنسي والتاريخ والجغرافيا والفلسفة والعلوم التجريبية، وبعدها انتقلت إلى معهد الدراسات الإسلامية». وعن فترة طفولته، يقول الشيخ مختار نويوات: «كنت أنظم الشعر في الصغر أنشره في جريدة البصائر، وكنت في تمرينات الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بالمدرسة أحفظ كل أدوار غيري من التلاميذ؛ حيث أسمع القصيدة مرة واحدة فأحفظها»، وقد حصل الشيخ مختار نويوات على شهادة الدراسات الإسلاميّة سنة:1951م من جامعة الجزائر، وشهادة اللّيسانس في الأدب العربيّ سنة:1954م، من جامعة الجزائر، وشهادة الدّراسات العليا سنة:1962م من جامعة الجزائر، وشهادة التّبريز من باريس عام:1963م، وقد نال الباحث(مُختار نويوات) «دكتوراه الدولة»في الآداب والعلوم الإنسانية من« جامعة السوربون: باريس4»، سنة:1981م، بعد إنجازه رسالة عن: « السَيِّد الحِميريُّ ومصادر شعره»، ويبدو أنه قد شغف بالسَيِّد الحميري ومصادر شعره؛ نظراً للمكانة التي حظي بها في تاريخ الشعرية العربيّة، حيث يُوصف بأنه: « شاعر مطبوع مُجيد مُكثر جداً من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وقد كان السيِّد الحميري وبشار بن برد أشعر المُحدثين له طراز من الشعر قلّما يُلحق فيه، ولشعره جزالة ومتانة ورونق معنىً، وقد وقف السيد الحميري شعره على مدح آل هاشم عامّة، ومدح عليّ وأبنائه خاصة: أخذ على نفسه أن ينظم فضائل الإمام علي شعراً، ومدح الحُسين، غير أنه هجا صحابة رسول الله وهجا عائشة زوج الرسول، من أجل ذلك هجر الناس شعره».ينظر: عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، ج:02، ص:109.

عمل الشيخ مختار نويوات أستاذاً بالتعليم الثانوي ما بين سنوات: (1954- 1962م)، وكان مديراً بثانوية القدّيس أوغستين بعنّابة، واشتغل في الوقت نفسه مفتش آكاديميّة بعنّابة ما بين: (1962- 1965م)، وكلِّف بعدها بالتّفتيش العامّ البيداغوجي بوزارة التربية الوطنيّة، ما بين سنوات: (1965- 1981م)، وبعدها انتقل للعمل في قسم اللُّغة العربية وآدابها بجامعة عنّابة ابتداء من سنة:1981م، عن جٌهوده التربويّة، يقول: «دُرِّبت على فنّ التربية والتعليم بمعهد الدّراسات العليا ومدرسة المعلّمين ببوزرّيعة مدّة سنتين: (1949- 1951م)، ومدرسته في المرحلتين الثانويّة والجامعيّة، وباشرته مفتّشاً عامّا من سنة:1965م إلى سنة:1981م على مستوى القطر ثمّ على مستوى الشّرق، ونظّمت في تلك الفترة ما يربو على الأربعين ملتقى تربوياّ».

وبالنسبة إلى مراحل التّدريس بجامعة عنّابة، يقول الشيخ نويوات: «درّست في التدرّج العروض والنحو والصّرف، وفيما بعد التدرّج الأدب العربيّ لاسيّما الأدب الشيعيّ ودعائمه العقديّة، والأدب الصّوفيّ وأسسه، وتحليل الخطاب على الطرائق الحديثة بنماذج عربيّة ومعرّبة، ونظريّة الشعر عند أرسطو والأدباء الغربيّين لاسيّما الإيطاليّين والفرنسيّين إلى القرن السابع عشر، وأدب المسرح: نشأته ونماذج منه في المشرق العربيّ وفي الجزائر وتونس والمغرب الأقصى، والبلاغتين العربيّة والفرنسيّة(دراسة مُقارنة)».

وسيظل العلاّمة الأستاذ الدكتور (مختار نويوات) أحد رواد النهضة الثقافية بالجزائر، وأحد كبار المثقفين الموسوعيين الذين عرفتهم الجزائر بعد الاستقلال؛ فهو واحد من  الذين أسهموا بأعمال جليلة في سبيل خدمة العلم والثقافة والحضارة، وتشريح الأوضاع الثقافية والجامعية في البلاد؛ فلدى تشريحه للمشاكل الحقيقية في الجامعة الجزائرية، نجده يقول: «المشكلة الحقيقية في الجزائر هي أزمة قراءة التي ستقضي على كل آمال التقدم والازدهار ومواكبة العالم؛ بل إن أزمة المطالعة ستقضي على مستقبل الأجيال، والأستاذ هنا مظلوم ومثله الطالب؛ فهذا هو التعليم الذي تقترحه المدرسة الجزائرية والمتوسطة والثانوية وحتى الجامعة، والتي تخلفت عن اللُّغات ومنها العربية، وتخلت على قوة المطالعة التي تفطن وأدرك الكثيرون في العالم قدرتها على التنوير والتثقيف وبناء الحضارة؛ نحن بحاجة إلى تفعيل آليات القراءة بتوفير الكتب للأفراد بداية من الطفل، على أن تكون متوافقة مع سن الطفولة والميول الطبيعية لكل صغير؛ لصنع جيل صحي غير مريض، والجامعة تراكم للمراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، ونحن بحاجة أولاً إلى تغيير ثقافي نغرس من خلاله حب القراءة منذ الصغر، ثانياً أن يكون تعليماً حقيقياً للغات، وثالثاً استعمال اللُّغة العربية استعمالاً صحيحاً في التدريس؛ إذ يجب أن نسعى لأن تكون عربيتنا سليمة لكي نواصل البحث على وجهه الحقيقي، ولكي نسلم من كل هبات الريح».

ويعترف العلاّمة(مختار نويوات) في حوار مع مجلة: «النور» بأن الجامعة قد أعاقته كثيراً عن التأليف، حيث يقول: «في الحقيقة إن الجامعة قد أعاقتني كثيراً عن التأليف، فلطالما حلمت بتكوين إطارات بشرية تحمل المشعل في البلاد بعدنا، وقدمت كل ما أملك للجامعة، لكنها وقفت بيني وبين التأليف».

ومن أهم مؤلفاته النفيسة كتاب: «البلاغة العربيّة في ضوء البلاغات المُعاصرة- بين البلاغتين الفرنسيّة والعربيّة- »؛ الذي تطرق فيه إلى قضايا تكتسي أهمية كبيرة، وكشف النقاب في مقدمته عن أسباب تأليفه له والغرض من النهوض بدراسة مقارنة، حيث يقول: «للدّراسات المقارنة أهميّة كبرى في وضع الثقافات جنباً إلى جنب وإدراكها مستنيراً بعضها ببعض وفي مجال أوسع من مجالها منفردة، ونريد أن ندرس البلاغتين العربيّة والفرنسيّة متقابلتين متكاملتين تستمدّ كلتاهما من الأخرى ما هي في أمسّ الحاجة إليه وتمدّها بخير ما فيها من مادّة ومن تصوّر ومن وسائل تخدم الفكر وتغذّي المواهب وتوسّع المدارك. ونقدّم إلى الطالب العربيّ أيًّا كان موطنه هذه المُحاولة المتواضعة آملين أن يجد فيها ما يُوسّع أفقه وما يُعمِّق معرفته لأدبه؛ فالآداب لا تُدرك في حقيقتها إلاّ إذا وُضعت في ميدان أرحب وقورنت بمثيلاتها، وقد اخترنا البلاغة الفرنسيّة لأنّها صورة من البلاغة الأوروبيّة في عمومها، ولأن اللّسان الفرنسيّ أسهل علينا من غيره، واخترنا فنّ البلاغة لأنّ الدّراسات البلاغيّة نشطت في النصف الأخير من القرن العشرين، عُني بها عُلماء اللّسانيّات وبعثوها بروح جديدة وبتصوّرات زادت من حيويّتها وخصّوها ببحوث مستفيضة...، ونذكّر بأن دراستنا دراسة مقارنة، بكلّ ما للوصف في اللّغة الأدبيّة المعاصرة من إيجاب، وليست موازِنة بكلّ ما لهذا الوصف أيضاً من سلب».

كما حقّق وشرح وعلّق على ديوان ابن سِنان الخفاجيِّ، وقد نُشر تحقيقه هذا الذي تمّ بالاشتراك مع الدكتور نسيب نشاوي- رحمه الله- ، ضمن مطبوعات مجمع اللُّغة العربية بدمشق، وقد أنجز دراسة مستفيضة في مُستهله تحدث فيها عن ديوان ابن سنان والنسخ المعتمدة، وتحدث عن خصائص شعره، وحياته، وآثاره، وأسلوبه؛ حيث يقول في هذا الصدد: «أسلوب ابن سنان قديم جديد في مضمونه وفي شكله، في مادّته وفي تنوّع أشكاله؛ وذلك ما ضمن للشعر العربيّ السير بخطوات ثابتة لم تتنكر للقديم ولم تتجاهل محاسن الحديث». وقد ختم دراسته بالقول: «وصفوة القول إن ابن سنان شاعر مطبوع من فطاحل شعراء القرن الخامس، ظلّ مغموراً إلاّ عند مُعاصريه وذويه من الخفاجيّين، وعند المؤرخين لمدينة حلب، وقد ذكرنا عند الحديث عن آثاره بعض الأسباب التي يرجع إليها، في تقديرنا، إهمال هذا التراث الجدير بكلّ عناية في تاريخ الأدب العربيّ، ولعلّ في شرحنا وتحقيقنا له بعض الإنصاف لصاحبه».

كما صدر للشيخ (مختار نويوات) معجم ثلاثيّ اللُّغات، بعنوان: «الأساس في مصطلحات علم التشريح»، تحدث في تصديره له عن الأسباب التي دعته إلى إنجازه، حيث يقول: «بدأ اهتمامي بعلم التشريح الوصفيّ في الثمانينيّات من القرن الماضي حين كنت أدير مكتب التعريب في كليّة الطبّ بجامعة عنّابة، واشتدّ اهتمامي به يوم طُلب منّي أن أُشارك في تعريب المصطلحات الواردة في كتاب: (علم التشريح الطوبوغرافي)- خمسة مجلدات- لعبد الحفيظ الحلايدي أستاذ المادّة بجامعة الرّباط، ألّفه بمساعدة ثلّة من زملائه وقرّظه عدّة من علماء أوروبا، شاء الله أن أنجز في عدّة سنوات ما كُلِّفتُ به من عمل، وتطلّب منّي ذلك اقتناء مراجع عديدة من الشرق والغرب بلغة واحدة أو بعدّة لغات، ولما تّمت ترجمة المصطلحات بفضل جهود فرقة تنتمي إلى مختلف أقطار المشرق والمغرب طُبع الكتاب طبعة ثانية لم أطلع عليها، وبمصطلحات ثلاثيّة اللّغة؛ ذلك ما جعلني أتابع العمل في هذا المجال منذ أكثر من عشرين سنة، وبتشجيع من الأستاذ السعيد شيبان الذي زوّدني بمرجعين لم أكن أملكهما».

وقد نشر الأستاذ مختار نويوات العديد من المقالات في مختلف المجلات الثقافية والأكاديمية المُحكّمة في مختلف أقطار الوطن العربي، وألّف  مجموعة من الكتب المفيدة ناقش فيها قضايا متنوعة، ونذكر من بينها: « العاميّة الجزائريّة وصلتها بالفصحى»، و« تعريب مُصطلحات التشريح»، و«مصطلحات في علمي التشريح والفزيويوجيا»، كما قام بكتابة مُقدمات ثمينة لعدد من الكتب العربية المتنوعة من بينها كتب تراثية وكتب أكاديمية لباحثين جزائريين وعرب، ومن بينها مقدمته النفيسة لكتاب: « نهج البلاغة»للإمام علي.

وقد شهد بفضل العلاّمة مختار نويوات عشرات الباحثين والعلماء في المغرب العربي والمشرق، وهناك شهادات كثيرة اطلعنا عليها لا يتسع المقام لذكرها هنا، رحم الله أستاذنا العلاّمة مختار الأحمدي نويوات؛ الذي يُمثِّل قيمة ثقافية عالية وشخصية أدبية راقية، وهو باحث موضوعي جاد، ومسؤول تربوي ملتزم، كما أنه قلب ودود، ورجل نبيل ومتواضع.

***

الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقة

كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر

...................

أهم المراجع:

1- حوار مع الأستاذ الدكتور مختار نويوات، بعنوان: الرجل الموسوعة البروفيسور الأستاذ نويوات من قسم الأدب العربي:أزمة القراءة في المجتمع الجزائري قد تقضي على مستقبل أجيال كاملة، مجلة النور، مجلة إعلامية تصدر عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الشهيد باجي مختار بعنابة، الجزائر، العدد:01، جانفي2011م، ص:6.

2- تكريم قامة الأستاذ الدّكتور مختار نويوات عُمر من المعرفة كلمات وشهادات، كتاب جماعي، منشورات المجلس الأعلى للغة العربية، الجزائر،2014م، ص:11.

3- مختار نويوات: البلاغة العربيّة في ضوء البلاغات المُعاصرة- بين البلاغتين الفرنسيّة والعربيّة- ، منشورات دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر،2013م، ص:17 .

4- ديوان ابن سنان الخفاجي: أبو محمد عبد الله بن سعيد بن يحيى بن الحُسين، حققه وشرحه وعلّق عليه: مختار الأحمدي نويوات، ونسيب نشاوي، منشورات مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق،1428ه/2007م، ص:91 وما بعدها

5- مختار نويوات: الأساس في مصطلحات علم التشريح: معجم عربيّ- فرنسيّ- أنجليزي، منشورات مخبر اللسانيات واللّغة العربية كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة باجي مختار، عنابة،2010م، ص: 1.

6- مختار نويوات: عن اللسان وفي البيان: مقالات وافتتاحيات، منشورات المجلس الأعلى للغة العربية، الجزائر، 2012م.

في بداية شهر تشرين الثاني من هذا العام تصدر رواية  جديدة للكاتب الامريكي بول أوستر بعنوان " بومغارتنر " وستصدر لها ترجمة عربية قام بها المترجم والباحث سعد البازعي .. الرواية الثامنة عشر للكاتب الشهير وصفها الناشر بانها " رواية غنية بالحنان والذكاء، وعين أوستر الحريصة على الجمال فى أصغر اللحظات العابرة من الحياة العادية، يتساءل بومغارتنر: لماذا نتذكر لحظات معينة وننسى أخرى؟". ويضيف ان بول أوستر يقدم للقراء تحفة فنية، تتألم مع اهتزازات الحب الدائم".

بول اوستر الذي اعلنت زوجته الكاتبة " سيري هاستفيت " في آذار الماضي عن اصابته بمرض السرطان، وانه يخضع للعلاج في احدى مستشفيات نيويورك قائلة:" إنّني أعيش في مكان صرت أسمّيه بلاد السرطان"، كان قد اصدر في كانون الثاني من هذا العام كتاب بمئة صفحة بعنوان " أمة الدم " وفيه يتساءل عن السبب الذي جعل امريكا البلاد الاكثر عنفا في العالم ..يقول ان فكرة الكتاب خطرت له عندما جاءه زوج ابنته المصور"  سبنسر أوستراندر "، ذات يوم منزعجا جدا من عنف السلاح الذي كان يراه من حوله، قال له إنه قرر السفر في جميع أنحاء البلاد، وتصوير مواقع جميع عمليات إطلاق النار الجماعية

يقدم اوستر في " أمة الدم " وجهة نظره عما حل بامريكا في العقود الاخيرة من عنف بسبب استخدام السلاح، سيقوم زوج ابنته بسلسلة من الرحلات على مدار عامين ونصف  التقط خلالها عشرات الصور التي ما ان راها الروائي الشهير حتى قال له:" أعتقد أن هذه صور مقنعة للغاية، وربما إذا جمعتها معا كنوع من الكتب، يمكنني كتابة نص يتوافق معها." .

يقول اوستر لصحيفة الغارديان انه منذ منذ بداية حياته كان يعرف أن جده مات عندما كان والده صبيا صغيرا .. يقول ان كتابه " امة الدم هو محاولة لتأمل دور السلاح في التاريخ والمجتمع الأميركيين، وفي حياته هو الخاصة أيضاً، إذ ينبئنا عن تعرفه التدريجي على الأسلحة منذ ألعاب الطفولة إلى المسدسات التي جربها في المخيم الصيفي والبندقية ذات الفوهتين التي جربها في مزرعة صديق له، وينبئنا عن انضمامه إلى البحرية التجارية والتقائه بأشخاص من الجنوب الأميركي وعجبه من علاقتهم بالأسلحة النارية.

بعد ما يقرب اكثر من ثلاثين عاما وثمانية عشر رواية وكتب سيرة وقصص ومقالات، من الصعب التفكير في كاتب أمريكي معاصر يثير مزيداً من النقاش مع كل عمل جديد مثل بول أوستر. يقول: «كل هذا غريب لدرجة أني لا أستطيع أن أتفهم كل هذا الاهتمام»، يرفض التحليلات النقدية المفرطة في المديح: " الكثير من النقاد لديهم وجهة نظر، ويحاولون التعبير عن هذا الموقف من خلال استخدامي كمثال. لكني أنا نفسي، أعيش في داخلي، لا أحاول أبداً وضع تسميات على ما أفعله. أنا فقط أتبع أنفي، فانا فنان الجوع الذي يحبّ رائحة الطعام"، يجد أن ما يكتبه هو تمثيل للواقع الذي نعيشه كل يوم: " أحاول فقط تمثيل العالم كما مررت به. هذا ما تحتويه معظم كتبي" . ينتقد النقّاد الذين ينسون أنه بدأ حياته الأدبية شاعراً: " ما زلت أشعر أنني شاعر. لا أشعر أنني أكتب الروايات بالطريقة التي يكتب بها الآخرون الروايات. أعتقد أني شاعر رواية أكثر من روائي" .

يعترف بول أوستر أنه متأثر جداً بـ (صامويل بيكيت) الذي شاهده ذات يوم بوجهه المتجهم يجلس في إحدى مقاهي باريس، وحين قرر الاقتراب منه للسلام عليه، منعته ملامحة التي تشي بعدم الاهتمام بالآخرين، يشعر " بقرب غير عادي" من (إدغار ألن بو) و(ناثانيال هاوثورن) الكتّاب الأكثر رومانسية بالنسبة له لأنهم " كانوا أول من كتب بصوت أميركي أصيل" . يعترف بأن أعماله تحبط الأمريكيين وتغيظهم.

بول أوستر المولود في الثالث من فبراير عام 1947، يعدّ اليوم من أشهر كتاب أمريكا الأحياء، يعترف أنه لا يطمح بالحصول على جائزة نوبل، يجد صعوبة في كتابة رواياته على الآلة الكاتبة، ويخشى استخدام الكومبيوتر، يكتب بقلم حبر، يعترف أن الكتابة باليد تتيح للكاتب الانغماس في السرد والشعور بأهمية عمله، يصرّ على تسمية هذه الطريقة بـ " القراءة بأصابعي"، ويعلّق قائلاً: " من المدهش أن عدد الأخطاء التي ستعثر عليها أصابعك لم تلاحظها عيناك قط، ولهذا كتبتُ دائماً باليد. في الغالب مع قلم حبر، ولكن في بعض الأحيان مع قلم رصاص، وخاصة بالنسبة للتصحيحات. إذا تمكّنتُ من الكتابة مباشرة على آلة كاتبة أو حاسوب، فسأفعل ذلك. لكن لوحات المفاتيح لطالما أرهبتني. لم أكن قادراً على التفكير بوضوح مع أصابعي في هذا الموقف. القلم يُشعرك أن الكلمات تخرج من جسدك ثم تحفر في الصفحة. الكتابة كانت دائما أشبه بملامسة شيء جيد. إنها تجربة مادية». يعترف أنه في بداياته كان شغوفاً بالآلة الكاتبة، ينظر إلى صورة هيمنغواي كيف يجلس أمام الآلة الكاتبة، فيقرر أن يقلده، فيشترى آلة كاتبة. كان ذلك عام 1974،وبمبلغ كان كبيراً آنذاك؛ 40 دولاراً. هذه الآلة التي أراد أن يخلّدها بقصة قصيرة، كان قد كتب عليها (ثلاثية نيويورك) و(قصر القمر) و(في بلاد الأشياء الأخيرة). نصحته زوجته باستخدام الكومبيوتر، لكنه شعر بالغربة: «بدأت أبدو كعدّو للتقدم، وإنسان وثني يتشبث بالعادات القديمة في عالم من الرقميين. سخر مني أصدقائي، قالوا إنني رجعي" . 

في السادسة عشرة من عمره قرر أن يصبح كاتباً بعد أن جرب العديد من المهن: بائع لبطاقات في ملاعب البيسبول، مترجم على ظهر ناقلة نفط عملاقة: «كنت أريد أن أكون كاتباً، لأنني لم أعتقد أنني يمكن أن أفعل أي شيء آخر، لذلك قرأت وقرأت، وكتبت قصصاً قصيرة وحلمت بالفرار من الواقع».

سيعثر في ذلك الوقت على روايات (فرجينيا وولف): «كانت واحدة من أجمل الروايات التي قرأتها على الإطلاق. اخترقتني وجعلتني أرتعش، وكنت على وشك البكاء. كانت الموسيقى المنبعثة من جُملها الطويلة المزمنة، وعمق شعورها البسيط، والإيقاعات الخفية لبُنيتها تتحرك أمامي إلى درجة أنني كنت أقرأها ببطء قدر المستطاع، حيث أتناول الفقرات ثلاث وأربع مرات». يتوفى والده ويترك له ما يكفي من المال للتفرغ لمهنة الكتابة. الكتاب الأول سيضع له عنوان (اختراع العزلة)( )، وهو أشبه بلحظة تأمل يتذكر فيها والده الذي كان يمثل بالنسبة له روحاً انفرادية ترفض الخضوع للآخرين، يصف والده بالرجل غير المرئي، وسيكتب في ما بعد عن صفات هذا الأب في روايته (غير مرئي)، عن الرجل الذي لم يكن غريب الأطوار فقط على أسرته، بل حتى على الأصدقاء والجيران وزملاء العمل، وكل من عرفه في حياته، حيث أصر حتى اللحظة الأخيرة من حياته أن يعيش بعيداً عن الناس، معزولاً في عالم اخترعه لنفسه.

رُفضت روايته الأولى (مدينة الزجاج) من معظم دور النشر الأمريكية، لكنها ستصدر بعد عامين لتشكل الجزء الأول من ثلاثية (نيويورك)، والتي سينشر بعد عام الجزء الثاني منها بعنوان (الأشباح) ثم الثالث (الحجرة المقفلة)، وستشكل هذه الثلاثية بدايته الأدبية الحقيقية.

كثيراً ما يصرح بول أوستر أنه يكتب روايات تنتمي إلى نمط روايات التحري. وهو يعترف أنه جاء إلى عالم الرواية بعد إلمامه العميق بأكثر من ثقافة، فقد عمل مترجماً عن الفرنسية، واشتهر بترجماته لأشعار بودلير، وبكتابة قصائد تقترب من أجواء الشاعر الفرنسي الشهير، يقول إن رواياته تستعين بألغاز من كافكا وبالصمت الذي يهيمن على شخصيات صموئيل بيكيت. تحقق ثلاثية نيويورك بعد أن صدرت بطبعة كاملة عام 1987 نجاحاً كبيراً تلفت إليه أصحاب دور النشر.

تنتقل شخصياته في معظم رواياته  من صدفة ربما لا يصدقها القارئ إلى صدف أُخرى تصنعها الظروف، وتبقى الصدفة ملازمة لأبطال رواياته: " الصدفة تحكم العالم، والعشوائية تلاحقنا كل يوم من حياتنا التي قد تؤخذ منا في أي لحظة بلا سبب" . في كل كتاب يثير سؤال النقاد حول الطريقة التي يكتب بها رواياته: " مع كل كتاب جديد أبدأه، أشعر بحاجتي إلى أن أتعلم طريقة كتابته أثناء العمل عليه. لا أكون متأكداً تماماً إلى أين سيصل، أو ما الذي سيحدث فصلاً تلو الآخر. فقط تكون البداية في رأسي. لكن عندما أبدأ الكتابة تتولد لديّ المزيد من الأفكار حول كيفية إكمال العمل" .

تختلف رواية (1234) عن جميع الروايات الأخرى التي كتبتها بول أوستر بأنها رواية الزمان والمكان، أمريكا في الخمسينات والستينات من القرن العشرين بالإضافة إلى سرد قصة حياة الشخصيات الرئيسية. وسنجد الأحداث التاريخية تقف في الصدارة: " لقد حاولت دائماً تحدي نفسي لأتخذ مقاربات جديدة للعمل في سرد القصص، وشعرت طوال الوقت أن هذا الكتاب الكبير كان بداخلي" .

يتأمل بول أوستر في مصير العالم ويتذكر ما كتبه في روايته (في بلاد الأشياء الأخيرة): " لست أتوقع منك أن تفهم. أنت لم ترَ شيئاً من هذا، وحتى لو حاولت فإنك لن تتمكّن من تخيله. هذه هي الأشياء الأخيرة. ترى منزلاً في اليوم الأول، وفي اليوم التالي يضمحل، شارعاً كنت اجتزته البارحة ما عاد موجوداً اليوم، حتى الطقس في تحول متواصل، نهار مشمس يليه نهار ماطر، نهار مثلج يليه نهار ضبابي، حرّ ثم برودة، ريح ثم سكون، فترة صقيع مرير، وبعدها شتاء حار.. لا شيء يدوم، هل تفهمني، ولا حتى الأفكار في داخلك.. حين يتوارى شيء ما فهذا يعني نهاية الأمر" . يصف لنا أن العالم أصبح فارغاً من الحياة.

في روايته الجديدة يروي لنا بول اوستر حكاية  بومغارتنر البالغ من العمر 71 عامًا، والذي يكافح من أجل العيش في غياب زوجته آنا، التي قُتلت قبل تسع سنوات. قال الناشريعلق الناشر لكتب اوستر:" انا سعيد لأنه في هذه المرحلة من مسيرة بول أوستر الطويلة، أنتج هذه المنمنمة الدافئة والرائعة " 

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

للسفر 7 فوائد كما يقولون، واحدة منها أن يتعرف الإنسان على عادات وتقاليد وأخلاق البلدان الأخرى، يقتبس منها ويتعلم أمورا جديدة مرتبطة بهذه البلدان، وهذا هو السبب الذي كنت وما زلت أعشق السفر لأجله، حيث أطلع على الثقافات والحضارات حول العالم، أجوب المدن والبلدان لأتعرف على عاداتها وتقاليدها، أزور قلاعها وحصونها ومكتباتها ومتاحفها، أتجول بين طرقاتها وشوارعها وأطالع بعيني عادات وتقاليد سكانها من الرجال والنساء والأطفال.

ومن الدول التي كنت أتمنى زيارتها والتنقل بين مدنها والاستمتاع بطبيعتها وجمالها الساحر، دول المغرب العربي لما تملكه هذه البلدان من تراث ثقافي وتاريخ حضاري يمتد لآلاف السنين، وخاصة تونس الخضراء التي تستحوذ على مكانة خاصة في قلبي ونظرا لما تحتضنه من مؤسسات ثقافية وأكاديمية أنجبت الكثير من الفلاسفة والمفكرين بمختلف فروع المعرفة.

وها هي الفرصة أتت بعد أن تم ترشيحي لرئاسة وفد الجمعية العمانية للكتاب والأدباء خلال مشاركته في "الأيام الثقافية العمانية" بالفترة من 28 أبريل إلى 2 مايو المنصرم، ووافقت رغم مشقة الرحلة إذ لا توجد خطوط جوية مباشرة بين الدولتين، فلا بد أن تتخلل الرحلة محطة ترانزيت في إحدى العواصم كالدوحة أو أبوظبي أو حتى إسطنبول.

على متن الخطوط التركية كانت وجهة الترانزيت هي إسطنبول، واستغرقت الرحلة من مسقط إلى هناك قرابة الخمس ساعات، وبعدها رحلة أخرى لمدة ساعتين ونصف الساعة وصولا إلى تونس، بالإضافة إلى مدة الانتظار في الترانزيت لمدة ساعتين كاملتين، ليصل الوفد أخيرا بعد 12 ساعة إلى تونس.

وعلى الرغم أن هذه الرحلة كانت طويلة وشاقة، إلا أنها لم تمنعني من المشاركة في فعالية ثقافية بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" في نفس اليوم، حيث استمتعنا بسماع باقة من أجمل الأغاني العربية.

أحرص دائما على السفر، أن تكون غرفة الفندق التي أقطنها مطلة على الشارع للتعرف على حياة مواطني البلد التي أزورها، أحب السير في الشوارع والطرقات، وخصوصا إذا كانت غرفة الفندق تطل على ساحة شهيرة ومعروفة، هذا الأمر يتيح لك التعرف على نمط الحياة في هذا البلد، ومن النظرة الأولى يمكنك استنباط طبيعة المجتمع هل هو مجتمع ينبض بالحركة والحيوية أم لا.

وخلال زيارتي لتونس، حرصت على هذا الأمر، فقد كانت غرفتي بفندق أفريقيا وهو أحد أكبر الفنادق في تونس، كانت مطلة على شارع الحبيب بورقية، وهو شارع غني عن التعريف ومن أشهر شوارع العاصمة تونس، وقد اطلعت قبل عدة أيام على صور تعود إلى عشرينيات القرن المنصرم لهذا الشارع العريق، الذي يرجع تاريخ تأسيسه إلى زمن الاحتلال الفرنسي، كما أنه شهد أكبر تظاهرة في أحداث الثورة التونسية أو ما تسمى بـ"ثورة الحرية والكرامة"، حيث احتشد آلاف المتظاهرين وهددوا بالتوجه إلى القصر الرئاسي مما تسبب في مغادرة الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي تونس.

تونس بلد جميل بشعبها وثقافتها وتاريخها وأسواقها ومثقفيها وشوارعها وأسواقها وشواطئها ومقاهيها التي تمتد على طول ساحة الحبيب بورقيبة، دولة نابضة بالحياة وشعبها كريم ومضياف يستقبل ضيوفه بكل حفاوة وترحيب، لم أشعر لحظة واحدة أنني غريبة في هذا البلد، بالعكس لقد شعرت بالأمان وكأنني واحدة منهم، رغم الظروف الاقتصادية التي يمر بها هذا البلد منذ أحداث ثورة 2011، وما تلتها من انعكاسات اقتصادية أثرت بالسلب على السياحة التي تشكل مصدر دخل هام للبلاد.

في تونس تجد المجتمع الحداثي الذي يسعى إلى إقامة نوع من التوافق في مختلف مناحي الحياة، والذي يعيش الحياة للتعبير عن الفكر والآراء بكافة التفاصيل ، وتجد أيضا المجتمع التقليدي الذي يعتز بهويته التراثية ويعبر عنها في مجمل تفاصيل حياته، ومع هذا الاختلاف تجد الجميع يعيش في سلام وتعايش مدني يعملون جنبا إلى جنب، وهذا لا يعني بالتأكيد عدم وجود بعض الأحداث المؤسفة التي يتسبب بها بعض المتطرفين الذين يرفضهم المجتمع التونسي بجميع فئاته وتوجهاته الفكرية والثقافية، لكن يبقى الأمان حاضرا في كل مكان، حيث يشعر السائح بالراحة والطمأنينة ويقضي وقتا ممتعا للاستمتاع بالحياة والجمال والطبيعة الساحرة، وأيضا المرأة التونسية لها وجود بارز في جميع مناحي الحياة، تجدها في كل مكان شعلة من الحيوية والنشاط.

كعادتي أحرص على زيارة المناطق والأماكن التراثية لأشم عبق التاريخ، فكانت زيارتي للسوق القديم الذي يقع على بعد عدة أمتار من الفندق، إنه سوق يعج بالحركة وينبض بالحياة وتمتزج فيه الأصالة مع الحداثة، لم أجد مضايقة أو إزعاجا من قبل الباعة وهو الأمر الذي أعجبني كثيرا، لا يوجد من يلح عليك بالشراء، بل يتركك تقتني ما شئت من البضائع المعروضة المتنوعة بين أشياء تراثية وشعبية وغيرها، لقد وجدت ترحابا كبيرا من جميع العاملين السوق، كما سنحت لي الفرصة أن أتعرف على عدد من الباعة القادمين من جزيرة جربة الواقعة على بعد 529 كيلومتر جنوب العاصمة تونس، الذين رحبوا بنا كثيرا خاصة عندما علموا أننا من سلطنة عمان.

الأمر الذي لاحظته أيضا خلال رحلتي في تونس والتجول من منطقة إلى أخرى ومدينة تلو الأخرى كسيدي بوسعيد ومدينة المرسى، عدم وجود متسولين، لم أذكر أنني صادفت أحدهم، الجميع مشغول بأعماله اليومية والبحث عن لقمة عيشه، بل بالعكس كانت عبارات الترحيب تنهال علينا من المواطنين التونسيين مثل "مرحبا بكم في تونس" أو "مرحبا بضيوفنا" وغيرها، وقد لاحظت الترحيب أكثر في مدينة المرسى الساحلية حيث جمال المكان والطبيعة والشاطئ وسحر المكان والزمان والإنسان.

لقد حظيت في رحلتي بلقاء الدكتور عبد المجيد الشرفي رئيس المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" والمتخصص في الفكر والحضارة الإسلامية، حيث أهديته نسخة من كتابي "في قلب إيران.. الطواف حول ربوع بلاد فارس" وقد أخجلني بطلب توقيع النسخة، حينها لم أستطع الاعتذار خاصة مع إصراره، لكنني قلت على استحياء: " أنا لست سوى تلميذة صغيرة لديك، والتلاميذ الصغار هم الذين يطلبون توقيع الكبار".

كما تشرفت بلقاء المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي، حيث كان بلده ضيف شرف معرض تونس الدولي للكتاب، وهو متخصص في الفكر الإسلامي وعلم الكلام الجديد، أعترف أني لم أقرأ له كثيرا، لكن لقائي به دفعني لقراءة كتبه ومقالاته التنويرية.

الملتقيات الثقافية من فوائد السفر الكبرى، حيث إنها تتيح لك فرصة التعرف على أشخاص رائعين، كانت جهودهم المشرقة سببا في نجاح "الأيام الثقافية"، تعرفت على كثيرين منهم أشخاص يحبون بلدنا العزيز سلطنة عُمان، وأخص بالذكر منهم الدكتورة زهية جويرو مديرة الدورة الحالية لمعرض تونس الدولي للكتاب، الأستاذ رضا الكشتبان المشرف على الأيام الثقافية الدولية في معرض تونس الدولي للكتاب، الرسامة حذامي سلطان، الإعلامية نبيلة جريري، الشاعر البحريني الدكتور راشد نجم، وكان من المفترض أن ألتقي أيضا بالباحثة التونسية ألفة يوسف التي ألفت عدة دراسات عن المرأة، لكن للأسف لم تتح لي الفرصة، نظرا لظروف عملها، كونها أستاذة جامعية بمدينة السوسة وكذلك لضيق وقت الزيارة، لكنها كانت حاضرة فكرا من خلال كتاباتها التنويرية التي تلامس العقل النقدي والوجدان الروحي، ولمسحتها الصوفية العرفانية التي تحاول أن توفق بين العقل والإيمان.. لا أنسى هذه الأوقات الجميلة التي قضيتها مع شخصيات رائعة هناك.

الحديث عن تونس يطول، لكن يجب أن لا ننسى نقطة تطور الفكر والفلسفة في هذا البلد الذي اهتم بتطوير التعليم وجعله ضمن أهم الأولويات الوطنية منذ أيام الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة الذي يكن له الشعب التونسي كل احترام وتقدير، أذكر أنني مررت على مكتبة صغيرة في السوق القديم، وبينما كنت أتصفح الكتب، وقعت عيني على عنوان "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للكاتب الطاهر الحداد، أمسكت الكتاب وطالعت صفحاته قليلا، لأوجه بعدها سؤالا للبائعة الشابة: هل تعرفين الطاهر بن الحداد؟ وكان في المكتبة أيضا بعض الفتيات، حيث أجابوا جميعا في نفس التوقيت: "ومن لا يعرف الطاهر الحداد في تونس؟ ذلك المجدد التونسي الذي دعا إلى تعليم المرأة وتحريرها من الجهل والتخلف".  لم أشتري نسخة من الكتاب حيث أنني أمتلك 3 نسخ بـ3 طبعات مختلفة، فأنا أعتقد أن خطاب الطاهر الحداد لم ينتهي بعد ولا نزال بحاجة ماسة إليه الآن، فنحن في العالم العربي لا زلنا بين التقدم خطوة إلى الأمام والتأخر خطوتين إلى الخلف منذ أن تصدى ثلة من المفكرين الإصلاحيين العرب لحمل راية التحديث في الفكر العربي أمثال رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين والطاهر الحداد وطه حسين وغيرهم.

تعيش تونس اليوم مرحلة مهمة في تاريخها الحديث، في مواجهة تحديات كبيرة خاصة الاقتصادية منها، لكن ما رأيته خلال الأيام القليلة التي أمضيتها هناك يدعو إلى التفاؤل بأن السنوات القليلة القادمة أفضل وسيتجاوز هذه البلد الجميل تلك الأوقات الصعبة ويعود أفضل مما كانت.

***

فايزة محمد - عُمان

عن 98 عاما رحل في باريس عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي "ألان تورين" اليوم الجمعة، لتفقد الساحة الفكرية في العالم، واحداً من أبرز فلاسفة العصر الحديث.. أعلنت ابنته الوزيرة الاشتراكية السابقة ماريسول تورين خبر وفاته لوسائل الاعلام لتطوى صفحة مفكر وعالم اجتماع ومشاغب سياسي منذ ان شارك باول احتجاجات لعمال مصانع السيارات وحتى كتاباته الاخيرة حول تحولات الرأسمالية، حيث لم يتوقف هذا الباحث المتحمس عن الحقيقة أبدا عن مراقبة العالم، وتحولاته الاجتماعية العميقة، وانقساماته الجديدة، ومصادر السخط والحرية. قال لصحيفة " اللوموند " في عام 2017: "ما يهمني، ما أحاول تسليط الضوء عليه في كل مكان، هو الصراع. سرد قصة المجتمع وسرد صراعاته".

ومن المصادفات انني انتهيت قبل ايام من قراءة كتابه المترجم حديثا الى العربية " نحن ذوات انسانية " الذي صدر عن المركز القومي للترجمة في مصر. وفي هذا الكتاب يرى تورين أن المجتمع المعاصر حسب تورين هو مجتمع يميل إلى الهيمنة والتسلط والسيطرة على الفاعلين، وأن الحركة الاجتماعية باعتبارها الذات الفاعلة، ما هي إلا تعبير عن رفضها لهذه الهيمنة والتسلط والسيطرة بمختلف أبعادها، فهي عبارة عن تمرد اجتماعي يتم في هامش المجتمع حينما تكون هناك أزمة بين الطبقات الاجتماعية، حيث تبنى كفاعل في النزاعات والصراعات الاجتماعية. ويضيف تورين انه إذا أردنا أن نختبر ذواتنا كذوات فاعلة، فإنه يظهر من خلال التزاماتنا ومسؤوليتنا " تجاه حق كل فرد في العيش بكرامة والاعتراف له بهذه الكرامة؛ أي بما يستحيل انتزاعه من دون أن تفقد الحياة كل معناها".

في الثالث من آب عام 1925 ولد آلان تورين في بلدة على شاطئ بحر المانش. والده طبيب ميسور الحال، ووالدته تعمل في التدريس، حاولت ان تعلم ابنها كيف يحب الحرية والعلم والمعرفة ، التحق عام 1945 بمدرسة المعلمين العليا في باريس، التي تخرّج منها جان بول سارتر وريمون آرون وسيمون دي بوفوار وميرلو بونتي وغيرهم من الاعلام ، لكنه بعد عامين يترك الدراسة، ليقرر السفر إلى هنغاريا ومن بعدها الى يوغسلافيا، ثم يعود الى فرنسا ليعمل عاملاً في احد المناجم، كانت تجربة العمل في المناجم مرحلة غنية في حياة تورين حيث قربته من المسائل المتعلقة بالصناعة وعالم رجال الاعمال، وتعرف من خلالها على الحياة الاجتماعية للعمال، الأمر الذي مكنه من أن يصدر اول كتبه عام 1955 وكان بعنوان " تطور العمل في مصانع السيارات " والكتاب هو اطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، بعدها يسافر الى تشيلي، يتزوج هناك وتصبح بلدان اميركا الجنوبية موضوع أبحاثه حيث اصدر كتابه الشهير "الكلمة والدم" عن معاناة عمال المناجم في تشيلي. ساهم عام 1959 في تأسيس مجلة "سوسيولوجيا العمل". وحصل عام 1964 على دكتوراه ثانية من خلال اطروحته "سوسيولوجية الفعل الاجتماعي". يذهب الى بولندا ليعايش تجربة العمال هناك، ويعقد صداقة مع رئيس نقابة التضامن ليش فاليسا،، الذي أصبح فيما بعد، رئيساً لجمهورية بولندا.

رفض طروحات صموئيل هنتنغتون حول صدام الحضارات، وسخر من مقولة فوكوياما " نهاية التاريخ "، والتي يرى فيها فوكوياما الإنتصار الكامل والنهائي للمعسكر الرأسمالي ولنظرياته الليبرالية، وفشل النظريات الاشتراكية، حيث يطرح تورين بديلا آخر يتعلق بـما اسماه "نهاية المجتمعات"، والذي عنون به أحد كتبه، حيث يجد تورين ان الازمة

الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي انطلقت في عام 2008 لتشمل آثارها، العالم كلّه والتي لم يشهد لها مثيلا انما تمثل "قطيعة عميقة" بين الرأسمالية المالية التي تجد تعبيراتها البليغة في الأسواق المالية، وبين الاقتصاد بالمعنى الرأسمالي الإنتاجي. تلك القطيعة تمثل دلالة واضحة، برأيه، على نهاية المجتمعات الصناعية التي قامت قبل حوالي قرنين من الزمن.

عندما تندلع احداث 68 في فرنسا والتي سميت بثورة الطلبة يقف تورين إلى صفها ويصدر عن الحركة كتابا بعنوان "حركة مايو أو الشيوعية الطوباوية"، حيث وجد في هذه الحركة لحظة أساسية في دخول الثقافي والمعرفي والفني إلى ساحة التأثير السياسي، حين اعتبرها بمثابة هجمة الثقافة على القرار السياسي وشبهها بهيجان بركان يفرض حراكه الداخلي، وقد وجد في حركة الطلاب تعبيراً عن "حراك سياسي لم يعرف كيف يجسّده السياسيون في الأطر التقليدية للعمل السياسي".

وضعت كتب آلان تورين ضمن قائمة أفضل مائة كتاب في مجال علم الاجتماع، وتورين الذي يبلغ من العمر 93 عاما لا يزال يواصل الكتابة وقد صرح لاحدى الصحف "اعتقدت أنه عند شيخوختي ستكون لدي رغبة، أقلّ فأقل، للتفكير الجدي، لكن من دون أن أنام، مع ذلك، أمام التلفزيون".

يصر تورين في كتابه "ما هي الديمقراطية" إلى القول أن الديمقراطية والتنمية لا يمكن ان تعيشا إلا متحدتين، لا مفترقتين، وهو يرى أن التنمية السلطوية تنتج أزمات اجتماعية متزايدة الخطورة، والديمقراطية التي تتحول الى محض سوق سياسية مفتوحة، ولا تتحدد بكونها تسييرا متوازيا للتغيرات التاريخية ولمصالح الافراد والمجتمع معاً، ستضيع في النهاية في متاهة بيروقراطية الأحزاب والفساد السياسي.

في كتابه السياسة يضع ارسطو هذه الكلمات التي تعد دسورا للنظام الديمقراطي الحقيقي: "حينما تستمد الحكومات سلطتها من الغنى، سواء كانت اقلية أم اغلبية، فانه حكم الاسر الغنية. وحين يَّحكم الفقراء، فانها الديمقراطية. وعلينا أن نقول إن الديمقراطية تكون حيث يكون البشر الاحرار هم الحاكمين ".

والآن ربما يسأل البعض: هل نحن نعيش في العراق في ظل نظام ديمقراطي؟، من حيث الشكل بالتاكيد فنحن نطبق الديمقراطية بحذافيرها: انتخابات، فصل للسلطات، جلسات البرلمان تُبث على الهواء، الشعب يتظاهر!!، مواقع التواصل الاجتماعي ساحة للجدال الديمقراطي. لكن الاجابة الحقيقية لهذا السؤال سنجدها عند السيد فوكوياما صاحب الكتاب الشهير " نهاية التاريخ " حيث يقول: " في الواقع ان التهديد الاكثر مكرا ضد الديمقراطية، يأتي من داخل الانظمة الديمقراطية نفسها، حيث يستغل الساسة الشعبويون المشروعية، التي يحصلون عليها في الانتخابات، لتقويض الاساسين الأولين للديمقراطية: سيادة القانون التي يلتفون عليها، ومؤسسات الدولة التي يفسدونها".

يخبرنا آلان تورين في كتابه "ما هي الديمقراطية"- ترجمة حسن قبيسي، وفي ترجمة اخرى "ما الديمقراطية" – ترجمة عبود كاسوحة - ان الديمقراطية رغم انها ممارسة قديمة، ألا انها كنظرية، فكرة جديدة، وهذه الفكرة نمت وتطورت فوق أنقاض فكرة الثورة. فبقدر ما كان القرن العشرين في نصفه الاول قرن الآمال الثورية، كان في نصفه الثاني قرن البيرقراطية والتسلط. ويؤكد تورين ان خيبة الأمل بالثورة، هي التي فرضت طوال حقبة مديدة تصوراً متواضعا للديمقراطية بوصفها محاولة للحد من سلطة الدولة وهيمنتها، ويعترف تورين ان هذا الحد الضروري لهيمنة الدولة ليس بحد ذاته ضمانة للديمقراطية، فهو قد لا يتأدى في نهاية المطاف إلا إلى هيمنة سلطة المال والاعلام، هذا ان لم يؤدي إلى تحويل الحوار السياسي الذي هو شرط لازم للديمقراطية إلى مواجهة عنيفة.

في كتاب " ما هي الديمقراطية " يعالج تورين مسألة مهمة ربما يعاني منها العراق الآن وهي: هل الديمقراطية بالفعل هي حكم الأكثرية؟، أم أنها إلى جانب ذلك هي ضمانات الأقلية، وتورين يدعو إلى نظام سياسي، يسعى إلى الجمع بين قانون الأكثرية واحترام الأقليات، وإلى إيجاد طريقة تمكن النساء من الوصول بصورة طبيعية إلى موقع القرار السياسي، وهو يرى ان قوة الديمقراطية تتاتى من النضال الذي تمارسه القوة المجتمعية الفاعلة، ضد منطق الأجهزة المسيطرة، حيث ينبغي لنا حسب تورين أن نضع شروطاً مؤسساتية تشكل تعريف الديمقراطية بذاتها، وتفضي إلى امتزاج التنوع الثقافي عبر انضواء الجميع تحت وحدة القانون والعلم وحقوق الإنسان..يعلن تورين بوضوح ان: " العالم الانساني قد تم اجتياحه من اللانساني وما فوق البشري كليهما معاً، ولم يعد الاجتماعي يمثل الانساني حصرا"، وهو ما دفعه إلى التاكيد بأننا الآن وبسبب سياسات الحكومات دخلنا مرحلة نهاية الاجتماعي وزواله وتلاشيه، فبدل أن يكون العالم الحديث مأوى للانسان ومسكناً له، تحول إلى معتقل.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

رحيلُ صفوةِ الأخوةِ يهدم ركنًا أساسيًا بداخلي، أشعر كأن أحدَ أعضاءِ جسدي يرحلُ معه إلى القبر. لحظةَ أقرأ نبأَ وفاةِ إنسانٍ يحتضنه القلبْ أبكي، ويسعفني القلمُ لأرسمَ صورةَ الحزنِ الذي يباغتني بفقدانِه. نادرًا ما أعيشُ صدمةً تحبسُ البكاءَ، وتُخرسني عن الكلامِ والكتابة كما حدث برحيلِ أخي العلامة السيد محمد حسين الأمين، فقد غرقت في حالة ذهولٍ أنستني الكلمات وعطلت قلمي عن الكتابة، لم أكابدْ مثلَ هذه الحالةِ من قبل. كنت أفتش عن دمعةٍ تطفئ جمرةَ القلب، فلا تسعفني عيناي، البكاءُ المؤجلُ أقسى أنواع البكاء مرارةً. لم أكن أدرك حجمَ حضورِ هذا الإنسان بداخلي، ولم أتحسس قبلَ ذلك ما يفرضه رحيلُه المفاجئ المفجع من صدمة عنيفة تكفُّ فيها الكلماتُ عن الإصغاء لوجع القلب، وتصمت الحروفُ عن النطق. أعرف غزارةَ ما تجودُ به عيناي من دموعٍ لحظاتَ الحزن وحتى الفرح، لكن لم أكن أعرف كيف تحتجبُ الدموع.

لن أنسى في حوزة النجف السيدَ الشهيدَ محمد باقر الصدر ولن ينطفئ ألقُ حضورِه العاطفي في ضميري، ملأ فكرُه الدنيا وشغل الناسَ في عصره، ووجّه التعلقُ بفكره وشخصيته بوصلةَ مستقبلي في الحوزة منذ سنة 1978، ولن أنسى في لبنان السيدين محمد حسن الأمين وهاني فحص. قلما عاشرتُ رجلَ دينٍ فرض حضورَه في قلبي بلا حدود، واحتلَّ هذه المكانةَ في مشاعري بلا حدود كالسيد محمد حسن الأمين، الذي يجهلُ مواهبَه وتكوينَه الفكري والثقافي والأدبي كثيرون ممن لا يعرفون إلا اسمَه وشخصَه. كان الأمين أخلاقيا نبيلًا، مفكرًا موسوعي الثقافة، أديبًا وناقدًا ذكيًا، وشاعرًا مطبوعًا، يمتلك ذائقةً فنية ورؤيةً جمالية للعالَم، لم أشهد صفاتَه تلتقي لدى أكثر مَن تعرفت عليهم. كان الأمينُ أمينًا على الأخوة بلطفٍ وذوق متفرّد يختصّ به، كان أعذبَ معمّم صادقتُه في حياتي. كنت أتذوقُ الجمالَ في طريقة تفكيره وعقله الخلّاق، ولطفه، ومشاعره الدافئة، ولغته الآسرة، وأدبه وشعره الرقيق. هذا رجلٌ كبير، خسرتُ برحيله صديقًا صدوقًا لا يمكن أن يعوضني شيءٌ بفقدانه. سيدرك مَن يقرأ فكرَه بتأمل، وتتكشف له سيرتُه لاحقًا: أنه كنبيٍ ضيّعه قومُه. قلّما عاشرتُ إنسانًا كان مرآةً أرى فيها كثيرًا مما أتمناه وأحلم به وأطمح إليه في حياتي كهذا الرجل المهذب. صلتي العميقة بالسيد الأمين كشفتْ لي مثالًا فريدًا تجلّت في تفكيره ومواقفه نسخةٌ نادرةٌ من الإنسان. لم يكن الأمين نصفَ عالمٍ، ولا نصفَ أخلاقيٍ، ولا نصفَ مفكرٍ، ولا نصفَ شاعرٍ، ولا نصفَ ناقد. لم يكن مراوغًا، لم يكن زئبقيًا، لم يكن هشًا في كلماته وكتاباته ومواقفه.كان مفكرًا عقلانيًا حرًا جسورًا صلبًا، يمتلك ضميرًا أخلاقيًا يقظًا.

مازالت بصمةُ بعض اللبنانيين العامليين* من جيل الأمين مضيئةً، لم تنطفئ آثارُها تمامًا في الحياة العلمية والأدبية والثقافية في النجف، مازالت تضيء حيثما رحلوا وأقاموا في الأرض. ما كان عددُهم كبيرًا مقارنة بغيرهم من طلاب الجنسيات الأخرى، غير أن دورَهم كان أثرى وأوسع من عددِهم. فاعليةُ حضورهم على الدوام كانت لافتةً في حلقاتِ الدرسِ الحوزوي وكليةِ الفقهِ والرابطةِ الأدبيةِ والمنتدياتِ والأنشطةِ الثقافيةِ النجفية. صدرت مجلةُ "الأضواء" استجابةً لتحديات الواقع الفكري والاجتماعي والسياسي الجديد وأعاصيرِه بعد ثورة 14 تموز 1958، كانت المبادرةُ ذكيةً بتوقيتِ صدورها، ونمطِ الكتابة الجديد فيها، ونوعِ موضوعاتها المبتكرة، صوتُها لم يكن صدىً لما يُدرس في المدارس الدينية. طالعتُ المجموعةَ الكاملةَ لأعداد الأضواء، عندما كنتُ أدرس في حوزة النجف أواخرَ سبعينيات القرن الماضي. اكتشفتُ أن كلمةَ تحريرِ المجلة كان يكتبها في بعض أعدادها السيدُ محمد حسين فضل الله، وصدرت لاحقًا في كتابه "قضايانا على ضوء الإسلام"، وكانت المحاضراتُ النوعية للشيخ محمد مهدي شمس الدين على طلاب كلية الفقه لافتةً بتفسيرها التحليلي للتاريخ، مضافًا إلى كتاباته المتميزة المنشورة في هذه المطبوعة وغيرها. كما طالعتُ معظمَ أعدادِ مجلةِ النجف الصادرةِ نهايةَ ستينيات القرن الماضي عن كلية الفقه، رأيتُ هيئةَ تحريرِ هذه المطبوعة تألفت من: السيد محمد حسن الأمين، والسيد هاني فحص، والسيد عبد الهادي الحكيم.

لا أتذكر لقاءً جمعني بالأمين غابتْ فيه أطيافُ ألقِ النجف وحوزتِها ومنتدياتِها، كأن النجفَ تتحدث إليك في قلبه. سكنتْ روحُه نجفَ أمير المؤمنين "ع"، وتغذّت بفضائها الرمزي عواطفُه، واتسع لعلومها عقلُه، كأن ذاكرتَه ارتوت حتى فاضت بما في النجف من ثروةٍ رمزيةٍ وروحيةٍ وعلميةٍ وأدبية. غادر الأمينُ النجفَ المكانَ، إلا أن ذاكرةَ النجف الحيّة لم تصمت في ضميرِه يومًا. غالبًا ما أدهشني ألقُ حضورِ النجف الطاغي في وجدانه، وحماسُه المتدفقُ وبهجتُه لحظةَ الحديثِ عن النجف. بعد 12 سنة من الدراسة والتدريس في الحوزة وكلية الفقه عاد السيد الأمين إلى بلده، وكان صوتُه أصفى ما يعبّر عن رسالة النجف الثمينة، بكلِّ ما تجلّى في مدرسة النجف من تنوعِ عميق للاجتهاداتِ الفقهية والأصولية، وإبداعٍ أدبي غزير، وألوانِ طيفٍ فكري تتجاورُ فيه مدوناتُ التراثِ الواسع، ومفاهيمُ وأفكارُ أحدثِ الكتب والمجلات الأدبية والثقافية الصادرة في بغداد وبيروت والقاهرة وغيرها.

يعتزّ الأمين بدينِه وتشيّعه، ودراستِه في مدرسة النجف، ويعتزّ بتاريخِه الشخصي وانتمائِه لعائلةٍ دينية عريقة، أنجبتْ السيدَ محسن الأمين العاملي الذي كان شجاعًا في الدعوة لتنقية الشعائر الحسينية وتنزيهِها في النصف الأول من القرن العشرين. لم تشغل السيدَ محمد حسن الأمين صغائرُ الأمور، ظلّ كبيرًا على الدوام، عابرًا للهموم الطائفية الضيقة.كان وطنيًا قبل أن يكون طائفيًا، لبنانيًا قبل أن يكون مذهبيًا، كان بارعًا في التنقيب عن المشتركات والإصغاء للنداء الإنساني الذي يوحّدها. لم يكن عبورُ الأمينِ بمعنى الهجران، حين يعبرُ من لبنان إلى العروبة يظلّ يحمل لبنانَ وهمومَه معه حيثما كان، لا يختنق وعيُه بالأيديولوجيا القومية المتعصبة للحصري وأمثالِه، بل ينتمي للعربية بوصفها لغةً وثقافة وتاريخًا مشتركًا، لا يقف عند آفاقِ العروبةِ المحدودة، بل يتجاوزُها إلى آفاقِ الإنسانية الرحبة. حين يعبرُ من التشيّع إلى الإسلام يظل ضميرُه يحتضنُ كلَّ همومِ التشيعِّ الكبرى، وحين يعبر من الإسلام إلى الأديان يظلّ وعيُه يحتضنُ الروحَ والأخلاق وقيمَ التراحمِ والسلام في الإسلام، وحين يعبر من الأديان إلى الإنسانية يظلّ يحتضنُ أغنى ما يتكشفُ في جوهر الأديان، كان الأمين إنسانيًا قبل وبعد كلِّ شيء.

فرض العامليون بعد عودتهم إلى وطنهم حضورَهم على الحياة الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ملأ صوتُهم الآفاقَ بلبنان وغيرها من البلدان. جهودُهم متنوعة بتنوع الأديان والطوائف اللبنانية، مُبادِرة بإرادةٍ واثقة حيثما كان مَن يترقب مبادراتِها في ترسيخ السلم الأهلي والتضامن الاجتماعي. عدة مرات حضرنا معًا، السيد الأمين وأنا، مؤتمراتٍ وندوات ومناسبات ثقافية واجتماعية، خارجَ فضاءِ الاجتماع الشيعي، أتفاجأ باحتفاءِ النخبة اللبنانية بالأمين وبمن معه. قبل نحو 30 عامًا فوجئتُ بظهور جماعة من الشباب العامليين من جيل تلامذتي في حوزة قم، زاروني يحملون معهم مطبوعةً كثّروها بالاستنساخ تعدُ بوعي جديد. أتذكر منهم: الشيخ حيدر حب الله، والسيد مهدي الأمين، والشيخ أحمد أبو زيد، تحسّستُ في أحلامهم ما يشي باستفاقةِ وثبةِ الروح العاملية في مدرسة النجف وانبعاثِها لديهم مجددًا. ثابر هؤلاء الشبابُ على الدراسة والتدريس عدة سنوات، وانشغلوا بالبحث والكتابة، وكانت لهم إسهاماتٌ في مجالات متنوعة. إلا أن الرياحَ شاكستهم، فلم تفرض جهودُهم حضورَها في موطنهم، ولم نسمع بأصداء لمنجزِهم، تتناسبُ وحجمَ ونوعَ العطاءِ الجديرِ بالاهتمام الذي قدموه.

نحن مدعوون لإعادة اكتشافِ فكرِ العلامةِ الأمين غيرِ المنشور، وتوجيهِ طلاب الدراسات العليا في كليات الشريعة والعلوم الإسلامية للكتابة عن آثاره. أشهدُ أن فكرَه يمكن أن يُحدِثَ أثرًا إيجابيًا طيبًا في إيقاظ الحياةِ الروحية والأخلاقية للشباب، وتقديمِ صورةٍ ناصعةٍ للدين، الجيلُ الجديد في عالَم الإسلام بأمسّ الحاجة إليها اليوم.كان الأمين مفكرًا شفاهيًا، لم يحرص على تدوينِ أفكاره، والتعريفِ باجتهاداته في الفقه والقضاء، ولم يجمع شعرَه الغزير في ديوان بحياته. أدعو العزيز السيد مهدي الأمين والعائلةَ الكريمةَ للمبادرة بجمع آثاره، من: محاضراتٍ، وندواتٍ، ومقابلاتٍ وحواراتٍ صوتية، ومقالاتٍ متناثرةٍ في صحفٍ ومجلات متنوعة، وإعادةِ تحريرِها وتنقيحِها، وإصدارِها عاجلًا عن دار نشر عراقية لبنانية؛ لئلا يغيبَ إنتاجُه الفكري عن النجف، ويقرأ المهتمون وفاءَ الأمين لمدرسة النجف التي حمل رسالتَها بكفاءة استثنائية كلَّ حياتِه؛ لبثت النجفُ مقيمةً بقلبه ولم يبرد حنينُه إليها في مختلفِ مراحلِ حياتِه.

لم تحتبسْ عقلَ الأمين أسئلةُ: الإيمان والإلحاد، والمادية والدين، والاشتراكية والإسلام، وأشباهُها من أفكار تصارعت منتصفَ القرن الماضي، أسئلةٌ اندثرت ونسيتها الأجيالُ اللاحقة، واختفت من اهتماماتِ أكثرِ الباحثين والدارسين والمثقفين، ونادرًا ما تحضر تلك الاهتمامات في أسئلة الجيلِ الجديد. واكب الأمينُ الأسئلةَ الجديدة، وتحدث بلغة تتناغمُ ومنطقَ الواقعِ وآفاقَ أسئلةِ اليوم. استمعتُ إلى شيء من حواراتِه ومداخلاتِه في ندوات اشتركنا فيها معًا، وتحدثنا ساعاتٍ طويلةً في جلسات كثيرة بمختلفِ قضايا: الحداثةِ والتراثِ، والأصالةِ والمعاصرة، والدولةِ والسلطةِ، والهويةِ، والتعدديةِ والاختلافِ، والتسامحِ، وأسئلةِ الفكر الديني العربي والإيراني الحديثِ والمعاصر، وغيرها.كنا نقضي أثرى الليالي في بيروت وصيدا ودير كيفا في جنوب لبنان بحوارٍ مثمر. انشغل الأمين بقضايا: العقلانيةِ النقديةِ، والدعوة للانتقالِ إلى عصر أنوار إسلامي، وتجديد مناهج الاجتهاد، وإعادةِ بناء الفكر الديني ليكون من أجل الإنسان، واقتراحِ صيغةٍ إسلامية للعيش المشترك بين الأديان، وتحريرِ الوعي الديني من التشوهات الطائفية، وبناءِ رؤيةٍ تكاملية للوحدة، والتثقيفِ على الحقوق والحريات وتعزيزِها، وتكريس الشعور بالكرامةِ، والحقِ في الاختلافِ، والتنوعِ، والتعدديةِ، والعيشِ المشترك، والتسامحِ، والاحترامِ المتبادل، والهويةِ، والدولةِ المدنية، والمشروعية الشعبية، والتداولِ السلمي للسلطة، والتنميةِ، والتحديث.

شهد الأمين تزعزعَ الكيان اللبناني، وعواصفَ الحرب الأهلية المريرة، وما أعقبها من تداعياتٍ ومواجعَ في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته. لم يكن متفرجًا ولا محايدًا في عصر تفجرت فيه التناقضاتُ الطائفية والنزاعات، وسادته ظروفٌ بالغةُ التعقيدِ والتوتر. ظل صوتُه وفيًا للحرية والوضوحِ والصراحةِ والصرامةِ بمختلف محطات حياته، وتقلباتِ السياسة والفكر في وطنه.كرّس جهودَه للعيش المشترك في إطار التنوعِ والاختلاف. في ضراوة لهيبِ الحربِ وأنينِ الدم المسفوحِ لم يكف صوتُه عن إعلان رسالة السلام في الإسلام، في تلك الظروف الكئيبة كان يصرّ على ضرورةِ إيقاظ جوهرِ رسالةِ الأديان في التراحم والتضامن والسلام، بوصفها فريضةً دينية وضرورةً أخلاقية واجتماعية وسياسية لحماية المجتمعِ من العنفِ والحربِ الأهلية.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

.................

