شهادات ومذكرات

شهادات ومذكرات

من يريد أن يدخل عتبة روسيا القيصرية، تاريخها الموغل في القدم من يوم حكم القياصرة المتعاقب عليها ونظام القنانة السائد آنذاك، ومهاجمة نابليون وجيشه لها عام 1812وبحكم التاريخ والحروب، إنها حرباً وطنية. عندما هاجم نابليون موسكو، كان أهلها قد دمروها عن بكرة أبيها، تحوطاً ضد أي فرصة قد يتنفس من خلالها المحتل، مما تحمل هو وجيشه عبئاً كبيراً من الجوع والامراض والاوبئة، فتكبد خسائر بالارواح بحدود ٢٥ الف شخص، مما تركها مذعوراً مهزوماً والى الابد. وزحف الجيش الروسي الى أوربا وسقطت العاصمة باريس والقي القبض على نابليون ونفيه. عرفت روسيا تاريخياً من نافذة أدباؤها الروس.

سأل نابليون في منفاه عن سر هزيمته قال بألم: ”الاستهزاء بقوة عدوي روسيا القيصرية ”.

وقد أثرت تلك الاحداث التاريخية على الشاعر بوشكين في رسم ملامح شخصيته وتحديد مواقفه السياسية كشاعر ومواطن وأنسان، هنا تنبأ مشواره الشعري والنثري ” السياسي ”. قائلاً …

سيطوف ذكرتي في أرجاء روسيا العظيمة

ويلهج بأسمي كل مخلوق قد بلغته

ولد بوشكين عام ١٧٩٩ في موسكو في أسرة من النبلاء تعيش حياة ترف وأريحية، كان والده شاعر بارز فساهم في تكوينه الادبي والفكري. ترجع جذور الشاعر بوشكين الى أصول أفريقية، جده من أمه من الضباط المقربيين الى القيصر بطرس الاول من هنا ورث الملامح الافريقية في هيئته حيث تميز بشعر أجعد وشفتين غليظتين، أمه حفيدة إبرام غنيبال الامير الحبشي الذي أختطفه الاتراك وأرسلوه هدية الى القيصر الروسي بطرس الاول. كان بوشكين يفخر بجد أمه، الذي كان قائداً مشهوراً في عهد البطرس، وقد وصفه في روايته التاريخية ”زنجي بطرس الاكبر ”. يعتبر بوشكين شاعر روسيا العظيم وأمير شعراء روسيا وروائي وشاعر وكاتب مسرحي. قال في خضم مواقفه بالشعر والكلمة والوطنية معتزاً بأرثه.

وطويلا سيظل قومي يحبونني

فقد هززت بقيثارتي المشاعر الخيرة

وغنيت ممجداً الحرية في عصري العاتي

وناديت الرحمة على المقهورين

كتب ” نيقولاي غوغول ”الكاتب الروسي وصديق بوشكين قائلاً : عندما تذكر أسم بوشكين تتحلى الطبيعة الروسية بأبهى صورها، إنه النفس الروسية. أتسمت أشعاره السياسية برفض الاستبداد والتسلط حاملاً شعلته المضيئة في دروب الناس المقهورة للتطلع والحرية، ولم يخفي أو يهادن السلطة القيصرية في أشعاره ونثره، مما دعا القيصر شخصيا أن يشرف على كتاباته قبل نشرها ويحذف ما يطيب له، ولم يهدأ عقل القيصر الا أن يطرده من وظيفته وينفيه الى جنوب روسيا بسبب أشعاره الثورية، وقد أتهمه بالخيانة الوطنية، لكن مواقفه أزدادت عناداً وهو في منفاه من خلال كتاباته بالتحريض على حكم القياصرة. فأجبر السلطات الى أعادته الى موسكو وقربه القيصر منه ليجعله شاعر البلاط المتمرد داخل البلاط القيصري.

بوشكين.. من رواد االمدرسة الواقعية في الادب الروسي جسد بأعماله الادبية والشعرية كل طبقات المجتمع الروسي، فمسرحيته التاريخية التراجيدية ” بوريس جودونوف ” نقل من خلالها العلاقة بين الشعب والسلطة ودورهما في بناء المجتمع، وأن السلطة لم تكون مهيأة، إذا لم تعتمد على الرأي العام الواعي.

أما رواية ” يفغيني أونيغين ” فتعتبر أول رواية شعرية واقعية في تاريخ الادب الروسي، وقد عبر بوشكين عبر كتاباته أنتقاده الحاد الى الثقافة الغربية والتي تغوص بمستنقع الجشع والاستبداد، وقد صور حياة المجتمع الغربي على أساس تجربة أمريكيا في ذلك الوقت. ” أذهلتني رؤية الديمقراطية بوقاحتها البشعة وتحاملها الساخر وطغيانها الذي لايطاق، ووقف ضد إستعباد الزنوج في ظل الحرية وأنتشار الثقافة والضمير ”.

وفي موقف آخر يذكر له هاجم سطوة الدولة العثمانية لطغيانها في التعدي على سيادة الشعوب بقصيدة سميت ” أسطنبول ”.

ولم يغفل في نتاجاته الابداعية ومواقفه الانسانية سيرة النبي محمد في قصائده والاشاره الى مواقفه وعبقريته في الدفاع عن رسالته المحمدية.

في عام ١٨٣٧ توفى بوشكين مقتولا عن عمر يناهز ٣٨ عاماً، وذلك في مبارزة سخيفة إستجابة لعقلية المجتمع آنذاك ، كما كان هو سائد مع أحد النبلاء الفرنسيين المقيمين في موسكو، أغرم بزوجته وحاول مغازلتها وشيع حول علاقة زوجته بالفرنسي أم لاربعة أطفال هي ناتالي. وأعتبر بوشكين هذا الموقف أهانه له ولموقعه وأنتقاماً لشرفه فتحداه وطلب منه المبارزة، وقد تمت المبارزة بالمسدسات لا بالسيوف، وتمكن الفرنسي بأصابته ومات بعد أيام معدودة، وراح بعض النقاد في تحليلاتهم، أن تلك المبارزة كانت من تخطيط بلاط القيصر الذي راح يحيك المؤامرات ضد الشاعر بوشكين للإنتقام من مواقفه ضده بعد أن عجز البلاط من أستمالة موقفه لوقعها النفسي على أهالي روسيا بما تحمله من قيم وطنية ومعاني ثورية وتحريض ضد سلطة القيصر.

بعد أن شاع خبر موته عم الاستياء والاستنكار والهجوم على القيصر وبلاطه. فهزت روسيا من أقصاها الى أقصاها قصيدة الشاعر ميخائيل ليرمنتوف بعنوان موت شاعر.

سقط الشاعر عبدأ للشرف

سقط وكان مفتريء عليه

بافتراءات خبيثة.

ودفع الشاعر ليرمنتوف ثمن موقفه وحجم تأثير قصيدته في أنحاء روسيا والعالم، والذي عرف من خلالها كشاعر ومناضل، فوزعت كمنشور حزبي بين الناس ضد سلطة البلاط القيصري، مما أغضب السلطات وقررت إعتقاله ونفيه الى القوقاز وأجريت تحقيقاً مطولاً معه حول قصيدته وسمي شاعر القوقاز ويعتبر أهم شاعر بعد بوشكين. فقتل على أثر ذلك بعمر ٢٧ عاماً وله رواية واحدة ” بطل من هذا الزمان ”.

بوشكين والقيصر

يحاول القوميون الأوكران في حربهم ضد الثقافة الروسية هذه الأيام، تصوير أمير الشعراء الروس الكسندر بوشكين شاعراً يحمل الفكر الإمبراطوري ومؤيداً للنظام القيصري، في حين ان القيصر كان يخشى ان يثير نشر قصائد الشاعر غضب الجماهير، ولهذا نصب نفسه رقيبا على كل ما يود بوشكين نشره من قصائد وأعمال أدبية آخرى.

في ٢٦ يناير عام ١٨٣٧، عشية المبارزة المميتة. كتب بوشكين رسالة الى الكونت كارل تول يقول فيها : " العبقري يكتشف الحقيقة في لمحة واحدة والحقيقة أكبر من القيصر، ولهذا السبب لا يمكن للديكتاتوريين ان يسامحوا الشعراء على تفوقهم الأخلاقي، وادراكهم الثمين لما هو صائب. ان الكل مهتم بالتحقق من نفسه من خلال التجربة، وافراد السلطة فرحون بخرافة معصوميتهم، وهم بكل الوسائل يبتعدون عن الحقيقة. السياسة بدمها الثقيل لا تقول لي شيئاً، وانا لا أحب الذين لا يهتمون بالحقيقة”. تلك بدعة المبارزة كانت سائدة في تقاليد وأعراف المجتمع الروسي، مما أودت بحياة العديد من أدباء ومشاهير روسيا، ولم تكن بعيده من دوافعها السياسية.

نبوءة فيدور دوستويفسكي.

رغم أن الأدب الروسي الكلاسيكي زاخر بأسماء عدد كبير من الأدباء العباقرة، من ذوي الشهرة المدوية، إلا أن الشاعر الروسي العظيم الكسندر بوشكين – مؤسس اللغة الأدبية الروسية – هو الذي يحتل أسمى مكانة في قلوب الروس جميعا. وفي الوقت الذي يختلف القرّاء الروس حول مدى إعجابهم بأعمال تولستوي أو دوستويفسكي، إلا أنهم جميعا يعشقون شعر بوشكين و أعماله السردية أكثر من أي أديب آخر.

أبدى تولستوي في رسالة إلى صديق مشترك بينه وبين دوستويفسكي إعجابه الشديد بإحدى روايات دوستويفسكي حتى أكثر من أعمال بوشكين، وطلب إبلاع ذلك إلى دوستويفسكي.وعندما سمع دوستويفسكي هذا الكلام من الصديق المشترك لم يفرح، بل أصيب بصدمة، لأن تولستوي وضعه فوق بوشكين. قال دوستويفسكي:"  أن لا أحد يعلو على بوشكين في الأدب الروسي ". وخطاب دوستويفسكي الشهير في حفل إزاحة الستار عن تمثال بوشكين في وسط موسكو في أوائل ١٨٨٠ معروف، حيث هز هذا الخطاب المؤثر مشاعرالجماهير الروسية.

ثمة مقولة شهيرة لدوستويفسكي تتردد على مر الأجيال على ألسنة الروس جميعاً:

" بوشكين هو كل شيء لدينا". وقد تنبأ بوشكين نفسه قبيل وفاته بمجده الأدبي قائلاً ". سيتردد إسمي في جميع أنحاء روسيا العظمى، وفي لغات جميع شعوبها”

يعتبر الشاعر بوشكين من أهم أعمدة الأدب الروسي الكلاسيكي، وقد شهدت حياته القصيرة قصص ومغامرات حب جريئة دفع حياته ثمناً لها، وقد تميزت كتاباته بالنفس العميق في مكونات النفس البشرية وداخل الكيان الاجتماعي، ويعتبر رمز ثقافي وأدبي كبير لبلده روسيا وله الفضل الكبير في تطوير لغة الأدب والرواية الروسية ضمن أطر المفاهيم الحديثة، وتعتبر روايته ” يفغيني أونيغين ” تحولا كبيراً في العمل الروائي الروسي بما حملته من مضامين أجتماعية في اللغة والادب والأسلوب والمضمون. وتاريخ الأدب الروسي بدأ بالعمالقة ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف. ويعتبر بوشكين واضع الاساسيات اللغة الروسية وأدبها في الشكل والمضمون. وكان بوشكين من المهتمين بأدب الشرق وفي نهاية القرن الثامن عشر، عندما ترجمت حكاية ” ألف ليلة وليلة ”. أطلع بوشكن عليها وتركت أثرها على نتاجاته المستقبلية. فكتب ” روسلان ولودميلا ”. ” وليال مصرية ” نتاج تأثره بهذه الروائع وبلغة القرآن وكانت هذه واضحة في أشعاره وقصائده.

***

محمد السعدي

..........................

* من كتاب سيرى النور لاحقاً "مأساة الأدباء الروس بين الحقبتين القيصرية والشيوعية".

كلما أنوي الاتصال بأولادي وبناتي الموزّعين في أقاصي الأرض وشتاتها ألجأ لملاذي الذي اعتدت عليه في الهاتف الذكيّ وأنتخب نظام الاتصال "واتساب" ليوصلني إلى من أحبّ فيهدأ بالي وتطيب سريرتي .

في العام /  1992 رحل  شاب قرويّ، وحيد أمه وأبيه؛ طبعُه ساذج، ليس له مران في التعامل مع الثورة الالكترونية وعالم التقنية والميديا الاّ النزر اليسير؛ فتىً قليل الخبرة هاربٌ من الاضطرابات السياسية في بلاده الأم ّ، ضعيف الدربة  اسمه "جان كوم" مع أمّه القرويّة الساذجة ربّة البيت الأوكرانية مهاجراً الى الولايات المتحدة بعد ضنك عيشٍ في بلادها الأم  وتركا الأب  في أوكرانيا اذ كان هذا الأب  معاندا ولم يرغب في الهجرة وبقي في بلاده كمدير لمشروع إسكان الفقراء وبناء بيوت شعبية لهم وتشييد المدارس والمستوصفات الصحية لمواطنيه وأطفالهم  في قريته .

 كان عمر هذا القرويّ الوحيد لعائلته وقتذاك أربعة عشر عاما حينما حطّ رحاله في بلاد " اليانكي " واستقر في قصبة نائية ضمن ولاية كاليفورنيا اسمها " ماونتن فيو " هربا من النزعة المعادية للسامية وكراهية الأجانب النازحين الى الولايات المتحدة والتي كانت قائمة بين بعض سكّانها في تلك الولاية .

عاش مع أمّه في شقة صغيرة تحوي غرفتَي نوم حصلا عليها ضمن المساعدات الحكومية التي تمنح للمهاجرين  قبل ان تصاب والدته بالسرطان وتنتقل الى العالم الآخر سنة /  2000 .

 وقبل هذا التاريخ رحل والده ايضا سنة /  1997 ودفن في وطنه الأوكراني  الذي لم يغادره .

عملت أمّه في ردح حياتها الاميركية أوّل مرةٍ مربية وجليسة أطفال لدى إحدى العوائل الغنية رغم اشتداد أسقامها، كما حصل " جان كوم " على عمل رثّ في دكان بقالة متواضع ويقوم بنفسه في ترتيب البضائع وغسل أرضية البقالة وتنظيفها يوميا  وبعدها انتقل الى عمل آخر حارسا ليليا بإحدى الشركات حينما تم قبوله طالبا دارسا في جامعة سان خوزيه ستيت اذ كان يدرس نهارا في الجامعة ويعمل في الحراسة ليلا .

قبيل وصوله الى العالم الجديد؛ عاش الفتى قبلا مع والدته في قرية صغيرة خارج العاصمة كييف في أوكرانيا معيشة فيها من الضنك الكثير إذ كان مسكنه يخلو من الماء الساخن والكهرباء وأجهزة الهاتف، وبالكاد أكمل دراسته الابتدائية في تلك القرية وعُرف بشغبه وشراسته مع زملائه الطلبة ولم تظهر عليه علامات الفطنة والذكاء أيام التعليم الأساسي في بلاده ومحتده أوكرانيا .

وطوال إقامته في الولايات المتحدة  بدأت سمات الذكاء تظهر عليه خاصةً بعد ان فاز بعملٍ مهندس إلكتروني في شركة " ياهو " وتكليفه بتفقّد أنظمة الدعاية، وكان يجمع بين الدراسة وبين العمل والكدح المضني، وبسبب خلو جيبه فقد كان يستعير الكتب من المكتبة العامة ومن زملائه وأصدقائه ليلتهمها في اقصر وقت ويعيدها الى أصحابها  إذ صمم على تغذية عقله بتقنيات التكنولوجيا الرقمية وعلوم الحاسبات وعالم السوشيال ميديا وجهدَ على المثابرة لإغناء عقله باعتباره طريقا سالكا باتجاه إثراء جيبه وزيادة أرصدته المالية، وهو الذي عاش الفقر المدقع والحاجة القصوى للمال يوم كانت أمّه المريضة بأمسّ الحاجة الى الدواء والعلاج المكلف خاصة وانها لم تكن وقتذاك تمتلك تأمينا صحيا يتيح لها العناية بصحتها ومواصلة العلاج .

ولأن الحاجة أم الابتكار والاختراع  كما يقال في أمثالنا ؛ ففي عام 2009، قام مع شريكهِ  "بريان أكتون" بتأسيس برنامج التراسل للهاتف الجوال "واتس آب" والذي يعني ويترجم تساؤلاً في العربية: ما الجديد؟، والذي اشترتها في فبراير/ 2014 شركة فيسبوك التي سبق ان طردتْه عام / 2007 عندما قدّم على وظيفة تُعينه وصديقه على تحمّل أعباء الحياة وتدعم مشروعه  المجاني في عالم الاتصالات مثلما رفضت تعيينه شركة (تويتر) ايضا، ولكن بإصراره وقوة عزيمته حقق ثروة لا تخطر حتى في خيالات الأحلام وأوسع من حدود الأماني (19 مليار دولار) استلم دفعته الأولى البالغة أكثر من ستة ونصف مليار  وهو الذي كان يُمنّي نفسه بأن يملأ جيبه ببضع مئات من الدولارات ليسدّ رمقه ويقيم أوَده .

والمدهش ان الصفقة التي تمت بينه وبين مؤسس الفيسبوك قد حصلت في نفس البناية البيضاء التي كانت مركزا لاستقبال أمثاله المعوزين اللاجئين وكثيرا ما كان يستلم منها المعونات البخسة بين حين وآخر (بضع مئات من الدولارات وقليل من المساعدات العينية) وكوبونات الحكومة المدعمة لأقرانه المغتربين الفقراء باعتباره لاجئا هو وأمّه وقت شبابه وفتوته  ليقيم أودَه ويسدّ رمق أمه المعوزة المريضة .

تحدّث جان كوم بعد استلامه الدفعة الأولى البالغة اكثر من ستة مليار دولار: كنت في صباي ادخل مكاتب البريد لأتصل بوالدي في اوكرانيا وأبقى ساعات انتظر دوري في مكتب البريد وحالما انتهي عليّ ان ادفع أجرة الخدمات الهاتفية مما يرهق جيبي، ولا اخفي فان هذا الحال المدقع ودفع الدولارات من اجل مكالمة تُريحني كانت سبباً لابتكار الخدمة الهاتفية المجانية في الواتساب؛ لهذا عزمت مساعدة مستخدمي الواتساب بصورة مجانية وسعيِي ونجاحي في تحميل ما ابتكرت في جهاز (الآيفون) الذي امتلكته عام / 2009 بشقّ الأنفس، وهذه ضمن شروطي على إدارة الفيسبوك على إبقائه مجانيا وبدون دعايات إعلانية مفرطة بعد عقد الصفقة عسى ان أوفق في خدمة المعوزين وأخفف عنهم؛ وها أنا حققت ما أريد وكم أسعد حينما أرى مئات الملايين يستفيدون من خدماتي الهاتفية بلا مقابل مادي، فأنا الآن رغم ثرائي ما زلت اعشق الحياة البسيطة التي كنتها في بلادي قبل رحيلي الى الولايات المتحدة؛ وهل أنسى أمّي التي ملأت حقيبتي أقلاما وقرطاسية ودفاتر من مكتبات أوكرانيا حتى لا أضطر الى شرائها بسعر غالٍ في مهجري العالم الجديد .

كثيرا ما تختلج في رأسي فكرة ان المبدع – فنانا كان او أديبا، مخترعا او مكتشفا في أيّ حقل من حقول العلم – لا يصل الى قمة الإبداع والابتكار إلاّ إذا عاش الفقر وتذوّق مرارة الفاقة وقد يصل الى ذلك الفردوس الإبداعي والاكتشاف الذي يصبو إليه؛ لأن الفقر والعوز يعطي العالِم المخترع والأديب والفنان دفعا وزخما أعلى بكثير ممن لا يعيشون معاناة الفاقة وهذا هو حال السيد الأوكراني " جان كوم " مثار حديثنا الذي أقدّم له وافر الشكر والامتنان  كلما سمعت صوت نسلي وأحفادي وأروني شكلهم وجها لوجه عبر اللوح الالكتروني وهم كلّ ذخيرتي في الحياة  ولو استقروا في أقاصي الأرض.

***

جواد غلوم

 

(كي لا ننسى وللتذكير بتلك الأيام السود)*

كلما مر بي أو مررت به لسبب ما، يذكرني شاعر اسبانيا الكبير فيدريركو غارسيا لوركا في بعض من مفاصل شخصيته الرئيسية بالشاعر العراقي خليل المعاضيدي، الذي غيبته الاجهزة القمعية، قبل أكثر من ربع قرن من الآن. فكلاهما غادرا الحياة رغما عنهما وهما في منتصف الثلاثينات من عمرهما، وكلاهما كتبا ضد السلطة الفاشية الحاكمة، وكلاهما انتميا الى جبهة اليسار رغم اختلاف التسميات، وكلاهما قارعا ديكتاتورية الحكم والحاكم بأدوات ووسائل بعيدة كل البعد عن عقلية المراوغة والتستر أو المناورة، فأساليب التعبير عندهما كانت معلنة وواضحة ولا تقبل التأويل ولم تثنيهما عن ذلك او تحد من اندفاعهما أو حماستهما، سياسة البطش والقسوة التي اتبعت وقتذاك، فكانا من الشجاعة ما لا يمكن لأي متابع أو مراقب، نكرانها أو التغاضي عنها وبأي شكل من الاشكال.

قد يرى البعض في تلك المقاربة بأنها غير عادلة وغير متكافئة بسبب من اختلال واختلاف المكانة الشعرية والمساحة الشعرية التي يشغلها كل منهما على انفراد، ولهم في ذلك الحق والعذرا وانه لأمر مفروغ منه، وذلك صحيح الى حد كبير، رغم اني مازلت مقتنعا بأن شاعرية المعاضيدي وهو ابن بلد حافظته الشعر، لو قدر له الاستمرار على الحياة، لكان له شأن آخر، وان كان إفتراض كهذا غير واقعي ومبني على ضرب من المستحيل ولا يخلو من رجما بالتمني، وليكن كذلك مادام هناك انحياز مسبق، بُني كما أرى على معطيات ومؤشرات غيبها الموت المبكر.

ولكي لا نمضي بعيدا في عالم الفنتازيا والتي لا تخلو من بعض من المشروعية، فأن ما نويته من تلك المقاربة وهنا بيت القصيد، هو ذلك الظلم الذي وقع عليهما من ذوي القربى، وبالتالي سنصل بالنتيجة الى فتح موضوع ربما يُعدٌ الاهم حسب ما أراه في تلك المقاربة، الا وهو شكل العلاقة المفترضة والتي ينبغي لها ان تكون مجالا للبحث مستقبلا بين الفنان وانتمائه السياسي، ولا أظنهما أي لوركا والمعاضيدي سيعترضان على الخوض والغوص في رصد حقيقة تلك العلاقة، والتي فتحت فيما بعد الكثير من التساؤلات وأشَّرت كذلك في جوانب هامة منها الى الحيف الكبير الذي لحق بهما وهما في نومتهم الابدية.

ومن خلال تجارب الكثير من الاحزاب السياسية المناهضة للديكتاتورية، خاصة في بلدان العالم الثالث، فأنها ومع أي انتكاسة تتعرض لها وتهدد سلطاتها وبالتالي سطوتها على الشارع فتراها تقوم بجملة من الاجراءات التي تهدف من خلالها الى فرض قبضتها، ليس اقلها العمل على اسكات الآخر، مستخدمة كل الاساليب المتوفرة لديها.

ولأن المثقف المنتمي الى تلك الاحزاب المعارضة يشكل خطورة استثنائية عليها، فتجدها اي السلطات وقد ضاعفت من جهدها ونشاطها القمعي اتجاه هذه الفئة من المعارضين، خوفا من الدور الذي من الممكن أن تؤديه في تهييج وتثوير الشارع وبث روح التصدي والمقاومة ضد هذه السلطات. وتجربة فيكتور جارا في تشيلي وغيرها من التجارب الشبيهة لماثلة للعيان رغم مرور عقود عديدة عليها.

ودورة التأريخ يمكنها أن تعود كما قال الاولون، أما على شكل مهزلة وأما على شكل مأساة. وإستشهاد خليل المعاضيدي يذكرنا بتلك الطريقة البشعة التي صفي بها من قبله شاعر اسبانيا الكبير لوركا، حين جرى إعدامه في عام 1936 بإطلاق الرصاص عليه من قبل مجموعة وصفت حين ذاك بالمجهولة. ونفس الصورة والمشهد سيتكرران في النصف الاول من ثمانينات القرن المنصرم، حين تم خطف وتصفية الشاعر المعاضيدي ومن قبل نفس العصابة والجهة، مع اختلاف البعدين الزماني والمكاني بين الحالتين. ولا بأس من التوقف هنا لنقول، إنَّ ما جمع بين الجريمتين وما إشتركا فيه هي ذات التهمة التي وُجهت لهما من قبل جلاّدي السلطة الحاكمة:( انهما مثقفان .. صنعا بكتبهما ما لم تصنعه المسدسات). اعتقد ان اعترافا بهذه الوقاحة والصراحة، ربما يُعد الوحيد الذي سَيُسجل لصالح القتلة.

إذأً كما النبوءة، اختار مصيره مبكرا وبلغة لاتخلو من اليقين. وكما العارف أيضا بالطريقة التي سيرحل بها الى عالم الخلود ( عرفت انني قُتلت، وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس، فتحوا البراميل والخزائن وسرقوا ثلاث جثث ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط ). بهذا النص كان لوركا يَشبه المعاضيدي في وداعه الاخير والعكس صحيح أيضا.

لذا بات من المؤكد وعلى ضوء ما مررنا به من تجارب وما سمعنا وقرأنا ونُقِلَ لنا، فإن هناك أعدادا كبيرة غيرهما قد لاقت ذات الحتف وذات المصير. وعن تلك النهايات المأساوية التي رافقت هذا النوع النادر من البشر فلا بأس من التذكير ثانية بأن طلقة واحدة كانت كافية لوضع حد نهائي لحياة الشاعر الاسباني العذبة. وبذات الخسة والنذالة، فإن القتلة وحسب الاخبار التي تسربت آنذاك فأن عملية تغييب خليل لسنوات عديدة يبدو انها لم تشف غليلهم، مما اضطرهم الى الاعلان عن تصفيته أخيرا، وذلك من خلال تسريب خبر خاطف، مخافة ردات الفعل والفضيحة، لم يراعوا فيه ولا ينسجم وجلال الموت مع شاعر بقامة المعاضيدي وما سيشغله في ذاكرة القادمين من بعده.

لَكَمْ كان التقارب شديدا مُذهلاً بين الشاعرين، فمن عاشر وصادق والتقى خليلا، سيجد كم هو مرهف، ناسك وأنيق، في ساعة الخمر أو دونها. سَيّان عنده الأمر بين ساعة السحر ونشوة المدام الاخير، وبين قصيدة يُلقيها بصحبة العاشقين للشعر وللحرية وللأحلام المشروعة البعيدة. لقد كان مُحقا ودقيقا روفائيل البيرتي في وصفه( كان لوركا يتدفق بشحنة من الرقة الكهربائية والفتنة، ويلف مستمعيه بجو أخاذ من السحر، فيأسرهم حين يتحدث أو ينشد الشعر ..). لا أعتقد ان البيرتي سيكون له رأيا آخر لو أسقطنا ما قاله بحق لوركا على شاعرنا خليل أو شعراء آخرين يشبهونه، سيأتون تباعا.

وفي العودة الى تلك الأيام وإذا كنّا قد نسينا فلا بأس من إعادة التذكير بها، والحديث هنا عن أواخر السبعينات المنصرمة وما تلاها. فشوارع وحارات العاصمة قد ضاقت بشاعرنا وسيد هذا المقال وكذلك مَنْ كان بصحبته من الحالمين، وعسس الليل تراهم يتجولون حتى في ساعات النهار بغطرسة وإستهتار وبغير حدود. هذا هو حال بغداد آنذاك وشقيقاتها من مدن العراق الأخرى، وهذا هو حال كل الرافضين للديكتاتورية، لذا ضاقت عليهم النوافذ ومخارج الخلاص والدروب الأمينة.

لقد غادر الرفاق قبل الاصدقاء وأول الهاربين كان كبير القوم، فإنفرط العقد الرابط بين الحق وخائنيه. تلَفَّتَ شاعرنا شمالا ويمينا فلم يجد غير جسده الذي لم يقو على التحمل، فأخذ معه بضع قصائد وجسد متهالك بانت عليه علامات التعب والهوان من طول فترة الانتظار، كذلك من كظم ضيم كان على سدنته حمله قبل الآخرين، ولم يبق له من وسيلة للنجاة وبعد أن إستنفذ كل الطرق الممكنة سوى العودة من جديد الى مدينته رغم كل الجراح وما يمكن أن يلحق به.

وهناك وما كاد يشم عبق البرتقال ورائحة الطلع، تم إلقاء القبض عليه وفي أول نقطة تفتيش، وليتوراى من بعدها جسده الطاهر عن الانظار وعلى يد حراس الضمائر ولم يعثر له على أثر حتى هذه اللحظة. تبارى على تخليده وإستحضار سجاياه ثلة من الحرس القديم، وراحوا يستعيدون عبق عطره وهو في الابدية وبعد فوات الاوان، بينما لاحقته التهم والكبائر ولم تُذكر محاسنه يوم ولد ويوم كان حيا ويوم غنّى لمدينته الفاضلة وانتمائه السياسي. إنه النفاق بعينه.

***

حاتم جعفر - السويد / مالمو

........................

* خليل المعاضيدي شاعر عراقي من ولادة مدينة بعقوبة. استشهد عام 1984.

** لقد كُتِبَ هذا المقال ونُشرَ في وقته على نطاق محدود وذلك قبل قرابة الأربعة عشر عاما، ولأهميته وبمناسبة يوم الشهيد، إرتأيت إعادة نشره مع إجراء بعض التعديلات عليه.

بقلم: حبيب البدوي

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

إن ملحمة المؤلف النرويجي جون فوس الأدبية هي شهادة على القدرة الهائلة للغة على استكشاف أعمق فترات الاستراحة في الوجود الإنساني. منذ بدايته الميمونة في عام 1983، نسج فوس نسيجًا معقدًا من المسرحيات والروايات والمجموعات الشعرية والمقالات وكتب الأطفال. يمتد نطاقه الإبداعي إلى الأنواع الموسيقية، ويسلط الضوء على التنوع النادر الذي لا يحققه سوى القليل من صانعي الكلمات في حياتهم. تلقى أعمال فوس صدى على نطاق عالمي، وفي عام 2023، منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل في الأدب، مما يمجد قدرته الاستثنائية على التعبير عما لا يمكن وصفه.

تتعمق روايات فوس في المشاعر الخام الصريحة التي تكمن في جوهر التجربة الإنسانية. إنه يواجه القلق وانعدام الأمن والارتباك ببراعة فنية تتحدث إلى القراء على مستوى شخصي عميق، وحتى حميمي. وتشير الأكاديمية السويدية على نحو مناسب إلى أن أعمال فوس "تعطي صوتاً لما لا يمكن قوله"، معترفة بمهارته التي لا مثيل لها في التقاط أدق الفروق الدقيقة في المشاعر الإنسانية.

بمنح جائزة نوبل في الأدب لجون فوس، يشيد عالم الأدب بشخصية بارزة يتجاوز تأثيرها الحدود. تُرجمت كتابات فوس إلى العديد من اللغات، مما مكّن الجمهور العالمي من المشاركة في استكشافه لجوانب الحياة الأساسية: الولادة، والوفاة، والإيمان، وضعف الإنسان. إن موضوعاته العالمية لها صدى عميق، وتقدم للقراء مرآة مؤثرة لتجاربهم الخاصة.

أستاذ أدب متعدد المواهب:

لوحة فوس الأدبية عبارة عن بانوراما لسرد القصص. تشكل الروايات والقصص القصيرة والشعر وأدب الأطفال والمقالات والمسرحيات والنصوص النسيج الغني لإنتاجه الإبداعي. يشهد هذا التنوع على إتقانه لتقنيات السرد، مما يسمح له بالتنقل بين البنيات الدبية المتنوعة بسهولة تامة. في هذه الرقصة المعقدة بين الأنواع، يعكس فوس تعقيد الوجود الإنساني ويتأمل أبعاد الحياة التي لا تعد ولا تحصى بدقة ملحوظة.

صوت ما لا يوصف:

ما يميز فوس هو قدرته على التعبير عما هو غير معلن، وهي ميزة تكمن في جوهر توقيعه الأدبي.إن اعتراف لجنة نوبل بقدرته على إعطاء "صوت لما لا يمكن قوله" يتجسد في أعمال مثل "Septology VI-VII". في هذه الأوديسة المتسامية، يجتاز القراء الحالة الإنسانية من خلال عينى رسام نرويجي مسن. إن نثر فوس، الذي يتميز بإيقاعه الواثق والتأملي، يدعو إلى التأمل العميق. في إيقاعه الهادئ، يمزج بين الذاكرة والروحانية والتأمل الفني، مما يخلق قصة آسرة ومؤثرة بعمق في نفس الوقت.

أهمية نينورسك

إن تفاني فوس في كتابة أعماله في نينورسك يمثل بمثابة تكريم للتقاليد الريفية في غرب النرويج. تعد هذه النسخة المكتوبة من اللغة الإسكندنافية جزءًا لا يتجزأ من التراث النرويجي، الذي يعتز به جزء متواضع من السكان. إن الاعتراف العالمي الذي تحظى به  كتابات فوس يرفع من شأن نينورسك، ويؤكد على أهميتها الثقافية المتميزة. من خلال اختيار نينورسك كوسيلة له، لا يحافظ فوس على تراث لغوي فحسب، بل يشيد أيضًا بالنسيج الغني للثقافة النرويجية.

الاعتراف والإرث

تعد جائزة نوبل التي حصل عليها فوس علامة فارقة في الأدب النرويجي ولغة النينورسك. وهو ينضم إلى كادر حصري من صانعي الكلمات النرويجيين الذين تم تكريمهم بهذه الجائزة المرموقة، مما عزز مكانته كرائد في المشهد الأدبي في البلاد. يعد هذا الاعتراف تأكيدًا واضحًا على التزام فوس الذي لا يتزعزع بالقيمة الجوهرية للأدب، الذي لا تحجبه دوافع خفية أو اعتبارات خارجية.

الإرث والتأثير:

من المقدر أن يتردد صدى إرث جون فوس الأدبي عبر العصور. إن أعظم ما أبدعه يقف بمثابة شهادة على القوة الدائمة للغة وسرد القصص. لقد تركت قدرة فوس على إلقاء الضوء على الحالة الإنسانية وقشرة طبقات الوجود بصمة لا تمحى في عالم الأدب. وستظل أعماله منبعًا للتأمل والإلهام للأجيال القادمة، حيث تقدم شهادة خالدة على قدرة الأدب على الوصول إلى أعماق التجربة الإنسانية.