* العامليون تسمية اشتهر بها اللبنانيون في حوزة النجف.

* الصورة من اليمين: هاني فحص وعبد الجبار الرفاعي ومحمد حسن الأمين، لبنان، دير كيفا 2003

"زغرودة الأرض" أبرز أعماله

عاش الكاتب الراحل سهيل أبو نوارة (1940 ـ 2016)، حياته بين النور والعتمة. كان نجمه قد لمع في أوائل السبعينيات بعد نشر مجلة "الجديد" الحيفاوية ذائعة الصيت لمسرحيته الرائدة «زغرودة الأرض». وبعد إنتاج المسرح الحديث لها وعرضها على خشبة المسرح في أكثر من قرية وبلدة، انتشرت في ربوع فلسطين، وإصداره لها بعد خمسة أعوام من كتابتها في كتاب. بقي سهيل طوال أيام حياته وسنواتها يحلم بمواصلته لزغرودته من دون طائل، إلى أن خبا نجمه وانطفأ.. قبل سبع سنوات.

لقد رحل سهيل أبو نوارة وسط صمت مريب ولم ينشر عنه بعد رحيله سوى مقالة عادية وخبر قصير، أهم ما فيه تُقبل التعازي في قاعة كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس في الناصرة من اليوم التالي لوفاته حتى ثلاثة أيام.

سهيل أبو نوارة لم يكن اسمًا عابرًا في حياة الحركة الأدبية في مدينتنا، أنا وهو، المشتركة الناصرة، فقد كان كاتبًا حقيقيًا حمل هموم مجتمعه طوال حياته وانشغل بها في كتاباته ورسوماته الثرية حتى يومه الأخير، ومع هذا لم يكن سهيل معروفًا لدى الكثير من الناس، الأمر الذي يُجدد طرح السؤال الخالد عن الأهمية والشهرة، فقد كان سهيل كاتبًا مهمًا ولم يكن مشهورًا، وقد كان كما عرفته يؤمن بأن كتابته وإنتاجه هما ما يفترض أن يقدماه للآخرين وليس علاقاته الشخصية التي يطويها الزمن بانطواء العمر، بمعنى أن سهيلًا آمن بأن نتاجه هو سفيره إلى العالم وليس العكس.

ولد أبو نوارة في مدينة الناصرة عام 1940، لعائلة عرف ابناؤها بعشقهم للفن وعوالمه الرائعة، فأمه الفنانة مريم أبو نوارة، واحدة من رواد الحركة الفنية في الناصرة، وقد انشغلت طوال أيام عمرها برسم المناظر الطبيعية الخلّابة لبلادنا، وأخوه رمزي أبو نوارة عاشق متيم بالكتب وقد افتتح بالتعاون مع جوني جهشان وطوني سروجي مكتبة أطلق عليها اسم علي بابا وكان مديرًا لها منذ أواسط الثمانينيات حتى إغلاقه لها بعد سنوات من خدمتها لحياتنا الثقافية في الناصرة، وهو مؤلف مجموعة قصصية حملت عنوانًا لافتًا هو "نص راوي" وواضح هنا أنه يتلاعب بكلمة الناصرة ليبعث فيها حركة إبداعية لافتة. وابنة أخت سهيل الفنانة عبير زيبق معروفة لدى الكثيرين وأصدرت كتابًا بحثيًا عن المسرح في بلادنا. وقد عاش سهيل جُلّ أيام حياته قارئًا وكاتبًا ومفكرًا في عالمنا وأسراره الغامضة. وكان في حياته هذه أشبه ما يكون بالفيلسوف اليوناني القديم انباذوقليس الذي أطلق عليه لقب المُعتم لشدة غموضه، ومَن يشاهد ما خلّفه سهيل من لوحات فنّية يلاحظ أنه عاش فعلًا حياة غلبت عليها العتمة وامتدت على جُلّها.

تعرّفت إلى سهيل في أوائل السبعينيات، بعد نشره مسرحيته "زغرودة الأرض"، وإعادة مجلة «الطريق» اللبنانية نشرها. في البداية سارت علاقتنا متعثّرة، وما لبثت أن تطوّرت وانطلقت في أفق احتضنها بحنو حتى اليوم الأخير من حياته.

أتذكر الآن وأنا أستعيد شريط ذكرياتي معه كيف دعاني أكثر من مرة إلى بيته القائم في الطرف الشمالي الجنوبي لبلدتي الأثيرة الناصرة، وكيف استقبلتني والدته الفنّانة مريم أبو نوارة بحفاوة أم نصراوية، ألفت ما للاستقبال الحسن من أهمية تبعث الدفء في الضيف الزائر. وأذكر أنني كتبت عنها في حينها مقالة قدّمتها فيها إلى الحياة الفنية، كفنانة تجاوزت السبعين من عمرها وما زال خافِقُها منجذبًا إلى بلادها وبلداتها لتبدع في رسمها للمناظر الفتانة.

كما أتذكر تلك الجلسات التي لا تنسى في مكتبة علي بابا، في الغُرفة الداخلية الصغيرة وعلى مقاعدها المعدودة، وفناجين القهوة التي لا تفرغ إلا بانتهاء الجلسة. هناك في تلك الغرفة الصغيرة داخل المكتبة التقيت بالعديد من فناني بلدتي الذين ستربطني بهم علاقات مودة وتقدير متبادل حتى هذه الأيام، أذكر منهم وأرجو ألا أنسى أحدًا: داوود حايك، بشارة مطر، فكري بطحيش، والأصدقاء رايق رزق ولويس شوفاني وغيرهم. في السنوات الأخيرة تكثفت اللقاءات بسهيل وبقية الأصدقاء وكنّا عادة ما نلتقي في هذه الفعالية الأدبية الثقافية أو تلك مما تقيمه هذه المؤسسة أو تلك في بلدتنا من نشاطات. وأذكر هنا والآن.. وأنا أتحدث عن سهيل بعد رحيله لحظة اقترب مني عام 2008 وهمس في أذني أثناء لقاء لنا في المركز الثقافي البلدي، قائلًا: لقد مات. وسألته هامسًا: مَن؟ فردّ بصوت خفيض: محمود درويش. يومها لمعت في عينيه دمعة أشعر الآن بدمعة مثلها تلمع في عينيّ.

لقد عانى سهيل في سنواته الأخيرة من الإهمال، لا سيما عندما بدأت المياه الزرقاء تقتحم عينيه وتنشر الحزن في حياته وتمنعه بالتالي عن قراءة الكتب التي كانت الأجمل والأمتع في حياته، خاصة قراءة مؤلفات الكاتب اليوناني الرائع نيكوس كازنتزاكي، لا سيما كتابه عن "الحرية".

لقد لفتني إلى سهيل طوال علاقتي به أمران هما توقده الفكري ورغبته في العطاء، فيما يتعلّق بالأمر الأول أقول إنه كان حكيمًا يرى أكثر مما يراه آخرون، وكان يرى أن المشكلة الحقيقية التي يعاني منها الإنسان المُبدع تكمن بينه وبين نفسه، وكان بناء على هذا يرى أن السلام يبدأ بين الإنسان ونفسه، بل أكثر من هذا كان يرى أن مشكلة الشعب، أي شعب، هي في بنيته الخاصة وليس في العوامل الخارجية التي تتهدده حينا بحق وأحيانا بدونه. كان سهيل بوضوح وإيجاز يؤمن بأن "سوس الخشب منه وفيه" وأن إصلاح البيت يجعله قويًا وقادرًا على مواجهة أعتى المصائب والظروف. أما على مستوى الرغبة في الإبداع والإنتاج، فقد كان كلّما ذكر زغرودته الرائعة للأرض يقول إنه سيقوم بتأليف عمل إبداعي كبير لم ترَ المنطقة العربية مثيلًا له، وقد كرّر قوله هذا الكثير من المرات وليته انتقل من القول إلى الفعل.. فأضاف إلى زغرودته الخالدة أختًا لها تضيف الكثير إلى حياتنا الثقافية عامة والمسرحية خاصة.

كتب سهيل في حياته كما قال لي العديد من الأعمال الأدبية، منها رواية وقعت في 700 صفحة، لم يتمكّن من نشرها فبادر إلى اخراجها من صندوق وضعها فيه وأشعل النار فيها حزنًا وغضبًا، وقد شعرت بنغمة أسى تجتاح كيانه وهو يتحدّث لي عن إحراقه هذه الرواية التي كانت ستخلّده لو تمكن من نشرها وترجمتها إلى لغات أخرى. مختصر القول إن سهيل كتب الكثير ونشر القليل.. وتبقى "زغرودة الأرض" هي عمله الأول والأخير الكبير وأعتقد أنها تكفي لتخلده ولتدخله إلى ديوان المسرح في بلادنا.

تروي حكاية سهيل أبو نوارة مع المسرح قصة الكتابة المسرحية في بلادنا على أكمل وجه، فقد عاش سهيل شأن الكثيرين من محبّي المسرح والكتابة له، حالمًا بالكتابة للمسرح من دون أن يتمكّن من الوصول إليه كما يريد هو لا كما يريد آخرون. وكثيرًا ما كان يقول لي ولآخرين من الأصدقاء إنه يفضّل حريته واستقلاله على أن يكون خاضعًا لآخرين أيًا كانوا. لهذا هو لا يريد أن يقدّم إنتاجه بأي شكل، ويوجد لديه العديد من هذه الشروط في مقدمتها احترامه كإنسان وتقديره كمبدع. شخصيًا لا أعرف الظروف التي تم خلالها تقديم المسرح الحديث لمسرحية "زغرودة الأرض"، إلا أنني فهمت، مما أوحى به صاحبها في أكثر من لقاء ومكالمة، أن تقديم هذه المسرحية تمّ بالتعاون بينه وبين المسرح مُقدّمها عبر النص المكتوب والارتجال، وعليه أعتقد أن عدم تعاون المسرح الحديث ذاته في مسرحية سهيل الثانية" بيت الرجال" ترك أثرًا مُرّا عليه وعلى عطائه المسرحي.

خلال التحدث عن قصة سهيل مع المسرح لا بد من الإشارة إلى أن مسرحية الزغرودة قُدّمت على الخشبة الذهبية مرتين الأولى في السبعينيات والثانية بعد ثلاثين عامًا وقد قدّمها في هذه المرة الثانية مسرح الميدان، بعد أن أسس لها رؤية مسرحية خاصة، أشعرت صاحبها بأن مسرحيته انحرفت، او حُرفت عن هدفها، وقُدمت بشكل لا يريده لها ولم يقصده أساسًا، فثارت ثائرته.. اعترض واحتج ووصل إلى قاعات القضاء.. وانتهت حياته والقضية ما زالت مستمرة.

كان سهيل دائم الشكوى من عدم دعم المؤسسات الاجتماعية الثقافية، خاصة البلديات، له ولزملائه الكتاب والفنانين، وقد عاد وكرّر هذه الشكوى العديد من المرات ولا أذكر أنه حصل على أي من المساعدات المؤسساتية، وأن كلّ ما طاله وحصل عليه، كما فهمت منه، لا يعدو وعدًا قطعته مؤسسة في رام الله على نفسها ونفذته بصورة محدودة جدًا.. ويطرح السؤال الآن في الذكرى السابعة لرحيله .. هل تبادر إحدى هذه المؤسسات إلى انصافه والاهتمام به وبإنتاجه عبر تقديمه للأجيال الراهنة والمقبلة؟

***

كتب: ناجي ظاهر

......................

* تصادف هذه الأيام ذكراه السنوية السابعة.

توفيت الفنانة الفرنسية فرانسواز جيلوت عن عمر يناهز 101 عام. وقد اشتهرت بعلاقتها الرومانسية مع بابلو بيكاسو، والتى أصبحت مذكراتها "حياتي مع بيكاسو" صدرت 1964 من أكثر الكتب مبيعًا على مستوى العالم – ترجمة مي مظفر - صدرت طبعة جديدة منها عن دار الرافدين

قالت ابنتها أوريليا إنجل لوكالة أسوشيتيد برس، إن والدتها توفيت بعد معاناة من امراضالرئة والقلب. واضافت إنجل: "لقد كانت فنانة موهوبة للغاية، وسنعمل على الحفاظ على إرثها واللوحات والأعمال الرائعة التي تتركها لنا "... إلا انجيلوت بالرغم من اشادة النقاد بفنها الذي أنتجته على مدى سنوات طويلة، لكنها ستظل معروفة بعلاقتها مع بيكاسو، الذي التقت به في عام 1943. قالت عن ارتباطها بالرسام الشهير "لقد كنت هناك بمحض إرادتي، وتركته بإرادتي. هذا ما قالته له ذات مرة، قبل أن تغادر حياتة بيكاسو بشكل نهائي. قالت له احترس، أنني أتيت عندما أردت ذلك، لكنني سأغادر عندما أريد ايضا. قال لها ساخرا: لا أحد يترك رجلاً مثلي. قالت له بحدة، "سنرى". "

تقول ابنتها ان بيكاسو الغاضب سعى ا دون جدوى إلى حظر نشر كتاب (حياتي مع بيكاسو)، هاجمها في المحكمة، وخسر ثلاث دعوى قضائية ضد الكتاب، لكنه بعد الخسارة الثالثة اتصل بها وقال تهانينا. واعرب عن فخره بكونه عاش مع امرأة كانت لديها مثل هذه الشجاعة".3312 فرانسواز جيلوت

كانت في الحادية والعشرين من عمرها عندما تعرفت عليه، كان قد تجاوز الستين بأعوام، صاحب اسم كبير وصاحب ثروة هائلة. كانت تحلم بأن تلتقيه، ورسمت في مخيلتها صورة له، شاهدته عن قرب للمرة الأولى عام 1943 كان يجلس في أحد المطاعم، تأملته طويلاً، كانت تشاهد صوره في المجلات والصحف، لكنه في الواقع يختلف كثيراً وفي كتابها "حياتي مع بيكاسو" تصف لحظة اللقاء الأول: "لاحظت بعد برهة، انه كان يتطلع إلينا باستمرار ثم يبتسم، ويرفع صوته باتجاهنا وهو يروي بعض نكاته، بعد فترة قصيرة نهض من مكانه وحمل بيده حفنة من الكرز وهو يسأل، ماذا تعملين:

- انا رسامة

• اذا، لقد خُلقنا لكي نتفاهم، تعالي يوماً لزيارتي في المرسم.

ولم تنتظر طويلاً، ذهبت مع صديقتها جنفياف لزيارته، احتفى بها كثيراً وعرض امامها لوحاته ومنحوتاته وتقول في مذكراتها: " نسى شهرته وعظمته وتصرف مثل مراهق، وقد دهشت عندما قال لي: آمل أن تزورينني ثانية، وألا تكتفي بالتطلع الى اللوحات فقط".

كانت فرانسواز جميلة جداً، ويصفها بيكاسو بأنها: "ذات وجه نبيل، وشعر ذهبي هائل، وعينان كبيرتان، وكان يزيد من جمالها شيئاً من الاستغراب"، ذات يوم قال لها: "أنا عجوز لم يبق لي من العمر كثيراً، ومن واجبك أن تلازميني، لكي أسعد في الفترة المتبقية من حياتي" ومرة اخرى قال لها، أخاف أن اموت قبل أن أحب كل النساء.

ثم أشار الى لوحة وهو يقول: " هذه انت، هل عرفتي كم احبك؟"، وحين انجبت فرانسوز ابنها كلود، قال لها بيكاسو: " الآن اصبحت جزءاً من حياتي، ويجب أن نرتبط برباط لن ينفصل"، لكنه لا يستطيع الابتعاد عن النساء وتكتب فرانسواز في حياتي مع بيكاسو: " ازداد يقيني بأنه يعاني نوعاً من العقد النفسية، تجعله يحتفظ بكل نسائه في متحف خاص به"، سنوات عشر قضتها فرانسواز جيلو مع بيكاسو، وانجبت له ولدين، كلود وبالوما، عاشت فيها سنوات مليئة بالأفراح والهموم والغيرة أيضاً، وفي لحظة ما قررت أن ترحل، وكان رحيلها اشبه بمشهد مسرحي، ودعته الوداع الأخير أمام الجماهير في افتتاح عرض لمصارعة الثيران سنة 1953 وهي ترتدي زي فارسة، وذلك بترتيب بينها وبين بيكاسو، ونزع من يده ساعة كانت قد أهدته إياها فرانسواز وأعادها إليها قائلاً: وقتك لم يعد ملكاً لي.

لكنه بعد فترة استشاط غضباً. لقد اصبح البيت خاويا الآن. لقد وفت بوعدها ورحلت مع الطفلين بشكل نهائي، طفليه هو! يا لها من فعلة شنيعة.

امضت معه عشر سنوات، وقد عرفته بشكل أفضل من أي شخص آخر تقريبا وعرفت شخصيته بكلا جانبيها، الرقيق والشرس. ولكنها عرفت أيضا بأنها ستضيع هي وطفلاها إن أمضت إلى جانبه فترة أطول. ونظرت فرانسواز إلى كلود وبالوما اللذين كانا يجلسان إلى جانبها في السيارة. ما تزال تحب بابلو ولكنها تحب أطفالها أكثر.

"لا امرأةً تتخلى عن رجلٍ مثلي"، هذا ما قاله بيكاسو لها قبل أسابيع من الفراق. لكنها استطاعت ان تفارقه.

ولدت ماري فرانسواز جيلوت لعائلة غنية في السادس والعشرين من تشرين الثاني عام 1921، في إحدى ضواحي باريس، الطفلة الوحيدة للمهندس الزراعي إميل جيلوت صاحب مصنع للكيمياويات، كان اجدادها لامها يمتلكون دارًا للأزياء الراقية.

انجذبت ماري فرانسواز إلى الفن منذ سن مبكرة، تتلمذت على يد والدتها التي درست تاريخ الفن والخزف والرسم بالألوان المائية. لكن والدها - الذي تذكرته السيدة جيلوت باعتباره مستبدًا كانت لديه أفكار أخرى. فقد اراد لابنته ان تدرس العلوم أو القانون، أقنعها بالتسجيل في جامعة باريس، حيث حصلت على درجة البكالوريوس في عام 1938 عن عمر يناهز 17 عاما.

ذهبت للدراسة في السوربون والمعهد البريطاني في باريس وحصلت على شهادة في الأدب الإنكليزي من جامعة كامبريدج. مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من فرنسا عام 1939، أرسلها والدها إلى شمال غرب باريس، للالتحاق بكلية الحقوق، هناك انشغلت بالرسم

اثناء الاحتلال الألماني لباريس عام 1940، انضمت إلى تظاهرات الطلبة ضد الالمان تم اعتقالها وبهد اطلاق سراحها وضعت تحت المراقبة.

واصلت دراستها في القانون في جامعة باريس، ولكن بعد إجراء امتحانات السنة الثانية، عام 1941، فقدت الاهتمام بالجامعة وتخلت عنها، وقررت تكريس نفسها للؤسم. بدأت دروسًا خاصة مع الرسام المجري، إندري روزدا، وحضرت دروسا عن الفن التشكيلي ، لم يكن والدها راضيا عن قرارها ترك الجامعة فققرت ان تترك البيت لتعيش مع جدتها

تعرفت على بيكاسو عام 1943، كان في ذلك الوقت نجما دوليا ارتبط بالحزب الشيوعي الفرنسي. عام 1947 انجبت ابنها كلودوعالم 1949 انجبت ابنتها بالوما، ظلت تواصل الرسم، متبعة أسلوبًا تجريديًا ملونًا مرتبطًا بمدرسة ما بعد الحرب في باريس بدلاً من تقليد بيكاسو. في 1952، اقامت معرضا للوحاتها استقبله النقاد بشكل جيد.

بعد تركها بيكاسو اقامة علاقة مع الفيلسوف اليوناني، كوستاس أكسيلوس، بعدها قررت عام عام 1955 الزواج من صديق الطفولة، لوك سيمون، وهو فنان فرنسي. وقد انتهى هذا الزواح بالطلاق 1962.

هاجمها أصدقاؤها بسبب كتاب " حياتي مع بيكاسو "، وكذلك فعل الحزب الشيوعي الفرنسي. قام بيكاسو ببثلاث محاولات عبثية لمنع نشر الكتاب في فرنسا. ثم رفض مقابلة ابناءه كلود وبالوما.

اصدرت عام 1975، كتابًا جديدًا بعنوان " الرسام والقناع"، وهو مذكرات عن حياتها كفنانة. في العام التالي، أصبحت رئيسة قسم الفنون الجميلة في جامعة جنوب كاليفورنيا، وشغلت هذا المنصب حتى عام 1983.

عاشت في مانهاتن، حيث حولت شقتها الى مرسم ومكتبة تضم مئات الكتب.عام 1990، واصلت التفكير في سنواتها مع بيكاسو فاصدرت كتاب بعنوان "ماتيس وبيكاسو: صداقة في الفن"، وهو سرد للصداقة المتنافسة للفنانين والتي ركزت على السنوات التي كانت شاهدة فيها

عندما سألتها احدى الصحفيات عما إذا كانت قد شعرت بالمنافسة مع بيكاسو أو أصدقائه - ومن بينهم شاغال وبراك وماتيس وجياكوميتي - أجابت: "لم يخطر ببالي هذا قط. أنا أنت لست قادرًا على ذلك ".، لكنها اقرت ان عمالقة الفن في القرن العشرين كان لهم تأثير كبير عليها:" إنهم ساعدوني على النمو ".

كانت فرانسواز اذكى امراة عرفها بيكاسو، قالت عنه في مذكراتها انه كان " عنيفا، غاضبا، وانانيا مخيفا ".. ورغم صراحتها في " حياتي مع بيكاسو " إلا انها كتبت في السطور الاخيرة من الكتاب:" كان بابلو قد قال لي، بعد ظهر ذلك اليوم الذي زرته فيه وحدي، في شباط عام 1944، ان شعورا يغامره بأن علاقتنا ستدخل النور الى حياتنا، وقال ان قدومي اليه يبدو مثل نافذة تفتح، وانه يريدها ان تظل مفتوحة. وهذا ايضا ما فعلته طالما كان الضياء يتسرب منها، ولكنني اغلقتها على كُره مني عندما وجدت انها لم تعد مسربا للضياء.ومنذ تلك اللحظة احرق بابلو كل الجسور التي ربطتني بالماضي الذي شاركته به، غير انه دفعني بعمله هذا الى اكتشاف نفسي، وهكذا حققت نجاتي، ولن اتوقف عن الشعور بالعرفان له من اجل ذلك "

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

تحية وفاء إلى معلّمي الأوّل ـ سيّدي المنّوبي ـ وهو أوّل من علّمني الحروف والأعداد بالمدرسة الاِبتدائية بضاحية بمقرين جنوب العاصمة تونس سنة 1958

دائما يخالجني شعور الحنين إلى البادية بما تمثله من فضاء شاسع على مدى البصر وقيم إنسانية باتت نادرة ...واحسرتاه على ذلك الجنوب الذي أمسى جنوبا آخر لا صلة له أو تكاد بما عرفته فيه. أنا عرفت في طفولتي قيمة قطرة الماء وعرفت مذاق الخبز من الفرن بأصابع أمّي التي كان غناؤها سنفونيات عذبة على إيقاع دوران الرّحى ورأسي يتوسّد ركبتها ونحن في غار حوشنا القديم.

أنا من جيل تجلّى وعيه على آخر وقائع النّضال للتحرّر من الاِستعمار الفرنسي وإنّ دويّ المدافع الفرنسية وهي تدكّ مواقع الثوّار في الأودية وفي ـ غارالجاني ـ و ـ أقْري ـ ما يزال صداها في مسمعي إلى اليوم وقبيل معركة ـ رمادة ـ بالجنوب التونسي كنت برفقة الصّبيان نجمع المؤونة والقِرب ونودّع الأقارب المتطوعين ثم في سنة 1961 خرجنا متظاهرين في حرب بنزرت وصائحين ـ الجلاء ….السلاح….الجلاء ...السلاح….وما زلت أذكر الفرحة العارمة التي غمرتنا عند إعلان اِستقلال الجزائر ولن أنسى أبدًا ذلك اليوم المشهود الذي رافقت فيه والدي رحمه الله إلى بنزرت في أكتوبر 1963عندما شاهدت عن قرب موكب الزعماء ـ بورقيبة وجمال عبد الناصر  وأحمد بن بلّة ووليّ العهد الليبي .

ولكن ماكادت سنة1967 تنتصف حتّى سادت في تونس وفي أغلب البلدان العربية وحتّى في الشّرق الأقصى وأوروبا وأمريكا حيرة حادّة اِستطاعت أن ترُجَّ كثيرا من الثّوابت بسبب التّأثير المباشر والحادّ للأزمات الّتي وقعت وقتذاك: فمِن هزيمة حرب جوان 1967 إلى حرب فيتنام ومن أصداء الثّورة الثقافيّة في الصّين إلى أحداث ماي 1968 في فرنسا وإلى حركات التحرّر العارمة في أمريكا وإفريقيا تلك الّتي كانت كالسّيل العارم أو كالنّار تشبّ في اليابس من الأغصان وفي ما تهاوى من الجذوع واِنشرخ من الأغصان وفي ما تناثر من الأوراق.

*

بينما نحن في درس العربية مع الأستاذ سيدي البشير العريبي بمعهد الصّادقية إذ تناهت إلى سَمعنا أصوات جَلبة فأغلق الأستاذ الباب ولكن سرعان ما اِقتحمت جماعة من التلاميذ مع شّبان آخرين القسم صارخين ـ فلسطين !! فلسطين !! ـ وطلبوا منّا المغادرة والخروج معهم للتّنديد بإسرائيل ، كان ذلك يوم 5 أو 6 جوان سنة 1967عندما اِنطلقت الهَبّةُ مع تلاميذ المعاهد المجاورة بقيادة طلبة كلية الآداب فسلكنا مُستنفِرين الناس أسواقَ المدينة العتيقة المحيطة بجامع الزيتونة حتى اِلتقت الجموع عند باب البحر حيث ـ وقتذاك ـ مقرّات بعض السّفارات الأوروبية والمركز الثقافي الأمريكي فهشّمت الجموع ما هشّمت وأحرقت ما أحرقت ولم يصدّها في آخر المساء إلا نفر قليل من الحرس الوطني المعزّز ببعض عمّال الميناء والشركات العامة حاملين هراوات يهشّون به علينا في الهواء ولكن نلنا منها بعد ذلك في التحرّكات الجامعية المختلفة ما ناله طبل العيد ، ثم بعد يوم أو يومين من تلك الأحداث كنتُ مع الواقفين على جنبات الطرقات نُودّع فِرق الجيش التونسي بالهتافات وبعُلب الأجبان والسّردين والشكلاطة أيضا وكان في ظننا أنه سيشارك في الحرب لتحرير فلسطين غير أنه ما كاد يصل إلى الحدود حتى قُضي الأمر وحلّت الهزيمة النكراء فلم يصدّقها حينذاك أغلب الناس الذين كانوا يستمعون إلى بعض الإذاعات ذات الحماسة الجوفاء والبلاغات الكاذب في ظروف تلك الأحداث العربية الأليمة وفي خضمّ اِحتجاجات الشباب في العالم ضدّ حرب الفتنام وضدّ الميز العنصري في جنوب إفريقيا ومع بروز الحركات التحررية في شتّى أنحاء العالم تنامى لديّ الاِقتناع بضرورة تجاوز السائد من الأنظمة والأحزاب والنظريات الجاهزة فقد أثبت الواقع فشلها وخواءها من خلال عديد التجارب التي لم تخلّف في بلدانها شرقا وغربا إلا الاِستبداد والقهر والفقر وراح ضحيتها عديد الشعوب فاِنبريتُ أبحث عن الجديد المنشود وقد طلبته في الشّعر لذلك كنت من الفاعلين في ظهور جماعة ـ شعراء الرّيح الإبداعية ـ التي خالفت جماعة شعراء القيروان ذات الأبعاد التراثية والقومية العربية وجماعة المنحى الواقعي ذات المنطلقات الاِشتراكية وذلك بمناسبة ملتقى الشعر التونسي الذي اِنعقد بالمركز الثقافي بالحمامات سنة 1983 وقد عبّر شعراء ـ الرّيح الإبداعية ـ عن رفضهم للقوالب الإديولوجية في تلك السنوات التي شهدت بعدئذ اِنهيار الأنظمة القائمة فيها على الأحزاب المستبدّة…لقد كان اِستشرافنا صحيحا فلم تمض إلا سنوات قليلة بعد ملتقى الحمامات للشّعر حتّى تمّ إبعاد بورقيبة عن الحكم وتولّي بن على مقاليد البلاد فعشنا على إثر ذلك فترة وردية من حرية التعبير والتنظيم إذ اِزدهرت الحركة الثقافية في مختلف الجمعيات ودور الثقافة والمهرجانات وفي شتّى الجهات حتى النائية منها وفي تلك الطفرة من الأنشطة ترشّحتُ لعضوية الهيئة المديرة لاِتحاد الكتّاب التونسيين باِقتراح من الأديب محمد العروسي المطوي فتحصّلت على أكثر الأصوات ونلت بالاِنتخاب أيضا مسؤولية الأمين العام وكانت تلك الهيئة تضمّ الأدباء محمد العروسي المطوي رئيسا والميداني بن صالح نائبا له والهاشمي بلوزة أمين المال وضمّت أيضا الأدباء أبا زيان السعدي وجلول عزونة وسمير العيادي وعبد الحميد خريف ونور الدين بن بلقاسم والتابعي الأخضر والطيب الفقيه وقد عمِلت تلك الهيئة خاصة على تنشيط النوادي في مقر الاِتحاد وعلى اِنتظام إصدار مجلة ـ المسار ـ وعلى فتح الفروع في الجهات التي يتوفّر فيها الحدّ الأدنى من الأعضاء وعلى المشاركة في اللجان الخاصة بالكتاب والسّينما والمسرح ضمن وزارة الثقافة وقد جعلنا هدفنا الأكبر هو اِستضافة مؤتمر الاِتحاد العام للأدباء العرب ومهرجان الشعر العربي بتونس وقد ضمّ اِتحاد الكتّاب التونسيين وقتذاك أغلبية الأدباء والشعراء على اِختلاف مراجعهم الفكرية والأدبية وعلى تنوّع ألوانهم السياسية وتوالي أجيالهم ممّا أتاح لي التعرّف على الأدباء التونسيين وربط صداقات مع الكثير منهم وفي ذلك السّياق من النّشاط الزّاخر ومن بينه اِنعقاد مؤتمر الأدباء العرب ونيل تونس رئاسته في شخص الأديب محمد العروسي المطوي ثمّ تنظيم الملتقى الأوّل للشعراء العرب جاءتني دعوة من رئاسة الجمهورية لحضور موكب اليوم الوطني للثقافة الذي اِعتبرناه حينذاك مكسبا للثقافة والمثقّفين ونحن نعيش غمرة حركة النشر واللقاءات الأدبية بعد سنوات عديدة من الكبت والتهميش التي لم يستفد منها إلا الأدباء والمثقّفون المُوالون للنّظام ولكن لم أكن أدري وأنا أدخل قصر قرطاج ثمّ وأنا أغادره بعد أن صافح بن علي الجميع ـ أنّ حليمة ستعود بعد سنوات إلى عادتها القديمة فقد أضحى حول نظام ـ العهد الجديد ـ زمرةٌ كبيرة من المثقفين والأدباء والفنانين الموالين هي التي اِستفادت من مجالات وزارة الثقافة ودعمها واِحتكرت مواردها وأنشطتها فلم تُبق لنا إلا النّزر القليل الذي لا يفي بتحقيق برامجنا ضمن بعض الجمعيات والنوادي الثقافية تلك التي سَنة بعد سنة بدأت تنغلق على عدد قليل من المنتسبين والروّاد وصارت برامجها تسير على إيقاع الجوقة الرّسمية شأن جميع الأنشطة الثقافية وغيرها في بقية البلدان العربية التي زرت الكثير منها فاِستنتجتُ أن مسألة اِستقلالية المثقف العربي عن السلطة هي أمر نسبيّ جدا وحتى بعض المثقفين والأدباء الذين تمكنوا من الإقامة في البلدان الغربية نجدهم موالين لهذه الجهة أو تلك سواء كانت منظمات وجمعيات أو لوبيّات وغيرها فليس من باب الخير المحض والمحبّة الصّافية للثقافة تحتضنهم تلك الدول وتدعمهم وتمنحهم الاِمتيازات والجوائز

*

كانت مرحلة اِنتسابي إلى الهيئة المديرة لاِتحاد الكتّاب التونسيين في مناسبتين الأولى في فترة رئاسة الأديب محمد العروسي المطوي والثانية في فترة رئاسة الشاعر الميداني بن صالح قد أتاحت لي الفرصة لمعرفة أحوال الأدباء والمثقفين التونسيين والعرب فوقفتُ على أمزجتهم وعلى بعض تفاصيل سلوكياتهم لذلك اِستنتجتُ أنّه من الأحسن بالنسبة للكثير منهم أن نقرأ لهم ولا نعرفهم عن كثب فعدد هائل من الأدباء والشّعراء والمثقّفين يكتبون ويصرّحون بعكس ما يفعلون لأن غايتهم تتمثّل في كسب المال و الشّهرة أونيل الحظوة والمنافع أمّا القِيمُ والمبادئ فإنهّا لا تبدو لديهم إلا في نصوصهم …كلام…..كلام !…

الزّمن كفيل وحده بوضع كل أديب و شاعر في مقامه الجدير به

*

كان من الممكن أن أنخرط في سياق السائد من الشعر الّذي كان يتراوح بين معاني الغزل والمديح والعنتريّات وبين معاني الرثاء والبكاء وجلد الذات، وكان من الممكن أن أباشر الكتابة بالعامّية مُتمثّلا مقولة أنّها أقرب إلى الجماهير وأسهل في التّداول والاِنتشار، بل كان بوسعي أن أنخرط حتى في الكتابة باللّغة الفرنسية باِعتبار أنّها اللّغة الثانية في تونس والّتي يمكن بها أن أتواصل مع مدى أوسع في العالم

ولقد بدأتُ فعلا في الكتابة بتلك اللّغة ولكنّني اِكتشفت أنّ في العملية

اِنسلاخًا واِنبتاتا فتراجعت ولم أنخرط في الكتابة بالعامّية التونسيّة عند تلك المرحلة وذلك لسببين اثنين أوّلهما أنّني علمت أنّها كانت ضمن سياق الدعوة إلى القضاء على الهويّة الوطنيّة ذات الأبعاد العربية، وثانيهما عدم اِمتلاكي لمفردات قاموسها الكبير وبالتالي عدم قدرتي على الإحاطة بها والتّعبير عمّا كان يخالج نفسي من المعاني الغزيرة والعميقة بتلك اللغة

ورغم ذلك فإنّي أرى أن الأدب العامّي شامل لرصيد تراثي غنيّ اِنصهرت فيه مختلف المكوّنات التاريخية تلك التي تتجلّى بوضوح من خلال الأمثال والحِكم والأزجال والأغاني والحكايات والخرافات والألغاز والنوادر وغيرها وإنّ النّهل من هذه التعبيرات إنّما هو إثراء للأدب العربيّ بل هو رافد مهمّ من روافد تجديده وتنوّعه. وقد لاحظت أنّه عندما تصبح الدّعوة إلى الاِستغناء عن العربية الفصحى وإبدالها بالدّارجة كتابة وتداولا فإنّ الأمر عندئذ ينقلب إلى قضايا تتعلّق بمكوّنات الشخصيّة الوطنيّة الّتي  أعتبر أنّ اللغة العربيّة هي اللّبنة الأساسية في بنائها وتماسكها وأنا لست مستعدا للمساهمة في هذا المشروع الخطير على الكيان الوطني الذي تمتدّ جذوره الثقافية والحضارية عميقا في التاريخ إلى ما قبل القيروان وقرطاج.

*

إلى اليوم لم أصادف كتابا في تاريخ الأدب التونسي يتناول بالجمع أو حتّى بالإشارة الى الأدب الذي كان في هذه الرّبوع قبل الحضور العربي الإسلامي في إفريقية ...إذن المسألة تحتاج الى بسط وتمحيص.

أنا أرى أن البحث في ذلك الأدب التونسي قبل الحضور الثقافي العربي أمر مهمّ الآن بعد أن زالت مخاطر الاِهتمام به وحيث ترسخت مفاهيم الاِنتماء الوطني التونسي عبر منطلقات المغرب العربي والتجذّر في الثقافة العربية ضمن البعدين المتوسطي والإفريقي وصولا الى ملامسة الثقافات الأجنبية الأخرى غير أن ذلك لا ينبغي ان يشطب من تاريخنا الحضاري إسهامات بلادنا قبل التعريب فهذه المسألة كانت تثير تحفظ بعض الذين كانوا يرون أن تاريخ تونس يبدأ مع تأسيس القيروان أما البحث في ما قبل ذلك فهو ضرب من الدعوة إلى الإقليمية والاِنعزالية والمحلية.

إن كتب التاريخ قد حوت نصوصا متنوعة باللغة اللاتينية واليونانية قد ترجم بعضها الى اللغة الفرنسية لذلك يمكن تعريب هذه النصوص والتعريف بها كمرحلة أساسية من تاريخ الأدب التونسي القديم الذي أراد الأديب محمد البشروش في الأربعينيات من هذا القرن أن يبدأ به مشروعه الضخم في كتابة تاريخ الأدب التونسي ذلك المشروع الذي ظل دون تحقيق غير أن الباحث والمؤرخ محمد حسين فنطر قد أكد في بحوث عديدة على الابداع الثقافي التونسي في العصور الغابرة قبل الفتح من ذلك توصّل إلى إثبات شهادات أدبية تتمثّل في الكتب المتنوعة التي تهم مواضيع الفلسفة والخطابة والشعر والقصة والحقوق أيضا قد صنّفها أفارقة كانوا فخورين باِنتمائهم إلى هذه الأرض الطيبة وأعربوا عن هذا الشعور النبيل بصريح العبارة فهذا أبُلُيّوس قد تعلّم ودرّس في جامعة قرطاج وذاع صيته في أركان الإمبراطورية الرومانية .

***

سُوف عبيد

وقعت أسيرًا للكتب في حياتي. أشعر بوحشة مريرة في بيت يخلو من الكتب، أحتاج الوجود المادي للكتب أكثر من احتياجي لمختلف الأشياء الكمالية في البيت، وحتى بعض الأشياء الضرورية. حيثما أكون تصاحبني الكتب، في سفري بوسائل النقل، واقامتي بالفنادق وأي محل أقيم فيه خارج البيت. لا أتردد للمقاهي وليس لدي هوايات خارج الكتب. أقرأ الصحافة منذ الصف الرابع اعدادي "العاشر"، ومازلتُ حتى اليوم تأكل قراءةُ الصحف والأخبار عبر الأنترنيت ما لا يقل عن ساعتين يوميًا، الصفحاتُ الوحيدة المنسية في قراءتي الصحف والمجلات الأسبوعية هي صفحات الرياضة.

الشغف بالكتب قديم يعود لمرحلة مبكرة من حياتي، والادمان على حضورها الدائم ترسخ بمرور الأيام. أعيش مع الكتب وكأنها كائنات حيّة تتكلم بلغة أتحسسها وأسكن إليها، وإن كنت لا أجيدها. تتكلم الكتب وهي صامتة على رفوف المكتبة، أتحسس كأنها ترقبني برفق وهي مبعثرة في غرف البيت، وتفيض الهدوء حين تلبث بجواري على الدوام حتى في غرفة النوم. بعض الكتب تمكث مهملة سنوات لم أقرأها، وجود الكتاب يشعرني بالأمن النفسي، ويؤنسني حين أشعر بوحشة الوجود. الكتاب الذي أقتنيه أو يهدى لي، أقرأ مقدمته ومحتوياته، وأتعرف عليه بالتدريج كما أتعرف على الأصدقاء. إن كان لا فائدة فيه، لا يضيف لمعرفتي شيئًا، ولا يغذّي لغتي، ولا يؤنسني، أشعر بأنه عبء على المكتبة، وأحيانًا كأني أحمله على أكتافي، فأطرده من المكتبة حتى لو اشتريته بثمن كبير. الحافز الذي يغويني بشراء الكتاب هو الحاجة النفسية الشديدة له، والشعور بأنه أحد مهدئات الاكتئاب. أتساءل لماذا الاستمرار باقتناء الكتب وتكديسها بهذه الطريقة الغرائبية، أليس هذا السلوك يثير أكثر من استفهام، إن كنت غير محتاج لها آنيًا، وأحيانًا متأكد من عدم توفر فرصة قريبة لمطالعتها؟ لم أجد جوابًا منطقيًا، سوى إدراك حاجتي لها، الذي لا أعرف بواعثها بوضوح، أتحسس الاحتياج العاطفي لها أكثر من العقلي. مضافًا إلى وهم يتملكني، وربما يتملك غيري من عشّاق الكتاب، بأن امتلاك الكتاب يعني الامتلاء بالضوء الذي ينبع منه، وينكشف فيه شيء مما هو محتجب في الذات والآخر والعالَم من حولنا.

بداية مطالعاتي كنت أبحث عن أي كتاب أقرأ عنه أو أسمع به أو أراه، أسعى مباشرة لشرائه عندما أمتلك ثمنه، إلا أني غادرت هذا النوع من الولع الفوضوي بالكتاب منذ نصف قرن تقريبًا. تواصل الولع بشكل مختلف ولم ينطفئ، أصبحت أنتقي عناوين أحسبها نوعية، وطالما خذلتني توقعاتي بمضمون الكتب وقيمتها الفكرية والابداعية. ما يخدعني من العناوين يؤذيني، أحاول أتريث وأدقق لأرى ربما يكون حكمي متسرعًا على كتاب واحد، فأحاول تكرار التجربة مع كتاب ثان وثالث للكاتب ذاته، عندما أتأكد من وهن قلمه أهمله للأبد. لا أظن تحررت أو أتحرر تمامًا من الولع بالكتب، مازلتُ عندما أكون في مجلس وأرى كتابًا بيد أحد الجالسين أو على منضدة، يقودني الفضول للتعرف عليه بطريقة لا أرتضيها أحيانًا. الشعور بالحرج من إنسان ألتقيته أول مرة، يدعوني للتردد بطلب الإذن من صاحبه، والمغامرة بسؤاله عن الكتاب وإمكان الاطلاع على عنوانه ومحتوياته. حاولت التخلص من هذه العادة، إلا أني فشلت، مثلما فشلت بالتخلص من ادمان مصاحبة الكتب حيثما أكون.

حين أظفر بكتاب أبحث عنه مدة طويلة أعيش حالةَ ابتهاج تتواصل أيامًا، وحين أتردد بشراء كتاب لم أعثر عليه لاحقًا، ربما ألبث سنوات أشعر بالضجر كلما تذكرت لحظة الاعراض عن شرائه، أو لم تسعفني قدرتي المالية لتأمين ثمنه ذلك الوقت. أتذكر أول زياراتي لشارع المتنبي سنة 1973 عندما كنت طالبًا ببغداد، لم تكن المكتبات في الشارع بهذه الكثافة وهذا الحضور الواسع المتنوع اليوم. دخلت المكتبة العصرية للحاج صادق القاموسي، الذي لم يكن يعرفني ولا أعرف عنه شيئًا وقتئذ، رأيته والشيخ أحمد الوائلي جالسين يتحدثان، بعد السلام عليهما، سألت القاموسي عن كتاب رأيته بتجليد أنيق في عدة مجلدات بحجم الموسوعات على أعلى رف في المكتبة، فأجاب: هذه "دائرة المعارف: قاموس عام لكل فن ومطلب" لبطرس البستاني، وذكر رقمًا كبيرًا ثمنًا لها، وأضاف: أنت لا تحتاجها بهذا العمر. لم يكن في جيبي سوى بضعة دنانير، ما تبقى من سلفة شهرية تمنح لطلاب الجامعات والمعاهد تلك الأيام. لم تمت هذه القصة في ذاكرتي، ظلت ترافقني حتى اليوم، كلما تذكرت ذلك الموقف الذي مضى عليه نصف قرن أتمنى لو اشتريتها ساعتها، وأحيانًا أتحسر للعجز عن اقتناء دائرة معارف البستاني. لو كنت قادرًا على ثمنها واشتريتها ربما تكون أحد محطات الاستراحة في حياتي، ولعلها تجدد بهجتي بمشاهدتي لها راقدة على رفوف المكتبة، وإن كنت لا أقرأها، ولا أعود إليها إلا نادرًا.

كنت أتردد على مكتبة الصديق عصام الطيار "أبو جعفر" وغيره في سوق الكتب بقم أكثر من مرة في الأسبوع قبل أكثر من ربع قرن. عصام مثقف أخلاقي مهذب، قارئ متمرس، خبير بعناوين الكتب ومحتوياتها، أعود إليه للتعرف على مضمون الكتاب وقيمته العلمية، رأيت في مكتبته للبيع "دائرة المعارف الإسلامية" في طبعتها العربية الثانية المنقحة في تسعينيات القرن الماضي، بترجمة: أحمد الشنتناوي، وإبراهيم زكي خورشيد، وعبد الحميد يونس، سألته عنها، فأجابني: هذه الطبعة في 13 مجلدًا، توقفتْ عند حرف الشين، وهي أجود من الطبعة الأولى بكثير بما تشتمل عليه من تنقيحات وتعليقات مهمة. ذلك اليوم ترددت بشرائها عندما رأيتها مطبوعة بورق غير جيد على الرغم من امتلاكي لثمنها. ندمت بعد أيام، لما عدت للأخ أبي جعفر وأخبرني أنه باعها، تألمت لما فرطت فيه. الغريب تنامي هذا الندم بمرور الأيام، كنت كمن يفتقد كنزًا زهد فيه وهو بثمن زهيد.كلما تذكرت ذلك اتأسف، أعرف لا يتسع وقتي لمطالعتها، ولا أحتاجها كثيرًا. هذه مواقف ربما تبدو غريبة لأكثر القراء، غير أني عشتها، أظن تشبع الإنسان بمناخات الكتب تجعله يتحسسها بوصفها ملاذًا يأوي إليه أوقات الضنك، أو كأنها مرآة يرى فيها الصورة المحببة لوجوده.

ورطني شغف الكتب بموقف محرج، كاد يودي بحياتي. بداية شهر ابريل/نيسان 1980، بعد وصولي للكويت هاربًا من بطش صدام حسين بعشرة أيام، اكتريت سيارة أجرة من منطقة الصليبة، حيث بيت أخي الحاج أبو عادل الذي أقمت فيه، إلى شارع فهد السالم المعروف بشارع الجهراء في الكويت. ذهبت إلى مكتبة "وكالة المطبوعات"، وهي مكتبة تعرفت عليها قبل سنوات في زيارة سابقة للكويت، من أهم اصداراتها سلسلة الأعمال الثمينة لأستاذ الفلسفة الشهير د. عبد الرحمن بدوي، عندما كان أستاذًا في جامعة الكويت. دخلت المكتبة التي تتألف من طابق أرضي لبيع اللوازم المدرسية والقرطاسية، ومخزن واسع للكتب تحت الأرض، يتسع لعدد كبير من المطبوعات اللبنانية والمصرية ومختلف البلاد العربية.كانت مكتبة غنية متنوعة، تتراكم على رفوفها كثيرٌ من الكتب الثمينة، مما كنت أسمع بها ولم أطلع عليها من قبل، بعد تزايد عدد عناوين الكتب الممنوعة من دخول العراق. وصلت المكتبة الساعة العاشرة صباحًا، وانغمرت في كنوز رفوفها، أمسك كتابًا يستدرجني عنوانه فأبحث عن مضمونه، أقرأ المحتويات، وأقلب صفحاته، أقرأ نص الغلاف الأخير، وأحيانًا أقرأ مقدمة المؤلف. شغلتني كتب مهمة، وفرحت بعناوين أمضيت عدة سنوات في البحث عنها. لم أتنبه إلا بمضي نحو خمس ساعات من الأُنس بمعاشرة الكتب، خرجت من المخزن لأغادر المكتبة وجدتها مقفلة. لم يكن صاحب المكتبة عبد الله حرمي يعلم بوجودي، أغلق الباب الذي كان من الزجاج، وخرج ليستريح الظهر في بيته، من دون أن يطفئ الانارة أو المراوح في المكتبة. قلقت لشعوري بتوريط نفسي بموقف شديد الحرج، ظننت يرتاب صاحب المكتبة بعد عودته، لحظة يراني وكأني استغفلته بالبقاء بمكتبته، وربما يشاهدني شرطي من وراء الزجاج فيظن أني سارق، وسرعان ما يقودوني إلى السجن. المشكلة كانت بدخولي للكويت من دون جواز سفر، وليست لدي أية وثيقة تدلل على اقامتي القانونية في البلد، المصير الحتمي لحالات كهذه التسفير للعراق، وسأكون صيدًا ثمينًا لجلادي نظام صدم، لو حدث ذلك قد ينتهي مصيري إلى أن أقضي تحت سياط هؤلاء. لبثت أترقب عودة صاحب المكتبة بوجل، لحظة دخوله المكتبة الساعة الرابعة والنصف عصرًا، لم أتحسسه إذ كنت أواصل السياحة بين الكتب في السرداب، صعدت ففوجئت بوجوده، كان الطابق الأول لوكالة المطبوعات مزدحمًا بأشخاص يبتاعون قرطاسية. خرجت من المكتبة بهدوء، من دون أن يتنبه هو لخروجي، بعد خطوات شعرت بحرج أخلاقي لمكوثي بمكتبته، وتقليب الكتب والاطلاع عليها عند غيابه دون إذنه. قررت العودة مهما كانت العواقب، عدت مسرعًا وقلت له: أعتذر منك، مكثتُ في المكتبة عندما أغلقتَ حضرتك الباب الخارجي، لم أكن أعلم بمغادرتك لاستراحة الظهر، ولم تعلم بوجودي لحظة اغلاقك المكتبة. ظهر على وجه عبد الله حرمي الذهول والخجل، أجابني بلطف معربًا عن أسفه لما حدث. لن أنسى موقف هذا الرجل المهذب بعد مضي كل هذه السنوات،كان بإمكان صاحب وكالة المطبوعات اتهامي وتسليمي للشرطة، ووفقًا للقانون سأُرحّل للعراق، وأغلب الظن يكون مصيري الإعدام. ‏أنقذني هذا الرجل النبيل من مغامرة لم أكن مضطرًا أن أزج نفسي فيها بلا حساب للوضع الطارئ الذي كنت فيه،كان يمكن أن تودي تلك المغامرة إلى الهلاك.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

منذ فترة مبكرة في حياتنا نسمع عن العلّامة المفكر عبد الله بن الشّيخ المحفوظ بن بيّه، فلا زالت العديد من كتبته حاضرة في أذهاننا، وبعضها كانت لاحقا من حياتنا، فهي إن مالت في الجملة إلى الفقه ومقاصده، والتّصوّف ومسالكه؛ إلّا أنّها تحوي مراجعات عديدة، وفي فترة مبكرة، كمراجعاته حول المختلف والتّسامح وحروب الدّعوة أو الابتداء والجزية وغيرها، وكانت له آراءه النّاقدة والمصححة والصّحوة في أوج حضورها، فيقول في كتابه حول الإرهاب التّشخيص والحلول: "وفي العالم الإسلاميّ بالذّات، فإنّ الصّحوة  الدّينيّة ظلّت عنوانا مشتركا لكلّ الدّعوات الجهاديّة والتّجديديّة الّتي واجهت الاستعمار الغربيّ للدّيار الإسلاميّة، منذ القرن التّاسع عشر حتّى خمسينيّات هذا القرن، وقد واجهت الصّحوة  الإسلاميّة الشّيوعيّة حقبة من الزّمن في مناطق من العالم، إلّا أنّ الصّحوة  خرجت من عباءتها تيارات متطرفة، تتخذ من التّكفير مذهبا، ومن العنف وسيلة، وأوقعت أضرارا فادحة بالأصدقاء قبل الأعداء، فشوهت صورة الصّحوة، وقدّمت ذريعة مثاليّة لأعداء الإسلام، ليهاجموا الدّين جملة وتفصيلا، وليضربوه في الصّميم".

والمتأمل في فكر ابن بيّه يجده يقرأ الفقه من خلال مقاصدة، والتّصوّف من خلال قيمه وغاياته، والفكر من خلال سعته وانفتاحه على الآخر، فلا يقف عند حرفيّة الفقه وظاهريّته، ولا عند خرافات التّصوّف وإغراقه الميتافيزيقيّ، ولا عند ضيق الفكر والتّعصب للّذات، فهو ينطلق ابتداء من "الإسلام يعتبر جميع البشر إخوة ..... والإسلام يعترف بحقّهم في الاختلاف {ولا يزالون مختلفين ...}".

ففي الفقه ومقاصده نجد كتابه "مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات"، "وعلاقة مقاصد الشّريعة بأصول الفقه"، "وإثارات تجديديّة في حقول الإصول"، وفي التّصوّف له العديد من المقالات، آخرها مقالته الطّويلة الّتي كتبها في 26 أكتوبر 2020م حول "تأصيل التّصوّف من الكتاب والسّنة"، وموجودة على موقعه في الشّبكة العالميّة، حيث يقرّر من الابتداء أنّه "لا ينبغي التّوقف عند الاسم والعنوان، فلا مشاحّة في الألفاظ بعد فهم المقاصد، وعادة العقلاء التّسامح في الإطلاقات، خلاف ما درج عليه بعض الّذين يحاكمون بالاسم، ويحكمون عليه دون تأنّ ولا تؤدة، ولا بحث عن المحتوى، فالأسماء والمصطلحات لا عبرة بها إلا بقدر دلالتها، ولعلّ ذلك مندرج في قوله تعالى: {وعلّم آدم الأسماء كلّها}، وعليه فإنّ الأسماء والمصطلحات لا توصف ببدعة ولا ابتداع، فأكثر أسماء العلوم الإسلاميّة لم تكن معروفة في الصّدر الأوّل بهذه الأسماء كالفقه، وحتّى مصطلحات أهل الحديث من إرسال وعضل وصحة وحسن ووضع، إلّا أنّ الناس قد تواضعوا عليها واستحسنوها بقدر ما تؤديه من وظيفة البيان، وإزالة الالتباس والاكتنان، فنعمت البدعة هي، كما قال عمر، والأمر في الوضوح والبيان لا يفتقرُ إلى برهان".

فالتّصوّف عند ابن بيّه كما أنّه تزكية وسلوك ومحبّة وتربية، وليس تواكلا وإغراقات ميتافيزيقيّة، هذا التّصوّف يرقى بالإنسان في الارتقاء في الحبّ والعشق الإلهيّ، وهي منزلة "إن لم تكن تراه فإنّه يراك"، فيرى إنّ "تصوّر أيّ إقبال وأيّ بهجة وأيّ هيبة لمن يرى الباري جلّ وعلا، بل أي فناء وانمحاء للأكوان في هذه الحالة، إنّها كمالات تسعى إليها الهمم العاليّة، وترقى إليها النّفوس المؤيدة، ولهذا بحث العلماء عن ناظم يتمثل في علم له قواعده ومصطلحاته، فهذا الفضاء المترع بالمحبّة، والمشرق بالأنوار، وهذه الرّؤى والأشواق والشّفافيّة لا يمكن إلّا أن يكون لها ناظم يجمعه، وسياق يسوقه بإزاء صور الأعمال".

فالسّفر عند المتصوّفة هو سفر إلى الفناء من خلال العشق الإلهيّ، الّذي يرونه في صورتهم، مع ارتقاء روحهم ووجدانهم، "فلقد تصوّر الصّوفيّة السّلوكَ سَفَرا إلى الحقّ سبحانه وتعالى، رحلة روحانيّة على بساط القلبِ، تعرُج فيها النّفس بالتّدريب والتّهذيب مدراجَ السّالكين، وتَتَرَقّى في مقامات القٌرْب، رحلة سَبَق فيها المفردون الّذين لم تثقل أثقالُ المادّة كواهلهم، ولم تَعُقْهُم العوائق، أو تقطعهم العلائق".

والتصوّف عند ابن بيّه أقرب إلى التصوّق السّنيّ الطّرقيّ، وأبعد عن التّصوّف الغارق في الماورائيّات من جهة، أو التّصوّف الفلسفيّ الغارق في الرّمزيّات الفلسفيّة كوحدة الوجود، فيشيد بجهود الشّاذليّ في تنقيّة التّصوّف، فيرى أنّه "ظهر الشّاذليّ في عصر ماجَت فيه الفتن، واضطربت القيم، والتبست المفاهيم، فادّرع التصوّف السنّيّ جلابيب قاتمة من بدع المذاهب الفلسفيّة، أذهبت رونقه، وأحالت بهجته، وكادت تذره أثرا بعد عين، فأحيى الله بالشّاذليّ ذماءه، وتدارك عثاره، وأقام سمك بنائه، وأزاح عنه حنادس الشُّبَه، فوصل ما انفصل منه بأصله النّبويّ، إذ كلّ نور لا يوقد من سراج المشكاة النبويّة فهو عين الظّلمة".

وأمّا مراجعاته الفكريّة فأخذت حيزا كبيرا من حياته المعرفيّة الطّويلة لتساير مراجعاته الفقهيّة والمقاصديّة، فكتابه الشّهير مثلا "فتاوى فكريّة"، وكتابه "خطاب الأمن في الإسلام وثقافة التّسامح والوئام"، وكتابه "الإرهاب: التّشخيص والحلول"، وأقف سريعا مع كتابه الأخير – أي الإرهاب – فيرى إنّ "تنمية التّسامح، والتّدرب والتّمرن على الانفتاح الذّهنيّ، وحسن الاستماع، والإنصات المتبادل، والتّضامن؛ يجب أن تسود كلّ هذه المعاني في المدارس والجامعات ووسائل التّربية".

والتّسامح مع الآخر ينطلق عند ابن بيّه – في نظري - من منطلقين أساسيين، الأول أنّ الآخر ليس مغايرا لي ولو اختلف دينا أو عرقا، بل هو أخٌ لي في الوجود، "فجميع البشر إخوة"، والثّانيّ كما أنّ الاختلاف طبيعيّ وموجود بين البشر؛ إلّا أنّ هناك المشترك، وهو كثير أيضا، فكنا ينبغي أن نلتفت إليه في الرّخاء؛ يجب أن نلتفت إلى المشترك في الشّدة، ليرتبط التّسامح بالتعّاطف، "والتّعاطف أمر تزكيه الفطرة الإنسانيّة؛ لأنّ الإنسان في وقت من الأوقات، يشعر بالانتماء المشترك إلى هذه الأرض، وإلى هذه الحياة، وأنّ حياة نفس واحدة كحياة جميع النّاس ، وموتها كموت جميع النّاس ، وذلك عبارة عن ماهيّة وحقيقة الحياة وحقيقة الموت ، فهي حقيقة واحدة لا يتغير جوهرها بالكثرة ولا بالقلّة . وتلك حقيقة قرآنية {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعا، ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعا}"، لهذا "إنّ ... التّوجهات الفكريّة عندما تتجاوز حدّها لتكون تيارا حادّا، يعبّر عن نفسه بالعنف، ويلغي وجود الآخر؛ يحكم عليها بأنّها ضارّة، وليست في صالح الإنسان".

لهذا نجد ابن بيّه من الفاعلين في دفع حركة التّعايش والتّسامح في المجتمع الإنسانيّ عموما، وفي العالم الإسلاميّ والعربيّ خصوصا، من خلال تقريراته الفكريّة الّتي تدور في الخطّ اللّاهوتيّ القرآنيّ والتّراثيّ، ومن خلال مراجعاته في العديد من الجوانب التّراثيّة والتّأويليّة والمعاصرة، وفي الأخير نجد حضوره في "وثيقة الأخوة الإنسانيّة" قبيل زيارة البابا فرنسيس بابا الكاثوليك إلى الإمارات عام 2019م مع شيخ الأزهر أحمد الطّيب،  فكان "المؤتمر العالميّ للأخوة الإنسانيّة" في العاصمة أبو ظبي في الوقت ذاته.

وفي الخميس الماضيّ 25 مايو وأنا في زيارتي لمعرض "أبو ظبي للكتاب" في دورته الثّانية والثّلاثين؛ أخبرتُ صديقي الأستاذ حمد الكعبيّ في رغبتي لزيارة ابن بيّه، وقلتُ من الابتداء يصعب زيارته، فكان وزيرا في موريتانيا لعدّه وزارات، حتّى وصل إلى رتبة نائب رئيس الوزراء، وهو حاليا رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشّرعيّ، بجانب رئاسته لمنتدى تعزيز السّلم في المجتمعات المسلمة ومؤسّسة الموطأ في أبوظبي، ورئيس مجلس إدارة المركز العالمي للتّجديد والتّرشيد في لندن، بجانب كونه نائب رئيس الاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين، وأستاذ الدّراسات العليا بجامعة الملك عبد العزيز في جدّة، والعديد من العضويّات، لهذا تصوّرت الرّد السّلبيّ في الابتداء، إلّا أنني تفاجأت أنّ جدول الشّيح مزدحم في الاثنين، حيث كانت زيارتنا يوم الاثنين لأبو ظبيّ، بيد أنّه يرحب باللّقاء ولو سريعا قبل الاجتماع الّذي يرأسه لأعضاء مجلس الإمارات للإفتاء الشّرعيّ، ووضع لنا موعدا سريعا في بداية الخامسة عصرا قبل الاجتماع.

ذهبتُ إلى الموعد بصحبة الأساتذة: أحمد النّوفليّ وإبراهيم الصّلتيّ وعمّار البلوشيّ، وعندما دخلنا إليه وجدتُه مع أعضاء الهيئة منهم امرأة، وبعضهم أعرفهم من خلال كتاباتهم وبرامج فتاويهم ومحاضراتهم في الفضائيات الإماراتيّة، فقام الشّيخ عبد الله بن بيّة بالتّرحيب بنا وهو يقترب من التّسعين من عمره، فرحب بنا ترحيبا مع ابتسامة لا تفارقه، فسلّمنا عليه وعلى باقي الحضور، فأمرني أن أجلس بقربه، فسألني عن الأخبار وعن بعض الجوانب المعرفيّة، وهنا أهديته كتبي الثّلاثة: الجمال الصّوتيّ: تأريخه وفلسفته الفقهيّة [مراجعة في النّص الدّينيّ حول الغناء والمعازف]، وكتاب فقه التّطرّف، وكتاب لاهوت الرّحمة في ضوء الفردانيّة: جدليّة الأنسنة والهويّة والظّرفيّة، فكان يمسك بقوّة كتابا كتابا، إلّا أنّه شدّه كتاب الجمال الصّوتيّ، وهنا تطرّق على عجل لرؤية ابن حزم، فأخبرته أنّي تطرّقت إليها مع رؤى أخرى، وهنا استأذنت للخروج لأنّه خصّص لنا شيئا قليلا من الوقت لارتباطهم باجتماع، إلّا أنهم قدّموا اعتذراهم من قبل رئيس مكتبه زين العابدين لضيق جدول سماحته، راجين تجديد الزّيارة في وقت أكثر سعة، وفي الأخير اعتذرنا لسماحته مع شكرنا له لتخصيص هذا الوقت من جدوله الضّيق، فمسك يدي بقوّة مناديا رئيس مكتبه: اكتبوا بيانات الأخوة ليشاركونا المؤتمرات، وكنت قد أرسلت له سيرتي الذّاتيّة، وأبى توديعنا إلّا واقفا مع كبر سنه، وابتسامته – كما أسلفنا – لا تفارقه، ثمّ أُرسِل لنا من مكتبه بعد شكرنا لهم رسالة "سيدي الأستاذ الكريم تشرفنا بكم، وسعدنا بإهدائاتكم الثّريّة، ونتطلع لتجديد اللّقاء، وتوثيق الصّلة ..."، ومن أحد أعضاء الهيئة الشّرعيّة رسالة: "معالي الشّيخ مسرور بلقائكم ....".