البصمة الدائمة للحائز على جائزة نوبل:

بمنح جائزة نوبل في الأدب لجون فوس لعام 2023، العالم يعترف بإسهاماته التي لا مثيل لها في الأدب العالمي.إن قدرته على اجتياز أشكال سردية متنوعة وإضفاء الحياة على ما لا يوصف تدفعه إلى مجمع المؤلفين الاستثنائيين. من خلال ولائه للغة النينورسك ورحلته نحو موضوعات عالمية، ترك فوس علامة لا تمحى على الكون الأدبي. يقف إرثه بمثابة تذكير بليغ لقدرة الأدب المتسامية على فهم تعقيدات الوجود الإنساني، مما يترك بصمة دائمة في قلوب وعقول القراء في جميع أنحاء العالم .وأخيراً "دعونا نحلم حتى نحقق".

***

.....................

المؤلف: حبيب البدوى، حصل البروفسور حبيب البدوي على دكتوراه في الفلسفة في التاريخ من الجامعة اللبنانية. وكانت أطروحته عن التاريخ الياباني الحديث. في الجامعة اللبنانية، يشغل البروفيسور البدوي منصب منسق الدراسات الأمريكية ومستشار أكاديمي مطلوب. وقد حصل البروفيسور البدوي على جائزة "الشخصية الأكاديمية لعام 2018" من قبل "المركز الثقافي الآسيوي" لجهوده المتواصلة في تعزيز الدراسات اليابانية في جميع أنحاء العالم. نشر الدكتور حبيب البدوي العديد من الكتب والأوراق البحثية حول موضوعات معاصرة تتعلق بالعلاقات الدولية والجغرافيا السياسية.

 

(1902 – 1998) Theodore Schultz

هو استاذ الاقتصاد في جامعتي آيوا وشيكاغو لاكثر من أربعة عقود، بضمنها ترؤسه لقسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو لخمسة عشرعاما، جعل فيها القسم يرتقي لمرتبة متقدمة من بين اقسام الاقتصاد في عموم الولايات المتحدة الامريكية وكندا. وهو الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1979 عن مساهماته الهامة في علم الاقتصاد، وخاصة في حقل الاقتصاد الزراعي وتنمية الريف في البلدان الفقيرة والنامية، ولريادته في دراسة دور التعليم في النمو الاقتصادي ونظرية رأس المال البشري.

في كتابه المعنون "اعظم الاقتصاديين بعد كـَنز"، يقول مارك بلوگ: كان شُلتز في الحقيقة الأب الأول لنظرية رأس المال البشري. كما قالت البروفسورة بَومَن في مقالها المكثف حول مساهمات شُلتز في النظرية الاقتصادية، المنشور عام 1980: منذ مطلع الثلاثينات، كان لشُلتز دورا رائدا في نقل فرع الاقتصاد الزراعي نقلة نوعية اعتمدت النظرية الاقتصادية في التحليل وتبنت الاختبار بالبحث التطبيقي والتدريب والتأثير على السياسة الاقتصادية. أما گـَيل جونسن فقد كتبت في مقالها المنشور بعد وفاة شُلتز: لقد كان بروفسور شُلتز باحثا مبدعا ومعلما متفانيا واداريا ناجحا ومدافعا عنيدا عن الحرية الاكاديمية، وكان في بحثه الاقتصادي لايكتفي بمراجعة المصادر النظرية بل يحرص ان يرى بعينه ويلمس بيده ويسمع من الآخرين. وكان مؤمنا ان هذا المنهج هو الملائم في دراسة القطاع الزراعي، حيث حرص على زيارة مواقع البحث من اجل ان يلتقي بالمزارعين ليرى حالهم ويسمع مشاكلهم. ولهذا فقد تميز عمله الاكاديمي بالقيام بزيارات متكررة في داخل البلاد وخارجها، الى بلدان فقيرة ونامية عديدة.

ولد ثيودور شُلتز عام 1902 في حقل زراعي في قرية قريبة من مدينة آرلنگتن في ولاية دكوتا الجنوبية. کان متفوقا فی المدرسة ومثابرا على الذهاب اليها كل يوم وهي التي تبعد 2.5 ميلا عن بيته، يقطعها مشيا على الاقدام، في الاجواء المطيرة وقارسة البرد والعاصفة بالثلوج! وحين قامت الحرب العالمية الاولى (1914-1918) وتجند اغلب العمال الزراعيين، أقدم والده على اخراجه من المدرسة وهو في المرحلة المتوسطة من أجل أن يساعده في الحقل، وهو الذي واجه الأمر الواقع إذ لايستطيع لوحده انجاز مايتطلبه الحقل من مهمات شاقة. كان ذلك عام 1917 عندما قررت أمريكا دخول الحرب لمجابهة حليف ألمانيا النمسا-هنگاري.

بعد نهاية الحرب وعودة الامور الى مجاريها الطبيعية، واصل ثيودور دراسته ولو بشكل متأخر، الا انه أكمل كل متطلبات الدراسة ودخل كلية الولاية الحكومية عام 1924 واكمل البكالوريوس بثلاث سنوات ليتخرج عام 1927، ويُقبل في قسم الدراسات العليا في جامعة وسكنسن ويحصل على الدكتوراه في الاقتصاد عام 1930. كانت اطروحته بعنوان "التعريفة الگمرگية على علف الحبوب". وفي نفس العام تزوج من احدى زميلاته التي انحدرت من عائلة فلاحية ألمانية الأصل. وقد شاركته فيما بعد اهتماماته في بحوث الاقتصاد الزراعي وعملت على تحرير وتصحيح مسودات بحوثه اثناء تهيئتها للنشر.

مباشرة بعد حصوله على الدكتوراه اصبح استاذا مساعدا في قسم الاقتصاد في جامعة آيوا. وخلال ثلاثة عشر عاما، لغاية 1943، كان استاذا جادا وباحثا مثابرا استطاع ان يرسخ تقليد البحوث الاقتصادية الزراعية على المنهج العلمي التطبيقي. ولأنه ابن عائلة فلاحية، ولد ونشأ في حقل والديه، فقد تجذرت قدماه في الارض وأدرك أهمية ما يزرعه الفلاح ويحصده من أجل نفسه ومن أجل الآخرين، وعرف اهمية العمل في الانتاج والمعرفة في العمل، وضرورة معالجة الفقر وتنمية الريف وتطويره. وهذا هو منشأ اهتمامه العلمي، ليس فقط بالاقتصاد الزراعي بل بالتعليم وقيمته واحوال المجتمعات الزراعية وتأثير الحكومات والقوانين المحلية والفدرالية على القطاع الزراعي. فمنذ البداية كان منشغلا بايجاد الجواب على السؤال: " لماذا يصبح المرء فقيرا؟ والاهم من ذلك لماذا تصبح مجتمعات ومناطق وبلدان كاملة في قائمة الفقر؟ وكيف يمكن تشخيص ذلك؟ وعند تقصي الامر بالبحث وصل شُلتز الى ثلاثة مؤشرات تدل على حالة الفقر:

- نسبة الدخل التي تنفق على الطعام، والقاعدة هي انه كلما ازدادت هذه النسبة كلما اشارت بوضوح الى حالة الفقر. والمعيار الكمي العام هو ان مؤشر الفقر يعني انفاق نصف الدخل أو أكثر على الطعام.

- معدل عمر الفرد المتوقع Life Expectancy

- حالة المعرفة ومستوى المهارات التي يمتلكها الافراد

وهذا يعني انه كلما تحسن المستوى الصحي العام للناس كلما ازداد معدل العمر، وكلما تحسن التعليم واتسعت دائرة المعارف وتقدمت المهارات كلما زادت الانتاجية وتسارع النمو وتحسن مستوى المعيشة. فالصحة والتعليم هي العجلات الاساسية التي تمكن القطار من مغادرة عالم الفقر والبؤس.

في السنوات الاخيرة من خدمته في جامعة آيوا، دخل شلتز في موجة من الصراعات الادارية والجدال الاكاديمي حول قضية اعتبرها مبدأية لايمكن ان يحيد عنها، وهي قضية التناقض بين دور العلم والجامعة من ناحية ودورالسياسة والشركات الخاصة من ناحية اخرى، وأيهما سيخدم مصالح المزارعين والمستهلكين في نهاية المطاف؟ واين الحرية الاكاديمية من كل ذلك؟ تصاعدت هذه الموجة من الصراعات بسبب كراس اشرف على تحريره شُلتز واعتبرته الشركات الخاصة بالصناعات الغذائية ضد مصالحها، وألّبت عليه المزارعين واقنعتهم بأن ما تنشره الجامعة عبارة عن دعوة لقطع ارزاقهم. وشيئا فشيئا دخلت اطراف أخرى فنشبت ما سمي بحرب الزبد والمارجرين.

حرب الزبد والمارجرين

إبان الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وبالذات في عام 1942، طلب وزير الزراعة الامريكي من شُلتز، الاستاذ في جامعة آيوا، وبمساعدة سلطات الولاية وادارة الجامعة، ان يقود نخبة من الاقتصاديين والخبراء الزراعيين لصياغة السياسة الغذائية لولاية آيوا في وقت الحرب، على ان تُعد وتنشر على شكل مطبوعات وتعمم على الدوائر المختصة. وبعد ان انهى شُلتز ولجنته اعداد الدراسة وحصل على موافقة رئاسة الجامعة وحكومة الولاية، حصل على منحة من مؤسسة روكفلر لانتاج وتوزيع الدراسة التي قسمت الى 15 كراسة تتضمن شروح وتعليمات ونصائح وتوصيات حول كل ما يتعلق بانتاج وتوزيع واستهلاك المواد الغذائية في ظروف الحرب. وكان قد استقبل مواطنوالولاية ومزارعيها واصحاب الصناعات الغذائية الكراسات الاربعة الاولى بحرارة وحماس، الا ان الكراسة رقم 5 جاءت كقنبلة موقوتة في بحيرة الرضا والوئام.

كان الهدف الاساسي من هذه الكراسة ترشيد استهلاك الحليب ومنتجاته، وخاصة الزبد الذي كان يتمتع بطلب عالي آنذاك، وتوفير مايمكن توفيره من المستهلكين وتحويله الى جبهات القتال. وقد أقترحت التوصيات ان يصار الى تعويض الاستهلاك المحلي من الزبد بمنتج بديل وهو المارجرين. وكان المارجرين آنذاك قد اجيز انتاجه قبل سنوات ونجح في الاسواق كبديل صحي ويشابه الزبد في صفاته وطعمه إلا انه ارخص بكثير من الزبد. كان ذلك الكراس بمثابة الشعرة التي قصمت ظهر البعير! فقد ثارت ثائرة اصحاب حقول تربية الابقار واصحاب صناعات منتجات الحليب والمزارعين واصبح الخبر يتردد في وسائل الاعلام مما حفز المواطنين ان يركبوا موجة السخط على لجنة شُلتز فاتسع الامر وتعقد وتحول الى ضغط على الجامعة من قبل دوائر الحكومة والشركات الخاصة، وكلاهما يساهم مساهمات مالية كبيرة في تمويل الجامعة. وابتدأت الجامعة تحول الضغط المسلط على دوائرها الى ضغط على فريق البحث ومحاولة اقناع شُلتز العدول عن تلك التوصيات واعادة النظر في الكراس الخامس، لكن شُلتز وفريقه رفضوا ذلك رفضا قاطعا. ثم حاولت الجامعة تشكيل لجان اخرى لتنقيح ماجاء في الكراسة الخامسة، الا ان هذه اللجان لم تنته بنتيجة مقبولة. وهنا تحول الامر عند شُلتز وفريقه من قضية الزبد والمارجرين الى قضية اكبر بكثير وهي الحرية الاكاديمية التي ينبغي ان تصونها الجامعة وحكومة الولاية، وقضية استقلال العلم عن السياسة التي ينبغي ان يحرص عليها كل مواطن يعيش في ظل النظام الديمقراطي الدستوري. وحين وصل الامر الى مفترق طرق ولم تسفر النتيجة عن اي حل يرضي الطرفين، قدم شُلتز استقالته الى الجامعة، وقد استقال معه 19 اقتصاديا. فكان ذلك الحدث قد هز الاوساط الاكاديمية في الولاية وفي عموم البلاد. وعلى أثر استقالة شُلتز من جامعة آيوا دعته جامعة شيكاغو لان يكون عضوا في الهيئة التدريسية لقسم الاقتصاد. فحقب حقائبه وذهب الى شيكاغو عام 1943 ليتسلم مهامه كاستاذ في الاقتصاد. وفي عام 1946 اُنتخب رئيسا لقسم الاقتصاد وبقي يعاد انتخابه لغاية 1961. بقي في جامعة شيكاغو لحين تقاعده من العمل الجامعي عام 1972، لكنه لم يتقاعد من العمل الاكاديمي فقد استمر يزاول نشاطه في البحث والدراسة حتى بعد التسعين من عمره.

الانتاج الزراعي واوضاع الريف

منذ الثلاثينات كان الاقتصاد الزراعي هو اهتمام شُلتز الاول في البحث، وحين عمل في جامعة آيوا واصل بحثه في هذا المجال فكان من المتحمسين الاوائل لادخال تحليل النظرية الاقتصادية لهذا الفرع من الاقتصاد الذي كان قبل ذلك عبارة عن خليط من الادارة والتسويق ومالية القروض. وحين ذهب الى جامعة شيكاغو وتمكن من الحصول على منح تمويل لمشاريع اقتصادية من قبل مؤسسات خاصة اهمها مؤسسة روكفلر، تمكن من السفر الميداني داخل وخارج البلاد ونشر مجموعة من الكتب الرائدة الهامة في الاقصاد الزراعي منها: النظام الاقتصادي في الزراعة (1953)، التحول في الزراعة التقليدية (1964)، الازمات الاقتصادية في القطاع الزراعي (1965)، النمو الاقتصادي في القطاع الزراعي (1968)، و الاختلال في الحوافز الزراعية (1978).  وعبر هذه الدراسات المستفيضة كان صوت شُلتز واضحا يقول ان تخلف القطاعات الزراعية وتفشي الفقر والاجحاف في الارياف هو قبل كل شئ بسبب عدم اعطاء هذا العالم الزراعي مايستحقه من اهتمام من قبل مخططي السياسات والحكومات المختلفة وتحويل كل القدرات التنموية الى القطاعات الحضرية. وفي كتابه "التحول في الزراعة التقليدية" الذي اُعتبر فيما بعد من الاصول في هذا المجال، رفض شُلتز بشدة الاعتقاد الذي ساد لدى الاقتصاديين آنذاك بأن تخلف القطاع الزراعي في البلدان الفقيرة والنامية ناشئ عن سوء القرارات الانتاجية التي يتخذها المزارعون المحليون والتي تتسم بعدم العقلانية والدراية والحصافة حيث توارثو رفض التوسع والتطوير وخشية الابتكار وادخال التكنولوجيا في حرث وري الاراضي وزراعة وحصاد المحاصيل الزراعية. وقد صرح شُلتز ان من يعرف اولئك المزارعين عن كثب سيرى عقلانيتهم ودرايتهم بالزراعة وان رفضهم التوسع والتطوير وادخال التكنولوجيا يأتي لاسباب حقيقية منها انتهاز الفرصة لزيادة الضرائب على اراضيهم ومحاصيلهم وتسيد الحكومة على تسعير اغلب منتجاتهم بما لايكفي لتعويض اتعابهم وتحفيزهم لمزيد من الانتاج وتطويره. والمعالجة المنطقية هي تقليل التدخل الحكومي واعطائهم الاعتبار المعنوي قبل المادي والفضاء الشخصي وحرية التصرف التي تمكنهم من اتخاذ قراراتهم بما تمليه ضرورات الانتاج ومايسمح به سوق المخاصيل الزراعية. عندذاك سنراهم يسعون لتبني التكنولوجيا ووسائل التحديث التي تقلل من الكلف وتزيد من ايراداتهم.

كما وقد كشف شُلتز بأن المساعدات الانسانية التي تقدمها البلدان المتقدمة للبلدان الفقيرة والنامية على شكل مواد غذائية او اموال لاتسهم في مساعدة تلك المجتمعات كما يجب بل تضرها في الغالب، ذلك ان المزارعين ومنتجي الغذاء لايستطيعون منافسة الاغذية الجاهزة التي توزع مجانا. ولذلك يصبح الانتاج المحلي متراجعا بمرور الزمن. ولهذا السبب كان شُلتز من أوائل من حثوا الولايات المتحدة على تغيير شكل المساعدات الى وسائل ومواد تعليمية وكوادر تدريب وارشاد زراعي ودعم البحوث والتجارب وتقديم المكائن والالآت والاسمدة والمبيدات التي تحفز الانتاج المحلي وتقلل من كلفته فيستطيع المزارعون من بيعه بربح ويتشجعوا لاعادة الانتاج والتوسع فيه وتطويره. وهذا هو الاستثمار الحقيقي الذي يمكن المجتمعات الفقيرة من ان تعتمد على نفسها وتقف على ارجلها بعزة وفخر بدلا من اغداق العطايا والصدقات.

رأس المال البشري

بموجب مراجعة البروفسور بَومَن للمساهمات النظرية لشُلتز المنشورة في المجلة الاقتصادية الاسكندنافية عام 1980، فإن أول منشور حول رأس المال البشري بمعناه المعاصر كان عام 1958 في الدراسة التي نشرتها جامعة شيكاغو بعنوان "الوضع الاقتصادي والتعليم المدرسي". كانت هذه الدراسة المتأنية بمثابة البذرة الأولى لنشوء وتطور مفهوم رأس المال البشري عند شُلتز ومن تبعه من اقتصاديي مدرسة شيكاغو علما ان جيكب منسر قد طرق الموضوع بشكل مستقل. وقد طور شُلتز الدراسة الى بحث أوسع ألقاه في مؤتمر جمعية الاقتصاديين عند انتخابه رئيسا لها عام 1960، ثم نشره في مجلة AER عام 1961 بعنوان "الاستثمار في رأس المال البشري" فاصبح المذهب والمصدر الاساسي في هذا المجال. لكن الدراسة التنويرية الاولى بقيت في الظل مدة طويلة، علما ان شُلتز قد أكد فيها على نقطتين أساسيتين:

- ان النمو الاقتصادي يرفع من قيمة الوقت الانساني

- ان نوعية الوقت الانساني المبذول في اي نشاط مرهون بمعرفة ومهارة المرء التي ينميها ويصقلها التعليم والتدريب والمراس والخبرة.

جاءت هذه النقطة الثانية اجابة على تساؤله عن ما لذي يفسر ماتبقى من الزيادة في النمو الاقتصادي التي عزتها بعض الدراسات الحديثة المنشورة آنذاك: (Ambramovitz, 1956; Kendrick, 1956; Solow, 1957 )، والتي جاءت بما يلي:

- تعزى 1\2 الزيادة في الناتج المحلي الصافي الى زيادة وقت العمال المبذول في العمل اضافة الى دور رأس المال المادي.

- يعزى 1\8 الزيادة في الدخل الاجمالي لكل ساعة عمل الى زيادة كمية رأس المال المادي

وبذلك تساءل شُلتز لمن يعزى، إذاً، الباقي من الزيادة في نمو الناتج او الدخل؟ فكان جوابه ان الباقي لابد ان تفسره التحسينات في نوعية الموارد، وأول هذه الموارد هو نوعية الانسان المحكومة بمعرفته ومهارته وخبرته.

كما جاء شُلتز بطريقة لتقدير القيمة الاجمالية لرأس المال البشري بحساب مكونين هما:

- كلفة رأس المال البشري الاستثمارية

- ومعدل العائد لتلك الكلفة الاستثمارية

وقد اضيفت بعدئذ تقديرات لقيمة كلفة الفرصة او الكلفة الفائتة Opportunity Cost.

هناك ملاحظتان استوقفتا شُلتز، وعلى اثرهما بدأ بالتفكير حول موضوع رأس المال البشري:

1. عندما كان رئيسا لقسم الاقتصاد في جامعة شيكاغو، قاد مشروعا يتمحور على الاجابة عن السؤال: لماذا استطاعت ألمانيا واليابان أن تعيد الحياة لاقتصاداتها بسرعة مذهلة بعد التدمير الشامل الذي حدث لهما خلال سني الحرب العالمية الثانية، بينما لم تستطع بريطانيا أن تحذو حذوهما فقد اصاب الاقتصاد البريطاني كساد قاس طويل اعتمد سكانها خلاله على العيش على الحصص التموينية الغذائية التي اقرتها الحكومة؟ والجواب يكمن في ان ألمانيا واليابان حظيتا بوجود نسبة عالية من السكان المتعلم تعليما جيدا والمنضبط والذي يتمتع بصحة افضل. وقد ثبت بالدليل العملي ان التعليم والصحة يرفعان من انتاجية العمل ومن معدلات الاجور وبالتالي يسرعان وتيرة النمو الاقتصادي. ومن هنا اتجهت الانظار الى الاهتمام بالاستثمار في رأس المال البشري، تماما كما يجري الاستثمار في رأس المال المادي من أجل رفع معدلات العائد الاقتصادي.

2. الحكاية التي صادفت شُلتز خلال احدى زياراته الميدانية للحقول الزراعية الذي كان بادارة زوجين مسنين. تعجب شُلتز على حالة التناقض الواضح بين فقر حالهما وبين علائم القناعة والرضا، ان لم نقل السعادة التي كانت تشرق على محياهما. أثار ذلك التناقض فضول شُلتز فبادر بالسؤال: ما سر هذه القناعة الطاغية وانتما في حال لاتُحسدان عليه؟ أجاب الزوجان بثقة عالية: نحن لا نشعر بالحيف او فقر الحال لاننا بعملنا الدؤوب في هذا الحقل المتواضع استطعنا ارسال اربعة اولاد الى افضل جامعات البلاد! سيتخرجون ويعملون من اجل منفعتهم الشخصية ومن اجل خدمة بلدهم، وهذا هو انتصارنا الاكبر على أية صعوبة.

معيار رأس المال البشري Human Capital Index (HCI)

هو المؤشر الذي يقيس كمية رأس المال البشري من ميلاد الطفل لحين بلوغه الثامنة عشر من اجل معاينة سير الحالة الصحية والتعليمية وتأثيرهما على العمل لدى الفرد، وما تفرزه من تأثيرات على الاجيال القادمة. يقوم البنك الدولي بتقدير هذا المعيار سنويا من اجل المقارنة بين البلدان.

تتراوح قيمة هذا المعيار بين واحد وصفر.  يعني الواحد ان البلد حقق ما يستطيع من تقدم في مجالي الصحة والتعليم قياسا بما هو مخطط له، فيما يعني الصفر انه لم يتمكن من ان يصل الى ما خطط الوصول اليه. وبينهما درجات متعددة من نسب التنفيذ. علما ان حساب هذا المعيار يقوم على ثلاثة مؤشرات:

- مؤشر البقاء الذي يقاس بنسبة الاطفال الذين يبقون أحياءً بعد سن الخامسة

- مؤشر التعليم ويقاس بـ:

1. عدد سنوات الدراسة المتوقع اجتيازها لحين بلوغ الطفل سن الثامنة عشر

2. نوعية التعليم التي يحددها أداء الاطفال عبر اختبارات معينة

- مؤشر الصحة ويقاس بـ:

- 1. عدد الافراد البالغين الذين يعمرون الى عمر 60 وأكثر

2. الحالة الصحية للاطفال مقاسة بالنمو الجسدي السليم ومدى حسن أو سوء التغذية والتعرض للامراض الشائعة

عندما تأكد شُلتز من ان تطور رأس المال البشري المتمثل بازدياد المعرفة والخبرة وتقدم مستويات التعليم والتدريب والصحة عوامل تعمل مجتمعة على زيادة الانتاجية وزيادة الدخل وبالتالي تنوع مصادر العيش والرفاه للمجتمع ككل، كان لابد من ملاحظة التأثير العكسي على ذلك المعزز بالبيانات المسجلة التي تفيد بانه كلما زاد دخل العوائل كلما ازداد الميل الى تقليل الانجاب والاكتفاء بعدد اقل من الاطفال قياسا بحجم العائلة الكبير المطلوب في المجتمعات الزراعية التقليدية. فاضافة الى السبب المتمثل بانتشار الصناعات الصغيرة والحرف والمتاجر التي قللت من الاعتماد الكلي على العمل في الزراعة، فان السبب الاهم هو ادراك الغالبية من العوائل ان عددا اقل من الاطفال سيتيح توفير مستويات اعلى من الرعاية لهم، أي ان نوعية الاطفال ستزداد متمثلة بقدرة العوائل على توفير التعليم الافضل لهم وتوفير كل ما يحتاجونه من وسائل المعرفة اضافة الى الاهتمام الافضل بالرعاية الصحية لهم. وهذا ما اصطلح عليه بالعلاقة العكسية بين كمية الاطفال ونوعياتهم الذي درسه بعمق وطوره زملاء وطلاب شُلتز من مدرسة شيكاغو وعلى رأسهم گـَري بَكَر الذي تخصص باقتصاد العائلة وحاز على جائزة نوبل في هذا المجال.

واخيرا فان الاستنتاج الاخير هو ان مستقبل الانسانية الزاهر لاتحدده مساحة الارض الصالحة للزراعة ولا عدد السكان ولا كمية الموارد الجاهزة للاستغلال كما كان الاعتقاد سائدا من قبل، انما الثورة العلمية والانفجار المعلوماتي وتوسع المعارف وتطور التكنولوجيا، اضافة الى تنقية سريرة الانسان وتخلصه من الشرور ونبذه النزوع الى الصراعات والحروب والتمسك باشاعة السلام والمحبة بين الناس هو السر لتأمين مستقبل افضل للانسانية جمعاء.

وفي الختام لابد ان نذكر أن ثيودور شُلتز فاز بعضوية الاكاديمية الامريكية للعلوم والفنون وجمعية الفلسفة الامريكية عام 1958، وعضوية اكاديمية العلوم الوطنية عام 1974. كما انتخب رئيسا لجمعية الاقتصاديين الاومريكيين عام 1960، وحصل على ثمان شهادات دكتوراه فخرية من جامعات مختلفة. وفي عام 1972 منحته جمعية الاقتصاديين أعلى وسام بإسم Francis Walker Medal. كما قامت حكومة ولاية دكوتا الجنوبية بتشييد مجمعا من الاقسام الداخلية للطلاب الذين يتخصصون بالدراسات الزراعية واطلقت عليه اسمه T.W. Schultz Residence Halls

تـُوفي في إيفانستن – إلينوي عام 1998 ودُفن في مسقط رأسه في قرية باجر- آرلنگتن في ولاية دكوتا الجنوبية.

***

ا. د. مصدق الحبيب

طفلة، وجدتُ نفسي أحمل شموع الشعانين وأرتل مع المرتلين، ممسكة بفستان أمي المسيحية، بعد أن أكون قد استيقظتُ على صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم، وهي القراءة التي عودتنا أمي المسيحية أن نبدأ يومنا بها، كلّ يوم تتجادل مع ابي المسلم الشيعي لتغيير محطة صوت العرب من القاهرة وتعليقات احمد سعيد.

هكذا تربيتُ على تعدد الأديان وممارسة طقوسها بمقاييس مختلفة، امي المسيحية تعتنق مذهب الروم الارثودوكس كانت قد قدمت من منطقة وادي النصارى في سوريا، من قرية صغيرة محافظة اسمها الجويخات - جنة الله على الارض- كانت امي المسيحية تضع منديلًا على رأسها، كانت تتحجب حسب التعبير الاسلامي، هكذا جاءت من سوريا من مجتمع مسيحي محافظ، والتقت في طرابلس بوالدي المسلم الشيعي القادم من الجنوب، مع كل ما في شخصيته من عروبة وثورة ونضال. هو لم يطلب من والدتي ان تتحجب ولكن اهله طبعًا كانوا مسرورين لمنظر أمي المسيحية المتحجبة، على فكرة الديانة المسيحية تدعو الى "السترة" ووضع الحجاب على الرأس، هذه التوصية ذابت مع الزمن واصبح الخوري يناضل من اجل وضع الحجاب فقط داخل الكنيسة، هذا الحجاب الذي تحول الى قطعة من الدانتيلا الشفافة الأنيقة المغرية. وهكذا اصبحت هذه الدانتيلا رمزا للمسيحية كما اصبح الحجاب السميك رمزًا للاسلام! لعلنا نسينا ان هذا الزي كان وقاءً لشمس الصحراء المحرقة التي كانت تلسع رأس اليهودي والمسيحي والمسلم، نساءً ورجالًا على حدّ سواء، ولعلّ غطرة الرجل في الخليج شاهد على كلامي؟

مع الأيام دخلتْ الى عائلتي ديانات اخرى، فأختي الوسطى تزوجت علويًا وانا تزوجت مسلمًا سنيّا، وبطبيعة الحال اولادي هم مسلمون سنيون، وابن اختي تزوج مسيحية مارونية وابنتي تزوجت مسيحي انجيلي. فقط الطائفة الدرزية استعصت على عائلتي وعلى فهمي فرحتُ أبحث في الكتب النادرة عن الاصول ما خفي منها وما ظهر.

هذه الحياة التي عشتها بين مسجد وكنيسة، وتعدد الاقارب من مشارب مختلفة جعلتني انظر الى الامور بمنظور مختلف واحيانًا محيير: فعند اعمامي الدين الحق، وعند اخوالي الدين الصحيح، وعند نسيبي الدين الاصح، وهكذا وجدتُ نفسي اجادل وادافع عن كلّ الاديان، كلّ يوم اتقمص  دينًا، البسه ويلبسني، واستبسل بالدفاع عنه، فكيف سيدخل اعمامي الى النار؟ وكيف سيحرق اخوالي بها الى ابد الآبدين؟ واحفادي كيف سيحرمون جنة الخلد؟ اذ أن كل فرد كان يعتقد، بكل ما أعطي من قوة ورجاحة فكر بان الجنة لطائفته فقط، وللطوائف الاخرى "جهنم وبئس المصير".

طفلة ضعتُ، انبهرتُ بالشموع وموسيقى القداديس، صبية ابتعدتُ عن الحجاب الذي سيخفي شعري الجميل، وجدت نفسي الجأ الى الفلسفة وعلم الأديان واخترت موضوع دبلوم الدراسات العليا: الاديان المقارنة، عندها غرقت في طوفان الأديان، فدخلتْ عليّ البوذية ومدارسها المتعددة، والشنتية والبابوية والبهائية والمورمونية والكثير الكثير من الملل والمعتقدات السماوية وغير السماوية.

وبعدَ التعمق والتبحرّ والتبصرّ، وتعلقي بحبال الموضوعية وتحكيم العقل، انتهيتُ الى حقيقة نسفتْ عندي كلّ ما تعلقت به من ستائر المقدّسات: الأديان هي واحدة، مصدرها واحد، تبدأ من أشور وآمون وتنتهي الى ما لا نهاية، مرورًا بالأنبياء بموسى وعيسى وخاتم الانبياء. فالعقل والدين خطان متوازيان لا يلتقيان مهما حاولتَ أن تضعف شطط العقل او أن توقدَ ومضات القلب، الدماغ للعقل والقلب للدين.

وبعد حياة امضيتُها بالجدال والدفاع، والاخذ والردّ والتنازع على الجنان، خلصتُ الى هذه الحكمة - لو سمحتُ لنفسي أن أسميها حكمة - : دعْ كلّ انسان على معتقده، لا تجادل ولا تحاول الاقناع، الاقناع بماذا؟ فكلّ الطرق تؤدي الى إحياء الانسانية في قلب البشرية.

الانتماء للانسانية هو الحلّ.

وما زلتُ حتى اليوم استيقظ على صوت الشيخ عبد الباسط وأذهب الى الكنيسة ايام الشعانين!

***

بقلم د. أميرة عيسى

النشأة، النشاط، الدور في تأكيد الهوية الجزائرية 1927-1962

بقلم: نسيم بلحاج صالح العقبي

23/01/2016

ترجمه من الفرنسية: حمزة بلحاج صالح

***

في نادي الترقي، انعقد مؤتمر نداء للهدنة المدنية و ذلك في 22 يناير 1956.. إن إسم مكان انعقاد المؤتمر" نادي الترقي " يبدو لأول وهلة لمن لا يعلم بأنه غير مهم أو يكاد يكون مجهولا وهو في الواقع اسم جمعية تم إنشاؤها في إطار ما يسمى بقانون عام 1901 ويقع مقرها الرئيسي في "9، ساحة الحكومة" (ساحة الشهداء اليوم)، بالجزائر العاصمة.

بدأ نشاط النادي سنة 1927 وتوقف خلال حرب الاستقلال، وهي الفترة التي استولى فيها الجنرال "ماسي" بالقوة على المبنى أي مقر النادي وطرد جمعية النادي، من أجل استخدامه كمقر ل" عمله النفسي السيكولوجي" ضد الجزائريين و أيضا لمبادرة نسوية مع زوجته "سوزان ماسي" و"لوسيان " زوجة الجنرال "صالان".

كان الهدف الحقيقي هو الإستيلاء على هذا المكان المهم وتحييده عن دوره الأول و حرمان الجماعة المسلمة منه في ذلك الوقت تحديدا والتي كانت بأغلبية ملتزمًة مؤيدة بشكل أساسي للكفاح من أجل الاستقلال.

إن جمعية نادي الترقي، التي أنشأتها عائلات جزائرية في القصبة السفلى حيث أماكن اجتماعهم الرئيسية، حددت لنفسها "هدف المساعدة في التعليم الفكري والاقتصادي والاجتماعي للمسلمين الجزائريين".

علما بأنه وفي هذا التوقيت كان إنشاء جمعية للجماعة المسلمة لا يختلف عن انشاء جمعية يهودية أو مسيحية، و كان أمرًا شائعًا و معهودا.

بدايات جمعية نادي الترقي في الجزائر

فور إنشائها و بدعم من شخصيات عديدة، نظمت جمعية " نادي الترقي" مؤتمرات متنوعة الموضوعات، حيث تم تناول، على سبيل المثال: "روح الإسلام"، " أهمية التعليم الثانوي للمسلمين الجزائريين"، "علم النفس التربوي (أو التعليمي) التطبيقي"، " داء الزهري آفة اجتماعية "، " عرض حول رابطة حقوق الإنسان أهدافها وفائدتها "، " داء السل وسيلة الوقاية منه "، " الزراعة "، " ممارسة الرياضة " "،.. إلخ

كانت العديد من الجمعيات تمارس أنشطتها جزئيًا أو كليًا داخل النادي ونذكر منها على وجه الخصوص جمعيات ذات النشاط الموسيقي المكثف بمقر النادي، مع الفرق الموسيقية الأندلسية التابعة لجمعية المطربية (لا ميلوديوز)، التي تم إنشاؤها حوالي عام 1911، والأندلسية (الأندلس)، المولودة في عام 1929، والتي كانت تقدم في عدة مناسبات حفلات موسيقية في القاعة الكبيرة . أما الجمعية الموسيقية الجزائرية التي يعود تاريخ إنشائها إلى عام 1930، فمقرها الرئيسي كان بنادي الترقي ؛...

كما عقدت جمعية المدرسين من أصل جزائري "الأنديجان" (تسمية للاستعمار الفرنسي) مؤتمرها هناك يومي 3 و 4 أبريل 1928؛

كما استقرت الجمعية الرياضية " نادي مولودية الجزائر" أو مولودية الجزائر في نادي الترقي وبدأت نشاطها هناك سنة 1928، وكان سي محمود بن صيام رئيسا لها وسي الطاهر علي الشريف نائبا للرئيس. وردا على سؤال حول توافق ممارسة الرياضة مع الإسلام الذي كان يطرحه التقليديون، و غالبا ما كانت موضع استهجان من قبلهم في ذلك الوقت، حيث دعم الشيخ العقبي قادة مولودية الجزائر في نهجهم لتشجيع الأنشطة البدنية، وخاصة كرة القدم كرياضة جماهيرية، مقبولة بل متقبلة من قبل الجزائريين بل كانت من عناصر تأكيد الهوية[1].

وفي الوقت نفسه، كانت القاعة الكبيرة للنادي تُستخدم لتقديم العروض ومن الشخصيات الفنية التي قدمت عروضا هنالك، نذكر التينور محي الدين بشتارزي، ماري سوزان، ريجينا، بن شريف، رويمي، زميرو، فخارجي، رشيد قسنطيني، السلالي علي المعروف ب" علالو"، بوشارة، “الشيخ الموسيقار”، لي لي عباسي،... إلخ.

كان نادي الترقي مفتوحا أيضًا للعمل الاجتماعي كما يتضح من جمع التبرعات والاشتراكات الذي تم تنظيمه لصالح المتضررين من سوء الأحوال الجوية في الجزائر في نهاية عام 1927، وهو العام الذي تسبب فيه سوء الأحوال الجوية في أضرار جسيمة وحصد العديد من الضحايا وتشكلت بعد ذلك حملة تضامن وطنية انضم إليها النادي بحشد كل وسائله، حسبما أوردته صحيفة " ليكو دالجي " صدى الجزائر.

ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا التنوع في الأنشطة، بدأ قادة نادي الترقي، وهم أشخاص أتقياء و متدينين يرغبون في تعميق تدخلهم، في البحث عن محاضر دائم يكون على دراية بالمسائل الدينية وهكذا تواصلوا مع الشيخ العقبي، بعد أن التقوا به في يناير 1930 في مدينة بوسعادة أثناء دفن الرسام و الفنان الذي اعتنق الإسلام، نصر الدين إتيان دينيه، حيث ألقى تأبينًا قويا ومثيرًا للإعجاب.

قدوم الشيخ الطيب العقبي الى نادي الترقي

ولد الطيب العقبي (1889-1960) في بلدة سيدي عقبة (بسكرة)، وهاجر وهو في الخامسة من عمره مع عائلته إلى الحجاز حيث، بعد تكوين متين في العلوم الإسلامية و اللغة كعالم، أصبح مستشارًا للشريف حسين الذي عهد إليه بشؤون تحرير(إدارة) الجريدة الإصلاحية الموسوم" القبلة" ؛ كما وضع تحت الإقامة الجبرية من قبل السلطات العثمانية خلال الحرب الكبرى، ثم عاد إلى الجزائر في عام 1920، وأنشأ صحيفة في عام 1927 بعنوان " الإصلاح" تميز و عرف بموهبته الخطابية وكفاحه ضد المرابطية والطرقية المنحرفة.

وبناء على اقتراح سي محمود بن صيام وسي محمد بن مرابط، تمت دعوته من قبل مجلس إدارة النادي  الذي كان يتولى رئاسته في ذلك الوقت سي المنصالي حاج "ماماد" و أظن يعنون به محمد وفور وصوله تمكن من اختطاف انظار وعقول و وجدان الجماهير.

ثم انتشرت الأفكار الجديدة للنهضة والإصلاح بقوة في العاصمة الجزائرية، مما مهد الطريق لإنشاء جمعية العلماء في مايو 1931، والتي أصبح مقرها هي أيضًا في نادي الترقي .

أصبح هذا الجمهور أكثر عددًا وأكثر تنوعًا، وسرعان ما تمتلئ القاعة الرئيسية للنادي، حيث تحضر جميع الطبقات الاجتماعية، من بسطاء الناس،و منهم لا على سبيل الحصر عمال الرصيف في الميناء، وعلى رأسهم مسؤولهم النقابي حاج نافع إلى الطبقات المتوسطة و الميسورة ماديا التي كانت في الأصل وراء تأسيس النادي بدعمها المادي و مبادرة بعض الأثرياء.

وتفيد الشهادات المختلفة إلى أن الشيخ العقبي كان يتنقل في حي القصبة ومحيطها لتشجيع الناس على عدم اليأس من الحياة؛ حيث في الواقع، كانت حالة معظم الجزائريين صعبة للغاية: الازدواج الضريبي الذي تواصل إلى غاية الحرب العالمية الأولى، والرواتب المتدنية والضعيفة دون رواتب الأوروبيين، مع حرمانهم من ممارسة بعض المهن والأعمال مما يساهم في إفقارهم أكثر.

أثار تأثير الطيب العقبي على الجماهير قلق السلطة الاستعمارية بدرجة كافية إلى أنه في فبراير 1933، تم منعه من الخطابة في المساجد بموجب ما يسمى بـ "تعليمة ميشيل". وعلى الرغم من هذه العقبة، فإن نادي الترقي كبر وذاع صيته و أشع و انتشر الوعي منه بعد فضل الله بفضل نشاط الطيب العقبي به ودعونا نذكر أن ذلك تم أيضا بفضل المؤسسين و المشاركين في تأسيسه.

تجدر الإشارة إلى ضرورة ذكر بعض الجمعيات التي تطور وأشع نشاطها مباشرة بعد تأسيسها و تنصيبها، وبعضها وجد العون والمساعدة من جهة نادي الترقي الذي اصبح مقرا رئيسيا لها أو مؤقتا نذكر من بينها جمعية الطلاب المسلمين في شمال إفريقيا، وجمعية وكلاء القضاء، والرابطة الإسلامية لمكافحة الكحول التي نشطها كل من الشيخ الطيب العقبي وعبد الرحمن جيلالي، وشركة الزكاة (التطهير) التي تم إنشاؤها في مايو 1931، والتي تهدف إلى تعزيز التعليم والتربية الفكرية والاقتصادية والاجتماعية للمسلمين الجزائريين، والتي أنشأها بعض أعضاء النادي، وبالطبع نذكر أيضا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الإصلاحية التي عقدت جمعيتها التأسيسية هناك في 5 مايو 1931 وكان الشيخ العقبي أحد أعضائها المؤسسين ثم إستقال منها عام 1938.

كما تم إيلاء أهمية خاصة لتنمية الشبيبة (الشباب)، وهي جمعية تأسست على مبدأ التربية الفكرية للشباب المسلمين دون تمييز طبقي، والتي كانت ملحقة ومرتبطة بنادي الترقي وكانت مدرسة مختلطة حيث أصر الشيخ الطيب العقبي على إدخال تعلم اللغة الفرنسية إلى جانب اللغة العربية. ومن تلاميذها نجد بوراس محمد الذي كان يحضر دروسا مسائية، علي فضي، الفنان حطاب محمد المعروف بالحبيب رضا، سيد علي عبد الحميد، المطرب عبابسة عبد الحميد، الفنان عبد الرحمن عزيز، الإمام قادة بن يوسف، عضو مؤسس مع سعد الله. بوعلام وعمر لاغا من جمعية "الكشافة الإسلامية الجزائرية" القطب (النجم القطبي)، الممثل سيساني، السيدة بوفجي شامة، معلمة ومديرة مدرسة حرة، السيدة بوزكري عزة أرملة عبان رمضان ثم زوجة سليمان. دهيليز، الخ.

أما جمعية مساعدة المحتاجين "الخيرية" التي أنشأها أعضاء نادي الترقي سنة 1933، فهي تقوم بأنشطة متعددة، مثل توزيع الوجبات على المحتاجين (التي بلغت، في فترة معينة، إلى 1200 وجبة يوميا)، مساعدات غذائية للعائلات، وصنع ملابس للكشافة المسلمة في ورش الخياطة للفتيات الصغيرات، وإنشاء ملجأ ليلي للمحتاجين في القصبة، وغيرها من الأنشطة الاجتماعية .

كما أن الشيخ الطيب العقبي هو في الأساس من كان وراء إنشاء “اتحاد المؤمنين الموحدين”[2]، المؤلف من المسلمين والمسيحيين واليهود، أي كل أهل الكتاب، بدعم من الأمين العمودي، رئيس تحرير صحيفة " لا ديفانس"  المقربة من العلماء، والصحفي هنري بيرنييه، إيلي غوزلان للجاليات اليهودية، والأب مونشانين والزوجين اللذين قام بتكوينهما كل من المهندس جان سيليس والمعمارية جين سيليس-ميلي للكاثوليك حيث تنظم الجمعية مؤتمرات ومناقشات في النادي حول مواضيع ذات اهتمام مشترك للديانات الثلاث أو ذات أهمية اجتماعية، على سبيل المثال، مؤتمر عقد عام 1939 حول خطورة استخدام "المساحيق البيضاء" والهيروين والكوكايين..

بعد الحرب، كان البروفيسور أندريه ماندوز والنقابي المسيحي ألكسندر شوليه من بين “أهل الكتاب” الذين زاروه.

وفي مقابلة أجراها يوجين مانوني مع صحيفة لوموند في يناير 1957، أكد الطيب العقبي مصرحا ما يلي: “ أود أن أشيد بالمبادرة و العمل الإنساني والأخوي البارز الذي قام به هنا [في الجزائر] ممثلو الديانات الثلاث ومنظمات المجتمع المدني”. ولا سيما  المونسنيور دوفال، الذي وصلت كلمته في الخطبة التي أعقبت أحداث 29 ديسمبر مباشرة إلى قلوب المسلمين ” [3].

وفي مقر النادي بساحة الحكومة أيضا تأسس "مؤتمر المسلمين الجزائريين" في يونيو 1936، والذي جمع كل التيارات السياسية، باستثناء نجم شمال أفريقيا مصالي الحاج، و حضره كل من العلماء ومنهم  الشيخ عبد الحميد بن باديس والحزب الشيوعي الجزائري مرورا بالدكتور محمد صلاح بن جلول الذي كان أول رئيس له، ولمين لعمودي، وعبد الرحمان بوكردنة، وفرتشوخ عمارة، وفرحات عباس، والدكتور شريف سعدان، ...إلخ.

ذهب وفد إلى باريس في يوليو 1936 لتسليم أرضية المطالب الى حكومة الجبهة الشعبية.

خلال اجتماع جديد للمؤتمر سنة 1937، برز الشيخ العقبي بهذا الإعلان: “ ضد هؤلاء المستغلين، لا يطالب الجزائريون المسلمون بمصادرة الملكية. إنهم يطلبون منهم فقط أن يعاملوا مثل الرجال. شئنا أم أبينا، هناك جزائر جديدة: إن الشباب الجزائري مصمم على الحصول على حقوقه ورضاه المشروع بكل الوسائل القانونية. و إذا استطاع المستوطنون الكبار أن يفهموا الشباب، فسنكون أصدقاء لهم. وفي كل الأحوال، فإن الإبقاء على الوضع الحالي أمر لا يطاق. فالموت بدل هذه الحياة الحزينة! »[4].

وخلال استقباله للوفد البرلماني بقيادة النائب الاشتراكي المارتينيكي، جوزيف لاغرو سيليير، شارك و أبلغ عن التطور الذي شهده الشعب الجزائري تحت تأثير العلماء ودافع عن هذه الإصلاحات التي يتعين تنفيذها في أسرع وقت ممكن: إلغاء قانون السكان الأصليين مع صيانة الأحوال الشخصية للمسلمين، حرية ممارسة العبادات الإسلامية، حرية تدريس اللغة العربية، احترام الحق في فتح المدارس المجانية.

كما عقد شباب المؤتمر الإسلامي الجزائري بقيادة لمين العمودي وحمودة أحمد وعمر عيشون أنشطته في نادي الترقي .

وقد دخل المؤتمر الإسلامي في حالة من السكون تدريجيًا بعد التخلي في نهاية عام 1937 عما يسمى بمشروع الإصلاح "بلوم-فيوليت" الذي كان يدعمه.

إن إنشاء القسم الكشفي للجزائر الفلاح (الخلاص) عام 1935 بمساعدة مشتركة من كل من الشيخ الطيب العقبي ومحمود بن صيام، قد شكل النواة والأساس لاتحاد أو فدرالية الكشافة الإسلامية الجزائرية.

كما انعقد المؤتمر و تم ذلك بالحراش أين حضر الشيخ العقبي مع صديقه التاجر سي عباس التركي، واختتم المؤتمر الأول في نادي الترقي الذي كان رئيسه في ذلك الوقت سي محمد بن مرابط[5].

عقدت الحركة معظم جمعياتها العامة هناك منذ عام 1936 حتى وفاة مؤسسها سي محمد بوراس عام 1941، وهو أيضًا عضو في مولودية الجزائر، والذي حضر مؤتمرات الشيخ العقبي ورافقه في رحلاته.

علماً أن غالبية الكشافة المنتمين إلى جماعة الفلاح جاءوا من مدرسة الشبيبة، وكانوا كثيراً ما يتواجدون في المناسبات التي يحضرها الشيخ العقبي مثل احتفالات المدرسة.

إن العديد من الأعضاء المؤسسين للفدرالية كانوا من المرتادين والمنتظمين في نادي الترقي، مثل عمر لاغا، الذي كان مشاركا مواضبا في مؤتمراتها، وأحمد مزغانة ومختار بوعزيز، مديري الجمعيات التي يرأسها الشيخ العقبي، أو أحمد حمودة وساتور حميدة، و هم غالباً المتحدثون و المتدخلون و المحاضرون في نادي الترقي ولنذكر أيضًا عمل شركة الكوكب للتمثيل المسرحي الجزائري، وهي جمعية لترقية المسرح الجزائري برعاية و تزكية و تشجيع كل من الشاعر المناضل مفدي زكريا و الشيخ الطيب العقبي و التي اتخذت من نادي الترقي مقرا لها.

وأخيراً تشكلت “لجنة الدفاع عن فلسطين” سنة 1949 برئاسة الشيخ العقبي، ومشاركة العمودي والمفتيان الشيخ بابا عامر والشيخ عاصمي محمد وسي محمود بن صيام والمندوب بشير بن يدجرة عضو اتحاد البيان الجزائري. (UDMA) للاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري

وتم إرسال برقية إلى روبرت شومان، وزير الخارجية وصاحب مبادرة بناء الاتحاد الأوروبي، لاطلاعه على عمل اللجنة.

كما حضرت اللجنة و أعدت للمهمة التي قادها الشيخ العقبي عام 1950 إلى القدس مع الصحفي محمد بن حورة، وولي الفنان و الرسام " بايا"، وعالم الإسلاميات لويس ماسينيون، بهدف الحصول على الحقوق المعترف بها على الحبوس الجزائري ل" سيدي بومدين " والتعبير عن تضامن الشعب الجزائري ودعمه للقضية الفلسطينية. وبمناسبة هذه الرحلة، ألقى الشيخ الطيب العقبي خطبة في مسجد عمر، في الخليل وعمان.

بعض مواقف الشيخ الطيب العقبي

وبينما كانت الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق في نهاية الثلاثينيات، لم يكن بوسع الشيخ العقبي، رجل الدين، إلا أن يشجع الجهود من أجل الوئام والسلام؛ كما سيُظهر علنًا دعمه لجهود السلام التي كانت فرنسا تنشرها آنذاك بالنسبة لهذه القضية، وذلك بإرسال برقية موجهة إلى الشعب الفرنسي باسم " نادي الترقي "، وهي مبادرة ستؤدي إلى النأي بنفسها عن العلماء الذين يعتقدون أن الحرب لا تعني الجزائريين. وقد استلهم هذا الموقف من ذكرى الحرب الكبرى التي شهدت، في 11 نوفمبر 1918، تواجد 260 ألف جندي مسلم "تحت الأعلام"، ومقتل 35900 رجل هناك[6]. وإذا كان الشيخ الطيب العقبي قد شارك السراب و الأوهام التي وضعتها اتفاقيات ميونيخ، فإنه لم يبد قط أدنى تساهل او تعاطف تجاه النازية والفاشية، وهي مذاهب تتعارض في نظره مع قيم الإنسان، وهي مصدر صراع كلف حوالي 60 مليون من الموتى، مع كون السكان غير الأوروبيين في غير منأى.

بمجرد بدء الأعمال العدائية، أثناء محاولته الحفاظ على مصالح الجزائريين، رفض الشيخ الطيب العقبي بوضوح دعم تشريع فيشي المناهض لليهود على الرغم من طلب الحكومة العامة في هذا الإتجاه بل على العكس من ذلك، فهو يرغب في التوقيع على إدانة قوية معارضة للغاية كتبها المحامي أحمد بومنجل الذي دافع في ذلك الوقت عن نشطاء حزب الشعب الجزائري .

ويؤكد هنري أليغ أن الشيخ الطيب العقبي، إيمانًا منه بمفهومه للتضامن بين أهل الكتاب، عارض محاولة إدارة فيشي الاستعمارية تحريض المسلمين على القيام بأعمال ضد اليهود، وأمرهم على العكس بعدم المشاركة في الأعمال العدائية. التي أدانها الدين.

وقد كان هذا الموقف الأخلاقي متسقاً ومتوافقا مسبقاً مع المتطلبات التي كرّسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المعتمد عام 1948، حيث نص على أن " لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمان على شخصه" (المادة 1). 3)، وأنه " لا يجوز حرمان أحد من ملكه تعسفاً " (المادة 17).).

من نهاية عام 1943، شكلت و تكونت اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني و في الجزائر بالعاصمة وفي يونيو/حزيران الماضي، تحت سلطة الجنرال جورج كاترو، لجنة للإصلاحات الإسلامية تُدعى إليها جميع الأحزاب السياسية، بما في ذلك حزب الشعب الجزائري والذي أصبح في عام 1946حركة انتصار الحريات الديمقراطية مع مصالي الحاج، و اتحاد مع فرحات عباس والعلماء وشخصيات من المجتمع المدني. و كان عضو هذه اللجنة الشيخ الطيب العقبي و هو الوحيد الذي اقترح على السلطات إطلاق سراح مصالي الحاج " الذي يمثل حزبه أغلبية الشعب الجزائري" ويقدر أن غيابه سيكون ثغرة كبيرة في عمل اللجنة (و هو الذي استمعت اليه اللجنة في النهاية خلال دورتها و جلساتها التاسعة).

و لقد أيد الشيخ الطيب العقبي بدوره مقترحات فرحات عباس وهيئة العلماء والشيخ بيوض.

وفي جلسة الاستماع الى الطيب العقبي، دافع عن إلغاء القوانين الاستثنائية والوضع الأصلي" الانديجينا "، والفصل بين الدين والدولة (حيث ظلت العبادة الإسلامية تدار من قبل الإدارة، على عكس اليهودية والمسيحية التي استفادت من نظام قانون عام 1905)، والمساواة في الحقوق لجميع الجزائريين، والحقوق السياسية دون استثناء مع الحفاظ على الأحوال الشخصية للمسلمين، والوصول إلى جميع مناصب السلطة، والمساواة في عدد المندوبين مع الأوروبيين في المجالس الجزائرية، وحق المواطنين المتجنسين في العودة إلى الأحوال الشخصية الاصلية " مسلم"...

كما استلهم التقرير النهائي نهجاً مماثلاً، واستحضر أيضاً التفاوت غير المبرر في الرواتب أو الأجور العسكرية بين الأوروبيين والمسلمين المنخرطين في نفس الحرب.

إذا جاءت متأخرة خطوات التقدم المدني بالنسبة لأمرية 7 مارس 1944 "المتعلقة بوضع المسلمين الفرنسيين في الجزائر" و التي أبطلتها بسرعة (مجازر قسنطينة) في مايو ويونيو 1945، ثم بسبب التزوير الانتخابي الذي نظمته الإدارة الاستعمارية، فإن لجنة إصلاحات 1944، كما هو الحال مع المؤتمر الإسلامي لسنتي 1936-1937، كان لها على الأقل ميزة إظهار قدرة الشخصيات الجزائرية على تأكيد آرائها وتقديم مطالبها إلى السلطات من أجل النهوض بحقوق الإنسان بطريقة سلمية ومنظمة.

في عام 1947، كان للشيخ الطيب العقبي، في جريدته الإصلاح، السبق في مواصلة النضال من اجل حق تقرير المصير : “لا وصاية، ولا محمية، ولا استعمار، ولا حيازة، لبلد أو أمة دون رضاها […]، بل حرية”. اختيار المصير لجميع الشعوب، كما أن استقلال أي أمة، مبدأ ثابت في عالم اليوم، وهو حق مقدس في نظر أي أمة[7]. » .

لم يتم الاستماع إلى الفاعلين السياسيين في ذلك الوقت، وجاء جيل آخر وجعل صوته مسموعًا بطريقة أخرى في الأول من نوفمبر عام 1954.

من نداء الهدنة المدنية إلى الجزائر جزائرية

قبل يومين من مؤتمر 22 يناير 1956، وفي مواجهة التهديد المعلن بتدخل عدائي من قبل الألتراس، كان على اللجنة التي كانت أصل الدعوة إلى هدنة مدنية أن تلاحظ أن جميع القاعات الأوروبية كانت مغلقة أمامها. وكان المكان الوحيد الذي يمكن أن يلبي المتطلبات الأمنية ويتوافق مع روح هذا الاجتماع هو قاعة " نادي الترقي" التي اقترحها أعضاؤها من أصل مسلم على اللجنة.

ومما لا شك فيه أن الرمزية الفرنسية الجزائرية لهذا اللقاء تعززت بشكل كبير من خلال هذا الاحتجاز على حافة القصبة ومن خلال ذكرى المظاهرات المتعددة سواء للتأكيد على الهوية الجزائرية أو للحوار بين المجتمعات التي رحب بها النادي. كان عمر عيشون، عضو " نادي الترقي " وجبهة التحرير الوطني، مسؤولا عن الأمن في مكان انعقاد المؤتمر، يساعده في الخارج نشطاء جبهة التحرير الوطني. وعلى الجانب الجزائري، كل شيء جرى بهدوء، دون أي تجاوزات. وهكذا تمكنت خدمة الشرطة التي حشدتها الإدارة من احتواء المتظاهرين المناهضين للاجتماع هذا " الألتراس" .

ومن خلال الضغط الذي مارسوه على السلطات على أعلى مستوى خلال السادس من فبراير/شباط تباعا، فإنهم بلا شك قد نجحوا في حجر نداء للهدنة لم تبدي حكومة "موليه" أدنى متابعة له أو رد عليه. ومع ذلك، يبقى الفضل لأولئك الذين سمحوا على الأقل بإطلاق هذا النداء في 22 يناير 1956 والذين من بينهم الشيخ الطيب العقبي، الذي كان هذا آخر ظهور علني له.

وفي وقت مبكر من عام 1955، ومع عدم وجود و لو وهم و سراب لمنفذ و مخرج سلمي وحول احتمالات التوصل إلى نتيجة سلمية، أعلن الشيخ الطيب العقبي ل"روبرت بارات" قائلا: " إن وجود غاندي مستحيل في الجزائر... ولو وجد لقتلوه"

وفي بداية عام 1956، إنضم معظم أتباع الطيب العقبي و نادي الترقي إلى جبهة التحرير الوطني وبعد بضعة أشهر، في 14 و15 سبتمبر، انعقد بمقر نادي الترقي (وتحت مسؤولية هذه المرة سي محمود بن صيام) المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام للتجار الجزائريين، وهو منظمة تابعة لجبهة التحرير الوطني يرأسها المقربون من الشيخ الطيب العقبي ومنهم سي عمر عيشون رئيسا وسي عباس تركي نائبا للرئيس.

من خلال التسخير و الاستيلاء على مقر" نادي الترقي" في 1 يونيو 1958، لم يستطع الجنرال ماسو أن يتجاهل بأنه كان يحرم الجزائريين مما كان منتداهم المدني والثقافي الرئيسي لمدة ثلاثين عامًا.

أما البقية فهي متوقعة وكانت منتظرة ومعلومة و هي: علي بومنجل، هذا المدافع عن القانون مثل شقيقه أحمد بومنجل، الذي تم طرده من النافذة من قبل الجنرال أوساريس الذي كان النائب المباشر للجنرال ماسو .

كان الجنرال راؤول سالان زعيم المنظمة العسكرية السرية سيئة السمعة ومن خلال سياسة الأرض المحروقة "، يريد خلق واقع مأسوي لا يمكن علاجه وتدمير كل العلاقات الطبيعية والإنسانية التي تربط ما بين المجتمعات، الأمر الذي دفع الأوروبيين في نهاية المطاف إلى الاعتقاد بأنه لا يوجد خيار آخر غير "الحقيبة أو التابوت".

كان رينيه سينتيس، أصغر أعضاء لجنة الهدنة المدنية، من بين ضحايا هذا المشروع الإجرامي الذي استطاع الأب سكوتو أن يقول عنه: " حتى أنفاسي الأخيرة، سأحقد و أكره المنظمة العسكرية السرية باعتبارها منظمة إجرامية. ليس فقط لأنها قتلت قلب الشعب الذي أنتمي إليه، بل قتلت قلب شعبي المكون من الأقدام السوداء.

بل لقد اغتصبتهم " المنظمة المسلحة السرية " هذا الشعب يستحق أفضل مما تعرض إليه" [8].

في 12 أغسطس 1962، أعاد نادي الترقي تثبيت مقره الذي أعيد إليه رسميا بالعنوان 9 ساحة الحكومة القديمة .

معرض سرد تاريخ هذا المكان، لن يفوّت عمر عيشون، الذي أصبح رئيسا له، أن يذكر، باسم الجزائر الجديدة، المؤتمر الأخير في الجزائر العاصمة، في عام 1956، لمواطننا الراحل ألبير كامو[9].

***

.....................

الهوامش

[1] انظر رابح سعد الله وجمال بن فارس، روعة المولودية 1921-1956، طبعة العثمانية، الجزائر، 2009؛ اسم النادي بالطبع يشير إلى مولود، يوم ميلاد النبي.

[2] إذا كانت الجمعية قد أنشئت عام 1935، فقد انعقدت مؤتمرات حول التوحيد، أي الإسلام والمسيحية واليهودية، في عام 1933، خاصة مع هنري بيرنييه.

[3] تأتي هذه الخطبة بعد أعمال انتقامية خلفت مئات القتلى من المسلمين. المواقف المتكررة للمونسنيور ليون إتيان دوفال، رئيس أساقفة الجزائر العاصمة، ضد العنف والدفاع عن حقوق المسلمين، أدت إلى زيادة الإهانات والتهديدات من قبل الألتراس الذين أطلقوا عليه لقب "محمد دوفال"."

[4] ومما يزيد من شجاعة هذه الكلمات أن العقبي كان آنذاك تحت المراقبة القضائية بتهمة التحريض على قتل المفتي الكبير بندلي عمر، الذي قُتل في 2 أغسطس 1936، وهي قضية لم تتم تبرئته فيها. من قبل المحكمة الجنائية بالجزائر العاصمة فقط في يونيو 1939.

[5] انظر محمد درويش، في المدرسة الكشفية الوطنية، جامعة فلسطين، الجزائر، 2010.

[6] بناء على تقرير مجلس الاتحاد الفرنسي رقم 131 لسنة 1952.

[7] نقلا عن أحمد مريوش، الشيخ الطيب العقبي ودوره في الحركة الوطنية الجزائرية، رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، 1993.

[8] أندريه ماندوز، نقلا عن عيسى قادري في" المدرسون والمعلمون في الجزائر 1945-1948: التاريخ والذاكرة "، باريس، طبعات كارتالا، 2014.

[9] الإرسالية الجزائرية (لاديبيش دالجيري).

حلت يوم أمس الجمعة الذكرى السنوية الثانية لرحيل الشخصية الثقافية الوطنية الفلسطينية الشاعر، الكاتب، الباحث والدارس حنا ابو حنا (1928- 2/2/ 2022). فيما يلي نشير إلى ما خلّفه من تراث أدبي توزّع على مجالات مختلفة من الابداع الشعري والنثري، وعُرف خلال ما ربا على السبعين عامًا، هي عمر عطائه الادبي المشهود له لدى القاصي والداني من الباحثين والدارسين وشداة الادب العرب والاجانب على حد سواء.

البدايات- الحياة، الثقافة والانتاج الادبي الثقافي: ولد حنا امين ابو حنا في قرية الرينة عام 1928، وكان مولده لعائلة متعلّمة عُرف ابناؤها بميولهم الثقافية العامة، ونبَه فيها العديد من الكتاب والفنانين، نشير منهم إلى قريبه الكاتب الاستاذ اكرم ابو حنا، وهو صاحب العديد من القصص القصيرة، التي لم تنشر في كتاب وقد قام حنا ابو حنا بإصدار عدد من قصص قريبه اكرم في كتاب حمله عنوان "قوت الآخرين" واصدره عام 1981. كما نشير من ابناء عائلة ابي حنا إلى الفنان هشام ابو حنا نجل اكرم وقد انتج عددا من الاعمال الفنية الموسيقية بعد ان قام بكتابتها ووضع الحانها وتم عرضها برعاية جمعية "غوايش" التي أسسها ورعى نشاطاتها خلال العديد من السنوات الماضية، كما نشير من ابناء عائلته الى الكاتبة المثقفة السيدة رنا ابو حنا- ابنة المرحوم المحامي المعروف انيس ابو حنا. عمل والد حنا ابو حنا امين ابو حنا، في مجال مساحة الاراضي، لذا تنقّل في طفولة نجله حنا بين العديد من المدن والبلدات، ما تسبب في تعدد الاماكن و المدارس التي تلقى حنا تعلّمه فيها. دراسة حنا في مرحلتها الثالثة كانت في مدرسة الناصرة الثانوية، اما دراسته العليا فقد تمت في جامعة حيفا حول موضوع الادب الانجليزي وحصل من هذه الجامعة على اللقب الثاني في موضوع دراسته هذا. لن نشير هنا الى الكثير من التفاصيل المتعلقة بالفقيد، ونكتفي بالاشارة الى انه عمل فترة من عمره محاضرا في جامعة حيفا التي درس فيها حتى اللقب الثاني، كما عمل المرحوم محاضرًا في كلية التربية – دار المعلمين العرب في حيفا، ويذكر انه عمل ردحًا من عمره مديرًا للكلية العربية الارثوذكسية في حيفا، وقد تواصل عمله فيها حتى تقاعده من منصبه مديرا لها عام 1987. وضع حنا في حياته المديدة (94 عاما)، العديد من المؤلفات التي توزعت على انواع ادبية متعددة هي: الشعر، البحث الادبي والدراسة، اضافة الى ادب السيرة الذاتية وادب الاطفال. اعتُبر حنا ابو حنا منذ بدايات وعيه الاولى واحدًا من الشعراء والادباء اليساريين وقد كتب الشعر السياسي الوطني وردد اشعاره العديد من ابناء جيله وزملائه من اعضاء الحزب الشيوعي الاسرائيلي، ومما يذكر له هنا هو انه كان من اوائل من كتبوا شعر التفعيلة في بلادنا وربما خارجها، كما يذكر له انه دفع لقاء مواقفه غير المهادنة مع السلطات الاسرائيلية، ثمنا عمليا تمثل في دخوله السجن عام 1958. حصل المرحوم على العديد من الجوائز لعلّ اهمها جائزة منظمة التحرير الفلسطينية في مجال ادب السيرة الذاتية، لقاء كتاب سيرته الذاتية "ظل الغيمة" عام 1999، ولقب عزيز حيفا، وهي المدينة التي اقام فيها جنبا الى جنب برفقة ابناء عائلته وهم: زوجته ورفيقة دربه السيدة سامية فرح من شفاعمرو. ابنته رباب، وابنته الصحفية أمية أبو حنا ونجله الاكبر والوحيد الذي حمل اسم جده البروفيسور أمين أبو حنا. ومما يذكر في هذا السياق ان الكاتبين بطرس ابو منه وجوني منصور بادرا عام 2005 لإصدار كتاب تكريمي للمرحوم حنا ابو حنا حمّلاه عنوانًا دالا ومُعبرًا هو "زيتونة الجليل".

الشاعر حنا ابو حنا، عندما قال محمود درويش منه تعلمنا ترابية القصيدة: عُرف حنا أبو حنا منذ سنوات ما بعد عام النكبة 1948، بقصائده الوطنية النارية الملتهبة، ويذكر كاتب هذه السطور أن عددًا من زملائه ومجايليه الشيوعيين، منهم الناشط المثقف المرحوم سهيل نصار، رددوا اكثر من مرة امامه قصائده في مقدمتها قصيدة حنا ابي حنا التي اشتهرت في بدايات شبابه الاول وحملت عنوان "عشر سنين". عمل حنا مُحرّرًا وكاتبًا في العديد من منشورات الحزب الشيوعي مثل صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية، مجلتا "الجديد" و"الغد" وكان واحدا من مؤسسي مجلة "المواكب" وبعدها "مواقف". ونشر اوائل اعماله الشعرية في منشورات الحزب الشيوعي، ومما يُسجّل له أن أبناء جيله وابناء الجيل التالي لجيله طالما رددوا قصائده واشعاره واهتموا بها وربما تعلّموا منها. "من الشاعر حنا ابو حنا تعلمنا ترابية القصيدة"، بمعنى انتمائها وبراءتها( التوضيح مني)، قال الشاعر الراحل محمود في اكثر من مجلس ومحضر. مع الاهتمام الذي حظي به الانتاج الشعري الاول لشاعرنا، لم يبادر هو ذاته لإصدار مجموعته الشعرية الاولى، وإنما جاءت المبادرة المفاجئة له، كما ذكر هو ذاته خلال حديث خاص معه، من دار نشر في عمان قامت بجمع عدد من قصائده الاولى وأصدرتها ضمن مجموعة شعرية تُعتبر مجموعته الأولى في مجال القول الشعري، وقد حملت تلك المجموعة عنوانًا معبرًا ومؤثرًا ومتماشيًا مع تلك الفترة هو " نداء الجراح"، وكان ذلك في عام 1969. بعد حرب الانتكاس العربية عام 1967 بعامين، وبعد هذه المجموعة الشعرية كتب حنا واصدر عددًا من المجموعات هي على التتالي: "قصائد من حديقة الصبر"- صدرت عام 1988. "تجرّعت سمك حتى المناعة"- 1990. و"عرّاف الكرمل"- 2005. ترجم حنا عددًا من قصائك الشعر الروماني واصدرها عم 1953 تحت عنوان هو " الوان من الشعر الروماني"، وكان قد قام عام 1951 بترجمة ونشر كتاب في مجال ادب الاطفال حمل عنوان" ليالي حزيران". هذان الكتابان مثلا تجربته الاولى والاخيرة في مجال الترجمة من أيٍّ من اللغات الاجنبية. غلبت على اشعار المرحوم لا سيما في بداياتها الاولى روح رومانسية ثورية شعبية، وهو ما جعل الكثيرين يحفظونها في رأيي ويردّدونها عن ظهر قلب. في مجال القول الشعري يُذكر أن فقيدنا أصدر عام 1991 كتابًا حمل عنوان " ديوان الشعر الفلسطيني". وأذكر أنني سألته ذات لقاء لي به عن سبب كتابته الشعر التقريري المباشر في تلك الفترة، فأجابني قائلًا: إنني وأبناء جيلي تنازلنا عن شيء من فنية الكتابة الشعرية لمصلحة قضيتنا الوطنية، وما تطلّبته من تنازلات كان لا بد منها لمواصلة المسيرة الصعبة والمشاركة الفعالة فيها.