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

أثناء وجوده في باريس العام 1919 للمشاركة في مؤتمر السلام بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بانتصار الحلفاء وهزيمة المانيا ومعها الدولة العثمانية، توفي العقيد البريطاني مارك سايكس في غرفته بفندق لوتي الباريسي جرّاء اصابته بوباء الأنفلونزا الأسبانية. وفي العام 2007 أي بعد مرور 88 عاماً على وفاته، تم نبش جثته التي دفنت حيث أملاك عائلته في مقاطعة يوركشاير الإنكليزية، وذلك من أجل أخذ عينات من بقاياه لأغراض طبية تتعلق بمعرفة طبيعة ذلك الوباء، مع احتمال العثور على فيروسات حية، سيما وأن الجثة حفظت بشكل جيد في تابوت من الرصاص. لم يكن ذلك الرجل الذي فتك به الوباء، سوى الشخصية التي ارتبط اسمها بأشهر معاهدة سرية في التاريخ الحديث تركت مخالبها على حياة العرب في حاضرهم ومستقبلهم، معاهدة سايكس - بيكو التي وقعت في العام 1916 بين بريطانيا وفرنسا، لاقتسام ممتلكات الإمبراطورية العثمانية، ومنها منطقة الهلال الخصيب في العراق وسوريا ولبنان والاردن وفلسطين، والتي صمم سايكس مع رفيقه الدبلوماسي الفرنسي جورج بيكو دولها وخرائطها وحدودها ومصائر شعوبها التي بقيت مضطربة إلى يومنا هذا.3222 رحلة على الحصان

يقدم كتاب «رحلات مارك سايكس في العراق العثماني.. خطوات قبل صناعة الشرق الجديد» هذا الدبلوماسي والكولونيل الانكليزي بوجه آخر قد لا يعرف الكثيرون،  والكتاب صادر عن دار البشير للثقافة والعلوم ضمن مشروع الرّحلات الذي يتبناه المركز الثقافي الآسيوي برئاسة الدكتور أحمد عبد الوهاب الشرقاوي المتخصص في التاريخ العثماني، وهو الذي قام بترجمته والتقديم له مع زميله المترجم محمد علي ثابت استناداً إلى مجموعة مقالات نشرها سايكس في بعض الدوريات العلمية البريطانية المتخصصة في الجغرافيا والأنثروبولوجيا، تم تصنيفها إلى مقالة عن القبائل الكردية في الإمبراطورية العثمانية، ومقالتين عن رحلات في شمال ما بين النهرين، ومقالة عن مناطق الانحناء الغربي لنهر الفرات. وفي هذه المقالات التي تنتمي إلى أدب الرّحلات يعجب المرء للعقلية الإنكليزية التي تعتمد في سياستها الاستعمارية على معلومات تفصيلية عن اصول الشعوب والأقوام والقبائل ولغاتهم وعقائدهم الدينية ومذاهبهم وسماتهم وطباعهم وعاداتهم واخلاقهم، وشجاعة أو جبن رجالهم، وحتى عن جمال أو قبح نسائهم، تستقيها من المستشرقين والرّحالة والجغرافيين والأنثربولوجيين، وهم عادة من عناصر المخابرات البريطانية، أو من الذين توظف معلوماتهم وكتبهم وتقاريرهم ومذكراتهم في خدمة أغراضها، ومنها هذا الكتاب الذي يصفه مؤلفه بأنه: «حصيلة رحلة على ظهر الحصان بلغت 7500 ميلاً، وبعض المحادثات التي دارت بيني وبين رجال الشرطة وسائقي البغال، وملالي وشيوخ القبائل، ورعاة الأغنام، والمتعاملين بالخيول، وكذلك سعاة البريد، وغيرهم من الأشخاص الموهّلين لمنحي معلوماتٍ صحيحةً وقيّمة». لقد أولى سايكس للقبائل الكردية اهتماماً خاصاً، ففي كتابه هذا ايجاز لما يقرب من مائتي قبيلة كردية، قام بتصنيفها وفق فهارس وأرقام إلى ثلاثة طوائف، الأولى وهم سكان السهول والتلال الجنوبية شبه الرّحّل، والثانية وهم القبائل الجبلية المستقرة، وطائفة ثالثة تضم بقية القبائل الكردية من الجبليّين شبه الرحل، كما يتحدث عن القبائل العربية وعن البدو، وعن أقليات تعيش بين العرب والكرد، ويضفي أحياناً بعض الصفات السلبية والأحكام القاسية على أفراد هذه القبائل والجماعات،  كما يبدو على انطباعات شخصية فردية يعممها على جميع أفراد المجموعة البشرية. بل لم يستثنِ حتى المقاييس الجمالية كقوله على سبيل المثال في وصفه لنساء أحدى القبائل : « أمّا نساؤهم فهنّ قبيحاتُ الشّكل»!.

عدا عن هذه المعلومات الأنثربولوجية، فإن مارك سايكس، يقدم معلومات جغرافية وسياحية وتاريخية مثيرة وممتعة في مناطق الانحناء الغربي لنهر الفرات، ومنها حديثه عن عين العروس في مدينة شانلي أورفا التركية التي تقع مع مدينة حلب السورية على نهر البليخ بجوار حرّان، حيث يوجد عدد كبير من الينابيع، لكن مصدره الرئيسي للمياه هو عين العروس، وهي كما يصفها: «منطقة مقدّسة شهيرة، وهي الموقع الأسطوري لزواج وزفاف النبي إبراهيم، وفي وسط البُركة هناك ينبوعٌ غزير المياه، يمتلئ بكمية وافرة من سمك الشبوط وسلاحف المياه العذبة، وهذه الكائناتُ إلى جانب طيور الماء التي تملأ المكان تعتبر مقدّسة وأليفة إلى حد ما. ويُنصح الشخص الذي يرغب في طقوس نادرة أن يصلي في مسجد عين العروس، ويقدم هديةً للشيخ صالح المسئول عن هذا المكان المقدّس، ويطعم السّمك في البُركة، فالسمك أليف، وقد اكتسب ثقةً من تكرار وفود الحجيج، حتى أنّه يأكل الحبوب لديهم». ان بحيرة الأسماك في أورفا التي يسميها الأتراك «مدينة الأنبياء» مازالت موجودة ومقصداً للزوار والسائحين إلى اليوم، وهم يعتقدون أنها البحيرة التي أشعلها النمرود بالنيران ليلقي فيها نبي الله إبراهيم عليه السلام. كما يتحدث سايكس عن قلعة نجم في حلب التي يكتب بصددها: « وأفضلُ مفاجئة هي قلعةُ نجم التي بنيت في القرن الثاني عشر بواسطة السّلطان نور الدين زنكي، وهي ربّما القلعة العربية الوحيدة الكاملة في العالم». كان لمارك سايكس دوراً مهماً في اصدار وعد بلفور سيء الصيت، لكنه قام أيضاً بتصميم أعلام عدد من الدول العربية، المكوّنة من الألوان الأخضر والأحمر والأسود والأبيض، قبل أن تفتك به الأنفلونزا الإسبانية ليموت مبكراً وهو بعمر 39 عاماً، لتدفن مع جثته اسرار صناعة « الشرق الجديد « الذي لم يعد جديداً بعد مائة عام وأكثر على معاهدة سايكس بيكو.

***

طه جزّاع

"حين تتسامى الروح الوطنية وتصل الى منتهى النبل"

تعرّف الفنان والرسام العبقري بابلو بيكاسو إلى حلاّقه الخاص يوجينيو أرياس في سنة / 1944؛ وخلال إقامته المديدة بباريس. ونشأت صداقة عميقة بينهما امتدت لأكثر من خمس وثلاثين سنة، وظلت هذه العلاقة قائمة حتى وفاة بيكاسو سنة 1973. فالحلاق من أصل اسباني مثل بيكاسو ويعيش مغترباً فى فرنسا. وكان يرفض رفضا قاطعا أن يتقاضى أجرا عندما كان يحلق ويعتني بطلعة وشَعر صديقه، فكان الرسّام يكافئه بأن يهديه بين فترة وأخرى بعض لوحاته وخزفياته ومنحوتانه وشيء من تخطيطاته إكراما له على صنيعه والاهتمام به وتعاطفه مع مواطنه.

وكانت حصيلة ما جمعه الحلاق بهذه الطريقة / 60 لوحة من لوحات بيكاسو عدا بعض الرسومات والتخطيطات والخزفيات الحرفية والملصقات بريشة وأنامل بيكاسو موقّعة من قبله.

وبعد وفاة هذا الفنان العبقري؛ ظنّ جامعو اللوحات والمتاجرون بها ان ينجحوا بالاستحواذ عليها وإغرائه ماليا لمساومة هذا الحلاق وطمعه بالمال لاقتنائها.

كما سارعت المتاحف العالمية الكبرى تعرضُ على الحلاق ملايين الدولارات لشراء هذه اللوحات والمقتنيات الفنية الاخرى، لكنه رفض هذه الأغراءات المالية الهائلة رغم فقره وعوزه فهو ابن رجلٍ من فقراء أسبانيا كان يعمل خيّاطا بسيطا وأمٍ قروية راعية للمواشي.

ماذا فعل بهذا الكنز الفنيّ الذي قدّمه له صديقه بابلو؟

قدّمها إلى قريته الأسبانية الصغيرة القريبة من العاصمة مدريد المسماة: Buitrago del Lozo . لقد وهبها لوطنه وقريته

وهكذا ضحّى بملايين الدولارات التي كان يمكن ان يحوزها لكنه صمم أن يرفع من شأن قريته ووطنه ويجعل منها مقصدا سنويا للملايين من عشاق بيكاسو، فساهم في خلق نشاط اقتصادي وسياحي كبير لهذه القرية وأهليها.

وبدلا من أن يحقق ربحا شخصيا له بإقامة متحف يحتوي هذه اللوحات والمقتنيات النادرة لكنه فضّل أن يكون بلده وقريته مقصدا للسياح من كل أنحاء العالم.

وحين توفي حلاق بيكاسو في العام / 2008

وقد ودّعته بلدته الصغيرة وأسبانيا كما يُودَّع الأبطال، ولم يزل متحفه الذي أفتتح في العام 1985 والمسمى "متحف حلاق بيكاسو" مفتوحا في قريته. وقد تحولت هذه القرية الإسبانية الصغيرة إلى أهم الأمكنة السياحية في اسبانيا وليجعلها مثل قرية الجورنيكا التي تعرضت للقصف الشنيع من جانب النازية بالتنسيق والتعاون القذر مع الفرانكوية وقد جسّد بيكاسو تلك البشاعة إثر حلم رآه في منامه أفزعه ورسّخ كل ما هو شرير بهذه اللوحة العظيمة " الجورنيكا "، إذ تحوّل حلاّقنا أرياس الى أشهر وأنبل حلاقي العالم بعدما كان منسيّاً ككلّ الفقراء.

هو ذا النبل الذي يسكن الروح، إنه أكبر من كل الشهادات الأكاديمية.وهو أثمن من كل الاموال المودعة بالبنوك والقصور والسيارات الفارهة إذ ان شرف المواطنة الحقّة هو ما يصنع قيمة الانسان لو كان يعلم الاثرياء وجامعو المال.

أي نبل واية صداقة راسخة تعمقت بين هذين المواطنين الاسبانيين الصديقين.

متى نجد مثل هذين الصديقين ذوي الرفعة الوطنية العالية في سموّها بين ظهرانينا؟

***

جواد غلوم

تم افتتاح تمثال للكاتب الروسي ايفان سرغييفتش تورغينيف (1818 -1883) في موسكو، وذلك بمناسبة مرور قرنين على ميلاده، وقد افتتح التمثال في حينها الرئيس الروسي نفسه، وهو آخر تمثال لتورغينيف في روسيا، و يختلف هذا التمثال عن التماثيل الاخرى له تماما، اذ ان النحّات قدّم لنا تورغينيف في شبابه، عندما كان عمره 30 عاما فقط، وهو تمثال في غاية الرشاقة و الجمال، ويقف تورغينيف الشاب في حديقة بيت والدته، ويمسك بيديه عدة اوراق، وخلفه البيت الروسي الارستقراطي للوالدة، حيث كان لتورغينيف هناك غرفة خاصة يسكن فيها، اذ انه غالبا ما كان يزور البيت ويبقى فيه عدة أيام .

تذكرت الاسماء العزيزة على قلبي وانا أتأمل هذا التمثال غير الاعتيادي للشاب الرشيق تورغينيف، الاسماء التي ترتبط بتورغينيف نفسه، اي اصدقائي (التورغينفيين !) الراحلين، ولكنهم دائما وابدا في وجداني وتفكيري، ومنهم الدكتور محمد يونس، استاذ الادب الروسي في جامعة بغداد، وزميل العمر كله، منذ معهد اللغات العالي في الوزيرية، وعبر القسم الداخلي لجامعة موسكو والدراسة معا في كليّة الفيلولوجيا هناك، الى العمل معا بعد التخرّج في قسم اللغة الروسية في كليّة الاداب اولا، ثم في كليّة اللغات بجامعة بغداد، هذه المسيرة المشتركة، والتي استمرت منذ (الشباب الى المشيب !)، و من (فجر الحياة حتى المغيب!) يا أبا جاسم الحبيب ...

كتب محمد يونس اطروحة الماجستير في جامعة موسكو عن تورغينيف في الستينيات، وأصدر كتابا بالسبعينيات في بيروت عن تورغينيف، وهو اول كتاب عراقي شامل عن هذا الكاتب الروسي الكبير حسب علمنا المتواضع، ولا يزال هذا العمل العلمي الرائد – ولحد اليوم - واحدا من المصادر العربية المهمة حول ادب تورغينيف، بغض النظر عن كونه قد صدر قبل حوالي نصف قرن تقريبا، وليس ذلك بالقليل . وبالرغم من ان محمد يونس ابتعد قليلا عن تورغينيف وكتب اطروحة الدكتوراه في جامعة موسكو عن تولستوي، الا انه كان مشرفا علميا لاول شهادة ماجستير يمنحها قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد، والتي كتبها آنذاك طالب الدراسات العليا حسين عباس (الدكتور حاليا والقائم باعمال سفارتنا في كييف باوكرانيا، ونحن في اواسط عام 2023)، وكانت هذه الاطروحة عن الادب المقارن بين الكاتب الروسي تورغينيف والكاتب المصري محمد عبد الحليم عبد الله، ولم يكن هناك تدريسي آخر في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد، يمكن ان يكون مشرفا على اطروحة تتناول هذا الموضوع عدا محمد يونس.

ومن بين الاسماء العراقية العزيزة ايضا، والتي تذكرتها امام تمثال تورغينيف، اسم الدكتورة حياة شرارة، زميلة العمر كله كذلك، وهي البروفيسورة الاولى في تاريخ قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد، فقد خططت حياة شرارة لترجمة المؤلفات الكاملة لتورغينيف عن الروسية، واستطاعت فعلا ان تنجز ثلاثة اعمال كبيرة من تلك المؤلفات واصدرتها في بغداد رغم كل الصعوبات الهائلة آنذاك، التي كانت امامها في ذلك الزمان الجهم، وتذكرت طبعا اصرارها على انجاز تلك الترجمات، وتذكّرت ايضا، انني لم أؤيدها في ذلك، و قلت لها، ان هذه الاعمال مترجمة، فقالت ضاحكة، انها ستطلّع على تلك الترجمات بعد انهاء العمل (..كي لا تؤثّر تلك الاعمال على ترجمتي ..)، واستمرّت ام مها فعلا في تنفيذ خططها، ولكن.....

ومن بين الاسماء الحبيبة لي اسم غائب طعمة فرمان، التورغينفي العتيد والاصيل، لأن اسمه يرتبط بترجمة المؤلفات المختارة لتورغينيف بخمسة اجزاء، والتي صدرت في موسكو بالنصف الثاني من القرن العشرين، وتذكرت كيف تعجب غائب عندما حكيت له قصة حياة شرارة واصرارها على ترجمة مؤلفات تورغينيف، ولكن تواضعة العظيم منعه آنذاك من ان يقول لي، انه يترجم مؤلفات تورغينيف المختارة بناء على تكليف من دار رادوغا للترجمة والنشر في الاتحاد السوفيتي .

وتذكّرت طبعا الدكتور أكرم فاضل، الذي ترتبط باسمه اول ترجمة عربية لرواية تورغينيف (الاباء والبنون)، والتي صدرت في بغداد عام 1950، وتذكرت نقاشي (الحاد!) مع المستشرقة الميرا علي زاده في المؤتمر الثالث لمترجمي الادب (موسكو 2014) حول ذلك، اذ انها اعلنت امام اعضاء المؤتمر بعد ان القيت كلمتي عن المترجمين العراقيين وتورغينيف ، ان محمود احمد السيد وليس اكرم فاضل هو اول عربي ترجم رواية تورغينيف (الاباء والبنون)، وقد قلت لها، ان المستشرقين السوفيت يشيرون الى هذه المعلومة، ويقولون، ان محمود احمد السيد قد نشر في احدى الصحف المصرية خلاصة لتلك الرواية في عشرينيات القرن الماضي، وان القارئ العراقي لم يطّلع حتى على هذه الخلاصة ولا يعرف طبيعتها، وأضفت، ان نشر رواية تورغينيف تلك (وليست خلاصتها !) قد صدرت كاملة ولاول مرة بالعربية في بغداد عام 1950، وان هذه حقيقة كان يجب على المستشرقين السوفيت ان يعترفوا بها في حينها، وان الاستشراق الروسي المعاصر يجب ان يصحح الان تلك النظرة غير الدقيقة للمستشرقين السوفيت ...

الرحمة والذكر الطيب لاصدقائي التورغينفيين - محمد يونس وحياة شرارة وغائب طعمه فرمان وأكرم فاضل. ***

أ. د. ضياء نافع

كينيث أررو (1921 – 2017) Kenneth Arrow

هو الاستاذ المنظّر في العلوم الاجتماعية والسياسية وعالم الرياضيات والاقتصادي الامريكي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1972 التي كانت مناصفة مع الاقتصادي البريطاني جون هكس لمساهماتهما النظرية الهامة في نظرية التوازن الاقتصادي العام ونظرية الرفاه الاقتصادي. ولا شك فهو علم بارز في الادب الاقتصادي الكلاسيكي الذي ساد فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو الاستاذ العلم في شيكاغو وهارفرد وستانفورد الذي تتلمذ على يده عدد كبير من الاقتصاديين اللامعين والذين حازت مجموعة منهم على جوائز نوبل في الاقتصاد لسنين لاحقة.

كان أررو من أوائل من اهتم وتساءل حول الكيفية التي تتصل بموجبها اجزاء النظام الاقتصادي المتعددة وكيف تعمل بتناغم وانسجام فيما بينها. وهو الامر الذي قاده للبحث في نظرية التوازن الاقتصادي العام، والتي آلت خاصة من خلال العمل مع زميله جيرارد دبروو الى صياغة جديدة لمسألة التوازن مستعملين فيها منطقا رياضيا جديدا وأدوات تحليلية فعالة منحت هذا المجال من النظرية الاقتصادية استقرارا هاما جسّد ما كانت احوج اليه من براهين علمية. وكنا قد تطرقنا سابقا عند الحديث عن جيرارد دبروو الى ما اصبح الموديل الاساسي للتوازن الاقتصادي العام والذي سمي Debreu – Arrow Model الذي كان من العوامل التي عززت منجزات دبروو النظرية وقادت الى فوزه هو الآخر بجائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1983. علماً ان أررو استمر بتوسيع فكرة التوازن العام الى آفاق اخرى شكلت ركنا آخرا من مساهماته النظرية كما في موضوعي الـ Uncertainty and Stability. وهو الذي استفاد فيه كثيرا من فكرة التوازن الاساسية لآدم سمث، حيث اوضح استلهامه لها في كتابه الذي عضدته جمعية الاقتصاديين الامريكيين والمعنون "التوازن الاقتصادي العام: الهدف وتحليل الخيار الجمعي".

اضافة الى مساهمة أررو في نظرية التوازن الاقتصادي العام، فقد بحث ايضا في نظرية الرفاه الاقتصادي والخيار الاجتماعي. ففي عام 1951 ، وضمن اطروحة الدكتوراه المقدمة الى جامعة كولومبيا في نيويورك، قدم أررو صيغته لمفهوم الرفاه Welfare والذي اختلف فيه مع كثير من الاقتصاديين واستفاد من بعضهم منذ آدم سمث ولغاية كتابة اطروحته. وقد تمخض بحثه ذلك عن كتابه "خيارات المجتمع والقيم الشخصية" الذي نشرته دار وايلي عام 1951 ، واعادت نشره جامعة ييل عام 1963. ضمن هذا البحث صاغ أررو ماسمي بـ "نظرية المستحيل" التي تصف العلاقة بين خيارات الفرد التي تحكمها قيمه الشخصية وبين خيارات المجتمع التي يقررها الحكم الجمعي.3196 كينيث أررو

ولد كينيث أررو عام 1921 في مدينة نيويورك لعائلة يهودية انحدرت من رومانيا. أنهى المدارس الابتدائية والثانوية في نيويورك، والتحق بكلية المدينة العامة City College of NYC والتي قال عنها لاحقا، انه: "لولا هذا الكلية المجانية التي تدعمها ادارة المدينة من الاموال العامة، ولولا التضحيات المالية البسيطة التي بذلتها عائلتي لكان من المتعذر علي ان احصل على اي تعليم جامعي". في تلك الايام المبكرة كان الميل الفكري لأررو اشتراكيا، لكنه اخذ بالابتعاد عن الفلسفة الاشتراكية كلما تقدم به العمر ، مع الابقاء على ميوله اليسارية عموما.

أكمل تعليمه الجامعي عام 1940 حاصلا على البكالوريوس في العلوم الاجتماعية مع تخصصه الدقيق في الرياضيات. واصل دراسته العليا في كولومبيا فحصل على الماجستير في الرياضيات عام 1941. بعد ذلك جاءت الخدمة العسكرية خلال سني الحرب العالمية الثانية، بين عامي 1942-1946 التي خدم فيه كضابط في الجيش الامريكي ملتحقا بقسم البحوث في دائرة الانواء الجوية العسكرية. وقد وصل في خدمته العسكرية الى رتبة كابتن وتمكن من نشر بحثه الاول بعنوان "الاستخدام الامثل لحركة الرياح في التخطيط لنشاط الطيران"

بعد انتهاء الحرب، وفي عام 1946 عاد الى الدراسة الاكاديمية مرة اخرى ملتحقا بجامعة كولومبيا كطالب دكتوراه بين 1946 و 1949. وخلال اعوام دراسته العليا هذه، عمل كباحث مشارك في مؤسسة كاولز في جامعة شيكاغو، ثم استاذا مساعدا في قسم الاقتصاد فيها. وفي صيف عام 1949 عمل ايضا كباحث في مؤسسة راند في كاليفورنيا، والتي من خلالها استهواه الاهتمام بدراسة نظرية اللعبة Game Theory وكانت فكرة تطبيقيها في حقل الاقتصاد جديدة في ذلك الوقت. ونظرية اللعبة هذه تعتمد الطرق الرياضية التي تعنى بايجاد الحلول الستراتيجية للمشاكل المتداخلة بعد افتراض عقلانية من يتخذ القرارات. وكان قد اطلق شرارة تطبيقها في الاقتصاد جون ڤون نيومن John von Neumann واوسكار مورگنستيرن Oskar Morgenstern في كتابهما المعنون " نظرية الالعاب والسلوك الاقتصادي" المنشور عام 1944، والذي استلهما فيه الفكرة الاساسية من الطرق والبراهين الرياضية الكلاسيكية التي تعود الى القرن السادس عشر.

عن فترة عمله في البحث والتدريس في جامعة شيكاغو، كان أررو قد أشاد لاحقا بالبيئة العلمية الرصينة والجو الاكاديمي الباهر الذي شهده وتعلم منه وتطبع فيه على المناهج الاقتصادية الحديثة جدا آنذاك التي تستخدم الرياضيات والاحصاء والاقتصاد القياسي. وذكر بشكل خاص الاقتصادي جالنگ كووپمنز Tjalling Koopmans الذي كان له الاثر الكبير للأخذ بيد الشباب الطموح في ذلك المجال.

بعد حصوله على الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة كولومبيا، استقر عمله في الحقل الاكاديمي فمارس التدريس في عدة جامعات. ففي عام 1949 باشر العمل كأستاذ مساعد في الاقتصاد والاحصاء في جامعة ستانفورد وبقي هناك لغاية 1968. وخلال تلك السنوات حاز على درجة الاستاذية في الاقتصاد والاحصاء وبحوث العمليات، واصبح رئيسا لقسم الاقتصاد. كما انتخب كزميل في البحوث الاجتماعية وزميل في مركز دراسات السلوك المتقدمة وزميل في كلية چرچل في كمبرج الانگليزية وزميل في معهد الدراسات المتقدمة في ڤـيينا وعضوا في المجلس الاقتصادي للحكومة الامريكية، جنبا الى جنب مع زميله الاقتصادي روبرت سولو. كما عمل مستشارا اقتصاديا للرئيس جون كينيدي. في عام 1968 قبل عرضا من جامعة هارڤـرد ليكون استاذا للاقتصاد فيها، فبقي في هذا الموقع لغاية 1979 . وخلال سنوات العمل في هارڤـرد، حاز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1972.

في عام 1979 منحته جامعة ستانفورد لقب الاستاذية التشريفي الموسوم Joan Kenney Professor of Economics، وبه وبرغبته ورغبة زوجته للانتقال من جو بوسطن شديد البرودة الى جو كاليفورنيا المعتدل الجميل، عاد الى ستانفورد وبقي يمارس التدريس والبحث فيها لغاية تقاعده من العمل الجامعي عام 1991 ، وذلك عندما بلغ من العمر سبعين عاما. وبتقاعده نالت جامعة دووك University Duke ومكتبة روبنستين فيها الحق بحيازة المجموعة الكاملة لبحوثه ودراساته في الاقتصاد والرياضيات ومقالاته وكتبه في الاقتصاد والاجتماع والسياسة.

نظرية المستحيل Arrow’s Impossibility Theorem

تنص هذه النظرية على انه " مالم يتم القبول بمقارنة مستويات المنفعة التي يصل اليها الافراد على انفراد، سيكون من المستحيل الوصول الى الخيار الاجتماعي العام المقنع للجميع، الا في حالة ان يكون قسريا دكتاتوريا. وبخلافه ينبغي على ذلك الخيار الاجتماعي ان يحقق الشروط التالية.

- ان لا يتم فرض الخيار الاجتماعي العام بأي وسيلة قسرية

- ان يضمن للافراد استقلاليتهم في الاختيار

- ان ينسجم مع اختيار كل فرد

- ان يكون حرا من تأثير البدائل الاخرى

- ان يكون فريدا في تطبيقه ويؤدي الى نفس النتيجة في كل التطبيقات

لقد صاغ أررو هذه النظرية استنادا الى ما سمي بـ "تعارض كوندورسيه" Condorcet’s Paradox نسبة الى نيكولا كوندورسيه الفيلسوف والرياضياتي الفرنسي (1743 - 1794) الذي جاء باستنتاجه حول حالة التعارض التي يصفها نظام ترتيب الخيارات. وللتوضيح، دعونا نأخذ المثال التالي:

لنفترض ان هناك استفتاء شعبي في مجتمع معين يتم بموجبه التصويت على ثلاثة بدائل للمنصب الأعلى في الدولة: رئيس جمهورية (ِج)، رئيس وزراء (و)، أو رئيس مجلس سيادة (م). وان نتيجة التصويت جاءت كما يلي:

- الثلث الاول من المصوتين جاء بالترتيب التالي: (ج) ثم (و) ثم (م)

- الثلث الثاني من المصوتين جاء بالترتيب التالي: (و) ثم (م) ثم (ج)

- الثلث الثالث من المصوتين جاء بالترتيب التالي: (م) ثم (ج) ثم (و)

فلو تأملنا الثلثين الاول والثالث لوجدنا ان الغالبية تفضل منصب رئيس الجمهورية (ج) على منصب رئيس الوزراء (و). ولو تأملنا الثلثين الاول والثاني لوجدنا ان الغالبية تفضل منصب رئيس الوزراء (و) على منصب رئيس مجلس السيادة (م)، مما يعني بمنطق الـ Transitivity ان الغالبية ستفضل منصب رئيس الجمهورية (ج) على منصب رئيس مجلس السيادة (م). ولكن هذا ما يعارض الغالبية ايضا في الثلثين الثاني والثالث حيث نجد النتيجة معكوسة من حيث تفضيل منصب رئيس مجلس السيادة (م) على منصب رئيس الجمهورية (ج). فكيف للغالبية ان تعارض نفسها في نفس التصويت؟

كانت هذه النظرية التي وصفت ايضا بانها "متناقضة الخيار الاجتماعي" قد بينت خطل وهفوات نظام ترتيب تفضيلات الناخبين في أي منظومة انتخاب ديمقراطية. والفكرة الاساسية ركزت على استحالة وجود نظام تراتبي للتفضيلات بدون الاخلال بالمبادئ الاساسية للديمقراطية وخرق قيم العدالة في التصويت الحر. وكانت من اهم تلك المبادئ والقيم التي اشار اليها أررو: رفض دكتاتورية الخيار، وتحدي كفاءة پاريتو التي تعني صيانة مجهولية من يدلي بتفضيلاته، وعدم تغيير نظام الترتيب اذا ازيل أي خيار منها. هذا يعني مثلا لو ان مرشح (س) جرى تفضيله على مرشحي (ص) و (ع) فإن مرشح (س) سيبقى مفضلا على (ص) حتى في حالة انسحاب (ع). واخيرا فان على النظام ان يشمل كل الخيارات الفردية التي تسمح بامكانية التفضيل المشترك بنفس المرتبة Tie

وجدت هذه النظرية لها تطبيقات عديدة غير مجالها الاصلي في الخيار الاجتماعي ونظم الانتخابات. في مقدمة تلك التطبيقات كانت مجالات اقتصاديات العدالة الاجتماعية والتمييز والرفاه ونظم المعلومات والابتكار.

ساهم أررو في حقول نظرية اخرى كاقتصاديات الصحة والمخاطرة ومعالجة الظروف غير الاكيدة Uncertainty conditions. كما كان له رأيا متميزا في مسألة توزيع الدخل، حيث كان يوصي الحكومة بأن التوزيع الكفوء للموارد يمكن بلوغه في ظروف الاقتصاد التنافسي المتوازن اذا ما لجأت الحكومة الى توزيع مبالغ مقطوعة لكل من يحتاجها حاجة ماسة وترك الامر للاقتصاد الحر لمعالجته نحو ادامة التوازن، وهو بالتأكيد سيعطي نتائجا افضل مما لو تعمد الحكومة على تقنين الاسعار من أجل اعادة توزيع الدخل كما في حالة التدخل الحكومي في تحديد اسعار بعض السلع والخدمات مثل تحديد ايجارات الشقق في بعض الاماكن السكنية.

كان أررو من أوائل من انتبهوا الى ظاهرة التعلم بالتجربة وفكرة عمل منحنى التعلم Learning Curve حيث ان زيادة الانتاج ستزيد من الخبرة المكتسبة في العمل والادارة مما سيعود فيزيد من الكفاءة الانتاجية. وقد راهن في وقت مبكر بأن دور التجربة والخبرة في زيادة الانتاجية سيدخل ضمن التحليل الاقتصادي الاساسي، لكن هذه النبوءة لم تتحقق الى ما بعد نصف قرن على التصريح بها. وهي ذات الفكرة التي قادت فيما بعد الى نشوء نظرية اقتصادية متقدمة حول النمو الضمني Endogenous Growth Theory التي تتمحور على فرضية النمو الاقتصادي الذي يتحدد بعوامل متأصلة في داخل المنظومة الانتاجية كسياسة المؤسسة او الدولة ونظم التعليم والتدريب والابتكار المتوفرة. وقد ظهر ذلك جليا في حالة التغييرات التكنولوجية التي اُعتقد سابقا بانها تحدث نتيجة لعوامل خارجية دافعة Exogenous لكن أررو اوضح في بحث له بعنوان Learning by Doing الذي نشره عام 1962 بأن التطور التكنولوجي انما يحدث بتحفيز من عوامل تنبثق من داخل الموديل الاقتصادي، الامر الذي دفع المؤسسات للاهتمام بالاختراعات والبحث واستنباط ما يتيح المجال للتطور التكنولوجي.

كان أررو عضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم وفي الاكاديمية الامريكية للعلوم والفنون والمعهد الوطني للطب ومعهد الرياضيات والاحصاء. كما مُنح اكثر من 20 شهادة فخرية من الجامعات الرئيسية الكبرى. توفي في بيته في كاليفورنيا عام 2017 عن عمر 96 عاما.

***

ا. د. مصدق الحبيب

شاهدت قبل أيام قليلة على موقع قناة "فرنسا 24" وبالمصادفة، مقابلة طريفة مع ممثل فكاهي لبناني لم أسمع باسمه من قبل (اسمه جون أشقر، وهو ليس المغني جو أشقر)، ولكن يبدو انه ذائع الصيت في مواقع التواصل وله مئات الآلاف وربما الملايين من المتابعين. سألته الإعلامية التي حاورته سؤالا عن الفرق بين جمهوره الحقيقي الذي يحضر عروضه وبين جمهوره المليوني الافتراضي على مواقع التواصل، فقال: جمهوري الحقيقي والذي أعول عليه هو الذي يحضر عروضي، أما جمهور التواصل فهو جمهور افتراضي لا يعول عليه ولا على لغته، لغة "هههههه"، التي لا يُفهَم منها شيء. هذا الجمهور الافتراضي ليس جدياً ولا يتعب نفسه في شيء حتى في الذهاب لمشاهدة عرض فني ولو كان يعرض في البناية المجاورة لبيته!

* شجعني ما قاله هذا الممثل على أن أكتب شيئاً عن الفيسبوك وعن صفحتي هذه فيه على الرغم من انني لا أحب الكتابة عن نفسي وكتاباتي وحياتي لأنها لا تهم أحد سواي، ولأنني كما يعرف من يعرفني عن قرب، أهرب من الأضواء والشهرة والإعلام والعلاقات العامة كما يهرب المرء من الطاعون!

* لم أكتب عن نشاطي وكتاباتي في مواقع التواصل لسبب بسيط، وهو انني - مع احترامي البالغ للمتابعين الحقيقيين من صديقات وأصدقاء الذين يتابعون صفحتي واتابع صفحاتهم واستمتع وأستفيد من كتاباتهم - لم أعدْ أحمل النشر في مواقع التواصل الاجتماعي على محمل الجد كما هي الحال في السنوات الأولى، وربما اكتفيت بمنشور واحد أو اثنين في اليوم منذ فترة، ولم أعد أتابع الأحداث العاجلة بذلك الحماس والإلحاح غالبا لأسباب تتعلق بوضعي الصحي، وبتركيز اهتمامي ووقتي في إنجاز بعض الأبحاث والدراسات والمقالات المطولة. ومع ذلك فلستُ من المتباهين بعدد كتبهم ليقيني أن الكتب في تأثيرها وفعاليتها وليس بعددها وحجومها كما سأفصل في بعض الأمثلة على المشاهير من مؤلفي الكتاب الواحد أو القليل من الكتب في منشور آخر.

لنعد إلى موضوع المواقع التواصلية؛ حين بدأنا ننشط بحماس على مواقع التواصل قبل أكثر من عشر سنوات، اعتقدنا "أن تحت القبة شيخا"؛ حيث كانت هذه المواقع شيئاً جديداً وفريداً واعداً وباعثاً على التفاؤل والأمل. ولكن، وبمرور الوقت اتضح أن ذلك التفاؤل لا محل له من الإعراب في العالم الافتراضي، دع عنك انه غير عادل تماما لا في النشر أو للدقة في "قمع النشر وحظر الأصوات المختلفة"، ولا في نوعيه الجمهور وكيفية تعامل هذا الجمهور مع المنشورات المختلفة والذي يصوت للتفاهة والوجاهة والشهرة والمصلحة الذاتية خصوصا في صفحات المسؤولين الحكوميين والأشخاص النافذين في حكم الفساد غالبا.

غير أن من الضروري أن نأخذ بالاعتبار الحقائق التالية؛ فمواقع التواصل هي أولا وكما هي في واقعها وكما يدل على طبيعتها اسمها مواقع للتواصل الاجتماعي الافتراضي، بين ناس افتراضيين يريدون التسلية والمتعة الخفيفة والاحتفال بمناسباتهم الشخصية السعيدة والحزينة وهذا حقهم المشروع، وليس ميدانا لكتاب المقالات السياسية والأدبية والعلمية كأمثالي. أما الدور الكبير الذي لعبته هذه المواقع في الانتفاضات والتحركات الشعبية فهو يتعلق بحالات خاصة من التوتر الاجتماعي ضمن أنظمة حكم أغلقت كل نوافذ التعبير ومنعت التحركات السلمية الاحتجاجية، بمعنى أنها كانت نافذة للتعبير وإيصال المعلومة أكثر من كونها منابر تفاعلية حقيقية، وقد انتهت هذه الحالات الإيجابية بعد أن وجدت الأنظمة القديمة طرقها الخاصة للتعامل معها والتقليل من تأثيرها بدليل إنها لم تتكرر أو تحافظ تلك التحركات الاحتجاجية حتى على المواقع والمستويات التي وصلت إليها في العالم الافتراضي.

ولهذا، وبناء عليه اعتبر نفسي "متطفلاً" أو "دخيلاً" بكتاباتي الجادة في هذا المجال غير الجاد شكلا - مع اعتقادي أن من حق الناس أن تكتب عن صغائر الحياة أو ما يبدو أنها صغائر وهوامش فهي جزء حميم منها وقد لا تقل جمالية وأهمية عن كبائرها.

ولذلك فالموقع التواصلي عندي ليس أكثر من نافذة افتراضية متاحة بشروطها، وإنْ لم تكن تنفع فهي لا تضر، أعيد عليها نشر مقاطع من كتاباتي وكتابات غيري، وأحياناً أنشر منشورات قصيرة أو أعلق على منشورات غيري تعليقات سريعة تحت ضغط المشاعر الآنية وبهدف "الحرشة" أو فضح المسكوت عليه، ولذلك لا أشغل نفسي بوجودي ونشاطي وردود الأفعال على ما أنشر عبر هذه الصفحة فسيان عندي إنْ نشرتُ عليها أو توقفتُ ذات يوم إلى الأبد وأنا سأتوقف يقينا ذات يوم إلى الأبد كسائر الأحياء، وسيان عندي إنْ نال المنشور اهتماما أم لم ينل!  فما يهمني بالدرجة الأولى هو ضمان حريتي الشخصية وأن أكون راضياً ومقتنعاً بما أكتب، لأنني كتبته كما أردته بالضبط وليس كما يريده الجمهور "عاوز كده"، أما حرية المتلقي فمضمونه هي الأخرى لأنه حر في أن يهمل أو يعبر عن رفضه لما أكتب، خصوصا وأن مواقع التواصل توفر لهم أنْ يهملوا ما أكتبه وينتقلوا الى صفحات أخرى أو حتى يحظروا الصفحة كلها كما فعل بعضهم ممن لا يطيقون إلا التصفيق لما يقولونه، طالما أنني جعلت هذه الصفحة مغلقة وحق التعليق فيها للأصدقاء الافتراضيين الخمسة آلاف فقط ورفضت أن أحظر أي شخص مهما فعل ولكني أضطر أحيانا - وفي حالات خاصة جدا -إلى سحب موافقتي على طلب صداقته وأحذف اسمه من قائمة أصدقاء الصفحة الافتراضيين، ولا أكتم الأصدقاء أنني أشعر بالسرور إذا انسحب بعض الأصدقاء من تلقاء أنفسهم من الصفحة وجنبوني عناء حذفهم.

يقول التقليديون إن "إرضاء جميع الناس غاية لا تدرك"، فكيف بمن لا يقيمون اهتماما لإرضاء الجميع وربما يبغون عكس ذلك كوخز الرتابة والتقليد والتكرار وابتلاع البديهيات المسمومة؟ بكلمات أخرى كيف ستكون الحال، إذا كنت أنا وأمثالي ممن "يحملون السُّلم بالعُرض"، كمن يريد إزعاج الغالبية بصراحته التي تلامس حدود الفجاجة؟ ولا يسكت على خطأ أو نقيصة أو عيب فيسلط أضواء نقده على جميع الجهات، لا يسلم أحد أو طرف من تصويباته من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، مارا على شلل المتنفعين وعملاء السفارات والأحزاب الإقطاعية والطائفية وبهذا يكون قد خسر جمهور المصفقين لهذه الشلل، منتقلا بنقده وكشفه لجرائم وهزائم نظام البعث الصدامي دون تهاون ليخسر جمهور المصفقين لهذا النظام من عرب وعجم، ماراً بطريقه النقدي على العلمانيين القشريين المبشرين بانتصار الغرب الإمبريالي على شعوبنا والناشرين لجرثومة الإسلاموفوبيا، مدافعا عن الجوانب المضيئة في تراثنا وثقافنا العربية الإسلامية في أوج ازدهارها وناقدا للجوانب المعتمة، دون ان يستثني من لهب نقده السلفيين التكفيريين والتحريميين من أعداء التقدم والتنوير ومبرري اضطهاد النساء من ذكوريين حتى لو كانوا من الإناث، متبرئاً من القوميين وساخرا ممن يسمون أنفسهم قوميين ماركسيين، ناقدا اليساريين الستالينيين وصنمهم الذي ألحق أفدح الضرر بقضية الاشتراكية في العالم جوزيف ستالين، فاضحاً اليساريين الجدد المحشوين بهراء اللبرالية الجديدة في الاقتصاد والسياسة من تروتسكيين وماويين سابقين، أساؤوا لماضيهم ولأسماء ثوار عظام تدثروا بأسمائهم ذات يوم ثم أصبحوا لاحقا مستشارين لجنرالات البنتاغون أو أعضاء في اللجان الناتوية كلجنة السفير كروكر. وهذه مجر أمثلة كما ترى – يا رعاك الله - تخلق الأعداء والخصوم أكثر مما تأتي إلا بالقلة المتفهمة والمتفاعلة من الأصدقاء والصديقات، الذين لم يسلموا بدورهم من ردودي الصريحة أكثر مما ينبغي أحيانا، والبعيدة عن الدبلوماسية والمجاملة وقد لا تخلو من فظاظة يعذرني عليها منهم مَن يتفهمون مشقة السير ووحشته في طريق ما يبدو أنه الحق!

***

علاء اللامي

استهلال: الجامعين شريان الحلة..

تعتبر محلة الجامعين اصل مدينة الحلة وقد سميت بهذا الاسم لوجود جامعين فيها هما مرقد الصحابي عبد العزيز بن سراي وهو من اصحاب الامام علي(ع) والجامع الثاني هو جامع ومقام الامام الصادق(ع)، ومن المعروف ان المدينة يقسمها نهر الفرات او شط الحلة الى قسمين كل قسم يسمى(صوب) والصوب الكبير يضم كلا من الجامعين، المهدية، الطاق، التعيس، جبران، والصوب الصغير يضم كلا من :الوردية، كريطعة، والكلج، ويسمى كل فرع ب(العكد) وتشمل كلا من عكد المفتي، عكد بقلي، الجييايل، وغيرها ويتميز العكد بحميميته النابضة بالحياة نظرا لتقارب البيوتات وامتزاجها الاجتماعي الذي يضم جميع الطوائف والديانات دون قيد او شرط هذا التمازج الذي ينعكس على شخصية الحلي الانسان المثقف والبسيط، فهو يتحلى بالانتماء الى حد النخاع وهو انسان اجتماعي، ودود، تطغى عليه الطيبة والتسامح والالفة والرافة وتلك حقيقة ثابتة ومعروفة.

وتتميز مدينة الجامعين كمثيلاتها في عموم المدينة بجمال شناشيلها وشرفها وشبابيكها الهندسية الرائعة الجمال المتدلية على الجانبين باشكالها الهندسية الراقية الدقيقة وتلك الفسيفساء الباهرة والنقوش الرائعة التي تدل على مهارة لامثيل لها واصالة وابداع، وقد حافظت هذه البيوتات على وجودها الى يومنا هذا نظرا لتمسك اصحابها بها لكونهم قد ورثوها ابا عن جد ويعتبرونها ارثا حضاريا وكنزا من كنوز بابل، يفرضه عليهم ذلك الترابط الرائع الذي يدل على عمق واصالة الانسان الحلي وتمسكه بارضه وعاداته وتقاليده.

ومازالت مدينة الحلة زاهية بارثها وتراثها الحضاري والعمراني الذي يشمل كل مناحي الحياة ومنها الاسواق التي تعتبر من المعالم التراثية الاصيلة في المدينة، وفي قلب الجامعين الشريان النابض لمدينة الحلة يوجد سوق المنتجب وقد ذكر الباحث عامر تاج الدين ان سبب تسميته جاءت لوقوع السوق قرب منتجب الدين بن سعيد الهذلي صاحب المدرسة والمتوفى سنة 689 للهجرة حيث دفن الى جانب مدرسته الدينية والمنطقة تسمى باسمه (المنتجب الحلي).

ولعل اهم معلم في المدينة والذي يميزها عن باقي المحافظات العراقية هو شارع المكتبات هذا الشارع الذي يمثل الينبوع الثقافي والشريان النابض بالعلم والمعرفة وله قيمة ادبية كبيرة عند الحليين فهو يشكل جزءا من تاريخ المدينة، هذاالشارع الذي يبلغ طوله 400 م والذي يبدا من السوق المسقف وينتهي الى جسر الهنود حيث كانت المدرسة الشرقية التي تم هدمها، ويتميز الشارع بوجود المكتبات فيه على الجانبين فهو يشبه الى حد كبير شارع المتنبي في بغداد، ومن الجدير بالذكر ان نذكر ان مكتبة الفرات تعتبر اول مكتبة اسست في الحلة عام1925 ثم توالى تاسيس المكتبات، كالمعارف، والرشاد، والجمهورية، اضافة الى مكتبة الرافدين التي تقع في باب الحسين، ومن يرتاد شارع المكتبات ينهل من معارفه حيث الثقافة تفترش الطريق والمثقفون على اختلاف ثقافاتهم ينهلون من هذا الصرح الحضاري الباذخ المعرفة، فالشارع علاوة على وجود المكتبات فيه كان يشكل النبض الاجتماعي و السياسي في المدينة، وفيه يتم استعراض حفلات الختان مع الجوقات الموسيقية، وفيه تقام مراسم العزاء الحسيني، وكان الشارع يزهو برواده الذين يحييون ليالي رمضان حتى الفجر اضافة الى وجود سينما الفرات، والمقاهي الزاخرة، فكان الشارع ولازال القلب النابض بالحياة.

ولادته ونشأته:

ولد القاضي الفاضل لطفي عبد الامير شناوة عام 1933 في محلة الجامعين قرب حسينية الشبيبة، وقد نشأ وترعرع واشتد عوده في هذه الاجواء الحميمة المفعمة بالحياة، حيث نشأ وترعرع في هذه المحلة العتيقة الاصل المتجذرة بالتاريخ، لعائلة ميسورة الحال، فوالده الحاج عبد الامير شناوة الذي كان انسانا مثقفا حافظا وناظما للشعر يتكلم اللغة العربية الفصحى وهو ماعرف عنه في محلته واقربائه ومعارفه ويذكر انه عندما كان ينادي صاحب العربة (الربل) انذاك، يقول توقف يا ابا العربة، وقد كان ملاكا عارفا بالانساب، كريما، ملتزما، محافظا، عمل في سلك القضاء وهو ما انعكس على شخصية الفتى لطفي الذي كان قريبا من والده خصوصا انه الابن الوحيد لستة اخوات، ممادعى الى تعلق والديه به خصوصا والدته التي احبها كثيرا واحبته واغدقت عليه عاطفتها بلا قيد، وقد كانت الوالدة تركية الاصل بغدادية السكن وكان والدها مترجما من اللغة التركية الى العربية و كان يعمل ايضا في سلك القضاء، هذه العائلة التي الارستقراطية انجبت فاحسنت الانجاب والرعاية، نشأ الفتى في هذه الاجواء الحميمة مغترفا ومكتسبا للعادات والتقاليد وقيم الفضيلة، والحلة مدينة تعتمد نمط البيوتات كبيت علوش وبيت بهية، وبيت مرجان وبيت شناوة وهكذا وقد نشأ الفتى لطفي شناوة في محلة الجامعين في بيت كبير من البيوتات العريقة حيث يتميز الدار بتقسيماته العمرانية وتخصصه للمعيشة واستقبال الضيوف مع مراعاة ظروف الطقس بردا وحرا، فالدار فيه باب كبير من خشب الجاوة المقاوم لعوامل الطقس مع مطرقة حديدية يدوية ويمتاز بشناشيله المتدلية التي تتابط الشرف بشبابيكها الخشبية وتلك النقوش الرائعة والاشكال الهندسية والمضلعة الرائعة الجمال ويتكون الدار من طابقين وفيه باحة كبيرة وسط الدار مع الاعمدة التي تتوزع حول الباحة في بداية البيت ممر (مجاز) ثم غرفة الضيوف وهي صالة او غرفة طويلة وكبيرة تسمى (ديوان خانة) وقد صمم مكان لتجمع العائلة وهي تمثل الصالة (الهول) وقد توزعت الغرف في الطابق الاول والثاني اضافة الى السراديب التي كان بعضها لحفظ المؤونة خصوصا الحبوب وكانت تستخدم للراحة واخذ القيلولة في ايام الصيف الحار، وكان الفتى هو الابن الوحيد لستة اخوات لذا فقد تمتع بحب عائلته وتعلقهم به ولطالما كان ينام قريبا لوالديه حيث غرفته ملاصقة لغرفتهما، ليبقى قريبا لهما، درس في مدارس الحلة الابتدائية والثانوية، وكان شابا وسيما، انيقا، شغوفا بالعلم والمعرفة مولعابالقراءة، محبا للحياة، متفائلا، عطوفا، كريما، رؤوفا، دمث الاخلاق، بشوشا، يمتلك فراسة وسرعة بديهية ورؤية ثاقبة في تحليل الامور، دبلوماسيا لم يعرف الغضب اليه سبيل، ولم يكن متطرفا بل كان انسانا معتدلا دينيا واخلاقيا وانسانيا بتعامله وهذا مالمسه كل من تعامل معه من اهله واسرته واقربائه ومعارفه الذين ترك عندهم بصمته المتسامحة وتلك الروح الطيبة المتواضعة المحبة للخير والتسامح والسلام، فهو يمتلك شخصية حساسة وله قدرة على الاحساس بمشاعر الاخرين، فلم يميز بين انسان واخر وفقا لاي اعتبار بل كان الانسان عنده اعلى قيمة في الحياة بعيدا عن اي قيد وشرط.3190 الآلوسي

تعليمه:

اكمل الفتى دراسته الثانوية بتفوق وكان حلمه ان يلتحق بكلية القوة الجوية ليصبح طيارا وهو الحلم الذي تناغم مع مخيلته منذ طفولته، لكن خوف الوالد الشديد عليه حال دون تحقيق ذلك الحلم خصوصا ان ذلك الوقت اتسم بالحروب، وارتآى عليه ان يدخل كلية الحقوق على اعتبار ان الوالد كان يعمل في السلك ذاته.

دخل الشاب الطموح الى كلية الحقوق في بغدادعام 1952 وعاش بين بيت جده وبين اخته الكبرى (ام صبحي) التي كانت متزوجة في بغداد حتى اكمل دراسته الجامعية وكانت بمثابة اماً ثانية له لما عرف عنها من الطيبة والعطف وحبها لاخيها الوحيد، وقد كان عمر صبحي قريبا من عمره فنشأكأخ له خصوصا انه كان يفتقد الى الاخ الذي حرم منه، وقد اغدقت عليه اخته من العاطفة والحميمية الشئ الكثير، فلم يكن يعاني من شئ بل كان الحب والحميمية يلازمانه اينما حل.

تخرج من الكلية بتفوق عام 1956 وقد استثمر وقته بالاضافة الى دراسته بارتياد المكتبات والانتهال من معارفها وحبه الشديد لجمع الكتب واقتناء النفيس منها، فقد كان موسوعة ثقافية قائمة بذاتها يجيد اكثر من لغة بالاضافة الى اللغة العربية كان يجيدالانكليزية والتركية.

لم يكتف الشاب الطموح بدراسته الجامعية بل كان طموحا دؤوبا وهو يخوض غمار الحياة، فقد دخل معهد القضاء العالي وتخرج منه عام 1971بدرجة قاضي وكان ذلك حلمه وحلم والده الذي طالما اراده ان يصبح قاضيا مرموقا وقد حقق له هذه الامنية فقد كان الوالد فخورا به كما كان دائما ابنا بارا بوالديه، وتلك كانت بداية خوضه الحياة القضائية.

عمله:

عمل القاضي لطفي شناوة في سلك القضاء منذ تخرجه من الجامعة عام 1956 حتى اخر يوم في حياته 2012 ففي بداية حياته عمل (باش كاتب) في محكمة الحلة ثم محاميا وبعد دراسته وتخرجه من معهد القضاء العالي مارس عمله كقاضٍ، وكان قاضيا مجتهدا عرف عنه النزاهة والعدل ومخافة الله فلم يظلم احد عنده ولم تكن للمحسوبية والمنسوبية اليه سبيل، بل كان يطبق العدل امتثالا لقول الله جل وعلا"واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل" وهذا هو شعاره الذي اتخذه دستورا على مدى سني عمله التي تميزت باقامة وشائج العدل والمساواة بين الناس، وقد كان ميزان عدل قائم بذاته حرص على معادلة كفتي الميزان لاظهار الحق ابتداءا بنفسه اولا ثم المحيطين به فكان بحق قدوة يقتدى به ومثالا يحتذى به ارسى قواعد العدل على اسس الدين الحق وعلى وشائج الشريعة الاسلامية السمحاء.

عمل منذ بداية حياته في محاكم الحلة الفيحاء ابتداءا من محكمة لواء الحلة في محلة الجباويين 1963-1968 ودار المحاكم في الحلة 1968 ثم دار المحاكم في حي الجزائرحتى2011

شغل القاضي الفاضل لطفي شناوة العديد من المناصب القضائية المهمة والتي اسهمت اسهاما فاعلا في اثراء القضاء العراقي بصورة عامة والحلي بصورة خاصة، فقد تقلد منصب رئيس محكمة بداءة الحلة وقاضي جنح الحلة، وقاضي جزاء الحلة، وقاضيا للشرعية، ورئاسة محكمتا الاستئناف والتمييز ورئاسة المحكمة الادارية،، وقد ترك بصمته الواضحة في نفوس زملاءه والكادر القضائي والناس الذين تعامل معهم.

كما انه تقلد العديد من المناصب المهمة وكانت اغلبها رئاسته للمحاكم التي كان يعمل فيها في رحلته الطويلة في محافظات العراق التي كانت زاخرة بالعمل والاسفار والذكريات والتي تركت في نفسه اثرا كبيرا ووقعا طيبا من حب الناس له لماعرف عنه من نزاهة ومرؤة ورأفة وانسانية وعدالة بقي اثرها الى الان في نفوس من عاصره والتقى به وتعامل معه.

عمل في اغلب المحافظات العراقية وفي اقضيتها ونواحيها مثل بغداد، راوة، ذي قار، قلعة سكر، البصرة، ابو الخصيب، السماوة، الرميثة، الديوانية، الدغارة، النجف، الكوفة، كربلاء، طويريج وغيرها من المدن العراقية الزاخرة بالطيب .ثم عاد بعد تلك الرحلة الطويلة الى عشقه الابدي ومسقط راسه مدينة الحلة الفيحاء التي احبها واحبته وكان وفيا لها كما كانت وفية له هي واهلها الكرام.

عمل كاستاذ للقانون في جامعة بابل وقد تخرج على يديه نخبة من المحامين الاكفاء الذين كان لهم تاريخ واضح في المجال القضائي.

ولم يبخل بالمشورة او اسداء النصح او حل النزاعات فقد كان يؤخذ برايه وكلمته فيصل في حل الكثير من النزاعات الاجتماعية على مستوى العائلة او المحافظة.

علاقاته العامة:

كان القاضي لطفي شناوة انسانا اجتماعيا عرفه الناس وقدروه فاحسنوا قدره على الصعيدين العام والخاص، فقد عاصر اعلام الحلة الاقحاح الذين تركوا بصمتهم على الساحة الحلية جلية ومنهم العلامة الكبير طه باقر الذي كان معجبا به ايما اعجاب، وكانت له صلة قرابة من جهة الام بمؤرخ الحلة يوسف كركوش الذي كان يفتخر به ويعتبره ابنا روحيا له، كما عاصر عبد الوهاب مرجان الذي كان وزيرا وكان يرتبط بصداقة عائلية معه، ومع ان القاضي كان اجتماعيا ورافق الكثير لكن كانت تربطه بالقاضي بدري القزويني و القاضي خليل اسكندر صداقة خاصة اعتز بها كثيرا، وكل من عرفه وعاصره عرف خلقه الكريم وتلمس انسانيته وتسامحه وروحه الطيبة المحبة للخير، فقد كان يمد العون للفقراء والمحتاجين والايتام ولم يكن ينس هذا الموضوع الذي كان ضمن اولوياته خصوصا في الاعياد والمناسبات ويعتبره واجبا مقدسا ودين عليه الايفاء به، وكان يستلهم حكمته وانسانيته من الله جل وعلا فقد كان يردد دائما(راس الحكمة مخافة الله)، ويقول ان الله اعطانا لنعطي.

حياته الشخصية:

على الصعيد الشخصي كان القاضي الفاضل ابنا بارا بوالديه تولى رعايتهما والاحسان اليهما طوال حياتهم كما كان محسنا ومحبا وعطوفا على اخواته، بل وكان السند الحقيقي لهن في السراء والضراء، وبقي على رعايته لاسرته الكبيرة حتى وافا والديه الاجل، فتوفيت والدته اولا فحزن عليها كثيرا ثم تبعها الوالد بفترة قليلة فاشتد حزنه لكن ذلك لم يعكسه على اسرته زوجته وبناته وابناءه بل كان يكتم المه وتلك كانت معضلته، الكتمان الذي اشتد عليه مع كل مشكلة تقابله فهو يمتصها ويبعدها عن الاخرين حتى استفحل عليه المرض.

تزوج من السيدة اديبة المعموري وانجب خمسة ابناء وخمسة بنات: مصطفى، أحمد، طارق، يوسف، محمد مصطفى، هدى، زهراء، مريم، صفا، اسراء

في مقتبل عمره فقد ابنه البكر مصطفى أو كما كان يسميه سيفي وينادونه اصدقاءه ومعارفه ابو سيفي، وكان لسيفي مكانة كبيرة في جدا في نفسه، توفي بحادث دهس اليم في عمر الرابعة عشرة تلك الحادثة الاليمة التي كسرت القاضي وزوجته وحزنا حزنًا شديدا عليه فما كان منه الا ان يترك الحلة وبيته الذي شيده في حي الحكام قرب مشهد الشمس، ذلك البيت الذي أحبه كثيرا وبناه طابوقة طابوقة وكان مهتما بكل صغيرة وكبيرة وأولى اهتماما خاصا بحديقة الدار التي كانت جنينته ومكان استرخاءه ترك كل شئ وبدأ رحلته في محافظات العراق، تلك الرحلة الطويلة التي قضى فيها عمرا محاولا نسيان فلذة كبده عبثا.

عانى من مرض القلب في متوسط عمره بعد الازمات التي واجهها وبقي يصارع مع المرض يتعافى تارة واخرى ينتكس وكان دائم التظاهر بانه معافى لانه لم يشأ ان يجعل اسرته تشعر بالقلق تجاه مرضه، فقد كان حيويا، محبا للفكاهة، كاتما للالم في حين انه كان يتالم وكانت اسرته تشعر بذلك، لكنه يكابر ويتظاهر بالعافية، وبقي هذاحاله مع المرض لكنه لم يتلكأ يوما باداء واجباته اليومية الاسرية ولم يتاخر عن العمل فقد كان مثابرا مجتهدا يقدس العمل، وكان ينظم وقته بين العمل واسرته بشكل باهر، فلم تؤثر فيه متاعب العمل ابدا بل كان يترك كل شئ ماان يدخل المنزل .

كانت المناسبات لها قدسية خاصة عنده فللاعياد نكهة خاصة فقد كان يأخذ العائلة بسيارته لشراء الملابس ليلةالعيد مارا بمحلات الملابس والاحذية باتا، سركيس، فخري جابك، احذية بيروت سوق التجار والاورزدي القديم في شارع ابو القاسم، كان يتركهم يختارون مايشاؤون من كل شئ زوجته واولاده وبناته، وفي صباح العيد بعد أن يوزع العيدية على الجميع كان يأخذهم بنفسه الى مدينة الالعاب او المكان الذي ينتصب فيه دولاب الهواء والاراجيح في باب الحسين قرب مدرسة الغربية والجمهورية الابتدائية او في منطقة الجبل ويبقى منتظرا مراقبا لاولاده وبناته حتى ينتهوا من اللعب ليصطحبهم ثانية الى المنزل، هذا بالاضافة الى اهتمامه بالمناسبات الدينية والحسينية واهتمامه الكبير بمناسبات النجاح والتخرج حيث كان يغدق الهدايا عليهم ولازالت تلك الهدايا محل تقديس عند اسرته.

ثقافته:

كان القاضي الفاضل موسوعة علمية انسانية قائمة بذاتها عكف على الدراسة والتثقيف الذاتي، فشغفه بالقراءة والكتابة جعلت من الكتاب خير جليسا له ونديمه الاول، فقد كان يمتلك مكتبة جامعة لكل ماندر من امهات الكتب في كافة المجالات، فمكتبة بيته تحوي كتبا وموسوعات ثقافية متنوعة دينية واجتماعية، ومراجع قضائية وكتب تنمية بشرية، وكتب تاريخية، وروايات، وكتب ادبية ودواوين شعر ومجموعات قصصية اجتماعية وقصص بوليسية مترجمة وادب مترجم وقواميس لغة اذا اخذنا بالحسبان ان زوجته السيدة اديبة المعموري مدرسة لغة عربية وكانت تشاطره المجال ذاته من العلم والمعرفة، بالاضافة الى اشتراكه الدوري بالعديد من المجلات والصحف المحلية، والعربية التي كان يكتب فيها امثال طبيبك والعربي والدستور التي كانت تصدر انذاك اضافة لمقالاته التي كان ينشرها في الصحف اليومية والاسبوعية امثال الوقائع العراقية والجمهورية وغيرها.

عودته الى الحلة:

بعد رحلته الطويلة في محافظات العراق قرر العودة الى ذره الاول ومسقط راسه عشقه الابدي مدينة الحلة الفيحاء، كيف لا وهو من شرب من زلال الحلة السيفية وتفيأ ضلال نخيل شط الحلة وتأبط شناشيلها، واستحم في بين كفوف شمسها، عاد الى بيته الكائن في حي الحكام قرب مشهد الشمس، كان قد اختارارضا نهاية الحي بعيدا عن الشارع العام خوفا على ولده سيفي، لكن للاقدار شأن اخر، فقد لاحقته يد المنية راكبا على دراجته الهوائية واختطفته على يد صاحب تراكتور مما ادى الى وفاته في الحال واصابة اخيه الاصغر احمد بجروح بليغة .