الباحث الدارس، بين الانتماء والتأصيل: يبدو أن عَمل الفقيد في مجالات التعليم المختلفة قد أثّر على توجهه الادبي العام، فبادر خلال رحلته الثقافية الثرية، لإصدار العديد من الابحاث والدراسات التي حمّلها عناوين معبرة، ووجهها إلى الابناء والاحفاد ضمن محاولة واعية لتعزيز الانتماء وتأصيل الوجود لأبناء شعبه العربي الفلسطيني عامة ولأبناء شعبه الباقين في بلادهم خاصة. فيما يلي نورد ثبتا نرجو أن يكون شاملًا ووافيًا لما انتجه من مؤلفات وتحقيقات في هذا المجال ابتداء من كتابه الاول فيها حتى الاخير. تقول السيرة الذاتية لفقيدنا إن كتابه الاول في هذا المجال صدر عام 1977 بالاشتراك مع المثقف المرحوم سامي جرايسي- ابن مدينة الناصرة، حمل عنوان " من مشاكل التعليم في القطاع العربي". بعد هذا الكتاب تتالى صدور كتبه ومؤلفاته على النحو التالي: "عالم القصة القصيرة"- صدر عام 1979. "الادب الملحمي"- 1983. وهما كتابان موجّهان لطلبة المدارس تحديدًا. رواية "مفلح الغساني" للكاتب الصحفي- صاحب جريدة "الكرمل"، نجيب نصار- تحقيق وتقديم - صدر عام 1985. "روحي على راحتي"- تحقيق وتقديم لديوان الشاعر الفلسطيني شهيد معركة الشجرة عام 1948 عبد الرحيم محمود- صدر عام 1985. "ثلاثة شعراء"- وضم معلومات عن عدد من الشعراء الوطنيين- هم: ابراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي - ابو سلمى، صدر في العام ذاته 1985. "دار المعلمين الروسية" في الناصرة- 1994. "رحلة البحث عن التراث" – اعداد وتقديم – 1994. "مذكرات نجاتي صدقي"- صدر عام 2001. و"فستق أدبي"- صدر عام 2004.

حنا ابو حنا، كاتب السيرة الذاتية المجلي: أراد الشاعر الكاتب حنا ابو حنا على مدار حياته الادبية الثقافية، أن يقدّم شهادة متابع مهتم ومشارك في هذه الحياة، لذا حرص على ما يبدو عندما شرعت السبعينيات من عمره في طرق باب حياته، بكتابة سيرته الذاتية. وقد بدأ في اواسط التسعينيات بكتابة مؤلفه السيري المتميز " ظلّ الغيمة"، وبادر بإرسال فصولها الاولى لنشرها في صحيفة "الصنارة" التي عملت آنذاك محرّرًا ادبيًا فيها، فقمت من فوري بنشر تلك الفصول، متجاوزًا تعليمات هيئة التحرير وتوجيهاتها ومُخصّصًا لأول مرة في تاريخ عملي ذاك صفحتين كاملتين لنشر كلٍّ من تلك الفصول، وقد توقّعت في حينها أن تعارض هيئة التحرير تجاوزي هذا، غير أن ما حدث هو أن صاحب الصحيفة ورئيس تحريها إبّان تلك الفترة، الكاتب الصحفي لطفي مشعور طابت ذكراه، دعاني إلى مكتبه الخاص مستقبلًا اياي بابتسامة عريضة مشجعة وتقريظ كبير لنشري تلك الفصول. بعد فروغ حنا من تأليف كتابه هذا، وكان ذلك عام ١٩٩٧ تحديدًا قام بإصداره بصورة خاصة. بعد ذلك تتالت الطبعات منه، وقد اهل هذا الكتاب مؤلفه المرحوم حنا ابو حنا للحصول على جائزة فلسطين للسيرة الادبية وتم ذلك عام 1999. بعد ثلاثة أعوام من صدور مؤلفه هذا صدر جزآه الآخران وهما: "مهر البومة" و"خميرة الرماد".

الكتابة للأطفال بشتى الألوان: عام 2001 تحديدًا عمّق حنا رؤيته التثقيفية الانتمائية التأصيلية، وقرر التوجّه إلى أبناء الاجيال التالية من أطفال وفتيان، فاتحًا لهم ابواب الخيال والتراث العربي المسلّي المثقف، المنور والمفيد، وكان أن اصدر كتابه الأول في هذا النوع الادبي الهام جدًا، كما تقول تجارب الشعوب المتقدمة ايضا، فأصدر بالتعاون مع "مكتبة كل شيء" الحيفاوية ومديرها الصديق المثقف صالح عباسي، كتابه الاول في هذا المجال محمّلًا إياه عنوان "احمر اخضر"، وقد أصدر في العام ذاته عددًا من المؤلفات الموجّهة للأطفال والفتيان هي: "أرنوب وفرفور"، "أصابع ديما". "قطتي أميرة". في العام التالي صدر له كتاب " سر الملك كيسار". في عام 2004 صدر له "اوراق خضراء". وبعد هذا الكتاب بعامين، عام 2006 صدر كتابه الاخير الموجه للأطفال والفتيان وحمل عنوان "ملك الغابة".

***

ناجي ظاهر

نجد أن الإمام محمد أحمد المهدي الذي كان يرى أن” إمامته أو مهديته صمدية لا تتكرر، ولا يأتي بعده إلا الدجال والنبي عيسى عليه السلام، وأن إمامته تجمع بين إمام الشيعة المعصوم وشيخ الصوفية الملهم، لذلك فإنه فوق كل أصحاب الطرق والمذاهب، لذا قام السيد المهدي بإصدار منشور في أواسط سنة 1301ه/أوائل عام 1884م أبطل فيه العمل بالمذاهب الأربعة، وكان يرى أن كل ما كُتب من إجماع وقياس وتفاسير تناول مسائل فرعية لا قيمة لها من حيث الأركان الأساسية للعقيدة الإسلامية، كما قام السيد المهدي في نفس المنشور بإبطال الطرق الصوفية، وقد هدف السيد المهدي من إلغائه للعمل بالمذاهب وإبطاله للطرق الصوفية، إلى وقف الخلاف بين المسلمين، وقد أشار إلى ذلك بقوله:”  تعددت الطرق واختلفت حتى ظنّ أن كل شيخ يقوم بتأسيس دين جديد وأن غيره من زعماء الطرق خارج عن الدين وحتى ضلّ القوم ضلالاً مبيناً وأصبحوا يوجهون أنظارهم لمشايخهم بدلاً من ينبوع الدين والعرفان الأصيل القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومما يذكر أن السيد المهدي كان قد مهّد في بعض منشوراته السابقة إلى مسألة إلغاء العمل بالمذاهب وإبطال الطرق الصوفية، كما يشار إلى أن المهدية قد استندت إلى أسس الطرق الصوفية وعددها ستة وأضافت إليها أسسها الذاتية وعددها ستة أيضاً، وصارت المهدية بذلك تقوم على أثني عشر أساساً، فأصبحت أعلى وأسمى من الطرق، وأوسع منها وكان إلغاء الطرق تمشياً مع هذه الفكرة”.  هذه الحقيقة التي أوردناها تحتم علينا الحديث عن مشرب الإمام لفكرة المهدية، واتجاهه وتعامله نفسه مع هذه الفكرة، فقد اكتسب هذا المشرب الاتجاه الصوفي بحكم طبيعة الطرق الصوفية التي كانت سائدة في ذلك العهد، ولعل من الدلائل والمؤشرات التي تؤكد أن تناول محمد أحمد لفكرة المهدية جاء نابعاً من تصوفه أن محمد أحمد المهدي” كان يكرر القول بأن العلماء لا يدركون مهديته بمقاييسهم العلمية وإنما يدركها أهل البصائر، وحين ولادته عرفه أهل الباطن والحقيقة لا العلماء.

عدد المهدي نفسه الروافد الصوفية وروافد المهدية في حركته في القول الذي أورده على لسان الشيخ الطيب في وصف حضرة تنصيبه فقال:” الطريقة فيها الذل والانكسار وقلة الطعام وقلة الشراب والصبر وزيارة السادات، فتلك ستة، والمهدية أيضاً فيها ستة: الحرب والحزم والعزم والتوكل والاعتماد على الله تعالى واتفاق القول فهذه الاثنا عشر لم تجتمع لأحد إلاّ لك”، وهكذا يوضح ما هو من أصل المهدية وما هو آت من التصوف، ثم لاحظ أنه يسمي حركته”  الطريقة” مما يثبت قولنا بأنه كان يدير حركته في أول الأمر على نمط طريقة صوفية، وكما ترى فان نصف الروافد صوفية، وضعه لراتب وحزب قرآني، والعناية بالتسبيح والبسملة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والأدعية على نحو ما يفعل الصوفية.

اعتماده البيارق، والبيارق التي رفعها هي بيارق صوفية، وقد كتب في كل راية من الرايات الأربعة اسم قطب من الأقطاب، وتحمل هذه الراية لون طريقة القطب، والراية الخامسة هي راية المهدي، ولونه أبيض وقد كتب فيها اسم المهدي، وهكذا يضع المهدي نفسه صنواً للأقطاب، كما أن تصوراته صوفية في كثير من أحواله وقد اعتمد على الرمز كثيراً عند توضيح الأمور، وأيضاً تسمية أعوانه في الأقاليم في أوائل المهدية خلفاء على نحو خلفاء الطرق، وأيضاً القول بالحضرات ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة وأن الأولياء يخبرونه بأمور، والقول بأسرار للأمور لا يراها إلا الخاصة، وأيضاً مما يبرهن أن مهدية محمد أحمد نابعة من توجه صوفي محض قوله بجنة للعامة وهي ملذات الآخرة وبجنة للخاصة وهي التمتع برؤيته سبحانه وتعالى، وأيضاً بتفسيره الباطني للقرآن والقول بالتوكل المطلق في كل أمر”.  بناء على ما تمّ ذكره نجد أن الإمام المهدي رحمه الله شديد الإيمان بحقه في الإصلاح، شديد الحرص على أن يظل هذا الحق واقفاً عليه لا يتعداه لغيره، والإمام المهدي رحمه الله وأنصاره مهرة في فهم هذه الحقوق التي تتجلى قدرتهم على التوفيق بين متناقضاتها، والجمع بين متبايناتها، ولا نستطيع أن نفرغ من هذا الحديث دون أن نأتي بتعريف موجز عن الإصلاح العقدي  الذي هو عبارة عن “تلك المعارف التي تشرح وتفسّر حقائق عالمي الغيب والشهادة في ذهن المسلم بشكل منهجي ويقوم على ربط المعارف المتعلّقة بحقائق الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، من عالم الغيب، وربط المعارف المتعلّقة بحقائق الكون والحياة والإنسان، من عالم الشّهادة بخالقها ليقوم المسلم بأداء الواجبات المطلوبة من على خير قيام، حتى يتجنب العذاب في الدارين أو يحيى بحياة طيبة في دنياه وآخرته.

كان هدف الإمام المهدي الذي كان مريدوه يعتقدون أنه لا ينطق إلا عن ميراث حكمة، وأحاديثه قد صُبت فيما هو أشبه بقوالب العصمة، أن يحكم شريعة الله في الأرض، ويحرر بنو جلدته من رهق الاستعمار، يقول سيد قطب معلقا على معنى حكم الجاهلية في الآية أنها: “حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية اللّه، ورفض ألوهية اللّه، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون اللّه، والجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع، هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غدا،  فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام. والناس في أي زمان وفي أي مكان إما أنهم يحكمون بشريعة اللّه ويقبلونها ويسلمون بها تسليما، فهم إذن في دين اللّه، وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر ويقبلونها، فهم إذن في جاهلية وهم في دين من يحكمون بشريعته، وليسوا بحال في دين اللّه، والذي لا يبتغي حكم اللّه يبتغي حكم الجاهلية والذي يرفض شريعة اللّه يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية”.

كما سعى المهدي بعد أن دانت له الأمور أن يكبح جماح الطرق الصوفية التي أضحى عددها في تنامي وازدياد، وأن يعزز النفوذ والسيطرة لطريقته التي سعى أن تحدث في المهج موضع الإعجاب والفتنة، وأن يقطع دابر التعلق بتلك الطرق التي ناصبه شيوخها العداء، كما أن منشوره الذي أصدره يجعلنا في حالة ذهول من كثرة تلك الطرق، الأمر الذي يحفز خيالنا للاعتقاد بأن سودان القرن التاسع عشر لم تطف في صقع فيه أو واد إلاّ وجدت ناسكاً أو واعظاً يدعو لنصرة طريقة، أو اتباع شيخ جليل.

***

د. الطيب النقر

 

(1937 – 2023) Robert Lucas

يعتبر روبرت لوكـَسْ رائد النظرية الكلاسيكية الجديدة في الاقتصاد الكلي، والاقتصادي الذي طور نظرية التوقعات العقلانية Rational Expectations Theory، التي حاز بموجبها على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1995. وبهذا اصبح الاقتصادي الاهم في تطور جانب النظرية الكلية خلال الربع الاخير من القرن العشرين.

ولد روبرت لوكـَسْ عام 1937 في مدينة ياكيما في ولاية واشنطن في اقصى الغرب الامريكي، وكان الابن الاكبر من بين أربعة اطفال. كان والداه يديران محلا للمرطبات والآيسكريم. ولكن بعد ان ضرب الكساد العظيم الاقتصاد الامريكي ضربات موجعة في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، اصبحت سلعة المرطبات من قبيل السلع الكمالية الباذخة بالنسبة لغالبية عملاء المحل، مما قلل من مبيعاته للحد الذي لم يعد ممكنا المضي في تحمل كلفة التشغيل، فاضطر الوالدان لغلق مورد عيشهما الوحيد والرحيل الى مدينة سياتل سعيا وراء ايجاد عمل مناسب في تلك المدينة الكبيرة.  في سياتل اشتغل الوالد عاملا في احد مصانع السفن. ومع تطور خبرته، ترقى ليعمل في القسم الميكانيكي لاحد مصانع الثلاجات واجهزة التبريد.  يقول روبرت ان مهارة والده في ميكانيك التبريد تطورت سراعا حيث أهلته ان يصعد السلم الوظيفي بسرعة ويقوم مقام المهندس رغم انه لم يدرس الهندسة. وبمرور السنين في مصنع الثلاجات اصبح الوالد مديرا للمبيعات مدة من الزمن ثم ترقى الى المدير العام للشركة، وهو العامل المسلكي الذي التصق بالشركة سنينا طوال وفي ظروف ازدهارها وانكماشها على السواء. أما والدة روبرت ففد اشتغلت في تصميم وخياطة الملابس النسائية.

دخل روبرت مدارس سياتل العامة وتخرج عام 1955 من نفس المدرسة الثانوية التي تخرج فيها والداه عام 1927، أي عشر سنوات قبل ميلاده. كانت امنية الوالدين لابنهما البكر ان يدخل كلية الهندسة في جامعة واشنطن في سياتل، لكنه وكأي شاب في ذلك العمر أراد ان يخرج من بيت عائلته ويسعى للدراسة في ولاية اخرى ليشعر بالاستقلال والحرية. لكن ذلك يعني ان عليه ان يتدبر امر التكاليف الدراسية خارج ولايته. والامل الوحيد لذلك هو ان يحصل على منحة دراسية من جامعة ما في ولاية اخرى. وهكذا استطاع الحصول على منحة دراسية من جامعة شيكاغو. ولان دراسة الهندسة غير متوفرة في جامعة شيكاغو آنذاك، كان عليه ان يستغل فرصة المنحة الدراسية ويفكر باختيار حقل دراسي آخر.            يقول انه ترك التأمل في هذا الامر لحين ان يستقل القطار الذاهب شرقا من سياتل الى شيكاغو حيث تستغرق الرحلة 44 ساعة. وفعلا فقد حسم الامر مع نفسه خلال تلك الرحلة الطويلة باختيار دراسة التاريخ. عند تخرجه من فرع التاريخ بقي يتساءل: مالذي سيفعله المتخصص في التاريخ في الحياة العملية؟ وماذا سيكون متوفرا لديه في عالم الوظائف العامة والخاصة؟ وهذا ما دفعه للاستمرار في الدراسة والتقديم الى الدراسات العليا. ومرة اخرى فقد اصطدم بعدم امكانية عائلته تمويل دراسته العليا الا اذا وجد الجامعة التي توفر له منحة دراسية. وهكذا فقد حصل على زمالة "وودرو ولسن" من جامعة كالفورنيا – بيركلي، التي بدأ فيها بالتسجيل في كورسات التاريخ الاقتصادي. يقول ان دراسة التاريخ الاقتصادي نبهته الى فرع الاقتصاد الذي وجد نفسه شغوفا به فقرر ان ينتقل الى دراسة الاقتصاد، اذا وافق قسم الاقتصاد ان يمنحه زمالة دراسية مماثلة لتلك التي منحها له قسم التاريخ. وحين لم يحصل هذا، فقد وجد نفسه عائدا الى شيكاغو ليبدأ دراسته العليا في قسم الاقتصاد هناك عام 1960، ويحصل على الدكتوراه عام 1964. كانت اطروحته بعنوان " التعويض بين العمل ورأس المال في الصناعة الامريكية بين 1929 و 1958" التي كتبها مع ميل واضح الى التحليل الماركسي لكونه درس التاريخ والتاريخ الاقتصادي وآمن ان الاقتصاد هو المحرك الاساسي لحركة التاريخ. أشرف على اطروحته آرنلد هاربرگر وگرَگ لوِس.

يثني لوكـَسْ على الحالة التي نشأ وتعلم فيها، في العائلة وخلال المراحل الدراسية المختلفة بضمنها سنوات دراسته في جامعة شيكاغو. ويذكر بشكل خاص التربية الليبرالية المنفتحة داخل العائلة التي علمته على احترام الحرية وتقدير الاختلافات والاعتماد على النفس والاستقلال والثبات في اتخاذ القرارات. يقول ان والديه كانا يميلان الى سياسات ومواقف الحزب الديمقراطي ويؤيدان بحماس الرئيس روزفلت وعقده الاجتماعي The New Deal، في حين كان جداه وبقية العائلة يميلون الى سياسة المحافظين ويؤيدون الحزب الجمهوري، مما علمه ان التعايش مع الاختلافات في الآراء والمواقف ضرورة لايمكن اساءة تقديرها.

بعد اكمال الدكتوراه، واصل العمل في التدريس في معهد كارنيگي التكنولوجي الذي التحق به عام 1963 وهو لم يزل منشغلا في كتابة اطروحته. فبقي يمارس التدريس والبحث هناك لغاية 1975، حيث عاد الى شيكاغو. في عام 1980 اصبح استاذا يحمل العنوان التشريفي باسم الفيلسوف جون ديوي. وفي نفس العام انتخب عضوا في اكاديمية العلوم والفنون الامريكية.  وفي العام التالي، عام 1981 انتخب عضوا في الاكاديمية الوطنية للعلوم، وفي 1997 اصبح عضوا في جمعية الفلسفة الامريكية.

فيما يلي اهم مساهمات لوكـَسْ في تطور دراسة الاقتصاد الكلي:

-  نظرية التوقعات العقلانية Rational Expectation

تقف نظرية التوقعات العقلانية في صدارة مساهمات لوكـَسْ في تطور النظرية الاقتصادية، وبالاخص جانب النظرية الاقتصادية الكلية Macroeconomic Theory وهي التي مثلت الجزء الاهم من بين دراساته العديدة والمتنوعة التي آلت الى حصوله على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1995. يعتقد اغلب محللي الاقتصاد بأن تطوير لوكـَسْ لفرضية التوقعات العقلانية وتطبيقه لها في عدة حقول اقتصادية نقل تحليل الاقتصاد الكلي نقلة نوعية، وعمق الفهم العام للسياسة الاقتصادية وتأثيرها على سير الاقتصاد. وقد اعتبره بعض مؤرخي النظرية بأنه الاقتصادي الابلغ تأثيرا في الاقتصاد الكلي خلال ثلاثة عقود، بين 1970 و 2000، والذي ألهم اجيالا جديدة من الاقتصاديين، وكذلك اسهم بتطوير ادراك وعمل الكثير من صناع القرار السياسي-الاقتصادي. كما وقد اعتبرت هذه النظرية تحديا وعبورا على فرضية الاقتصاد التقليدية في كون الخيار الاقتصادي يقوم على المعلومات التامة Perfect Information Assumption. بدأ لوكـَسْ دراساته في هذا المجال ببحثه الموسوم " التوقعات وحيادية النقود" المنشور في مجلة النظرية الاقتصادية عام 1972.

تقوم هذه النظرية على فكرة ان الناس عموما، الافراد والمؤسسات، يؤسسون قراراتهم بموجب ثلاثة عوامل:

1. العقلانية الانسانية الطبيعية المتجذرة بالفطرة والسليقة والمنطق.

2. افضل ما يمكن توفره من معلومات ذات العلاقة في ذلك الظرف المكاني والزماني

3. خزين المحاولات والتجارب السابقة، الناجحة والفاشلة على حد سواء.

وعلى هذ الاساس سيترتب ان يكون للماضي والحاضر دورا في المستقبل وسيكون هذا المستقبل ماضيا في زمن ما ليتراكم مع سجل الماضي السابق، وهكذا! أي ان الناس، حتى ولو بشكل عفوي وغير محسوب يميلون الى التنبؤ بما سيكون المستقبل لقضية ما. وبالطبع لايعني ذلك ان التنبؤ سيكون خاليا من الاخطاء او انه لايتحقق بالمرة، لكن تلك الاخطاء أو ذلك الفشل سيكوّن درسا يستفيدون منه في صياغة التنبؤ الافضل، والذي سيقترب بمرور الزمن اكثر واكثر من نقطة الهدف. قد يحدث ذلك مثلا حول شحة الانتاج الزراعي وارتفاع اسعار المنتجات الزراعية في المستقبل القريب بموجب توقعاتنا العقلانية المبنية على ظروف الطقس التي نشهدها أو الاضطرابات السياسية و ما شاكل! وقد يترتب على ذلك ارتفاع معدلات التضخم وتحرك الحكومة نحو رفع معدلات اسعار الفائدة لكبح جماح التضخم، وما يعقب ذلك من زيادة في كلف الاستثمار وتقليص الانتاج وتسريح العمال وارتفاع معدلات البطالة. أي نقص كبير في حجم الدخول وحجم الانفاق والسير بالاقتصاد نحو الانكماش والكساد.

وبناء على ماتقدم، فان هذه النظرية تزعم ان متغيرات الاقتصاد الكلي الكبرى ونتائجها وعواقبها الاقتصادية والاجتماعية يمكن ان تُستنتج من خلال التوقعات، سواء كانت توقعات العامة ام توقعات الحكومة. فمثلا اذا كان المستهلكون عموما قد توقعوا بأن الكساد الاقتصادي قادم، فانهم سيميلون طبيعيا الى زيادة الادخارات عن طريق تقليل الاستهلاك والاستثمار! هذا التقليل، اذا استمر لمدة معينة، سيكون سببا حقيقيا ملموسا لحلول حالة الكساد. وبعد ذلك سنقول ان الناس حصلوا على ما توقعوا ان يحدث. أي ان نبوئتهم قد تحققت.

في بحثه المذكور اعلاه، أكد لوكـَسْ ان التوقعات تقوم بتحييد الدور الذي يلعبه عرض النقود اذا ما شاءت سياسة البنك الاحتياطي تغييرعرض النقود لاهداف اقتصادية، حيث سيقوم الناس بتكييف توقعاتهم من اجل ان تلائم مدى التغيير في عرض النقود، مما يبطل دوره المرجو! وبذلك سوف لن تترك السياسة النقدية أي اثر على حجم الانتاج وحالة الاجور والاسعار والعمالة. ومن هنا ينبغي لصاغة السياسة النقدية وصناع القرار ان يأخذوا بنظر الاعتبار ما يضمره المستهلكون من توقعات عقلانية من أجل ان تكون السياسة النقدية اكثر مصداقية والاقتصاد اكثر توازنا واستقرارا.

ان فكرة التوقعات العقلانية ليست جديدة. فقد تعود الى عهد الاقتصاديين الرواد مثل پيگو وكـَينز وهِكس الذين تضمنت بعض دراساتهم اشارات لتأثير توقعات الافراد والمؤسسات على حالات الدورة الاقتصادية وبالتالي على مستقبل الاقتصاد. فقد اطلق كـَينز على مثل هذه التوقعات اسم "موجات التفاؤل والتشاؤم" التي تلم بالمستهلكين احيانا وتؤثر على مسيرة الاقتصاد. وحديثا فقد سبق جون مووث John Muth لوكـَسْ بعشر سنين أو أكثر. حيث ناقش التوقعات العقلانية، بهذا الاسم، في دراسته الموسومة "التوقعات العقلانية و نظرية حركة الاسعار" المنشورة في مجلة ايكونوميتركا Econometrica عام 1961. ولكن كان على هذا المفهوم ان ينتظر لما جاء به روبرت لوكـَسْ من توسيع وتطوير ودفع للمفهوم الجديد عبر القنوات الاكاديمية والاعلانية.

تذكر بعض الادبيات الاقتصادية تحليلا مفاده ان ما قاله الرئيس الامريكي ابراهام لنكن حول "انك تستطيع ان تخدع بعض الناس طيلة الوقت، وكل الناس لبعض الوقت، لكنك لا تستطيع ان تخدع كل الناس لكل الوقت" ينطوي على تطبيق جميل غير مباشر لفكرة التوقعات العقلانية التي تشير الى ان الخادع والمخدوع قد يخطئون في تقديراتهم احيانا لكنهم سوف لن يقعوا في نفس الاخطاء مرارا وتكرارا ذلك ان اي شخص قادر على ان يتوقع عقلانيا يستطيع ان يتجنب الاخطاء السابقة ويتمكن من عبور الحواجز التي اعاقته في الماضي ويمضي الى نتائج افضل من السابق. وهذا هو الدرس الانساني الاساسي في التعلم من اخطاء الماضي.

- متناقضة أو لغز لوكـَسْ Lucas Paradox or Lucas Puzzle

من المعروف ان البلدان الفقيرة والنامية تتميز بندرة رأس المال الاقتصادي قياسا بتوفر العمل المأجور، الامر الذي يعني انخفاض معدل رأس المال للعامل الواحد Capital per worker. وهذا ما يتيح المجال لأن يكون عائد الاستثمار في رأس المال اكبر مما هو عليه في البلدان المتقدمة التي لا تعاني من شحة في رأس المال. وبهذا سيكون من المفترض ان يرحب المستثمرون في البلدان المتقدمة بمثل هذه الفرصة ويكونوا مستعدين ان يستثمروا رؤوس اموالهم في البلدان الفقيرة والنامية التي ستدر عليهم عوائدا عالية، وفي نفس الوقت تسد حاجات اساسية كثيرة في تلك البلدان وتسهم في تطوير اقتصاداتها. لكن هذا لم يحدث في الغالب، وهذا ما لاحظه لوكـَسْ في بحثه الموسوم "لماذا لا يتدفق رأس المال من البلدان الغنية الى البلدان الفقيرة" المنشور في American Economic Review عام 1990، مما قاد الى تسمية هذه الظاهرة العامة بمتناقضة أو لغز لوكـَسْ.

على ان التبريرات التقليدية لهذه الظاهرة الشائعة في الادب الاقتصادي يدور حول اسباب معروفة من قبيل قلق وعدم ثقة رأس المال الاجنبي في البلدان الفقيرة والنامية التي غالبا ما تتصف بعدم استقرار انظمتها السياسية، وشيوع الاضطرابات، وتعرض الحكومات الى الانقلابات العسكرية، واخضاع الاقتصاد الى اجراءات التأمين والحجز، ووضع العراقيل القانونية بوجه المستثمرين الاجانب واحيانا تعرضهم الى اخطار الاختطاف والابتزاز. وقد تكون هناك اسباب اخرى حقيقية كتخلف التكنولوجيا، وندرة بعض عناصر الانتاج كمهارة العمال والكادر الوسطي، وصعوبات هيكلية في الانتاج والادارة وعدم كفاءة البنى التحتية، مما يثقل من كاهل المستثمرين ويزيد من كلف الانتاج ويعقد الاجراءات ويجعل بالتالي تحصيل العوائد المرجوة مستبعدا.

- نقد لوكـَسْ Lucas Critique

في 1976 قدم لوكـَسْ بحثا بعنوان "نقد التقديرات القياسية للسياسة الاقتصادية" الى المؤتمر الذي انعقد في معهد كارنيگي ونشر في الجزء الاول من كتاب وقائع المؤتمر، ص 19-46.

كان لهذا البحث صدىً واسعا في اوساط الاقتصاد والسياسة الاقتصادية لانه اثار مسألة مهمة تتعلق بصحة التقديرات القياسية التي احتسبت علاقات المتغيرات الاقتصادية الاساسية. فقد بيّن لوكـَسْ ان التقديرات لم تكن متحصنة ضد التغير الذي غالبا ما يطرأ على السياسة وتوجهاتها، وخاصة السياسة النقدية والمالية التي تتغير بتغير الحكومات والهيئات الرسمية لصنع القرار. وهذا مايجعل تلك التقديرات غير ذات معنى وغير عملية اذا ما اردنا استخدامها في التنبؤ الاقتصادي وهو احد اغراضها الرئيسية. فعلى سبيل المثال، لو كان النموذج القياسي المحسوب في الاقتصاد الكلي يشير الى ان كل ارتفاع في معدلات التضخم بنسبة 1% سيؤدي الى انخفاض في معدلات البطالة قدره 2%، بموجب منحنى فيلبس، فاننا لانستطيع ان نستعمل مثل هذه العلاقة بين المتغيرين في التنبؤ للفترات القادمة، ذلك ان الافراد والشركات والسياسة والتوجهات ستتغير ولن تبقى على ما كانت عليه في االمعادلات التطبيقية اثناء وضع النموذج القياسي واكمال تحليله وتفسيره.

من الجدير بالذكر هنا هو ان هذه الفكرة ليست جديدة تماما في وقت اشتغال لوكـَسْ عليها. فقد كانت قد ذُكرت لاول مرة حوالي اربعين عاما قبل لوكـَسْ من قبل Frisch عام 1938، وكذلك اعيد ذكرها من قبل Haavelmo عام 1944. كما وردت باسماء مختلفة مثل قانون كامپل Campbell’s Law وقانون گودهارت .Goodhart’s Law .  إلا ان لوكـَسْ، وكما فعل في دراساته الاخرى، أخذ الفكرة الاساسية ووسعها وطورها واوضح نتائجها فاصبحت بإسمه.

- إجراء لوكـَسْ Lucas Wedge

كان لوكـَسْ قد قدم إجراءً لحساب الخسارة او الضياع المحتمل في الناتج المحلي الاجمالي GDP الناشئ عن اتباع سياسة اقتصادية غير فعالة والتي قد تسبب تباطؤ في معدلات النمو الاقتصادي، والتي لولا عدم كفاءة صناع القرار لكان بالامكان توفير مبالغ طائلة لتمويل مشاريع وطنية عادة مايكون البلد في امس الحاجة لها. قد يتصدر هذه المشاريع الاستثمار في تطوير التكنولوجيا وتحديث التعليم والصحة ومعالجة المشاكل البيئية وحل الاختناقات في البنى التحتية وما شاكل.

- نموذج لوكـَسْ - أوزاوا Lucas- Uzawa Model

وهو نموذج رياضي خاص بالنمو الاقتصادي على المدى البعيد كنتيجة لاستثمار التراكم في رأس المال البشري. وقد طوره لوكـَسْ بالاعتماد على الصياغة الاولية له من قبل احد اساتذته في جامعة شيكاغو وهو البروفسور هيروفومي أوزاوا. وقد وسع لوكـَسْ النموذج النظري والتطبيقي ليشمل تراكم رأس المال البشري مع رأس المال المادي. وقد احتسب التراكم العام مساويا لنسبة رأس المال المادي الى رأس المال البشري، وليس حاصل جمع الاثنين.

في مساهمات نظرية اخرى متفرقة، قام لوكـَسْ بما يلي:

- حقق وطور وصاغ براهين رياضية لنظرية فريدمن وفيلبس ومنحنى فيلبس، ووضح وفسر عامل الارتباط الذي افرزته الموديلات التطبيقية بين الناتج والتضخم. ومنحنى فيلبس Phillips Curve يفترض العلاقة العكسية بين التضخم والبطالة. حيث ان النمو والازدهار في النشاط الاقتصادي سترافقه زيادة في الاسعار، وكذلك زيادة في الاجور باعتبارها احد الاسعار، اي بمعنى آخر ارتفاع في معدلات التضخم، التي تعني فتح الابواب امام الوظائف والتوزيع الاكثر للدخول مما يعني تقليص حجم البطالة. فاذا ارتفعت الاسعار والاجور نتيجة لزيادة عرض النقود الذي تقرره السياسة النقدية سيتوهم العمال بأن اجورهم قد زادت فعليا فيسارعوا الى قبول اغلب الوظائف المتوفرة مما يعطي انطباعا خادعا بأن البطالة قد تقلصت او انتهت. يقول لوكـَسْ لو استعرنا فرضية المستهلك العقلاني من الاقتصاد الجزئي وطبقناها في الاقتصاد الكلي على عموم المستهلكين وفرضنا انهم وبحكم عقلانيتهم الجمعية سيتوقعون حصول التكنيك الخادع الذي قد ينتهجه صناع القرار فيدركون ان النتيجة الاكيدة لسياسة رفع عرض النقود هي ارتفاع معدلات التضخم، وليس بالضرورة تقليص البطالة.

لكن العلاقة العكسية بين التضخم والبطالة لم تتحقق عمليا خلال السبعينات من القرن الماضي كما صاغها فيليبس! وذلك بسبب شيوع الظاهرة الغريبة التي سميت الانكماش التضخمي Stagflation التي اظهرت زيادة في معدلات التضخم جنبا الى جنب مع ارتفاع في معدلات البطالة.

- انتقد نموذج الاقتصاد الكلي الكينزي وكشف ان له وجهان:

1. الوجه الاول هو الذي يعتبر الاقتصاد الكلي مجرد امتداد وتوسع في الحجم والقياس للاقتصاد الجزئي، ولكن في هذه الحالة يكون الهيكل النظري للاقتصاد الكلي غير قادر على التنبؤ الاقتصادي.

2. الوجه الثاني هو ما سمي بالاقتصاد الكلي القياسي Macroeconometrics القادر على تقدير عوامل المتغيرات الاقتصادية وصياغة المعادلات التطبيقية التي تستخدم في التنبؤ الاقتصادي. لكن هذا الوجه ليس له علاقة وثيقة بالنظرية الاقتصادية الجزئية، ويكاد ان يكون منفصلا عنها رغم انها مركز ثقل النظرية الاقتصادية عموما. ولهذا اقترح لوكـَسْ ان يكون الاقتصاد الكلي متكونا من الارتباط الجمعي لنماذج الاقتصاد الجزئي المتعددة في النظام الاقتصادي الواحد. وهذه الافكار اصبحت جزءً من التبريرات التي مهدت لظهور ما سمي بالنظرية الكلاسيكية الجديدة.

- اشترك مع زميله الاقتصادي پول رومر Paul Romer  في تطوير نظرية النمو الاقتصادي الداخلي Endogenous Growth Theory التي تزعم ان النمو الاقتصادي يحدث بتأثير عوامل من داخل النظام الاقتصادي وليس من خارجه كما كان يُعتقد. وتتمثل هذه العوامل الداخلية بتراكم رأس المال البشري المتجسد بزيادة خزين المعارف والمهارات والتطوير في مستويات التعليم والتدريب واتباع الطرق التكنولوجية في الانتاج والاستخدام والتوزيع واستغلال المصادر المحلية والاستفادة من فوائض الاقتصاد الجانبية Externalities and Spillovers

- كسر الحد الفاصل القائم بين نظرية التنمية الاقتصادية المرتبطة بالبلدان المتقدمة وتلك المرتبطة بالبلدان الفقيرة والنامية. وأكد في بحثه المعنون " حول ميكانيكية نظرية التنمية الاقتصادية" المنشور في مجلة الاقتصاد النقدي عام 1988، ينبغي ان لايكون هناك اي حد فاصل بين المنهجين طالما ان المبادئ النظرية هي نفسها في الحالتين.

- دعا الى تطوير البحوث التطبيقية الجادة لتوثيق نتائج وآثار النظريات الاقتصادية. أي ليس فقط الاكتفاء بحساب العوامل والمؤشرات، انما بالتحقيق والمراجعة والاختبار والتعديل. وكذلك الاهتمام بالتأثير المتبادل بين السياسات الاقتصادية ونتائجها وآثارها العملية على ارض الواقع، مما قد يحتم ليس فقط تطوير السياسات ووضعها على الطريق القويم، انما ايضا تعديل النظرية وجعل تطبيقاتها اكثر قربا الى الواقع العملي.

- دعا الى الغاء الضريبة المفروضة على كل انواع الدخل المتعلق بالاستثمار في رأس المال. أي كل الفوائد والعوائد المتأتية جراء نمو وبيع وشراء الموجودات. يعتقد ان مثل هذا الالغاء سيسارع من تنمية رأس المال، وفي حساباته العملية وجد ان الغاء هذه الضرائب في الاقتصاد الامريكي سيزيد من موجودات رأس المال US Capital Stock بنسبة 35%.

واخيرا، نذكر القصة الطريفة التي ربطت بين طلاق لوكـَسْ لزوجته ونظرية التوقعات العقلانية:

تزوج روبرت زميلته ريتا كَوِن في ايام الدراسة في شيكاغو، وانفصل عنها عام 1981 ثم طلقها عام 1989. كانت زوجته قد كلفت محاميها ان يضيف شرطا لتوقيع اوراق الطلاق النهائية، وهو ان على روبرت ان يناصفها مبلغ جائزة نوبل، اذا فاز بها خلال فترة ست سنوات من توقيع الاوراق، تنتهي في 31 اكتوبر 1995! وتشاء الاقدار ان يفوز بالجائزة فعلا في 10 اكتوبر 1995، اي ثلاثة اسابيع فقط قبل بطلان الشرط. وهكذا استلمت طليقته نصف الجائزة البالغة مليون دولار. وقد علق اكثر زملائه حول زوجته التي اجادت في توقعاتها العقلانية افضل مما فعل هو.

توفي روبرت لوكـَسْ في 15 مايس 2023 عن 86 عاما.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

انتونيو انريكث كومث، والذي يعرف أيضا باسم بفرناندو دي ثارارت أي كاسترونوفو (ولد في عام 1601 او 1602 في كونكا الاسبانية، وتوفى في اشبيلية عام 1663). كان في العصر الذهبي كاتبا مسرحيا، وقاصا وشاعرا غنائيا اسبانيا معروفا. أدين من قبل محاكم التفتيش باليهودية المشفرة. وقد عده كثير من النقاد والكتاب بسبب اقامته في فرنسا، وعدة أمور في حياته واعماله، عدوه من (السفارديم) أي اليهود المقيمين في اسبانيا (الذين يحافظون على اللغة والتقاليد الخاصة بأجدادهم عندما طردوا من الجزيرة اللأيبرية، والذي يوافق ويتبع تقاليدهم وممارساتهم الدينية).

انريكث كوميث كان يعد يهودياً متحولاً الى الديانة المسيحية  حسب العقيدة الاجتماعية للعصر، غير مبال ان القانون اليهودي يعتبرهم يهود أبناء الام اليهودية. والدته كرستينا فيخا، كانت من قرية الكانتود قريبه من بريغو في اشبيليه. والده ديغو انريكث فيانويفا (1582-1642)، ذا اصل من كينتنار دي لااوردن في لامانشا، ينحدر من الانساب القليلة المتحوله من أصول قشتالية الذي عاش في اخر ربع من القرن السادس عشر التي مازالت مجرد يهوديه مشفره (ذات التسمية القذره) منذ 1588 القت محاكم التفتيش القبض على جميع افراد عائلته بين المبحوث عنهم كان الجد والد ابيه فرانثيسكو دي مورا مولينا، اعدم واحرق في كونكا سنة 1592، جدته ليونور انريكيث، محكومة بالسجن الى سنة 1600، وفيما بعد والده حكم عليه بمصادرة جميع ممتلكاته سنة 1624.

تخصص مثل ابوه انريكث كومث بتصدير الصوف والملابس من قشتاله الى فرنسا، وقد تلقى شيئاً من ثقافة التجارة . عندما كان انتونيو شاباً مكث مع عمه في بيته باشبيليه، وعندما اكتشفت يهوديته من قبل محاكم التفتيش هرب الى بورديوس، اصبح انتونيو ممثلا له في مدريد لسوق البضائع لمواد فرنسا. وقبل سنة في 1618. وكان قد تزوج بمسيحية كبيره في السن من مقاطعة بركوس تدعى ايسابيل الونسو باسورتو وانجب منها ثلاثة أولاد وهم كاتالينا، وديغو، وليونور. واستقر في مدريد، وارتاد دائرة الاديب لوبه دي فيكا، الذى اطلق عليه معجبا به " آدم الكوميديا" وقال:

في وقتنا، تاركين على جنب آدم الكوميديا لوبه، وجد الكثير من الشعراء. دون انتونيو دي مندوثا، خوان بيرث دي مونتلبان، ودون بدرو كالديرون، وكودينث، ولويس فليث.

منذ 1632 بدأ بكتابة مقاطع كوميديا الحظائر. بعضها وجدت صدى جيداً وصفق لها، لا سيما للكردينال دي البورنوث وهو لفرنان مندث بينتو، حول المغامر المشهور، المستكشف والمؤرخ البرتغالي وهو اول غربي وصل الى الصين، وترجمت اخباره ترجمة الى الاسبانية في 1620 من قبل فرانثيسكو أرَرا مالدونادو.

في سنة 1636 رحل الى فرنسا بسبب محاكم التفتيش الذي أعدته من المشكوك بهم، وأيضا بسبب افترئه على الكوند (دوق اوليفارس) في عمله الخيالي اللوسيانسكي القرن الفيثاغورسي، ومهاجمته في محتوى كردينال اسبانيا الكبير. وفي الحقيقة كانت له تجاره مع شبكات اوربيه يهوديه برتغاليه.

انريكث كان يخشى ان يكون ضمن الاضطهاد التحقيقي ضد شركائه، مما اضطر ان يلجأ في صيف 1636 الى بيت عمه في بردوس. وفي فرنسا الف عدة اعمال أدبية. وقيل عدة مرات كان انريكث لزمن ليس بقليل بين أعضاء يهود أمستردام، حيث كان المسرح الاسباني شعبياً جدا.

في عام 1642 اتحد مع ابن عمه في الاعمال التجارية بين فرنسا واسبانيا واداروا التهريب وكلا البلدين كانا حينذاك في حرب، افادهم بالتظليل تاجر مسيحي كبير بالسن في مدريد الذي كان زوج الابنه الكبرى لانريكث كاتالينا. بهذه الطريقة استطاع أبناء العم توسيع تجارتهم مع أمريكا اللاتينية والبرازيل، فضلا عن فرنسا، والبرتغال وامستردام.

لكن انتونيو انريكث كومث كان يشعر انه اسير الحنين المصيري متعذر عليه الرجوع الى اسبانيا وتقوية شرفه ومجده الادبي، الذي سيكلفه حياته. في أواخر 1649، قرر أولاد عم انريكث  الاحتيال على نفقات المرتبطين الفرنسين واليهود. وتركوا عوائلهم ورجعوا الى اسبانيا وبدؤوا حياة جديده بأسامي مزوره. ومكث في البداية في غرناطة وفي سنة 1651 انتقل الى اشبيلية، حيث عاش تحت هوية رجل نبيل سيد فرناندو دي ثراتَ، وبسريه اقام مع شابه من غرناطة اسمها ماريا فليبا دي اوثس، وكتب وعرض اعمالاً كوميدية تحت اسمه المستعار. وخلال اثنى عشر سنة استطاع الهروب بهذه الهوية من رقابة محاكم  التفتيش. وفي النهاية في 21 سبتمبر 1661 استطاعت قوات اوفيثيو المقدس تشخيصه ومفاجأته في بيته، بعد ان اعترف بهويته الحقيقية وانه يهودي سري خلال المنفى في فرنسا، وتوفى انريكث كومث في السجن سنة 1665، واعترافاته أودت بابن عمه في السجن. في عمل للكاتب مايكل ماكجاها أوضح ان انتونيو انريكث استطاع ان يمتلك اسماً مزوراً ثالثاً وهو كاتب المسرح فرانثيسكو دي فيكاس.

كان انريكث كومث  في مدريد بارعاً في العقيدة اليهودية، لكن فقط في القناعة وبدون ان يتجرأ فعل أي ممارسة دينية غير كاثوليكيه. في بيت عمه في بردوس كانت تمارس طقوس وصلاة الديانة اليهودية. وفي اخر ثلاث سنين لم يعد يمارس الطقوس الدينية الكاثوليكية واتجه الى الديانة اليهودية في منزله العائلي، وكتب اعماله السرية في الدفاع عن الديانة اليهودية. وبعد عودته الى اسبانيا، رجع الى متابعة اليهودية في قلبه فقط. بعض النقاد تقبلوا فكرة انضمام انريكث كومث بشكل سري الى اليهودية خلال مدة معينه من حياته، فوجدوا سبباً مهماً،  وهو البحث عن ادراجه في الشبكات الاقتصادية اليهودية البرتغالية.

ولكونه تاجر كان قد تعلم الآداب بشكل تلقائي، واعتبر شاعراً ذا شعر بسيط "شاعر الطبيعة". جزء من اعماله الشعرية الغنائية ذات موضوعات عاطفيه، واخلاقية ودينية من الكتاب المقدس، جمعت في الأكاديميات الأخلاقية الفكرية  (برديوس، 1642)، التي تحتوي على اربعة اعمال مسرحية، في كثير من قصائده يبرز بقوة موضوع المنفى والشوق الى البيت القديم.

اما أعمال المسرحية الكوميدية أنتج انريكث كومث بين عامي 1632-1636عدة مسرحيات للمسرح المدريدي ووصل الى نيل شهرة كبيره، في 1635 شارك أيضا في شعر يرثي لوبي دي فيكا المتوفى قبل أيام. ينتمي الى مدرسة بدرو كالدرون دي لا باركا كونه كاتب مسرح. في 1649 معددا عنوانات اعماله المسرحية التي كتبها في ذلك الحين، قال: "كانت مؤلفاتي المسرحية واحداً وعشرين" ومعظمها تتناول مواضيع تاريخية ومؤامرات جديدة. في الجزأين لعملة فرنان مندث بينتو يروي مغامرات المكتشف البرتغالي في الصين. رجع الى نشاطاته المسرحية في عام 1651-1660. الثلاثون عملاً الذي وقعها باسمه الاسباني المستعار دون فرنانندو دي ثارات، كان جزء كبير منها سرقة علمية معادة في الصياغة لأعمال كتاب اخرين. كثير من اعماله في تلك الفترة تعالج اساطير لمقدسين، بينما في مسرحه السابق المواضيع المسيحية كانت غائبه تقريبا. في عمله المديح السري للكواكب السبعة وهو عمل على خطى الشهير كالدرون دي لاباركا بشكل كامل وعرض في اشبيليه عام 1659؛ يقدم فيه كيف ان الانسان على الرغم من المزايا التي تقدم له على الكواكب يفقد النعمة ويسترجعها بعد الاعتراف بخطاياه. النقد الادبي في القرن التاسع عشر حكم على هذا العمل بانه متفوق على مسرحياته الكوميديه واستبعد احتمالية انها كتبت من قبل الكاتب نفسه.

من اعماله الروائية الأكثر قراءة قرن الفيثاغورس، وحياة دون غريغوريو غواداني مكونه من قسمين بالشعر والنثر تروي كل منها حياة مختلفة لروح تناسخ جسد بآخر.  وقصتين أخرتين تنتمي الى الجنس نفسه ذات الرمز الأخلاقي مع العناصر الهجائية الأخلاقية. كتب عمله ذنب المهاجر الأول بالشعر تماما بينما عمله برج بابل يخلط النثر بمختلف أنواع الشعر. كلا العملين يرويان مصائب رجل اسمه أدام او المهاجر في منتصف حضارة انسانيه منحرفه التي تصور حضارة اجتماعية متحضرة في مدريد.

بعد قراءة هذا المقال نستخلص ان اليهود يكذبون كثيرا، وينتحلون صفات غير حقيقة، وليس لهم وطن ثابت؛ لذلك مازال تمسكهم بأرض العرب (فلسطين) بالاضطهاد والمعارك الإرهابية، والمجازر اليهودية ضد الأبرياء في البلد العربي (بيت المقدس).

***

ترجمة واعداد: ا.م. لقاء محمد بشير حسن

جامعة بغداد/كلية اللغات/قسم اللغة الاسبانية

صديقي الشاعر معمّر الماجري هو ثالث الثلاثة من الأصدقاء المتيّمين بمحبّة مدينة حمام الأنف مع الأديب جلال المخ والشاعر عبد الحكيم زريّر هذه الضاحية التي كتب عنها ـ بالإضافة إليهم ـ عديد الأدباء من بينهم علي الدوعاجي في إحدى قصصه والشاعر مصطفى خريّف في قصيده ـ بين جبل وبحر ـ وذكرها الأديب عزالدين المدني عند سرد ذكريات طفولته عندما لجأ إليها مع عائلته إبّان الحرب العالمية الثانية التي كتب عن إحدى وقائعها في مدينة حمام الأنف الشاعر مصطفى المؤدب وللشاعر عبد الرحمان الكبلوطي قصيدة فيها أيضا وقد ذكرها كذلك الأديب ميخائيل نعيمة في إحدى رسائله على إثر زيارته لتونس سنة 1961.

ــ 2 ـــ

دعاني الصديق الشاعر معمّر الماجري في يوم رائق معتدل بعد أيام قرّ شديد إلى زيارة هذه الضاحية فكانت مناسبة لزيارة قبر جدّي رحمه الله في المقبرة القديمة ثم صعدنا الهُوينا عبر دروب جبل بوقرنين حيث كان صديقي يحدّثني بحنين عن ذكريات طفولته في محتلف الأحياء والشّعاب فكان ـ سي معمّر ـ محلّ ترحاب حيث ما مررنا أو جلسنا كيف لا وهو الذي عاشر مختلف أصناف أناسها جيلا بعد جيل عن قرب وعلى مدى سنوات فعرفهم وعرفوه في عديد الظروف وله معهم حكايات طريفة وعجيبة أحيانا.

يوم كأنه من أيام الرّبيع ظفرنا به في عزّ أيام الشتاء الباردة والممطرة فلاحت الأشجار خضراء يانعة لامعة بقطرات المطر المتبقّية على أوراقها تحت الشمس الدافئة فكان كلما مررنا بشجرة ذكر لي اِسمها وخصائصها وأوجه الاِستفادة منها لكأنه خبير بها.. كيف لا وقد كانت هذه الفجاج والشعاب والأودية مسرحا لألعاب طفولته مع أتراب حيّه بين كرّ وفرّ وبين سهر وسمر.3278 جبل بوقرنين تونس

عندما بلغنا منبسطا من إحدى الشعاب توقف وحدثني أن هذا المنبسط كان في السنين الخوالي منتزها في فصل الربيع لعائلات ـ حيّ الملاسين ـ فترى الجميع في سرور وحبور مجتمعين حلقات حلقات طاعمين مع بعضهم شاربين كؤوس الشاي والأطفال في لهوهم وألعابهم بين الأشجار فرحون فيا لها من ذكريات ممتعة اِسترجعها بحنين صديقي الذي كلّما مررنا بأحدٍ أو جماعةٍ توقّف ليسلّم عليهم فيستقبلونه بحرارة ومودة وتقدير إذْ عاد إليهم بعد غياب مثلما عاد إلى مرابع طفولته في وهاد جبل بوقرنين الذي يعرفه شجرة شجرة ونبتة نبتة من العرعار والكالتوس بالإضافة إلى الصّنوبر الذي كان يقطف منه حبّات الزّقوقو.

ــ 3 ــ

كم حدّثني صديقي عن ولعه بجمع باقات زهرة السّكلمان ـ بخور مريم ـ الجميلة والنادرة الوجود والتي يختصّ بها جبل بوقرنين وكان يشير من حين لأخر إلى أصناف عديدة أخرى كالإكليل والزعتر والصبّار وإلى نبتة (صبّاط الغول) التي كان يلُفّ بها باقة السّكلمان لتحفظها وتزيدها جمالا.

ومن النباتات الجبلية الأخرى التي أرانيها صديقي نبتة القيز وأعلمني أنّ نبتة البُصّيلة هي غذاء للخنزير يستخرجها من تحت الأرض وقد صادفتنا يومئذ آثار سيره أمّا نبتة التّيفاف فهي طعام لذيذ للحيوانات العاشبة يشاركها الإنسان أيضا في أكلها وقد قيل في المثل الشعبيّ (آش يكفي الجمل م التّيفاف) وحين تطلّ طلائع الرّبيع بأيّامه الأولى يكتسي الجبل بحلّته المزركشة التي فيها صفرة (القْرّيسة) وحمرة الأقحوان فيلوح جبل بوقرنين بديعا للناظرين.

صعدنا رويدا رويدا حتى أشرفنا على زرقة الخليج المقابلة للاِخضرار تحت زُرقة السماء فيا لها من متعة رائقة إذ يحفّ بنا النّسيم كأنه أجنجة نرفرف بنا في خضمّ هذه الطبيعة البديعة في تونس الجميلة في كل ناحية من نواحيها حيث ما كنتَ أو اِتّجهتَ ولكنّنا لم نقدّرها حقّ قدرها مع الأسف فحينما بلغنا الربوة المطلّة على مدينة حمّام الأنف بدا لنا ـ البُرج الأخضر ـ في حالة دون ما يجب أن يكون لأنه كان في السنين الخوالي مَعلما سياحيا متميّزا أمّا عن ـ الكازينو ـ

وكذلك ـ قصر الباي ـ فحدّث عن خرابهما ولا حرج

ــ 4 ــ

لقد كان جبل بوقرنين مُلهما لبعض الشعراء والأدباء مثل الشاعر مصطفى خريّف الذي اِستقرّ بمدينة حمام الأنف مدّة من الزمن أثناء الحرب العالمية الثانية فكتب قصيدة ـ بين جبل وبحر ـ وهي في صيغة حوار بينهما وقد نشرها في ديوانه الأوّل ـ الشّعاع ـ سنة 1949 ثم أعاد نشرها في ديوانه الثاني ـ شوق وذوق ـ سنة 1965 ومنها قوله:

(الجبل)

يا بحر

أيّها الغائص في بطون الأرضين

السجين في أغوار الصخور وأكناف الرمال

يا رهين القيود والأصفاد والظلمات

ما أبعد أعماقك ! وما أبهم اِمتدادك

**

(البحر)

يا جبل

أيّها الضائع في أجواز السماوات

التائه في آفاق الفضاء الأبدية

المتحمّل أثقال السّحب وأنفاس الكواكب

يا مُنبت الصّخر والشّوك

و القتاد والجيف المتعّفنة

ما أحمق رسوخك

و ما أحقر تطاولك

ــ 5 ــ

عندما زار الأديب ميخائيل نعيمة تونس تونس سنة 1961 أرسل رسالة إلى اِبن عمّي سي الحبيب عبيد الذي كان في توديعه ذكر فيها جبل بوقرنين قائلا ـ

لكَم وددت يا صديقي الفتيّ لو كان لي أن أتحدّث إليك وإلى الكثير من الشبّان التونسيين أمثالك لا من على منبر المسرح البلدّي بل على شاطئ البحر أو في بستان من الزّيتون أو في سفح “بوقرنين” أو في أيّ مكان يطيب فيه الحديث فيجري طلقا عفويا ودونما أقل كلفة.

***

سُوف عبيد

سيفاجئ القارئ العربي لاعمال الروائي الامريكي الشهير ج. د. سالينجر خلو الطبعات الجديدة الصادرة عن دار المدى من أية صورة او تعريف بالكاتب والكتاب، فقد تعودنا  أن نقرأ خلاصة توضع في الغلاف الخلفي، وعندما سألتُ دار المدى كان جوابهم  ان هذه تعليمات دار النشر البريطانية " هاميش هاميلتون"  التي تملك حقوق اعمال سالينجر، وكالعادة دفعني الفضول للبحث عن هذا القرار الغريب، فوجدت الجواب في تقرير نشرته صحيفة الغارديان يقول أن سالينجر كان لديه بند في عقده يحدد ما يمكن أن تحتويه أغلفة هذه الكتب. حيث اصر على  ظهور عنوان الكتاب واسمه فقط في أي إصدارات مستقبلية من اعماله، وعدم ظهور أي صور على الإطلاق،"، فقد اراد سالينجر أن يؤكد:" إن الكتب تتحدث عن نفسها. إن بساطة الأغلفة تترك للقارئ حرية تخيل الشخصيات " ويقول مدير النشر في هاميش هاميلتون ان : "هناك قواعد صارمة بشأن أغلفة جي دي سالينجر. النسخة الوحيدة المسموح، هي اسم المؤلف والعنوان. لا شيء آخر على الإطلاق: " لا توجد علامات اقتباس، ولا دعاية مغالى فيها للغلاف، لا توجد سيرة ذاتية " .

عندما صدرت الطبعة الاولى من رواية " الحارس في حقل الشوفان او الجودار " عام 1951 كان الغلاف من تصميم صديقه الرسام مايكل ميتشل، كان الغلاف يستحضر مشهدا في الجزء الاخير من الرواية "  الحصان ذي اللون البرتقالي المحمر " وقد وضع الناشر صورة في ظهر الغلاف للمؤلف ونبذة عنه، مع صدور الطبعة الثالثة من الرواية طلب سالينجر من الناشر إزالة صورته من الكتب. في الطبعة التي صدرت  عام 1953  كان الغلاف يتضمن صورة  توضيحية لبطل الرواية " هولدن ". لم يكن سالينجر سعيدًا بذلك، ولم يرغب في تصوير شخصية بطل الرواية .

صباح يوم السابع والعشرين من يناير عام 2010، لم يصدق قرّاء الصحف الأمريكية الخبر الذي أعلن عن وفاة الكاتب الشهير جيروم دافيد سالينجر، صاحب الرواية الشهيرة (الحارس في حقل الشوفاناو الجودار " - ترجمها إلى العربية لأول مرة سليمان العيسى وناديا الياس في مسوّدة لم تظهر مطبوعة في سوريا لأسباب رقابية، وكان ذلك في منتصف ستينيات القرن المنصرم وتحت عنوان (حارس الشيلم). ثم ظهرت مطبوعة عام 1981 بترجمة الروائي الأردني الراحل غالب هلسا بالعنوان المعروف حالياً -، فالجميع كان يعتقد أن سالينجر قد مات منذ عقود، حيث أن أخباره انقطعت، ولم ينشر شيئاً منذ سنوات طويلة، ولم يكن أحد ليصدق أن الكاتب الشهير أصر على أن يعيش في عزلة لأكثر من خمسين سنة، في واحدة من غابات شمال أمريكا. كان قد بلغ الحادية والتسعين من العمر، يتمتع بصحة جيدة برغم معاناته من كسر تعرّض له في الفخذ الأيمن، واصل هوايته اليومية السير لمسافات طويلة داخل الغابات، عندما انتشر خبر الوفاة تذكرت الصحافة هذا الكاتب، الوسيم والخجول والذي كان يتهرب من الصحافة، فيما أعادت الصحيفة نشر صورته بالملابس العسكرية وهو يحمل أمتعته على ظهره، والتي كان من بينها آلته الكاتبة مع غلاف روايته الشهيرة (الحارس في حقل الشوفان)، الرواية التي صدرت عام 1951 وأحدثت ضجة في الأوساط الأدبية، وأصبحت كتاب الشهر في أمريكا لعدة أعوام، ودفعت الشباب للتظاهر في شوارع نيويورك وهم يرددون بصوت عال: " كلنا هولدن كولفيلد" الذي هو بطل الرواية، ومنذ صدورها وحتى وفاته ظلت دور النشر تطبع ما يقارب الربع مليون نسخة سنوياً من رواية (الحارس في حقل الشوفان) حتى وصل عدد النسخ التي بيعت منها إلى أكثر من 15 مليون نسخة. وبعد تسع سنوات وفي التاسع من أبريل عام 1960، توجّه عدد من أولياء أمور الطلبة وهم يصرخون طالبين نقل مُدرِّسة الأدب لأنها قررت أن تدرّس للطلاب هذه الرواية، ناعتين الرواية ومؤلفها والمعلمة بأنها تحرض الطلبة على التمرد، ولم تكن هذه الحادثة هي الوحيدة، فقد وقعت حوادث مماثلة في كليات ومدارس أمريكية أُخرى.

وعلى مدى نصف قرن ظل سالنجر يعيش بعيداً عن ضوضاء الشهرة، في منزل ريفي، في الوقت الذي كانت فيه روايته (الحارس في حقل الشوفان) تغزو المكتبات والجامعات محدثة ثورة في عالم الرواية الجديدة، وخالقة أجيالاً من القراء الذين وجدوا في بطل الرواية (هولدن كولفيلد)، المراهق الشاب، مثالاً إنسانياً ينتصر للشخص الفرد في عالم الجماعة والأفكار المفروضة والأجوبة الجاهزة. قال سالنجر مرة في حوار صحافي قصير ونادر عام 1974: " صحيح أنني في هذا العالم، لكنني لست جزءاً منه" .

ولد جيروم ديفيد سالينجر في الأول من يناير عام 1919 في نيويورك من أب بولندي وأم اسكتلندية شديدة التدين، عمل والده في تجارة الأجبان، كانت العائلة تتمتع برخاء مالي مما سمح لها بان تستأجر شقة كبيرة في حي مانهاتن، عاش طفولة سعيدة، كانت أمه توليه اهتماماً كبيراً، ولهذا كان شديد التعلق بها «لقد عشت عبر والدتي». وهو الأمر الذي يفسر إهداء رواية الحارس في حقل الشوفان " إلى أمّي" .

في المدرسة الابتدائية أظهر سالينجر براعة في تمثيل الأدوار الكوميدية، واكتشفت الأم أن صغيرها له ميل للفن الدرامي، وفي المتوسطة تُوج بلقب الممثل الأكثر أبداعاً، لكنه لم يكن طالباً مجتهداً، وقد حصل على نتائج هزيلة، وقد كان والده يردّد متذمراً أن شيطان المسرح قد سيطر على ابنه، بعد سنتين من المدرسة الإعدادية جاءت النتائج مخيبة، فاضطر والده إلى نقله إلى مدرسة خاصة، بعدها يقرر الأب أن يسجل ابنه في الأكاديمية العسكرية، فهي وحدها التي يمكن لها أن تساعد على تنشئة شاب مثل سالنجر، ويحتفظ الأرشيف الخاص بسالينجر بصورة له يبدو فيها حليق الراس، يرتدي بدلة زرقاء، وهي صورة أقرب لصورة السجين مما هي إلى صورة الطالب، وبما أن الأجواء في المدرسة العسكرية لم تكن تسمح بممارسة التمثيل، فقد كان سالنجر يحاول التغلب على روتين المدرسة بأن يقضي وقته بالقراءة، وفي تلك الفترة يعمل محرراً أدبياً في المجلة التي تصدرها المدرسة العسكرية، حيث ينشر بعض الأشعار، وفي أحد الأعداد ينشر قصيدة بعنوان (لا تُخف دموعك) يتحدث فيها عن اليوم الأخير في المدرسة.

في العام 1936 يتخرج من المدرسة، ونجده يرفض التعيين في وظيفة عسكرية، ويحاول الأب إقناع ابنه للعمل معه في التجارة، فهي الوسيلة الأضمن التي ستكفل له مستقبلاً جيداً، أما سالنجر فكان يجد نفسه في مكان آخر، مع عالم الكتب حيث يقرر الدخول إلى الجامعة، فهو يتمنى أن يصبح كاتباً مرموقاً.. فالمسرح لا يزال يستهويه، ومكانه الحقيقي هناك، ولهذا يبدأ جولة على المسارح للحصول على عمل، لكن الأبواب كنت موصدة في وجهه آنذاك.

العام 1938 جيروم في التاسعة عشرة من عمره، شاب طويل القامة، نحيل، ذو عينين سوداوين، نادراً ما يبتسم، أرسله والده إلى كلية أورسينوس، وهي تقع في مكان ريفي، سجل في دروس الأدب الإنكليزي، وفي السنة الثانية عكف على دراسة اللغة الفرنسية، في ذلك الوقت تملكه إصرار لا يتزعزع على الكتابة، وسينشر في مجلة الكلية أولى مقالاته وكانت عبارة عن رسالة إلى والدته يسخر فيها من وضعه الخاص، ومن علاقاته بعائلته وفي الرسالة يكتب إلى والدته: " والدتي العزيزة، لقد فشلتما أنت وزوجك، في تربيتي»" .. بعدها يكتب مقالاً انطباعيا عن أرنست هيمنغواي: "لقد كان لدينا انطباع أنه منذ ستشرق الشمس أيضاً ووداعاً للسلاح، من أن أرنست لم يعمل بما فيه الكفاية»"، في المقابل نجده مغرماً بسكوت فيتزجيرالد صاحب الرواية الشهيرة غاتسبي العظيم . يكتب في إحدى رسائله: " يا الهي كم أحب هذا الرجل"، إلا أن الكاتب الذي يستولي على اهتمامه في تلك السنوات لم يكن واحداً من الروائيين الأمريكان أو الإنكليز، وإنّما كان الكاتب المسرحي الفرنسي جان جيرودو. العام 1940 ينشر أول قصة له بعنوان (مجموعة شبان)، وفي هذه السنة يرتبط بعلاقة عاطفية مع ابنة الكاتب الأمريكي الشهير أوجين أونيل، والتي ستصبح في ما بعد رابع زوجات شارلي شابلن، وقد بدأت قصة الحب عام 1941 عندما شاهدها في منزل أحد الأصدقاء حيث وصفها بالفاتنة، إلا أن شارلي شابلن هام بها أيضاً ويعترف في مذكراته – نشرتها المدى بعنوان سالينجر في حياته الحميمة ترجمة زياد خاشوف - أن قلبه اضطرب فرحاً عندما شاهدها للمرة الأولى، كانت أونا أونيل قد بلغت الثامنة عشرة من عمرها وسترتبط بشابلن في السادس من يونيو عام 1934، وعندما شاهد سالينجر صورة منشورة في أحد الصحف لشابلن وهو يضع خاتم الزواج في إصبع أونيل، كتب على الصورة كلمة " يا للعار" . ولم يجد من ملجأ لمحنته العاطفية سوى القراءة، أعاد قراءة (آنا كارنينا) لتولستوي التي كان يعتبرها " أجمل رواية كُتبت على الإطلاق"، وتعلق برواية ستندال (الأحمر والأسود)، كان يعتبر تولستوي أكثر قدرة من دوستويفسكي على سبر بواطن طباع الشخصيات.

 خدم جيروم سالينجر في فرقة للمشاة وشارك في الحرب العالمية الثانية، لكن يبدو أن تجربة الحرب لم تترك تأثيراً كبيراً عليه، حيث كان يعتقد أن حياة السلم لا تقل أهمية وخطورة عن حياة الحرب، لأنّ مصير الإنسان يتقرر بطريقة حتمية بصرف النظر عن السلم أو الحرب.

عام 1946 يعود إلى نيويورك، بعد أن انهى خدمته العسكرية، كان خلالها قد تزوج من طبيبة أوربية، لم يستمر الزواج طويلاً، استمر في كتابة وتنقيح روايته (الحارس في حقل الشوفان/ الجودار )، وبعد الانتهاء منها لم يجد ناشراً لها، وكان أصحاب دولار النشر يسخرون منه ويصفونه بالجنون، فمن يقرأ رواية عن تصرفات فتى مراهق أمضى عشر سنوات في كتابة الرواية، اختار لها عنوان من جملة يقولها بطل الرواية من أنه مستعد لأن يصبح حارساً لحقل من أجل حراسة الأطفال من أي أذى، في النهاية وجد ناشراً جازف بطبع خمسمئة نسخة، لكنها باعت بعد ثلاثة أعوام خمسة ملايين نسخة، ودخلت المناهج الدراسية في أمريكا.

عام 1955 تزوج من فتاة إنكليزية وانتقل معها إلى بيت ريفي، وكانت حجته للانتقال شكواه من الجيران والضيوف. يكتب: " إن أعدى أعداء الكاتب، هم زملاؤه وضيوفه" . يواصل كتابة القصص القصرة التي تنشرها كبريات الصحف، وخلال الخمسين عاماً الأخيرة من حياته رفض مواجهة الجمهور وكان نادراً ما يدلي باحاديث للصحافة: «كل ما عندي، أودعه قصصي وكتاباتي، ولذلك لا أرى فائدة من الحديث الشخصي عنه"، نشر مجموعة قصصية بعنوان (المصيدة) عام 1952 وتسع قصص عام 1953 ومجموعة أخرى عام 1961.. كان مُقلّاً في النشر ويعتقد أن عدم النشر يعني سلاماً روحياً، فهو يحب أن يكتب لنفسه وان يتمتع وحده بما يكتب، يقول في حوار أجري معه قبل وفاته بأشهر: " ألم يكن ستندال يترفع على النشر، وكان يخبئ أوراق الأحمر والأسود عن عيون معارفه، إنها حياته الثانية وأسراره الشخصية التي يجب أن لا يعرفها أحد" ».

 في سنواته الأخيرة اهتم سالينجر بالفلسفة الهندية والصينية، وحين ابتعد عن العالم، كانت كتب البوذية تحيطه من كل جانب، وقد اعتبر الكتابة عملاً روحياً وليس فكرياً، وبدأ يشمئز من الكتابات النقدية التي تناولت روايته وقصصه من الجانب الفكري فقط، وأهملت الجانب الروحي.

كان سالينجر يفكر في موضوعة (الحارس في حقل الشوفان) بعد أن نشر عام 1934 قصة قصيرة للفتيان كان بطلها اسمه (هولدن كولفيلد)، وظل يؤجل العمل حتى التحق بالجيش، كتب في إحدى رسائله إلى والدته " منشغل الآن برواية لن تكون مجرد عمل هواة" . أثناء تنقلاته العسكرية كان يحمل في حقيبته العسكرية فصولاً من الرواية، وفي مرات عديدة يطلب مراراً من سائق الشاحنة التوقف ليجلس إلى جانب الطريق ويكتب الفصول المتبقية. في باريس يلتقي بأرنست هيمنغواي الذي كان قد قرأ له بعض القصص القصيرة، وقرر أن يجري معه حوارا، قال للمراسل الحربي هيمنغواي إنه مشغول بكتابة رواية ربما تغير حياته وإنه أمضى سنوات في التخطيط لها وإن بطلها صبي مثل الديناميت، وخلال كتابته للرواية كان يقول مثلما قال فلوبير مدام بوفاري هي: " إن هولدن كولفيلد هو أنا" .