عاد الى بيته ولم يكن الامر سهلا ابدا فقد كانت روح ابنه تطوف في المكان كيف لا وهو من زرع لكل ابن من ابناءه نخلة باسمه كانت حصة سيفي الحمراوية، فيما خص الازهار لبناته، تجول بالحديقة تفقد شجرة البان التي احضرها من بيروت وزرعها في بيته وكان يحبها كثيرا تلك الثمرة الذهبية التي تحييه بثمارها  وهو يستظل بظلها حيث ارجوحته، ركنه الهادئ الذي يلجأ اليه للتأمل والاسترخاء مع راديو يدوي متوسط الحجم يستمع من خلاله الى اهم الاخبار، اخبار جهينة، نافذة على التاريخ، صحافتنا اليوم، كما كان يستهل يومه بسماع فيروز شحرورة الصباح وهي تغرد اثناء افطاره مع اسرته اوفي راديو السيارة وهو يصطحب زوجته وبناته واولاده الى مدارسهم، كان عمودا حقيقيا لاسرة متراصفة يزرع الحب والثقة بنفوس ابناءه وبناته، يبدد الصعاب، يحل كل صغيرة وكبيرة، ينتقي لهم اجمل الاسماء والالقاب، الهدايا، الكلمات، الهمسات، الابتسامة التي لم تكن تفارق وجهه، ذلك الوجه الملائكي البشوش الذي يزرع الامل بنفس كل من يراه ويتعامل معه.

عانى من امراض القلب وقتا طويلا وبقي يصارع المرض برباطة جأش، لكن المرض اشتد عليه ممادعاه لاجراء عملية جراحية في الهند، لكن مضاعفات العملية ادت الى انتكاس حالته الصحية وتدهورحالته يوما بعد يوم، وكانت زوجته ورفيقة دربه تراعيه وتهون الامر عليه حتى وافته المنية في احدى الليالي التي خلد فيها الى النوم و تلك كانت نومته الابدية حيث فارق الحياة بسلام مثلما عاشها محبا للسلام.

هذا نزر يسير من سيرة حياة والدي القاضي الفاضل لطفي عبد الامير شناوة الذي وافته المنية بعد صراع طويل مع المرض في 16/4/2012 رحم الله ارواحا لاتعوض واسكنها فسيح جناته.

وجعي عليك

الروح تسألني عليك

والقلب أصدأه النوى

نبض يراوده عليك

خلف قضبان الضلوع

ألم يؤانسه الانين

بالكاد يشهقه النفس

الروح تسألني عليك

والعيد أمسى بلاطقوسٍ

اوثياب..

وجعي تشظى بالجسد

وتنمرت آهاته

تغتالني في كل لحظة

أنيابه غرس النخاع

قلبي يوجعني عليك

وضلوعي باتت محطات

يكسرها الانتظار

والملح أمسى نزيل المآقي

بعد أن تصبخت العيون

من شوق شوقٍ لايهاب الاصطبار

وسيول دمعي نواعير

تفيض من سقم الانام

وترتوي الحسرات

من وجعي عليك..

عبثا أ’رتق صبرا ارتديه لاصطبر

عبثا أقول نسيت

والنسيان أجراس تدق

تصحي الغافيات من الشجون

عبثا احاول بعثرة الملامح

ولملمة الجراح

عبثا احاول ان اكون بنصف أسمٍ

أتأبط الكون الفسيح

عبثا تبادلني الشموع دموعها

لتلهمني السكينة

الروح تسألني عليك

تذكرني ..

تؤرقني..

تهدهد أيام الصبا في مهد أحلامي

تساومني الظنون على ربيعٍ

تاه في صخب الفصول

تجتث صبري

وتتركني كما الهباء

لاذر ولاوطن

كالريش يسبح في الفضاء

الروح تسألني عليك

فأراك في صلاة الفجر نجما

تأتي محملا باختلاجات الطفولة

والغيم سرب حمائم

يدعوك أن تدخل فصوله

لاتختبئ ذكراك خلف معاقل الايام

لا ولاتمحو الرزايا زورقا في عينيك عام

سيبقى الحنين شجرة ارز غافية

وتنتظر في كل عام..

الى اسمي ورسمي ومبسمي

الى سماء اشرقت بسماوات عيوني

الى صوتي وصمتي

الى عنفواني وكبريائي وتواضعي

الى نبض في القلب اقتات عليه

الى ربيع حياتي

***

الى والدي القاضي الفاضل لطفي عبد الامير شناوة الالوسي

بقلمي: مريم لطفي عبد الامير الالوسي

تقترب من عامها الـ" 84 " وتصر ان تنشر كتابا كل عام. تقول ان هناك ساعة تنبهها الى ضرورة مواصلة التاليف، لا شيء عندها يعوض الجلوس الى طاولة الكتابة " الكتاب لا يتوقفون، بل يستمرون في السير مثل أرنب إنرجايزر. يستمر ثم يسقط "، تعيش كابوس اسمه الناشر الذي لديه استعداد لنشر دفتر هواتفها لان الجمهور يريد ان يقرأ لها اي شيء. لا تزال تستمتع باعادة قراءة شكسبير، انه يعرف الكثير عن الناس. تقول لمراسل الغارديان انها تشعر بالمتعة وهي تتسكع مع صاحب هاملت، تقرأ كثيرا عن الثورات وتجد في الثورة الفرنسية النموذج الأمثل للحرية. قالت ان جورج اورويل دمر حياتها فقررت ان تستحضر روحه في واحده من قصصها التي نشرت مؤخرا، تعترف انها قرأت روايته مزرعة الحيوان وهي في التاسعة من عمرها، اعتقدت انها كتاب للاطفال عن الحيوانات: " شعرت بالرعب عندما انتهيت من الصفحة الاخيرة "، تطلق على جورج اورويل لقب " الامبراطور " في المدرسة الثانوية تقرأ رواية 1984، لم تكن قد بدأت التفكير في الكتابة، إلا ان جرأة اورويل علمتها كيف تواجه المخاطر.في العام 1984 تقرر ان تحنفل باورويل بطريقتها الخاصة حيث تبدأ بكتابة روايتها” قصة الخادمة "

ولدت مارغريت اتوود في الثامن عشر من تشرين الثاني عام 1939 في أوتاوا بكندا، والدها عالم حشرات، فيما عملت والدتها في مجال التغذية، كتبت ثمانية عشر رواية و20 ديوان شعر وخمسة كتب للاطفال وعدد كبير من القصص ترجمت الى خمسين لغة، ابتكرت لنفسها طريقة خاصة بالكتابة تقول عنها:" لا اؤمن بالعقدة الروائية، واحاول ان امزج بين الحقيقي والخيالي، واليومي والمجازي "

بدأت تجرب حظها في الكتابة في سن مبكرة، ادركت فيما بعد انها يجب ان تكتب الادب بحرفية، لم تدخل مدرسة حتى سن الحادية عشر، في الخامسة عشر من عمرها تعثر على كاتبها المفضل " فرانز كافكا "، قرأت له كتاب المحاكمة، وتتذكر كيف انها ظلت مستيقضة الى صباح اليوم التالي، وعندما جلست على مائدة الافطار قالت لوالدها عالم الحشرات:" لقد وجدت مهنة تناسبني.. انها الكتابة ".

اختارت اسم " الدمية " لروايتها الاولى - ترجمتها الى العربية سامية دياب -، تدور فكرتها الرئيسية عن الزمن الذي يريد ان يعبث بمصائر الناس، بطلة الرواية " زينيا " تدرك جيدا انها ستتحول في يوم من الايام الى غبار منثور، مبعثر في الريح، وستصبح تاريخاً فقط.تجازف فترسل المخطوط الذي كتبته الى احدى دور النشر، وبعد اشهر كان الجواب:" الاوراق غير مفهومة "، ليتعطل نشر الرواية اكثر من خمسة عشر عاماً، تتركها جانبا لتكتب روايتها الثانية " المذنبة " في ذلك الوقت تعود الى كاتب طفولنها جورج ارويل:" ادين لارويل وكافكا بانني تعلمت الكتابة من خلال عشقي لرواياتهم، دوماً، لم أرد أن أكون بوقاً لأي مذهب "..

تلاقي روايتها الثانية نفس المصير، لتتوقف عن كتابة الرواية وتتوجه للشعر فتصدر ديوانها الاول " لعبة الدائرة " وهي في الخامسة والعشرون من عمرها. تحقق من خلاله اول اعترف ادبي، تعود للرواية من جديد فتكتب " السطح " -ترجمها الى العربية عبد الحميد فهمي-، تجد الرواية ناشر يتحمس لطبعها، وكان يامل ان تباع الثلاثة الاف نسخة في حدود عام او عامين،، لكن المفاجاة كانت في انتظار الفتاة الكندية حيث نفذت الرواية التي تعالج بعضا من القضايا المتعلقة بالهوية وموقف المجتمع من المراة، نقرا قصة امرأة، اسمها غير معروف، تعود إلي مدينتها في كندا، لتبحث عن والدها المفقود. وفي صحبة كل من حبيبها و زوجها وصيقدتها آنّا، حيث نجد هذه المرأة تقابل ماضيها في بيت الطفولة، مستدعية الأحداث والمشاعر بينما تحاول أن تجد حلولا لألغاز اختفاء أبيها الغامض. الا ان الماضي بكل مأسيه وذكرياته يتغلب عليها، فيقودها الى مصحة للمجانين.

عندما بلغت السادسة والاربعين نشرت روايتها " قصة الخادمة " - ترجمها عبد الحميد فهمي -، - هناك ترجمة اخرى بعنوان حكاية الجارية ترجمة احمد العلي - يبدو الامر لها اشبه بالمفاجاة فالرواية التي تحذر من مستقبل كارثي لمجتمع يسوده العقم تهيمن عليه طائفة من رجال الدين، تُقسم فيه النساء الى طائفتين، مجموعة تخضع للاستعباد الجنسي لإنجاب الأطفال من رجال الدين الأقوياء، ومجموعة هنّ زوجات هؤلاء الرجال يعانين من العقم فياخذن الأطفال من أمهاتهن. وتقول آتوود:" تاثرت كثيرا بسيمون دي بوفوار وبالخصوص كتابها العظيم الجنس الاخر والذي تسلط فيه الضوء على نظرة الرجال الى النساء على اعتبارهن مجرد جنس. جنس مطلق ولا شىء غير ذلك. فالمرأة ثانوية والرجل ضروي وأساسي. الرجل مطلق والمرأة هي الآخر". قالت انها في مراهقتها كانت تقرأ كتب سيمون دي بوفوار غي الحمام.

في الرواية نجد مجتمع الرجال ينظر الى المرأة باعتبارها وعاء لتفريغ الشهوات، حيث العمة ليديا التي تقوم بدور المتحدث الرسمي للحكومة الدينية، تصر على ان النساء مجرد اشياء مكملة لعالم الرجل، اعتبرت الرواية بعد صدورها منشورا اجتماعيا وثقافيا ونقدا للتقاليد والعادات الموروثة.

رشحت الرواية لجائزة البوكر لكنها منحت في ذلك العام لكينجسلي أميس، تضحك وهي تجيب عن عدم منحها الجائزة انذاك:" قالوا إنني لا ازال صغيرة، هكذا تسير الأمور، كل ما علينا أن نواصل الكتابة، لا شيء غير ذلك،"، بعد خمسة عشر عاما تخطف آتوود جائزة البوكر عن روايتها " القاتل الأعمى" - ترجمتها عزة مازن -، وفيها نتعرف على حكاية شقيقتين، إحداهما انتحرت بعد الحرب العالمية الثانية نتيبجة مقتل حبيبها في الحرب، والثانية امراة مسنة تستعيد ذكريات طفولتها وعلاقتها غير الشرعية بحبيب شقيقتها، إضافة إلى زواجها التعيس من رجل يكبرها سناً.

عانت آتوود من نظرة المجتمع لها لانها لم تستقر في علاقتها الزوجية الاولى ولا الثانية، وتقول آتوود في حوار معها لصحيفة الغارديان انها:" من ذلك الجيل الذين قيل انهم من المؤرخين الاجتماعيين والادباء ايضاً، ان على المرأة الكاتبة، منح نفسها لادبها، لانها غير قادرة على الامساك بطرف الكتابة والاسرة ".

عام 2017 فازت آتوود بجائزة فرانز كافكا الدولية، وقالت خلال المراسم التي اقيمت في براغ:" هذه الجائزة خاصة جدا بالنسبة لي لان اول محاولة ادبية مستقلة كتبتها كانت بوحي من فرانز كافكا في الخمسينات. لقد قرأت في تلك الفترة سيرة حياة فرانز كافكا فضلا عن كل اعماله وانا اذكرها جيدا

وعندما سالت هل لديها مشكلة لكونها الكاتبة الاكثر مبيعاً، ومع ذلك تأخرت نوبل عنها حتى الآن؟ قالت:" الجميع يسألونني عن جائزة نوبل بينما أنا ليس لدي أي سلطة في هذا الشأن، أما بخصوص المبيعات فهناك أربعة أنواع من الكتب: كتب جيدة رائجة، كتب جيدة غير رائجة، كتب رديئة رائجة، كتب رديئة غير رائجة. النوع الأخير بالتأكيد هو النوع الذي لا يريد أحد منّا كتابته ".

تنعكس اهمية كتابات مارغريت آتوود في تنوعها، ورغم اصرارها على الغوص في عالم المرأة من خلال معظم اعمالها الروائية، لكن ذلك لا يعني انفصالها عن الحاضر ومشاغله؛ علاوة على أنها مسكونة ومنشغلة بالاحتمالات التي يحملها المستقبل، مثل ظاهرة الاحتباس الحراري والحروب الحديثة وكوارث البيئة وظاهرة الفقر وعدم المساواة في الاجور والاهم حقوق المراة.. وهي تدخل عقدها التاسع، قالت لمراسل جريدة الغارديان:" ان الناس يبدون عجبهم، لأني مازلت على قيد الحياة. والناس يرون رأسي على شكل كتاب، ويتوهمون انني طويلة القامة،علماً انني قصيرة اقصر مما يتصورون وخصوصا امام الجوائز

العام 2019 حصلت على " البوكر " الثانية عن روايتها " العهود" – ترجمتها ايمان اسعد -، لكن هذه المرة مناصفة مع البريطانية إيفاريستو عن روايتها " فتاة، إمرأة، أخرى"، وقالت لجنة التحكيم في بيانها إن:" العهود رواية مكتوبة بشكل ممتاز، وبابداع لغوي، وتخاطب عالم اليوم وتقدم لنا نظرة ثاقبة وتخلق شخصيات يتردد صداها معنا، وسوف يتردد هذا الصدى على مر العصور ".

فيما قالت أتوود إنها "أمراة كبيرة في السن ولديها عدد كبير جدًا من حقائب اليد لذلك فلن تنفق المبلغ على نفسها وستتبرع به لمؤسسة خيرية.

في السنوات الماضية شهدت روايتها "قصة خادمة" حالة من الرواج بعد تحولها لمسلسل تلفزيوني، قررت آتوود كتابة رواية جديدة تكمل بها احداث " قصة خادمة " حيث تبدأ الاحداث بعد 15 عاما من نهايتها.

وقد بيع من رواية "العهود "، التي نشرت في أيلول عام 2019، مئة الف نسخة في بريطانيا في الأسبوع الأول، لتتصدر قائمة الكتب الاكثر مبيعا، في " العهود " هناك ثلاثة نساء يروين حيث نجد واحدة منهن هي العمة ليديا احدى شخصيات حكاية خادمة والتي كانت مسؤولة عن "إعادة تثقيف" النساء المفكرات وتحويلهن إلى خادمات ضعيفات في الرواية "، وفي الوصايا نتعرف على حكاية ليديا، ونعرف أنّها إبنة عائلة كانت تعيش في مقطورة متنقلة في المنتزهات، وتمكنت من الهرب من والدها المدمن، ثم حصلت على تعليم جامعي، وأصبحت قاضية. بعد الانقلاب في "جلعاد"، اختارت البقاء وأصبحت أقوى امرأة في النظام. واعتبر النقاد رواية " الوصايا " بانها رواية هامة جدا في هذا الوقت لأنها تكشف الطرق الخبيثة التي يسيطر بها المجتمع على أجساد النساء، حيث يجري تلقين طالبات المدارس أنهن "زهرات ثمينات" ويحتجن إلى الحماية، وأن الفساتين البيضاء ترمز إلى الطهارة. وكذلك تُجبَرْ المراهقات على الزواج برجال كبار في السن، وتُسلَبْ النساء حق الاختيار بشأن إنجاب الأطفال أو تحديد الوقت الذي يناسبهن لذلك، كما تتعرض النساء إلى التهميش بسبب فشلهن في الإنجاب.

وعندما قيل لمارغريت آتوود من ان المجتمع الذي تروي حكايته خيالي قالت:" لا شيء من بين تلك الأمور خيالي. على الصعيد العالمي، تتزوج 12 مليون فتاة دون سن الثامنة عشرة كل سنة، والتحيز الجنسي موجود حتى في اكثر البلدان ديمقراطية "، وتشير آتوود انها كامرأة عانت من نظرة المجتمع لها لانها لم تستقر في علاقتها الزوجية الاولى ولا الثانية، وتقول في حوار معها لصحيفة الغارديان ان المجتمع ينظر اليها نظرة مريبة لانها منحت نفسها لادبها، ولانها غير قادرة على الامساك بطرف الكتابة والاسرة ".

في اخر حوار معها قالت ان جورج اورويل تنبأ قبل عقود بكارثة الذكاء الصناعي :" لقد كتب عن الآلات التي تصدر الأدب التافه للجماهير فى رواية 1984 ".

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

عملت في تلفزيون العراق في السبعينيات يوم كنت مذيعا في اذاعة بغداد. يومها كنت مشرفا على برامج الأطفال، حيث يعد عقد السبعينات افضل عقد لنوع وكم وجودة برامج الأطفال. واذكر اني رفضت نصا كتبته مقدمة برنامج (اسماء ومشاهير)، زوجها له نفوذ سياسي في التلفزيون، لأنه تضمن اسماء اجانب وطلبت منها تضمينه اسماء علماء ومشاهير عرب، فاشتكت عند المدير العام لطيف نصيف جاسم، فأجازه.. وبعد بثه مباشرة جاءه هاتف من جهة عليا يلومه. واذكر انه عقد اجتماعا لكبار العاملين في الأذاعة والتلفزيون، وحين دخل متوترا قال بالنص (شالله بلانه بها المؤسسة القذرة).

وفيه قدمت برنامج (استشارات نفسية) يهدف الى اشاعة الثقافة النفسية. على ان (حذار من اليأس) تلفزيونيا.. كان له حكاية خلاصتها ان الراحل مهند الانصاري طلب مني ان نلتقي المديرالعام صباح ياسين وبيده ورقة صغيرة مكتوب عليها (يحول برنامج حذار من اليأس الى التلفزيون) بتوقيع يوسف حمادي وزير الثقافة.. فاشترطت على السيد صباح ان النص الذي اكتبه لا يعرض على لجنة فحص النصوص.. فوافق مضطرا.

وأهم الاشخاص الذين عاصرتهم هو (محمد سعيد الصحاف) الذي كان يصطحبني معه الى استديو التلفزيون لتغطية اعمال درامية تلفزيونية صحفيا، بينها عمل أخرجه المخرج المصري المعروف ابراهيم الصحن.. فاقترح عليه حذف واضافة.. فشكره الصحن مقتنعا.. وطلب مني ان لا اذكرذلك في الريبورتاج الذي كنت اعده لأشهر مجلة في حينها (الأذاعة والتلفزيون). وكان الصحاف هو الوحيد الذي اثبت انه يستحق المسؤولية، فهو ذكي وحازم نقل الأذاعة والتلفزيون خطوات لاسيما الدراما التلفزيونية التي تراجعت الآن.

موقف.. لا ينسى

صار السيد الصحاف وزيرا للأعلام وتم تشكيل (لجنة رأي) بتوقيع الرئيس صدام حسين من اكاديميين ومثقفين كبار بينهم أنا نجتمع اسبوعيا برئاسته. وكنت انا الوحيد الذي اطرح رأيا مختلفا.. فنصحني الدكتور عبد المرسل الزيدي والدكتور محمد عبد الرزاق الدليمي بان لا (أرادد) الصحاف لأن " ما عنده مانع يعتدي عليك".. لكنني لم آخذ بالنصيحة.

وحصل ان طلب منّا تقييم اداء الاذاعة والتلفزيون وكان ذلك في تسعينيات الحصار.. وكانت حصتي تلفزيون الشباب (وأظن أن مديره كان السيد علاء مكي) فوجدت المخرج يضع اصبعه بداخل الجهاز.. سألته لماذا؟

- شاسوي استاذ.. برغي ماكو!

عقد الاجتماع برئاسة الصحاف وقدمت التقارير وجاء دوري فقلت:

- سيادة الوزير.. اذا يبقى الوضع هالشكل.. بعد سنتين ستتوقف الاذاعة والتلفزيون.. ورويت له ما شاهدت.

اجابني بحدّة:

- أخونه.. اليحب الوطن ما يعوفه!

وتمضي الايام.. ويأخذون السيد الصحاف بطائرة خاصة الى الامارات.. ويتصل بي الصديق الراحل دكتور عبد المرسل الزيدي العائد من لقائه في الامارات قائلا:

- دكتور قاسم لك سلام خاص من محمد سعيد الصحاف انقله بالنص:

(سلمنه على استاذنه الجليل دكتور قاسم حسين صالح)

فأجبته بميانة محب: دكتور مرسل.. انا ادري بيك تجذب.. وقبل ان اكمل اقسم انه ينقل الحقيقة.

وتوصلت الى الآتي:

ان سيكولوجيا السلطة في العراق عودت المحيطين بالمسؤول ان يقولوا له ما يحب ان يسمعه.. فيما انا كنت اقول له الحقيقة برغم خشيتي منه.. وأنه كان يقدّر ذلك في داخله.

ومن ابرز الأشخاص الذين تعرفت عليهم.. الراحلان بدري حسون فريد والدكتور عبد المرسل الزيدي.. والشاعر ابراهيم الزبيدي الذي اعجب بنص غنائي كتبته وغناه المطرب فاروق هلال بعنوان (بريسم اشكر كذلته تهفهف حبيبي، شامه عنبر والخد قرنفل حبيبي.. عيونه رحلة سندباد والرمش شاهد الرحله، اشما ازيد النظر بيهن يشدني شوك جديد احلى..) اشتهرت في حينها وكانت ضمن طلبات المشاهدين.

ومن اقرب الأشخاص كان الراحل كامل الدباغ في برنامجه (العلم للجميع) والمذيعان الراحلان غازي فيصل الذي التقيته في القاهرة قبل سنوات ونهاد نجيب الذي حضر اول مؤتمر للفنانين والأعلاميين الذي افتتحته في كلية الاداب 2003، والروائية لطفية الدليمي والأديب باسم حمودي ضمن لجنة الأشراف على برامج الأطفال.

والفضل للتلفزيون انني اجريت تحقيقات صحفية مع فنانين عرب: وديع الصافي، نور الشريف، صلاح السعدني، ليلى طاهر، فردوس عبد الحميد. وفنانين عراقيين: عفيفة اسكندر، محمد القبنجي الذي بنى جامعا وشكا من ابنه (قاسم) لأنه كان (شيوعي)، ومائدة نزهت زوجة الفنان وديع خوندة التي زرتها في بيتها وجاءتني (لابسه ابيض بأبيض) لأنها كانت تؤدي صلاة المغرب وتنوي حج بيت الله الحرام، وطلبت مني أن اتوسط لها عند الصحاف ليوقف بث اغانيها، فلاطفتها قائلا: سافعل شرط ان تبقى اغنية (شوفي داده شحلاته!). واكتشفت في هذا العالم معنى الجمال وفنون الحب وقيمة الكلمة وسلطة الصحفي في قول الحقيقة.

وكانت آخر مرة احضر فيها للتلفزيون، قبل اشهر في حوار مع الأعلامي المتميز والمحاور الذكي.. عباس حمزة في برنامجه (الطريق) الذي فجعنا برحيله.

الرحمة لمن رحلوا وتركوا الأثر الطيب، والتحية للأحياء منهم الذين يتحسرون الآن على أيام زمان.

***

د. قاسم حسين صالح

ظهرت الصالونات الثقافية بشكل واضح منذ العصور القديمة حتى اليوم، وكلمة الصالون ترجع في أصلها إلى اللاتينية "salon"، وهو المكان الذي يستضاف فيه مجموعة من الشخصيات البارزة والمهمة، ليتبادلوا فيها مع العامة جوانب كثيرة، كالفكر، والمعارف، والفلسفة، والأدب، والآراء، ولهذا فهي نقاط إشعاع فكري، وثقافي، وأدبي متوهجة، وحاضنة لأجيال من المبدعين، وبؤرة لاهتمام صانعي القرار ومستقبليه على السواء.

ويعد الصالون الثقافي مكانًا لاجتماع العقول، وتبرز قيمته كأداة للتواصل بين المفكرين والأدباء والفنانين، حيث الاتفاق أو الاختلاف، واستخدام الكتب والمعرفة والحوار، كطرق يمكن من خلالها التفكير في مختلف جوانب الوجود الإنساني. وبما للتفعيل من قيمة جراء الالتقاء الفكري، فإن سياسة تبادل الأفكار واستكشافها، تعدّ عملية مزهرة لأي فكرة، وتتمركز كنقطة انطلاق مع التجربة الإنسانية.

والهدف من فكرة الصالون هو وضع مساحة من النقاش تكون مشتركة بين السياسيين، والأدباء، والمفكرين، والعلماء، وبين الخبراء؛ بحيث نصل إلى أرض معينة يمكن أن نصل فيها لحالة من حالات الحلول الإيجابية،والتي يمكن أن نفيد بها الدولة العراقية، وذلك من خلال مناقشة موضوعات ذات أثر بحيث نخرج منها بمداخلات قيمة جديرة.

إن الصالونات الثقافية لها دور كبير في نشر الفكر التنويري، وتعتبر مصدر إشعاع فكري، وثقافي، وأدبي من أجل إبداء الرأي والنقد بالطريقة البناءة، فأحياناً الجهود الأدبية بدخول الجماعة تستطيع أن تخلق مشاريع خلاقة يانعة، وأن الاهتمام بالأفكار وإن كانت بسيطة تنبت سنابل خضراء باحتوائها وصقلها، فعلينا أن لا نستهين بأي فكر إنساني، وإن كان صغيراً مادام يهدف للسمو بالثقافة، والآداب، والفنون.

تاريخيًّا، يعود ظهور الصالونات الأدبية إلى جذر المعرفة الإنسانية، فكان في الحضارات القديمة، آثار لنفس فكرة الصالون الثقافي، فعند الفراعنة تواجدت التجمعات التي يتم فيها الغناء وإلقاء الشعر. وكذلك عند البابليين. كما اهتم الإغريق بمثل هذه التجمعات الثقافية، حيث الالتفاف حول الغناء وقراءة الشعر في أماكن محددة. وفي العصر الجاهلي اشتهر سوق عكاظ، وقد كان منصة ثقافية عند العرب، وفي العصر الإسلامي ظهرت هذه الصالونات على شكل مجالس أدبية، حيث كان الشعراء يعتكفون ويجتهدون في مدح الملوك والأمراء، مثلما قام به "سيف الدين الحمداني" في مجلسه الذي كان يضم أبرز الشعراء كالمتنبي، وأبي فراس الحمداني، إلى جانب مجالس العصر الأموي كمجلس المأمون، ومجالس العصر العباسي، ثم يأتي مجلس الشاعرة "ولادة بنت المستكفي" في الأندلس، حيث تميزت بإنشاء صالوناً أدبياً يضم نخبة من الشعراء كابن زيدون، ولا يخفى علينا "عكاظ" الذي تناقش فيه جماليات القصائد والأشعار.

أما في أوروبا فقد نشأت حركة الصالونات الثقافية مع حركة النهضة في إيطاليا في القرن السادس عشر، دون أن يكون اسمها صالونات، بل كانت هذه الأماكن ترعى وتتبنى الحركة الأدبية والفنية على أيدي متنفذين وميسورين من الطبقة الأرستقراطية، مع العلم أن النساء آنذاك كن أكثر اهتماماً في قصورهن من الرجال في الحركة الأدبية والفنية.

وإذا بحثنا عن معنى "salone" بالإيطالية فهو يعني "غرفة الاستقبال" ومن بعد تطور حركة الصالونات في إيطاليا بدأت بالانتشار في فرنسا وكان هذا في القرن السابع عشر باسم "ruelle" وهو يعني الممر الموجود بين سرير تستلقي عليه سيدة أرستقراطية وجدار يجلس على كراسٍ بجانبه مجموعة من المفكرين والاُدباء ليتناقشوا ويتبادلوا الآراء والأفكار، ويعد أقدم صالون عرفته الوثائق التاريخية في فرنسا هو "فندق رومبيو"، القريب من قصر اللوفر في باريس.

والصالونات الثقافية كانت الركيزة الأساسية التي قامت عليها الثورة الفرنسية، من خلال صالونات "فولتير"، و"جان حاك روسو" وأخرين وهي التي عملت تحول جذري في العقل والمخيال الفرنسي، وكما قال " بول هزار" في كتابه "أزمة الوعي الأوربي" :" بأن الناس دخلوا في أول القرن الثامن عشر، وهو أول عصر الأنوار بعقول تسبه عقل " بواسيه" والذي يؤمن كل الأشياء موجودة في الكتاب المقدس ويدعو الناس لتطبيق أحكام العهد القديم والعهد الجدبد السمحة وستحل مشاكل العالم، ولكن المشكلة ليست في بواسيه، وإنما في رجل الشارع البسيط لديها نفس فكر بواسيه، إلى أن عملت أفكار فولتير وروسو في تغيير وعي الناس فأصبحت أفكار الناس هي نفس أفكار فولتير وروسو في آخر عصر الأنوار.

علاوة على أن تاريخ الحياة الثقافية في العالم العربي، وبالذات في مصر يوضح أن مفهوم الصالون الثقافي بمعناه الحديث، قد تشكّل مع نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فمازالت أسماء، مثل "مي زيادة" و"نازلى فاضل" وغيرهما، هي إشارات إلى ذلك النمط المتميز من الحوار الثقافي الفكري الذى كان يدور في عصرٍ رموزه هم: "العقاد" و"طه حسين" و"مصطفى صادق الرافعي" و"أمين الخولي" و"سلامة موسى" وغيرهم، في محاولة للتبشير بعقليات جديدة، حيث كان الشعار السائد الذى يرفعه كل صاحب رأى هو أن الاختلاف لا يفسد للود قضية.

ولهذا فإن الصالونات الثقافية هي وليدة اختيار ثقافي جاء نتيجة لعدة أسباب من ضمنها الظروف الاقتصادية التي تحول دون إنشاء هيئات ثقافية إضافية لعدم توافر المكان، وتعتبر الصالونات الثقافية ذات أهمية كبيرة وقد تتفوق على كثير من ندوات الهيئات الثقافية المعروفة، وذلك لأنها قد تكون بعيدة عن الطابع الرسمي ما يجعلها أثري وأغني وأصدق وتعبر عن الواقع بصورة أوضح وأفضل دون نمطية أو بروتوكولية ما .

علاوة على تلك الصالونات تعد حركة ثورية، ولكن ثورية ثقافية، ولعلها إن لم تكن مساوية للتغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فهي أهم في تغيير الوعي، والذي بدوره سيؤدي إلى تغيير الأوضاع والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ومن هنا كانت دعوة الصالون الثقافي العراقي بواشطن لأصدقاء في العراق وفي بلاد أخرى، أسبوعا لمناقشة موضوعات مختلفة في سائر فروع المعرفة الأدبية والعلمية والبيئية .

إن فكرة إنشاء الصالونات يجب أن يكون قائمة على المصلحة العامة قبل الخاصة، مع ضرورة وجود حركة نقدية بناءة في تلك التجمعات، كما يجب الانتباه بأن يكون دافع إنشاء تلك الصالونات ليس الوجاهة الاجتماعية ومحاكاة التسابق الحادث حالياً كموضة جديدة من موضات البروز الإعلامي، فيكون هذا الصالون مجرد منتدى هلامي لا يطرح رأياً ولا يطور وضعاً، بل المطلوب وجود فائدة وإثراء من قيام هذا الصرح التجمعي الفكري.

والصالون الثقافي نمط من المجالس التي يتحلق حولها بعض ذوى الاهتمامات المشتركة، يناقشون قضايا ذات اهتمام واحد تكون في مجملها مهمة لكل رواد الصالون، وتتصل بالشأن العام أو الأحداث الطارئة، وتعبير الصالون الثقافي ليس هو الوحيد الذى يشير إلى تلك الاجتماعات الدورية صغيرة العدد شديدة التأثير، إذ تحمل مسميات مختلفة، فقد تكون ديوانية عراقية أو جمعية أدبية عراقية أو بعض مجالس الصالحين إذا كانت ذات صبغة ديني.

والصالونات الثقافية تواجه مشاكل عديدة، وعلى رأسها القدرة على الاستمرار، ذلك بسبب المبادرة الفردية التي تتهيأ لها الأسباب النفسية والاجتماعية والاقتصادية والزمانية والمكانية لتحققها واقعا لا حلماً لتزبل وتفتر فيما بعد، وتنتهي مع مرور الشهر والأعوام، وربما بموت الصالون مع فراق أصحابه وحملة شعلته للحياة، ولهذا فإن التحدي الأكبر للصالونات الثقافية هو القدرة على الاستمرارية نتيجة ظروف وصعوبات ومعيقات نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية من باب تقييد الحريات العامة حتى في عقر دارها.

والعبرة ليس بكل من أنشأ صالوناً ثقافياً، لكن بمن أثراه بالفكر والثقافة، فهو منبر فكري تعليمي لاكتشاف وصقل المواهب وتبادل الفكر والخبرات، وأن يتحلى القائمون على هذه الصالونات الثقافية، أن يضعوا في الاعتبار أن فكرة الإنشاء قائمة من أجل خدمة الصالح العام، وأن لا يكون الدافع هو الوجاهة الاجتماعية، حتى لا تتحول إلى ملتقيات هلامية لا تطرح رأيا ولا تطور وضعاً، بل سيكون وقتها يكون التسابق للبروز وللشو الإعلامي، غير أن الكارثة أنه لو تحولت الفكرة إلى هذا ستنضم قطعا إلى قائمة الأمراض التي تصيب المجتمع الآن، والتي تعد قطعًا جرائم في حق النفس والإنسانية، وأمراض تنهش في جسد المجتمع وروحه معاً.

فعملية بناء الوعى ضرورة حتمية، تبدأ بالمعرفة والإدراك التام والتثقيف الشامل والإحاطة بكافة التحديات المعاصرة، وما أقصده هنا، هو الوعى في إطاره الشامل المتكامل لا الاقتصار على الوعى الديني أو السياسي فحسب، إنما يمتد إلى مفهوم أوسع وأشمل لكل الجوانب الحياتية، وأن غياب الوعى قطعا يتسبب في انتشار أمراض مجتمعية نهايتها شهادة وفاة للمجتمع نفسه.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

بيني وبين الأنظمة العربية علاقة حَذِرَةٌ رَجْراجَة، علاقة الفيل المفروض عليه أن يقف على رأس الإبرة، ولكن دون إجبار فوري، بل بإعطائه الوقت الكافي لابتكار طريقة تمكّنه من إيجاد وسيلة تمكنه من السيطرة على وزنه وضخامته، وضآلة الإبرة واستدقاق رأسها، ومما لا شك فيه أن مثل هذه العلاقة تعتبر علاقة معقدة في مفهوم الوزن والجنس والنوع.

ولكن العلاقة التي بيني وبين المثقف العربي، علاقة أكثر تعقيدا من علاقة الفيل مع الإبرة، لأنها تمتد من مساحة العقل إلى مساحة الجنون، ومن مساحة الإيمان إلى مساحة الإلحاد، بل إن الكلمات والتعابير التي يمكن أن تصاغ حول مفهوم هذه العلاقة، ستبقى أقزم كثيرا من أن ترتفع إلى المعنى الكامن في نفسي نحوها.

وهذا الناتج قادم من رأي زَجَّهُ أساتذتي في رأسي منذ الطفولة، والقائم على مقولة، أن المجتمعات والأمم لا يمكن أن تتقدم أو تتطور، أو يكون لها أي شيء ذو قيمة، إلا إذا أراد أصحاب الطبقة المثقفة ذلك، وهي مقولة دفعتني للبحث في عقول المفكرين العرب وغير العرب عبر ما كتبوا وألفوا، وعبر ما أرخوا وسجلوا، فتركت "أرسين لوبين" و"أغاثا كريستي"، وهجرت الألغاز وقصص الحب الرومانسية، قاتلا بذلك عمرا من طفولتي، لأبدأ بـ"عباس محمود العقاد" و"الرافعي"، و"طه حسين" و"زكي مبارك"، فذهلت، ذهول موجة غادرت البحر لتستوطن صحراء قاحلة، كانت الانتقالة أكبر من حجمي وقدراتي، وأكبر من وعيي وتفكيري، فبدأت أَرْتَجُّ بين ما أحب وبين ما أريد وأتمنى، وظللت كذلك إلى أن جاء أستاذي ليقول لي: "لا تقفز من القفة إلى أذنيها"، عندها قررت فعلا أن أخرج من حالة الارتجاج إلى حالة التوازن، وقررت فعلا أن أُثْبِتَ لأستاذي ونفسي بأني قادر على القفز من القفة إلى أذنيها بالمثابرة والاستمرارية والإصرار.

وهكذا بدأت الرحلة، رحلة صعبة، أخذت من طفولتي وشبابي الكثير الكثير، وكنت كلما خطوت خطوة في أعماق الرحلة كلما ازددت عطشا وحيرة، فحاولت أن آكل الصفحات وأهضم الكلمات بسرعة تمكنني من السيطرة على كَمٍّ من الأفكار يتساوق مع رغبتي وعطشي، فأدركت بأنني كلما قرأت صفحة كلما ازددت عطشا وجوعا، وأدركت بأن هذا العطش يزيد كلما ظننت بأنك ترويه، وأن الجوع يتضخم كلما ظننت أنك تُقِيمُ أَوَدَهُ.

ولكني لمست بخبرة المقارنة بين الأفكار والعقول بأن المعركة القائمة بين المفكرين، إنما هي معركة بين مجموعة ترى في الشرق وديانته وعاداته وتقاليده ولغته مصدر فخر وعزة للأمتين العربية والإسلامية، ومجموعة ترى أن الشرق يحتاج إلى إحداث انقلاب كامل في منهجه العقلي، ومنابع تفكيره، كالدين والعادات والتقاليد واللغة، واستعارة جلد الغرب وإهابه، كي نتمكن من مجاراة الأمم الأخرى التي بدأت تخرج من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة، وهناك مجموعة ثالثة رأت التوسط بين المجموعتين السابقتين، فهي تطالب بمراجعة التراث العربي مراجعة تدقيق ومنطق، وكذلك مراجعة الفقه الإسلامي الذي يمكن أن يخضع للمراجعة والبحث والتصويب والتنقيح، مع الأخذ من علوم الغرب وثقافته بما يتناسب مع معتقداتنا وإرثنا الحضاري.

وقد كنت ميالا للمجموعة الثالثة ذهنيا وعاطفيا، ولكني لم أكن قادرا على بلورة فكرتي الذاتية ضمن قالب المجموعة الثالثة، وذلك لفقر في أدائي الاستنباطي لما أقرأ ولما أدوّن، فَرَكَنْتُ إلى المجموعة الأولى عَلَّني أستطيع من خلالها الانطلاق نحو مفاهيم المجموعة الثالثة يوما ما.

ولأني بغير شعور واضح أحمل بذاتي تعصبا للدين الإسلامي وتعصبا للأمة العربية، اندفعت بكل ما أملك من قوة في خضم المجموعة الثالثة اندفاعا يشبه اندفاع التيار الغاضب من جوف عاصفة هائجة، فتحدثت مع "العقاد"، وسامرت "الرافعي"، وجالست "أحمد حسن الزيات"، وسهرت مع "المازني"، وبكيت مع "المنفلوطي"، وعانقت "حافظ إبراهيم"، ووقفت احتراما وتقديرا "للبارودي"، وهاجمت "طه حسين"، وازدريت "قاسم أمين"، وودت لو أستطيع مقاضاة كل من يطالب بإحلال اللهجة العامية محل الفصحى مقاضاة جلاد يملك أسباب البقاء والفناء، وانعطفت نحو "زكي مبارك" و"أحمد أمين" وغيرهم كثير كثير، ثم يَمَّمْتُ بوجهي نحو الغرب.

فعرفت "غوستاف لوبون"، و"جيمس هنري براستد"، و"جان جاك روسو"، و"ديكارت"، ثم انطلقت نحو "جوته"، و"فولتير"، و"ديكنز"، ولكني ذهلت حين أمسكت بصفحات "فيكتور هيجو" و"دوستويفسكي"، وأصبت بالصدمة التي خلخلت توازني لفترة من الزمن حين عرفت "جان بول سارتر" و"ماركس"، ولكن الله العلي القدير أنقذني من شباك فكرهم البراق لحظة وقوعي على هَرْطَقاتِ "فرويد" وعُقَدِهِ النفسية الموروثة من عائلته الكريهة التاريخ والأخلاق.

وفي هذه الأثناء واللحظات الزاخرة بالتوتر والتوزع النفسي ساقني القدر نحو كتاب، كتاب مَلَكَ لُبِّي ونفسي، ومزق كل سواد قد يكون تبقى منه شيء بقلبي أو عقلي، كتاب رفع درجة يقيني وإيماني إلى أعلى سقف من الاعتقاد واليقين والتثبت، كتاب "قصة الإيمان" للشيخ "نديم الجسر"، وكان هو ذاته نقطة انطلاقي الجديدة نحو حجة الإسلام "الغزالي"، و"ابن تيمية"، و"ابن سينا"، و"ابن عربي"، و"إخوان الصفا"، وصدفة -محض صدفة- التقيت بـ"زكي نجيب محمود" و"كولن ولسون"، فكانا الاثنين رغم تناقض فكرهما مصدرا يوجهني نحو علوم المنطق والاستدلال العلمي المصاغ بنَفَس أدبي رقيق الطابع، مَخْمَلي الملمس.

ولم يمض وقت قصير حتى اندفعت اندفاع المحموم نحو مكتبة المسجد الجديد في "طول كرم"، فغرقت بين موسوعاتها وتفاسيرها، وهناك عانقت "سيد قطب"، و"حسن البنا" و"سعيد حوا"، و"محمد قطب"، و"خالد محمد خالد"، ولكني ذهلت حين وجدتني حيثما أتنقل أجد "العقاد" يُحَدِّقُ بي من خلال صورته التي تتوج مؤلفاته.

وكَبِرْتُ، وبدأت ملامح المرحلة السابقة تتضاءل في ذهني وإدراكي، ودون إرادة واضحة بدأت التوجه بشكل مكثف نحو القصة القصيرة والرواية.

فدُهشت، دهشة هزت كل مقومات شخصيتي من الجذور، حين شاهدت التاريخ المروي بعمق الألم عبر سطور كُتّاب تحس وأنت تقرأ لهم، عذاب روحهم، وانكسار حلمهم، وحيث تدقق في العَبَرات المُنْهَلّة من السطور وهي تبلل القلوب، وتغمر الروح، تجد نفسك محاصَرا بين ما كنتَ تعرف من كتب، وما تجد هنا من ألم وعذاب وقهر وكبت ولوعة وأسى.

عشت حياة "العم توم"، وقضيت مع "أحدب نوتردام" لحظات عمره العصيبة، وبكيت مع "كوزيت"، و"جان فالجان"، وانتقلت للمغامرة مع "الطروسي"، وجمعت العظام مع "مكسيم غوركي"، وأشفقت على "راسلينكوف"، وذقت معاناة "جين أير"، وتحدثت مع "سعيد حزوم"، ورأيت الشيطان الذي زار موسكو، وتنقلت من ضَياع إلى ضَياع في "سوهو"، ورافقت الرسائل التي خرجت من "منزل الأموات"، وأرهقني السفر في "سباق المسافات الطويلة"، وأذهلني وجود "رجال في الشمس"، وقبلت كف "أم سعد"، وأدهشني "اللاز"، كما حيرني "مصطفى سعيد" بخطوات "هجرته إلى الشمال"، وعرفت "كيف يسقى الفولاذ"، وقارنت بين "الحب والحرب" و"الحرب والسلم"، وعرفت "قصة مدينتين"، وأدركت معنى "الحب في زمن الكوليرا"، وكثير كثير.

كانت الرحلة شاقة، ووعرة، فيها من الصعاب ما لم أحسه لحظتها، وما لم أدركه حينها، فللكتب فعل في النفس يشبه فعل السحر، بل ويفوق كل أنواعه، وكانت المعاناة والحسرة تترسب في النفس والذات وتستقر، كترسب الموت البطيء في الجسد المُعَنَّى والمُلَوَّح، ولكن دون إشارة أو تنبيه لوجوده في الجسد المتقدم نحو مراحل لا يمكن العودة منها أو التراجع عن الاستمرار فيها.

وكانت أمي المسكينة، تنهرني أحيانا وتشتمني في أحيان أخرى، كانت تشفق على طفولتي وشبابي من الصدمة والدهشة، لكنها كانت تتراجع معلنة استسلامها الكامل وعجزها المطلق حين تمد يدها إلى صدرها لتخرج ما ادخرته "عن صدأ أسنانها" لتمنحني إياه من أجل شراء كتاب.

وكان والدي يعلن غضبه المطلق وحَنَقَهُ المؤجَّجَ من ارتباطي بالكتب وإهمالي للعمل، وكم من خلاف عسير نشب بيني وبينه حين كنت أفِرُّ من العمل لأعود إلى البيت لأغمس نفسي بين طيات الكتب وبين فواصل الحروف ومعامع الأحداث، لكنه في النهاية، وبإيحاء من أمي أعلن استسلامه وصمته.

في تلك الفترة، التقيت بمجموعة من الأصدقاء، كانوا يتنقلون بين الصفحات ويعيشون لحظات الألم والعذاب، بل وكانوا على موعد معي وكنت على موعد معهم.

وانغمسنا جميعا بحالة من الذوبان في عالم هُلامي، حين اعتقدنا جازمين بأن الكتب تمثل روح الإنسان، وأنها تملك قدرة فياضة على استخراج المصاعب والظُّلَم من الذات لتضعها في عقد من المشاعر المثالية التي يتمناها الكاتب أو الراوي أو القاص.

وفي الجهة المقابلة، كانت مجموعة أخرى من جيلنا قد اختارت العمل والعناء والمثابرة، ووضعوا لأنفسهم أهدافا محددة، تتعلق بالمال والمسكن والسيارات، وضخوا من طاقاتهم الفتية بأوردة أهدافهم سيولا من عرق متصبب، وثابروا مثابرة النمل والنحل، ولكن دون أن يعقدوا مع الكتب أي صلة، أو مع الفكر أي سبب.

وحين تقدم العمر قليلا، وجدنا أنفسنا على زاوية الحياة، مُفْرَغِينَ من أسباب العيش، متخمين بالأفكار والمبادئ، وحين توجهنا نحو البنوك، وجدنا ما نملك وما نحن متخمين به: "لا رصيد له على الإطلاق".

أما المجموعة الثانية، فكانت حساباتهم تبدو قُوَّتُها ومَنَعَتُها من سياراتهم البراقة، وجدران بيوتهم اللامعة، ومن احترام الناس لهم، وتَقَرُّب الجميع منهم.

وهنا كان الافتراق، وكان الخلاف، بين زمن مضى ولا يمكن ولا بأي شكل من الأشكال استرجاعه، وبين زمن نحن فيه عارين ومعرين إلا من بطون كتب وكلمات من شعر "عنترة" و"عمرو بن كلثوم"، وبعض آلام على ذكريات مضت وأوقات التهمتها خطى الزمن.

كان "يوسف سعيد أبو طوق"، الأول على المدرسة بلا منازع، بل وأكثر الطلاب قدرة على الانتقال من مرحلة في العمر إلى مرحلة أخرى دون عناء أو تعب، وكانت المدرسة بكل مدرسيها والتربية بكل موجهيها ترى فيه علما قادما للعالم في وقت قريب.

كنا نحسده ونغبطه، وكنا نغار منه ونتمنى له مستقبلا رائعا، وأحيانا كنا نتمنى أن تزول قدراته وتنتهي، بسبب إلحاح مدرسينا على ذكر اسمه بطريقة مستفزة، لكنه ومن بين كل التناقضات، كان يشق طريقه نحو البقاء في الصدارة، دون جهد أو تعب، بل بقدرات خفية تتركز في وعيه وعقله.

حتى جاء يوم، ووصلت بعثة من بريطانيا، وهي بعثة كانت تتخصص في التقاط الأطفال الأذكياء وذوي النبوغ في مدارس اللاجئين تحديدا، لتأخذهم عبر البحار والمحيطات وتَكْلأهم بعناية خاصة تنسيهم الوطن والدين، وتغرقهم بمبادئ حضارة الغرب وأعرافه وتقاليده.

ووقع الاختيار على "يوسف"، وطالبٍ آخر لم أعد أَذْكُر من اسمه إلا "فريد"، وثارت ثائرة الأم والأب، ورفضوا وبشكل مطلق خروج "يوسف" إلى عالم لا ينتمي للعرب والمسلمين، وظل يوسف في المدرسة...

إلى أن جاء يوم بصاعقة...

زلزلت المدرسة، "يوسف أبو طوق" ترك المدرسة، والده مات، وكان عليه كطفل في الإعدادية، أن يترك توقعات العالم له، وأن يزج بجسده الطري الناعم، وبخجله المفرط، وحيائه الموصول بحياء دائم، في أتون عمل بمنشآت كيان الاحتلال.

حاولت المدرسة، بكل ما تملك من طاقة، ومن أساليب الإقناع، إقناع والدته بإبقائه بالمدرسة، وتعهدوا باقتطاع مبلغ من رواتبهم بشكل شهري للعائلة، لكن حياء الأم وأنفتها دفعاها للرفض.

ها هو صديقي، ورفيقي، ومؤنس عذاباتي، "يوسف سعيد أبو طوق"، ملقى على حافة زمن لا يقيم للذكاء أو الحياء أو النبوغ بالا. ها هو يكافح كما كافح من أجل عائلته وأمه، ها هو يكافح من أجل زوجته وأولاده، وها هو الزمن يسير، دون أن يلقي بالا لمصيبة إنسان، كان الكون حقا يستعد للقائه.

وها هو "محمد الصويص" يقبع خلف طاولة في بقالة، وها هو "منتصر حبايب" يقطع الحواجز العسكرية بين "طول كرم" و"القدس" بين حياة أو موت من أجل انتزاع لقمة العيش وسط استغلال صاحب العمل وطمعه.

وها هو "سليمان عوض" يتنقل من مكان إلى مكان من أجل تدريس طلاب السياقة القوانين النظرية.

وها هو، وها هو...

وها أنذا ملقى على حافة الكون، في أقصى الشمال الأوروبي، أعاني الوحدة والانطواء، وأحمل في كل يوم ظلم الناس الذين مَلَّكْتُهُم أمري وروحي، وأمْرَ أولادي وروحَهم، أعاني ظلما يفوق ظلم الاستبداد الموصوف بالكتب والروايات، وأتجرع سُمَّ حقدهم وكرههم لكل من يقف ليقول لا، أو يقف ليسأل عن حق منحته إياه قوانين البلد.

أعاني ويلات لا يحتملها جبل، بل وتَنُوءُ بحملها الجبال والبراكين، فمرة أُهَدَّدُ بسحب أولادي مني ليوضعوا مع عائلة مسيحية، ومرة يوقف الراتب الشهري، ومرة يُقْتَطَعُ من الراتب مبلغٌ بحجج كاذبة مختلقة، ومرة نُترَكُ دون طعام أو حتى دون القدرة على الوصول إلى طبيب.

نعم، هذا ما جَنَتْهُ الكُتبُ علي، وهذا ما جناه عليَّ أساتذتي حين قالوا: بأن الثقافة هي التي تصنع الأمم.

الثقافة أيها السادة منحتني القدرة على التعبير، منحتني القدرة على الإفصاح، لكنها لم تمنحني حسب قول أبي وأمي "كرامة الامتناع عن الحاجة"، لأن زمن "عرق الشباب ودم الشباب وقرش الشباب الذي لا يعوض" حسب قول والدي -رحمه الله- قد وَلَّى وانْصَرَم.

وها هم المثقفون العرب، الذين حَلَمْنا يوما أن نصبح منهم، أو أن ندور بدائرتهم، مغلولين نحو ذواتهم ورغباتهم، ومنضوين تحت راية الظالم هذا أو ذاك، يَسْتَجْدُون ويَشْحَتُون ويَسْتَعْطُون، ويُحَوِّرُون المبادئ والقيم والدين من أجل مصالح كنا نتصور بأن الثقافة ذاتها ستقف حائلا بينها وبين شخصياتهم المنتمية للكتب والمبادئ الغاصة فيها.

سألني صديق يوما -وأنا أبوح له بمكنونات نفسي-: أهو الندم؟ أهي الحسرة؟ أهي اللوعة؟ أم هو الكفر بكل ما هو موجود؟

عجَزتُ عن الإجابة، ووقفتُ موزَّعا بين الذهول وبين كل ما قال، فأنا اليوم مُغَطًّى بالعجز والشلل، وملتحما بالحيرة والتساؤل، دون أن أملك القدرة على الإجابة.

***

مأمون أحمد مصطفى

فلسطين- مخيم طول كرم

النرويج: بدون تاريخ أو زمن

حين دلفت الى عالم البحث والدراسة في جامعة القاهرة، كنت حينها اعد نفسي امهر اقراني من الطلاب والطالبات، خليط، مصريون، وعراقيون، وجزائريون، وكويتيون، وشاء لي أن أسجل بحثي للماجستير بعنوان (نقد القصة القصيرة في العراق) وأخذت أشرع بكتابة البحث مع استاذي الناقد المعروف الدكتور جابر عصفور، وقد اشترط علي قراءات عديدة وترجمة فصول من بعض المراجع الانجليزية، ثم سلمته الفصل الأول، ثم كان اللقاء، فلاحظت أن ملاحظات استاذي كثيرة، وأنه كلمني بقدر من الحدة والحزم، فشعرت بحزن شديد، أدرك أستاذي ذلك مني، فقال لي، اسمع يا كريم: كنتُ الأول على قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، وسجلت بحثي في الصورة الشعرية عند الاحيائيين، وكانت تشرف على البحث الدكتورة سهير القلماوي، وكنت طموحا ومزهوا ـ كما تبدو أنت الآن ـ بقدراتي العلمية، وسرعان ما انجزت الفصل الأول، وسلمته لها، وكانت آنذاك رئيسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، وطلبت مني أن أعود اليها بعد اسبوع، كي توضح لي موقفها من الفصل الذي فرغت من كتابته بشهر أو يزيد، ولما ذهبت اليها، وبمجرد دخولي مكتبها، وقفت بغضب شديد، وصرخت بي بقسوة وعنف، وقالت: شوف يا ولد، خذ هذه الورقة واذهب الى مكتبة الجامعة الامريكية، واتصل بمدام فلانه، وخذ المراجع الانجليزية، وبعد أن تفرغ من ترجمتها عليك أن تعود الي. أخذ يشرح الدكتور جابر كيف خرج حزينا ثم سار ماشيا على قدميه الى المكتبة الامريكية، وكانت دمعة أو أكثر قد طفرت من عينيه، وحين وصل الى المدام أصرت وهي المصرية على التحدث معه باللغة الانجليزية، وكل الذي فهمه أنه استلم الكتب، ثم خرج بها بحزن أشد. بقي سنة كاملة يترجم ويتعلم، ثم ذهب الى استاذته وأخبرها أنه فرغ من ترجمة المراجع، عندها أخرجت له الفصل الذي كتبه، ثم سألته ماذا ستفعل بهذا الفصل؟ رد عليها: سأمزقه. ثم قالت له اسمع يا ولدي: أحكي لك حكايتي مع استاذي الدكتور طه حسين، فلقد ذهبت اليه وقد كتبت الرسالة كاملة، وأخذها مني، وحدد لي موعدا لإبداء ملاحظاته عليها، وحين ذهبت اليه في الموعد المحدد، وجدته قد وضع رسالتي على المنضدة، وقال لي بصوته الصارم ولهجته القاسية: يا سهير خذي رسالتك.. مزقيها!! وشرعت بتمزيقها، ثم قال اذهبي واكتبي من جديد !!

قهقه الدكتور جابر، وقهقت معه، وواصل حديثه: لقد قالت الدكتورة سهير القلماوي الا ترى ـ يا بني ـ أنكم تلاميذ آخر زمن !!(رحمهم الله جميعا).

***

الدكتور كريم الوائلي

أنفق الضابط الإنكليزي فيلكس جونز سبع سنوات من حياته في منتصف القرن التاسع عشر لوضع خارطة إدارية اقتصادية اجتماعية لبغداد ومحلاتها وأزقتها وشوارعها، احتوت على تقسيمات وحدود إدارية دقيقة وواضحة للمحلات البغدادية، كما تضمنت مسميات لتلك المحلات بقيت مستخدمة إلى يومنا هذا على الرغم من الطبيعة الاستخبارية لعمله الذي ترك بصماته حتى في تسمية بعض الجوامع والمقاهي البغدادية والأحياء الشعبية.

وبعد أكثر من قرن ونصف على خارطة جونز يتولى كفاح الأمين المولود في محلة باب الشيخ عام 1954 مهمة توثيق معالم الخارطة بالصور الفوتوغرافية، سيما وأنه وجد بعد العام 2003 أن الكثير منها قد اندثر، أو أنه في طريقه إلى الاندثار بسبب تعاقب الأيام والحوادث، أو بسبب التوسع العمراني العشوائي الذي سلب روح تلك المحلات وشوه هويتها البغدادية الأصيلة، فسارع إلى حمل كاميرته الاحترافية ليتتبع خطوات جونز ميدانياً، وبعد عامين من الجهد والتنقل والتجوال خرج بحصيلة كبيرة من آلاف الصور في محلات الكرخ والرصافة هي أشبه بدراسة فوتوغرافية أنثروبولوجية لكافة محلات بغداد القديمة وعمارتها وجوامعها وشوارعها وناسها. عوضاً عن ذلك فقد أنجز كتابه الفخم «يوميات بغدادية» الذي صدر في تسعة مجلدات لمناسبة مرور مائة عام على تأسيس الدولة العراقية، وبمجموع 1800 صفحة تحكي بالوثائق والصور حكاية بغداد بمنهجية كرنولوجية تعتمد تعاقب الأزمان وتحديد مددها وتسلسل حوادثها، فالمجلد الأول اختص بعشرينيات القرن الماضي فقط، أما المجلد الثاني فهو عن سنوات الثلاثينيات، وهكذا، وفي كل مجلد نجد كل ما يتعلق بمدينة بغداد من أحداث سياسية واجتماعية مهمة، وفنون وصحافة وسينما ومسرح ورياضة وطرائف وظرائف، فضلاً عن مشاهير التشكيليين والمصورين ومطربي المقامات.3164 كفاح الامين

عدا عن ذلك، فإن الكاتب والمصور والموثق كفاح الأمين يمتلك خزيناً من الوثائق والصور والصحف القديمة التي يمكن أن تكون نواة ممتازة لتأسيس المتحف الفوتوغرافي والوثائقي العراقي، مثلما يفكر بذلك ويتمنى أن يتحقق قريباً، ووثائقه وصوره تحاكي التاريخ الاجتماعي العراقي العام والبغدادي بشكل خاص، مما يوفر له فرصة قراءة مجتمعية معمقة وواقعية للمشهد العراقي في مائة عام بما فيه من مفارقات ومضحكات ومبكيات، ومنها تلك الوثيقة التي تؤكد أن الاقصاء والاجتثات والتطهير هو ديدن التفكير السياسي في العراق منذ عقود بعيدة، ففي أمر إداري صادر عن مديرية معارف لواء بغداد بتاريخ 26 آب 1958 أي بعد شهر ونصف من 14 تموز، يتم تأليف لجنة خاصة برئاسة مدير المعارف آنذاك لدراسة ملفات المعلمين والمعلمات الذين هم على الملاك الابتدائي المحلي للنظر في إقصاء من ترى اللجنة إقصاءه، تنفيذاً لقانون تطهير الجهاز الحكومي الذي أقره مجلس السيادة والذي ينص على اقصاء كل موظف لمدة خمس سنوات، أو احالته على التقاعد إذا تبين أن بقاءه في الخدمة مضر بالمصلحة العامة!. ومن مفارقات السياسة العراقية المؤيدة بالوثائق أن عبد الكريم قاسم قد أزاح الشيوعيين عن الحكم والمناصب بعد محاولة اغتياله، وأعاد الضباط البعثيين والقوميين أمثال حردان التكريتي وعارف عبد الرزاق وسعيد صليبي إلى الجيش والطيران، وهم الذين انقلبوا عليه في 8 شباط عام 1963!، أما عبد السلام عارف الذي كان في زيارة لمدينة الناصرية فإن جريدة الزمان الصادرة في 12 آب عام 1958 تنشر بالبنط العريض تصريحه الذي يقول فيه «سأموت في سبيل عبد الكريم قاسم»!. وتنشر جريدة الجمهورية في 12 أيلول 1958 لقاءً مع فؤاد الركابي، وهو أول أمين سر للقيادة القطرية لحزب البعث في العراق، لكن بصفته قائداً في المقاومة الشعبية التي طالب بتشكيلها الحزب الشيوعي العراقي!. وماذا عندك بعد أيها الأمين من كنوز وثائقية غير هذه المفارقات العجيبة الغريبة في السياسة العراقية؟. في عددها الصادر بتاريخ الخامس والعشرين من نيسان 1961 تلتقي جريدة الزمان بالدكتور عبد الجبار عبد الله رئيس جامعة بغداد بعد عودته من نيويورك معرباً عن أمله في افتتاح أول فرع لتدريس الصحافة في الجامعة خلال السنة الدراسية القادمة: « أثناء وجودي في نيويورك اتصلت بقسم الصحافة في جامعة نيويورك، وهو قسم مشهور بأنه من أقوى الأقسام التي تغذي الصحافيين في أمريكا، ودعوت رئيس القسم إلى المجيء إلى بغداد، أما هو شخصياً أو انتداب أحد الأساتذة الذين يختارهم بنفسه لأجل وضع منهاج وخطة كاملة لتأسيس قسم الصحافة في كلية الآداب. وما أزال انتظر أن تتم الموافقة النهائية على استقدام هذا الخبير، فإذا تمت خلال العطلة فمعنى ذلك اننا سنبدأ بتدريس الصحافة في العام القادم».

يحمل كفاح الأمين، ابن محلة باب الشيخ التي يصفها بأنها جوهرة بغداد وتنوعها الثري، شهادة الماجستير من كلية الصحافة بجامعة موسكو، لكنه يحمل معه دائماً الأهم من ذلك كله، صندوقا خشبيا عتيقا أشبه بصندوق العجائب السحري، يحتوي على وريقات صفر، وصور فوتوغرافية بأحجام صغيرة، وبعض الإطارات والدبابيس والقراصات التي قد يحتاجها في ربط وثائقه وهو خارج البيت، بانتظار أن يتحقق حلمه الكبير في إنشاء متحفه الذي سيعرض من ضمن مقتنياته الكثيرة، صور خارطة فيلكس جونز، وصور كتاب «يوميات بغدادية» بأحجامها الطبيعية، التي أنجزها بجهود فردية، وبرؤية فنية وجمالية ولونية رائعة، تعكس حبه لمسقط رأسه، ومحط هواه.