تناول في رواية (الحارس في حقل الشوفان) بضعة أيام من حياة بطلها هولدن كولفيلد البالغ من العمر ستة عشر عاماً. وتبدأ القصة عند طرد هولدن من المدرسة نهاية عام 1940 وذلك لرسوبه في الامتحانات، ومنذ البداية يسلط سالنجر الضوء على التشتت الفكري والعاطفي الذي يعيشه هولدن والصراع الداخلي الذي يهيمن على سلوكه.

كان اهتمام هولدن ينحصر في نقد سلوك زملائه والسخرية منهم، لكنه سرعان ما يمارس تلك السلوكيات بنفسه، وعلى مدار الرواية نجده يكرر على الدوام كلمات مثل النفاق والزيف والازدواجية في السلوك. يقرر هولدن مغادرة المدرسة قبل موعد العطلة بيومين بسبب خلافه الحاد مع زميل له بسبب خيبة الأخير من الموضوع الذي كلّفه بكتابته نيابة عنه.

شعر الزميل بالغضب بسبب ما كتبه هولدن عن مأساة أخيه الذي مات بسبب مرض السرطان وهو موضوع بعيد عمّا طلبه منه. على إثرها يقرر هولدن التوجه إلى نيويورك لقضاء بضعة أيام بمفرده قبل موعد عودته إلى أسرته. يتجول في المدينة ويشرب يومياً حتى الثمالة، ويلتقي بأنواع مختلفة من البشر، إلا أنه لا يرى فيهم جميعاً سوى صورة للنفاق.

يزور بلدته ونجده يشرح لأخته الصغيرة بأن دوره الجديد في الحياة يتمثل في إنقاذ الأطفال من الوقوع في الهاوية لدى جريهما في حقول الشوفان من دون أن يدركوا وصولهم لحافة الهاوية. ويتجلى المغزى من هذا الوصف إلى جانب بعض التعليقات والمواقف الأخرى بأن هولدن متمسك ببراءة الطفولة ويرفض عالم البالغين الزائف.

يذهب بعد اللقاء إلى منزل أستاذه السابق الذي ينجح في إقناعه بأن أفكاره قيّمة ومهمة إلا أنها بحاجة للعلم ليتمكن من التعبير عنها.

 نكتشف في النهاية أن سالينجر يقدم لنا عدة إشارات تدل على أن هولدن يروي أحداث الرواية من مصحة للأمراض العقلية في كاليفورنيا، ويشرح في النهاية بأنه سيذهب إلى مدرسة أخرى وهو غير متأكد من قدرته على الالتزام مجدداً، وتنتهي الرواية بقول هولدن، «لا تقل أي شيء لأي كان. فإن فعلت، فستكون النتيجة افتقادك لهؤلاء الذين تحدثت معهم" . يشكو بطل الرواية من غياب الصدق والبراءة، وهو ينكر موت شقيقه الأكبر ونراه يعطف على شقيقته والمقربين منه.

ظهرت الرواية في السادس من تموز عام 1951 في سلسلة روايات الجيب، وقد وضع الناشر على الغلاف صورة لشاب يلبس قبعة ويحمل بيده حقيبة، وكتب على الغلاف: " يمكن لهذا الكتاب غير الاعتيادي أن يصدمك، سوف يضحكك، ويمكن أن يحطم قلبك، إلا أنك لن تنساه أبداً" .

استوحى سالينجر عنوان روايته من قصيدة للشاعر روبرت برنز المتوفي عام 1796، قال فيها: "إذا التقى جسم جسماً، يعبر حقل الشوفان" . يقول بطل الرواية لشقيقته الصغيرة ابنة العاشرة إنه يتصور آلاف الأطفال يلعبون وحدهم في حقل كبير من الجودار، ويرى نفسه الكبير الوحيد بينهم، يقف قرب حافة وينقذ كل طفل يقترب منها، " هذا كل ما أفعله طوال النهار. أعمل حارساً في الجودار وكل ذلك. أعرف أن ذلك جنون، ولكن هذا الشيء الوحيد الذي أريد حقاً أن أكونه. أعرف أن ذلك جنون" .

أثّرت كتابات سالينجر على العديد من الكتاب البارزين، يكتب الناقد مايلز دونالد، أن سالينجر: " صاحب العمل الأكثر نفوذاً في النثر الإنكليزي بعد هيمنغواي"، فيما يكتب الروائي الحائز على جائزة بوليتزر، جون أبدايك، أن «"القصص القصيرة لسالينجر فتحت عيني حقاً، كيف يمكن نسج الخيال من مجموعة من الأحداث التي تبدو غير مرتبطة تقريباً، إنها دفعتني خطوة إلى الأمام"، فيما اعتبر الروائي الشهير فيليب روث أن صوت سالينجر ظلّ يتردد صداه في معظم أعماله

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

بقلم: جون فوس

خطبة نوبل أمام لجنة نوبل يوم 7 ديسمبر 2023م

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

عندما كنت في المدرسة الإعدادية، حدث ذلك دون سابق إنذار. طلب مني المعلم أن أقرأ بصوت عالٍ. وفجأة، تغلب علي خوف مفاجئ سيطر علي. كان الأمر كما لو أنني غرقت فى بحر من الخوف. وكان الأمر كذلك، نهضت وخرجت من الفصل.

لاحظت عيون الطلاب والمعلمة الواسعة تتبعني إلى خارج الفصل.

بعد ذلك حاولت شرح سلوكي الغريب بالقول إنني يجب أن أذهب إلى الحمام. ربما كنت أرى على وجوه المستمعين أنهم لم يصدقوني. وربما ظنوا أنني قد أصبت بالجنون، نعم، كنت في طريقي إلى الجنون.

استمر معى هذا الخوف من القراءة بصوت عالٍ. ومع مرور الوقت، وجدت الشجاعة لأطلب من المدرسين إعفائى من القراءة بصوت عالٍ،لأنني كنت خائفًا جدًا من ذلك، فصدقني البعض وسمحوا لي بالرحيل، واعتقد آخرون أنني كنت أعبث معهم بطريقة ما.

لقد تعلمت شيئًا مهمًا عن الناس من هذه التجربة.

وتعلمت أشياء أخرى كثيرة.

نعم، على الأرجح شيء سيسمح لي بالوقوف هنا والقراءة بصوت عالٍ للجمهور اليوم. والآن تقريبا دون أي خوف.

ماذا تعلمت؟

كان الأمر كما لو أن الخوف سلبنى لغتى، وكان عليّ أن أستعيدها، إذا جاز التعبير. وإذا تمكنت من تحقيق ذلك، فلن أتمكن من القيام بذلك وفقًا لشروط الآخرين، ولكن يمكنني أن أفعل ذلك بمفردى وبشروطي الخاصة.

بدأت بكتابة نصوصي الخاصة، قصائد صغيرة، قصص صغيرة.

ووجدت أنه عندما فعلت ذلك أعطاني الأمان، وأعطاني ما هو عكس الخوف

لقد وجدت بطريقة ما مكانًا بداخلي كان خاصًا بي فقط، ومن هذا المكان يمكنني أن أكتب ما هو خاص بي فقط.3210 جون فوس

الآن، بعد مرور حوالي خمسين عامًا، ما زلت أكتب - وما زلت أكتب من هذا المكان السري بداخلي، مكان لا أعرف عنه الكثير بصراحة سوى أنه موجود.

كتب الشاعر النرويجي أولاف هوج قصيدة يقارن فيها كتابة الشعر بالطفولة وبناء الأكواخ في الغابة، ثم الزحف إليها وإضاءة الشموع والجلوس هناك والشعور بالأمان في أمسيات الخريف المظلمة.

أعتقد أن هذه صورة جيدة أيضًا لكيفية تجربتي في الكتابة. الآن - كما كان الحال قبل خمسين عامًا.

وتعلمت المزيد، تعلمت أنه، على الأقل بالنسبة لي، هناك فرق كبير بين اللغة المنطوقة والمكتوبة، أو بين اللغة المنطوقة واللغة الأدبية.

في كثير من الأحيان تكون اللغة المنطوقة عبارة عن نقل مونولوجي لرسالة مفادها أن شيئًا ما يجب أن يكون كذلك أو هكذا، أو تكون نقلًا بلاغيًا لرسالة تريد الإقناع أو الاعتقاد. اللغة الأدبية ليست كذلك أبدًا – إنها لا تنقل، إنها المعنى ذاته وليس التواصل، ولها كيانها الخاص.

وبهذا المعنى فإن الشعر الجيد والوعظ بكل أنواعه متضادان، سواء كان الوعظ دينيا أو سياسيا أو أيا كان.

من خلال الخوف من القراءة بصوت عال، دخلت، إذا جاز التعبير، الحياة المنعزلة للكاتب - وأنا هناك منذ ذلك الحين.

لقد كتبت الكثير من النثر والدراما.

وما يميز الدراما بالطبع أنها لغة مكتوبة، حيث يكون الحوار، أو المحادثة، أو في كثير من الأحيان محاولة التحدث، وأيًا كان المونولوج الموجود، دائمًا عالم خيالي، جزء من شيء ما. غير موجود. لا ينتقل، ولكن هذا له كيانه الخاص الموجود.

وعندما يتعلق الأمر بالنثر، فإن ميخائيل باختين على حق في أن التعبير نفسه، فعل الحكاية، له صوتان.

للتبسيط قليلا: صوت من يتكلم، ومن يكتب، وصوت من يُحكى عنه. غالبًا ما تمتزج هذه الأصوات مع بعضها البعض بطريقة تجعل من المستحيل معرفة من الذى يتحدث.

إنه ببساطة يصبح صوتًا مكتوبًا مزدوجًا- وهو بالطبع أيضًا جزء من الكون المكتوب، من المنطق الموجود فيه.

لأن كل قطعة شعرية كتبتها هي، إذا جاز التعبير، لها عالمها الخيالي، عالمها الخاص. وثمة قيمة جديدة لكل مسرحية، ولكل رواية.

لكن حتى القصيدة الجيدة، لأنني كتبت أيضًا الكثير من الشعر، هي عالم خاص بها – إنها تتعلق بشكل أساسي بنفسها. ولذا فإن من يقرأها يمكنه أن يخطو إلى الكون الذي تمثله القصيدة - حسنًا، إنها أشبه بنوع من التواصل أكثر من كونها تواصلًا.

ربما، ربما ينطبق هذا على كل ما كتبته.

الأمر المؤكد هو أنني لم أكتب أبدًا للتعبير عن نفسي، كما يقولون، بل للابتعاد عن نفسي.

لقد انتهى بي الأمر إلى أن أصبح كاتبًا مسرحيًا – حسنًا، ماذا يمكنني أن أقول عن ذلك؟

كتبت الروايات والقصائد ولم أرغب في الكتابة للمسرح، لكنني فعلت ذلك في الوقت المناسب لأنه - في ظل إغراء ممول من القطاع العام لإنتاج الدراما النرويجية الجديدة- كان العرض بالنسبة لي، وكنت كاتبا فقيرا في ذلك الوقت، فرصة جيدة فى نظير كتابة مقدمة مسرحية، وانتهى بي الأمر بكتابة مسرحية كاملة، وهي أولى مسرحياتي وأكثرها إنتاجا، " شخص ما سيأتي ".

إن البدء في كتابة المسرحيات كان بمثابة مفاجأة كبيرة جدًا بالنسبة لي ككاتب. حاولت في النثر والشعر أن أكتب ما لا يمكن قوله عادة بالكلمات. نعم لقد كان هذا. حاولت أن أكتب ما لا يوصف، كما قيل في التبرير عندما أُعلن فوزي بجائزة نوبل.

إن أهم شيء في الحياة لا يمكن أن يقال، بل يكتب فقط، لتحريف مقولة معروفة لجاك دريدا.

لذلك أميل إلى ترك الكلام الصامت يتكلم.

وعندما كتبت الدراما، كان بإمكاني استخدام الكلام الصامت، الصمت، بطريقة مختلفة تمامًا عن النثر والشعر. لم يكن بوسعي إلا أن أكتب كلمة وقفة، فكان الكلام الصامت موجودًا. وفي أعمالي الدرامية، لا شك أن كلمة "وقفة" هي الكلمة الأكثر أهمية والأكثر استخدامًا - وقفة طويلة، أو وقفة قصيرة، أو مجرد وقفة.

في فترات التوقف هذه يمكن أن يكون هناك الكثير أو القليل: أن هناك شيئًا لا يمكن قوله، أو أن هناك شيئًا لا يمكن أن يقال، أو أنه من الأفضل أن تقوله دون أن تقول أي شيء.

ومع ذلك، فأنا متأكد تمامًا أن أكثر ما يتحدث خلال فترات التوقف هو الصمت.3211 جون فوس

في نثري، ربما يكون لكل التكرارات وظيفة مماثلة للتوقفات في الدراما. أو ربما أتخيل أنه بينما في المسرحيات هناك خطاب صامت، ففي الروايات هناك لغة صامتة خلف اللغة المكتوبة، وإذا كان المكتوب جيدًا، فلا بد من كتابة هذه اللغة الصامتة أيضًا، على سبيل المثال، في رواية السباعية هناك على وجه التحديد هذه اللغة الصامتة، لنأخذ بعض الأمثلة الملموسة البسيطة، والتي تقول أن أسل الأول وأسل الثاني قد يكونان نفس الشخص، وأن الرواية الطويلة بأكملها، التي يبلغ عدد صفحاتها حوالي ألف ومائتي صفحة، ربما تكون في الواقع مجرد إسقاط لمقتطف واحد الآن.

لكن في الغالب الخطاب الصامت، أو اللغة الصامتة، تتحدث من العمل بأكمله. سواء كانت رواية، أو مسرحية، أو إنتاجًا مسرحيًا، فليست الأجزاء في حد ذاتها هي المهمة، بل الكل، الذي يجب أن يكون حاضرًا أيضًا بكل التفاصيل الصغيرة.- أو ربما أجرؤ على الحديث عن روح الكل، روح تتحدث عن القريب والبعيد.

وماذا ستسمع بعد ذلك، إذا استمعت جيدًا بما فيه الكفاية؟

يمكنك سماع الصمت.

وكما يقولون، فقط في الصمت يمكنك سماع صوت الله.

ربما يكون ذلك صحيحا.

والآن لنعود إلى الأرض، أريد أيضًا أن أذكر شيئًا آخر منحته لي الكتابة للمسرح. الكتابة عمل انفرادي، كما قلت، والوحدة جيدة - طالما أن طريق العودة إلى الآخرين مفتوح، على حد تعبير قصيدة أخرى لأولاف هـ. هوج. وما جذبني عندما رأيت لأول مرة شيئًا كتبته يُعرض على خشبة المسرح، حسنًا، كان على  العكس تمامًا من الوحدة، كان المجتمع، نعم، خلق الفن من خلال مشاركة الفن - وقد أعطاني شعورًا قويًا بالبهجة والأمان طاردتني هذه التجربة لاحقًا، ،وربما جعلتني أحافظ على هدوئي، ليس فقط لأتحمل، ولكن أيضًا لأشعر بنوع من الفرح، حتى مع الإنتاج الردىءلبعض مسرحياتي.

في نهاية المطاف، المسرح هو في الواقع مجرد فعل كبير من الاستماع: يجب على المخرج، أو على الأقل ينبغي عليه، أن يستمع إلى النص، كما يستمع الممثلون إليه، وإلى بعضهم البعض وإلى المخرج، وكما يستمع الجمهور إلى  أداء النص بأكمله.

والكتابة بالنسبة لي هي الاستماع: عندما أكتب، لا أفكر أبدًا في أي شيء، ولا أخطط لأي شيء، بل أستمع باهتمام.

وبهذه الطريقة، فإن الشعر يذكرنا بطبيعة الحال بالموسيقى. وذات مرة، في مراهقتي، انتقلت، مباشرة من الاهتمام بالموسيقى فقط، إلى الكتابة.إذا جاز التعبير. لقد توقفت تمامًا عن العزف بنفسي والاستماع إلى الموسيقى وبدأت في الكتابة وفي الكتابة حاولت إبراز شيء مما جربته عندما كنت أعزف. لقد فعلت ذلك في ذلك الحين وما زلت أفعل ذلك.

شيء آخر، وربما غريب بعض الشيء، هو أنني عندما أكتب، أستطيع أن أشعر بأن النص مكتوب بالفعل، وأنه موجود في مكان ما، وليس بداخلي، وأنني فقط بحاجة إلى كتابة النص قبل أن يختفي.

في بعض الأحيان يمكنني القيام بذلك دون تغيير أي شيء، وفي أحيان أخرى يجب علي أن أجد طريقي إلى هذا النص عن طريق إعادة الكتابة والشطب ومحاولة العثور بعناية على النص الذي تمت كتابته بالفعل.

أنا، الذي لم أرغب في الكتابة للمسرح إلا قبل حوالي خمسة عشر عامًا، قررت أن أفعل ذلك.والمسرحيات التي كتبتها تم عرضها، نعم، في النهاية كان هناك العديد من العروض في العديد من البلدان.

ما زلت لا أفهم ذلك.

لا يمكن فهم الحياة.

لذلك ليس من المفهوم أيضًا أنني أقف هنا الآن وأحاول أن أقول بعض الكلمات المعقولة إلى حد ما حول الإملاءات المتعلقة بحصولي على جائزة نوبل للآداب.

وحقيقة حصولي على الجائزة، بقدر ما أستطيع أن أقول، لها علاقة بالدراما والنثر.

بعد كتابة المسرحيات بشكل حصري تقريبًا لسنوات عديدة، شعرت فجأة أن هذا يكفي، نعم، بل أكثر من كافٍ، وقررت التوقف عن كتابة المسرحيات تمامًا.

لكن ربما أصبحت الكتابة عادة لا أستطيع العيش بدونها - ربما مع مارغريت دوراس يمكنك أن تسميها مرضًا - لذلك قررت العودة إلى حيث بدأت، لكتابة النثر وقصيدة أو أخرى، كما فعلت لأكثر من عقد من الزمن قبل أن أبدأ ككاتب مسرحي.

وعلى مدى السنوات العشر إلى الخمسة عشر الماضية قمت بذلك.عندما بدأت كتابة النثر بجدية مرة أخرى، لم أكن متأكدًا مما إذا كان ما زال بإمكاني القيام بذلك.. في البداية كتبت الثلاثية - واعتبرتها بمثابة تأكيد عظيم على أن لدي ما أساهم به أيضًا ككاتب نثر،عندما حصلت على جائزة الأدب من مجلس الشمال عن تلك الرواية.

ثم كتبت السباعية ( Septologyا ).

وأثناء كتابتها،عشت بعضًا من أسعد لحظاتي ككاتب، مثل عندما يجد أحد أسلي الآخر ملقيا في الثلج، وبالتالي ينقذ حياته.أو النهاية، عندما ينطلق أسلى الأول، الشخصية الرئيسية، في رحلته الأخيرة، على متن قارب، مع سمكة قرش، مع أسليك، صديقه المفضل والوحيد، للاحتفال بعيد الميلاد مع أخت أسليك.

لم يكن لدي أي نية لكتابة رواية طويلة، لكن الرواية كتبت نفسها، إذا جاز التعبير، وتبين أنها رواية طويلة،وكتبت العديد من الفقرات كثيرة بسلاسة رائعة بحيث كان كل شيء على ما يرام في نفس الوقت.

وربما يكون ذلك عندما أكون الأقرب إلى ما يمكنك تسميته بالسعادة.

يحتوي كتاب السباعية بأكمله على ذكريات كثيرة كتبتها، لكن تم رؤيتها في ضوء مختلف. حقيقة عدم وجود نقطة واحدة في الرواية الطويلة بأكملها ليست من اختراعي. لقد كتبت الرواية بهذه الطريقة، في انسيابية، وحركة، لا تتطلب نقطة.

قلت ذات مرة في مقابلة إن كتابة الشعر هي نوع من الصلاة. وشعرت بالحرج الشديد عندما رأيته مطبوعًا. ولكنني قرأت فيما بعد، وهو ما أراحني، أن فرانز كافكا قال نفس الشيء. لذلك ربما – مازال كذلك؟

تلقت كتبي الأولى مراجعات سيئة للغاية، وقررت حينها أنني لن أستمع إلى النقاد، سأثق بنفسي، حسنًا، سألتزم بكتاباتي. ولو لم أفعل، لكنت  قد توقفت عن الكتابة بعد روايتي الأولى Raudt, svart («أحمر، أسود») قبل أربعين عامًا.

لاحقًا حصلت على تقييمات جيدة في الغالب، وبدأت في تلقي الجوائز، ثم أدركت أنه من المهم اتباع نفس المنطق: لو لم أستمع إلى الانتقادات السيئة، فلن أدع النجاح يؤثر علي أيضًا، سأتمسك بكتاباتي، وأتمسك بما أبدعته.

وأعتقد أنني تمكنت من القيام بذلك، وأعتقد، إذا كنت صادقًا، أنني سأتمكن من القيام بذلك حتى بعد حصولي على جائزة نوبل.

عندما تم الإعلان عن حصولي على جائزة نوبل في الأدب، تلقيت الكثير من رسائل البريد الإلكتروني والتهاني، كنت سعيدًا بالطبع، معظم التحيات كانت رصينة وسعيدة، لكن البعض كتب أنهم صرخوا من الفرح، والبعض الآخر أنهم تأثروا حتى البكاء، لقد أثر ذلك فيّ حقًا.

هناك العديد من حالات الانتحار في قصائدي. أكثر مما أود. لقد كنت أخشى أن أكون بهذه الطريقة قد ساهمت في إضفاء الشرعية على الانتحار. لذا فإن أكثر ما أثر فيّ هو أولئك الذين كتبوا بصدق أن أعمالي أنقذت حياتهم بكل بساطة.

لقد عرفت دائمًا أن الشعر يمكن أن ينقذ الأرواح، وربما أنقذ حياتي أيضًا. وإذا كان شعري يمكن أن يساعد أيضًا في إنقاذ حياة الآخرين، فلا شيء يمكن أن يجعلني أكثر سعادة من ذلك.

شكرًا للأكاديمية السويدية لإعطائي جائزة نوبل في الأدب.

والحمد لله.

(تمت)

***

.............................

رابط النص المترجم:

https://www.nobelprize.org/prizes/literature/2023/fosse/lecture

د.محمد عبدالحليم غنيم

 

من أكثر المواقف إرباكاً التي أواجهها وبشكل مستمر هي الإجابات عن تلك الأسئلة البسيطة والسطحية والتي على ظاهرها البسيط إلا أنها شديدة الخصوصية والعمق ولايهم السائل الفضولي أن يعرف الحقيقة وغالباً ما ينتظر منا إجابات بسيطة وسطحية كذلك..

هل يعقل أن فتاة مثلك وبكل هذه الصفات والمزايا لم تجد شريكاً مناسباً حتى الآن؟

سألني هذا صديقاً مثقفاً خلوقاً محترماً تجاوز الخمسين من العمر فضولياً جداً، في الحقيقة ليست المرة الأولى التي أجد نفسي فيها بمواجهه مباشرة مع هذا السؤال الملعون الذي بات ومع مرور الوقت يلتصق بي كإسمي كهوية جديدة علي تعريف نفسي من خلالها..

ماذا أجيب؟ وماهي حدود الصراحة التي علي البقاء مختنقة بداخلها. هل أقول أن التربية الدينية المتشددة وفروض التضحية والنزاهه وأوهام العفة والعار والفضيحة والضغوط الإجتماعية أضاعت لي بوصلتي وبات كل ما حسبته حباً إكتشفت وعلى كبر أنه مجرد روابط صدمات وعقد سيكولوجية عميقة ولم أكن قادرة على التمييز بين من يرغبني وبين من يحبني ومن يلتصق بي ككائن طفيلي يمتص الحياة من روحي بالقدر الذي يلزمه أن يعيش ثم يلفظني قلباً خالياً مجرّداً فارغاً من كل شيء يتجرع سمّاً آخر، أن شقائي قد كتب منذ أن ولدت أنثى بهذه البقعة الموبوءة من الأرض المعادية للحب وللعاطفة ولكل ماله علاقة بالجمال، جمال الوجه وجمال الجسد جمال التدفق الأنثوي عمق النظرات عذوبة الصوت ودفء المشاعر وأن علي ستر كل ما أودع بداخلي من رغبات وألحفها تحت طبقات السواد..

أأقول أن كل ما لاقيته من تنمر وإستخفاف من أخواتي وقريباتي وصديقاتي بدافع الغيرة أو السخرية جعلني أستخف بكل شيء وبكل ما بدا لي من بعيد أملاً بدفئاً حقيقاً نقيّاً عذباً وكأنه صورة غير موجودة سوى في أحلام يقظتي، وأنني أمضيت خمسة عشر عاماً تائهةً في صحرائي باحثة عن إنتماء يروي ضمأ فؤادي وكلما خلت أني لمسته هرب بعيداً، أصبحت أتخلى وأمضي نحو الجمود والبرود والجفاف أركض إلى الصقيع باحثة عن الدفء بين الثلوج حتى إن مت برداً، أن أتخلى وأترك قبل أن أُترك وأنني حينما واجهت كل ذلك واستطعت أن أضع يدي على موضع الجرح لتطهيره أضرمت به النار..

هل يعقل أن بنت مثلك مفعمة بالحياة وبالطاقة أن تكون إنعزالية منطوية على نفسها؟

لا تعلم كم تطلب مني الظهور بهذه النسخة للعالم ولا كم من المرات تخفيت خلف ابتساماتي كم من الساعات قضيت على سريري سارحة في اللاشيء أحلم بالذهاب إلى اللامكان، هناك أموراً نظن أننا نسيناها كتوبيخ معلم في المدرسة أمام الطلاب وإحراجه إيانا ورد فعل بارد من والدينا حينما انتهينا من رسمة سيئة لنريهم إياها، عندما جلسنا قرب أمهاتنا خجلين من التعبير عن الحاجة للحنان فتجاهلننا راكضين إلى إخوتنا المدللين، وعن الخذلان حينما ركضنا إليهن بعينين غارقتين بالدمع نشكو من ظلم الأولاد في الحي الذين كسروا زجاج سيارة جارنا فصفعن خدنا لتأديبنا عن ذنب لم نقترفه تفادياً للإحراج أمام المعازيم وإثباتاً لحسن التربية، عندما أخبرنا أخواتنا النممات بأسرارنا ففضحوها عند الجميع وعندما أردنا مرافقة إخوتنا الكبار للبقاله فرفضوا رفقتنا، عندما هجرنا من نحب لغيرنا وكيف أخفينا إنكسارنا في سبيل الكرامة، كم من المرات كان علينا أن نفعل كل شيء لانريده نقول مالانشعر به ومالايمثلنا حتى نظهر بالصورة المثالية التي ترضي أهلنا لأننا كنا نعتقد أننا لسنا جديرين بالحب وبالقبول بأخطاؤنا وبنواقصنا وعيوبنا.

تلك المواقف العابرة لاتعبر إنما تتغلغل عميقاً في الذاكرة المنسية وتظهر في تكويننا في علاقاتنا وفي كل ما من شأنه ربطنا بالآخرين، ولأنني وبمعجزة ما توصلت إلى قبول مطلق لتلك العثرات المخجلة القبيحة في النفس وكشفت عنها بلا خجل ،مشيت فوق مناطق الخطر بقدمين عاريين بعد الكثير من الصراخ والصراع والألم وتقلبات المزاج أصبحت شخصاً محاطاً بالسحر والغموض والجاذبية، كيف يمكن الجمع بين نقيضين؟ كيف لإنسان أن يخلق بطينٍ من الجنة وآخر من الجحيم؟ تلك الإنفصالات المتكررة بين المتناقضات وسرعة الإستشفاء العاطفي أعطبت قلبي الذي وصل إلى حد مرونته الأقصى تدفعني شيئاً فشيئاً للجنون.

كيف تملكين هذا القدر من الفهم للآخرين؟

لا أدري.. أمتلك قلباً بركانياً ملتهباً تتطاير منه العواطف كالشرر تلسع كل من إقترب منه بنيران وردية دافئة ترسم حروقاً ناعمه ولكنها موجعه، يلفت إنتباهي في الآخرين دائماً مالايرى ومالايلفت أحداً أسمع الصمت بين العبارات، أنتشل الأنين من بين الركام، ألتقط كل رمشة عين سريعة خاطفة عند المحاولات البائسة لإخفاء شيئاً ما، إن الحياة بهذا القدر من الحساسية والإتصال بكل شيء بكل هذا الإنكشاف الساطع للحقائق أقسى بكثير مما هي عليه..

النجوم الساطعة في السماء الذي يبهرنا جمالها..هي في الحقيقة ومنذ آلالاف السنين تحترق والوصول إليها موت محقق.

لذلك ياصديقي ليس كل ما يلمع بريقاً..ثمة مايلمع توهجاً

والطريق إلى تلك النجوم الساحرة ...مظلم

***

لمى ابوالنجا – أديبة وكاتبة سعودية

 

بالأمس تلقيت خبرا من صديقي عزيز علي، يخبرني بوفاة الدكتور "وجية أحمد عبد الله" – أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف بكلية الآداب - جامعة سوهاج،  إثر عملية جراحية فاشلة، وقد حزنت عليه حزنا شديدا، لاسيما وأنني قد عاصرته منذ أن كنت أقوم بدراستي للماجستير في السهروردي المقتول بنفس الجامعة.

والدكتور وجيه عاصرته منذ  حصوله على درجة الماجستير عام 1983 عندما قام بتعيينه  أستاذي الجليل الدكتور صبري عثمان محمد رحمة الله الدكتور مدرسا مساعدا بقسم الفلسفة بسوهاج، ومنذ تلك اللحظة جمعتني وإياه علاقة حب ومودة، وهذه العلاقة كشفت جدت لي على أن هذا الرجل كان يتميز بوفاء الصديق وقلب الطفل، ومثاقفة الفارس وأريحية المفكر، والنبوغ المبكر، والعبق القديم، وعطر الزمان الجميل.

وليس لدي معلومات كاملة عن ميلاده، ولكن كل ما أعلمه أنه من خرجي كلية الآداب – جامعة الاسكندرية، حيث حصل علة درجة الماجستير في الفلسفة الإسلامية في موضوع بعنوان " الوجود عند إخوان الصفا"، من جامعة أسيوط وكان مشرفا عليه الأستاذ الدكتور " جلال شرف" والدكتور صبري عثمان وقد حصل عليها عام 1983م، وبعدها سجل لدرجة الماجستير في التصوف الإسلامي عن " الحكيم الترمزي واتجاهاته الذوقية، وقد نشرت في كتاب بعد ذلك في عام 1989م وبعدها واصل مسيرته البحثية حتى وصل إلى درجة أستاذ مساعد.

ولقد كان الدكتور وجيه من الذين قهروا اليأس من عاهته الجسمية وهي شلل الأطفال وانطلق يحقق ما لم يحققه زملائه الذين يسيرون على قدمين ثابتتين، وهو يذكرني دائما بالفنان الفرنسي " أوجست رنوار" الذي عاش من أجل نشر الجمال في العالم، أصيب بشلل في يده ولكنه لم يتخل عن فرشاته وظل يرسم ويبهج الحياة بكل جميل وهو يتألم ويتوجع طوال العشرين سنة الأخيرة من عمره .

ودائما أقول : قليلون أولئك الرجال الذين يعيشون وفق ما يكتبون، ويظهرون ما يضمرون، ويعلمون بما يؤمنون، والدكتور وجيه من هؤلاء الرجال،  لقد تعلمت علي يديه الكثير من قضايا المنهج العلمي، ومنها قوله لي بأن علة ضحالة وهشاشة معظم الكتابات الفلسفية في ثقافتنا العربية المعاصرة ترجع في المقام الأول إلي افتقار أصحابها المنهج –أي – ذلك الطريق الواضح والخطوات المنظمة التي يخطوها الكاتب في التصنيف والتأليف والترجمة والتحقيق.

ولا أنسي قوله لي كثيرا ومرارا بأن الكاتب الذي لا يعي منهجه ولا يستطيع قراؤه التمييز بين أسلوبه وأسلوب غيره من الكتاب يجب أن يتوقف عن الكتابة لأنه من لم ينتقل بعد من طور التتلمذ، فعليه أن ينتظر حتي تكتمل شخصيته وينفرد قلمه وينضج ذهنه.

ولقد شهد له الكثير من الزملاء والمعاصرين بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة .. إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف . ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثا ومنقبا، محققا ومدققا، مخلفا وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.

رحم الله الدكتور وجيه عبد الله  الإنسان والأستاذ وإن كان جسده قد فارقنا، فإن فكره سيظل باقيا ن ما بقيت الحياة علي وجه الأرض . ولا يسعني إلا أن أقول مع أستاذنا الدكتور عاطف العراقي أن أخاطب روحه في السماء قائلا: اذكريني، وذلك بعد أن انتشر الفساد الفكري والظلام الثقافي، ازدادت فيه طرق وأساليب جيوش البلاء والظلام، بحيث أصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، وإن كان أكثرهم لا يعلمون. نعم أقول لروحه اذكريني حين يتم لقاء الأرواح بالأرواح في عالم الخلود، وبعيداً عن العالم الزائل الذي نعيش فيه.

***

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة– جامعة أسيوط

 

أولا: أحمد بن فضلان

أول مرة سمعت بإسمه عندما سألني أحد الأساتذة الأجانب عنه، وهل شاهدت فلمه، ووجدتني أجيبه بإستحياء، وأظهرت له عدم قدرتي على تزويده بمعلومات، فهو يعرفه وأنا لا أعرفه، وشاهد فلما عنه، وأنا من الجاهلين به.

وحينها قررت أن أبحث عن أحمد بن فضلان، فوجدته من الرحالة المولودين في بغداد، وولادته غير واضحة التأريخ،  لكن المدوّنات تذكر أنه عاش في القرن العاشر الميلادي، وعاصر المقتدر بالله (283 - 319) هجرية، وهو الذي أرسله في بعثة لبلاد الصقالبة (البلغار)، بموجب طلب من ملكها للتعريف بالإسلام، فهو الذي أسلم وطلب من يفقهه في الدين، ويبني له مسجدا ومنبرا ويساعده على نشر الدين في بلاده، وحول ذلك نسجت قصص كثيرة.

وغادر بغداد في شهر صفر (309) هجرية، ووصل بلاد البلغار في محرم (310) هجرية، ودوّن رحلته بتفاصيلها، والتي إستمرت أحد عشر شهرا، فكتب عن أحوال البلاد التي مر بها، وما إلتقطته ملاحظاته الثاقبة عنها.

ثانيا: أبو الحسن المسعودي

أبو الحسن إبن علي المسعودي الهذلي (283 - 346) هجرية، عالم ومؤرخ ورحالة ورائد نظرية الإنحراف الوراثي.

يذكر في كتابه عن بحّار مسلم  أنه أول من قطع المحيط الأطلسي وأول من إكتشف أمريكا، وإسمه خشخاش بن سعيد بن أسود.

يعرف المسعودي بهيرودوتس العرب، كنيته أبو الحسن ولقبه قطب الدين، وهو من ذرية عبدالله بن مسعود، وإشتهر بكتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"، بأربعة أجزاء.

ثالثا: إبن حوقل

أبو القاسم محمد بن حوقل، ويكنى بالحوقلي، الموصلي، أو البغدادي، كاتب وجغرافي ومؤرخ ورحالة وتاجر.

وكان من أشهر الجغرافيين والرحالة المسلمين الذين كتبوا عن بلاد المسلمين شرقا وغربا، ومن كتبه "المسالك والممالك" (صورة الأرض)، يصف فيه رحلاته التي إنطلقت سنة (331) هجرية.

وأهم ما يتميز به تتبعه الدقيق للأسواق والمدن والقرى وما فيها من معالم عمرانية، ويُقال أنه أمضى أكثر من ثلاثين عاما في ترحاله.

رابعا: محمد بن أحمد شمس الدين المقدسي

أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر المقدسي، رحالة مسلم ولد في القدس  سنة (336) هجرية  وتوفي سنة (380) هجرية، وله عدد من المؤلفات في المواضيع الدينية.

وكتابه في الرحلات عنوانه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم".

ويُذكر أنه هندس شوارع عكا وبنى ميناءها في زمن إبن طولون.

خامسا: أبو عبدالله الإدريسي

محمد بن محمد بن عبدالله بن إدريسبن يحيى بن علي بن حمود الإدريسي (493 - 560) هجرية، ويكنى بأبي عبدالله، ويعرف بالشريف الإدريسي، ولد في سبتة في المغرب،  وإشتهر بكتابه "نزهة المشتاق في إختراق الآفاق".

إشتهر برسمه لخارطة العالم تلبية لدعوة  ملك صقلية ، فصنع نموذجا كرويا من الفضة للأرض وحفرت عليه الأقاليم السبعة، وقد رسم سبعين خريطة في حياته، وزار العديد من البلدان في بلاد الأندلس وأوربا وأفريقيا.

ولا ننسى أن لديه إهتمامات طبية ونباتية وأدبية.

سادسا: إبن جبير الأندلسي

أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني المعروف بإبن جبير الأندلسي، ولد في بلسية سنة (540) هجرية، وهو جغرافي ورحالة وكاتب وشاعر أندلسي.

وسجل رحلته التي إستغرقت سنتان وثلاثة أشهر في كتابه "رحلة إبن جبير"، وله ديوان شعر "نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان"، ويوصف بأنه "كان أديبا بارعا، شاعرا مجيدا، سري النفس كريم الأخلاق"

وتوفي في الإسكندرية سنة (614) هجرية.

سابعا: إبن بطوطة

أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد الطنجي، المعروف بإبن بطوطة، ولد في طنجة (703 - 779) هجرية، رحالة ومؤرخ وقاضي و خصوصا في جزر الملديف التي سكنها وتزوج فيها عددا من النساء، وقد زار أربعين بلدا، وقطع (117000) كم.

وكتابه المشهور "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وهو من أشهر الرحالة في تأريخ المسلمين، وطغت شهرته على غيره، حتى صارت تضرب به الأمثال.

زار المسجد الأقصى وقال عنه : "وهو من المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحسن، يُقال أنه ليس على وجه الأرض مسجدا أكبر منه"

وزار البصرة وبغداد بعد دمارها ووقف على ما تبقى من آثارها.

ويمكن القول أنه كان مغامرا في جولاته ومتحديا ومقداما، ويتمتع بذكاء متميز وبشاعرية عالية.

ثامنا: أحمد محي الدين بيري

جغرافي ورحالة ومستكسف ومحارب وأديب عثماني\ تركي، عاش بين القرنين السادس والسابع عشر، ولد في مدينة جاليبولي جنوب إسطنبول، ومات غرقا في إحدى الحملات البحرية التي كان يقودها.

رسم خريطة العالم وأشار إلى إكتشاف أمريكا، ويبدو أنه كان موهوبا ولديه قدرة معرفية فائقة في علوم الجغرافية والبحار، وأكتشفت خرائطه العجيبة في سنة 1929.

تاسعا: إبن ماجد

أحمد بن ماجد بن محمد  النجدي (821 - 903) هجرية، ملاح وجغرافي عربي من رأس الخيمة، برع في الفلك الملاحة والجغرافية، وهو من أشهر الملاحين في المحيط الهندي والخليج العربي والبحر الأحمر، وأسهم بتطوير البوصلة، وبإضافة قياسات فلكية دقيقة، وهو "أسد البحار بلا منازع".

ومن مؤلفاته : "الفوائد في أصول علم البحر والقواعد، موسوعة شعرية عن نمط الرياح الموسمية، خريطة النجوم، سواحل المحيط الهندي، الشعاب المرجانية، التيارات البحرية، وغيرها.

ويذكر أنه أرشد فاسكو دي كاما إلى رأس الرجاء الصالح وربما ساعده في إكتساف أمريكا.

عاشرا: سليمان المهري

سليمان بن أحمد بن سليمان المهري (1480 - 1550) ميلادي، ربان بحري وعالم فلكي عربي، من مدينة الشحّر على الساحل الجنوبي لحضرموت، يلقب بمعلم البحر، عاصر أسد البحار (إبن ماجد)، وهو تلميذه، وأخذ العلم من مؤلفاته.

ومن مؤلفاته: المنهاج الفاخر في علم البحر الزاخر، قلادة الشموس وإستخراج قواعد الأسوس، تحفة الفحول في تمهيد الأصول، شرح تحفة الفحول في تمهيد الأصول، العمدة المهرية في ضبط العلوم البحرية، الأرجوزة السبعية وغيرها.

وددت في هذا المقال المختصر المكثف أن أشير إلى أنوار الأمة الساطعة في البحار والترحال، وكيف إستطاعوا المساهمة في صناعة الدنيا ووضعها على جادة الإنطلاق العلمي المطلق.

***

د. صادق السامرائي

 

في أعماق الصفحات المنسيَّة من التاريخ، تكمنُ الكثيرُ من المفارقات والمصادفات، والأسرار الغامضة التي تمثل المعين الذي لا ينضب للخيال الخلّاق، مثل ذلك الخيال المُبهِر للروائي الفرنسي من أصلٍ لبناني أمين معلوف الذي أُنتخب قبل أشهرٍ قليلة ليشغل منصب الأمين العام للأكاديميَّة الفرنسيَّة مدى الحياة. وتكمن عبقريَّة معلوف الذي يكتب باللغة الفرنسيَّة، في استلهامه تاريخاً حقيقياً لا أسطورياً، وفي ربطه بين أحداثٍ تبدو متفرقة للوهلة الأولى لا يجمعها جامع، لكنَّه يخلق منها نسيجاً روائياً مدهشاً، كما فعل في رواياته: ليون الأفريقي، والحروب الصليبيَّة، أو في حدائق النور عن شخصيَّة وأفكار ماني مؤسس المانويَّة، أو صخرة طانيوس التي تروي قصة الصراع العثماني الإنكليزي المصري للسيطرة على جبل لبنان. صحيح أنَّه يصنع خيالاً تاريخياً مشوقاً استحقَّ معه أرفع الجوائز والأوسمة كجائزة غونكور الأدبيَّة الفرنسيَّة ووسام الاستحقاق الوطني الفرنسي ووسام الأرز اللبناني، لكنَّ براعته تكمنُ في أنَّه يستلهمُ التاريخَ بلا تشويه ولا تحوير ولا مبالغة، فهو يكتب التاريخ بطريقة روائيَّة عمادها الواقع التاريخي، والخيال الروائي الفذ، والربط بين الأحداث والشخصيات ببراعة وإقناعٍ ومهارة فائقة. وفي روايته "سمرقند" على سبيل المثال فإنَّه يستهلها بحادثة غرق الباخرة تايتانيك في أعماق المحيط الأطلسي عام 1912 وهي حادثة معروفة طالما تناولتها الصحف والمجلات والتقارير الوثائقيَّة والأفلام السينمائيَّة، لكنَّه بخيالٍ فذٍ يلتقطُ منها المعلومة الخاصَّة بغرق نسخة فريدة من رباعيات عمر الخيام، لينفذ منها إلى أحداثٍ تاريخيَّة تجمع ثلاث شخصيات مثيرة للحيرة والجدل، عاشوا في زمنٍ واحدٍ ببلاد فارس هم عمر الخيّام الشاعر والفلكي والفيلسوف النيسابوري، وحسن الصباح مؤسس وزعيم جماعة الحشاشين في قلعة آلموت، ونظام الملك أشهر وزراء السلاجقة، وكلٌ من هذه الشخصيات التاريخيَّة الواقعيَّة أسطورة لوحدها.

هناك العديد من الأخبار والروايات حول هذه المخطوطة الكنز "مخطوطة سمرقند" التي غرقت مع تايتانيك، لكنَّها جميعاً تتفق على أنَّ غرق السفينة ما هو إلا غرق ماسة صغيرة، قياساً لمنجمٍ من الماس، تمثله مخطوطة الخيّام، تلك التي أعاد معلوف ذكراها إلى الأذهان في روايته التي اعتمد معربها من الفرنسيَّة على ترجمة أحمد الصافي النجفي لرباعيات الخيّام، من بين ترجمات عديدة أبرزها ترجمة جميل صدقي الزهاوي، واللبناني وديع البستاني، والشاعر المصري أحمد رامي التي غنتها أم كلثوم مطلع الخمسينيات بألحان رياض السنباطي.

وتبقى حوادث التاريخ متاحة أمام جميع الروائيين بلا استثناء، لكن بعض التاريخ تصنعه خيالات الروائيين الكبار، وحدهم.

***

د. طه جزاع

يوم ارتحلتْ الفلسفة اليونانيَّة العقليَّة الخالصة إلى الشرق، فإنَّها تنازلت عن الكثير من تعقلها الجامد ومنطقها الجاف، لتنغمس بالروح الشرقيَّة في مدرسة الإسكندريَّة، ولتنشأ على يد افلوطين الاسكندراني فلسفة جديدة هي امتزاجٌ خَلّاقٌ ما بين العقل الغربي والروح الشرقيَّة. وقد جذب هذا الشرق الروحاني بسحره وفيوضاته وإشراقاته، الكثيرَ من المستشرقين الذين سئموا عقلانيَّة الغرب، ونذروا حياتهم للتقرب من منابع الروح، والارتواء من بحر التصوّف العذب الخالص من شوائب الدنيا، وملذات الحياة.

المستشرقة الألمانيَّة أنَّا ماري شيمل هي من هؤلاء الذين جذبتهم روح الشرق بقوة، فكرست حياتها لمشروعها الاستشراقي، وللتصوّف الإسلامي على وجه التحديد، إذ وجدت نفسها وقد التحمت كلياً بموضوعات بحوثها في التصوّف ورجاله ومقاماته وأحواله، منذ أنْ اطلعت يوماً وهي ما زالت صبيَّة على حكاية الحكيم الهندي المسلم التي تنتهي بالعثور على نعش أكبر ملوك العالم وقد كُتبت عليه جملة أصابتها بما يشبه الصاعقة «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»، ثم أصابتها صاعقة روحيَّة ثانية باطلاعها على ديوان المثنوي لجلال الدين الرومي، ومنذ وقعت أشعاره بين يديها بقيت مخلصة له، وترددت مرات كثيرة لزيارة ضريحه في مدينة قونية وسط الأناضول. ولشدة انجذابها للشرق الإسلامي، وانغمارها ببحوثٍ حول الثقافة الهندو – إسلاميَّة، وقيامها بالتدريس في كليَّة الإلهيات في أنقرة، فقد اتخذت من «جميلة» اسماً إسلامياً تُذيل به بعض بحوثها وكتاباتها، مقترناً مع اسمها الألماني أنَّا، أو آنة كما تُكتب وتُلفظ أحياناً، وفُتنت جميلة بكل ما يمتُّ للإسلام بصلة، وتأثرت عميقاً بالطقوس المولويَّة، وما يرافقها من موسيقى دينيَّة تجعلها في حالة من «نشوة الوصال» على طريقة المتصوفّة العشاق.

قبيل وفاتها وهي في الثمانين، تذكرت شعار طفولتها الإسلامي «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» وطلبت أنْ تُنقشَ كلماته على شاهدة قبرها بالخط العربي، وتمَّ لها ذلك، وتحقيقاً لأمنيتها قُرأت الفاتحة على نعشها في ختام قداس بإحدى كنائس مدينة بون في شباط 2003. تقول في مذكراتها «حياتي الغرب – شرقيَّة»: أنا أعتقد باليوم الآخر الذي لا نستطيع أنْ نصفه ولا أنْ نتصوره، وذلك حتى نُحلق ونختفي في الحُبّ الأبدي.

كانت الروحانيَّة هي بضاعتنا الشرقيَّة التي طالما ألهمت الغربيين وجذبتهم إلى نورها الوهاج، قبل أنْ نخسرها في معركة الحياة، ونحن عنها غافلون.

***

د. طه جزاع

على تلةٍ مرتفعةٍ تطل على خليج القِرن الذهبي، وبجوار مقبرة تنحدر سفوحها لتنتهي عند ضريح الصحابي أبو أيوب الأنصاري الذي يسميه أهل إسطنبول أيوب سلطان، وما هو بسلطان من سلاطينهم، لكنهم يحترمون مثواه بينهم إلى درجة القدسية لمشاركته مقاتلاً في المحاولة الأولى لفتح القسطنطينية وهو شيخ مُسن، في هذا المكان الذي يشبه عشاً كبيراً في أعلى شجرة عملاقة، اختار الضابط الفرنسي بيير لوتي، أن يجلس ويتأمل ويكتب ويرسم، ويتذكر حبه المستحيل نهايات القرن التاسع عشر.

وتخليداً لذكرى بيير لوتي، واسمه الحقيقي بيار جوليان، والذي كان يوماً ما مرشحاً لنيل جائزة نوبل، سميت تلك التلة باسمه، مع أنه في حياته وكتاباته كان يطلق عليها اسم " الجبل المقدس"، ولعله سماها بذلك لمجاورتها ضريح الأيوبي حيث يمكن الوصول إليها عبر طريق طويل مرصوف بالحجر يخترق وسط المقبرة صعوداً ونزولاً، كما يمكن الوصول إليها بالسيارة. وبعد أن أصبح اسمها بيير لوتي، وأقيمت فيها مقهى على طراز المقاهي الباريسية تطل مباشرة على الخليج وتزدحم بالسياح عند الغروب، اضيف طريق ثالث باستخدام عربات " التلفرك" بمحطة واحدة تقطع مسافة قصيرة جداً.

كان لوتي قد مر يوماً بمدينة سالونيك التابعة وقتذاك إلى الدولة العثمانية، وفيها أحب امرأة تركية متزوجة تدعى " آزياده AZIYADE " وربما من أجلها أحب الشرق كله، فرحل إلى بلدانه وكتب عنها في رحلاته، وكان يعد نفسه شرقياً بالقدر نفسه الذي كان فيه غربياً فرنسياً، ولبس اللباس الشرقي، ودخَّن النارجيلة في مقاهي إسطنبول، وحمل المَسْبَحة، وجلس على جبله المقدس يستعيد ذكريات حبيبته التي ماتت قبل أن يلتقيها ثانية. وعندما يرتاد الناس والسواح المقهى فلابد من القاء نظرة، وربما جلسة عابرة في غرفة شرقية تضم صوره وتخطيطاته وبعض مقتنياته، ومن بين الطاولات التي تقدم عليها اقداح الشاي وشاي التفاح والقهوة التركية، هناك طاولة مخصصة لكتبه، ومنها روايته الرومانسية " آزياده" مترجمة إلى الإنكليزية.

الكل راضٍ عن بيير، باستثناء الشاعر الشيوعي ناظم حكمت، الذي كتب قصيدة وصفه فيها بأقذع الأوصاف، وقال عنه أنه كاذب ودجال باع الشرق، لأن حبه لم يمنع قصف فرنسا وهو من ضباطها، للمدن التركية أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان قبر حبيبته " آزياده" مما ناله القصف العشوائي.

هل كان الشاعر المولود في سالونيك أيضاً، يظن إن الحب الرومانسي يمكن أن يكون شفيعاً، وهو الذي أحب إسطنبول ومات مطارداً منفياً عنها في موسكو، فيما يحتل اسم الضابط الفرنسي بيير لوتي قمة الجبل المقدس .

***

طه جزّاع

 

إن السمة الطاغية في الشعر الصوفي هي الغلو في المبالغة، وكثرة التهويل، والضرب في أودية المبهمات، والإطناب في مدح النفس، وخنقأنفاسها بعبارات التقريظ والثناء، وشعراء المتصوفة الذين تفتقت قرائحهم بأشعار يطفئ من وضاءة حسنها، ورونق نظمها، شيوع الرمز،وكثرة المصطلحات التي تحتاج إلى بوارق من الضياء، ذابت حشاشتهم على عرك الهوى الإلهي، وذوت نضارتهم تباريح الشوق إلى عالميبهر العيون، ويخلب الأفئدة، عالم يخسأ فيه الكافر، ولا يضام فيه المؤمن، عالم خالد لا تناله عوامل الذوّى والبلى، عالم يشتهي فيه المرء كلشيء، ويبتغي كل معنى، لقد أكدى الصوفي روحه، ورفض أن يتفيأ ظلال الراحة، وأن يقع في شوائب الإسراف، من أجل أن يرد حوضاً لايظمأ والله ناهله، ويجاور سخيّ ما تغب نوافله، ولقد هام الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي يعده مريدوه من أصدق الناس جوهراً، وأزكاهمأرومة، حباً بهذا العالم الذي تشرئب إليه كل نفس، وتتوق إليه كل عين، وأوهى يراعه ومحبرته بنظم القصائد الجياد، والنثر الشعري، التيصاغها في حب الإله، والتي أبان فيها أنه دائب الشوق والحنين لملاقاة رب أسبغ عليه روافد النعم، فلقد هتك بفضله أستار الطبيعة، وأيقن بإرادته أسرار الوجود، وخصه بالمنزلة الرفيعة، والمعجزات التي لا تأتي إلا للأنبياء، لقد سارت أشعار الشيخ عبد القادر الجيلاني التي خلتمن الأغراض التقليدية في المدح والذم والغزل والرثاء، في كل صقع وواد، وملأت رحاب الدنيا، وتلقفها مريدوه المنتشرون على ظهر البسيطة، وأضحت عرضة للزيادة والانتحال، وأنا هنا على قصر باعي، وقلة حيلتي، وضمور معرفتي، أود أن أقارن بين مخطوط حوى قصيدته التي تسمى «الغوثية» وبين نفس القصيدة التي ضمها ديوانه.

الفصل الأول: حياة الشيخ

نسبه:

هو «أبو صالح محيي الدين عبد القادر بن أبي صالح موسى بن عبدالله بن يحيى الزاهد ابن محمد بن داود بن موسى الجون بن عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه».

أمه هي أم الخير فاطمة بنت الشيخ عبد الله الصومعي الحسني الزاهد، فهو حسني من جهة الأب، حسيني من جهة الأم، وعمته الشيخة الصالحة أم عائشة».

ولقد طعن في نسب الشيخ على مر العصور العديد من المؤرخين، وأنكروا انتمائه لعترة الحسن رضي الله عنه سبط الرسول الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الجحود سببه يعزى إلى كلمة جنكي دوست التي وردت في نسب الشيخ عبد القادر، والتي تعني العظيم القدر، والرجل المحب للقتال، والمتهيئ دوماً للنزال، لقد رسخ في أذهان هؤلاء المؤرخين أن تلك الكلمة التي لا تمت للعروبة بصلة ولا تصل إليها بسبب، تبرهن بجلاء أن الشيخ جرثومته أعجمية، وإنّ مِنحت الشيخ ليس بأثيل المنبت، ولا زكيُّ المغرس كما يدعي أسلافه ومحبوه، ولقد تصدى لهؤلاء المؤرخون العديد من المحبين والمنصفين، ففندوا مزاعمهم، وأبطلوا حججهم، وكان في طليعة هؤلاء المدافعين حديثاً الشيخ محمد المكي بن عزوز التونسي المتوفي عام 1916م، الذي ذكر في رسالته الموسومة بـ «السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني»، وقد ذكر في هذه الرسالة أنّ هناك أكثر من ستين من العلماء النسّابين، والمحققين البارعين، أقروا باتصال نسب الشيخ عبد القادر بالحسن رضي الله عنه.

مولده ونشأته:

«ولد الشيخ عبد القادر عام 470هـ /1077م على رأي معظم الذين أرخوا لحياته، وكانت ولادته في جيلان أو كيلان فعرف بالجيلاني أو الكيلاني، أو الجيلي، وجيلان إقليم فارسي يقع في الجنوب الغربي لبحر قزوين، اشتق اسمها من الجيالي بمعنى الوحل وذلك لكثرة المستنقعات التي تغمر الإقليم».

ويبدو أن الشيخ الذي ضربت شهرته الآفاق«كان آخر أولاد أبويه، لأنه عاش يتيماً، فقد توفي أبوه بعد ولادته بقليل لذلك عاش في كنف جده لأمه السيد عبد الله الصومعي فكان ينسب إليه عندما كان في جيلان فيقال بن الصومعي، وكان آخر أولاد أمه لأنها حملت به قبيل سن يأسها بقليل، حتى قال محمد بن يحيى التادفي في «قلائد الجواهر» إنها حملت به وهي في الستين من عمرها، ونشأ الشيخ عبد القادر في كنف أمه التقية النقية، وجده العابد المتحنث، الذي رباه على التقوى والصلاح ومكارم الأخلاق، فأخذ بخلائقهم، واقتبس من خلالهم، ومضى على منوالهم في الزهد والتفاني في العبادة وطاعة الرب عز وجل ومراقبته في السر والعلن.

كان الشيخ عبد القادر في بواكير صباه تواقاً للعلوم، مشرئباً للمعرفة، وكان غاية آماله، وحديث أمانيه، أن يلم بأصول الشريعة الإسلامية، ويحيط بمداخلها ومخارجها. وأزمع عبد القادر في قرارة نفسه السفر لحاضرة الدنيا ومنارة العلوم بغداد؛ لأن بلاد جيلان التي مكث فيها ثمانية عشر عاماً تفتقر لما يروي ظمأه، ويشفي غليله، ولقد نسج محبوه له العديد من الخوارق والكرامات وهو في هذا العمر الغض، والسن المبكرة، وأحاطوا تلك الفترة بهالة عظيمة من المعجزات التي لا تتسنى لطفل ما زال في معية الصبا، وطراءة السن، أذكر منها انقطاعه عن الرضاعة في نهار رمضان، والانكباب على ثدي والدته ليلاً، وحديث الثور له عندما كان يسير في البراري وإبلاغه بأنه لم يخلق ليكون فلاحاً، ومشاهدته للحج الأكبر من سطح بيته

سافر الشيخ عبد القادر إلي »بغداد عام 477هـ/1095م، وهي السنة التي خرج فيها حجّة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي منها تاركاً التدريس في النظّامية، زاهداً في الدنيا، طالباً للمعرفة واليقين. لقد كانت بغداد في عصر الشيخ عبد القادر عنواناً لحضارة عالمية، بما تضمنته من تنوع وثراء؛ فكانت مجمعاً للعلماء والفلاسفة، ومركزاً للفقهاء والمفسرين والمحدّثين، ومنتدى للشعراء والكُتاب، وأصحاب التراجم والسير والتاريخ، ومحراباً للزّهّاد والصوفية. فلا عجب أن تكون محط أنظار جميع المستنيرين طلباً للمعرفة واليقين، وممارسة التجربة الروحية تحت أنظار مشايخها المشهورين«. وتخبرنا الكتب المعتقة أن القافلة التي كانت تقله قطع عليها الطريق مجموعة من الأشرار الذين تتحلب أفواههم للمال، ولمّا كانت هيئته ومنظره لا يوحي بأنه سليل عز وربيب غنى أراد قاطع الطريق أن يمرّ عليه مرور الكلام فسأله ذلك السؤال الذي ألِفهُ ثغره دون أن يحفل بجوابه عما يحمله من مال، فتفاجأ بإجابة الصبي الذي طرّ شاربه بأنه يحمل في معيته أربعين درهماً ذهبياً أودعتها أمه في كمه، بعد أن عاهدها بأغلظ الإيمان أنه لن يكذب أبداً ولن يفعل ما يغضب الرب عزّ وجلَّ ويصيب الأخلاق في مقتل، وظنّ اللص أن الصبي يستخف به، وبعد أن توثق من صدقه سأله عن السبب الذي دفعه لذلك، فأخبره عن كنه العهد الذي قطعه لأمه، العهد الذي جعل زعيم اللصوص يقلع عن ترويعه للناس، وسلب أموالهم فيما بعد، حينما رأى فتىً جاوز حد الصغر، وبلغ سن الرشد، يخبره عن جل ماله في وداعة حتى يبرَّ بالعهد الذي عاهد به أمه التي تقاسمت معه تركة والده، تلك الأم التي آثرت أن تعطيه الثمانين ديناراً برمتها لولا رفضه، فهو يعلم حياة الضنك والفاقة التي تعيشها، فذهل اللص من ذلك الوفاء، واغرورقت عيناه بالدموع، واهتز صدره الموبوء بجراثيم الضغائن والحقود من فرط البكاء، وأزمع التوبة بعد أنّ رأى الفتى اليافع يتهافت في الحفاظ على وصية والدته غير آبهٍ ولا مهتم بضياع كل ما يملك، بينما هو وثلته منذ عهود خلت سلكوا سبيل الردى والعناد، وتركوا سبيل الهدى والرشاد، قطعوا الطريق، وروعوا الآمنين، وأقدموا على فعل ما يجر غضب الله وسخطه، فأعلن توبته وصدع بها أمام جماعته الذين حذوا حذوه، وتحروا طريقته. وصل الشيخ عبد القادر بغداد في زمن الخليفة المستظهر، وأمضى فيها ثلاثاً وسبعين سنة، شهد فيها حكم خمسة من الخلفاء العباسيين هم: المستظهر بالله والمسترشد «حكم من سنة 512 إلى سنة 529هـ»، والراشد «حكم من 529 إلي 530هـ» والمقتفي «حكم من 530 إلى 555هـ» والمستنجد «حكم من سنة 555 إلى 566هـ».

ولعل ما لا يند عن ذهن أو يغيب على خاطر أن الدولة العباسية في تلك الحقبة قد تقوضت أركانها، ووهت دعائمها، ولم يبق لها من الحكم سوى اسمه، وأن مقاليد الأمور كانت بيد السلاطين السلاجقة. ولقد شهدت تلك الفترة حروباً طاحنة وبلبلة وفوضى واضطراباً، فالكل كان يروم الوصول إلى سدة الحكم. وقاطنو بغداد تكالبوا على الدنيا، وآثروا الفانية على الباقية، بعد أن شغلتهم زخارفها وشهواتها عن مروج مصقولة الحواشي، وجنة وارفة الظلال. ولقد رأى الشيخ عبد القادر ببصيرته التي كانت تؤثر جانب الكمال على جانب النقص، أن الشهوات تؤنس جُلاسها بوجهها المتهلل، وتستبهم عليهم معالم القصد، وأن الشباب الذين هم في سنه يهيمون في أودية الضلال، ويتسكعون في بيداء الغواية، فأقبل على العلم بهمة ماضية، وحرص شديد، وفي سبيل تحصيله، «عانى كثيراً من المتاعب، ومن أشدها الفاقة والفقر، فلقد انقضى كل ما كان لديه من مال، فصار لا يجد ما يقتات به، مهما كان قليلاً، ووصل به الحال أن صار يقتات بما يجده في ضفاف دجلة، من قمامات البقل وورق الخص، وثمار الخروب، وصار يمشي حافي الرجلين في الرمال والأحجار، ولم يكن له مسكن يخصه، وصار يتعرض لأمراض تهدد حياته. بل إنه في بعض الفترات ظن من رأوه في الطريق أنه مات، فأرادوا أن يدفنوه في المقبرة، ولكن الله سبحانه وتعالى لطف به فتحرك جفنه قبل أن يواروه التراب».

وعن تلك الفترة العصيبة يخبرنا بأنه بقي أياماً لم يتناول فيها ما يسد الرمق، ويدفع غائلة الغرث والجوع، فذهب يتتبع المنبوذات ليأكلها، فكان من حظه العاثر لا يذهب إلى موضع إلا ويجد غيره قد سبقه إليه، حتى وصل في نهاية المطاف إلى مسجد ياسين بسوق الرياحين فدخل وقد كاد أن يتنسم أريج الموت، يقول الشيخ عبد القادر واصفاً تلك الفترة الحالكة فإذا بشاب أعجمي يدخل ومعه خبز وشواء، وجلس يأكل فرآني، فقال: بسم الله يا أخي، فأبيت، فأقسم عليَّ، فبادرت نفسي فخالفتها، وأقسم أيضاً فأجبته فأكلت، فقال: من أين أنت؟ وما شغلك؟ قلت: أنا متفقه من جيلان، فقال: وأنا من جيلان، فهل تعرف شاباً جيلانياً يسمى عبد القادر الزاهد؟ فقلت: أنا هو. فاضطرب وتغير وجهه، وقال: والله، لقد وصلت إلى بغداد ومعي بقية نفقة لي، فسألت عنك فلم يرشدني أحد ونفذت نفقتي، ولي ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلا مما كان لك معي، وقد حلت لي الميتة، فأخذت من وديعتك هذا الخبز والشواء، فكل طيباً فإنما هو لك، وأنا ضيفك الآن بعد أن كنت ضيفي. فقلت له: وما ذاك؟ فقال: أمك وجهت لك معي ثمانية دنانير. فطيبت نفسه ودفعت إليه باقي الطعام وشيئاً من الذهب، فقبله وانصرف»

***

د. الطيب النقر

 

يصدر عن دار المدى قريبا كتاب " إرسكبن كالدول درب الكتابة الوعر " ترجمة الصديق عماد العتيلي، وكانت دار المدى قد اصدرت منذ سنوات كنابه " اسمها تجربة " وهو سيرة ذاتية وفد صدرت له ترجمة اخرى عام 1987 عن دار الشؤون الثقافية قام بها الشاعر الراحل علي الحلي بعنوان " سمها تجربة "

كان في الخامسة عشرة من عمره حين قرر ان يكسب بعض النقود، وقد اكتشف في المدرسة أن عدداً من الفتيان الأكبر عمراً منه يعملون مساءً في معصرة لزيت بذور القطن. يبدأ العمل في الساعة الحادية عشرة ليلاً وينتهي في الساعة السابعة والنصف صباحاً، أما الأجرة، فكانت دولاراً واحداً في كل ليلة، مبلغ مغرٍ بالنسبة لصبي يعاني الفقر.

لأسابيع، ظل والداه يعتقدان ان ابنهما يغط في نومه، لكنه في كل ليلة وقبيل الحادية عشرة، يرتدي ملابسه مسرعاً، ليسير مسافة كيلو متر إلى المعصرة، يبدأ بجرف بذور القطن إلى الجهاز الناقل الميكانيكي حتى الصباح. بعد ذلك يحمل البذور إلى بناء آخر حيث تعصر بواسطة مكبس قوي حتى يستخلص منها الزيت. في الصباح الباكر، يفضح ضوء الفجر وجوه العمال المتعبة، ولكي يصل بيته دون ان يشعر والداه، فقد سمح له رئيس العمال بأن يغادر المعصرة قبل نصف ساعة من انتهاء عمله، بحيث يتمكن من تناول طعام الفطور مع والديه في الوقت المحدد. وفي الساعة الثامنة وعشرين دقيقة يغادر البيت إلى المدرسة. استطاع تحمل هذا الوضع شهرين كاملين، لكنه ذات صباح يشعر بالتعب الشديد وهو يجلس على مائدة الافطار، فيقع أرضاً، ليكتشف أمره، كان والده سعيداً ان ابنه اخذ يعتمد على نفسه، إلا أن والدته التي كانت تطمح ان يصبح ابنها قاضياً مشهوراً، طلبت منه ان يتوقف فوراً عن هذا العمل، فاستجاب لها بعد ان استطاع ادخار مبلغ تجاوز الثلاثين دولاراً.

وُلد ارسكين كالدويل عام 1903 لقسٍّ يتنقل من كنيسة لأخرى، ولأُم تعشق الأدب، فكانت تقضي وقتها بقراءة الروايات الفرنسية والانكليزية، وابتلي بالربو طفلاً. لم يحب الأدب في صباه، ورأى في الأعمال الحرة مهرباً من حياته الاجتماعية الحافلة بالفقر. جذبته المهن البسيطة والتجوال في أنحاء أميركا، وقال في مذكراته الساحرة “اسمها تجربة”: “ ما زلت حتى الآن استغرب ما الذي حدث قبل ثلاثين عاماً وقادني بشكل حاسم، ودفعني الى طريق الكتابة، الذي لم استطع أداءه بخفة ودونما جهد، فقد كانت أمي تجادلني لكي أعد نفسي لدراسة القانون، وكنت آنذاك لا امتلك الحافز ولا الرغبة في أن أكون كاتباً «.

رفضت الصحف قصصه القصيرة الأولى، وسأله رئيس تحرير احدى الصحف الشعبية: لماذا تصر على وصف البؤس؟ بعد نشره روايته الأولى “طريق التبغ” قال وليم فوكنر وهو يقرأها: “إنها عمل أدبي لامع الى درجة لا يمكن معها مقارنته بغيرها “، والتهمها ارنست همنغواي بشغف فضولي حتى انه قال لكاتب سيرته “هو تشنر”: “حفزني كالدويل لأن أصبح كاتباً، عشقت حياته الجوّاله وحاولت ان أسير على خطاه».

كان فيتزجيرالد صاحب “غاتسبي العظيم” قد رفض مخطوطة “طريق التبغ”، لكنه قال لشيروود أندرسون بعد نجاح الكتاب إنه لم يقرأ المخطوطة، فقد كان يعتقد انها مثل كثير من المخطوطات التي تعرض عليه والتي تصيب الانسان بالملل. أحب القراء روايته الثانية “أرض الله الصغيرة”، ووضعه شتاينبك بين أفضل خمسة كتّاب في العالم، وحاول ان يقلده في “شارع السردين المعلب”، ظل مرشحاً دائماً لجائزة نوبل حتى وفاته عام1987، باع كتباً أكثر من أي كاتب أميركي آخر على الإطلاق في تاريخ أمريكا.

***

قبل بضعة أيام من انتهاء دراسته الثانوية، حصل على عمل في صحيفة أسبوعية، أما العمل فهو إدارة يد آلة الطباعة. بعدها كُلف بمهمة إضافية تتمثل في تنضيد الأحرف باليد، وبعد أسبوع قيل له إن بإمكانه أيضاً جمع المقالات والملاحظات والتعليقات الاجتماعية لصفحة المجتمع، وكتابة الأخبار القصيرة حول الأحداث المثيرة للاهتمام. استخدم النقود التي كسبها من معصرة الزيت لشراء آلة كاتبة مستعملة، وبدأ يعمل محرراً رياضياً يقوم بتسجيل مباريات “البيسبول”، كما عمل بائعاً لصحيفة “التلغراف”، قال له مدير التحرير ذات يوم: “أنت لا تريد ان تعيش باقي أيام حياتك بائعاً للصحف، أليس كذلك يا أرسكين ؟»

فأجاب فوراً: أُفضل أن أكتب في الصحف.