***

د. طه جزّاع - العراق

 

تمّت محاورة أدبيّة، بيني أنا (عبدالإله الياسريّ) في كندا وبين الأستاذ (أيمن عبدالله عبّاس) في العراق، قبل بضعة أشهر، ليذيعها على الملأ مشكوراً. ثمّ تعجّلت أنا اليوم (٣أيّار/مايس ٢٠٢٣م) في نشرها بعد أن استأذنته، حيث لم أجد بدّاً من التعجّل، لأني وجدت فيها مايُغنيني عن إالإجابة عن أسئلة مماثلة، طرحها عليّ أحد طلاب الماجستير، في قسم اللغة العربية، (مروان العزاوي)، بواسطة الدكتور (مهنّد عبد العظيم الياسريّ) . ولولا طمعي في أن تكون لهذه المحاورة فائدة خاصة في بحث الطالب السائل، وفائدة عامة في الأدب العربيّ، لما تعجّلت في نشرها. ودونكم ــ أعزّائي القرَّاء ــ النص الكامل لتلك المحاورة التي دارت بيننا:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(من الأستاذ أيمن عبدالله عباس بالبريد الإلكتروني الخاص):

(الاستاذ عبدالاله الياسري المحترم. السلام عليكم ورحمة الله.

(...) بتاريخ (21/8/2022م) تشرفت بمقابلة شخصية (عبر منصات التواصل الاجتماعي) مع الشاعر العراقي المغترب الاستاذ عبدالاله الياسري وفرصة اتاحها لنا الشاعر مشكورا لتسليط الضوء على أبعاد تجربته الابداعية الممتدة عبر أكثر من خمسة عقود، وكانت محاور الحديث وفق الرؤية الأتية: -

المحطة الأولى / السيرة الذاتية منذ البدايات وحتى لحظة (هنا والآن) ...

المحطة الثانية / السيرة الشعرية ورحلة التجربة وصولا الى الديوان الاخير ...)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأجوبة الكاملة على أسئلة المحطة الأولى / السيرة الذاتية:

ــ سألني الأستاذ أيمن عبدالله عبّاس:

(س١ - عبدالاله الياسري الانسان منذ الولادة وحتى اللحظة ؟ كيف تصف محطاتك الكبرى وهي تتحرك مع العواصف الطارئة ومواسم الجفاف المطبق أحيانا ومن ثم النفوذ الى العالم الأرحب من خلال الاغتراب والتطواف في بقاع العالم ؟)

ــ أجبت أنا عبدالإله الياسري عن سؤاله:

أوّلاً ـ في العراق (من ١٩٥٠م حتى ١٩٧٩م):

ـ وُلِدت في سنـة خمسين وتسعمائة والف للميـلاد (١٩٥٠م) في قرية (طُبَر سيـد نور) في ناحية المشخاب التابعة لمحافظة النجف. وسيد نور هو جدي الثاني الذي كان يحظى في الفرات الأوسط بنفوذ اجتماعي كبيرلأسباب دينية ووطنية ومالية. (1)

ــ هاجر والدي سيد تكليف الى مدينـــة النجـف في أواخر الأربعينيّات من القرن المنصرم طلباً للعلـوم الدينيــة. وما أن ألحق به أسرته حتّى شرع يفكّر في أن يعدّني لميدان العلوم الدينيّة، فأوكل أمر تعليمي إلى الكُتّاب لحفظ القرآن إلا أنّ استعمال العنف في طريقة التعليم فيه لم يوافق ما ألفته من حنوٍّ وإشفاق في تربيتي العائليه، فأضربت عن الدرس احتجاجاً عليه، فعدل والدي عما كان يفكر به، واضطر إلى أن يسجلني في مدرسة"منتدى النشر"وهي مدرسة أهلية في النجف تجمع بين التعليم الديني والتعليم الرسمي الحكومي، لكنه بعد تغيّر النظام الملكي في العراق (١٩٥٨م)، آثر أن ينقلني إلى مدارس الدولة الرسمية.

وتجب الإشارة هنا الى أن "منتدى النشر" كانت ثمرة من ثمرات التيار الديني الوطني المعقلن الذي كان يشكل خط التنوير مقابل التيار الديني التقليدي في النجف. وكانت لوالدي صلات وثيقة بأعلامه التنويريين. وقد مكّنتني تلك الصلات من ان أتعرف إلى أكثرهم، وأتنوّر بافكارهم المناهضة لجمود التيار الديني التقليدي الغالب بقوته المالية والبشرية وبإغضائه على الصراع السياسي بين نضال الوطنيين العراقيين وقمع النظام الملكي لهم في النجف قبيل العهد الجمهوريّ. ولمدينة النجف مؤثرانِ أساسييان في تكويني الفكري؛ تبلورا عندي فيما بعد الى نزعتين فكريتين. الأولى نزعة للتحرر من السلطة الدينية (والتحرر منها لم يكن يعني التحرر من الدين بل تحرير الدين من هيمنتها التي حوّلته الى أداة ظلم واستبداد) . والأخرى نزعة للتحرر من السلطة السياسية التي تستعبد الناس وتقتلهم بدلا من أن تخدمهم وتحميهم. (2)

ـ كان والـدي المعتمد على الزراعة في عيشه فقيراً أو كالفقير، لأنه لم يُعنَ بشؤونها. ولم يكن عيش معظم رفاقه في الدرس الديني باحسن منه حالا، على الرغم من وجود طبقة علمية دينية اخرى تعيش حياة ملوكية منعمة. وهذا التفاوت الطبقي ليس بغريب على مجتمع النجف. ونتيجة له، كنت أشعر بالحرمان؛ لكن مجد جدي سيد نور الذي كان مسؤول النجف الإداري (قائمقام النجف) في العشرينيات (3)، وقصره المنيف الذي كنا نسكن فيه، قد عوّضاني عن ذلك الحرمان وأشعراني بالغنى المعنوي. ولقد علمتني جدلية الفقر والغنى فيما بعد، كيف يمكن أن يعيش الإنسان فقيراً وغنياً في وقت واحد. وصانتني من سقوط الفقراء لأنني غنيّ، ومن سقوط الأغنياء لأنني فقير. فأنا لم أكن أملك شيئا لكني لم أكن محتاجاً إلى شيئ. وفي عــدم التملـك الشــخصي والحاجــة الى الغيــر إنعتــاق من قيــــد المملوكيـــة والإستعباد. وعلى الرغم من دخولي سلك المدرسة الحكومية لم يهمل والدي تعليمي الديني والأدبي بنفسه حيناً وبغيره من أصحابه حينا آخر. على أيّة حال أتـممت في النجف تحصيلي المدرسي الإبتدائي (١٩٦٣م) فالمتوسط (١٩٦٦م) فالإعداديّ (١٩٦٨م) . وواصلت تحصيلي الجامعي في كلية التربية (دار المعلمين العالية سابقاً) في بغداد، وتخرّجت في قسم اللغة العربية في سنة اثنتين وسبعين (١٩٧٢م) حاصلا على شهادة البكالوريوس ثم سِيق خرّيجو الجامعات من دورتي للخدمة العسكرية الإلزامية؛ وكنت واحداً من أولئك الخرّيجين المساقين جنوداً إلا أنّ معاملتي السيئة في الجيش، لعلم مخابراته بعدم سيري بخط الحزب الحاكم يومذاك، قد ميّزتني عن أكثرهم؛ ، فضُيِّقَ علَيّ كلّ التضييق، وكدت أُعدم إلا قليلا. (4)

ـ تسرحت من الجيش العراقيّ صيف سنة ثلاث وسبعين (١٩٧٣م) وعُيّنت مدرّساً لمادة اللغةالعربية في ناحية نائية من نواحي محافظـة القادسيـة ثمّ نُقلتُ مغضوباً عليّ من مدرسة إلى أخرى أكثر من مرّة حتى نُقلتُ إلى إعدادية مسائية في النجف في سنة (١٩٧٨م) . ولم تَطل مداومتي فيها إلا أشهراً قليلة ؛ إذ انقطعت عن مزاولة التدريس بعد أن قررت سلطة الحزب الحاكم"تبعيث التعليم"في العراق، فأمسى كل من في سلك التعليم بين أمرين. إمّا الإنتماء لحزب البعث الحاكم، وإمّا ترك مهنته التعليمية. فاضطررت مكرهاً إلى أن أهاجر من الوطن في صيف ١٩٧٩م خلاصاً من ذلك الإضطهاد السياسي؛ حيث جعلني رفض الإنتماء في صف أعداء الحكومة التي رفعتْ بوجه المواطنين شعارها المشؤوم: "من ليس معنا فهو ضدنا". هذا السبب الأول لهجرتي وهو تعليمي محض. واما السبب الثاني فهو أدبي ؛ لأنّ سلطة الدولة حوّلت أغلب الأصوات الأدبية إلى طبول وأبواق لتأييد سياستها والترويج لها ؛ وقد أبيت أن أنحو نحوهم، وأصررت أن أظلّ، كما خُلقتُ، إنساناً حرّاً. ولا أكاد أفهم كيف يمكن للمعلم المربي والأديب المثقف أن ينتمي إلى حزب ربط مفهوم التعليم والأدب بالسياسة، وحياة االمعلمين والأدباء بالسير في ركبه الإيديولوجي إجباراً. ؟ (5)

ثانيا - في الخارج (من ١٩٧٩م حتى ؟):

حـللت في المغـرب الأقصى سنة تسع وسبعين (١٩٧٩م) وحاولت أن أتمّ دراستي العليا هناك. ولما علمت أن من شروطها موافقة السفـارة العراقية في الرباط آنذاك؛ عدلت عن محاولتي، لأني أعرف السبب والنتيجة . بعد ذلك عملت مدرساً لمادة اللغة العربية في إحدى ثانويات المغرب بعقد شخصي مع وزارة التربيـة والتعليــم المغربيــة، وشعــرت بالحريــة في مهنتــي التربوية، وفي حياتي الشخصية اليومية أيضاً غير أن هذه الحرية النسبية لم تستمر طويـلا إذ سـرعـان ما اندلعت الحرب العراقيـة ـ الإيرانيـة في الثمانيـن (١٩٨٠م)، وتعقدت الإجراءات المغربية بازاء إقامة العراقيين المعارضين للنظام العراقي الذي كان يحاول أن يسدّ عليهم الطرق في الخارج، ليعودوا إليه خاضعين أملاً بتصفية الحساب معهم. ثم انتهت بي هذه الظروف السياسية العربية (أنا وزوجي المغربية واولادي الثلاثة) الى مغادرة المغرب مكرهاً إلى كندا طالباً حق اللجوء السياسي في سنة تسع وثمانين (١٩٨٩م) (6) . وعندما سألتني قاضية الهجرة الكندية في المحكمة: "ماذا تطلب من كندا؟"قلت: "كرامة الإنسان لا غير". وحصلت فعلاً على ماطلبت، وسرَتْ عليّ وعلى أفراد أسرتي كافة الحقوق والواجبات التي تسري على المواطنين الكنديين وانتهت ازمة الحرية في العراق وازمة الإقامة في البلاد العربية، لتبدأ أزمة جديدة في مغتربي الكندي وهي ازمة العمل فضلاً عن اللغة وتباين التقاليد وأشياء أخرى. وأشهد أني لم أعرف وجودي الفردي إلا في كندا أعني الحرية الشخصية؛ حيث لاوجود للفرد في العراق ولا في البلاد العربية مع وجود الهيمنة الجماعية. وعلى الرغم من إغراءات الحياة المادية الكندية التي أنست كثيرا من المهاجرين اوطانهم وثقافاتهم، فاني ظللت ناشطاً في كل المناسبات الثقافية والسياسية المناهضة للدكتاتورية في العراق. ولقد ساهمت في التسعينيات مع نخبة من الوطنيين العراقيين في تآسيس مجلة "آصداء" في كندا، وفي دعم مجلة "عشتار" في استراليا، ومجلة "المنار" في السويد، وساهمت مع المفكر الوطني هادي العلوي بسوريا في تاسيس "جمعية بغداد" لمساعدة العراقيين داخل العراق وخارجه وفي تاسيس "لجنة الدفاع عن الرافدين"ضدّ المشروع التركيّ العدواني، وفي دعم "صندوق المثقفين العراقيين"في الخارج، وفي غير تلك من النشاطات الوطنية والإنسانية. ولقد نشطت في نشر شعري ونثري في الصحافة العراقية المهجرية في السويد وبريطانيا وهولندا وكندا واستراليا وفي سوريا مقارعا النظام السابق نظرياً وعملياً باسمـي الصريــــح الكامل. وكنت واحداً من العراقيين القلائـل الذين وقفـوا بعـد سنة إحدى وتسعين (١٩٩١م) ضد الحكومة الإمريكية في فرض الحصار على العراق وضد الحكومة العراقية في استبدادها في آن واحد؛ اذ انقسم العراقيون في الخارج بين مؤيد لإمريكا ضد نظام صدام أو مؤيد لنظام صدام ضد إمريكـا وقلَّ من جمع في احتجاجه بين الإثنين؛ بعد أن صار الغـرب الأوربي ـ الإمريـكي ساحـة واسعـة لمن هبّ ودبّ من مدعي المعارضة ضد الدكتاتورية في العراق وقتذاك غير ان تلك المعارضة لم تكن عراقية وطنية حقّاً بمفهومي الوطني الخاص؛ لأنها وضعت نفسها في موضع الشبهات حين تحالفت مع الأجنبي على غزو بلدها (العراق) وتقسيمه. ولهذا لم أَمِل اليها أنا ولا أمثالي من العراقيين الوطنيين بعد معرفة هذه الحقيقة المؤسفة. (7)

بعد سقوط النظام الدكتاتوري في بغداد في السنة الثالثة بعد الألفين (٢٠٠٣م) عدت الى العراق أملاً في أن أعود الى مهنتي التدريس وأعيش في وطني حتى موتي غير أنّ الحكومة الجديدة السائرة في تنفيذ مخطط الاحتلال الإمريكيّ وضعت مالم يخطر ببال من العوائق المصطنعة أمام العراقيين العائدين الى الوطن من غير المرتبطين بها، لكي يخلو لها ولفسادها الجو. ومهما يكن، فإني حاولت أن أصف حياتي صادقاً. وهل يصدق وصفها دون أن أصف البيئة العراقية التي نشأت فيها، والبيئة العربيّة والغربية التي أقمت فيها؟. وكيف لي أن أصفهما على وجههما الصحيح بكلمة اقتضت الظروف أن تكون مقتضبة جداً ؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٢ – من هو الشاعر ؟ ما هي مؤهلاته الخاصة وكيف تصف حساسيته ونفوذ البصيرة التي يتمتع بها وهل هي شرط في شعريته ؟)

ــ أجبته: لايكاد يقوم تعريف الشاعر وتصنيفه منطقيّاً، على اجتماع صفاته وخصائصه؛ لأنّها في عدم محدوديتها غير موضّحة لمعناه الكلّي. وهو ليس غير محدود الصفات والخصائص وحسب؛ وانما يتفاوت تعريفه بناءً عليها من مفهوم لآخر. فالشاعر عند إفلاطون هو اللامثالي الكائن في الظل وعند أرسطو هو المبدع المحاكي، وعند فرويد هو الحالم. وفي ماقبل الإسلام هو المحامي عن القبيلة، وفي الإسلام هو المؤمن الصالح. والشاعر في المفهوم الرمزي هو غير الشاعر في المفهوم الكلاسيكي أو الرومانسي أو الواقعي. وفي الشعر الغنائي هو غيره في الشعر المسرحي إلى آخره من المفاهيم المتباينة في تاريخ النقد الأدبي. فهذه المفاهيم المحدودة لاتحتوي معرفة الشاعر على وجهه الصحيح ؛ لأنه غير محدود المعنى. وهيهات أن يحتوي المحدود اللامحدود. فالشاعر هو الشاعر في أحسن تعريف لماهيته.. أما مؤهلاته الخاصة، فيمكن تقريبها لاحصرها، وأوّلها الإلهام الذي حسبته الأساطير اليونانية هو صلة الشاعر بآلهة الفنون، وحسبته العرب في عهدها الأسطوري هو شيطان الشاعر وسر عبقريتة (نسبة الى وادي عبقر الذي يسكنه الجن) أي أن الإلهام مصدر موهبته. ولا شعر من دون موهبة فضلا عن المؤهلات الأخرى مثل القدرة الخيالية والتصويرية التي هي روح الشعر لاسيما القديم منه والقدرة الموسيقية في التعبيركذلك، ومثلهما قدرته على لغة العاطفة التي هي لغة الشعر، مقابل لغة العقل التي هي لغة النثر؛ غير أن الشاعر الحديث ركزعلى التلميح بالأفكار عن طريق الصور لا التصريح ظناً أن قوة الشعر تتمثل في الإيحاء الذي تكمن فيه الإشعاعات للألفاظ اللغوية. وأما الحساسية الشعرية، فهي تختلف من شاعر لآخر بالدرجة أو بالكيف. وهي المعيار الذي يُميز به الشاعر من غير الشاعر. وقد يكون الشاعر بمعيار الحساسية الشعرية شاعرا؛ ولكن لاوعي له ولابصيرة. والوعي والبصيرة من شروط الشعر العظيم . وشعراء العرب الكبار، انطلاقاً من مفهوم الحساسية الشعرية شعراء كلهم، ولكن ليسوا شعراء وعي وبصيرة كلهم مستثنياً القليل منهم كأبي العلاء المعري، لأن أكثرهم روّضوا أنفسهم لجرعربات الدولة وشاركوها في طغيانها وجورها؛ إنما الشاعر الشاعرعندي هو من يتجاوز جمال الفن إلى جمال الموقف الإنساني . ذلك هو الشاعر الخلاق الذي يخلق نفسه كما يخلق قصيدته مقاوما لذائذ الجسد وهاجس المال والشهرة، ومتجاوزاً ترغيب الحاكم وترهيبه. إن مسؤلية الشاعر مرّكبة، لأنه لايسئ الى نفسه حين ينحرف عن طريق الحق والخير والجمال وحسب، وإنما يؤثر انحرافه في الناس حين تسمع شعره أو تقرأه، فيسئ إليهم كما أساء إلى نفسه (8)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٣ - ما الفارق بين الانسان العراقي في الداخل والخارج ؟ وما هي الآفاق التي تفتقت عنها رحلة الاغتراب في صقل السمات الانسانية وتهذيب خبرة التعايش مع المحيط الانساني وبعيدا عن المحددات الشرقية والقيود والمسميات (الدين، العرق، الطائفة، اللغة ...) .)

ــ أجبته: انّ الانسان العراقي في الداخل لايقل إبداعاً عن الإنسان العراقي في الخارج الذي مافتئ يشارك في الميادين العلمية والفنية والسياسية وغير تلك من المظاهر الحضارية خصوصاً في أوربا وفي إمريكا الشمالية. لذا أعتقد أنّ الفارق ليس بين جوهر الإنسانين داخلياً وخارجياً، وانما بين المؤسستين السياسيتين اللتين تحكمهما. إنّ الإنسان العراقي في الداخل تحكمه مؤسسة سياسية مرتبطة بالمؤسسة الدينية، وتجمع المؤسستين مصالح مشتركة وأهداف واحدة. وعندما يرتبط الدين بالسياسة، بسلطة الدولة تحديداً، تفرض مؤسسته واجبات على المواطنين من الأديان الأخرى التي تسميهم الأقلية، ولاتساويهم في الحقوق مع الأكثرية التي هي على دينها، فيشعروا، بهذا التمييز الديني، في أحسن الأحوال، أنهم مواطنون من الدرجة الثانية أو دونها؛ فضلا عن أن المؤسسة الدينية لها تفسير واحد للنص الديني، وتحاول من خلال سلطة الدولة فرضه على كل المواطنين.، ولايحق لأي عقل أن يرى غير ذلك التفسير الواحد. وهكذا يصبح الإنسان العراقي في الداخل تحت ضغطين: ضغط التمييز الديني إن كان من أقلية دينية أخرى وضغط القمع الفكري، إن كان من المثقفين المتنورين. إذاً هو في الداخل ليس مواطناً له حقوق وحرية تامّتان في وطن ؛ وإنما هو في سجن إيديولوجي اسمه (وطن) . يطالبه فيه السجان بالخضوع والطاعة كل يوم. وإن لم يطع ويخضع فالإتهامات، كالكفر والإلحاد والإرتباط بالأجنبي، جاهزة لإعلانها ضده. وعندما تصادر المؤسسة الحاكمة المساواة في الحقوق والحرية الفكرية بين المواطنين؛ تقلّ مشاركتهم الإبداعية في ميادين الثقافة والحضارة أو تنعدم . وما من شك في ذلك. وهذا الإنفصال التاريخي بين الحاكم والمحكوم في العراق هو مايؤكده واقع المؤسسة الإستبدادية الحاكمة في الداخل الآن، وهو على العكس من واقع المؤسسة الديمقراطية الحاكمة في الخارج والمبنية سلطتها على أساس مساواة المواطنين في حقوقهم وعلى أساس الحرية في التعبير عن آرائهم، ليبدعوا في ميادينهم المختلفة ويصنعوا المستقبل بإبداعهم. وإذا لم يكن الفارق في المؤسستين الحاكمتين جدلاً، فما سبب اختفاء القضايا الخلافية بين العراقيين في الخارج ؟ولماذا يعيشون في الخارج على اختلاف أديانهم وقومياتهم بسلام في حين يختلف أهل الدين الواحد، والمذهب الواحد، وأهل القومية الواحدة، في الداخل، اختلافاً شديداً إلى درجة تبادل الإتهام بينهم وسفك الدماء؟. وقد يقول قائل: إن الحكومة في العراق ديمقراطية الآن، لانها جاءت بانتخابات المواطنين. أقول: الديمقراطية تربية وثقافة تبدأ من روض الأطفال والبيت والمدرسة، وتحتاج إلى تنظير مفكرين عظام وممارسة فعلية. أما الديمقراطية الحكومية في العراق، فهي اسم آخر للدكتاتورية. وهي شعارات وواجهات لاغير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٤ - من هي المرأة في فكر الياسري ؟هل هي بؤرة الضوء المستعصية عن الاحتواء ؟ كيف تروضها ؟ وهل لعالمها تخومه الخاصة أم هو ذلك العالم المنفتح على الآخر ؟)

ــ أجبته: هذا السوال مهم ومفيد جدا، لأنه يطرح مايتعلق باهم مشاكلنا الاجتماعية المسكوت عنها ثقافياً أواللامفكّر فيها جدياً. وهو سؤال مركب من مفهومين عن المرأة: الأوّل تسلّطي ذكوري قديم والآخر إنساني معاصر جديد.. واعترف أن نظرتي للمرأة قبيل نضوجي الفكري في شرخ شبابي كانت تتضمن المفهوم الأوّل، على الرغم من أنها كانت مختلفة عن نظرة الرجل التقليدي بالدرجة لا بالنوع. وقد اكتسبتها من بيئتي العشائريّة المصبوغة بالدين، وأنا ابن بيئتي الذكوريّة، ولست وليد فراغ، لكني حين سعيت إلى خلق نفسي من جديد متأثراً بحركة التنوير الفكرية تغيرت نظرتي إلى المرأة ونظرتي الى الرجل العربي أيضاً. إذ رأيت، من جانب، أن المرأة ليست وسيلة كما هو سائد في مجتمعي وإنما هي غاية إنسانيّة لما هو أبعد من مفهوم الجنس والإنجاب. وهي ليست جزءاً منفصلاً عن وحدة الإنسان أي ليست جسداً لهدف بيولوجي وحسب؛ وإنما هي النصف الإنساني الآخر. وحين تلتقي هي والرجل يكونان إنساناً واحداً في لقائهما الجسدي والروحي والعقلي. وإذ رأيت، من جانب آخر، أن الرجل العربي مزدوج السلوك في علاقته بالمرأة ؛ لأنه يطالبها بالحصانة والعفة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؛ وهو، في الوقت ذاته، يبيح لنفسه الحرية الجنسية المطلقة. فكيف يمكن للرجل المثقف، مثلاً، أن يحتج على ماتقرره سلطة الدولة المستبدة مبتغياً الإصلاح، وهو يطالب المرأة، في الوقت نفسه، أن تخضع لما تقرره سلطته الذكوريه المستبدة. ؟ لقد فكّرت في هذا الأمر طويلاً مقاوماً أنانيتي االذكورية، وازدواجيتي السلوكية بإزاء المرأة أشدّ مقاومة حتي تحررت من أكثر قيودي المكتسبة تحرراً نوعياً، وتجاوزتها رائياً أن ماهية المرأة العظيمة لاتكمن في شكلها، بل في جوهرها الإنساني الخلاق، وفي قدرتها على خلق الحاضر بالوعي والإرادة وتخطيه إلى المستقبل الأمثل. فلم أعد أنظر إليها بعين الأمس، بل أصبحت أنظر إليها بعين من يعيش في القرن الواحد والعشرين. أريد لها ماأريد لنفسي. وأريد لها أن تكون شريكتي في الحياة، ورفيقتي في طريق التغيير والبناء. (9)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٥ـ العراق؟صفه ؟ضع يدك على العيوب برفق ثم اقترح لأزماته المزمنة والمستعصية حلا؟)

ــ أجبته: العراق هو العراق. وإنّ الكلام ليضيق في وصفه لسعة معناه، ولانهائية ضفافه. أما عيوبه بل أزماته، فهي محصورة في تاريخه الحديث، بمفهومي الخاص، في ثلاثة أسيجة مغلقة، تمنع الإنسان العراقي من أن يخرج منها فعلاً، وحتى من أن يفكر بالخروج منها نظراً. وأعني بهذه الأسيجة سلطة الدولة المعلن عنها رسمياً، وسلطتين أخريين غير معلن عنهما رسميا . وهما سلطتا الدين والذكورة اللتان لاتكادان تقلان خطورة عن سلطة الدولة في ترسيخ الأزمات السياسية والفكرية والإجتماعية. وللأسف أنّ أغلب المصلحين العراقيين أكدوا على خطورة سلطة الدولة دون التأكيد على خطورة السلطتين الأخريين المذكورتين جهلاً أو خوفاً من أن يُتهموا بالشيوعية والإلحاد وغيرهما من الإتهامات الجاهزة ضد كل مصلح وطني غيور على العراق. ولو كان الأمر مقصوراً على سلطة الدولة وحدها، لتغيرت الحال بتغيرها. وكم من سلطة سياسية تغيرت في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية في العشرينيات من القرن المنصرم والحال العراقية مازالت هي الحال من حيث الكيف. لماذا؟. لأن التغيير السياسي الفوقي لم يمسس الأساس عملياً. أعني بالأساس أولاً وضع المرأة العراقية الذي لايعبر عن العصر الذي تعيش فيه. وثانياً تدخل المؤسسة الدينية في السياسة بحيث أفسدت العلاقات الوطنية بين العراقيين. وأكرر أن الدين يجب إحترامه والدفاع عنه؛ ولكن يجب الوقوف ضد تسييسه وتوظيفه للتسلط على الناس. وتضاف إلى هذه الأزمات"المزمنة والمستعصية" أزمة الهيمنة الإمريكية والإقليمية على العراق منذ ٢٠٠٣م. وأما الحل للخروج من هذه الأزمات التي سميتها الأسيجة المغلقة ؛ فهو بيد الشعب العراقي. هو المفكر الوحيد القادر على اقتراح الحل بالوعي العميق والإرادة الوطنية والتجربة النضالية العراقية. إنما أنا مازلت تلميذاً في مدرسة الحياة أتعلم معاني النضال والثورة من الشعوب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الأجوبة الكاملة على أسئلة المحطة الثانية / السيرة الشعرية:

ــ وسألني الأستاذ أيمن كذلك:

(س١- كيف كانت البدايات الشعرية للياسري ؟ بمن تأثرت ولمن قرأت وتقرأ ؟)

وأجبت أنا عبدالإله عن سؤاله:

لاأكاد أَذكر متى تولّعت بالشعر؟أو كيف؟ أو لماذا؟، ولكنّني أذكر أنّ كــلام البيئة النجفيّـة التي نشـأت فيها كـان ممزوجـاً بالشـعـر. وهي بيئـة لا تبعـد عن الكوفـة والحيـرة مركزي الشـعـر العربيّ القديم سوى بضعة كيلومترات. وأذكـر أيضاً أنّ حافظتي كانـت تخـزن كلّ ما يُمتعني ممّا تفيض به موارد الشعـر في تلـك البيئة؛ ثمّ بدأ ذلك المخزون الشعـريّ ينبجس على شفتيّ بيتاً مفرداً حيناً، أو نتفة شعرية حيناً آخر. ومن تلك النتف الشعرية، في أوّل الصبا، قولي:

حتى متى أقضي حياتي بين عيبٍ أو حـرامْ؟ ماانفـكّ يُطعمني أبي وعظاً ويَسقيني مَـلامْ.

ولم أكد أَبلـغ درجة القطعـة الشعـريـة في النظـم حتّى اكتشـف معلّمي الشيـــخ محمّـد جعفــر الكرباسيّ باكورة شعريّ وأنا في الحادية عشرة من عمري. فعرفت أني لا أُقرزم، وإنما أقول شعراً؛ إذ عُنيَ بها تنقيحاً، ونوَّه بها عند صاحبه والدي، واستحثّه على أن يُعنَى بشاعرية ولـده. غيرأنَّ والدي الشاعر المتفقِّه تَطيّر من الخبر، وصار ينهاني من قرض الشعر ويحذّرني من عواقبه؛ لكني مضيت أقرضه رغباً به، رغم نهيه وتحذيره، حتى استقامت لي القصيدة العربيّة وأنا في الرابعة عشرة. ولقد كانت موضوعاتي في ذلك الوقت، رغم شكلها الشعري التقليدي، تعكس تجربتي الطفولية الخاصة، ومافي تلك التجربة من شعور حادّ ومعرفة حسيّة بعيدة عن التجريد العقلي. ومن بواكير شعري في عام 1964م قصيـدتي"غضب الـسماء"التي شرعت أخاطب فيها المطر الذي انصبّ وابلاً على بساتين النخل في غير أوانه، فأتلف ماأرطبت به الأعذاق، وقطع عن أهليها رزقهم في تلك السنة. ومنها هذه الأبيات:

هذا هو الخير منـك الآن تنهمـــرُ؟*** فأين قد كنـتَ قبـــل الآن يامطـــرُ؟

مــاذا فعلـتَ بقلـب مثلــج فـرحـاً ؟*** أَضحتْ سـيـولـك ناراً فيه تستعــرُ

أَيُغرِق الله في الأكواخ من سجدوا*** لـه، ويُنقِـذ في الأبـراج من كفـروا؟

أَظنّهم أَسرفـوا في شــكـر نعمتـه *** فـزادَهم فوق حدّ الخير إذ شــكروا

وقصيدتي"مواساة بلبل"في عام 1965م . ومما جاء فيها قولي:

يا بلبلَ الروضِ السجيـنِ تَصبَّـــرِ*** بيْ مـا بنـفســـكَ من أسىً وتَكــــدُّرِ قلبي كقلبــكَ مات فيـه صـداحُــه *** ودجا بــه ألـقُ الصبـــاحِ المُسفِــــرِ فانصتْ لمـا أتلــو عليـــكَ فـإنّـني*** مثلُ الطيورِ فـلا تخفْ من منظري

إنّ ما جعلني أَستشهــد بأبيات هاتين المقطوعتين الشعـريّتين، دون غيـرهـمـا من المقطوعات الأخرى، هـو مخالفتهما للمضمون الشعري السائد في أغلب الأشعـــار النجفية في ذلك العهد من صباي. وأقـول الحـقّ: إنّ تلـك المخالفـــة المضمونيّة لم تكن نزوعاً فكريّاً إلى الماديّة في المقطوعة الأولى (التعريض بلفظ الجلالة) ولا هروباً رومانسيّاً إلى الطبيعة في الثانية (رفع الطير إلى درجة المظلومية) ؛ لأنّي لم أكن في تلك السنّ أعـرف شـيئاً عـن الفلسفة ولاعن المذاهب الفنية؛ زيادة على أني لم أكن أطمح يومذاك في أن أتجاوز من سبقني من الشعراء، ولكن شيطان الشعر مارد جبار.

ومن بداياتي الشعريـة كذلـك أنّا اتفقنا (أنا وبضعة أصدقــاء لي في المدرسـة المتوسطة)، في صيف عام 1966م، على أن نؤسس ندوة أدبيّـة أسبوعيّـة. وقد تمّ لنا ما أردنـا، وسمينـا الندوة ندوة "شموع الأدب"، وصرنا نجتمع أسبـوعياً في دار أحدهـم. وأشهـد أَنّ تلك الندوة (١٩٦٦م ـ١٩٦٨م) قد فجّرتني شعرياً حين أزاحت عني ستـار التحرج الديني والإجتماعي الذي كنت أواجهه في إظهار قصائدي؛ إذ كان كلّ أترابي في الندوة يحسون بمثل ماأحسّ به لتقاربنا في السنّ، وتشابهنا في الأهواء. ومن شعري الجنسي قصيدتي"ذكريات 1965"التي أقول فيها: ألقى الهنــــاء علينـــــا ظلَّ بردتــــــه *** لمّـا التقيــت بهـــــا ليــــلاً بمنعـزلِ طوّقتـُهـــا بـــذراع الشـــوق فاندفعـتْ*** نحـوي تـقـبّـلنــي في لهفـــة الجَـذِلِ جذبتُهـا من دقيــق الخصر فانهصرتْ*** تحتي كطيّـة غصنٍ مرهف خضِـلِ

ولكني على الرغم من جموح الرغبة الجنسيـة وإلحاحهـا؛ لم أكن تامّ التحـرّر من قيود الحفاظ الإجتماعي الذي كان يؤكّد على عفّة العزّاب ويراقبها. ومن شعري في ذلك المضمار، هذه الأبيات من قصيـدة (ياحلوتي (1966:

وأرى الزمــان أقــام سدّاً بيننـا*** والبعــد مابيني وبينـك أذرعُ أأموت من جوع وقربي بيـدرٌ؟*** وأموت ظمآنـاً وقربي منبعُ؟ إنّي أُحبُّـــكِ عفَّــةً وطهــــارةً *** وتُحبُّ كلّ عفيفـــة لاتُخــدعُ

وبعد أن أتممت المرحلة"المتوسطة"من دراستي في عام١٩٦٦م، واخترت القسم الأدبي في "إعدادية النجف"؛ شاء حسن الحظ أن يكون مدرّسي في العربيـة الشـاعر الأستاذ زهير غـازي زاهـد الذي واءمت شـاعريته وسـيرته شغفي بالشعر واحتجاجي على الواقـع. وممّا قوّى عُرَى التواصل بيننا نشـره قصيـدة غزل له، ومعارضتي إيّـاهـا بأكثر من ثلاثين بيتاً، وقد عمدت بذلك الكم الشعري إلى أن أري أستاذي الشاعر مقـدرتي الشعرية، وثورتي الفكرية. وطفقت أقـرأ له القصيدة بدءاً من مطلعها والأبيات التي تليه:

طلعتْ ليـلَى ماأحـلاهــا *** سـكـرَى ببهـاء مُحيّاها

لو كان الصخر له شفـةٌ *** لسـعَى هيمـان وحيّـاها

ومتى يـاربّي يَفتـــح لي *** أبــواب الجنّـة نهداها؟

ومروراً بهذين البيتين:

كـم فرض صلاة أنستني*** مشغول الذهن بذكراها

خالفـتُ الله وشــرعتــــه*** مرتـدّاً صرت بمرآهـا

وختاماً بما يأتي:

لم أُتممْ زهرة عشـريني*** وبُليـتُ بشــوكٍ أَذواهـا أنا حرٌّ في هذي الدنيـا *** وكما أَختــار سـأحياهـا فسُـرّ أستاذي بما سمع من شعر. وما أن مضى شهر أو شهران حتى دعـاني إلى أن ألقي في حفـل مجلـس الآبــاء والمدرسين قصيـدةً أخرى لي، فاستجبت لدعوتـه، ثـمّ رشّـحني من بعـد للمشاركة في المباراة الشعـرية للمدارس الثانـويــة في محافظة كـربــلاء (كانت النجف تابعة لكربـلاء إدارياً) . ولقد فـازت قصيدتي الموسومـة بـ"الجـراح تتكلـم"بالجائـزة الأولى في تلـك المبـاراة في نيسـان1968م؛ فـاذا صيتهـا منتشــر في مدينتي كـربـلاء والنجـف كلتيهمــا. وإذا إنتشـاره لم يقف عند هاتيـن المدينتيـن وحسب بل امتـد إلى ماهو أبعـد منهما، بعـد أن نُشـرت القصيدة في مجلة "الأديـب" اللبنانية الشهيرة التي كانت تُوزَّع في البلدان العربية كافة (10) . ومن أبيات تلك القصيدة قولي:

فياسمائيْ أَحيلي الشَّمــــسَ عاصفـةً*** تَطوي الغُـزاةَ تَدقُّ الرَّأسَ والذَّنَبــا

ويـاتُـرابيْ تَضـــرَّمْ مارجـاً وأَحِـــلْ*** خُطاهــمُ وصدَى أَوهامِهـــمْ حَطبا

صبراً فلسطيـــنُ. إِنَّ الجـرحَ ملتهبٌ*** والويلُ للظُّلـمِ من جــرحٍ اذا التهبا

وليـــس بالجِــــدِّ أَنْ تَبقَـى محافلُنـــا*** تَتلو القصائـدَ والأقـــوالَ والخُطبـا

"فالـسيـف أصـدق أنباء" فواعجبي *** من ثائر في الوغى يستنطق الكتبا

إِنَّ الحديــــدَ تَفـُلُّ النــــــارُ سـطوتَه*** فيـا دِمانـا أَفيضي الموتَ والعطبـا

هذه هي أهم بداياتي الشعرية. أما السؤال: "بمن تأثرت؟"، فأظن أن المطلـوب بهذا الاستفهــام العلم بماترك الشعــراء من أثر في شعري. فإن كان هذا هو المطلوب حقاً، فإن التأثير عنصر أوّلي في كتابة أي قصيدة حين يكون ضوءاً لمحتواها، وليس هو المحتوى نفسه. ولقد تأثرت في بداياتي الشعريـة، برومانسية الشابي وبثورية الجواهـري أكثر من أن أتأثر بسواهمــا من الشعــراء الآخريـن لقرب شـعرهمـا من العاطفة الجياشة الملائمة لطبيعة الصبي والشاب، ثم تخطيت تجارب غيري مهتمّاً بما يعبـر عن تجربـتي الشعـريـة الخاصـة بصدق. وأما الســؤال: "لمن قـرأت، وتقرأ؟"، فإني أكـاد أقـول: إني قرأت أغلـب الشعــر العربي قديمـه وحديثـه، محترمـاً شعراء الجاهلية لاسيما الصعاليك منهم أكثر من شعراء مابعد الإسلام الذين شاركوا الدولــة في استبدادها وإجرامها وسرقتها أموال الأمة طامعين أو خائفين. وقلّ من لم يشــاركهــا من الشعراء من قدماء ومحدثين. ولئن قرأت أغلب الشعر العربي بالأمس، فأني، اليـوم، لم أكد أقرأ من الشعر الا النزر القليل؛ لانّ أغلبه لم يعد يغريني بجمـال ولا بموقف فأقرأه. وهو يعكس سوء الوضع العربيّ العام. هذا رأي خاص لاغير مع احترامي لكل الآراء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٢ – الشعر والالتزام والواقع /الواقعية ؟ هل من الممكن أن نصنف الياسري بأنه من أكثر الشعراء التصاقا بالواقع وتحسسا لمطباته ووقائعه ؟ هل هو شريك الكتابة بالنسبة لكم ؟)

ــ أجبته: الإلتـزام في الفن عامّة، وفي الشعـر خاصة، هو مفهـوم معاصر. أكّد أهميته مذهب "الواقعية الإشتراكية" مقابل مذهب "الفن للفن " إنعكاساً عن الصراع السياسي بين المعسكر الإشتراكي (الإتحاد السوفييتي وتوابعه سابقا) ؛ والمعسكر الرأسمالي (إمريكا الشمالية وأوربا الغربية) "من ١٩١٧م حتى ١٩٩١م. ثم تناولت هذا المفهوم الفلسفة الوجودية من بعد، لكنها اختلفت عن الواقعية في نظرتها إلى الشعر؛ إذ رأت الوجودية أن الإلتزام يخصّ الناثر قبل الشاعر، لاختلافهما في طريقة التعبير، على عكس الواقعية التي لاتفرّق بينهما في بلوغ الغاية الاجتماعية. وغائية الشعر ليست مفهوماً جديداً استحدثته الواقعية، وانما هو قديم. وقد أشار إليه إفلاطون وأرسطو في فلسفتهما زعماً أن الشاعر هو مُعلّم الإنسان. وتأثراً بذلك الصراع السياسي الذي ذكرتُ، إنقسم الشعراء العرب المحدثون إلى ليبراليين يرون الشعر للشعر، وإلى ثوريين يرون الشعر للمجتمع، غير أن هذا الإنقسام الشعري لم يكن في أغلبه مولوداً طبيعياً للظروف الداخلية في البلاد العربية، وانما كان امتداداً للإنقسام الثقافي الخارجي بين الشرق الإشتراكي والغرب الرأسمالي، دون النظر العميق في البيئة التي يعيش فيها الشاعر أو الطبقة التي ينتمي إليها. وبتعبير أبسط: يصحّ أن أقول: إنه كان مستورداً مثل أي مادّة استهلاكية أجنبية. أما أنا، فـ"نعـم"لـم أكن منفصلاً عن الواقـع العـراقي والعربي، ولا مـستقـلاً في شعـري عنه. ولو كان الحال في المجتمع العراقي أو العربي مثل الحال في المجتمعات الصناعية المتطورة التي حلّت مشاكلها المتعلقة بالسياسة والدين والمرأة منذ سنين؛ لأبقيت شعري للشعر استمتاعاً باللذة الجمالية، ولما تدخلت في تلك المشاكل الاجتماعية التي عرّضتْ حياتي للخطر إضطهاداً داخل العراق وتشرداً خارجه؛ ولكني كنت ملزماً بالتدخل في مشاكل مجتمعي بطريقتي التعبيرية الشعرية، بل كان من واجبي الوطني والإنساني أن أواجه سلطات العبودية الثلاث في المجتمع (السلطة السياسية والسلطة الدينية والسلطة الذكورية) حتى يتحرر الوطن والدين والمرأة. وأنا بمواجهتي هذه لم أُدِنْ السياسيين، بل دعوت إلى أن يكونوا صادقين ومسؤولين، ولم أُدِنْ الديانة بل دعوت إلى ان تكون حرة غير مستغَلة، ولم أُدِنْ الرجل بل دعوت إلى أن يكون مساوياً للمرأة. وبهذه الدعوات المترابطة لتغيير الواقع كليا لاجزئياً عبّرت عن مسؤوليتي الثقافية، مفكّراً في اللامفكر فيه عملياً، ومتكلّماً عن المسكوت عنه شعرياً أملاً في تحقيق العدالة والحرية والمساواة. وما أنا إلا قطرة عراقية في بحر من سبقني إلى التغيير والتضحية في بغداد والكوفة والبصرة قبل أن تنحط الحضارة العربيـة ـ الإسلاميـة، ويصبح الكلام في الله والدولة والجنس محرّماً (11)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٣- ما الآثار التي ترتبت على مواكبتك لتجربة الحداثة العراقية شابا يافعا ؟ كيف انطبعت على شعريتك في مستويات القصيدة شكلا ومضمونا ؟ وما هي المدارس والاتجاهات التي يمكن أن تضغط في تشكيل هويتك الأدبية ؟)

ــ أجبته: أدركتُ الحداثـة الأدبيـة في منتصف الستينيات إدراكاً حسيّاً متأثّـراً بمدرسـة "المهجر" الأدبية، في الشمال الإمريكيّ وبمدرسة "أبولو" ومدرسة "الديوان" الشعريتين المصريتين، وبما في مجلة "شعر" ومجلة "الآداب"اللبنانيتين؛ ومتأثّراً بالشعر الحر في العراق، وبالتيار الأدبي الحديث الذي تبنته في مدينة النجف، في الستينيات من القرن الماضي، ندوة"الآداب والفنون المعاصرة"وندوة"عبقر" ومجلة"الكلمة" مقابل التيار الأدبي القديم الذي كانت تمثله"جمعية الرابطة الأدبية"وتجاريه مجلة" الإيمان" ومجلة "الأضواء" وغيرهما. وعلى ضوء هذه المؤثرات الأدبية المرتبطة بالتغيرات العربيـة والعراقيـة سياسياً وفكرياً؛ فهمت أن الحداثة، خصوصاً العراقية منها، هي حركة احتجاج إبداعي على السكون الثقافي، يوازي الإحتجاج الثوري والفكري على جمود المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية . وفهمت أيضاً أن قيمة الحداثة، وأعني الشعرية، تكمن في الاختلاف الشكلي والزمني لقصيدة الشباب عن الشعر العربي القديم، وفي مواكبتها الشعر الأوربي الحديث (الفرنسي والإنجليزي) ؛ لكني سرعان ماتخطيت أوهام مفهومي الحسي بعد نضج تجربتي الشعرية، إذ رأيت فيه تعصباً للشعر الحديث لايكاد يختلف عن تعصب شيوخ الشعر للشعر القديم. فضلاً عن انّه مبني في أغلب أحكامه على جهلين: جهل لحقيقة الشعر العربي القديم من جهة، وجهل لحقيقة الشعر الأوربي من جهة أخرى. ومهما يختلف أصحاب القديم والحديث، ويطلْ سجالهم، فإن الشعر القديم يظلّ للشعر الحديث مثل الجذر للشجرة؛ حيث لا انفصال بينهما. وقد أفادني في الوصول إلى هذه الرؤية الموضوعية اطـلاعي على الآراء النقديـة للمفكـر الدكتور طه حسين، والشاعـر الإنجليزي ت. س إليوت، واطلاعي على التعبير الرمزي في الأدب الصوفي، وعلى فلسفة الثورة عند ماركس وفلسفة الجمال عند كنت. إذ أخذت هذه المصادر الثقافية وغيرها بيدي إلى طريق الحق والعدل والجمال، فأيقنت أن الحداثة الشعرية ليست زيّاً للتظاهر والتفاخر؛ وإنّما هي موقف حياتي يتضمن أوّلاً أن يكون الشاعر شاعراً قبل أن يكون حديثاً، وثانياً أن يكون هو متغيّراً فكرياً ونفسياً قبل أن تتغيّر قصيدته، وثالثاً أن يكون حراً في نظرته وممارسته في الحياة. ولم تعد الحداثة بهذا المفهوم الشخصي خاضعة عندي لزمن محدد ولا لشكل معين؛ وانما صارت هي حركة الإنسان في إبداعه الفني في الحياة مقابل الجمود والثبات أي هي بقاؤه السرمدي مقابل فنائه البيولوجي. وقد عبّرت بمضاميني الشعرية عن هذا الموقف محتجاً على سلطة الدولة غير

سائر في ركب حكّامها، ومتحرّراً من مشاركة قوى التخلّف في قمع الفكر التنويري وفي استغلال الإنسان الآخر وازدرائه؛ كما أنه انعكس أي الموقف في أشكال شعرية كثيرة لي؛ لم تكد توافق مدرسة أدبية معلومة لتعدد صور التعبير فيها واختلافها. أما السؤال عن هويتي الأدبية فقد سُئلتُ عنها من قبل. سألني طالب الماجستير الأستاذ (عباس الأنيس) في عام ٢٠١٩م وهو يعد رسالته عن شعري: "في أي اتجاه أدبي يمكن أن يصنّفك الناقد؟ أنت شاعر عمود كلاسيكي في مجموعتك (أرق النجم) وفي غيرها، وأنت شاعر تفعيلة حديث في مجموعتك (جرح ومنفى) وفي غيرها أيضاً، وأنت شاعر واقعي في قصائدك (البغداديات) في حين أنك شاعر رمزي في قصائدك (غربة اللؤلؤ) . وكلتا الواقعية والرمزية في مجموعة شعرية واحدة (جذور الفجر)، وأنت شاعر اجتماعي أخلاقي في مجموعتك (أجراس البقاء) ؛ لكنك شاعر غزلي حسي في مجموعتك (في ظل حواء) . وماأكثر الإتجاهات المتباينة التي اجتمعت في شعرك!". قلت له: لاأعرف ما اتجاهي. إنما أنا صرت حديقة شعرية بعد أن طالت السنين على تجربتي. فيها من النبات الطبيعي الحي مااختلف طوله ولونه وشكله وعبيره. وأنتظر من يتعهدها بالإهتمام النقديّ ويجيب على أسئلتك. كلّ ماأعرف عنها أنْ لامكان لنبات مصطنع فيها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٤- هل نستطيع أن نصف نتاجاتك الشعرية وفق المنهج الافقي ومع أولى المجموعات الشعرية وحتى الآن ؟ ما هي مشاريع الآن ؟ وغدا ؟)

ــ أجبته: أظن أن إجابتي على الجزء الأول من هذا السؤال ستكون ذاتية متحيّزة مهما حاولت الموضوعية والحياد نقدياً؛ لان نتاجاتي الشعرية هي نتاجاتي ؛ لذا أترك الحكم عليها لدارسها وناقدها مع كل الإعتذار. أما مشاريعي بل مشروعي الآن هو أني أحاول أن أجمع شعري المنشور والمخطوط، وأعده كله للطبع في سفر واحد مادمت على قيد الحياة؛ إذ ضاع أكثر شعري في العراق ـ الوطن بعد هجرتي القسرية منه، كما ضاع بعضه لكثرة ترحالي وتجوالي في المنافي. وأما مشروعي غداً، فاني أحلم أن أعود إلى العراق، وأن أشارك أهل الوعي في احتجاجاتهم السلمية، كما شاركتهم سابقاً؛ وأن يضمني ترابه؛ لأني لا أحب أن أموت غريباً؛ ولكن كيف لي أن أعود من دون سكن ولاعمل وأنا مثقل بالسبعين من عمري؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٥- في شكل القصيدة تنزع الى العروض الكلاسيكية وتنطلق منها في دق اجراس الشعر ؟ هل صوتها هو الاعذب والاكثر نفوذا، وهل الخروج من البحر الى التفعيلة يحدد ضمن اشتراطات الحالة الشعرية ؟ شاهدنا خروجك على استحياء في (قصيدة وائل غنيم في حضرة الشهداء) . ولماذا تعمقت تجربة قصيدة (التفعيلة) في ديوانك (جرح ومنفى) ؟)

ــ أجبته: أود أن أشير، قبل كل شيء، إلى أن علم"العروض" الذي يتناول بحور الشعر العربي أي أوزانه هو شيء واحد لم يتعدد كالمذاهب الفنية التي فيها مايوصف بالكلاسيكي وغير الكلاسيكي ؛ وأن أشير كذلـك إلى أن إيقـاع "التفعيـلة" في "الشعـر الحـر" هو جزء من إيقاعـات التفعيـلات التي اكتشغها "الخليل" في علم "العـروض"؛ لأنّ تفعيلتـه (الشعرالحر) مأخـوذة من بحـور الشعــر التي توصف بـالصافيـة في العروض أي ذات التفعيلة الواحدة غير الممزوجة . وهي سبع تفعيلات لسبعة بحور من بحور الشعر العربي الستة عشر (الصافية والممزوجة) . وتلك التفعيلات السبع هي مستفعلن لبحر الرجز وفاعلن لبحر المتدارك أو الخبب وفاعلاتن لبحر الرمل ومتفاعلن لبحر الكامل وفعولن لبحر المتقارب ومفاعلتن لبحر الوافر ومفاعيلن لبحرالهزج. وبناءً على هذا أقول: لا بحر جديد للشعر الحر البتَّة؛ وانما الجديد هو أن شاعر القصيدة الحرّة يتصرف حرّاً في عدد التفعيلة الواحدة من تفعيلات تلك البحور السبعة التي ذكرت، في حين يلتزم شاعر القصيدة العمودية بعدد التفعيلات وترتيبها في البيت. وللعلم والفائدة أن إيقاع شعر"البند" الذي ظهر في العراق قبل ثلاثة قرون خلت هو المؤسّس لإيقاع الشعر الحر، إذ تصرّف شعراؤه في عدد التفعيلة الواحدة بحرية يومذاك، كما تصرف في عددها روّاد "الشعر الحر" من بعد؛ من دون أن يطلعوا على من سبقهم في الريادة (12)

وعلى الرغم من ازدراء شباب الأدب للشعر القديم (الشعر العمودي) من دون حق، وإنكار شيوخ الأدب للشعر الحديث (شعر التفعيلة أو الحر) من دون حق أيضاً ؛ فإني شُغفت بإيقاع الشعرين القديم والحديث كليهما، ولم أفاضل بينهما مستدلاً على عدم مفاضلتي بينهما بإحصائية موسيقية لشعري، تكشف أني استعملت في شعر"التفعيلة" أو الشعر الحر إيقاعات ست تفعيلات أُخذت من ستة بحور صافية . هي الرجز والمتقارب والوافر والكامل والرمل والمتدارك أوالخبب. وهذه التفعيلات الست هي كل مافي شعر"التفعيلة" الواحدة أو الشعر الحر من موسيقى في تجربتي الشعرية (13)، وأني استعملت، كذلك، في شعري العمودي إيقاعات أربعة عشر بحراً من البحور الستة عشر الصافية والممزوجة. هي البسيط والكامل والسريع والرجز والوافر والرمل والهزج والطويل والمتقارب والمتدارك أو الخبب والخفيف والمجتث والمديد والمنسرح مهملاً بحر المضارع وبحر المقتضب اللذين ذكرهما الخليل في دوائره الشعرية ؛ ولم أجد من استعملهما من الشعراء العرب من قبلي (14) .

ولئن ساويت في شغفي نظراً وممارسة بين الإيقاعين اللذين تمثّلهما التفعيلة في الشعر العربي القديم والحديث؛ فإن الإيقاع في البحور الشعرية هوأغنى كماً (ستة عشر بحراً)، وأغنى نوعاً (بحورصافية وبحور ممزوجة) من الإيقاع في التفعيلة الواحدة المستعملة في الشعر الحر. ولاشك في أن لهذا الغنى الكمي والنوعي امتيازاً للتعبير عن حالات الشاعر النفسية المختلفة، فضلاً عن القافية التي تزداد قيمتها الموسيقية بتكرارها في البيت. ولها دلالة مهمة في الشعر العربي. أما جوابي على السؤال المتضمن خروجي من إيقاع البحر إلي إيقاع التفعيلة أو العكس؛ فإني لا أكاد أجد جواباً مقنعاً حتى لنفسي. إنني لا أعمد إلى ذلك التحوّل الموسيقي شعورياً، بحيث مافكرت في يوم أن أكتب قصيدة على إيقاع الشعر الحر أو على إيقاع الشعر العمودي. ولا اخترت هذه التفعيلة دون الأخرى في الشعر الحر، ولاهذا البحر دون الآخر في الشعر العمودي. إنما شيطان الشعر كان هو الذي يفكر ويختار. وبتعبير آخر: اللاشعور. ورغم عجزي عن تعليل اختلاف الإيقاع الشعري بشكليـه القديـم والحديـث في شعـري؛ فإني أظن أن الإيقاع في شعر التفعلية هو أصلح للنظر لا للسمع، وللظروف الغربية حيث تطغى الكتابة على الشفوية وتتداخل الأحداث والأشخاص في عالم صناعي معقد يضاد العالم العربي البسيط. ولعل ديواني"جرح ومنفى" الذي ساد فيه إيقاع التفعيلة الواحدة كان انعكاساً من الناحية الموسيقية لحالتي النفسية في إبّان هجرتي إلى كندا. وإني أظنّ، أيضاً، أن حالات الإنفعال العاطفي السريع عند الفرح والإبتهاج تتتطلب إيقاعاً سريعاً خفيفاً في قصائد قصيرة كما هو الحال في ديواني"في ظل حواء"، وحالات التأمل والأناة عند الحزن والإغتراب تتطلب إيقاعاً بطيئاً هادئاً في قصائد طوال، كما هو الحال في قصيدتي"انتصار الشهيد" التي تجاوزت أبياتها مائتين وأربعين بيتاً، جارية على بحر "الخفيف"وعلى قافية واحدة. هذه ظنون وليست يقيناً؛ ولكن الدارسين الغربيين يؤكدون قوّة العلاقة بين أوزان الشعر وحالة الشاعر النفسية. وكشف هذه العلاقة يحتاج إلي ناقد فطِن ومحيط بعلم النفس الموسيقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٦- تمتاز في العنونة بحالة مستدامة من التلوع والشعور بالنقمة والخطر (كما في ديوان جرح ومنفى) ؟ هل مرد ذلك الى التركة الثقيلة لحكومات القمع في العراق، أم هي ترسبات تجربة سياسية واقتراب من مقصلة الجلاد، أم صدى للحروب التي يهرع اليها العراق في كل فرصة في ماضيه وحاضره ؟)

ــ أجبته: أجيب على الأسئلة الثلاثة بـ (نعم) مريداً الإثبات لا النفي؛ لأنّ (هل) هنا يُطلب بها (التصديق) كما يقول البلاغيون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٧- هل تستطيع وصف الاغتراب في تجربتك الشعرية بصفته دافعا ومحفزا مبرزا في الخوض في تجربة الكتابة ؟)

ــ أجبته: لإغترابي في تجربتي الشعرية معنيان: معنى ظاهري سطحي. وهو بعدي القسري عن أهلي ووطني ـ العـراق. ومعنى نفسي عميـق. وهو أني ــ بتأثيــر القوى السياسـيـــة والدينـيــة والإجتمـاعيـة في العـراق ــ فقدت شيئين لايتحقق جـوهـري االإنسـاني في الحيـاة من دونهمـا. وهمـا حقي في التفكير، وحريتي في التعبير عن فكري، فدفعني ذلك الفقدان بل وعيي به الى الثورة في شعري على تلك القوى الثلاث لاستعادة كينونتي البشرية المفقودة وتأكيد وجودها. وقد أنجز الدكتور مهنّد عبد العظيم الياسري مشكوراً رسالته في الماجستير عن ذلك الإغتراب، في عام ٢٠١٨م، تحت عنوان"الإغتراب في شعر عبدالإله الياسري"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س ٨ـ في ديـوان (أجراس البقاء) كانت ثيمة الرثاء هي الشراع الذي أبحرت من خلاله ؟ ونقرأ لك في مقدمة الديوان (مدخلا) يصف رؤيتك لهؤلاء العابرين بصفتهم قيمة ابداعي واخلاقية وثورية خالدة ؟ هل من الممكن أن يكون جوابا لسؤال (ما) عن الموت ؟)

ــ أجبته: لاينفصل الموت عن الحياة، ولايضادها. انما هو وإياها مترابطان في علاقة شبكية دائمة. جاء في التنزيل: "يُخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميت من الحي". فليس الموت هو الذي يزيل الحياة عمن كانت فيه، وانما الموت هو الذي يزيل عن الإنسان قيمته وهو مازال يتحرك حياً. ذلك هو الموت الحقيقي للإنسان؛ لأنه يسحقه. الذل في الحياة هو الموت. والذليل هو الميت حقاً. قال أبو الطيب المتنبي:

"من يَهنْ يسهل الهوان عليه***مـالجـرحٍ بميّتٍ إيــــلامُ"

وقال أحدهم: "إن الشعوب لاتموت من الجوع ؛ وانما تموت من الذل"

وهيهات أن ينتصر الإنسان على هذا الموت أي الذل، ويستعيد حيـاتـه أي قيمته من دون وعيه بذله، ومن دون موقـف بطولي لمواجهة مذليه من جبابرة السلطة والمال، لا لاستعادة ذاته وتأكيدها افتخاراً؛ وانما لنشرها في المسحوقين لبعث ذواتهم التي ماتت من الخوف والفقر والإستكانة. إن البطل الذي يواجه أولئك الجبابرة حتى الشهادة هو حي. إنه لايموت حباً بالموت، أو طمعاً بما وراء الموت ؛ ولكن يموت حباً بالحياة الكريمة، وحباً بقيمة الإنسان التي يتغير عندها مفهوما الموت والحياة إذا اجتمعا مع الذل. وحسبي دليلاً على ذلك قول الإمام الحسين بن علي لأعدائه في المعركة: "ما أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س٩ – صف ما يأتي بكلمة واحدة أو عبارة قصيرة لو تكرمت:

العراق؟ ــ كندا (الغربة) ؟ ــ الشعر؟ ــ المرأة؟ ــ الزمن؟ ــ الانسان؟ ــ الموت ؟)

ــ أجبته: العـراق هو جرح كالسكين وكنـــــدا هي خيمـة والشعــرهو حلم الواقـع والمــرأة هي الخالـق والـزمـن هو الغيمة العابرة والانسان هو الكائن المُفكِّـر والمـوت هو التَحوُّل أو فناء الكم لبقاء النوع..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س١٠- ما هو قادم نتاجاتك الادبية ومشاريعك للمستقبل ؟)

ــ أجبته: أما قادم نتاجاتي الأدبية، فخطتي مازالت غير معلومة لضيق وقتي، وأما مشاريعي للمستقبل، فقد أجبت على ما يتعلق بمشروع الغد في السؤال الرابع /المحطة الثانية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ــ وسألني: (س١١ – كلمة أخيرة تتلطف بها نصيحة وعلاجا لجبل الأوجاع في هذا الحياة - أو خريطة سحرية تختصر الطريق لصنع الانجاز الحقيقي في هذه الحياة القصيرة ؟)

ــ أجبته: أنا مازلت تلميـذاً في مدرسـة الحياة، كما قلت في جواب سابق لي. أتطلع إلى من يكتشف أخطائي ويصححها لي. ولكن إذا كان لابـد من النصح؛ فإني ألتمس من جيل الشبـاب الجديـد أن يتجاوز أخطاء أسلافه العراقيين، فيفصل السياسة عن الدين والقومية احتراماً للأديان والقوميات. وحسبنا أوربا عبرة لمن يعتبر. لولا العلمانية لما جفّت فيها أنهار الدماء والدموع . لماذا لانتعلم من تجارب الغير اختصارا للطريق؟. أما الشباب الشعراء، فإني أقول لهم: من حقنا أن نقول نحن شيوخ الشعر؛ ولكن من الحق عليكم أن تسمعوا . إهتموا بالشعر العربي القديم كلّ الإهتمام. لا لأنه قديم تشتاقه النفوس وتحنّ إليه العواطف، بل لأنه أساس لصرح ثقافتنا العربية، وقَوام لشخصيتنا،، وعصمة لوجودنا من الذوبان في الغير. إهتموا به اهتموا به، ولاتصدقوا مايقال فيه من أقوال سوء من دون أن تتحقّقوا وتستقصوا.

***

عبدالإله الياسري

....................

هوامش:

(1) للتوسع في معرفة بيئة المشخاب تاريخيّا وثقافيّا وسياسيّا إنظر: عبدالرزاق الحسني ـ تاريخ الثورة العراقية، وانظر حنا بطاطا ــ العراق، الطبقات الاجتماعية القديمة ج١) .

(2) للتوسع في معرفة النهضة النجفية دينيا وسياسيا إنظر: حنا بطاطا ـ العراق ج٣، وانظر في مؤلفات الشيخ محمد رضا مظفر، وفي مقدمة ديوان السيد مصطفى جمال الدين الهاشمي، وفي خطب السيد محمد باقر الصدر والخطيب الشيخ أحمد الوائلي) .

(3) إنظر: صحافة النجف ـ محمد عباس الدراجي ـ ط١ـ١٩٨٩م ـ ص١٩

(4) إنظر: قصائدي (غربة اللؤلؤ) في ديواني الورقيّ (جذور الفجر/عبدالإله الياسري) ص١٧.

(5) إنظر: قصيدتي (سفر) في ديواني الورقي (جذور الفجر) ص١٢٨

(6) خير مصدر لتصوير سيرتي في المغرب قصائدي في ديواني (أشرعة بلا مرفأ/عبدالإله الياسري) .

(7) إنظر: جريدة (المؤتمر الوطني) الصادرة بالعربية للمعارضة العراقية في لندن ـ بريطانيا

(8) إنظر: مقالتي (رسالة الشاعر الاجتماعية/عبدالإله الياسري) ــ صحيفة المثقف ــ العدد٥٨٣٤، المصادف٢٦/٠٨/٢٠٢٢م.

(9) إنظر: ديواني (في ظل حواء)، وقصائدي (مع النصف الآخر) في ديواني (جذور الفجر) .

(10) إنظر: مجلة الأديب ـ ديسمبر١٩٦٩م ـ ج١٢ ص٤٠ ـ الجراح تتكلم/عبدالإله الياسري

(11) كانت حرية التعبير قبل ألف سنة أكثر من اليوم . وكان الجاحظ والتوحيدي من أكثر المفكرين جرأة في التعبير . وبلغ حوار المسلمين إعجاز القرآن في العصر العباسي ولم يكفر بعضهم البعض الآخر.

(12) البند في الادب العربي: تاريخه ونصوصه ـ عبد الكريم الدجيلي ـ بغداد ـ مطبعة المعارف ـ 1959م.

(13) قلت: ست تفعيلات أُخذت من ستة بحورصافية، ولم أقل ثماني تفعيلات أُخذت من ثماني بحورصافية؛ لأن تفعيلة السريع تختلط بتفعيلة الرجز (مستفعلن)، وتفعيلة الوافر تختلط بتفعيلة الهزج (مفاعيلن) في الشعر الحر أو شعر التفعيلة الواحدة"لذا أسقطت بحري السريع والهزج من العدد.

(14) إنظر مجموعاتي الشعرية السبع راجياً الإلتفات إلى أن قصيدة بعنوان"مراهقة"على وزن المنسرح سقطت سهوا من المجموعات المطبوعة/عبدالإله الياسري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إنتهت الإجابة على كل الأسئلة

تغوص سفينتي في البحر، تغرقُ لا أنجّيها

صقيع الليل، ياويلي، يكدِّس ثلجه فيها

فلا تقرب

أنا الموت الذي يغشى

ذرى الأعماق، لا تقرب

أنا الموت الذي تخشى،

أنا الحزن القديم، أنا ارتعاش الخوف والعارِ،

أما جاءتك أخباري؟

سلمى الخضراء الجيوسي

كان على سلمى الخضراء الجيوسي، أن تعيش أكثر من حياة ليتحقق لها المضي في قائمة مشاريعها الطويلة، فحياتها كما وصفتها كانت " آلــة دائــرة لا تتـوقـف " . لكن السيدة التي كانت الضحكة تخرج من عينيها، ألقت اخيرا عصا الحكمة جانبتا لترحل بعد حياة مليئة بالكتب والبحوث وحب الشعر الذي تعلقت به منذ أن نشرت وهي في الرابعة والثلاثين من عمرها ديوانها الاول " العودة الى النبع الحالم " – صدر عن دار الاداب عام 1960، وصفها النقاد بانها دخلت الشعر مسلحة بقوة متميزة وبطابع خاص .. الفتاة التي جربت كتابة القصيدة وهي في العاشرة من عمرها عندما نظمت قصيدة عن مقتل الملك غازي، ظلت تحتفظ بوصية والدها ان تكتب الشعر لتكشف الزيف والتمزق الذي يعيشه الانسان العربي، وأن لا تنسى انها ابنة شعب يُصلب كل يوم ومأساته تكبر يوما بعد آخر، هذه الاهداف هي التي قادت سلمى الجيوسي لتدخل عالم الشعر، تمنت في طفولتها ان تصبح روائية تعلقت بحكايات الف ليلة وليلة التي كانت تقرأها امها في المساء بصوت مسموع: " كنت عندما استمع للحكايات بصوت امي تطفح عيناي بالرؤيا " .لكنها ستنحاز في النهاية للشعر الذي ارادته أن يكون صوتا لماساة شعبها: " مادام هذا نذرنا فلنعشق المصير " - العودة الى النبع الحالم –، تنبأ لها النقاد ان تصبح في مقدمة الشعراء العرب المعاصرين، وانها بسبب ثقافتها ستكون " في طليعة الذين يقفون عند نقطة التحول في الشعر العربي، ويؤدون دورا عاما في هذا التحول " – خالدة سعيد مجلة الاداب –، فقد ادركت الجيوسي منذ البداية كثيرا من العناصر المهمة المميزة للشعر الحديث، وقد افادت كثيرا من تجارب الشعر العالمي حتى انها وصفت نفسها بانها وريثة الحضارة الانسانية . لكنها ستصاب بخيبة، فالشعرراح يسير بطريق مسدود، وكان لا بد لها ان تكتشف طريق آخر سيقودها اليه كتاب " الشعر والتجربة " للشاعر الامريكي الشهير أرشبيلد ماكليش، فقررت ان تترجمه الى العربية ليصدرعام 1963، ولتدرك من خلاله ان " عمل الشاعر ليس في الانتظار لكي تتجمع الصرخة من تلقاء نفسها في حلقة، بل إن عمله هو ان يتصارع مع صمت العالم ومع ما كان خلوا من المعنى فيه، ويضطره الى أان يكون ذا معنى، إلى أن يتمكن من جعل الصمت يجيب، وجعل اللاوجود موجودا . انه عمل ياخذ على عاتقه أن يعرف العالم لا عن طريق التأويل أو الايضاح أاو البرهان، ولكن مباشرة كما يعرف الانسان التفاح في فمه " – الشعر والتجربة ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي –، ظلت تؤمن ان الشعر يصنع لا من الكلمات، بل من الافكار، وهو يدعونا الى:" اكتشاف انفسنا فيه ووجودنا الذي رفض الاستسلام، بل اصر على البوح .. ونحن اذ نواجه انفسنا ونصادمها فلا شيء كالشعر يغوص ليكشف ما دفناه في اعماقنا عبر الزمن " – الجيوسي الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث ترجمة عبد الواحد لؤلؤة - .ولهذا كان لابد من العودة من جديد إلى الشعر لتصدر ديوانها الثاني " صفونا مع الدهر " عام 2021، فتجد نفسها من جديد تجلس قبالة الصورة التي تجمعها مع ادونيس ونازك الملائكة ومحمد الماغوط ويوسف الخال وفدوى طوقان، تتذكر جلسات الخميس التي كانت تقيمها مجلة شعر في الستينيات وحوارات الحداثة والحرية، وخلافاتها الودودة مع اقطاب مجلة شعر حول ضروة انتماء الشاعرلمحيطه:

نحن نهوى رملها المحموم والريح العنية

وبلاياها، ونهوى يتمنا فيها

ونرضاها مماتً

واليها سوف نمضي

كلما ضعنا مع الغربة نمضي

كلما ذلّ على اهدابنا كبرُ الحياة – من ديوان العودة الى النبع الحالم - وجدت في رباعية الاسكندرية للبريطاني لورانس داريل نظرة فاحصة للحب في الزمن الحديث، قررت ترجمتها الى العربية، لكنها توقفت عند الاجزاء الاولى من الرواية "جوستين" و"بالتازار"، قالت ان لورنس داريل جعلها ترى الحياة من زوايا مختلفة. تعلقت بالفلسفة وعلم النفس قرات فرويد ونيبتشه وافلاطون وتاثرت بكتابات عالم النفس الالماني اريك فروم فترجمت له " المجتمع المعافى " الذي نشرت منه فصول في عدد من المجلات .

تقول انها ولدت في يوم بارد ولا تزال برودة هذا اليوم تلاحقها عبر المدن التي عاشست فيها . كان مولد " سلمى صبحي الخضراء الجيوسي " في العاشر من كانون الاول عام 1926 في مدينة السلط الاردنية لأب فلسطيني وام لبنانية درزية، كانت الابنة الكبرى لعائلة تتكون من ولد وثلاث بنات . تتذكر ابوها المحامي الذي الذي رافق الامير فيصل الذي سيصبح ملكا فيما بعد، وكيف كان مغرما بقراءة دواوين الشعر العربي القديم وكانت الطفلة الصغيرة تتعجب من قدرته على حفظ الشعر وترديده اسماء غريبة مثل ابو العتاهية والمعري وابو فراس الحمداني والفرزدق، فيما كانت الأم تقرأ الروايات بالانكليزية وتجرب حظها في كتابة الشعر . من عائلتها الصغيرة تعلمت معنى ان يفتحر الانسان بعروبته، تقول انها تحزن كثيرا حين تكتشف ان الكتابة والنشر والترجمة حالت دون تكريس نفسها للعمل السياسي مثلما كان والدها الذي تقول انه كرس حياته لفكرة واحدة هي الدفاع عن الوطن .سترحل العائلة الى مدينة عكا مسقط راس الوالد، هناك تنهي مرحلتها الابتدائية والمتوسطة، ستتعرض الفتاة الصغيرة لاول صدمة في حياتها عندما يقتحم جنود بريطانيون منزلهم ليعتقلوا والدها، ولانها الابنة الكبرى فقد كانت تذهب مع امها لزيارة ابيها في المعتقل، هناك تنصت الى حديث المعتقلين عن ضرورة تحرر البلاد وطرد الاستعمار تشارك بعد ذلك باول مظاهرة وكانت في الحادية عشرة من عمرها . تسافر الى القدس لاكمال دراستها الثانوية، تتذكر ان والدها كان يرسل اليها وهو في السجن مصاريف المدرسة، تدخل الجامعة الامريكية في بيروت لدراسة الادب العربي، في بيروت تتعرف على يوسف الخال الذي يدعوها لجلسات مجلة شعر . تنشر اولى قصائدها، تتزوج من احد زملائها الذي يعمل في السلك الدبلوماسي، عام 1970 تحصل على شهادة الدكتوراه عن اطروحتها "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث".

مع التدريس والكتابة والتجوال في مدن العالم، وجدت ان المؤسسات الثقافية العربية لا تهتم بنقل الانتاج الثقافي العربي الى العالم، تقرر عام 1978 التفرغ لادارة مشروع اقامته جامعة كولومبيا لترجمة كتب الادب العربي، بعد سنوات ستصدر اول موسوعة للشعر العربي الحديث بالإنكليزية، عام 1980 تؤسس "، مشروع "بروتا" الذي هدفت، من خلال إلى تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى الغرب عن الحضارة العربية. أُصدرت ضمن هذا المشروع اكثر من اربعين كتابا من بينها إحدى عشرة موسوعة، وكثيرٌ من الترجمات الشعرية والروائية والقصصية . وكان ابرز مشاريعها " الشعر العربي الحديث، " أدب الجزيرة العربية "،، "الأدب الفلسطيني الحديث"، " المسرح العربي الحديث"، " الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس"، " القصة العربية الحديثة"، تدافع من خلال مقالات في الصحافة الغربية عن حق الادباء العرب في الحصول على جائزة نوبل، تكتب تقريرا الى الاكاديمية السويدية عن اعمال نجيب محفوظ، وسيكون التقرير بمثابة شهادة اعتمدتها اللجنة في منح الاديب العربي الكبير جائزة نوبل عام 1988 . عام 1995، تعود الى مدينة والدها عكا، ثم تزور القدس بعد غياب لأكثر من خمسين عاماً، وهي تنظر الى شوارع مدينتها القديمة قالت للصحفيين " ما اراه مؤلم جدا" .

عن علاقتها بالكتابة والترجمة قالت انها تكتب من اجل ايقاض الذاكرة تكتب ضدّ النسيان" أكتب على أمل أن أترك أثراً ما" .

كانت سلمى الخضراء الجيوسي تبحث في نفسها عن كثير من الطرق والمسارات للتعبير، كانت المتعدد في الواحدة، فهي شاعرة وباحثة ومترجمة وناشطة، لم يكن ذهابها إلى الترجمة من باب الهروب من الشعر بل كان باب البحث عن منفذ جديد تقدم من خلاله خدمة للثقافة العربية، كتبها ومشاريعها حصدت كثيرا من الجوائز، وتدرس في الجامعات وتعرف إقبالا كبيرا لموضوعاتها المرتبطة أصلا بالثقافة العربية بكل اشكالها . في كفاحها اليومي من أجل صناعة مكان للثقافة العربية تحت الشمس في مجتمعات تهيمن عليها النظرة العنصرية والفوقية للنتاج الادبي العربي .

تكتب سلمى الخضراء الجيوسي بلغة انكليزية شفافة، وعربية شاعرية وبسرد ثقافي ينتمي إلى الشرق، مدركة أن أفضل جهد تقدمه هو جهدها في خدمة اثقافة العربية . على مدى حياتها التي تجاوزت التسعين عاما وضغت امام عينها عددا من الخطوط الحمر التي رسمت خارطة حياتها:

1- كل ما يتحدث عن الإقليمية وكأنها وضع نهائي: خط أحمر.

2- كل ما يتحدث عن أيّ تقسيم ولو لشبر من الوطن: خط أحمر.

3- كل ما يتحدث عن المذهبية: خط أحمر.

4- كل ما يعيق المرأة العربية عن دخول الحياة الحرة: خط أحمر.

5- كل ما يعيق الإنسان عندنا من الرؤيا الحداثية على كل صعيد: خط أحمر

في مساء يشبه مساء الولادة، ترحل سلمى الخضراء الجيوسي في العشرين من نيسان عام 2023، وتحقق امنيتها لتغمض عينيها في الاردن التي شهدت ولادتها، ونتذكرامنيتها في قصيدتها " الرحيل " التي نشرتها قبل اكثر من " 60 " عاما:

مازال في الثغر الرحيق وفي العيون وفي الدماء

اشواقها، ما زال في القلب التلهف والوجيب

وتوهج الذكرى، فدعني ارتحل قبل الغروب

والحب باق كيفما عبرت بنا سبل القضاء .

***

علي حسين

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

ألان دولون، أيقونة السينما الفرنسية، عشق مراكش، وأقام فيها لما يناهز عقدين من الزمن، دافع بقوة عن قضية الصحراء المغربية، وعرف في الشاشة الفضية بوسامته وشخصيته الكاريزمية، لكن خلال مساره السينمائي الحافل، أطلقت عليه عدة ألقاب، عبر مختلف بقاع العالم. فتارة، يلقب بساحر النساء أو ساموراي الربيع، وتارة أخرى، يسمى الفهد أو الملاك الشرير. ومهما يكن، ورغم اختلاف وتنوع التوصيفات، التي أطلقت عليه، يبقى دولون ظاهرة سينمائية عصية على الإحاطة.

مسار حافل

ولد ألان دولون، يوم 08 نونبر 1935 ببلدة سو بمرتفعات السين، ضواحي باريس، عاش حياة مضطربة، جراء انفصال والديه، وهو حدث صغير لا يتجاوز عمره أربع سنوات. فكفلته أسرة أخرى، ما أحدث شرخا في نفسيته، وساهم في فشله الدراسي.

وفي سنة 1949، مثل في الفيلم القصير "الاختطاف"، ليلتحق بعد ذلك، بالجيش الفرنسي، ويشارك في حرب الهند الصينية سنة 1954، ضمن فرقة المظليين.

وبعد أن حطت هذه الحرب أوزارها، انخرط، مرة أخرى، في عالم التمثيل، من خلال أداء أدوار محورية بعدة أفلام متميزة، بدءا بفيلم "عندما تتدخل المرأة" سنة 1957، ومرورا بأفلام "روكو وإخوته" سنة 1960، و"الساموراي" سنة 1967، و"بورسالينو" سنة 1970، و"السيد كلاين" سنة 1976، و"حب سوان" سنة 1984، و"النهار والليل" سنة 1997، وانتهاء بفيلم "الممثلون" سنة 2000.

مثل دولون للمسرح والتليفزيون، لكن عرف أكثر في المجال السينمائي، حيث يتوفر على مسار حافل، مارس فيه إلى جانب التمثيل، كلا من الإنتاج والإخراج السينمائي، ما جعله يحصل على عدة جوائز وأوسمة، من أهمها: جائزة سيزار لأفضل ممثل سنة 1985 بفرنسا، وجائزة الدب الفخري الذهبية ببرلين سنة 1995، وجائزة النجمة الذهبية لمهرجان مراكش السينمائي الدولي سنة 2003، إضافة إلى جائزة سعفة الشرف بمهرجان كان سنة 2019. كما حصل على وسام جوقة الشرف الفرنسي سنة 1991، ووسام الاستحقاق الوطني لفرنسا سنة 1995، علاوة على الوسام العلوي المغربي برتبة قائد سنة 2003.

وقد كانت حياة هذا الممثل المتفرد موضوع عدة مونوغرافيات ودراسات مرجعية، من طرف ثلة من الباحثين والكتاب من جنسيات مختلفة، نذكر من بينهم: دينيتزا بانتشيفا وهنري-جون سيرفات، وروبيرتو شيزي وباتريس لوكونت، وفانسون كيفي وستيفان دوليفي، وجون-مارك باريسيس وباتيست فينيول، إضافة إلى بيرنارد فيولي ولوران كالينون. وفي هذا الإطار، ونظرا لكون حياة هذا الهرم السينمائي مثيرة للجدل ويكتنفها الكثير من الغموض، فقد صرح، ذات مرة: "إن قصة حياتي جد مستحيلة لدرجة أنه يصعب على أي صحفي كتابتها".

وخلال سنة 2019، أصيب دولون بجلطة دماغية، ما جعله يتبنى الموت الرحيم، الذي يعتبر، بالنسبة للمرضى الميؤوس من شفائهم، خلاصا من المعاناة والألم. والآن، يعيش هذا الفنان القدير خريف العمر، مع ما يرافقه من وهن ومرض دون أن يفارق ابتسامته العريضة، متنقلا بين مقري سكناه بسويسرا وفرنسا.3095 الرياض الزاهية

رياض الزاهية ملتقى النخبة

لقد عشق دولون صخب وبهجة مراكش الساحرة، وأحب أكلاتها المحلية وأهازيجها الشعبية، ما جعله ينسج علاقات صداقة مع مجموعة من سكانها الطيبين، ويقتني سكنا فاخرا بها يدعى رياض الزاهية، يوجد بحي سيدي ميمون، قرب ساحة جامع الفنا. وقد اشترى هذه التحفة المعمارية من الثري الأمريكي بول كيتي سنة 1980، حيث قضى فيها أوقاتا ماتعة من حياته، رفقة زوجته الممثلة الفرنسية ميراي دارك، التي كانت، هي الأخرى، تكن حبا صادقا وعميقا للمغرب، حسب قول الروائي المغربي الطاهر بن جلون.

إن هذا الرياض يبدو مثل قصر من قصور ألف ليلة وليلة، ويعتبر تحفة رائعة في مجال البناء والديكور والأثاث، إذ يتوفر على مسبح وحديقة عجيبة، ما جعله يغدو مرفأ للسكينة والإمتاع لمالكيه، ويبسط سطوة سحره على ضيوفه من الشخصيات العالمية الكبيرة، من أمثال الممثل والمخرج الأمريكي مارلون براندو، والمغنية والممثلة الإنجليزية ماريان فيتفول، ومصمم الأزياء الفرنسي إيف سان لوران، والروائي الأمريكي ترومان كابوتي، ورجل الأعمال الفرنسي بيير بيرجي، علاوة على المغني الإنجليزي ميك جاكر، ومواطنه الموسيقي بريان جونز، من مؤسسي فرقة "الرولينغ ستونز" الشهيرة.

ونظرا لرونق وتميز هذه المعلمة العمرانية، وتواريها عن الأنظار بحي تاريخي وعريق، كان ضيوفها من المجتمع المخملي، يلقبونها ب "قصر المتع"، حيث يمكن للزائر أن ينعم بمباهج وأطايب الحياة، بعيدا عن صخب المدينة الذي لا ينقطع.

لكن دولون، ولأسباب شخصية، ما لبث أن باع هذا الرياض التحفة، سنة 1998، للفيلسوف الفرنسي برنارد هنري ليفي، رفقة زوجته الفنانة أرييل دومباسل.

ورغم رحيل هذا الممثل الأسطوري عن المدينة الحمراء، منذ سنوات، لا زالت ذاكرة عدد من سكان هذه المدينة حبلى بالذكريات الحية والجميلة عنه، حيث يذكر بعض الكتبيين الذين كانوا يؤثثون فضاء ساحة جامع الفنا أن دولون كان يتردد، دوما، على هذه الساحة لاقتناء الكتب والمجلات، والتجوال بين حلقات الفرجة بها.3096 الرياض الزاهية

الزاهية في الإبداع الأدبي

لقد كان رياض الزاهية موضوع رواية باللغة الفرنسية، تحمل عنوان "أفضل ما كان لدينا" للروائي الفرنسي جون-بول إنثوفن، صادرة عن دار النشر "كراسي" سنة 2008. ومن أجل إتاحة الفرصة للجمهور العريض لقراءة هذه الرواية، تمت إعادة إصدارها، سنة 2010، ضمن سلسلة كتاب الجيب، التي تعتبر من السلسلات الأكثر مبيعا بفرنسا.

وفي تعريفه بهذه الرواية، التي تعد من صنف السيرة الذاتية، يقول مؤلفها إنها تتحدث عن قصر الزاهية، الذي كان ضيفا محظوظا فيه، منذ ما يناهز عشر سنوات، والذي له تاريخ حافل، حيث تملكه العديد من المشاهير، واستضاف زوارا لامعين، موضحا أن هذه الرواية تستحضر اللغز الجميل الذي يحيط بالراوي، حينما التزم، منذ عقد من الزمن، بعبور باب هذا القصر، الذي يسميه قصر الفرح. وفي هذا الصدد، يقول المؤلف بأنه قد، مرت عشر سنوات، على أول دوار له بشرفة هذا المسكن، عبر من خلالها الخط الفاصل بين نهاية الشباب وبقية الحياة.

أما ناشر هذا المتن الروائي، فيؤكد أن حبكته تدور حول مكان فريد هو قصر الزاهية، مضيفا أن هذا العمل الإبداعي تتخلله سلسلة من الاستجوابات، الموكلة إلى محقق غامض، والتي تعيد النظر في اضطراب كبير في الأحاسيس والمغامرات، ومبرزا أن من بين أبطال هذا الحكي السردي هناك الراوي المتأثر بمؤلفات الروائي الفرنسي ستندال وأفلام الممثل والمخرج الفرنسي موريس روني، ولويس، الفيلسوف الغني والمشهور، عشيق أريان، زوجته الحالمة.

دولون والصحراء المغربية

يعتبر دولون من المدافعين الكبار عن مغربية الصحراء، ومن المحترمين لمقدسات وثوابت المغرب، حيث يدعو إلى ضرورة بذل كل الجهود، من أجل الإفراج عن المغاربة المحتجزين بمخيمات تندوف في جنوب غرب الجزائر، مشددا على وجوب مساعدة هؤلاء المغاربة، لاستعادة حريتهم، والالتحاق بالوطن الأم.

كما أعرب، سنة 2003، عن نيته الصادقة في المجيء من بروكسيل، للمشاركة في قافلة السلام المتوجهة إلى الأقاليم الصحراوية، بهدف دعم مشروع الحكم الذاتي في هذه الأقاليم، غير أنه لم يتأت له ذلك، جراء تعرضه لوعكة صحية طارئة، منوها بمبادرة تنظيم هذه القافلة، التي ضمت العديد من المغاربة المقيمين بديار المهجر، والتي شاركت فيها، أيضا، شخصيات بارزة من مجموعة من البلدان الأوروبية، خاصة فرنسا وبلجيكا، إضافة إلى اللوكسمبورغ، ومؤكدا أن هذه المبادرة تكتسي أهمية قصوى، لكونها أتاحت الفرصة للمئات من الأشخاص للمجيء للمغرب، من أجل الدفاع عن قضية الصحراء، التي تحظى بالأولوية بهذا البلد.

ومن خلال الفترة التي قضاها دولون بمراكش، ومواقفه الإيجابية من القضايا العليا للمغرب، يعتبر هذا الممثل القدير مواطنا مغربيا بالهوى والمواقف. ومن هنا يمكن القول إن الانتماء لبلد ما ليس هو جنسية وشهادة ميلاد فحسب، وإنما هو، أيضا، انتماء وجداني وفكري، فأينما استشعر المرء الدفء والبهجة والسكينة، فهناك الوطن.

***

عبد الرزاق القاروني، صحفي وباحث من مراكش

 

توفي الأديب والناقد عبد الله خليفة ركيبي يوم: 19أفريل2011م؛ وقد ولد سنة: (1346هـ/1928م)، ببلدة: «جمورة»التي تقع بضواحي مدينة (بسكرة)، وقد تمّ تسجيله في الحالة المدنية بعد سنتين من تاريخ ميلاده، زاول تعليمه الابتدائي ببلدته باللُّغتين العربية والفرنسية، وفي سنة: (1365هـ/1946م)، انتقل إلى (تونس)، وانتسب إلى جامع الزيتونة، وتحصل منه على شهادة التحصيل سنة: (1374هـ/1954م)، وبعد عودته دخل ميدان التعليم بمدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؛ فدرّس بمدرسة الجمعية بندرومة قُرب (تلمسان)، وبسبب نشاطه النضالي مع الثوار، وبحكم علاقته بالشهيد البطل(مُصطفى بن بولعيد)؛ فقد كان من أوائل المثقفين الجزائريين الذين زجت بهم السلطات الاستعمارية في غياهب السجون، حيث ظل أحد عشر شهراً بمعتقل: (آفلو)؛ حيث أُلقي عليه القبض سنة: (1375هـ/1956م)؛ ثم ُأرغم على الإقامة الجبرية بمدينة (بسكرة)، إلى أن فر منها إلى جبال (الأوراس)، وهاجر بعدها إلى (تونس)، وعمل موظفاً بالمدرسة الصادقية الثانوية بتونس، ومنها انتقل إلى (القاهرة)؛ ليدرُس بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وترأس لجنة الطلبة الجزائريين بالقاهرة، ونال شهادة الإجازة سنة: (1383هـ/1964م)، وفي السنة نفسها عاد إلى الجزائر، وعمل مدرساً بالمعهد الوطني التربوي في (الجزائر العاصمة)؛ ثم اشتغل بثانوية حُسين داي، وفي سنة: (1387هـ/1967م) انضم إلى معهد اللغة والأدب العربي بجامعة الجزائر؛ بعد نيّله شهادة الماجستير من جامعة القاهرة عن دراسته الموسومة ب: (القصة الجزائرية القصيرة)، ونال درجة الدكتوراه من جامعة الجزائر عام: (1972م)، بعد أن أنجز رسالة متميزة بعنوان: (الشعر الديني الجزائري الحديث)؛ وقد كان رئيساً للجنة الفكر والثقافة التي كوّنها حزب جبهة التحرير الوطني، وكان أحد أبرز المؤسسين لاتحاد الكُتاب الجزائريين، وهو أول أمين عام مساعد لرئيسه الروائي الراحل مالك حداد إبان تأسيسه سنة: (1974م)؛ كما كانت له إسهامات كبيرة في تطوير الإعلام الجزائري، وتنشيط الحركة الأدبية، وأشرف على حصة بعنوان: «أقلام على الطريق»، قدم فيها العديد من الأدباء الشباب؛ الذين أضحوا اليوم قامات أدبية سامقة، كما كان من أبرز المدافعين عن اللغة العربية، ومن أبرز تلاميذه الناقد الدكتور: (إبراهيم رماني).

وقد ودعت الساحة الثقافية، والأدبية الأديب، والناقد الدكتور( عبد الله ركيبي)، سنة: (1432هـ/2011م)؛ وقد جاء رحيله قبل ساعات قليلة على تكريمه من قبل جمعية«الكلمة للثقافة والإعلام»، وهذا ما جعل حفل تكريمه يتحول إلى تأبينية تحدث فيها مجموعة من الأدباء الجزائريين، وأشادوا بخصاله، ونوّهوا بجهوده، وإسهاماته. وسيظل الناقد والباحث الدكتور (عبد الله ركيبي) أحد رواد النهضة الأدبية بالجزائر، وأحد كبار المثقفين الجزائريين الذين عرفتهم الجزائر في تاريخها الحديث؛ فهو واحد من أعلام الثقافة الجزائرية المعاصرة، ورمز من رموزها المناضلين؛ الذين أسسوا للدراسات الأدبية والفكرية بالجزائر. ومن أهم مؤلفاته النقدية: (القصة الجزائرية القصيرة)، وقد اعترف في مقدمته أن الباحث«يلمس صعوبة وهو يتلمس طريقه لدراسة القصة القصيرة، صعوبة في تحديد الزمان وفي الفترة التي يختارها في بحث كهذا، وصعوبة في تحديد المنهج الذي يختاره، ويزيد من صعوبة البحث في الموضوع-بالإضافة إلى ندرة الأبحاث والدراسات-ندرة المراجع وتفرقها، ومعظمها مفرق في الصحف والمجلات... ».

إضافة إلى كتاب: (قضايا عربيّة في الشعر الجزائري المُعاصر)، والذي يقول في مُستهله: «...وعندما عزمتُ على هذا الموضوع وأخذت أجمع مراجعه المختلفة وأتصفحها وجدت إنتاج شعرائنا حافلاً بالموضوعات الكثيرة التي تتصل بالوطن العربي وقضاياه من قريب أو بعيد، بل وتتصل بقضايا الإنسان العامة.ووجدتُ أن شعراءنا كانوا يُتابعون منذ وقت مبكر ما يجري في العالم العربي، وما يجد فيه من أحداث، وإلى جانب هذا وجدتُ في قصائدهم حنيناً جارفاً لفكرة الوحدة والعروبة...».

كما ألف الباحث والناقد(عبد الله ركيبي)، مجموعة من الكتب ناقش فيها قضايا متنوعة، من بينها كتاب: (عروبة الفكر والثقافة أولاً )؛ الذي أثار فيه جملة من النقاشات الفكرية حول مصير اللغة العربية بالجزائر، ومن بين ما أشار إليه في مقدمته أنه: «من المؤسف حقاً أننا في الوطن العربي لا نُفكر عربياً، فتفكيرنا في كافة القضايا، أو معظمها يُوشك أن يكون مُستورداً جاءنا من الغير، وتبنيناه نحن بلا فهم أو تمحيص أو تدقيق، ووضعناه في رؤوسنا، وحاولنا صبغه بصبغتنا...ولعل هذا هو السبب فيما نعانيه في بيئتنا العربية من اضطراب في الفكر والسلوك معاً... ». ونبّه كذلك في مطلعه إلى أن معركة التعريب في الجزائر«مثل معركة العروبة والثقافة الوطنية ما زالت متواصلة وما زال بعض الناس ينظرون بحذر إلى قضية التعريب، وبالتالي إلى مفهوم الثقافة ومفهوم العروبة؛ لأن الفكر والثقافة لا ينفصلان كما لا تنفصل عنهما الوحدة والعروبة، فكلها قضايا مرتبط بعضها ببعض ارتباطاً عضوياً وثيقاً... ».

كما كرس أحد مؤلفاته النفيسة للحديث عن: «الأوراس في الشعر العربي»، فنُلفيه يُنبه في مستهل هذا الكتاب إلى أن (الأوراس) كان «مُلهماً للنضال الجزائري من أجل الحرية مثلما كان ملهما للإبداع الفني بالكلمة، لا على نطاق الجزائر فحسب؛ بل على نطاق الوطن العربي كله...والواقع أن هذه المجموعة من المقالات تتفق في أنها تعبير عن نظرة صاحبها وآرائه في قضايا أدبية وقومية هامة، كما أنها تعكس مواقفه وتجاربه تجاه الحياة والفن، وتحمل بين طياتها إيمانه بدور الأدب في خدمة الإنسان وغده الأفضل... ».

ومن أهم دراساته النقدية التأسيسية: «دراسات في الشعر العربي الجزائري الحديث»، و «الشعر الديني الجزائري الحديث»، و«تطور النثر الجزائري الحديث»، و«فلسطين في النثر الجزائري الحديث».

ومن أبرز أعماله الإبداعية مسرحية: «مصرع الطغاة»؛ فقد بدأ حياته الأدبية كاتباً مسرحياً؛ فصدرت مسرحيته في (تونس)، عن منشورات دار بوسلامة، سنة: (1959م)، ووصفها الدكتور(أبو القاسم سعد الله)، بقوله: «تدور حوادث هذه المسرحية في الجزائر أثناء فترة الاستعداد للثورة ثم تتابع أحداث المعركة التحريرية إلى نهايتها المحتومة، وهي(مصرع الطغاة)، ويُمكن تلخيصها في الأفكار التالية: 1-يقظة الضمير الثوري وفكرة الواجب الوطني(الفصل الأول).2-إفلاس الأحزاب السياسية ويأس الجيل الجديد منها(الفصل الثاني).3-الحب إزاء التضحية والوطنية(الفصل الثالث).4-وأخيراً رد الفعل الفرنسي وفشل الاستعمار في القضاء على الثورة(الفصل الرابع).ولكن المسرحية لم تكن مجرد أحداث سياسية وصراعاً بين الوطنية والاستعمار.إنها تحتوي على لقطات فنية رائعة وعلى لوحات إنسانية شيِّقة.فقد رمز المؤلف إلى الجزائر القديمة التي كانت تود أن تتحرر، ولكنها لم تستطع بشخصية الأب الذي هو في نفس الوقت والد البطل...».

ومن بين الأعمال الإبداعية الأخرى التي كتبها الدكتور (عبد الله ركيبي) مجموعة قصصية، عنوانها: «نُفوس ثائرة»، نُشرت بالقاهرة سنة: (1963م)، وكتب تقديمها الناقد المصري الدكتور (شكري محمد عياد).ويقول مؤلفها في مستهلها: «...نريد لقصتنا أن تكون تعبيراً حياً عن عواطف الشعب وأحاسيسه.وأن تكون فناً للحياة النابضة، الحياة الجديدة، حياة التطلع والأمل؛ وبالتالي نود أن تكون رمزاً لليقظة والتطور، لا رمزاً للتخدير، للسكون والموت؛ هذه رسالة القصة كما أفهمها، رسالة إنسانية صميمة(رسالة تصف الدواء وتُقدم العلاج في نفس الوقت)؛ رسالة تفتح العيون لنُطل على عالم الخير والحق والجمال، ونبعث الأمل والحياة في نفوس عذبها الألم، وأضناها الشقاء، وقتلها اليأس.ولعل هذه بعض الدوافع التي دفعتني لكتابة هذه المجموعة التي عشت أحداثها وصاحبت أفرادها، وشاركتهم أحاسيسهم ومشاعرهم، إنها صورة لحياة أفراد عاشوا في هذه المرحلة الجديدة التي يمر بها وطننا في هذه الآونة الخطيرة، وفي هذه المرحلة الجديدة التي يعيشها الإنسان الجزائري ... الإنسان الذي وجد نفسهُ يُواجه حرباً فُرضت عليه، فكان لابد أن يتخذ منها موقفاً، وكان موقفه منها أن يُناضل ويُكافح حتى يُحقق كرامته كإنسان...».

يقول عنه الناقد الدكتور(عبد الملك مرتاض): «كان الرجل نقيَّ القلب، دمث الخلق، لطيف العشرة، دائم الابتسامة، هادئ النفس».

ويصفه المؤرخ الدكتور(أبو القاسم سعد الله)بأنه: «خدم الأدب الجزائري بتدريسه في الجامعة وفي تآليفه، وفي دراساته الأدبية العديدة. وقد درس فنونه من قصة ورواية ومسرحية ومقالة، ثم إن الفضل يرجع إليه في ريادة الكتابة عن القصة دراسة ونقداً...وخدمة للأدب الجزائري، أشرف على عدد من الرسائل الجامعية، وتخرج على يديه طلاب جيدون ظلوا أوفياء له، أغلبهم من الجزائريين، وبعضهم من الوطن العربي، وقد شارك في مناقشة الرسائل الجامعية».

***

الدكتور محمد سيف الإسلام بــوفـــلاقــــة

كلية الآداب واللُّغات، جامعة عنابة، الجزائر

....................

أهمّ المراجع:

1-د.عبد الله ركيبي: نفوس ثائرة، منشورات الدار المصرية للطباعة والنشر، القاهرة، 1962م.

2-د.أبو القاسم سعد الله: تجارب في الأدب والرحلة، منشورات عالم المعرفة، الجزائر، ط: 03، 1430هـ/2009م.

3-د.عبد الملك مرتاض: هؤلاء أصدقائي- ملامح من ذكرياتي مع الأدباء العرب-، منشورات دار البصائر الجديدة للنشر والتوزيع، الجزائر، 2013م.

 

لم يخطر على بالي يوماً أن التقيه في مقبرة بأرضٍ بعيدة، لكن شاهدة هذا القبر الذي بحثتُ عنه طويلاً حتى وقفتُ أمامه أقرأ الفاتحة وألقي السلام، أعادتني إلى ذكريات بعيدة تعود إلى أيام الدراسة الجامعية منتصف السبعينيات، يوم شاء الحظ السعيد أن يكون صاحب القبر الدكتور عرفان عبد الحميد فتاح واحداً من « أساتذتنا الكبار». كان يومها في الثانية والأربعين من عمره، وفي عز نشاطه وحيويته وحضوره، وكانت سمعته كباحث ومفكر في الفلسفة الإسلامية والعقائد الدينية والتصوف تملأ الآفاق. وقفتُ أتأمل وأتذكر وأنا في باحة الجامعة الإسلامية العالمية المقامة على مساحة خضراء واسعة محاطة بالغابات الكثيفة في ضواحي ولاية كوالالمبور العاصمة الاقتصادية والثقافية والسياحية لماليزيا، وكانت المقبرة المقامة على تلة داخل أسوار الجامعة تبدو كأنها قطعة من الجنة، الزهور والشجيرات تظلل القبور، والأحجار والحصى الملونة تحيط بها، وشواهد المرمر الصقيل تحمل أسماء المتوفين وتواريخ ولاداتهم ووفياتهم مسبوقة بالبسملة والآيات القرآنية، فشعرتُ أن الرجل الذي قضى جل حياته في خدمة العقيدة الإسلامية لم يمت غريباً في أرضٍ غريبة، سيما وقد التحقت إلى جواره في المقبرة نفسها، بعد سنوات قصيرة على وفاته، عقيلته السيدة أم محمد رحمهما الله. كانت زيارتي للمقبرة في حزيران 2018 فأسترجعتُ آخر مرة التقيته مصادفة في بهو فندق بالعاصمة الأردنية عَمان بعد مغادرته بغداد للتدريس في عدد من الجامعات العربية قبل عشرين عاماً، واتفقنا على أن نلتقي مرة أخرى في مكان ما، لكن بالتأكيد ليس في مقبرة! .3063 نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها

أولئك « الأساتذة الكبار» في قسم الفلسفة بكلية آداب جامعة بغداد، أربعة منهم تخرجوا وحصلوا على شهاد الدكتوراه في الستينيات من القرن الماضي من جامعة كامبيردج في إنكلترا، بل أنهم تخرجوا جميعاً على يدي المستشرق المعروف أرثر جون آربري الذي توفي في العام 1969، أو تحت اشرافه المباشر، وكلهم ذهبوا في بعثات دراسية إلى إنكلترا ليدرسوا الفلسفة والتصوف والعقائد والفرق الإسلامية !!، وهم على توالي حصولهم على الدكتوراه من الجامعة كلاً من كامل مصطفى الشيبي، وحسام محي الدين الآلوسي، وعرفان عبد الحميد فتاح، وناجي عباس التكريتي. أما مدني صالح فهو أيضاً خريج جامعة كامبيردج لكنه اكتفى بشهادة الماجستير، وعاد من دون أن يناقش أطروحة الدكتوراه لأسباب قد تتعلق بطبيعته المتمردة والساخرة من التقاليد الأكاديمية الجامدة!، وآخر الذين تخرجوا من الجامعة نفسها بداية السبعينيات عبد الأمير عبد المنعم الأعسم. ومن خريجي إنكلترا الأوائل الكبار جعفر آل ياسين الذي كان يمتلك حضوراً أكاديمياً متميزاً، لكنه على خلاف زملائه « الأربعة الكبار» لم يحصل على الدكتوراه في الفلسفة من كامبيردج، بل من جامعة أوكسفورد العريقة التي درس فيها أيضاً حازم طالب مشتاق الفلسفة اليونانية، فيما حصل ياسين خليل على الدكتوراه من جامعة مونستر الألمانية، وهو الوحيد من بين أقرانه الذي شذ عن القاعدة في اكمال دراسته العليا في بلد غير إنكلترا، وفي اختصاص غير اختصاص الفلسفة الإسلامية، انما اختار تخصصه في مجال المنطق الرياضي وفلسفة العلوم، وتحديداً عن الفيلسوف الألماني رودلف كارناب ونظريته في الوضعية المنطقية.

تناول عرفان عبد الحميد في أطروحته للدكتوراه « أثر الفكر الإعتزالي في فكر الشيخ المفيد»، ثم توالت مؤلفاته وكتبه المهمة في الفلسفة، والفلسفة الإسلامية، والتصوف، والفرق الإسلامية، منها « المدخل إلى معاني الفلسفة « و» الفلسفة في الإسلام دراسةٌ ونقدٌ « و» دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية « و» المستشرقون والإسلام» و» النصرانية نشأتها وأصول عقائدها « و» اليهودية عرض تاريخي والحركات الحديثة في اليهودية «. أما كتابه عن التصوف « نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها» فقد بدأه بمقدمة أوضح فيها أن كتابه هذا يمثل «محاولة علمية تهدف إلى التعرف على مجمل الحركة الروحية في الإسلام، وذلك باستيعاب جميع العناصر المكونة لها ووعي تام بمراحلها المختلفة المتتابعة من تصوف روحاني معتدل سمح جاء به الإسلام، إلى حركة زهد منظمة اتسمت بالفرار من الدنيا والانقطاع عن الناس واعتزال الحياة، إلى تصور ذي منزع فلسفي خالص ضّم أشتاتاً من الثقافات الأجنبية جاءت مع حركة الترجمة والاختلاط المباشر والاحتكاك الحضاري بالأديان والفلسفات القديمة التي اصطدم بها الإسلام في البلاد المفتوحة». ومن أجل هذا الهدف الذي حدده منذ البدء فإن فتاح يمضي في عرض الاتجاهات العامة للفكر في الإسلام والتصور الإسلامي للألوهية والحياة ودوافع حركة الزهد في الإسلام وتطور الزهد إلى التصوف والمعرفة الصوفية القائمة على أن التصوف وسيلة منتخبة « تؤدي إلى تصفية القلب بقهر شهوات النفس ومغالبة الهوى»، وأما غايتها فهي « الوصول إلى معرفة الله تعالى»، ولقد كان عرفان عرفاني المعرفة، صوفي النزعة، عارفاً بالله حق معرفته، صافي النفس، ساعياً للخير والهداية في منهج وسطي واعتدال إسلامي، مما فتح له القلوب أينما توجه وأرتحل.

وقد استقر به المقام بعد العام 2003 في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا التي عرفت قدره، وحجم مقامه، واعتزت به، واستثمرت وجوده استاذاً في كلية معارف الوحي، واحتضنته داخل حرمها الجامعي حياً وميتاً بعد رحيله في العام 2007 عن عمر ناهز الرابعة والسبعين عاماً.

***

د. طه جزّاع

 

 

ان أكثر أطباء العهد الماضي تحديداً قد عاصروا زمن كان التطور الطبي فيه يحبو ويسير ببطء شديد والمعلومات المتوفرة لديهم عن أسرار جسم الإنسان ناقصة وغير مكتملة.. لذا نجد إن علاجهم كان يصيب ويخيب في أكثر الحالات لأنه مبني على أساس الخبرة المحدودة والدراسة الجامعية الناقصة التي كان يعاني منها الصنف الطبي في حينها لعدم الوضوح والضبابية التي كانت تحيط بأسباب الكثير من الأمراض المستعصية ومسبباتها ، أن بعض هولاء الأطباء الذين مازالوا قائمون في عياداتهم الطبية قد أصبحوا كبار السن وعاجزين أو عاجزون عن مواكبة التطور العلمي الحديث الذي يحتاج إلى الفكر الناصح والجسد النشيط والمتابعة المستمرة والسفر الدائم لحضور المؤتمرات المختصة والبحث عن أسباب ومسببات أمراض العصر المعقدة التي ظهرت بسبب الحروب أو تطور الصناعات وتأثيرها المدمر على صحة الإنسان ، فقد ابتعدوا لظروفهم القاهرة عن التطور العلمي كما ذكرت وأصبحوا أطباء متخلفين أمام الانقلاب التكنولوجي المعاصر الذي دخل العالم وجاء بمعلومات ومصطلحات جديدة لايستطيع التحليق في اجوائها الا الذين درسوا في الجامعات العالمية الحديثة واطلعوا على أحدث الأمراض والأجهزة المعقدة المستخدمة هناك وما توصل اليه علم التشريح والعلاجات المستحدثة التي دخلت تحت مسميات جديدة ومتراكبة لم يسمع بها الاطباء القدماء جزاهم الله خيرا.

في الحقيقة اني لا انتقص من انجازاتهم المشرفة في حينها فقد كانت مجتمعاتنا تعتمد اعتماداً كلياً على تشخيصهم وعلاجهم آنذاك ولكني أرى أن تقاعدهم عن العمل اليوم هو اسلم طريق لحفظ تألقهم الماضي حالهم حال لاعب كرة القدم الذي يبدع في شبابه ويعتزل بعد ان يكبر ويشيخ..... بدل من أن يستمروا في مهنهم ويذهبوا في تشخيص أمراض الناس بشكلٍ غير دقيق بسبب اتباعهم طرق كلاسيكية غير متكاملة العدة الحديثة والفكر المؤهل احياناً فقد اتضح ان تشخيصهم ينقصه الكثير من العمق العلمي المعاصر وما توصل اليه الزمن من أسرار التركيب الفسيولوجي التي تعنى بالوظائف الفيزيائية والكيميائية التي تتطور داخل اعضاء الكائن الحي ، فليس بمقدور الناس أن يرموا اموالهم عبثاً من وراء مراجعة عيادات اطباء خرجوا لنا من اكادميات العهد البعيد ولم يلحقوا الركب لتطويرأنفسهم بسبب السن والشيخوخة والعجز الجسدي وخاصة عند محاولاتهم في معالجة الناس محدودي الموارد من العمال الكسبة الذين يحصلون على قوتهم يوماً بيوم ...

يتميز الجيل الحالي من خريجي كليات الصيدلة كمثال على ماجئت به في سطوري المنصرفة يتميز بالكفاءة المهنية العالية وخاصة من الذين عاصروا الحداثة وعملوا مبكراً أي بعد تخرجهم مباشرة كوسطاء لبيع الادوية بين الشركات المنتجة والصيدليات التجارية العالمية فقد كان لديهم اتصال لاينقطع مع الاطباء المتقوقعين في عياداتهم المزدحمة بالمراجعين على الدوام فهولاء الاطباء لايمتلكون الوقت الكافي للاطلاع على جديد الاعداد الهائلة من الادوية الحديثة التي تطلقها الشركات الى الاسواق بعد أن دخلت بمسميات تجارية مختلفة لم يسمعوا بها من قبل ، ان هولاء الصيادلة المثابرين دأبوا على أن يقوموا بتوضيح مركبات ادويتهم الحديثة واخر ما توصلت اليه التكنلوجيا الصناعية بهذا الشأن لعدد غير قليل من الاطباء المنغلقين على معلوماتهم القديمة التي راحوا يعيدون ويصقلون فيها مع المرضى المغلوب على امرهم.. فصار أولئك الصيادلة من مستحدثي الخدمة يحملون معلومات لاحصر لها عن اسرار الادوية ومركباتها العميقة والحالات المرضية التي تستوجب استعمالاتها بالدقة المتناهية ، وهناك حالات مرضية شفيت مع نصائح ووصفات هذا النوع من الصيادلة بعد ان فشل في علاجها الكثير من الاطباء المتكبرين من أصحاب الانوف العالية .

.... هذا نداء موجه الى الأطباء وأصحاب الصيدليات والمختبرات التجارية الذي يميل البعض منهم في تجارته الطبية والدوائية الى الجشع وعدم رحمة المرضى وعدم مراعاة فقر وعوز الكثير منهم ، نرجو ان تعيدوا النظر بأسعاركم المتوحشة وان تخدموا أهل بلدكم بإنسانية ورحمة وعودوا الى شعار (الرحمة في الطب) الذي كان مرفوعاً ومتبعاً في العهد الماضي وندعوا أولئك الاستغلاليين منهم معدومي الضمير أن يتوقفوا عن امتصاص أموال الناس ويعملوا على تخفيض الاسعار التي راحت تتصاعد باضطراد حتى وصلت الى حد اللهيب الحارق. وسلامتكم.

***

ماهر نصرت / بغداد

 

كنا في الوطن المصادر المحبوس نستغيث، حين انكسرت رماح تغلب وترادفت خيولها مهزومة في الحروب، لم نعد نطيق ضجيج الشعارات ولغو الكلام، نتفيأ تحت جدار مثل السخام، قبل بلوغ النهار ذروته، ننتظر مقدم عبد الامير عباس* (ابو شلال)، متلفعاً بمعطفه الاسود الطويل، متباهياً بقامته الطويلة التي لم تنحن لرياح الفصول، في الجلسة نتبادل آخر اخبار جرائم (الحلفاء)، وأكاذيب بوش الأب،

السماء ملبدة بالسموم والرصاص، البرد يقصم ظهورنا، ينخر في العظام، الناس تقتات من جوع على الحشف وطحين نوى التمر المشوي على مدفأة (علاء الدين) النفطية، ياهولها تلك الايام، التي فتحت أبوابها للجحيم، ياهولها فاغرة أشداقها تلتهم الصغار، وغولها يفترس النساء لحظة الوحام، كأنما مدن العراق ليل من مجون، في المساء نختار أحد بيوتنا المتقاربة، لنلتقي نستعيد ما بدأنا به وقت الصباح، (التشكيلي محمود حمد، المهندس سامي الكفلاوي، المعلم المتقاعد أسد نعمة، واحياناً ينضم الينا الشاب الكوردي طه جمال)، نتطلع بلهفة لزيارة صديقنا عقيل الخزاعي (أبو ذر)، كان يدوس على الخطر، ننتظر منه أن يدس بين ايدينا كتاباً ممنوعاً، نتداول قراءته بسرعة.

يا بختك يا ابا شلال كأنك لا تعطش ولا تجوع، ولا تشعر ببرد، سيان عندك إن تناوبنا على ارتداء معطفك ساعات الليل، حين يقصم ظهورنا البرد، حتى بتنا نردد قولاً شهيراً (لقد خرجنا جميعاً من معطف أبو شلال)، عوضاً عن (غوغول)، تُدثّرَنا بيديك الصلبتين، حين نملّ من خصامك، أم نكابد من ضجر نبحث عن بلاد تضم رفاتنا، ونهرب من قاتل يتوعدنا، يقايضنا برغيف أسود، وأسوء أنواع السكر والشاي، كنت تسخر منا حين يرسم الخوف بصمته من حولنا، تهمس لنا بنبؤاتك وتعيد لنا قصة (المعطف)، التي سمعناها منك مراراً، لا بأس من إعادتها هذه المرة، يقول أبو شلال:

في العام 1959، كانت موسكو وبكين محجة لنا، محظوظ من يظفر بزيارة لأحدى (قلاع الاشتراكية) يوم ذاك، كنت عضواً في أحد الوفود المدعوة لزيارة الصين الشعبية، كان الوفد يضم عدداً من الشخصيات النقابية والقيادات الحزبية، للأحزاب والقوى السياسية وقتئذٍ، تضمن برنامج الزيارة لقاءً بالزعيم الصيني (ماوتسي تونغ)، الذي كان يتمتع بقامة طويلة خلاف أبناء الصين المعروفين بقصرها، وأثناء المصافحة خلع (ماو) معطفه، وضعه على كتفي لألبسه، كنت (أرهى) منه، لم يتخيل أنني الأطول فأهداني إياه - وصادف ان ولدت زوجتي ابنتها البكر فاسميتها (بكين)، انتهت رواية أبي شلال- .

تبادل ماو وأبو شلال الابتسامات، ظلت تلك الابتسامات مطبوعة على محيا عبد الأمير عباس طيلة عقود من الزمن، كلما تحدث عن تجربة الصين (الاشتراكية)، لم يخفت بريقها حتى بعد انهيار النظام السوفيتي وأنظمة بلدان شرق أوربا في مطلع تسعينات القرن الماضي. حين اُغتيلت الأحلام، وتمزقت الأماني، ورغم ضرواة الشوق لدى أبي شلال لماضيه.

حين اشتد المرض على (أبو شلال) في نهاية التسعينات، كان يشتد معه الحصار والجوع، والأمهات يغلين الحصى لصبية من غير لحم أو فتات، أوشك عبد الامير أن يتضاءل عوده، ويصفر وجهه، ترى من يرد اليه قوة جسده وبياض يديه، واخضرار روحه؟ أي ليل يضم رفاتك أيها العامل النبيل؟ مَن مِن أولادك جدير أن يرتدي معطفك من بعدك؟؟

ضاق الليل بنا حين حملناك الى مجاهل القفار والظلام، وضاقت دموع محبيك حسرة على معطفك حين عرضه ولدك الأكبر (علي) للبيع، في سوق الباب الشرقي بخمسة آلاف دينار استلمها نقدا من أحد المارة.

***

د. جمال العتّابي

..............

* عبد الامير عباس عبد المحمدي، كان عاملاً في دائرة السكك الحديد، وأحد قادة التنظيم النقابي فيها منذ أربعينات القرن الماضي، بسبب انخراطه في صفوف الحزب الشيوعي العراقي، تعرض للسجن والاعتقال عشرات المرات، في العهدين الملكي والجمهوري، كان من بين أسماء المجموعة التي ضمت سلام عادل، زكي خيري، ابو العيس، كريم احمد، عزيز الشيخ، عبد الرحيم شريف، عبد القادر اسماعيل، التي قدمت طلباً عام 1960،الى وزارة الداخلية في عهد عبد الكريم قاسم لإجازة (حزب اتحاد الشعب)، بعد أن رفضت الوزارة الطلب الأول، ومنحت الاجازة لجماعة داود الصائغ باسم الحزب الشيوعي العراقي. بتوجيه من الزعيم.

أحد أشقاء (ابو شلال) لاعب كرة القدم هادي عباس، الذي يلقب ب(خنتو) العراقي، كان يعد أشهر لاعب شغل مركز خارج اليسار في المنتخب العراقي في أعوام الخمسينات.

 

علي فضيل العربي: الشاعر علي محمود طه والمسجد الأقصى

المكان: باحة المسجد الأقصى، فلسطين الأبيّة.

التاريخ: التاسع عشر رمضان 1444 هـ الموافق للعاشر من أبريل / نيسان 2023 م.

صورة شباب من الفلسطينيين المرابطين؛ شيوخ، نساء، شباب، شابات، بعضهم يؤدي الصلاة، ويرفعون عقائرهم بالتكبير والحمدلة والدعاء، بينا كان جنود من جيش الاحتلال الصهيوني وشرطته، يحيطون بأولئك المصلين. وبالمقابل كانت هناك جماعات من اليهود والصهاينة (ذكور، إناث، اطفال، مراهقون، شيوخ) يقتحمون باحة المسجد الأقصى، وهم يمرّون على أولئك المصلّين، المرابطين، الذين يرتّلون كلام الله. ربّما كان الأولى بهم، ان يسمعوا كلام الله. لكن الظاهر أنّ على قلوبهم أقفالها، فهم يمرّون، كما تمرّ الأنعام والهوام، بل أضلّ.

كان المنظر، يوحي بأنّ مواجهات داميّة على وشك الاندلاع، بين المرابطين والمتطرّفين. لقد بلغ السيل الزبى، وتجاوز الصهاينة المدى، وحقّ الجهاد والفداء، كما قالها شاعرنا علي محمود طه منذ سبعة عقود من الذل والهوان والخنوع والاستسلام.

أجل، قبل أكثر من سبعين سنة صدح بلبل الشرق، الشاعر المهندس علي محمود طه،مغردا:

أخِي، جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَدَى

فَحَقَّ الجِهَادُ، وَحَقَّ الفِدَا

أَنَتْرُكُهُمْ يَغْصِبُونَ العُرُوبـ

ـةَ مَجْدَ الأُبُوَّةِ وَالسُّؤْدَدَا؟

فِلَسْطِينُ يَفْدِي حِمَاكِ الشَّبَاب

وَجَلَّ الفِدَائِيُّ وَالمُفْتَدَى

فِلَسْطِينُ تَحْمِيكِ مِنَّا الصُّدُورُ

فَإِمَّا الحَيَاةُ وَإِمَّا الرَّدَى

كانت تلك صيحة تحذير من شاعر حرّ، أدرك قبل فلول السياسيين الخطر المحدق بفلسطين والقدس والعرب والمسلمين أجمعين. لكنّ مرّت السنون والعقود، وازداد ظلم الظالمين عمقا واتّساعا، وتجاوز الآفاق، وبلغ مداه الجوزاء. كان ذلك عندما قسمت عصبة (عصابة) الأمم الظالمة خريطة فلسطين بين الطالم والمظلوم، بين صاحب الحق والمغتصب، بين ابن الأرض، أبا عن جدّ، وجدّ عن جدّ، وطائفة من شذّاذ الآفاق.

وكان هدف أوروبا النصرانيّة الكارهة لليهود والصهاينة، بشرقها وغربها وجنوبها وشمالها، التخلّص منهم – بعدما أعدمت وأحرقت منهم النازيّة الملايين في الحرب العالميّة الثانيّة - وذلك بإخراجهم من بلدانهم الأصليّة، وتسفيرهم إلى خارج الخريطة الأوربيّة، وبالضبط إلى فلسطين. ولم يكتشف زعماء بروتوكولات صهيون الخديعة، التي مازالت مستمرّة حتى الآن.

كيف انطلت حيلة التسفير على العقل اليهودي؟ كيف صدّق المواطن اليهودي بأنّ وطنه هو فلسطين، بينما ولد هو ووالده وأجداده في أروربا أو أمريكا أو إفريقيا أو آسيا؟ لماذا لم يدرك اليهود لعبة الغرب ضدّهم؟ كيف تحوّل العقاب والتهجير والتسفير والطرد المقنّن نحو فلسطين إلى سلوك إنساني وحضاري وعمل خيري وسياسة رحيمة في نظر اليهود المغفّلين؟ إنّ ما قامت به أوروبا وأمريكا في حقّ اليهود نوع آخر من التطهير العرقي، شبيه بالذي مارسته أمريكا ضد الهنود الحمر، ومارسته، أيضا، أوروبا الاستعماريّة في المستعمرات الإفريقيّة والأمريكيّة اللاتينيّة وفي البوسنة والهرسك وبورما.

لم يكن اليهود في حاجة ماسة إلى كيان دولة يجمعهم، بل كانت حاجة أوربا إلى طرد اليهود من القارة العجوز، وخداعهم، وذلك جمعهم – زورا وبهتانا – في فلسطين. لقد سعت أوروبا – بعد المحرقة الشهيرة – إلى تطهير المجتمعات الأوربيّة من اليهود، بحجة إقامة وطن لهم في (أرض الميعاد)، واتّخاذ القدس الشريف عاصمة لدولتهم اليهوديّة المزعومة. ومن حقّ اليهود – الذين خُدعوا بالتهجير والتسفير إلى فلسطين – أن يقاضوا أوروبا على إخراجهم من أوطانهم، التي ولدوا فيها ونشأوا، بوساطة إغرائهم بحلم الدولة اليهوديّة في (أرض الميعاد) المزعومة. وها هم حكام أوروبا اليوم، كما الأمس القريب والبعيد، يحرّضونهم على معاداة العرب والمسلمين – الذين أحسنوا إليهم في زمن العسرة - ويدفعونهم إلى الاعتداء عليهم ليل نهار، بالقتل والاعتقال والإبعاد والحصار، وغيرها من وسائل القمع والقهر والإرهاب المادي والمعنوي. وما اقتحام الفلول الصهيونيّة المتطرّفة باحة المسجد الأقصى المبارك إلاّ صورة من صور بثّ الكراهيّة بين أتباع الأديان السماويّة. وليعلم النصارى أن تدنيس المسجد الأقصى، واستيلاء الصهاينة عليه – لا قدّر الله – هو مقدمّة لهدم الكنائس والصوامع النصرانيّة، وفي مقدّمتها كنسية القيامة. فإن اليهود الصهاينة المتطرّفين لا عهد لهم، وكلّما عقدوا عهدا نقضوه. قال تعالى: (أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَه ُ فَرِيقٌ منهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) {البقرة / 100}.

أَخِي، قُمْ إِلِى قِبْلَةِ المَشْرِقَيْن

لِنَحْمِي الكَنِيسَةَ وَالمَسْجِدَا

*

يسوع الشهيد على أرضه

يعانق، في جيشه، أحمدا

متى يستيقظ اليهود من دوامة الخديعة الأوروبيّة والأمريكيّة، ويدركون بأنّ تجميعهم في أرض فلسطين، كان بغرض التخلّص منهم، وإبعادهم عن القارتين.، وإيهامهم بدولة يهوديّة، دينيّة على (أرض الميعاد)، بل على أرض ستبتلعهم جميعا، أو ستفضي بهم يوما ما إلى التيه والشرود في آدنى الأرض وأقصاها.

لقد عاش اليهود، في كنف الخلافة الإسلاميّة، في المشرق والمغرب والأندلس عيشة كريمة، فقد أحسن إليهم (و هم أهل ذمة) المسلمون، واندمجوا في أوساط المجتمع، ولم يقيموا لهم محارق، كما فعلت بهم النازيّة، ولم يطردوهم من بلدانهم كما فعلت أوروبا. فلمّا سقطت (غرناطة) آخر قلاع المسلمين في الأندلس، لم يجد اليهود ملاذا لهم ومنجاة من بطش النصارى القشتاليين، سوى بلاد المغرب الإسلامي الكبير، فاحتضنهم المسلون وأجاروهم وأكرموهم، وعاشوا في سلام وطمأنينة.

بينما، نالوا من النصارى على مرّ العصور، في المشرق والأندلس وأوروبا، قديما وحديثا، ألوانا من العذاب والقهر والتطهير العرقي والتسفير نحو فلسطين بغية التخلّص منهم. فلماذا يتصهين أغلب يهود اليوم ويقابلون الحسنة بالسيّئة، يعادون من أكرمهم وآواهم وحماهم بالأمس، ويميلون إلى من أحرقهم بالأمس القريب، وقهرهم بالأمس البعيد؟

إنّ الفكر الصهيوني المتطرّف الحالي، بيمينه ويساره ووسطه، إن جاز التعبير، يشكّل خطرا محدقا على الأديان السماويّة كلّها بما فيها اليهوديّة نفسها ؛ وقد جاوز الحدود الأخلاقيّة، بعد أن ضمن سلامة الحدود واطمأنّ، وأدرك أنّ الغضب العربي، القومي والوطني والإسلامي قد خمدت ناره واستسلم لقرارات مؤتمرات العار في مدريد وأوسلو وكامب ديفيد.

و منذ أن صدح الشاعر الحرّ علي محمود طه، تمادى ضياع فلسطين، وتجبّر الظالم، ولم يبق من روح العروبة مجدا ولا سؤددا ولا أبوّة. وأصبح تحرير فلسطين، كلّ فلسطين، قضيّة فيها نظر، بعدما اعترف العرب، سرّا وعلانيّة، بالكيان الصهيوني، تحت مسمّى (دولة إسرائيل) العبريّة.

فَفَتِّشْ عَلَى مُهْجَةٍ حُرَّةٍ

أَبَتْ أَنْ يَمُرَّ عَلَيْهَا العِدَا

*

وَخُذْ رَايَةَ الحَقِّ مِنْ قَبْضَةٍ

جَلاَهَا الوَغَى، وَنَمَاهَا النَّدَى.

و كان يوم الاثنين 10 نيسان / أفريل 2023 م، شاهدا على تطاول الباطل على الحقّ، وطغيان الظالم على المظلوم. فلول من الصهاينة يطأون بنعالهم اسفلت باحة الأقصى ويدوسون على نواصي مليار مسلم، تحت رعاية الغرب الصليبي المنافق، وحماية جنود الاحتلال. كانوا يمرّون على جماعة المصلين المرابطين أمام البوابة، وهم يرمقونهم بنظرات عنصريّة. وكان الخوف باد على ملامحهم من خلال وقع خطواتهم وحركات رؤوسهم.

و إلى أن يجعل الله، لأمة الإسلام مخرجا، سيبقى المرابطون في المسجد الأقصى شوكة داميّة في حلق الصهيونيّة، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. وأختم قولي، بما صدح به الشاعر الحر، الأبيّ علي محمود طه، رحمة الله عليه:

فِلَسْطِينُ يَفْدِي حِمَاكِ الشَّبَابُ

وَجَلَّ الفِدَائِيُّ وَالمُفْتَدَى

*

فِلَسْطِينُ تَحْمِيكِ مِنَّا الصُّدُورُ

فَإِمَّا الحَيَاةُ وَإِمَّا الرَّدَى

***

بقلم الناقد والروائيّ: علي فضيل العربي – الجزائر

 

 

 

هي حكاية لوحدها، هذه المرأة الألمانية التي اقتحمت في وقتٍ مبكر عالم الشرق، لتنضم إلى صفوف المستشرقين الذين لفتوا أنظار البشرية إلى الكنوز الروحية الشرقية في نصوص وأشعار التصوف الإسلامي، وتعلمت من أجل ذلك اللغة العربية وهي في الخامسة عشر من عمرها، ثم اتقنت الفارسية والتركية لتترجم للرومي والحلاج، وجابت الهند والباكستان وأفغانستان بحثاً عن روح الإسلام والتصوف، وتعلمت اللغة الأوردية لتترجم أعمال محمد إقبال وقصائد شاعري الأوردية الدهلوي، وأسد الله غالب، ولتكتب عن الإسلام في شبه القارة الهندية. وقبل أن يهتم المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، بحكاية الحسين بن منصور الحَلَّاج ويسلط الأضواء على أقواله وأشعاره وشطحاته ومأساته، كان التصوف الإسلامي قد وجد اهتماماً أكاديمياً متصاعداً نتجت عنه مئات البحوث والكتب التي كتبها مستشرقون كبار أمثال رونالد نيكسلون وبول كراوس وكارل بروكلمان، وليس آخرهم المستشرق الإنكليزي الشهير آرثر جون آربري الذي حقق الكثير من كتب التراث الإسلامي، وهو الذي أشرف بداية الستينيات على أطروحة الدكتوراه لأستاذنا كامل مصطفى الشيبي في جامعة كمبردج، وكانت عن الفكر الشيعي والنزعات الصوفية، والتي طبعت لاحقاً بكتاب حمل عنوان «الصلة بين التصوف والتشيع».

انها المستشرقة الألمانية أنَّا - أو آنه كما تكتب أحياناً - ماري شيمل التي عاشت قصة حب صوفية، يوم سلكت طريق الشرق منذ شبابها اليافع، وكرست سنوات عمرها للبحث في الأدب والفن والخط الإسلامي والزخارف العربية، والشعر الصوفي، لكنها تميزت عن غيرها من المستشرقين بأنها انغمست إلى حد كبير بعالم التصوف، بل وكرست حياتها الشخصية لمشروعها الاستشراقي ولنزوعها الصوفي الإسلامي الذي غير حياتها أكثر من أي شيء آخر وهي التي شهدت ظهور هتلر وصعود النازية في بلدها، مثلما شهدت افولها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية. في كتاب سيرتها الذاتية « الشرق والغرب: حياتي الغرب- شرقية» الذي ترجمه عبد السلام حيدر ضمن المشروع القومي للترجمة في مصر وبدعم مادي من معهد جوته تتحدث شيمل عن طفولتها وصباها، والسنوات الأولى لما بعد الحرب، وحياتها في مدينة ماربورغ، وصولاً إلى العام 1952 حين انتقلت إلى تركيا أستاذة في كلية الإلهيات بأنقرة وزياراتها لإسطنبول وقونية مدينة جلال الدين الرومي، ثم عبورها إلى الجانب الآخر للأطلنطي لتشغل كرسي الثقافة الهندو- إسلامية في جامعة هارفارد الأمريكية، ومع أنها أمضت ربع قرن هناك، إلّا أنها تكتب: « رغم كل الأشياء الجميلة، ورغم النجاحات الكبيرة التي لم اتوقعها قط، ورغم كل الصداقات الرائعة، فإن الولايات المتحدة لم تصبح وطناً لي قط «، ذلك أن روحها منجذبة إلى الشرق منذ قرأت يوماً وهي مازالت صبية حكاية الحكيم الهندي والغلام المسلم التي تنتهي بالعثور على نعش أكبر ملوك العالم، وقد كُتبت عليه جملة أصابتها بما يشبه الصاعقة « الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا «. وفي عام 1941 أصابتها صاعقة ثانية باطلاعها على ديوان « المثنوي» لمولانا الرومي: « وحين أصبح الديوان بين يدي أصابني شيء مثل الصاعقة، وقد بقيت منذ ذلك مخلصة له، حججتُ كثيراً إلى ضريحه في قونية». وارتحلت «سيدة الاستشراق» كما تُلقَب، عبر الشرق فزارت بلداناً عربية كثيرة منها سوريا والأردن ومصر وتونس والمغرب والسعودية واليمن والكويت والبحرين، كما زارت بلدان وسط آسيا مثل باكستان وأفغانستان والهند واندونيسيا.

كانت أنَّا تحب أحياناً أن تستخدم اسم «جميلة» في بحوثها وكتاباتها، وهو اسم تدليل أعطاه لها أحد زملائها العجائز في برلين كما تقول، وفي زيارة لها لبيت أحد الأصدقاء الأتراك سألها سيد البيت : هل وردت الكلمة في القرآن؟. قلت: لا، فقط صيغة المذكر «جميل» في سورة يوسف «صبر جميل». وقد فُتنت جميلة بكل ما يمت للإسلام بصلة، وتأثرت عميقاً بالطقوس المولوية وما يرافقها من موسيقى تضعها في حالة من «نشوة الوصال»، مثلما ارتحلت كثيراً لتتقصى الموسيقى الفارسية الدينية، والموسيقى الهندية الكلاسيكية، والموسيقى الباكستانية الشعبية، وتصل إلى ينابيعها واصولها ومعانيها الروحية، فضلاً عن بحوثها وكتبها وتحقيقاتها التي يصعب حصرها، والتي أنجزتها منذ تأثرها الأول بالمستشرق المجري جولد تسيهر حين قرأت محاضراته عن الإسلام، ويوم وجدت نفسها في العام 1945 معتقلة في مدينة ماربورغ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، قامت بإلقاء أول محاضراتها في الإسلاميات من أعلى حافة السرير في معتقل فيستفال هاوس!.

في ختام سيرتها الذاتية التي فرغت منها قبل وفاتها بعام واحد عن عمر ناهز الثمانين عاماً، كتبت : إذا متُ غداً، فقد عملتُ ما يكفي. وإذا ما أعطيت عشر سنين أخرى، فإن لديّ من العمل ما يكفي. ثم أتذكر شعار طفولتي « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «، وأنا أعتقد في البعث الذي لا نستطيع أن نصفه ولا أن نتصوره: وذلك حتى نُحلق ونختفي في الحب الأبدي.

لطالما تمنت «جميلة» أن تُقرأ سورة الفاتحة على نعشها، وقد تحقق لها ذلك في ختام القداس البروتستاني بمدينة بون يوم الرابع من شباط 2003 بعد أسبوع على وفاتها.

وعلى شاهدة قبرها نُقش بالخط العربي: « الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا «.

***

د. طه جزّاع

 

مسار نضالي وإبداعي حافل

انتقل مؤخرا إلى دار البقاء الأستاذ رشيد جبوج، وهو واحد من بين رواد مسرح الهواة بالمغرب خلال سبعينيات القرن الماضي،   بدأ نشاطه المسرحي مؤلفا وممثلا في عدد من الفرق بمدينة فاس ك"المسرح الضاحك" و"جمعية الأمل" ومن الأعمال التي شارك في تشخيصها نذكر مسرحية “حزيران شهادة ميلاد” بمدينة فاس.

كما أنه كان مناضلا نقابيا في الاتحاد المغربي للشغل، ومناضلا سياسيا   في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وفي الحزب الاشتراكي الديمقراطي وأخيرا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. وقد دفع كغيره من أبناء جيله ضريبة النضال من صحته وحياته الخاصة.

انتقل الأستاذ رشيد جبوج من فاس إلى مدينة الرباط ليشتغل في جريدة أنوال لسان حزب منظمة العمل الدمقراطي كرئيس للقسم الثقافي ثم رئيسا للتحرير، واستطاع أن يمد جسور التواصل مع عدد كبير من الأدباء والمبدعين والمهتمين بالشأن الثقافي بالمغرب وأغلب الدول العربية، ويؤسس لمرحلة زاهية من العطاء الأدبي والفكري في مرحلة ملتهبة سياسيا واجتماعيا بالمغرب ميزتها عدة محطات نضالية دعت إليها التنظيمات النقابية والسياسية بالمغرب كإضراب سنة 1979م وإضراب 1981م.

في سنة 1992م التحق بوزارة الثقافة كأستاذ بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وما برح أن تم تكليفه بإدارة المعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء، وكان له دور فعال في إنجاح كل الدورات التي أشرف عليها، ورغم إحالته على التقاعد ظل حاضرا بقوة في المشهد الثقافي الوطني والعربي.

يقول الكاتب الجزائري واسيني لعرج في تدوينه له نشرها على صفحته بالفيس بوك ينعي فيها رشيد جبوج:

"وداعا عزيزي رشيد

فقدانك مؤلم. خسارة موجعة.

توفي صباح اليوم الأربعاء بالمستشفى العسكري بالرباط، الصحفي والمسرحي الصديق الجميل رشيد جبوج. 69 سنة، ليست إلا عمرا للمزيد من الإنتاج والتمايز. يعتبر رشيد جبوج من أهم الشخصيات الثقافية والإعلامية المغاربية. وهو واحد من الشخصيات المسرحية البارزة، بالخصوص مسرح الهواة بالمغرب.

صداقتي برشيد بدأت منذ الثمانينيات وكان قد التحق بجريدة «أنوال» ليصبح سكرتير التحرير فيها. كنت في مؤتمر ثقافي بمدينة أگادير صادف إنهاء القطيعة بين الجزائر والمغرب في نهاية الثمانينيات. وخلال عودتي إلى الجزائر مررت على الدار البيضاء والرباط وزرت الكاتب عبد القادر الشاوي في سجن القنيطرة برفقة الإعلامية والمثقفة ليلى الشافعي. في الرباط التقيت لأول مرة بالصديق رشيد جبوج الذي منحني كتابا كبيرا شمل أعدادا كثيرة من جريدة «أنوال». منذ تلك اللحظة لم تنقطع العلاقة مع رشيد في المغرب والجزائر والبلاد العربية. وكان دائما إنسانا جميلا ومحاورا هادئا.

تعازي الخالصة لوالديه وزوجته وعائلته كافة.

لروحه الرحمة والسلام".

أما رفيقه في النضال طالع السعود الأطلسي فقد حرص على إلقاء كلمة تأبينيه خلال مراسيم دفنه بالمحمدية قال فيها:

أخي ورفيقي وزميلي رشيد، تشاركنا الحياة لحوالي 55 سنة، أزيد من نصف قرن، هي حياة، روضنا خيالاتنا فيها على اختراق براري الفرح وعلى اجتياز فيافي الألم، ولم نتخيل قط أنفسنا في مثل هذا الوضع، أنت مسجى تطل على روابي النأي إلى ما وراء الأفق، وأنا أمامك وأنت تنفلت مني، بينما يشتد علي وجع لسعات الفراق..كنا طوال هذا العمر المشترك، والزاخر بالأحلام، الأمنيات، الانتصارات، المباهج، الانكسارات والآلام، كنا نرتشف الحياة بكل عذوبتها، ونحلي مرارتها بدفقات الأمل والتفاؤل، وهي التي كانت من صميم إرادتنا ومن جوهر ثقافتنا، لم يكن لنا متسع ولم نكن مستعدين كي نفسح للموت أي انحشار في خيالاتنا..

أخي ورفيقي رشيد، اليوم لا ندفنك، أنت عصي على الدفن، نعم، أتعبك الجسد وضقت به، وها قد تخلصت منه، وحررت روحك من الحجر الجسدي، لتحلق في تلك الفضاءات التي نسجتها، بين ذويك وأقربائك، من عائلتك، من أصدقائك ومن رفاقك، فضاءات المحبة بك، معك، ولك. نحن الآن، إنما، نغرسك في تربة وطنك، نغرسك نبتة " جبوجية "، والتي بها تثمر دوحات وهي فواحات بعطور الأمل، ومثمرات بكل ما يحفز على العمل.. القيم التي اهتديت بها في حياتك، وصنتها، هي حية ولا تدفن.. ذكريات حيويتك، حيث ما كنت لا تموت ولا تطمر، إسهاماتك في المتعدد من انخراطك في السعي الوطني العام للتقدم.. وقد كنت مناضلا نقابيا في الاتحاد المغربي للشغل، مناضلا سياسيا في 23 مارس، في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، في الحزب الاشتراكي الديمقراطي وأخيرا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.. مبدعا مسرحيا، مؤلفا وممثلا..صحفيا في جريدة "أنوال".. وفاعلا في إدارة المعرض الدولي للكتاب بالدار البيضاء.. كل تلك المجهودات، وتلك المنجزات، لا يمكن دفنها، وغير قابلة للمحو ولن يطالها غبار النسيان..

أراك الآن وأنت تنفلت من قبرك، كنت تكره الضيق وتنفر من العتمات، كنت تحب الحياة، وتتلذذ نشواتها، عبر أناقة تعاطيك معها. كان الفرح عقيدتك، به تمارس إنسانيتك وبه تعقمها، لك ولمن هم حواليك.. والأهم، بذلك الفرح تحيا وطنيتك.. الوطن عندك فرح ومحبة وانشراح وألق. الوطن يستأثر اليوم بجسدك ويخبئه في ثراه، ويزودك بطاقات الانصهار في المجرى الخالد والمتدفق للذاكرة الوطنية..

طوبى لك، أبناؤك الثلاثة، يونس، الطيب وهاجر، يحمدون لك اليوم ودائما أنك نحثتهم بإزميل النجاح، وشحنتهم بقدرة العطاء السخي لوطنهم.. رفيقة حياتك، أختنا الكاتبة بديعة الراضي، تلهج بالامتنان لك على إسنادها بحرارة معنوياتك. طوبى لك، أمك راضية عليك وقد قابلت حنانها بدافئ برك بها وكل ذويك ورفاقك ومعارفك يتدفؤون اليوم، ضد صقيع الفقد، بتلك المحبة التي تواصلت بها معهم، وبما استودعتهم من جرعات ومقاطع من لطفك ومن فرحك..

لك منا قبلات العرفان وصادق مشاعر الامتنان.. اذهب وأنت تنساب مطمئنا إلى شساعة الخلود في ذاكرة الوفاء".

طالع السعود الأطلسي"

هذا مجرد غيض من فيض استعرضناه باقتضاب للحديث عن قامة إعلامية وثقافية رحلت عن عالمنا وخلفت حزنا عميق لدى مثقفي المغرب والعالم العربي.

***

محمد محضار

 

 

كانت الحويزة كباقي مدن اقليم الأهواز خاضعة لحكم المغول وكان حاكمها حين ظهور المشعشعيين حفيد تيمور لنك المغولي فنازله محمد بن فلاح المشعشعي بمساعدة بعض القبائل العربية وجرت بينهم معارك كانت نتيجتها استيلاء المشعشعين على الحويزة وخروجها من حكم المغول عام ٨٤٥ للهجرة. توسعت رقعة هذه الحكومة فضمت مناطق عدة إليها وعند استقرارها شارك أمراؤها في المسيرة الثقافية في الأهواز حتى تحولت إلى مركز من مراكز العلم والثقافة وازدهر الأدب وانشئت فيها المدارس والمكتبات وبرز الأساتذة والمدرسون، حتى أصبحت هي الوجهة والمقصد للأدباء وطلاب العلم الذين ما انفكوا يتوافدون إلى عاصمتها الحويزة من شتى بقاع الأرض. ف:

* أنشئت عدة مكاتب ومدارس وصفوف في مختلف العلوم وباللغة العربية منها مدرسة آل أبي جامع العاملي في تستر والحويزة والخلفية والتي تخرّج منها الكثير من العلماء والخطباء و الأدباء. وأيضا مدرسة الشيخ سعد ومدرسة عبدالله الجامعي، مدرسة آلبوصوف، ومدرسة الأمير مبارك، ومدرسةالأمير خلف ومدرسة عبدالعلي عروض والعشرات غيرها . ويشير اللامي إلى أن كثرة الكتّاب والعلماء في هذه الحقبة يرجع إلى كثرة المدارس والمكاتب.

* وأنشئت مكتبات عامة تضم كتباً عدة في مختلف العلوم منها علوم الحديث، والأدب والفلك والكيمياء والطب أضخمها كانت مكتبة أمراء الحويزة وأغلب الكتب والمخطوطات الأهوازية القديمة التي وصلتنا هي في الأساس من رفوف هذه المكتبة الضخمة. كنماذج نشير إلى مكتبتي الشيخ سعد، ومكتبة السيد نعمة الله الجزائري التي كانت تضم قرابة اثني عشر ألفا من الكتب والمخطوطات.

* وأصبحت أرض الأهواز دار العلماء ومجمع الفضلاء والأتقياء ومعدن الأبرار والصلحاء ويؤكد نعمة الجزائري أن الغالب على أهلها الزهد، والذكاء ومطالعة العلوم وكتابة الكتب ونظم الأشعار وتدوينها والتصانيف العالية في أنواع العلوم منها علم النحو والصرف.

* وتوسع العلم و المعرفة إلى العامة حتى أصبحت بعض البيوت مكاتب لتعلم اللغة العربية وعلوم القرآن والأدب واشتهرت في هذا الباب بيوت كبيت الطريفي وبيت السيد عبداللطيف وبيت الشيخ نعمة و بيت آل البكاء و بيت آل النخعية المذحجية وبيت آل سبتي وبيت آل بديع و بيت آل مهدي وغيرها التي تركت بصمة في نشر المعرفة على مستوى الإقليم.

* وظهرت ثلة كبيرة من العلماء والأعلام الأهوازية وشعروا بالمسؤولية تجاه رفع راية الثقافة فلم تخمد نار العلم في هذه الأرض وبقيت الأهواز بمختلف مدنها مركزاً من مراكز العطاء والفكر على كافة الأصعدة وفي العلوم المختلفة. مؤلفون عدة منهم شرف الدين الدورقي، العالم الشهير السيد شبر بن ثنوان، السيد هادي باليل الموسوي صاحب كتاب الياقوت الأزرق الذي ذكر فيه أكثر من مئة علم من أعلام الأهواز صنعتهم مدارس الحقبة المشعشعية ويذكر اللطيفي في كتابه تاريخ الحويزة ورجالها قرابة الثلاث مئة علم من أعلام الأهواز مع سير حياتهم في كتابه المقسم إلى جزئين.

* في مجال الشعر ظهر عدد كبير من الشعراء في فترة حكم المشعشعيين، كشهاب الدين الموسوي، علي بن خلف الموسوي، إبن رحمة الحويزي، هاشم الكعبي، عبدالعظيم الربيعي وآخرون. وقد تناولوا جمیع أغراض الشعر المتعارفة من غزلٍ ومدحٍ وفخرٍ ورثاءٍ ووصفٍ وحکمة واخترعوا فن البند الذي مثّل أولى المبادرات في الشعر الحر. نسب هذا الإبداع السيد جمال الدين في كتابه "الإيقاع في الشعر العربي" إلى الأديب الشهير السيد شهاب الدين أبي معتوق الحويزي وقد أشارت نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر"إلى هذا الأمر بأن "أعظم إرهاص بالشعر الحر هو ما يعرف بالبند" الذي أبدعه شعراء الأهواز.

إذن تزامناً مع عصرٍ كان يعرفه العالم بعصر الانحطاط في الأدب العربي انتعشت الحياة العلمية والأدبية والثقافية في هذه البقعة (الأهواز) واستمر أبناؤها بالعطاء لكنّهم أمسوا تحت هالة من غبار الإهمال والإجحاف.

***

سعيد بوسامر/الأهواز

...............................

المصادر التي راجعها الباحث:

بلاوي، رسول. إنتعاش الحياة الثقافیة والأدبية في جنوب إيران والعراق.

www.research.pgu.ac.ir/~RBallawy/ViewResearch.aspx?ResearcherID=21535

بوسامر، سعيد، وفرحان، ميثم. سين وجيم لمحات من تأريخنا. نشر قهوة. الأهواز. ٢٠١٨.

اللطيفي، جليل. تاريخ الحويزة ورجالها. الأهواز. ١٤٢٢ ه.

المحمودي، قاسم. الأدب العربي في الأهواز.

www.alfalahia.blogfa.com/post/267

 

أعشاش النسور.. دراسة للقلاع الأثرية الإسماعيلية في سورية

بقلم: بيتر ويللي

ترجمة: محمد عبد الكريم يوسف

Citadels of the Syrian Mountains – I

***

في الفصل الثالث المتعلق بالجزء السوري من الدولة الإسماعيلية، نظرنا أولا بشيء من التفصيل في خلفية تاريخ سوريا، وظهور الصليبيين وصعود النفوذ الإسماعيلي انطلاقا من بلدة سلمية الصغيرة في منتصف القرن التاسع. ثم قمنا بعد ذلك بدراسة أوثق للعلاقة بين الإسماعيليين والصليبيين، بناء على واقع سياسة القوة بدلا من الاختلاف في المعتقدات الدينية. مما لا شك فيه أن الشخصية الأكثر روعة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر هما القائد الإسماعيلي رشيد الدين سنان، وهو من سمي بـ "شيخ الجبل"، والجنرال صلاح الدين الذي سحق الجيوش الصليبية في حطين واستحوذ على ممتلكات الإسماعيلية في المناطق التي سيطر عليها.

لقد زرت دمشق في عدة مناسبات، أحيانا أثناء توقف في مطار دمشق أثناء رحلتي من طهران إلى لندن. في كل مرة كنت أشعر بالذهول على الفور من الاختلاف في الأجواء بين إيران وسورية. لم يكن هذا الاختلاف سياسيا أو جغرافيا فقط. في زياراتي المبكرة لدمشق، بدا أن هناك تمردا في طور الإعداد أو على وشك الحدوث، بينما كانت طهران ظاهريا نموذجا للهدوء. كان الجو العام و الشعور العام في البلد مختلفا تماما. على أي حال، تقع دمشق على بعد آلاف الأميال من طهران، وهناك حتما تغيير في الإيقاع الموسيقي للبلاد. لذا، يجب أن أطلب من القارئ أن يضع جانبا انطباعاته عن الحصون الإيرانية العظيمة مثل نيفسار شاه وجردكوه وسورو في الوقت الحالي، وننتقل الآن إلى القلاع الإسماعيلية في سورية.

على الرغم من الإشارة في كثير من الأحيان إلى التاريخ السياسي للإسماعيليين في سورية، إلا أنه لم يتم إيلاء اهتمام كبير حتى الآن لقلاعهم، باستثناء المقالات القصيرة مثل " قلاع الاغتيال في سوريا " التي نُشرت منذ سنوات عديدة في مجلة الخبير . لاحظ المؤلف، جون فيليبس، في بداية مقالته، أنه بصرف النظر عن مصياف، نادرا ما يزور المسافر الجديد العهد بالسفر هذه القلاع بسبب بُعدها وعدم إمكانية الوصول إليها. هذه العبارة صحيحة بالتأكيد ويعززها روس بيرنز في دليله التاريخي عن سورية في كتابه " آثار سورية". ولدى دخوله إلى قلعة الكهف، التي أعطى لها نجمتان (مما يشير إلى زيارة "جديرة بالاهتمام") كتب: "العثور على قلعة الكهف يمكن أن يكون تمرينا رياضيا كبيرا، وقد قام الإسماعيليون بعمل جيد في البحث عن موقع مخفي بعمق في ثنايا جبل الأنصارية (2) . يمكنني بالتأكيد أن أشهد على هذا كنتيجة لرحلتي الاستكشافية مع أدريان إلى قلعة الكهف في عام 1998، لكن هذا لا ينبغي أن يسبب أي مفاجأة لأن جميع القلاع الإسماعيلية تقريبا في سورية تم بناؤها في أجزاء يصعب الوصول إليها نسبيا من جبل الأنصارية، وهي منطقة جبلية كانت تسمى "جبل بحرة" في العصور الوسطى.

اكتسبت هذه الاعتبارات أهمية أكبر في سورية من إيران بسبب ضعف معاقل الإسماعيلية. بغض النظر عن حسن اختيارهم لمواقعهم في تلال "جبل بحرة"، لم يكن الإسماعيليون السوريون بعيدين جدا عن أعدائهم، سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين. عادة ما تكون القلاع الإسماعيلية في سورية ليست كبيرة مثل تلك الموجودة في إيران، كما أنها لا تتمتع بميزة كبيرة تتمثل في المساحة والبعد التي كانت موجودة في إيران. كانت هذه القلاع مطوقة بالبحر الأبيض المتوسط من الغرب والسهول الخصبة العظيمة لسورية من الجنوب. تلال "جبل بحرة"، التي يبلغ ارتفاعها 920 مترا، هي تلال صغيرة مقارنة بجبال البرز أو مرتفعات قوهستان التي ترتفع 2140 مترا. كان هناك مساحة صغيرة للمناورة. لا يمكن التغلب على هذه العقبات الطبيعية إلا باستخدام الجغرافيا والبراعة البشرية إلى أقصى حد - بمعنى آخر، من خلال الاستفادة القصوى من عدم إمكانية الوصول إلى قلاعهم وزيادة قوة دفاعاتهم.

على الرغم من أن القلاع الإسماعيلية في سورية أصغر من نظيراتها الإيرانية، إلا أنها عموما أكبر من حيث المساحة والمدى من قلعة الحصن الصليبية الشهيرة. كان على المهندسين المعماريين تكييف تقنياتهم مع الظروف المحلية في جبل بحرة، وهو ما فعلوه بشكل مثير للإعجاب. من أجل الحصول على مساحة تخزين أكبر للمياه والإمدادات الأخرى، نحتوا في الصخور حفر أعمق. تفتقر القلاع السورية إلى العظمة التي تميزت بها بعض القلاع الإسماعيلية الإيرانية، مثل سورو. إن تسوية مسارات الحجر ليست جيدة وقد تم تدميرها على نطاق واسع. و بصرف النظر عن الكهف ومصياف على الرغم من حالتهما المدمرة السابقة، يصعب أحيانا تخيلهما كما كانا في الأصل، لكن لا بد أنهما كانا يفرضان ما يكفي من الوقار. ومع ذلك، فإن قلعة القدموس التي تتربع على قمة تلتها وقلعة الخوابي الكبيرة، مع وجود العديد من الأبراج والامتدادات من الجدران التي لا تزال قائمة، تمكننا من تكوين فكرة عن شكلها مرة واحدة كما كانت في يوم من ا|لأيام.

كان الإسماعيليون، بالطبع، في منطقة مصياف / الكهف أقرب إلى المناطق التي يسيطر عليها الصليبيون. كان قرب مصياف من قلعة الحصن ذا أهمية كبيرة: فالمسافة بينهما ليست سوى مسيرة ثلاثة أيام. أعرف المنطقة جيدا، منذ أن زرتها لأول مرة في عام 1970 ومرة أخرى مع أدريان وودفاين في عام 1998 . يوجد أسفل الكراك واد ساحر يسمى "وادي النصارى"، وهو مركز مهم للمسيحية الأرثوذكسية اليونانية.

و منذ العصر المسيحي المبكر. لا يزال دير القديس جورج، الذي أسسه الإمبراطور جستنيان في القرن السادس، مزدهرا في الوادي. يوجد الآن مصليتان في الدير، تعود الأولى منهما إلى القرن الثالث عشر الميلادي. تضم المحكمة السفلى أيضا بقايا الدير البيزنطي. كان هذا الدير في الوادي مكانا مثاليا للقاء و لمحادثات بين ممثلي سنان، الزعيم الإسماعيلي و فرسان الإسبتارية لمناقشاتهم السرية حول التكريم والمسائل الأخرى ذات الاهتمام المشترك.

على الرغم من أن كل من المسيحيين والمسلمين استعاروا المفاهيم المعمارية من بعضهم البعض، فلا يوجد دليل على ذلك في الكراك ومصياف. أراد فرسان الإسبتارية أن يكون حصنهم في الكراك رمزا لعظمة وقوة نظامهم بالإضافة إلى كونه أقوى قلعة صليبية. لقد نجحوا بالتأكيد في مشروعهم. في الواقع، لدى روس بيرنز أيضا مبرر كبير في وصف كراك "بالمثال الأعلى لبناء القلعة"، (3) إذا كان يشير إلى القلاع التي بناها الأوروبيون أو العرب. الكراك هي بالفعل قلعة استثنائية. كما يشير هيو كينيدي في كتابه "القلاع الصليبية": "إنها تدين بأمجادها للثروة التي حصل عليها الفرسان من أراضيهم الغنية، ومن دفع الجزية من المسلمين المجاورين وكرم زيارة الصليبيين."

لكن أيام مجد الكراك لم تدم طويلاً. ربما أعيد بناء القلعة في شيء يقترب من شكلها النهائي بعد وقوع زلزال عام 1170 و في عام 1202 كان هناك زلزال آخر أدى إلى مزيد من إعادة الإعمار. ولكن بعد أن غادر الملك لويس التاسع ملك فرنسا بلاد الشام، حيث أمضى الكثير من الوقت والجهد في تقوية التحصينات الصليبية، واجهت الكراك سلسلة من المصائب التي بلغت ذروتها باستسلام القلعة للسلطان المملوكي بيبرس الأول ملك مصر في عام 1271 .

يروي هيو كينيدي أنه في عام 1252 قام حشد من التركمان، يقدر عددهم بـ 10000 مقاتل بتدميرالأراضي الخصبة حول القلعة .(5) كما نقل عن ديشان قوله إن بيبرس سمح لخيوله بالرعي في " مروج ومحاصيل الكراك، وكان هذا أحد أسباب الاستيلاء عليها، حيث أن خيراتها الوحيدة وثرواتها جاءت من محاصيلها فقط، وقد استهلكتها القوات الإسلامية في ذلك الوقت في خروجها، كما رأينا، ضد المغول لمدة 17 عاما.

شن بيبرس هجومه على الجبهة الجنوبية الغربية لمدينة الكراك، بعد أن عزل القلعة بالفعل، باستخدام آلات الحصار الثقيل، المنجنيق، لكسر الدفاع الصليبي، الذي، من المفارقات، أنه تم بناؤه خصيصا لمنع مثل هذه الخطوة. كما استخدم التعدين (التقطيع) لتحقيق نتائج جيدة. استغرقت العملية برمتها مدة 26 يوما فقط قبل أن يتم تدمير الجدران بما يكفي للسماح للقوات المسلمة بالتدفق إلى داخل القلعة. تراجعت الحامية إلى الدفاعات الداخلية وفتحت مفاوضات للاستسلام. ثم سُمح للفرسان بمغادرة القلعة والذهاب بأمان إلى طرابلس. كما كان عليهم أن يقدموا عهدا بأنهم لن يبقوا في الأراضي العربية. أعاد بيبرس فورا بناء الجدران التي كانت قد تحطمت وشيد برجا مربعا جديدا ضخما لحماية هذه البقعة الضعيفة المحتملة.

سيكون من العبث إنكار أن القلاع الإسماعيلية لا يمكنها التباهي بالتناغم المعماري المرئي والنعمة الواضحة في الكراك، وخاصة عندما تكون مضاءة بشكل رائع حيث يبدو الحجر الناعم بلون العسل. لا ينبغي أن نقلل من قوة ومتانة الهيكل الهائل ودقة البناء الذي يربط معا مسارات رصف الحجارة بطريقة أشلار التي تشكل المانع والجدران الداخلية والخارجية.

لكن ضعف الكراك كان واضحا أيضا. يمكن الاقتراب منه دون صعوبة من قبل قوة مهاجمة كبيرة. لم تكن تمتلك السعة التخزينية الكبيرة للغذاء والماء في القلاع الإسماعيلية. لم تكن قادرة على تحمل هجمات المنجنيق القوية وكانت عرضة لأخطار التعدين (المدافع وغيرها) . بمجرد حدوث اختراق في الجدران، لم يعد من الممكن الدفاع عن القلعة ولم يكن أمام الحامية خيار سوى الاستسلام. كما رأينا، كانت قلعة قعين في قوهيستان مكونة من ثلاثة أجزاء مستقلة، كل واحدة فوق الأخرى، لمنع هذا الاحتمال. لم يكن لدى الإسماعيليين الموارد اللامحدودة تقريبا من الأموال والقوى العاملة المتاحة لفرسان الكراك وكان عليهم التركيز على الضروريات الاستراتيجية. أخيرا، بالطبع، لم يشكل البناء الفعلي لقلعة الكراك وغيرها من القلاع الصليبية نفس الصعوبة التي واجهها الإسماعيليون. تم بناء معظم القلاع الصليبية والعربية على أرض مسطحة نسبيا وليس على ارتفاعات كبيرة، مما جعل عملية البناء سهلة نسبيا. كان بناء قلعة نيفيسار شاه في وادي ألموت، والتي درسناها في الفصل السابع، أكثر صعوبة إلى حد كبير وكانت أكبر من حيث المساحة. وينطبق هذا أيضا على جيردكوه ومؤمن أباد والقلاع الإسماعيلية الأخرى في قوهستان. لكن وجود هذه القلاع لم يكن معروفا في الغرب، ناهيك عن التقدير لها، حتى من بعثاتي البحثية، والآن يمكننا فقط إجراء مقارنة صحيحة بين القلاع الإسماعيلية والصليبية.

يختلف المؤرخون في قوائمهم الخاصة بالقلاع الإسماعيلية السورية الرئيسية، أي تلك التي بقيت في حيازة الإسماعيليين لفترة طويلة من الزمن. يجب ألا ننسى أيضا أن قلعة أو اثنتين تقعان في لبنان الحديث. يميل الإسماعيليون السوريون الحاليون أحيانا إلى الإيحاء بأن كل قلعة تقريبا في منطقة "جبل بحرة" قد احتلها أسلافهم في مرحلة ما أو أخرى. لكنني أقترح أن المجمع الرئيسي للقلاع الإسماعيلية كان متمركزا في مصياف والكهف، ويشمل ذلك الرصافة والقدموس والخوابي والخريبة والعليقة والمنيقة وبعض القلاع الأصغر البعيدة قليلا، ولكن تنتمي إلى هذا القلب المركزي القلاع في جبل السماق بالقرب من حلب، بما في ذلك معاقل أعزاز، وباب بوزعة، وسرمين، وكفرلثا، وعناب.

من الجدير بالذكر أنه عندما زرت أنا وأدريان قلعة مارغات أو المرقب الصليبية العظيمة، تأكدنا بشكل قاطع من أن الإسماعيليين قد احتلوا القلعة لفترة قصيرة في منتصف القرن الثاني عشر قبل أن يتم بيعها إلى فرسان الإسبتارية في عام 1186. ولكن لا توجد إشارة إلى هذا الحدث من قبل دفتري أو غيره من المؤرخين. يثني عليها تي إي لورانس باعتبارها " أفضل التحصينات اللاتينية في العصور الوسطى في الشرق ... على علم بروح المهندسين المعماريين في وسط وجنوب فرنسا. '' ولكن مثل الكراك، تم تقويض برج مارغات الجنوبي العظيم من قبل قالاون، خليفة بيبرس عام 1285. استسلمت القلعة بعد شهر بعد سلسلة من القصف. (9) أكتب ما سبق كتوضيح إضافي للاختلافات بين المهندسين المعماريين الفرنسيين والإيرانيين، ولتوضيح أن القلاع الإسماعيلية، خاصة في قوهستان، تم تشييدها خصيصا في الأماكن التي كان وصول منتجات التعدين( المدافع وغيرها) فيها مستحيلا.

قلعة مصياف من القرون الوسطى

أشهر قلعة إسماعيلية في سوريا هي بلا شك قلعة مصياف، على الرغم من أن دفتري يشير إلى أن أول معقل إسماعيلي في البلاد كان القدموس، والذي اشتراه الإسماعيليون من حاكم قلعة الكهف في عامي 11٣٢-٣٣ (10) و بعد فترة وجيزة - تمكنوا من شراء قلعة الكهف من المالك الذي لم يرغب في أن تصبح القلعة ملكا لابن عمه خلال نزاع على الخلافة. ثم أخذ الإسماعيليون الخريبة من الفرنجة وفي عامي 1140–1141 احتلوا مصياف. وفي نفس الوقت تقريبا استولوا على قلاع الخوابي والرصافة والمنيقة والقليعة.

تدين مصياف بأهميتها في المقام الأول لموقعها الجغرافي. تقع البلدة والقلعة على الطريق الرئيسي في منتصف الطريق تقريبا بين بانياس على البحر الأبيض المتوسط وحماة من الشرق. وهي أيضا نقطة عقدية على الطريق الممتد شمالا من حمص إلى اللاذقية وحلب. هذه الطرق هي على الأرجح طرق قوافل قديمة وكان من شبه المؤكد أن مصياف كانت مدينة ذات أهمية معينة خلال العصر السلوقي والروماني والبيزنطي. يوجد داخل القلعة دليل على احتلال سابق على شكل أعمدة وأعمال حجرية وحجرة قبر محتملة تم حفرها في الصخر. تقع البلدة عند سفح التلال الحرجية العظيمة لجبل بحرة، والتي يمر من خلالها طريقان مهمان عبر الجبال إلى الغرب. تهيمن القلعة على السهول الزراعية الخصبة الواسعة إلى الشرق.

يمكن الحصول على أفضل منظر للمدينة والقلعة من الجنوب الشرقي. هنا، ينضم طريق مصياف إلى الطريق السريع الحديث المؤدي إلى طرطوس. إن الموقع الملائم للقلعة، الذي يحجب المدينة الواقعة خلفها جزئيا، واضح في الحال (اللوحة 22). مصياف مكان واضح لبناء قلعة، وربما كان التحصينات الأولى عربية بنيت في القرنين العاشر والحادي عشر، متأثرة بشكل كبير بالنماذج البيزنطية. غزا ريموند من سان جيل الموقع خلال مسيرته إلى طرابلس في عام 1130 . استولى عليها سنان وضمها للإسماعيليين في عامي 1140-1141 . احتل المغول مصياف لفترة وجيزة عام 1260 لكن الإسماعيليين استعادوها في نفس العام بعد الهزيمة الساحقة للمغول على يد جيوش المماليك المصرية في عين جالوت في فلسطين. في عام 1271 أجبر الإسماعيليون على تسليم القلعة للسلطان بيبرس بعد أن اشتبه بهم في التآمر ضده. استعادوا مصياف في ظل العثمانيين، وأصبحت مقر إقامة الأمراء الإسماعيليين، مثل مصطفى الذي كان له نقش محفور لنفسه في القلعة يعود تاريخه إلى عامي 1793-1794. قام الإسماعيليون المحليون ببعض أعمال الترميم المحدودة في القرن التاسع عشر، لكنها تحطمت بشكل متزايد. القلعة الآن نصب تذكاري وطني تحت حماية دائرة الآثار في دمشق. وتستقبل عددا غير قليل من الزوار الذين كانوا في عام 1998 يتمتعون بحرية التجول في القلعة.

زرت قلعة مصياف لأول مرة في 1970 وواجهت صعوبات كبيرة مع الشرطة المحلية حيث تم إنشاء معسكر للجيش في مكان قريب. في النهاية سُمح لي بالتصوير تحت إشراف صارم بمساعدة مواطن سوري محلي كان يدرس اللغة الإنجليزية مرتبطًا بفريقي. في ذلك الوقت كان هناك عداء كبير للفرنسيين الذين، كما قيل لي، قد ألحقوا أضرارا جسيمة بالقلعة أثناء الانتداب (وهو ما كان يصعب تصديقه). كانت القلعة نفسها في حالة خراب. كان العديد من الجدران الخارجية معرضة لخطر الانهيار التام. فقدت جدران القلعة معظم حماياتها وبدت من الداخل خليطا ميئوسا منه من الأنقاض التي كان من الخطر التمحيص فيها.

في تناقض حاد مع زيارتنا السابقة، في عام 1998، تم استقبالنا أنا وأدريان بحرارة وظهرنا مع مرشد رئيسي، السيد نزار علاكة. لقد تأثرت كثيرا بأعمال الترميم التي تم إجراؤها خلال الثلاثين عاما منذ زيارتي الأخيرة، والتي، إذا لم تكن دائما جيدة للغاية من الناحية الأسلوبية، فقد حافظت على الأقل على القلعة من المزيد من التدهور. حاول المرممون أيضا فهم المناطق الداخلية المحطمة قدر الإمكان. في الآونة الأخيرة، بدأ صندوق الآغا خان للثقافة برنامجا منهجيا للترميم والذي من المأمول أن يجعل قلعة مصياف في متناول السكان المحليين والسياح على حدٍ سواء (انظر الفصل 4).

المنظر الأول للقلعة كما تراه من طريق الاقتراب مثير للإعجاب بكل المقاييس. إنه يقف بفخر على بروز صخري على ارتفاع 20 مترا فوق السهل ويصنع صورة رائعة مقابل التلال الخضراء لجبل بحرة. تبدو الجدران للوهلة الأولى مكتملة بشكل ملحوظ بسبب أعمال الترميم، والحجر ذو اللون العسلي في شمس المساء يمنحها شيئا من الهالة الرومانسية المرتبطة بقلعة الحصن تتشابه الجودة الضوئية للقلعة من أي زاوية تقترب منها. إنها تتمتع بجو قلعة من القرون الوسطى بامتياز.

يقوم روس بيرنز بإنصاف القلعة عندما يكتب في آثاره المتميزة في سوريا: " يجب أن تكون مدة ساعة ونصف كافية لتفتيش القلعة (ودورة سريعة للجزء المركزي من المدينة . (تحتفظ الفترتان العثمانية والفرنسية بسحر باهت)". هذه نظرة خاطفة وغير كافية بالفعل. القلعة عبارة عن هيكل معقد ويصعب قراءته بسبب العديد من فترات العمارة المختلفة التي تضمها والتي أصبحت الآن مختلطة معًا ؛ لكنه مع ذلك مبنى مهم ذو تمييز كبير.

يقدر عدد سكان بلدة مصياف بحوالي 15000 نسمة. في بعثتي الاستكشافية في عام 1970، كان معظم المدينة لا يزال محتجزا داخل الجدران القديمة، لكن في عام 1998 لاحظت أنه كان هناك توسع كبير في عدد السكان وأن مدينة جديدة ظهرت تقريبا خارج الأسوار. لا يزال من الممكن تتبع الجدران الأصلية دون صعوبة كبيرة، على الرغم من أن المنازل والحدائق غالبا ما يتم بناؤها مقابل جدران القلعة أو يتم دمج الجدران في المباني المحلية. يبلغ ارتفاع الجدران نفسها حوالي 6.5 متر ولا تزال بعض شقوق الأسهم مرئية. التاريخ المنسوب إليها عادة هو عامي 1248/1249 لأن هذا التاريخ يظهر على نقوش مختلفة. لا تزال هناك ثلاثة أبراج من القرن الثالث عشر إلى جانب مسجد في موقع مركزي يعود تاريخه إلى القرن الثاني عشر ويربطه السكان المحليون بصلاح الدين.

كان للمدينة في الأصل أربعة أبواب رئيسية، يمكن تأريخ ثلاثة منها بالنقوش عليها. البوابة الشرقية هي الأكثر اكتمالا. يبلغ عرضه حوالي ستة أمتار وارتفاعه خمسة أمتار، على الرغم من فقدان الجزء العلوي منه. يحتوي البرج على نقشين يشيران إلى أنه أقيم عام 646 هـ (1243 م)، وهو ما يتوافق مع تأريخ مماثل على الأبراج الأخرى.

تقف القلعة على نتوء صخري بيضاوي يبلغ طوله حوالي 150 متراً وعرضه الأقصى 70 متراً. يذكرك من بعيد بسفينة ذات قوس ضيق ومؤخرة. تشكل مباني القلعة كتلة مدمجة، غالبًا ما تنقسم إلى كتل مستطيلة الشكل. من المحتمل أن يكون الارتفاع مثيرًا للإعجاب يبلغ 50 مترا. هناك بالتأكيد ستة مستويات من المباني وفي بعض الأماكن اثنان أو ثلاثة مستويات إضافية. على الرغم من أن جون فيليبس وصف القلعة بأنها " واحدة من أفضل القلاع المحفوظة في سوريا ''، إلا أنه من الصعب فك الشفرات الداخلية بسبب الأضرار التي سببتها الانهيارات الأرضية والزلازل على مر القرون، فضلاً عن محاولات تدعيمها والحفاظ على الهيكل. تم إصلاح الجدران الخارجية بطريقة عشوائية للغاية بالحجر والمواد المأخوذة من أجزاء أخرى من المبنى. في بداية القرن العشرين، تم استخدام جزء من القلعة لإيواء الفقراء، ولا شك في أن القلعة قد تم استخدامها لجميع أنواع الأغراض المماثلة.

تقع القلعة على الجانب الشرقي من البلدة وتتجمع المنازل حول قاعدتها الغربية. على الجانب البسيط من القلعة، كان هناك جدار خارجي يحيط بالقلعة على بعد 150 مترا أو نحو ذلك من الصخرة. قاعدة الصخرة 30 مترا فوق السهل. يمتد المسار من الجانب الشرقي المفتوح عبر ممر محفوظ جيدًا إلى مسار أعيد بناؤه من السلالم المؤدية إلى المدخل الرئيسي في الزاوية الجنوبية الغربية للقلعة. تم الدفاع عن نفس النهج أيضا من قبل باربيكان، الذي أصبح الآن في حالة خراب. يعد هذا مكانا ممتازا لدراسة كيفية تثبيت جدران القلعة في البروز الحجري الذي تم بناؤه عليه ولتقدير الأبراج ذات الزوايا الحادة التي تدافع عن المدخل الرئيسي، مما يمنح قوسا أقصى من النيران الدفاعية من فتحات الأسهم في الجدران وواجهات الجدران في هذه المرحلة (في الغالب أوائل القرن الثالث عشر) قوية بشكل خاص ومحفوظة جيدا (اللوحة 23). الباب الرئيسي مصنوع من خشب الأرز المرصع بشرائط حديدية. أعلاه هو صف من الماكيكولات الرائعة. تفتح هذه البوابة على غرفة ضيقة، بعرض جانبي الباب فقط. وما وراء هذه غرفة أخرى، شبه منحرف الشكل. يرتكز قوس المدخل على عمودين ربما يرجع تاريخ تيجانهما إلى القرن السادس. من هذه الغرفة يؤدي ممر قصير مرصوف بالحصى إلى اثنين آخرين إلى اليمين واليسار. تم حظر الغرفة الأمامية بواسطة حاجز يمنع الدخول، بحيث يمكن إخضاع المهاجم لإطلاق النار من ثلاث جهات. الغرفة المربعة خلفها مظلمة مثل الأخرى، والتي يجب أن تكون أيضا عيبا للمهاجم، وهناك "ثقوب قتل" في السقف.

كان من المستحيل عمليا شن هجوم جماعي على القلعة بسبب الدرج الخارجي الحاد الذي يتم الدفاع عنه بقوة بواسطة فتحات الأسهم الموضوعة جيدا. المهاجمون الذين قد يخترقون هذه الدفاعات يتم إعاقتهم من خلال الممرات الضيقة المظلمة التي يواجهونها، حيث يتعرضون في كل زاوية لنيران المدافعين. كما يشير جون فيليبس، هذا مثال كلاسيكي ومبكر جدا على المدخل المنحني، والذي تم تصميمه لكسر زخم هجوم العدو وتقييد غرفته للمناورة بمجرد اختراقه داخل القلعة. إنه مفهوم لا يمكن استخدامه إلا في القلاع المدمجة بشكل معقول. لقد رأيت من حين لآخر أمثلة على ذلك في إيران، حيث تتبع العمارة العسكرية عادة مبادئ مختلفة. بمجرد أن ينجح المهاجمون في اختراق الدفاعات الأولية يكون لديهم خياران. سيؤدي الممر المرصوف بالحصى إلى اليسار في النهاية إلى إعادتهم إلى التحصينات الجنوبية من البوابة الرئيسية، لكنهم سيكونون بعد ذلك أهدافا سهلة للمدافعين. بدلا من ذلك، سوف يضيعون في متاهة من الممرات، تحظرهم بوابات حديدية. لقد أذهلنا نظام التهوية الممتاز في عام 1998. أينما ذهبنا، عبر الأجنحة أو على طول صالات العرض الجدارية شديدة الانحدار، وأحيانا بطول 75 مترا على الجانب الغربي من القلعة، كان هناك الكثير من الهواء، مهما كان الممر الضيق الذي كان علينا الزحف من خلاله مظلما.

هناك فرق كبير آخر بين القلاع الإيرانية والسورية للإسماعيليين يتضح في مصياف. هذا هو مبدأ القلعة متحدة المركز، والتي تشير إلى قلعة داخلية أو قلعة عالية محمية بجدار محاط. كما لاحظ جون فيليبس، فإن خطة مصياف متحدة المركز تماما وقد تأثرت كثيرا في هذا من خلال تكوين الموقع. . لا يمكن استخدام هذا مرة أخرى إلا في قلاع من نفس تنسيق مصياف.

تم تخصيص مستوى الطابق الأرضي من القلعة بالكامل للدفاع والتخزين وصهاريج المياه. نظرا لأن القلعة بنيت في صخور صلبة، كان خطر التعدين أو التقشير ضئيلًا. استند دفاع القلعة إلى الجدران الخارجية القوية للغاية والمستطيلة حول المدخل، والتي تم تزويدها بعدد كبير من فتحات الأسهم. تنتمي هذه الجدران على الأرجح إلى الجزء الأول من القلعة، على الرغم من تعزيزها بشكل كبير في القرن الثالث. ينتمي المدخل المنحني إلى هذه الفترة أيضا. في المستوى الثاني من القلعة، يتم تخصيص مساحة أكبر للسكن. الجدران أرق والغرف أكبر إلى حد ما. يمثل المستوى الثالث أعلى مستوى من الجدار المحيط والمنصة التي بنيت عليها المستويات الثلاثة (أو ربما أكثر) للقلعة العالية. من الواضح أن بعض المباني قد تأخرت كثيرا، ربما القرن الثامن، لكن المبنى الأكثر إثارة للاهتمام يقع بلا شك في الطابق الرابع، والذي يمكن الوصول إليه عن طريق درج حجري. هذه سلسلة من أربع غرف، يُزعم تقليديا أنها الأحياء الخاصة لـ "شيخ الجبل"، سنان رشيد الدين نفسه. لا يوجد دليل قاطع على أن هذا هو الحال، بالطبع، حيث تم تخصيص غرف خاصة في العديد من القلاع السورية كمساكن للأمراء المحليين.

بالإضافة إلى التهوية، ظهرت براعة كبيرة في نظام المياه. قيل لنا أربع آبار أو أكثر في المستويات الدنيا. صهاريج المياه العميقة داخل القلعة رائعة للغاية. يتم ملؤها من الأنابيب، والتي لا يزال العديد منها موجودا، والتي تنقل مياه الأمطار من المستويات العليا. في عام 1970 قدرنا أن خزان المياه السفلي الرئيسي يحتوي على ثلاثة خزانات فرعية، يبلغ عرضها 50 مترا وارتفاعها 10 أمتار. كانت كبيرة بما يكفي حتى يتمكن أولاد مصياف المحليون من السباحة فيها. قيل لنا أنه يوجد على الجانب الشرقي من القلعة حمامان.

يختلف البناء المستخدم في الجدران الخارجية اختلافا كبيرا. يبلغ طول الكتلة الأكبر حوالي 80 سم، بينما يبلغ طول الكتلة الأصغر 40-60 سم. تمتلئ الفجوات بالحجارة الصغيرة التي يبلغ طولها نحو 20 سنتيمترا. في بعض الأحيان يتم وضع الحجارة في وضع قائم أو بزاوية أو يتم تثبيتها عبر الجدران لإعطاء قوة أكبر. يجب أن يكون قد تم استخدام قدر كبير من الملاط وقد نجح الكثير من هذا ولم يتم تجديده بعد. عند الفحص الدقيق، لم يتم قطع أو وضع المسارات الخارجية للحجر بشكل جيد كما هو الحال في القلاع الإيرانية، على الرغم من أن الانطباع العام يعطي شكلا سليما من بعيد. خلال عمليات الإصلاح اللاحقة، تم استخدام جميع أنواع الحجارة المأخوذة من أجزاء مختلفة من القلعة، ومن بينها فوجئنا برؤية حجر محفور بصليب ماريان الصليبي. يبلغ السماكة الإجمالية للجدران 1.80 مترا وإن كانت سماكتها خمسة أمتار.3006 قلاع سوريا

الشكل رقم 10 مخطط لقلعة مصياف

إن انطباعنا العام عن مصياف هو نموذج رائع جدا لعمارة القلاع العربية في القرنين الثاني والثالث. يضيف ارتباطها التاريخي ذوقا كبيرا. من أي نقطة على الجانب الشرقي للقلعة، يمكنك أن ترى لوحا حجريا كبيرا في السهل أدناه، والذي من المفترض أن يشير إلى المكان الذي وقفت فيه خيمة كان فيها الزعيمان المسلمان العظيمان في سوريا في ذلك الوقت، وهما تفاوض صلاح الدين السني والإسماعيلي سنان على هدنة استثنائية بينهما. مثل قلعة الحصن، فإن مصياف هي حصن يمثل القوة والسيطرة، وفي هذا الصدد بدا لي أن القلعة رمز لشخصية سنان. القلعة لها طابع أوروبي للغاية حيالها، ووهناك ما يغريك لمقارنتها بقلعة الحصن. يمكن أن تقوم مثل هذه المقارنة على أسس جمالية ومعمارية، على الرغم من أن هذه المظاهر لم يتم التعرف عليها حتى الآن.3007 قلاع سوريا

الشكل 22- قلعة مصياف في سورية تطل على المدينة القديمة

في عامي 1983-1984، أجرى الدكتور مايكل براون وزوجته من هانوفر دراسة مفصلة للغاية عن مصياف كجزء من مشروع بحثي لمعهد الآثار الألماني في دمشق حول حصون العصور الوسطى في شمال غرب سورية. في وصف مصياف، يميز الدكتور براون ثلاث فترات بناء رئيسية (الشكل 10). بصرف النظر عن التحصينات السابقة التي يجب أن تكون موجودة، فهو يؤرخ فترة البناء الأولى في القرنين التاسع والعاشر. لكن هذه الإضافات ربما كانت بدائية إلى حد ما مع جدران بسيطة ضيقة وحافظة. كان هناك عدد قليل من الأبراج المستطيلة، إن وجدت، لتقوية الدفاعات. بعد ذلك بوقت قصير، كانت هناك فترة بناء ثانية تم فيها تقوية الجدار الساتر الرئيسي، خاصة في الجانب الغربي وأضيفت الأبراج. لا يقبل الدكتور براون فرضية أن التحصينات الرئيسية قد شيدها البيزنطيون. يجادل بأن القلاع البيزنطية كانت تحتوي دائما على حامية كبيرة، والتي كانت جاهزة في أي لحظة لشن هجوم على أي قوة معادية. لكن هذا التكتيك تطلب عددا كبيرا من فتحات السالي وفشل الدكتور براون في العثور على أي دليل على وجود مثل هذه الفتحات. علاوة على ذلك، فإن عدم وجود صلبان ماريان (بصرف النظر عن الصليب الوحيد الذي رصدته) أمر غير معتاد بالنسبة للقلعة البيزنطية. كما لا يوجد دليل على أي اسم بيزنطي أو نقش لقلعة بهذا الحجم والأهمية.3008 قلاع سوريا

الشكل 23 – المدخل الرئيسي لقلعة مصياف

بعد الفتح الإسلامي لسوريا عام 634، أعيد بناء العديد من القلاع وقام بتوسيعها الحكام المسلمون المحليون، ولكن لم يكن هذا هو الحال مع مصياف، حتى بعد أن استولى الصليبيون على القلعة في عام 1103 و صارت في أيدي الإسماعيليين في عام 1140. في رأي الدكتور براون، كانت فترة البناء الثالثة والأكبر في مصياف في الربع الأول من القرن الثالث عشر عندما كانت لا تزال تحت الاحتلال الإسماعيلي. يظهر التاريخ 620 هـ (1223) على عمارة عند مدخل القلعة. تم تعزيز المواقع الدفاعية بشكل كبير، خاصة لتحمل تأثير كتل ضخمة من الحجر، تزن أحيانا نصف طن، التي ألقاها المغول. تم بناء الأبراج أو تعزيزها ورفع الحصن بأكمله إلى أعلى مستوى من الدفاع. كما تم تعزيز أسوار المدينة بالمثل. مصياف هي بالتأكيد واحدة من القلاع البارزة في الوجود وتعكس عبقرية العمارة العسكرية الإسماعيلية.3009 قلاع سوريا

الشكل 24- البوابة الرئيسية لقلعة القدموس

ويختتم الدكتور براون بالقول إن فترة بناء رابعة ربما كانت متوقعة بعد أن استسلم الإسماعيليون لمصياف للسلطان بيبرس عام 1271، ولكن هناك القليل من الأدلة على ذلك، على الرغم من أن بيبرس أعاد بناء قلعة شيزر المجاورة عام 1261. يقدم الدكتور براون تفسيرين محتملين . ربما لم تكن مصياف بحاجة إلى المزيد من التحصينات أو الترميم بعد أن احتلها الإسماعيليون لمدة 30 عاما أو أن الوضع الاستراتيجي والسياسي قد تغير إلى درجة أن القلعة فقدت أهميتها العسكرية. في ملحق لعمله، يقدم الدكتور براون الترجمة الألمانية لثلاثة عشر نقشا وجدها، يرجع تاريخ معظمها إلى القرن الثالث.3010 قلاع سوريا

الشكل 25- منظر لقلعة الرصافة من قرية مجاورة

في عام 1970 أصر مرشدي السوري على وجوب زيارة ضريح سنان وقصره في مصياف. كان هذا المكان يقع على تل أعلى من القلعة بمقدار 890 مترا. قيل لنا أن القصر تم بناؤه في الأصل من قبل علي محمد قبل حوالي 200 عام من سنان كمدرسة، وقد أحب الموقع لدرجة أنه حوله إلى مسكن خاص به. إنه مبنى مثير للاهتمام خضع للعديد من التعديلات منذ ذلك الحين. تم اطلاعنا على غرفة قيل لنا أنها مسجد سنان. وبجوارها غرفة أخرى تحتوي على مقبرتين لشخصيات إسماعيلية مبكرة. تم اصطحابنا أيضا إلى مجموعة من الغرف المكونة من طابق واحد، وكان آخرها يحتوي على قبر سنان. قدم لنا مرشد إسماعيلي الشاي وأخذنا إلى حجرة القبر. احتوى هذا على تابوت حجري خشن تحت إطار خشبي مغطى بقطعة قماش خضراء. دخل زوار آخرون وقبّلوا التابوت وخرجوا وظهورهم للخلف. كان واضحا أنهم فخورون جدا بسنان الذي اعتبروه بطلا وقديسا عظيما. احتوت الغرفة المجاورة على قبور علي محمد وسليمان ونزار وعلي نهارواني. وكان الأخيران اثنان من كبار قادة سنان. يوجد قبر آخر يُزعم أنه لسنان يقع في قلعة الكهف، والتي زرتها عام 1970، وقد كرمها الإسماعيليون المحليون بنفس القدر باعتباره مثواه الأخير (انظر الفصل 14). لا يبدو أن هذا التناقض يزعج أحمد وغيره من الإسماعيليين الذين انضموا إلينا أثناء تجاذب أطراف الحديث، مستمتعين بالمنظر الرائع لمصياف ورائحة العود اللذيذة التي تنجرف إلينا من المنازل أسفل الجدران.3011 قلاع سوريا

الشكل 26- منظر لقلعة الكهف حيث الاخضرار في الطبيعة

الرصافة وغيرها من قلاع مجمع مصياف:

قبل أن نفكر في القدموس والكهف والقلاع الإسماعيلية الأخرى في سوريا، يجب أن ننظر إلى القلاع الفرعية أو الأصغر لمجمع مصياف، وخاصة بعرين والرصافة. زرت بعرين في بعثتي عام 1970. تقع على الطريق الرئيسي من حمص إلى مصياف على نتوء صخري فوق قرية لوك. لم يتبق من القلعة سوى القليل على الرغم من أنه كان يجب أن تكون مبنى ضخما. كما يوجد برج أو برجان آخران للمراقبة على طريق حماة - مصياف. في نفس العام قمنا أيضا بزيارة قلعة القاهر شمال غرب قصر سنان، وإحدى القلاع الرئيسية الداعمة أو التابعة لمصياف. قيل لنا أنها تسمى أيضًا "قلعة الفاتح" أو "القلعة القديمة"، وقد بناها الرومان في الأصل وكانت معقلا هاما للإسماعيلية. تم بناء القلعة حول قمة التل ولم يتبق منها الكثير باستثناء بعض الجدران وغرف التخزين فوق وتحت الأرض. الشجيرات كثيفة للغاية وقيل لنا أن الثعابين فيها كانت وفيرة.3012 قلاع سوريا

الشكل 27- ضريح القائد سنان قرب قلعة الكهف

وهناك موقع أكثر أهمية هو الرصافة، على بعد حوالي 10 كيلومتر من مصياف. زرتها عام 1970 وعدنا إليها عام 1998. القلعة مقامة على نتوء عالٍ بارتفاع 60 متراً فوق القرية التي تحمل نفس الاسم قبالة طريق الشيخ بدر (رقم 34) من مصياف إلى طرطوس (لوحة 25). القلعة بيضوية الشكل تقريبا طولها حوالي 75 مترا وعرضها 30 مترا. على الرغم من أنها ليست كبيرة، إلا أنها أكبر بكثير مما كانت عليه في البداية. إنها مبنية على ثلاثة مستويات من الحجر المحلي الجيد. و على الرغم من أن سنان يُنسب إليه الفضل في بنائها، إلا أنه ربما كانت هناك قلعة هنا قبل عصر الإسماعيليين. يمكن العثور على بقايا جدار مزدوج عند سفح القلعة. مدخل القلعة من الجهة الشمالية الغربية محمي بواسطة برج. وأنقاض الجدران الخارجية تتبع معالم البروز، والعديد من صالات العرض والغرف مبنية على الجدران التي تعمل بمثابة ساحات. تم بناء بعض المخازن في عمق الصخر وتمتد إلى عمق 20 مترا. ذكّرني بناؤها كثيرا بالمخازن في ألموت، والتي يمكن تفسيرها من خلال معرفة سنان الشخصية بالقلاع الإيرانية. تم بناء الصناديق فوق المخازن وأيضا تدعم الجدران داخليًا. الحجر ذو نوعية جيدة ويرتدي ملابس جيدة. يحتوي القسم المركزي من القلعة على العديد من الغرف المقببة. لا تزال الأبراج عالية جدًا وتشير إلى وجود ثلاثة مستويات على الأقل للكتلة المركزية. أكد لنا القرويون أن المياه كانت كافية وأنه في أوقات الحصار كان من الممكن جلبها من الممر المشيد إلى النهر، كما هو الحال في لاماسار في إيران. على الرغم من الشجيرات الكثيفة والأشجار التي تغطي الموقع، لا تزال هناك أطلال كبيرة تشير إلى قوة وحجم القلعة.3013 قلاع سوريا

الشكل 28- بقايا قلعة الخوابي

على الجانب الآخر من الطريق، على نفس ارتفاع الرصافة، توجد أنقاض قلعة أخرى. يجب أن يكون جزء كبير من الأعمال الحجرية لمنازل القرية قد أتى إما من هذه القلعة أو الرصافة. و سواء كانت هذه هي القلعة الأقدم المذكورة قبل أن يبني سنان الرصافة أم لا، لا نعلم الحقيقة . من المرجح أن تكون القلعتان موجودتان ومحصنتان في زمن سنان، حيث إنهما تسيطران تماما على الطريق عبر الجبال.

قلعة القدموس

يحتل القدموس موقعا مركزيا في شبكة القلاع الإسماعيلية في جبل بحرة. تقع غرب مصياف على الطريق المؤدي إلى بانياس على ارتفاع 1170 متر. يرتفع الطريق من مصياف عبر الريف الصخري الرائع مع آفاق واسعة من الوديان العظيمة والوديان الضيقة. المنطقة خصبة للغاية على الرغم من الصخور العديدة التي تتناثر هنا وهناك من المرتفعات. على وجه الخصوص، يبدو أن نباتات التبغ تزدهر، وكذلك الحبوب والقطن. في عام 1998، تم توسيع الطريق وتم توقيفنا من وقت لآخر بسبب تفجيرات الديناميت للصخور الموجودة أمام الطريق التي يتم شقها.

يمكن رؤية مدينة قدموس من مسافة بعيدة وتقع على قمة عالية في التلال. تنتشر في دائرة شبه كاملة قلاع الخوابي، والكهف، والعليقة، والمنيقة، والخريبة، وبالطبع قلعة مصياف ليست بعيدة جدا عن شيزر في الشمال الشرقي. للوصول إلى معظم هذه القلاع في الوقت الحاضر، عليك أن تسلك الطريق المؤدية إلى القدموس ثم تتفرع ناحية اليمين أو اليسار. قام الصليبيون بالفعل بمحاولة فاشلة للسيطرة على هذه المنطقة. في عامي 1132-1133 طرد الطليبيون من القدموس عندما باع الحاكم المسلم المحلي القلعة للإسماعيليين. كان هذا الشراء مفتاحا هاما حاسما للوجود الاسماعيلي في المنطقة. و قبل ذلك الوقت، كما لاحظنا في الفصل الثالث، فقد حاول الإسماعيليون عبثا الحصول على موطئ قدم دائم إلى الشمال في منطقة حلب وفي الجنوب حول دمشق. الآن وللمرة الأولى صار لديهم قلعتهم المستقلة الخاصة بهم، وانطلقوا من القدموس و تمكنوا من السيطرة خلال السنوات السبع أو الثماني القادمة على القلاع التي ذكرتها أعلاه. نحن لا نعرف إلا القليل عن كيفية السيطرة على بعض هذه القلاع، وحتى ظهور سنان على الساحة، أمضى الإسماعيليون السنوات الفاصلة في تعزيز سلطتهم.

في القرن الثاني عشر الميلادي عندما احتل الإسماعيليون القلعة، نلاحظ أنه لا بد أن القدموس كانت مدينة مزدهرة وزاخرة مع وصول الرسل من حصون أخرى قريبة. يجب أن يكون التل الذي تقف عليه القلعة بمثابة منارة لجميع المسافرين في هذا الجزء من "جبل بحرة". وهي تبرز بوضوح في مواجهة ثنايا ووديان التلال المحيطة وهي مركز طبيعي للاتصال. وهكذا احتلت قلعة القدموس موقعا استراتيجيا في الدولة الإسماعيلية. ظلت القلعة في أيدي الإسماعيليين في ظل الاحتلال العثماني، على الرغم من تعرضها لأضرار جسيمة في عام 1838 من قبل الجنرال العثماني إبراهيم باشا، ومرة أخرى في عام 1919-1920 عندما هاجمها النصيريون، وهم طائفة شيعية منافسة لهم لها حضور قوي في المنطقة. القدموس اليوم مدينة ريفية وسوق هادئ وهي هادئة إلى حد ما، وتشتهر بالخضروات، وخاصة الفاصولياء النضرة.

كما هو الحال في مصياف، تم الآن إحاطة قلعة القدموس إلى حد كبير في البلدات الحديثة التي تقع حول التلة شديدة الانحدار التي بنيت عليها. من مسافة بعيدة (اقتربنا منها من الشمال) يكون تمييز الشكل البيضوي للقلعة أسهل بكثير مما هو عندما تكون قريبا، عندما تغطي المباني كل المنحدر باستثناء الجزء الأكثر انحدارا. يوجد بالفعل مساران فقط يؤديان إلى القمة والباقي هو الملكية الخاصة. لم يسمح لنا الملاك بالمرور في عام 1998. لقد جربنا طريقا آخر في الطرف الجنوبي وحققنا نجاحا. وبعد تسلق شديد الانحدار وصلنا إلى البوابة الأصلية المبنية على الصخرة. كان عبارة عن مبنى مربع ذو قوسين، وبشكل متعارض تم تركيب مصباح مقوس حديث وكبير على القوس الثاني. استمر المسار صعودا إلى القلعة الرئيسية على ارتفاع 70 مترا فوق القرية. كان من الصعب هنا إعادة بناء المخطط الأصلي حيث كانت المنطقة بأكملها في الجزء العلوي مغطاة بالمنازل، وقد تم بناء العديد منها منذ زيارتي الأولى في عام 1970 عندما كانت القمة واضحة بشكل معقول. كان من الممكن بعد ذلك أن نرى بوضوح القاعدة الأصلية للقلعة العالية التي أقيمت عليها بعض المباني. ومع ذلك، لا يزال بإمكاننا هنا وهناك رؤية آثار للجدران والأقواس والمداخل والأعمدة والتشكيلات، التي كانت بوضوح أجزاء من القلعة الأصلية (اللوحة 24). كان من الممكن أيضا رؤية مدخل بعض غرف التخزين تحت الأرض. إن التلال التي بنيت عليها القلعة عبارة عن مدرجات للأغراض الزراعية وخصبة بما يكفي لإطعام حامية متوسطة الحجم.

لقد كان لدينا في القدموس إحدى الحوادث المبهجة التي أحيت يوما كئيبا. بعد أن تم إعادتنا في البداية من القلعة من قبل أشخاص ليسوا ودودين للغاية، التقينا برجل مسن ساحر يعيش في منزل داخل جدار القلعة، مما جعلنا نشعر بترحيب كبير. لقد تم تنبيهه إلى وجودنا بسبب نباح كلبه، ولكن عندما أوضح مرشدنا أحمد من نحن، أصبح في الحال نموذجا مختلفا للكرم. لا يمكن أن يكون أكثر انتباها لأدريان مما كان عليه وقدم لها ببسالة مجموعة من الورود والزهور الأخرى التي تنمو في حديقته.

العليقة و المنيقة

العليقة تقع على مسافة قصيرة نسبيا شمال غرب قدموس. في عام 1970 حاولنا إيجاد طريق للوصول إلى القلعة، والتي يمكننا رؤيتها من خلال المناظير، ولكن يبدو أنه لا يوجد طريق مقبول. الآن يمر الطريق الرئيسي المؤدي إلى بانياس أسفل القلعة ولم نواجه صعوبة في العثور عليه. كانت المناظر الطبيعية من القدموس إلى العليقة نموذجية لهذه المنطقة: مناظر رائعة فوق تلال صخرية وعرة تقطعها وديان جافة. يُعتقد أن المنطقة كانت ذات يوم جزءا من قاع البحر وتم العثور على أحافير تدل على ذلك في الصخور. التربة خصبة ومزروعة في الغالب بمحاصيل التبغ. تكثر أشجار الزيتون وتجاوزنا قطعان الأغنام والأبقار المنعزلة، نتجول بسلام على طول الطرق، وكلها تبدو بصحة جيدة ولديها رعاية جيدة. الارتفاع هنا 830 مترا.

بنيت العليقة على جرف من الحجر الجيري يبلغ ارتفاعه 760 مترا. لا يزال البوابة الرئيسية و الممر الحجري القوي تقف بثبات في الجزء العلوي في مسار حجري شديد الانحدار حتى وقت قريب جدا. كانت البوابة الخشبية الكبيرة لا تزال مستخدمة ومغلقة ليلا، حيث كان الناس يعيشون داخل منطقة القلعة. لكنها سقطت فيما بعد وأزيلت من مكانها، مما تسبب في انتقال السكان إلى مكان آخر.

ينقسم موقع القلعة إلى منطقتين. توجد أربعة أقواس متشابكة كبيرة الحجم على بعد 100 متر داخل البوابة الرئيسية. لقد اندهشنا إلى حد ما لرؤية مجموعة من فتيان القرية يجلسون على كراسي بلاستيكية أرجوانية تحت الممر. لقد جهزوا مكبر صوت للموسيقى وكانوا يصنعون الشاي. افترضنا أن المبنى كان في الأصل مسجدا وسعدنا لاحقا أن نجد تخميننا مدعوما بالدكتورة زكية حنا، المؤرخة المحلية (15). سقف المسجد نصف أسطواني ومقبب. سقطت الجدران، لكن الأقواس بقيت على حالها. ويوجد بجانب المسجد بئرين. كما تذكر الدكتورة حنا أنه بالقرب من المسجد تم بناء حمام أو حمام في جدران القلعة على الجانب الغربي بطول 8.45 متر وعرض 6 أمتار، و من الصعب للغاية دخول المسجد الآن والدرجات المؤدية إليه مكسورة.

تقع بقايا مباني القلعة الرئيسية على بعد 40 مترا أخرى على قمة التل المخروطي، وعلى الرغم من أنها الآن مجرد أطلال ومتضخمة جدا، إلا أنها كانت ذات يوم كبيرة جدا. بوابة الجدار الداخلي المقوسة مثيرة للإعجاب بشكل خاص. يبلغ عرض الموقع المثلث الذي تحتله قلعة العليقة حوالي 20 مترا تقريبا ومن القلعة يتناقص طول الموقع 200 متر حتى نهاية الصخرة التي بني عليها الموقع. لا يزال من الممكن تتبع معظم الجدران المحيطة، ومن الواضح أنها قوية في بعض الأماكن. يوجد أربع غرف تخزين في الجانب الشرقي وبوابة محصنة بشكل جيد مكتملة بالآلات على الجانب الغربي. وعلى الطرف الشمالي للقلعة الرئيسية يوجد بقايا كبيرة من المباني والمخازن.

على الجانب الشمالي من طريق المدخل (على يمين مسار المدخل) يوجد حقل كبير مزروع بمساحة 20 × 30 مترا بدا فارغا تماما للوهلة الأولى. ومع ذلك، عند الفحص الدقيق، أدركنا أنها تشكل جزءا من القلعة وانتهت في هبوط كبير. يمكننا تمييز بقايا الجدار المحيط. وجدنا أيضا ما لا يقل عن اثنين من أعمدة التهوية، مما يشير إلى حقيقة وجود غرف تخزين تحتها. إذا كان هذا الحقل مدرجا في المساحة الإجمالية للقلعة، كما يجب أن يكون، فإن العليقة كانت قلعة بحجم كبير وبالتأكيد أكبر من القدموس.

ليس بعيدا عن العليقة تقع قلعة المنيقة أو المنياقة على حوالي 25 كم شمال غرب هي التي زرتها عام 1970. هذا الموقع ليس من السهل العثور عليه. يوضح تاريخ هذه القلعة عدد المرات التي تغيرت فيها الأيدي في هذه القلاع. ربما تم بناؤها لأول مرة من قبل العرب في أوائل القرن التاسع عشر ثم سقطت في أيدي البيزنطيين. انتقلت إلى الفرنجة في أوائل القرن الثاني عشر وبعد بضعة عقود، حولها في الفترة ما بين عامي 1140-1141، استولى عليها سنان وأعاد تحصينها لاحقا. ثم أصبحت ملكية فرسان الإسبتارية الذين ربما سمحوا للإسماعيليين بالبقاء كمستأجرين في القلعة، ودفع إيجار أو جزية. و كما رأينا، لم تكن مثل هذه التسهيلات غير عادية، خاصة بين الإسماعيليين وفرسان الإسبتارية. على أية حال، صارت المنيقة في أيدي الإسماعيليين مرة أخرى عندما قام السلطان المملوكي بيبرس بطرد الإسماعيليين من قلاعهم في جبل بحرة في الأعوام 1270-1273.

زرت المنيقة في عام 1970. وهي مستطيلة الشكل ومبنية بقوة على سلسلة من التلال ومحاطة بجدران بازلتية رائعة للغاية. يبلغ طول القلعة حوالي 300 متر وبعض الدفاعات والأبراج سليمة نسبيا. من المفيد أن نرى كيف استغل الإسماعيليون الموقع الدفاعي الطبيعي على أفضل وجه من خلال بناء جدران قوية من البازلت وقطع الخنادق في الصخور. تتمتع المنيقة مثل القدموس والعديد من المعاقل الإسماعيلية الأخرى في هذه المنطقة، بإطلالة رائعة على الجبال والوديان المحيطة.

***

Notes

1. John Phillips, ‘Assassin Castles in Syria,’ The Connoisseur, no. 770 (1976), pp. 287–289.

2. Burns, The Monuments of Syria, p. 176.

3. Ibid., p. 138.

4.Hugh Kennedy, Crusader Castles (Cambridge, 1994), p. 148.

5.Ibid.

6.P. Deschamps, Les Châteaux des criosés en Terre Sainte, I. Le crac des chevaliers (Paris,1994), pp. 129–132.

7.Kennedy, Crusader Castles, p. 150.

8.Cited by Ross Burns, The Monuments of Syria, p. 179.

9.Ibid.

10. Daftary, The Isma‘ilis, p. 377.

11. Burns, The Monuments of Syria, p. 153.

12. Phillips, ‘Assassin Castles in Syria,’ p. 287.

13. Ibid.

14. Michael Braune, Untersuchungen zur mittelalterlichen Befestigung in Nordwest-Syrien: Die Assassinenburg Masyaf (Damascus, 1985), pp. 318–321.

15. Zakieh Hanna, The Castles and Archaelogical Sites in Syria, trans. B. Khoutry and R. Botrus (Damascus, 1994), pp. 101–105.

تمر اليوم الذكرى الثامنة والثلاثون لوفاة المرجع الشيعي الإمامي الأكبر، آية الله العظمى محمَّد كاظم شريعتمداري، ففي الثالث مِن نيسان (أبريل) 1985 سلم شريعمداري الروح، بعد اعتباره خائناً، وظهوره في التلفزيون الإيرانيّ يعلن توبته وتوسله الخميني للصفح عنه، وهو الذي أنقذه من المحاكمة وحبل المشنقة (1963)، وذلك لتخويف بقية آيات الله المعترضين على الحكم باسم الولي الفقيه وتسمية إيران بالجمهورية الإسلاميَّة وإرعابهم، فشريعتمداريّ كان الأكبر بين المجتهدين. مات بما يشبه القتل، فقد منع عنه العلاج في طهران أولاً ثم في الخارج، هناك يروي القصة تلميذه السيد رضا الصَّدر، الشقيق الأكبر للسيد موسى الصَّدر (غُيب في ليبيا 1978).

كان آية الله رضا صدر الدَّين الصَّدر (تـ: 1994) أحد أبرز تلامذة المرجع الأكبر للشيعة في إيران آية الله العظمى محمد كاظم شريعتمداريّ (تـ: 1985)؛ والأقرب إليه، حتَّى أنه اصطفاه مِن بين المخلصين للصلاة على جنازته، والإشراف على دفنه، وهذه الوصية شهد بها أشخاص عدة، بينهم زوج ابنة شريعتمداري، ووصية المتوفى لا مندوحة مِن تنفيذها. لكن رضا الصَّدر مُنع واعتقلته القوى الأمنية، وحُقق معه وهو معصوب العينين، تحت صورة آية الله روح الله الخميني (تـ: 1989) في دائرة الأمن، ومِن قِبل مديرها شخصياً. أما جثمان شريعتمداريّ فدفن في تربة مجهولة، لا أحد يعرف لها طريقاً، وطوقت داره ودور خلصائه، ومُنع تلقي التَّعازي به.

استطاع آية الله رضا الصَّدر تدوين ذاكرته، ونشرها تحت عنوان "في سجن ولاية الفقيه"، عن السِّجن والتَّحقيق، وجوهر خصومته مع النِّظام الجديد في إيران أنه كان على رأي أستاذه شريعتمداريّ، ضد تسمية الجمهوريَّة الإيرانيَّة بالجمهورية الإسلاميَّة، والحِجة كي لا تُحسب تجاوزات الإدارة والسّياسة على الإسلام، وبالتَّالي كان رضا الصَّدر وأستاذه لا يعتقدان بنظرية "ولاية الفقيه"، وهي جوهر النِّظام الذي يريده رجال الديِّن، الفكرة التي ظهرت في كتاب الخميني "الحكومة الإسلاميَّة"، وأساسها مجموعة محاضراته بالنَّجف، وتُذاع مِن إذاعة بغداد- القسم الفارسيّ (طباطبائي، مذكراتي)، وملخصها "العلماء ورثة الأنبياء". هذا هو جوهر الحنق على الصَّدر، ومنعه مِن الاتصال بشيخه شريعتمداريّ.

ورد في مقدمة كتاب رضا الصَّدر، أنَّ الثَّورة التي كانوا يحلمون بها، انقلبت على النَّاس، وصار الإحباط فيها قريناً للإحباط في الدَّولة العباسيَّة، بعد رفع شعار إسقاط الدولة الأمويَّة، فقال حينها الشَّاعر المخضرم بين الأمويين والعباسيين، أبو العطاء السّنديّ (تـ: نحو 158هـ): "يا ليتَ جَور بني مروان عاد لنَّا/ وأن عدلَ بني العبَّاس في النَّار"، قصد الصَّدر مِن الاستشهاد بالبيت المذكور المقابلة بين العهد الشَّاهنشاهي وعهد الولي الفقيه، فلو قوبلت المظالم بين العهدين لرجحت كفة العهد الأخير فيها، وعلى الخصوص ضد الفقهاء غير المنسجمين في الاعتقاد بولاية الفقيه، ناهيك بغير الإسلاميين، مِن القوى الليبراليَّة.

اختلف المرجع محمد كاظم شريعتمداري مع توجهات روح الله الخميني، معترضاً على تسمية الدولة بالإسلامية، كما اعترض على الإعدامات، وما حدث بعدها من تصرفات رجال الدين الثوريين، فعندها اتُّهم بالتآمر، وأُخرج على الشَّاشة ليعلن توبته، والتماس الخميني العفو عنه. مع أنه أحد الذين لهم فضل كبير على الخميني في حمايته مِن حُكم قد يصل إلى الإعدام (1963)، عندما أسند إليه درجة الاجتهاد ليكون آية الله، وحينها لم يكن كذلك، ففي وقتها لم ينجز رسالة عملية في الفقه، مثل إنجاز رسالته في ما بعد "تحرير الوسيلة"، منح درجة مجتهد مِن قِبل شريعتمداري وآخرين، كي لا يُسجن أو يُعدم، (آية الله البرقعي، سوانح الأيام. نهاوندي، الخميني في فرنسا)، كذلك يُذكر أن مراجع النَّجف أصدروا بياناً اعترفوا فيه بمرجعية الخميني وذلك لحمايته، وبينهم كان الخوئي (العامليّ، نفسه). لذا أُكتفي بنفيه إلى تُركيا، وبعدها وافق الشاه على إقامته في النجف، وقد طلب ذلك، فالأتراك لم يسمحوا له ولا لغيره، مِن رجال الدين، بالخروج بالزي الديني، وله صورة هو وولده مصطفى يرتديان الملابس المدنية، وهي من الصور النادرة، نُشرت في كتاب زوجة ابنه أحمد الخميني فاطمة الطباطبائي "مذكراتي".

المجتهد لا يُحاكم

من المعروف أن القانون الإيراني -آنذاك- لا يسمح بسجن أو إعدام المجتهد أو المرجع، أي الحامل لقب "آية الله" أو "آية الله العظمى"، وذلك بحسب ما أصدرته وزارة محمد مصدق (1952-1953) في الخمسينات من القرن الماضي (انظر: العاملي، محمد باقر الصَّدر السّيرة والمسيرة، عن هفت هزار رز).

كان لدى العثمانيين مثل هذا القانون أيضاً، في معاملة الفقهاء الكبار أو المجتهدين، ومن مختلف الطَّوائف، فقد حصلت قضية ضد الشَّيخ المجتهد محمد حسين كاشف الغطاء (تـ: 1954)، سنة 1912 بسبب نشر كتاب "الدَّعوة الإسلامية إلى مذهب الإمامية"، وفيه ردَّ على نظرية النشوء والارتقاء، وقد أُشكل عليه القضاء العثماني حينها، فلم يُسجن، وإنما اكتفي بأخذ غرامة عليه، وصدر الكتاب تحت عنوان "الدين والإسلام أو الدعوة الإسلامية"، (كاشف الغطاء، عقود حياتي).

لكنَّ الخميني، عندما تولى الحكم، ألغى قانون الحصانة عن المجتهدين، وشُكلت لهم محكمة خاصة، لذا حُجز شريعتمداري في داره، وفرضت عليه حراسة مشددة، وصُودرت مدرسته وشُتت تلامذته، وكان يجري تشجيع أتباعه على الانتقال إلى تقليد الخميني بطريقة وأُخرى (أمالي السيد طالب الرِّفاعي)، ثم ظهر على شاشة التلفزيون، طالباً العفو مِن الخميني، ومعلناً توبته. مع أن الخميني كان يردد قبل استلامه للسلطة "إن أيَّ إهانة للمراجع العظام، أو لصورهم، أمر حرام شرعاً وخلاف لرضا الله تعالى، ومَن يقوم بمثل هذا العمل غير المقبول، فهو مِن عملاء الأجانب، أو مِن أزلام النِّظام" (طباطبائيّ، مذكراتي)!

موسى والخميني

تذكر فاطمة طباطبائي ابنة أخت رضا الصّدر، وشقيقه الأصغر موسى الصّدر، أنَّ خالها موسى رحل مِن إيران إلى لبنان ليؤسس المجلس الإسلامي الشِّيعي الأعلى (1969)، لإدارة شؤون الطّائفة الشيعية بلبنان، وسط اعتراضات مِن رجال دين مِن الطَّائفة الشِّيعية، وأنشأ مؤسسات للعمل الخيرية، وأهمها مؤسسة موسى الصَّدر، وكان الخميني يدعمها، قبل الثَّورة بطبيعة الحال. إلا أنَّ معترضين على الصَّدر وقريبين مِن الخميني نقلوا له عن تصرفات غير مرغوبة بين رجال الدِّين، مثل أنه كان "يحضر مجالس النِّساء وهنَّ بلا حجاب" (نفسه). لهذا كان الخميني ليس على وفاق مع الصَّدر، ولا نظن أن يكون هذا السَّبب الكافي، إذا لم يكن هناك ما هو أعمق مِن الخلاف.

توبة شريعتمداري

ظهر شريعتمداري في التلفزيون الإيراني الرسمي ليعلن توبته، ويُمجد الثورة ورجالها، وهذا نصُّ توبته: "أستغفر الله وأتوب إليه على هذا (كلمة غير واضحة) القصور، وأن أواجه مثل هذه الأعمال بشدة، وأطلب مِن سماحة آية الله العظمى الخميني دامت بركاته أن يعفو عني، بعد ملاحظة أعذاري..."

مِن المعلوم، أن إعلان التوبة من مرجع كبير يُسقطه في عيون أتباعه ومقلديه، فبالنسبة الى مثله تعد التوبة قتلاً معنوياً وروحياً؛ كذلك أنَّ إعلان التوبة تحت الإكراه، من مرجع كبير، بحجم شريعتمداري، هو إعدام مِن نوع آخر، صاحب ذلك تشويه شخصيته في وسائل الإعلام، كي تتضعضع مرجعيته، بإبراز صورة له جالساً مع الشاه، ومعلوم كم تؤثر مثل هذه الصور على المزاج العام، في وقت الهيجان الثوري (البرقعي، سوانح الأيام).

يروي رضا الصَّدر قصة سجن شريعتمداري، ومَنْع علاجه في طهران أو أوروبا، فبعد حجزه في داره، أُغلقت مدرسته، وشُّدد على حُسينيته، وعلى أقربائه وأصدقائه ومُقلديه، أصيب بمرض السرطان في "خاصرته"، وكان يُراجعه طبيب اسمه باهر، الذي نصح بنقله إلى طهران، والأفضل مِن ذلك نقله للعلاج في أوروبا، فليس هناك إمكانية لعلاجه في قمّ، لكن النظام الإسلامي وبأمر مِن الخميني نفسه منع نقله إلى طهران، وطبعاً منع مِن السَّفر إلى أوروبا.

محاولات الصدر لإنقاذ أُستاذه

أخذ رضا الصَّدر يُحرر الرَّسائل، ويرسلها إلى مكتب الخميني، من طريق كبار المراجع، في شأن وضع أستاذه، لعلها تجد أذناً صاغية للسماح بعلاجه خارج قُمّ، ولكنه لم يحصّل جواباً، ولا صدى لمناشداته ومناشدات آخرين، وقد استفحل المرض، وهذا في عُرف الفقه -بحسب مقدمة المترجم- قتلٌ مع الإصرار. بعد فوات الأوان، جاءت الموافقة على نقله إلى طهران، فأُدخل مستشفى "مهرداد"، وفي غرفة الإنعاش، صودر هاتفه الشخصي. يقول رضا الصَّدر إن شريعتمداري الذي أنقذ الكثيرين من السجناء واللاجئين في زمن الشَّاه، لم يستطع أحد إنقاذه.

كان شريعتمداري قد أوصى لرضا الصَّدر، الذي تربطه به علاقة الدرس ويُعده مِن أقرب الناس الى نفسه، أن يُصلي على جنازته، جاء في وصيته: "غسِّلوني في حُسينيتي في قمّ المقدسة، ويُصلي على جنازتي السَّيد الصَّدر، وادفنوني في الحرم، وإذا منعوكم فادفنوني في حُسينيتي". قام خمسة من رجال الدين بإبلاغ الصَّدر بالوصية، وهم: جلال الإمامي، والحاج مير جليل المنيبي، والحاج موسى شيخ زادكان، والحاج مهدي الدواتكران، والحاج أكبر المراغه جي. كان قد أبلغهم اياها شريعتمداري وهو طريح الفراش، وبينهم ابن عمّه المنيبي وأخو زوجته، وصهره الإمامي، والبقية مِن أصدقائه الخُلص.

توجيهات الولي الفقيه

أسلم شريعتمداري الرُّوح في الوقت الذي كانت الاحتفالات جارية بذكرى وفاة الإمام موسى الكاظم (ت183هـ)، فحصل الربط بين المحنتين، وكلاهما اسمه الكاظم، فوجود شريعتمداري سجيناً في بيته ثم وجوده في المستشفى تحت الحراسة، ذَكَّر محبيه بمحنة الإمام الكاظم، بحسب التقليد الشيعي الإمامي، فصار الذي يلبس السواد، حتى على الإمام الكاظم، في قمّ أو غيرها من المدن، يُتهم بالحزن على شريعتمداري. ومما اتخذته السلطة من إجراءات استعداداً لامتصاص صدمة الجمهور بوفاة مرجع من المراجع الكبار، وقد أُخرج على شاشة التلفزيون يطلب العفو من الخميني، كان التالي:

- أن لا يُسلَّم جثمانه لذويه.

- ولا تُشيَّع جنازته.

- ولا تُنفَّذ وصيته بصلاة رضا الصَّدر عليه.

- ولا يُدفن جثمانه بحسب وصيته، لا في حرم السيدة فاطمة المعصومة (أخت الإمام الرضا بن موسى الكاظم المدفونة في مدينة قُمّ)، ولا في حُسينيته في قمّ.

- منع مجالس التأبين له.

- يُعتقل كلُّ مَن يُخالف الأوامر المشددة ويُقيم عزاء له.

- يُلقى القبض على كلِّ مَن يلبس السَّواد في يوم وفاة الإمام الكاظم.

حدث بعد وفاته ما يلي:

- اعتقال رضا الصدر لأنه ذهب لتعزية ذوي شريعتمداري.

- اعتبار شكوى أهل شريعتمداري مِن قرار عدم السماح بإقامة مجلس عزاء عملاً ضد الثّورة، ومعلوم إنها تهمة خطيرة.

- نقلوا جنازته من المستشفى في سيارة خاصة، ومن الباب الخلفي، وذلك لتجنُّب المنتظرين في الخارج لغرض المشاركة في تشييعه.

- قام الحرس الثوري الإيراني بتغسيله ودفنه من دون علم أحد.

- ذهبوا به إلى حرم أو مقبرة السيدة المعصومة، وذلك للتمويه، بعد قطع الطريق، وأبلغوا أنهم سيحملون جنازته إلى بيته، لكنَّ ذلك لم يحدث، بل دفنوه في مقبرة أخرى، وهي مقبرة تسمى بمقبرة "أبي الحُسين"، وتقع بالقرب من مرافق صحية عامة، ولا أحد يعرف مكان القبر بالتحديد، كي لا يكون مزاراً يجتمع فيه محبوه ومقلدوه، أو خاصته.

- منعوا الصلاة عليه.

اعتقال الصَّدر

تحدث رضا الصَّدر عن ظروف اعتقاله شخصياً، وحجب الرؤية عنه بالقماش الأسود، وعندما طلبوا منه خلع عمامته رفض ذلك تاركاً لهم هذا التَّصرف، كي يحرجهم، وطلب خلع العِمامة كان خشية مِن النَّاس أن يشاهدوا معمماً مقبوضاً عليه مِن قبل حرس الثَّورة. ومِن المعلوم أن رضا الصَّدر، مثلما تقدم، هو شقيق موسى الصَّدر، وكانت العلاقات بين إيران وليبيا مقطوعة في زمن الشَّاه، ثم أعادها النظام الإسلامي. ذَكرت ابنة أخت رضا الصَّدر خالها وبقية خؤولتها وعمومتها، وذكرت أنه تتلمذ في الفلسفة على يدي الخميني، وهذا لم يُذكر في ترجمته الشَّخصية، كذلك لم تذكر شيئاً عن علاقته بالمرجع شريعتمداري، وعن سجن خالها الصَّدر، والسبب معروف، ففاطمة صاحبة المذكرات كانت زوجة أحمد الخميني، وصلتها بالإمام -بحسب تعبيرها- كانت مقدسة.

كان مزاج الشَّارع الإيراني متأثراً بالخطاب الثوري الإسلامي، ومقدمات الحرب مع العراق مهيمنة على الأجواء، فخلالها صُفِّيَ الكثيرون من المعارضين، وبينهم عدد مِن فقهاء الدِّين، وقد مرت محنة محمد كاظم شريعتمداري، من سجنه في داره، ثم ظهوره على الشّاشة معلناً توبته، خلال الحرب وتوحيد الصَّف الإيراني ضد عدو خارجي. كان العذر في هذه الادعاءات أن مراجع آخرين لم يتفقوا مع "ولاية الفقيه"، لكنهم لم يُعتقلوا، ولم يُستتابوا. والحقيقة، أن شريعتمداري كان الأكبر بين المراجع، ويعلم الخميني منزلته وعدد مُقلديه، وأهميته وتأثيره؛ فكان الهتاف لمن لا يقرُّ بولاية الفقيه، أو يعلن رأياً ضدها: "مرك بر ضد ولاية فقيه"، أي الموت لمعارضي ولاية الفقيه (هويدي، إيران من الداخل).

اعتبر الصَّدر أن أستاذه شريعتمداري استشهد، وكان عنوان فصل وفاته "استشهاد شريعتمداري". اللافت أن شريعتمداري قد أصدر بياناً عن إعدام محمد باقر الصَّدر (العاملي، السيرة والمسيرة)، لكنَّ لا أحد مِن المراجع ولا مِن الأحزاب الدِّينيَّة رثى شريعتمداري بكلمة، ما عدا القريبين منهم، وقد غضب عليهم النّظام الإيراني.

إخواني يبارك الإعدامات

مِن الإسلاميين العرب مَن اثنى على الإعدامات، وهي في أوجها، وشجع على الإيغال بها ضد رجالات النِّظام السابق، هذا ما جاء في مقال للإسلامي الكويتي عبد الله النفيسي تحت عنوان "اثخن فيهم يا الخميني بوركت يداك"، المنشور في صحيفة "الهدف الكويتية" بتاريخ (14 حزيران/ يونيو 1979)، والتبرير هو الفساد في ذلك النظام، لاحظنا أن المقال قد ضُمن آيات قرآنية وأحاديث نبوية لإسناد تلك الفكرة، وقد وظفت تلك النصوص توظيفاً ليس في محله ولا مناسبته (نص المقال وصورة صحيفة الهدف كنتُ نشرتها في مقال تحت عنوان: عبد الله النفيسي: اثخن فيهم يا الخميني بوركت يداك، بتاريخ 12/4/2020 (مركز المسبار للدراسات والبحوث - دبي، على الرابط:

https://www.almesbar.net).

***

د. رشيد الخيون

 

 

عرفتُ سماحة الشّيخ العلّامة حسن موسى الصّفار، السّعوديّ موطنا، الإماميّ مذهبا، منذ أكثر من عشرين عاما، وأنا أقرأ في بعض نتاجه العلميّ والمعرفيّ، ثمّ تعرّفت عليه أكثر في الشّبكة العالميّة (الأنترنت) من خلال موقعه على النّت، ثمّ من خلال مقابلاته في الفضائيات، حيث وجدت عالما لا ينظر إلى الآخر المختلف أنّه مختلف عنه، دينا كان أم جنسا أم مذهبا، بل ينظر إليه قبل كلّ شيء أنّه إنسان يشاركه في بناء هذا الوجود، مستلهما من وصيّة الإمام عليّ بن أبي طالب: "النّاس صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، أو نظير لك في الخلق".

كما رأيت فيه إنسان الوحدة الإسلاميّة، حيث تجسّدت فيه ليس كعادة الرّسميات الّتي لا تتجاوز حدود المؤتمرات، بل كان مشروعا اشتغل عليه ولا يزال يشتغل – أمدّ الله في عمره – في تحقّقه، وأصدر لذلك العديد من الكتب منها على سبيل المثال: العقلانيّة والتّسامح: نقد جذور التّطرف الدّينيّ، فقد تطرّق فيه إلى موضوعات أكثر جرأة ممّن يتغنى بالتّسامح كحالة إعلاميّة، لا كمشروع وحدوي، ومن هذه الموضوعات مثلا موضوع الخطاب الدّينيّ حيث يركز على حالة الشّعبويّة ومدى خطورتها لأنّها "تثير المشاعر العامّة للنّاس؛ لكونها تتوجه إليهم بطريقة غير منتظمة، تتخطى العقلانيّة والوقائع، وتعمد إلى تضخيم بعض الأمور، للوصول إلى نتائج تناسب الرّغبات أو الأهداف المطروحة"، أي الّتي تلق قبولا جماهيريّا وشعبويّا، فيتم تسويق الخطاب الدّينيّ لهذا الغرض بطريقة بعيدة عن الواقعية والعقلانيّة.

كما تطرّق إلى موضوع التّكفير، وربطه بالهوّيّة الدّينيّة، فيرى أنّ الانتماء الدّينيّ في أصله العام مربوط بثلاث مسارات: المسار الأول حريّة البحث والتّساؤل عن الأسئلة الوجوديّة، ليصل إلى درجة "الاطمئنان النّفسيّ، والاستقرار الفكريّ"، وهنا أشار إلى الرّأي الآخر في قضيّة المرتد، وهو أنّه "يوجب القتل حين يكون التحاقا بمعسكر العدو، أمّا إذا كان مجرد تغيير فكريّ عقديّ فلا يستحق ذلك".

والمسار الثّانيّ "تأمين المستقبل والمصير الأخرويّ، حيث يعتقد الإنسان أنّ تدينه سبيل خلاصته ونجاته في الدّار الآخرة"، وعليه تكمن خطورة التّكفير هنا أنّه "يكون افتراء على الدّين حينما لا يكون في محلّه، وللنّتائج المترتبة عليه تجاه من يصدر ضدّه"، لهذا في الكتاب يتطرق إلى قضيّة جدليّة وهي: لمن نعيم الجنّة؟، فيرى أنّ العقاب الأخروي ليس مرتبطا بدين أو مذهب، وإنّما مرتبط بإقامة الحجّة وفق العدل الإلهيّ، وهذا يستند إلى الوجدان والبرهان، فأمّا الوجدان باعتبار "أنّ الإنسان بفطرته السّليمة يرفض معاقبة من لم تقم عليه الحجّة"، وأمّا البرهان "فلأنّ ممّا يستقل به العقل هو الحكم بقبح مؤاخذة الّذي لم تصله الحجّة"، وهذا ينطبق مع النّهج القرآنيّ، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء/ 15]، ولهذا يرى أنّ أغلب البشر اليوم قاصرون عن معرفة الحجّة لا مقصرون، "فالعالَم اليهوديّ والنّصرانيّ كالعالَم المسلم، لا يرى حجّة الغير صحيحة، وصار بطلانها كالضّروريّ له"، فصار أغلب النّاس بسبب البيئة وقدراتهم قاصرين لا مقصّرين، والقاصر لا يستحق العقاب.

وهنا مثلا يضرب مثلا بالشّهيد مطهري [ت 1979م] حول المسيحيين [النّصارى]، حيث يقول: "رغم أننا نعتقد بطروء التّحريف عليها – أي المسيحيّة -، لو تنظرون إلى المدن والقرى والرّهبان ورجال الدّين فيها، فهل إنّ كلّ راهب فاسدٌ وإنسان سيئ؟، والله، إنّ بينهم نسبة السّبعين إلى الثّمانين في المائة هم أشخاص أتقياء، يملكون حسّا إيمانيّا وإخلاصا، وكم علّموا النّاس التّقوى، ونشروا الصّلاح والإخلاص والطّهارة باسم المسيح ومريم، ولا ذنب لهؤلاء النّاس، وسوف يدخلون الجنّة، وأساقفتهم كذلك أيضا".

والمسار الثّالث الحماية الاجتماعيّة، فاختلاف دينه ومذهبه لا يرفع عنه الاعتبار والحماية الاجتماعيّة، "فيتمتع بمكاسب وامتيازات العضويّة"، مرورا "بعصمة دمه وماله، وطهارته، وحمله على الصّحة في أقواله وأفعاله ....."، ولهذا يرى أنّ "نعم الله شاملة ومتاحة [لجميع البشر]، على اختلاف أعراقهم وأديانهم".

ومن خلال لقائي مع سماحته كما سيأتي ذكره يرى أنّ العديد من المصطلحات ظرفيّة ومنها مصطلح التّكفير، ونحن "لسنا مقيدين كثيرا بالمصطلحات، لو وجدنا أنّ هناك مصطلحا في القرآن وفي السّنة، لكن أصبحت الظّروف غير مناسبة لاستخدام هذا المصطلح؛ لا مشكلة في أن يكون هناك مصطلح آخر، مثلا: نحن الآن حينما نعبّر عن شخص تُوُفّي بأنّه "هلك"، هذا مصطلح سيء عندنا، فلا نقول "شيخ فلان هلك"، بينما القرآن الكريم يستخدم هذه الكلمة في نبي الله يوسف - عليه السّلام - {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر/ 34]، فإذا قد يكون هناك مصطلح في وقت من الأوقات متداول، في وقت آخر تكون هناك ظلال سيئة لهذا المصطلح، نحن لسنا مجبرين على استخدام مصطلح له ظلال سيئة، يمكننا أن يكون عندنا مصطلح جديد"، وعليه ممّا سبق ندرك مدى تأثير التّكفير على الهوّيّة الدّينيّة خصوصا إذا ضاق وترتب عليه إقصاء دينيّ ومجتمعيّ ومدنيّ من جهة، واتّسع في إطلاقه بلا ضوابط من جهة أخرى كما عند بعض الجماعات المتطرفة.

ومن الموضوعات المهمّة الّتي تطرق إليها الكتاب موضوع سننيّة الاختلاف، وربطه سماحة الصّفار بالتّفكير الملازم لعمل العقل؛ لأنّ التّفكير في نظره ينتج اختلافا، لهذا يرى "أنّ البعض يزعجه اختلاف الآراء، ويتمنّى لو أنّ أبناء المجتمع يكونون نسخة واحدة في أفكارهم وآرائهم، لكن الاختلاف نتاج طبيعيّ لعمليّة التّفكير، وإذا أردنا النّاس ألّا يختلفوا في الرّأي؛ فعلينا أن نصرفهم أو نمنعهم عن التّفكير، بأن نحظر عليهم التّفكير، أو نقنعهم بالاعتماد على من يفكر عنهم، وإذا تنازل الإنسان عن التّفكير فقد تخلى عن أهم ميزة لإنسانيته، ويكون حينئذ أسوأ من سائر الحيوانات".

ويرى "إذا كان التّفكير يؤدي إلى اختلاف الرّأي؛ فإنّ ذلك ليس أمرا سلبيّا سيئا، بل هو أمر مفيد؛ لأنّه يثري المعرفة، ويوصل إلى الرّأي الأفضل، ويبين ثغرات الآراء، وهو ما يدعو إليه الدّين، ويؤكد عليه".

لهذا ينقد الصّفار بعض المتدينين عندما "يتصوّرون أنّ ما يؤمنون به من أفكار، وما يعرفونه من أحكام، وما يمارسونه من طقوس وشعائر؛ هي حقائق دينيّة صلبة، لا تقبل المسّ والتّغيير، ولا يصح مناقشة شيء منها، ويرون أنّ من يخالفهم الرّأي في شيء منها، فهو منحرف مبتدع ضالّ مضلّ، وقد يخرجونه من الدّين أو المذهب".

وعليه "إنّ رفض الاعتراف بمشروعيّة الرّأي الآخر، والسّعي لفرض رأي واحد على النّاس؛ هو الأرضيّة الخصبة للتّطرف، ونموّ توجهات القمع والعنف، وهو ما أوصل ساحتنا الإسلاميّة لتفريخ حركات العنف والإرهاب"، "وإنّ رفض أيّ فكرة أو رأي لا ينبغي أن يقود إلى نصب العداوة لصاحب ذلك الرّأي، فلو أطلق إنسان رأيا أو فكرة خطأ وفق تقويمك، فمن حقّك أن ترفض ذلك الرّأي، لكن ذلك لا يعني أن تعادي صاحب الرّأي، أو تتبنى موقفا عنيفا ضدّ مطلق الفكرة".

وبما أنّ التّفكير حالة ملازمة للعقل؛ لهذا يخصص الصّفار موضوعا مستقلا حول التّلازم بين الدّين والعقل، فيرى أنّ بعض المتديّنين "حينما تناقشهم حول آرائهم وأفكارهم وممارساتهم على ضوء العقل والمنطق؛ يغلقون باب النّقاش والحوار، على أساس أنّ قضايا الدّين تعبديّة، وأنّ دين الله لا يصاب بالعقول"، لهذا "تدور في أوساط بعض المتديّنين أفكار تخالف العقل والمنطق، هي أشبه بالأساطير والخرافات"، "فمن ينتسب إلى الدّين، ويحمل شعاره وعنوانه، ويمارس عباداته وطقوسه، لكنّه غير مستخدم لعقله، ولا مستثمر لفكره؛ فإنّ تدينه سيكون مبتورا ناقصا، بل مشوّها قاتما".

ويرى "من مظاهر تهميش العقل في أوساط المتديّنين الجمود على فهم الأسلاف للدّين، ولا شك أنّ الظّروف متغيرة، والحياة متطوّرة، والأسلاف فهموا الدّين حسب مستواهم، وضمن ظروف عصرهم وبيئتهم، ونجد أنّ منهجيّة الدّين قائمة على مراعاة التّطوّر، لذلك تجددت الشّرائع عبر الأنبياء، مع أنّ الدّين في جوهره واحد".

لنجد كتابه السّابق صدورا وهو "الطّائفيّة بين السّياسة والدّين"، يعالج موضوع الطّائفيّة بشكل أعمق وفق كتابات في مناسبات مختلفة، منطلقا من أنّ العلاج يبدأ من الدّاخل، وليس رهين نظرية المؤامرة، لأنّ "محاولات العدو إنّما تحصل وتنجح من خلال المنافذ الموجودة في واقعنا وأوضاعنا، وهي الأرضية الخصبة الحاضنة لبذور الفتنة، الّتي يسقيها وينميها العدو"، وتشتدّ الطّائفيّة عندما يلازمها انسداد سياسيّ يقصي الآخر، ويحجب المشاركة السّياسيّة، مع سياسات التّمييز، وارتفاع العدل بين الجميع، ليلازمه التّعبئة المذهبيّة المؤججة للخلاف والصّراع بين المختلفين في المجتمع الواحد، فتحدث بهذا القطيعة الاجتماعيّة بين أتباع المذاهب كالزّواج والتّزاور والدّفن مثلا.

ويتبع هذا الكتاب كتاب "التّسامح وثقافة الاختلاف: رؤى في بناء المجتمع وتنمية العلاقات"، وإذا كان الكتاب السّابق يركز على الطّائفيّة وهي حالة سلبيّة، فهذا الكتاب يركز على التّسامح، وهي حالة إيجابيّة، منطلقا من معالجة المرض المانع من تحقق التّسامح، متمثلا في العداوة والحسد، ليدخل في أدبيات ثقافة الاختلاف واحترام الآخر، وثقافة الاعتذار وبناء مجتمع متسامح ومتعايش.

بعد هذا التّعارف المعرفيّ، والتّتلمذ على يديه معرفيّا عن طريق كتبه ونتاجه وخطبه، شاء القدر أن يشرّفني سماحته متواضعا في منزلي في ولاية السّيب بمحافظة مسقط، بتأريخ 27 ربيع الثّاني 1439هـ، يوافقه 15 يناير 2018م، لأسجل مع سماحته حلقة حواريّة يوتيوبيّة في قناتي المتواضعة (أُنْس)، بحضور مجموعة من الأخوة الباحثين العمانيين، وكان الحوار حول "تأملات في بعض قضايا التّفكير الدّيني"، ونشر الحوار كاملا في مسارات في ثقافة التّنمية والإصلاح في جزئه العاشر، والّذي ينشره مكتب سماحته في القطيف، وذكر في مستهل اللّقاء علاقته بعمان، فقد جاء إلى عمان وعمره حوالي سبعة عشرة سنة، قائلا: "دعيت إلى الخطابة لإلقاء محاضرات دينيّة، وبقيت أتردد على مسقط من سنة ١٩٧٤م إلى ١٩٧٨م، وكنت أقيم الجماعة والجمعة في مسقط، وألقي المحاضرات في مطرح، والحمد لله بالتّعاون مع مجموعة من الشّباب الواعين من أهالي مطرح، تمّ تأسّيس مكتبة باسم مكتبة الرّسول الأعظم على سطح مسجد الرّسول الأعظم على كورنيش مطرح، وتمّ إصدار نشرة شهريّة بعنوان "الوعي", ننشر فيها مقالات الشّباب النّاشئين الّذين أسّسنا دورات لتعليمهم على الكتابة والاهتمام الثّقافيّ .... والحمدلله تربى منهم مجموعة من المثقفين الذين استمروا في أفق الثقافة والفكر وأعتبر أن تجربتي في العمل الاجتماعّي نشأت وتأسّست في هذه البلاد الطيبة "سلطنة عمان" وفي مسقط ومطرح بالذّات".

ومن الابتداء ذكر علاقته التّواصليّة مع الرّموز الدّينيّة والثّقافيّة في عمان، حيث يقول: "وأتذكر على هذا الصّعيد زيارتي للمفتي السّابق للسّلطنة الشّيخ إبراهيم بن سعيد العبريّ - رحمة الله عليه -، وفوجئت بتواضعه مع أنّي كنت صغيرا في السّن، وكان هو كبيرا وفي مقام المفتي، وله شخصيّته العلميّة، استقبلني بحفاوة وبتشجيع، وأعجبتني جدّا أخلاقه الطّيبة، كما رأيت إحاطته في المجال العلميّ والفقهيّ لآراء المذاهب المختلفة، وأيضا كانت لي علاقة من ذلك الوقت مع مفتي السّلطنة الحاليّ سماحة الشّيخ أحمد الخليليّ - حفظه الله -، واستمرت العلاقة معه من لقاءات في المؤتمرات الّتي كانت تنعقد في الخارج، وكان يشارك فيها، وأنا كنت أشارك فيها، ولا زلت أكن له الكثير من الاحترام لفضله ولعلمه وللفكر التّسامحيّ الّذي يطرحه، أيضا تعرفت آنذاك على فضيلة الشّيخ سالم بن حمود السّيابيّ، وكان قاضيّا في المحكمة في مطرح، وجلست معه في أكثر من لقاء، ودعاني إلى منطقته في عمان الدّاخل، وذهبنا إلى هناك، وكنّا في ضيافته مع مجموعة من الأخوة الشّباب، وأعجبني تواضعه وخلقه وعلمه وأدبه لأنّه كان أديبا، وتعرّفت على ولده الشّيخ هلال والّذي كان في السّلك الدّبلوماسيّ فيما بعد، حينما تعرّفت عليه كان في إدارة المطبوعات، وبعد ذلك أصبح في السّلك الدّبلوماسيّ، وزرته قبل سنوات حينما كان سفيرا في دمشق".

وفي الحوار تحدّثنا حول جدليات عديدة، وعلى رأسها آلية الجمع بين البراءة والدّائرة الإنسانيّة، فيرى سماحته أنّ "البراءة من أعداء الدّين الّذين يكونون في موقع العداوة، وهذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة/ 8]، ولا يجتمع التبّري مع البِرّ والقسط، وقد استعمل مصطلح "البر" الّذي استعمله مع الوالدين، بر الوالدين، نعم، نحن نفارقهم فكريّا وعقديّا وسلوكيّا فيما يرتبط بالسّلوكيات المخالفة لديننا، أما القيم الإنسانيّة العامّة فهي مشتركة بين أبناء البشر ، وإن كانوا من ديانات أخرى".

وتطرقنا كذلك إلى رواية الفرقة النّاجية، حيث يرى أنّ حديث "الفرقة النّاجية" فيه "إشكالات كبيرة في سنده , وقد ورد بعدّة إسناد، ولكن لا يوجد سند واحد من الأسانيد الّتي ورد بها هذا الحديث يكون سندا صحيحا معتمدا, وإذا تجاوزنا مسألة السّند, فإنّ هناك إشكالا في المتن, الحديث إذا قرأناه كلّه, وأنّ الفرق كلّها هالكة, أو كلّها في النّار إلا فرقة واحدة, هذا خلاف ثقافة الدّين في إشاعة الثّقة بين أبناء الأمّة الاسلاميّة ببعضهم بعضا, وخلاف ما نقرؤه من سعة رحمة الله سبحانه وتعالى, إذا اعتقدنا بهذا الحديث أنّ كلّ غير المسلمين لا يدخلون الجنّة, وضمن المسلمين لا يدخل من المسلمين إلا فرقة واحدة؛ فما الحاجة إلى جنّة كعرض السّماوات والأرض, لا نحتاج إلى جنّة بهذه السّعة, ولا نحتاج إلى حديث عن رحمة الله بهذه السّعة" أيضا.

كذلك تطرق في الحوار إلى ضرورة "وجود مصالحة بين المسلم وبين العصر الّذي يعيش فيه, المسلم إذا عاش في عصر يتصادم معه في كثير من قضايا الحياة, إمّا أن ينكفئ على نفسه، ويعيش العزلة والانغلاق, وإمّا أن تضطرب وترتبك حياته, نحن نجد في المجال السّياسيّ كثيرا من الدّينيين والإسلاميين كتبوا ضدّ الدّيمقراطيّة، وتحدّثوا ضد الانتخابات, لكن عملا الآن كثير من البلدان الإسلاميّة, وحتّى من تتّجه باتّجاه الحكم الدّينيّ مثل الجمهوريّة الاسلاميّة في إيران, قبلوا الدّيمقراطيّة كممارسة".

ثمّ التقينا مرة أخرى في ديوانيّة تجمع الميثاق الوطنيّ لصاحبها الأستاذ أبي عمار نبيل المسقطيّ في دولة الكويت بمنطقة الدّسمة، يوم الثّلاثاء 24 شعبان 1439هـ، يوافقه 8 مايو 2018م، في ندوة مشتركة حول التّسامح، تجربة عمان أنموذجا، وضيوف النّدوة سماحة حسن الصّفار من السّعوديّة، والأستاذ خميس العدويّ وكاتب المقالة من عمان، وأدارها الأستاذ حسن الخواجة من الكويت، وبيّن سماحته في كلمته أنّ "التّسامح اكتسبت في الثّقافة الحديثة معنى أوسع من اللّغة العربيّة والتّراث الإسلاميّ، بحيث تقبل الرّأي الآخر وتعترف به، ولا تعتقد أنّك تحتكر الحقّ والحقيقة، فلك الحق أنّ تعتقد ما تراه حقيقة، ولكن من حق الآخر أيضا له الحقّ أن يعترف به، ويرى أنّ هذا المصطلح شاع في أروبا بسبب هيمنة الكنيسة المتحالفة مع السّلطات الحاكمة في أروبا حينها، فجاء المصطلح لنقل المجتمع الإنسانيّ من الهيمنة والتّعصب الفكريّ والثّقافي والدّينيّ، ثمّ قرر أنّ ديننا وقرآننا يدعو إلى التّسامح والاعتراف بالآخر، وترك الحساب لله؛ لأنّه فرق بين القاصر والمقصّر والمعاند، ومع هذا كفل للجميع حقّ الاعتقاد"، وقد كتبتُ حول النّدوة واللّقاء في الرّحلة الكويتيّة، والّتي أضفتها في كتابي إضاءة قلم، الحلقة الأولى حول التّعايش.

ثمّ التقيت به مرة أخرى في فندق سفير انترناشيونال في الصّفاة بدولة الكويت في ذات الرّحلة صباح الخميس 26 شعبان 1439هـ، يوافقه 10 مايو 2018م، وسجلت معه حلقة حواريّة يوتيوبيّة على قناتي أُنْس حول تأملات في وحدة وإنسانيّة الصّيام، ودوّنتها في الرّحلة الكويتيّة المشار إليها آنفا، وبيّن سماحته فيها "أنّ من رحمة الله تعالى أن جعل شعائر المسلمين موحدة من صلاة وصيام وحج، وهذا الشّعائر توحد المسلمين؛ لأنّهم يتّفقون في فرضيتها، ويتّفقون بنسبة كبيرة في تفاصيلها العمليّة، والخلافات في مسائل فرعيّة ومحدودة، فمن المساوئ أن نترك المشترك الكثير، ونركز على المختلف القليل، والعقل يدعو إلى التّركيز حول المشترك".

وبيّن أيضا أنّ "الإنسان تكوينا يمر بحالتي جدل: حالة جدل داخليّ؛ لأنّه لا يقرر رأيّا إلا بعد جدل مع نفسه، مع عقله وشهوته، وحالة جدل خارجي بينه وبين الآخرين، إلا أنّ الجدل يكون أحيانا هادفا، كهدف الاستفادة من الآخرين، أو بهدف إفادتهم لفكرة وصل إليها، وهناك جدل غير هادف كجدل الانتصار للذّات، أو استعراض العضلات".

وحول مصطلح الغزوة والسّبي والجزية المرتبط بواقعة بدر الكبرى في رمضان في السّنة الثّانية من الهجرة، يرى "أنّ المشكلة أنا نريد أن نقرأ أحداث الماضي بلغة وعقليّة وثقافة اليوم، فالمجتمعات البشريّة في مسيرة تطوّر تصاعديّة، فهذه المصطلحات والأحكام وفق بيئة وزمان معين، وللحروب أيضا ثقافات وأعراف يتوافقون عليها حينها بين جميع الأطراف والقبائل، واليوم نعيش عصرا متقدّما فيه منظمات دوليّة لها قوانينها ومواثيقها حول الحروب، فيجب أن نلتزم بها بصيغتها الإنسانيّة المعاصرة".

ثمّ التقيت بسماحته في منزله في الجزيرة بمحافظة القطيف بالمملكة العربيّة السّعوديّة يوم الأربعاء 4 شعبان 1440هـ، يوافقه 10 أبريل 2019م أثناء زيارتي المعرفيّة إلى البحرين، وحدث بيننا نقاش في قضايا معرفيّة ووحدويّة، وكتبت عن الزّيارة في الرّحلة البحرينيّة المضافة في كتابي إضاءة قلم، الحلقة الثّانية حول التّعارف.

وآخر لقاء مع سماحته وفق تأريخ كتابتي لهذه المقالة أنّه شرفنا في جلسة حواريّة معه على قناتي اليوتيوبيّة (قناة أُنْس) حول المثقف وإنتاج المعرفة الدّينيّة، بتأريخ 23 ربيع الأول 1442هـ/ يوافقه 9 نوفمبر 2020م، عن طريق برنامج ZOOM، وحضرها جمع جيّد من عمان وخارجها، وقضيّة ربط المثقف بالمعرفة الدّينيّة نجد القليل من تطرق إلى هذا المبحث، وهو مادّة خصبة للدّراسة وفق ما يمكن تسميته بالمثقف الدّينيّ.

وكما يرى سماحته أنّ المؤسّسة الدّينيّة تنطلق "من مناهج تعليميّة تتمحور حول النّص الدّينيّ، وغالبا ما تكون هذه المناهج تقليديّة متوارثة"، لهذا تبالغ "في الحرص على الأصالة والموروث الدّينيّ"، ومراعاة الأعراف، لذا يكون "انفتاحها محدودا على تطوّرات الحياة، ومعطيات العلوم الحديثة"، فهي تعيش "هموم المجتمعات القديمة، وبلغة العصور السّابقة"، لهذا ظهر في العصر الحديث "شريحة من الأكاديميين في مختلف التّخصصات العلميّة، ومن حملة المعارف، والمهتمين بقضايا الثّقافة والمجتمع"، فأصبح هناك مزاحم ومنافس للمؤسّسة الدّينيّة في الاهتمام بالمعرفة، وإنتاجها بشكل عام، ولهذا المثقف اليوم أمام طريقين: "إمّا الابتعاد عن الاهتمام بالشّأن الدّينيّ، وتركه لأهله"، "أو التّصدي لإنتاج ثقافة دينيّة مختلفة، وممارسة دور النّقد للمؤسّسة الدّينيّة ونتاجها المعرفيّ، ممّا يدخله في صدام مع جمهورها العريض".

لهذا يدعو سماحته للخروج من هذا يتمثل في "المنافسة الإيجابيّة مع المؤسّسة الدّينيّة"، مقترحا عدّة وسائل، منها الانفتاح على مصادر المعرفة الدّينيّة، والتّواصل مع المؤسّسة الدّينيّة، من خلاله يقدّم نقده وتقويمه ومقترحاته، والتّصدّي لإنتاج معرفة دينيّة؛ لأنّ نتاجه "سيكون إضافة نوعيّة مهمّة للسّاحة الفكريّة والاجتماعيّة".

خلاصة ما تقدّم ندرك أنّ سماحة الشّيخ حسن الصّفار وهو العالم الفقيه، والمفكر الحر، لمّا يتحدث يتحدّث عن تجربة حياة مليئة بالمراجعات والتّأمل ونقد الذّات، كما أنّه لا يتحدّث وهو في مكتبه منعزلا عن النّاس، فهو اجتماعيّ واسع الخلطة بالنّاس، حيث أنّه خطيب ورمزيّة دينيّة وثقافيّة اجتماعيّة، له مشاريعه الاجتماعيّة والثّقافيّة، ويعتبر الرّمزيّة الشّيعيّة الأكثر حضورا في السّاحة الخليجيّة عموما، "بجانب له مبادرات عمليّة في الذّهاب إلى الآخر وزيارته، كزيارته لسماحة الشّيخ عبد العزيز بن باز [ت 1999م]، مفتي المملكة العربيّة السّابق، وأكبر قامة علميّة سلفيّة في العقود الأخيرة، وسماحة المفتي الحالي للمملكة الشّيخ عبد العزيز آل الشّيخ، كما زار شخصيّات علميّة أخرى كالشّيخ عوض القرني [معاصر]، ومعالي الوزير السّابق محمّد عبده يماني [ت 2010م]، والمفكر إبراهيم البليهي [معاصر]، وغيرهم كثير"، وله زيارته إلى الرّموز الدّينيّة في عمان كما أسلفنا، فضلا عن العالم الإسلاميّ، ورموز ممّن يشتركون معه في المّذهب، ولم يقتصر حضوره مع الرّموز الدّينيّة التّقليديّة، بل له حضور واسع مع المثقف والباحث والعالم من كافّة الأطياف والتّوجهات الفكريّة والمعرفيّة.

كلّ هذا أعطى لسماحة أفقا واسعا في قراءة الآخر، والنّظرة إليه، ولمّا زرت مكتبته في القطيف رأيت فيها من الكتب المعاصرة والعلميّة والدّوريّات وكتب الأديان، فهي منفتحة على الجميع فكرا ودينا ومذهبا، لهذا أرى سماحته ابتداء مدرسة فكريّة مستقلة، قبل أن يكون منضويا تحت الخطّ الإسلاميّ في المدرسة الإماميّة، له آراؤه المستقلة، وتجديده الفكريّ، ونقده الموضوعيّ المنطلق من نقد الذّات قبل الغير.

بيد أنني أيضا أرى الحسّ الإنسانيّ والوحدويّ ملازما لسماحته، فهو إنسانيّ في تعامله مع النّص الدّينيّ من خلال مدرسة الأنسنة من حيث التّأويل، أي بمعنى حضور النّزعة الإنسانيّة في تعامله مع تأويل النّصّ الدّينيّ، وتجاوز أمر التّطبيقات الفقهيّة العمليّة إلى مراجعاته حتّى العقديّة، كالولاء والبراء، والحكم على المختلف بالجنّة والنّار.

بجانب الحسّ الوحدويّ الشّموليّ من حيث الجنس البشريّ، والهوّيّاتيّ من حيث المدارس والمذاهب الإسلاميّة، والقطريّ الإجرائيّ من خلال الدّولة الوطنيّة القطريّة الواحدة، فهو ينطلق دائما من مفردة الوحدة بين الجميع تحت مظلّة الذّات الإنسانيّة الواحدة، وما ينطبق على ذلك من مصاديق قيم العدل والمساواة والحريّة، ليؤسّس العديد من المفردات الإيجابيّة كالحوار والتّعايش والتّسامح، كما يعالج العديد من المفردات السّلبيّة كالطّائفيّة والتّطرف والتّعصب والإقصاء.

***

بدر بن سالم بن حمدان العبريّ

باحث وكاتب عمانيّ

..........................

ملحوظة: نشرت المقالة سابقا في كتاب: الشّيخ حسن الصّفار: عالما ... مفكرا .... مصلحا [بأقلام عدد من الفقهاء والمفكرين والأدباء]؛ إعداد عبد العظيم حسين الصّادق، ط الانتشار العربيّ، الإمارات – الشّارقة، الطّبعة الأولى، 2022م، ص: 91 – 104.

الصفحة 5 من 7

في المثقف اليوم