نظر اليه مدير التحرير ثم قال له بكل جدّية: “اكتب عما تراه أمامك. لا تصدق ما يقوله الناس. انظر بعينيك ولا تصدق ما تسمع بأذنيك هنالك دوماً شيء يمكن أن تكتب عنه، وإذا استطعت ان تحوّل مشاهداتك إلى كلمات مثيرة، عندها سانشرها فوراً".

بدأ التجوال بالسيارة طيلة النهار إلى المناطق الريفية، كان مهتماً فقط برؤية كيف يعيش الناس، أصبحت الكتابة شاغلاً أساسياً لديه، جرب في البداية الكتابة الساخرة، وكان أجره دولاراً واحداً عن كل موضوع ينشر له، حاول ان يزيد من دخله فعمل موزعاً لزجاجات الحليب، وقضى عدة أشهر يعمل موظفاً في كشك لبيع العصائر، إضافة إلى عمله كحارس في مخزن للأواني الخزفية والزجاجية. وفي عام 1925، شعر أنه لم يعد بإمكانه الانتظار مدة أطول قبل البدء جدياً بما سيفعله. لم يكن يطمح بأن تكون الصحافة مهنته الدائمة، لكن الصحافة تعني الكتابة، وهذا ما حاول ان يتعلمه. وبعد محاولات في نشر القصص الساخرة، تم تعيينه مراسلاً تحت التمرين وبراتب ثابت بلغ عشرين دولاراً في الأسبوع، لكنه لم يكتف بوظيفة المراسل، حيث كتب إلى عدد من الصحف حول رغبته بكتابة مراجعات نقدية لبعض الكتب، عام 1926 يتلقى رسالة من صحيفة “هدسون بوست”، تخبره فيها أنها سترسل اليه العديد من الكتب ليكتب مراجعات عنها.

***

عام 1929 يصل ولاية فرجينيا. كان قد نزل من الباص عندما لمح لافتة مثيرة: “ فندق مارك توين”، أحسّ بالسعادة فهذه هي المرة الاولى التي سيسكن في مكان مع واحد من اشهر كتّاب اميركا، الذي كانت أمه وماتزال تعشق كتاباته، كان الفندق صغيراً، قال مع نفسه وهو ينظر الى الواجهة:”بالتأكيد ان أجرته ستكون مناسبة”، كان يحمل حقيبة وآلة كاتبة قديمة اشتراها من سوق المواد المستعملة، دخل الى الفندق وما ان لمحه موظف الاستقبال حتى سأله: هل أنت كاتب؟ فاومأ برأسه بنعم، فاعتذر الموظف قائلاً: لايوجد سرير فارغ.

ولأن الجو في الخارج كان قد اقترب من العشرين تحت الصفر فقد ترجّاه ان يستأجر غرفة ولو لهذه الليلة فقط.

-" لم نكسب من وراء الكتّاب غير المتاعب، يقيمون ثم يتسللون ودائما ما يجدون وسيلة لعدم الدفع” قالها موظف الاستقبال وهو يدير ظهره.

خرج كالدويل ليبحث عن مكان آخر، وعلى كثرة ما كتب من عروض للكتب وتقارير ساخرة لم يكن قد نشر غير قصة قصيرة واحدة لم تلق الاستحسان، لكن كانت لديه رغبة شديدة لأن ينضم الى صف الكبار:” رغبة طاغية تماثل،بالنسبة لبعض الناس، الحاجة للطعام والشراب. أما حدة وشدة وكثافة هذه الحالة الذهنية فهي التي تجبر المرء على المضي قدماً إلى أقصى مدى يتهيأ لبلوغه في سبيل تحقيق الهدف الواعي، أو غير الواعي، من حياته. إن من يملك الإرادة العنيدة للكتابة سوف يجد فرصته على الدوام ؛ وأولئك الذين يميلون إلى عدم البحث عن الفرصة المناسبة لديهم في العادة اهتمامات أخرى، بغض النظر عما إذا عرفوا هذه الحقيقة أم لا، أقرب إليهم وأحب إلى نفوسهم.

أخذ آلته الكاتبة، وفي زاوية لأحد الشوارع الرئيسية عثر على فندق آخر، استقبلته امرأة في الخامسة والثلاثين، اخبرها بأنه يبحث عن غرفة رخيصة الأجر، وأنه يستطيع ان يدفع أجرة أسبوع مقدماً، جلس ليكتب، لم يخرج من الغرفة الا لشراء وجبة طعام واحدة بشرط ان لايتجاوز ثمنها العشرين سنتا، وبحماسة مضاعفة بعث بعشرات من قصصه الى معظم صحف المقاطعة.

وخلال شهور نُشرت له ست قصص فقط لم يتسلم عليها أجراً فقرر ان يحمل حقيبته ويسافر الى نيويورك، وهناك عثر على مجلة تهتم بنشر النتاجات الأدبية، فأرسل لها العديد من القصص التي كانت تعود اليه مع عبارة “مرفوضة”، لم يشعر باليأس فأرسل لهم قصصاً اخرى. وذات يوم استدعاه احد عمال الفندق، فهناك مكالمة هاتفيه له، كان على الجانب الآخر مدير تحرير المجلة الأدبية ليبلغه:

- لقد قررنا ان ننشر قصتين من نتاجك.

لم يصدق ما سمعه فانتابته حالة من الصمت والشرود.كان المتحدث على الخط قد قرر ان يواصل الحديث:

- ما رأيك في اثنين وخمسين أجراً للقصتين؟

تمالك نفسه ليجيب: لكني تلقيت أجراً أكثر قليلاً من هذا.

- لتكن ثلاثة وخمسين، قال مدير التحرير.

  • حسناً ولو انني كنت أظن انني سأتلقى اكثر قليلاً من ثلاثة دولارات وخمسين سنتا.

- ماذا تقول.. انني اقصد ثلاثمئة وخمسين دولاراً، قالها مدير التحرير.

***

كان هدفه الجديد ان يجمع قصصه القصيرة في كتاب، عمل في حقل للبطاطس في النهار وتفرغ في الليل لكتابة القصص، قصة كل اسبوع، يبعث بها الى المجلات، وكان العديد منها ينشر، واكتشف قانوناً لتطوير عمله: كل قصة ترفضها ست مطبوعات يسقطها من حسابه. وذات يوم جمع كل ما كتبه من قصص لم تنشر واحرقها دفعة واحدة، ليقرر ان يرحل من جديد هذه المرة الى كارولينا، وكانت عدته للسفر آلة كاتبة، وماكنة للف السجائر وحقيبة ملابس صغيرة. وبعد ثلاثة ايام قضاها يتنقل بالباصات، كان يلتقي بأبطال قصته الجديدة التي قرر ان يجعل منها رواية، حيث رأى بطون الأطفال المنفوخة من الجوع، والناس الذين اقعدهم المرض، والقحط الذي كان يهيمن على مدن الجنوب الفقيرة. هكذا قرر ان تكون روايته الاولى عن فقراء الفلاحين الذي عاش وسطهم:”لقد مشيت في ذلك الدرب في صميم فصل الشتاء، ورأيت الناس الجائعين الملتفّين بالأسمال البالية يذهبون إلى لا مكان ويأتون من لا مكان، ملتمسين الطعام والدفء، راغبين في أن يعرفوا ما إذا كانت أشياء مثل الطعام والدفء، لا تزال موجودة في بقعة ما من بقاع العالم. إنهم لم يلتمسوا شيئاً أكثر من الغذاء الكافي لأن يمسك عليهم الحياة حتى مطلع الربيع بحيث يكون في مقدورهم أن يزرعوا القطن للموسم الجديد. كان لهم من الإيمان بالطبيعة، بالأرض، وبالنبات الذي في الأرض، ما جعلهم لا يفهمون كيف يمكن للأرض أن تخونهم أو تخيّب رجاءهم، ولكنها خانتهم وخيبت رجاءهم.»

فالناس في “ طريق التبغ” فقراء وبائسون وخطاة ولصوص، ولا يأبه واحدهم بمصائب الآخر، لكن السؤال الذي يحاول ان يطرحه كالدويل: يا ترى هؤلاء الناس ولدوا هكذا؟ أو هل اختاروا بإرادتهم أن يكونوا أشراراً؟ أبداً، يجيب كالدويل في مقدمة طريق التبغ: “إن مجتمع البؤس الخارج عن إرادتهم هو الذي صنعهم”. وبالتالي فإن الكاتب يقدم لنا ذلك العالم الغريب في الرواية المتحلق من حول أسرة “جيتّر ليستر”، المزارع البائس الممتلئة حياته بالمصائب وبالأطفال الذين أنجبت له زوجته سبعة عشر ولداً في بيتهم الضيق الفقير الواقع. لقد مات باكراً خمسة من أولئك الأولاد، وهرب معظم الباقين إلى المدينة، وهناك في الحلقة المحيطة بأسرة ليستر صهر العائلة “لوف بنزي” الذي لا يتوقف عن محاولة سرقته، وهناك المراة المتدينة التي تقترب من الأربعين، وترملت غير مرة بعدما كانت مومساً، وها هي الآن تغري ابن الأسرة “ديود” (16 سنة) بالزواج منها مقابل أن تشتري له سيارة يقودها فيتجولان معاً للدعوة إلى الدين. إذاً، من حول هذا العالم بما فيه من احتيال وبؤس وأكاذيب وقبح ؟ هذا ما يحاول ان يجد له اجابات من خلال الرواية.

تنشر الرواية عام 1932 وينتظر شهوراً قبل ان يبلغه الناشر ان الخمسة آلاف الأولى من الرواية قد نفدت وانه ينوي اصدار طبعة جديدة، ويتلقى اول اجر ضخم، سبعمئة دولار دفعة واحدة، ولم يمض عام حتى قرر احد مسارح برودواي ان تحول “طريق التبغ” الى مسرحية استمر عرضها لسبع سنوات بدون انقطاع، وها هو الحظ يحالفه، فتمنح الرواية جائزة ادبية قدرها الف دولار يحقق من خلالها احد ابرز أحلامة بالحصول على بيت للسكن.

لقد تخلص اخيرا من عبء السعي وراء النشر واصبح له وكيل اعمال يقوم بمهمة البحث عن ناشر، واخترقت قصصه القصيرة أسوار الصحف الواسعة الانتشار، واشترى آلة كتابة جديدة، وبدأ بالتخطيط لكتابة رواية جديدة، ولكي يكتب يجب ان يتجول في انحاء البلاد، فيذهب في رحلة الى الجنوب، هناك يستأجرغرفة صغيرة ليخطط لروايته الشهيرة “ارض الله الصغيرة”.وكان في ذهنه ان يعقبها بكتاب انطباعات عن رحلاته، كان يقطع ثلاثين ميلا في اليوم، كانت قصصه القصيرة تشق طريقها الى الصحف الكبرى، وهو الان في الرابعة والثلاثين، اصبح مشهورا، له سكرتيرة تعنى ببريده واعماله تترجم وتطبع بالملايين وتتحول الى افلام سينمائية تحصد له الشهرة والمال.

كيف اصبحت روائيا؟

كثيرا ما يواجه الروائيون بهذا السؤال، وقد حاولوا الاجابة عنه في كتاباتهم ولكن الاجابة تكاد تكون هي نفسها عند معظم الروائيين الا ان كالدويل يقول في اسمها تجربة:” لعل اليأس وحده هو الذي دفعني الى الكتابة مثلما يتشبث شخص بزواج فاشل خوفا من الوحدة».

في الصفحات الاخيرة من مذكراته يخبرنا كالدويل أن كل كاتب يتلقى خطابات وديّة وعدائية بنسب وكميات متفاوتة ثمّ يذكر لنا بعض الأسئلة وإجاباته عليها ومنها:

- هل ذهبت إلى المدرسة لتتعلم ماتعلمته عن كتابة القصص والكتب؟

* لا. تعلمت بالخبرة. بالتجربة والخطأ، وبالعمل بالكتابة حتى اقتنعت بالنتيجة.

- ماهو هدفك من كتابة روايات مثل: طريق التبغ، وارض الله الصغيرة وبيت في المرتفعات مالفائدة التي تقدمها هذه الكتب؟

* الهدف من كل هذه الكتب هو أن أقدم مرآة يستطيع الناس أن ينظروا إليها. و مهما كان الخير أو الشر في كتبي فإن ذلك يعتمد على ردود فعل القارئ تجاه الصور التي يراها في المرآة.

- كتبت كثيراً عن الفقراء، لماذا لاتكتب عن الأشياء السعيدة في الحياة.؟

* أولئك الذين يستمتعون بمباهج الحياة أقل بكثير من أولئك الذي يُقاسون مآسيها. حين يتغيّر الوضع الاجتماعي سأشعر آنذاك، أنه لم يعد هناك أي هدف للكتابة عن آثار الفقر على الروح الإنسانية.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

(1943 – ) Joseph Stiglitz

جوزف ستگـلتز هو الاقتصادي المعاصر الذي ينتمي للكينزيين الجدد. وهو البروفسور في جامعة كولومبيا - نيويورك، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2001 (بالمشاركة مع  جورج أكرلوف ومايكل سبنس) عن مساهماته النظرية في حقل اقتصاد المعلومات وبالذات في جانب تأثير عدم تماثل المعلومات Information Asymmetry بين الاطراف الاقتصادية على الانتاج والاستهلاك، خاصة في قطاع التأمين. وكذلك مساهماته النظرية في موضوعي المخاطر المالية وسوق المنافسة الاحتكارية. كما كان واحدا من اعضاء الفريق الذي حاز على جائزة نوبل لعام 2007 على الدراسات التي اهتمت بموضوع البيئة وتغير المناخ.

واضافة الى عمله في التدريس والبحث في عدة جامعات منها هارڤرد وپرنستن وستانفورد وييل وكمبرج الانگليزية،  فقدانتدب للعمل كعضو اولاً،  ثم رئيسا لمجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الابيض لدى ادارة الرئيس بِل كلنتن.  كما عمل نائبا لرئيس منظمة البنگ الدولي والاقتصادي الاقدم فيها، لكنه سرعان ما اكتشف حقيقة سياسات البنك وصندوق النقد الدولي الضارة بالبلدان النامية فانتقدها ! ونتيجة لذلك أُجبر على الاستقالة.   وله مناصب وعضويات ونشاطات اخرى منها تأسيسه لمبادرة حوار السياسات Initiative for Policy Dialogue  في جامعة كولومبيا كمركز للدراسات في شؤون التنمية الدولية. كما انه انتدب للعمل كمستشار للرئيس أوباما ايضا لكنه انتقد سياسة الانقاذ المالي للشركات الكبرى والبنوك التي كانت على وشك اغلاق ابوابها واعلان حالة الافلاس.  كما انتقد عمل وكالات المعايير المالية Financial Rating Agencies  التي اعتبرها تعمل بشكل مشبوه مع البنوك. كما انه حصل على 40  شهادة فخرية من مختلف الجامعات، ونال تكريما دوليا رسميا من فرنسا وكوريا الجنوبية وبوليفيا وكولومبيا والاكوادور.

ولد جوزيف ستگـلتز عام 1943 في مدينة گـَري - انديانا لعائلة يهودية، حيث كان والده بائعا لبوليصات التأمين وكانت والدته معلمة في احدى المدارس الابتدائية في المدينة. اجتهد في المدرسة فذهب الى كلية أمهرست في ماسچوستس. وقبل ان يكمل السنة الرابعة ساعده  بعض اساستذته في الحصول على قبول في الدراسات العليا في MIT عام 1964.

-  في صيف 1965 التحق بجامعة شيكاغو كباحث مساعد للبروفسور هيروفومي أوزاوا.

-  في خريف 1965 ذهب الى جامعة كمبرج الانگليزية بمنحة فلبرايت. وهناك حصل على  منحة بحث.

-  أكمل الدكتوراه في MIT عام 1967 وتعين كاستاذ مساعد في نفس القسم حال نيله الشهادة .

-  في عام 1970 حصل على عمل كاستاذ في جامعة ييل.

-  في عام 1976 نشر دراسة مع  مايكل روثجايلد عن سوق التأمين الصحي كشفت ان شركات التأمين توفر خيارين للمستهلكين: الخيار الاول يستلزم دفع مقدمة اولية عالية وقسط  شهري منخفض، والخيار الثاني يطلب مقدمة اولية قليلة وقسط شهري عالي. وهذا النظام أدى الى انفصال المستهلكين الى مجموعتين:  مجموعة الذين يتمتعون بصحة جيدة  ودخل عالي هي التي اخذت الخيار الاول، ومجموعة الذين يحتاجون الى رعاية صحية واغلبهم من اصحاب الدخول الواطئة.  فلم تجد هذه المجموعة امامها غير الخيار الثاني. كانت هذه الدراسة هي التي شكلت بداية اهتمام ستگلتز باقتصاديات المعلومات التي تبعتها دراسات اخرى ، ليس فقط في قطاع التأمين انما في قطاعات اخرى تلعب فيها المعلومات بين المنتج والمستهلك دورا كبيرا كقطاع الائتمان وهيكل اجور العمل والبطالة والضرائب، وجميعها هي التي شكلت مساهمته المتميزة التي اوصلته الى الفوز بجائزة نوبل.

-  في عام 1979 نال جائزة جون بيتس كلارك التي تُمنح للاقتصاديين المتفوقين قبل سن الاربعين.

-  في عام 2002 نشر كتابه الشهير Globalization and its Discontents الذي ترجم الى 30 لغة وبيع منه اكثر من مليوني نسخة.

-  في عام 2005 ترأس معهد بروكس الدولي التابع لجامعة مانچستر البريطانية.

-  في عام 2008 دعته حكومة ساركوزي الفرنسية لرئاسة لجنة تقييس الاداء الاقتصادي والتقدم الاجتماعي.

-  في عام 2009 دعاه الامين العام  للجمعية العامة في الامم المتحدة لرئاسة لجنة الخبراء لاصلاح النظام النقدي والمالي العالمي، والتي اختتمت اعمالها باصدار ما سمي بـ Stiglitz Report.

-  في عام 2010 عمل مستشارا اقتصاديا وماليا للحكومة اليونانية.

-  في عام 2011 سمته مجلة تايم الامريكية كواحد من 100 شخص لهم التأثير الاكثر في العالم. وبين عامي 2011 و2014 اصبح رئيسا للجمعية الاقتصادية الدولية.

-  في عام 2015 التحق كعضو في لجنة المستشارين الاقتصاديين لحزب العمل البريطاني.

-  اصبح احد مؤسسي معهد الفكر الاقتصادي الجديد الذي انبثق بعد الازمة المالية العامة لعام 2008 بهدف تطوير دراسة الاقتصاد باتجاه حل المشاكل الاقتصادية الحقيقية التي يواجهها العالم في القرن الواحد والعشرين.

في ملخص سيرته الذاتية التي قدمها الى لجنة جائزة نوبل، يتساءل ستگلتز عن مسقط رأسه  فيقول:

يبدو ان هناك شيئا ما في هواء مدينة گري – انديانا يقود الشباب لدراسة الاقتصاد!  فقد انجبت هذه المدينة پول سامولسن ونخبة من الاقتصاديين المعروفين.  ويجيب عن ذلك فيقول لابد لعوامل مثل الفقر والتمييز العنصري  والبطالة المزمنة هي التي  تدفع الطلاب المجتهدين لتأمل تلك المشاكل والتفكير باسبابها الاقتصادية ومعالجاتها.  يقول انه نشأ  في عائلة كانت غالبا ما تناقش السياسة والاقتصاد والمشاكل الاجتماعية من منطلقات فكرية مختلفة. فبينما كانت والدته تنحدر من اسرة تنتمي لديمقراطيي العقد الجديد المواليين بحماس لروزفلت، كان والده مؤمنا بديمقراطية جيفرسن ومعتزا بنفسه كرجل اعمال صغير يريد ان يكون سيدا لنفسه في العمل.  يعي المسؤولية الشخصية ويقدس الاعتماد على الذات والسعي المخلص لرفع مستوى معيشة عائلته قدر المستطاع. كما كان مواليا ومدافعا حقيقيا عن الحقوق المدنية،عامةً، وللاقليات خاصة.ً

يواصل بأنه كان محظوظا لان ينال تعليما جيدا في المدارس العامة التي تميزت بتفوق برامجها وكادرها التعليمي واحتضانها لكل الطلاب بمختلف انحداراتهم الطبقية والأثنية. ويذكر بأن المدرسة  في مدينته اتاحت الفرصة للطلاب بممارسة هواياتهم المختلفة،  فكانت هوايته النقاش والمناظرة الثقافية والسياسية ضمن الفريق الخاص بذلك.  ويذكر ان من الموضوعات التي طُرحت للمناقشة كانت  حول المساعدات التي تمنحها الحكومة للقطاع الزراعي، وهو الموضوع الذي شغله بعد ذلك لفترة طويلة حتى انه حاز على اهتمامه بشكل رسمي كجزء من عمله الاستشاري في ادارة كلنتن.

يشيد ستكلتز بتجربة تعليمه في كلية أمهرست ويعتبرها المحطة الاولى في مسيرة صياغة تعليمه وثقافته التي بدأ منها انحيازه الى دراسة الاقتصاد كموضوع للتخصص الاعلى، لاعتقاده ان هذا الحقل يوفر له الجمع بين رغبته وقابليته في الرياضيات وبين دراسة التاريخ والكتابة الادبية. وهكذا فقد حصل على منحة دراسية من MIT لاكمال دراسته العليا في الاقتصاد بظروف حد الكفاف، حيث لم توفر له المنحة الدراسية سوى دولار واحد في اليوم اضافة الى دفع ايجار غرفة سكنه وتكاليف الكتب واللوازم الدراسية.

يقول ان كلية امهرست اتاحت له الفرصة ان يمارس رغبته في النشاط المدني والاهتمام بالمواضيع السياسية والاوضاع الاجتماعية والمدنية للطلاب. ولنشاطه الواضح في هذا المجال فقد انتُخب رئيسا للمجلس الطلابي في الكلية.   يقول ان هذا الموقع وفر له ان يفهم مباشرة تأثير النفوذ والسلطة التي ينبغي ان تؤخذ كمؤشر لثقة الناخبين وكعهد للالتزام بخدمة مصالحهم. ويروي انه بدأ عمله في رئاسة المجلس الطلابي باطلاق حملة عامة لحل جمعيات الاخاء الطلابية Fraternities التي اعتقد وزملاؤه في المجلس انها تضر اكثر مما تنفع! حيث انها تنمي الشعور بالانفصال الطبقي والعنصري وتؤول الى عزلة الطلاب من الاقليات. وهذا مناف لروح التعليم العالي الذي ينبغي ان يتصف بالانفتاح والتحرر والتكاتف. ويعترف ان ذلك الموقف وتلك الحملة قوبلا بمعارضة شديدة لكن عمل الزملاء الجاد والحثيث استطاع ان يجعل المجلس يخطو خطواته الواثقة ضد النزعة الانفصالية ومع تنمية ومساندة حركات الحقوق المدنية اعلن المجلس اننا كأمة لايمكننا ان نقبل أي مظهر من مظاهر التمييز العنصري كما قبلت الاجيال التي قبلنا العبودية والاستعمار.  وبذلك يؤكد  ان الكلية اصبحت افضل بكثير بدون تلك الجمعيات. ومن نشاطاته المدنية انه ذهب مع مجموعة من الطلاب الى واشنطن العاصمة للاشتراك في المسيرة التاريخية التي القى فيها مارتن لوثر كنگ خطابه I have a Dream.  کما استطاع ستگلتز ، من خلال عمل المجلس،  تنظيم برنامج التبادل الثقافي مع جامعة صغيرة في الجنوب خاصة بالطلاب السود. وهو يعتقد ان الوقوف بحزم للدفاع عن الحقوق المدنية هو الطريق القويم رغم انه محفوف بالمخاطر ومثقل بالتضحيات، خاصة بعد تعرض عدد من نشطاء الحقوق المدنية في البلاد الى الاغتيال.

يواصل ستگلتز وصف مسيرة تعليمه فيقول:  اذا كانت كلية أمهرست قد حفزت في داخلي الفطنة الفكرية، فان سنوات دراستي العليا في MIT  قد طورت عندي روح الاقتصادي المحترف.  وذلك بفضل نخبة من ألمع الاقتصاديين في تاريخ الفكر الاقتصادي الذين شكلوا الهيئة التدريسية في قسم الاقتصاد أمثال سامولسن وموديلياني وسولو وأررو وكثير غيرهم. ويقول نفس الكلام بالنسبة لزملائه الطلاب المتفوقين امثال جورج أكرلوف الذي اختص باختصاص مشابه لاختصاصه وشاركه الفوز بجائزة نوبل فيما بعد.  ولا ينسى ان يذكر فضائل منهج التدريس وملائمة المناخ الاجتماعي والسياسي لشخصيته.   فهو يصف طريقة التدريس في MIT  بانها تقوم على اساس كشف ومناقشة موديل واضح ودقيق ومباشر، وتهتم باثارة الاسئلة المهمة حول القضايا الاقتصادية. أما المناخ السياسي والاجتماعي فيصفه بالليبرالية والانفتاح ويتساءل: " لا ادري ماذا كان سيحدث لي لو اني ذهبت الى قسم آخر، كشيكاغو مثلا ، حيث طريقة التدريس لاتلائم نمط تعلّمي وكذلك المناخ السياسي المعروف بكونه محافظا".

وعطفا على طريقة التدريس التي اوضحها وامتدحها فقد بقيت مسألة التناقض بين الموديل النظري والواقع العملي تشغله، فأولى لها فيما بعد اهتماما جادا خاصة خلال الثمانينات من القرن الماضي.

وفي هذا الصدد كان يطرح للبحث السؤال : مالذي تقوم المؤسسة الاقتصادية بتعظيمه؟  ويبين انه بينما يؤسس الموديل النظري لفكرة ان المخاطر الوحيدة التي تواجهها المؤسسة هي عدم التوافق بين احتمالات الربح واحوال السوق، يأتي الواقع العملي ليثبت ان المؤسسة تواجه في الحقيقة مخاطر احتمالات فشلها بموجب مايجري في داخلها وليس ما يجري خارجها في السوق. وهذا نتيجة لتناقض آخر متجذر في افتراض الموديل النظري بان عناصر المؤسسة الداخلية منسجمة مع بعضها ولصانعي القرار فيها نفس المنهج والرأي! في حين ان الواقع العملي اثبت مرارا وتكرارا بان لأي مؤسسة مشاكل داخلية عويصة ومعقدة مفادها الصراع على السطوة والمال والمنافع الذي غالبا ما ينشب بين الاقطاب المتعارضة مصالحهم.

ان مساهمة ستگلتز المهمة في موضوع المعلومات غير الكاملة وغير المتوافقة وتأثيرها على الاداء الاقتصادي للافراد والمؤسسات بدأ عند بدء تساؤلاته عن موضوعة عدم التأكد Uncertainty حيث ان الموديل النظري النيوكلاسيكي افترض ان المعلومات التي يهتدي بها صناع القرار الاقتصادي، افرادا ومؤسسات، هي معلومات تامة Perfect information والحقيقة ابعد من ذلك بكثير.  يذكر بعض العوامل التي ساعدته على الاهتداء للبحث في مسألة المعلومات وصياغة منهجه فيها، منها:

- دراسته النظرية في كلية أمهرست و MIT وخاصة في مواضيع الاحصاء- نظرية الاحتمال والاستنتاج والاستقراء وكذلك في موضوع المالية.

- السفرة التي قام بها الى كينيا في افريقيا التي كان لها الاثر الكبير لتعلقه بموضوع المعلومات حيث انه واجه مجتمعا واقتصادا يختلفان تماما عما عاش ونشأ فيه.

- كونه عاش في أوج سنين الحرب الباردة التي عرف من خلالها بأن النظام الاشتراكي كان يقود اقتصادا ناجحا ولكن على حساب حرية الافراد والمؤسسات. أما النظام الرأسمالي الفخور بحرية الافراد والمؤسسات فانه يعاني من امراض مزمنة ليس لها شفاء كالبطالة والتضخم والكساد الدوري. أما بقية بلدان العالم النامية المتأرجحة بين النظامين والتي كان اغلبها يعيش تحت نير الاستعمار، لم تشهد لا نموا اقتصاديا ولا حرية. ان ادراك ذلك دفعه للتساؤل حول امكانية ايجاد النظام البديل! ولكن كيف يمكن لمثل هذا النظام ان ينشأ ويتطور في ظل المعلومات المتوفرة غير الكاملة وغير المتوافقة.

تميز ستگلتز عن زملائه الاقتصاديين الكبار بصراحته وعدم تردده في انتقاد المعالجات الاقتصادية التي يراها غير مناسبة. ولعل اشهر انتقاداته تلك التي كلفته منصب نائب رئيس البنك الدولي.  لقد صرح وهو في منصبه بان البنك الدولي لم يحقق النتائج المرجوة في تحفيز النشاط وتصعيد النمو الاقتصادي! بل اتبع سياسة صندوق النقد الدولي التقليدية التي تقوض المساعي الديمقراطية في البلدان النامية وتشجع قطاعات وجماعات مختارة على ارتقاء سلم التجارة واستلام المفاتيح الاساسية للنشاط الاقتصادي، جنبا الى جنب مع معارضة وتقليص المشاريع الحكومية العامة التي ينتفع منها السواد الاعظم من الناس. ومع حلول أزمة شرق آسيا استعر خلافه مع مسؤولي صندوق النقد ليصل الى أوجه ويجبره على الاستقالة نتيجة للضغوط التي وضعتها ادارة الصندوق على مسؤولي وزارة الخزانة المالية في واشنطن.

وحيال ذلك، قال ستگلتز:

لقد كانت تجربة مذهلة ادركت فيها ان حكومة الولايات المتحدة تقف في طريق تطبيق مبادئ الديمقراطية والاستقلال والشفافية التي نشأنا مؤمنين بها. وقد اعطتني هذه التجربة الحافز للعمل باتجاه آخر. فاضافة الى عودتي للتدريس قمت باطلاق المشروع الذي اسميته مبادرة حوار السياسات بدعم من مؤسسات كبيرة مهمة مثل فورد وركفلر ومكارثر وموت وحكومات مثل السويد وكندا بهدف طرح سياسات بديلة لدعم العملية الديمقراطية وتحفيز النمو الاقتصادي في البلدان النامية. تقوم هذه المبادرة على اشراك الحكومة مع الاكاديميين وقادة المنظمات العمالية والصحفيين وممثلي المجتمع المدني في مناقشة السياسات الاقتصادية المطروحة وصياغة ما يكون الاجماع عليه كاكثرها فعالية وفائدة للمجتمع. وقد حققنا من خلال ذلك نجاحات ملموسة في بلدان مثل نايجيريا وڤيتنام وصربيا والفلبين.

ومن انتقاداته الاخرى كانت حول  نظرية التوقعات العقلانية Rational Expectations Theory التي لمع نجمها في الثمانينات. يقول: لم أجد أي عقلانية في توقعات ان البطالة سوف لن تكون مشكلة كبيرة وان السياسات الاقتصادية الحكومية لن تكون فعالة. يرّد على ذلك في بحثه المشترك مع پيتر نيرلي الذي أثبتا فيه العكس تماما حیث ان مشكلة البطالة ستلازم حياتنا وبالتالي فلابد من تدخل الحكومة  في كل مرة لمعالجة الازمة المزمنة التي تتفاقم مرارا وتكرارا. واقرب مثال على ضرورة التدخل الحکومي  هو ماشهدناه مؤخرا والمتمثل بزيادة الانفاق الحكومي التي انتجت تأثيرات جانبية كزيادة الادخار التي تعني زيادة الدخل في الفترة القادمة وبالتالي زيادة الاستهلاك التي تدفع الي زيادة الانتاج التي ستمتص البطالة.

وحول انهيار المنظومة الاشتراكية واندفاع انظمتها السريع والمرتبك نحو اللامركزية واقتصاد السوق، يقول ستگلتز: كنت واثقا ان الامر يتطلب فهم نظام اقتصاد السوق وادراك متغيراته التي تفرض ان يكون التحول اليه  تدريجيا ومتوازنا، مع الحفاظ بالدور الفعال للحكومة، جنبا الى جنب مع تهيئة الهياكل المؤسسية اللازمة والبناء التحتي القانوني! وإلا سيصبح التحول فوضويا، وهذا ما حدث! كما انني اختلفت مع نظرية العلاج بالصدمة Shock Therapy  اسوة بطرق صندوق النقد الدولي، حيث اثبت الواقع فشلهما.

من آخر الحوارات مع ستگلتز، ذلك الذي اجراه معه أليُت سمث    Eliot Smithلموقع CNBC الالكتروني  بتاريخ الاول من أيلول 2023 .  وكان جُله حول التضخم الذي حصل بعد نهوض الاقتصاد في اعقاب تراجع وباء الكرونا.  يقول ستگلتز:

في ديسمبر 2020 كان معدل التضخم السنوي يساوي  1.2% وقد قفز الى 9.1 % في حزيران 2022، اي خلال ستة اشهر فقط، وهي أعلى قفزة خلال عدة عقود.  يقول ان البنگ الاحتياطي الفدرالي أخطأ الهدف حيث أصرّ جيروم پاول رئيس البنگ على ان هذا التضخم عبارة عن تضخم انتقالي Transitory ومن السهولة السيطرة عليه! لكن البنگ لم يراجع دروسه حيث  اعتقد السيد پاول ان سبب ذلك الجموح هو الزيادة الحاصلة في الطلب بعد ان افاق الاقتصاد من سباته! لكن الاسعار غالبا ما ترتفع لاسباب اخرى، وقد كان احد هذه الاسباب المهمة هذه المرة هو النقص الكبير في عرض نوع خاص من الرقائق تسمى  Semiconductor Chips التي تعتمد عليها كل الاتصالات الالكترونية.  كما ان البنك قام برفع سعر الفائدة 11 مرة ليوصله الى  5.5% وهو اعلى معدل خلال 22 عاما ، وذلك من اجل الحد من جموح التضخم. وكنتيجة فقد انخفض معدل سعر المستهلك القياسي CPI الى 3.2%. وقد اعقب ذلك حالة من القلق وعدم الاطمئنان لحالة الاقتصاد بعد الوباء مما جعل الشركات والمستهلكين يترددون في اطلاق انفاقاتهم كما كانوا قبل الوباء. وبهذا فقد سارعت الحكومة  بتمرير وتنفيذ "تشريع تقليص التضخم" Inflation Reduction Act لتجنب الوقوع في الكساد. وهو التشريع الذي استهدف حقول استثمارية هامة مثل البنى التحتية وتغير المناخ والصناعات الاساسية مما قاد الى استثمار اكثر من 500 بليون دولار في اقل من سنة. ومن المقرر ان ترتفع الى ترليون دولار بعد فترة قصيرة. ان هذه المعالجة هي التي انقذت الاقتصاد من الآثار الانكماشية التي كانت تسببها السياسة النقدية للبنگ الفدرالي.

بعد هذا التصريح الجرئ والخطير حول فشل السياسة الاقتصادية التي يتبعها البنگ الفدرالي، احجم مسؤولو البنگ عن الرد.

Information Asymmetry

يراد بهذا المصطلح عدم توازن المعلومات واختلاف اهميتها بين اطراف اي صفقة اقتصادية كأن تكون بين بائع السلعة او الخدمة ومشتريها، أو بين شركتين تعقدان صفقة تجارية، أو بين الدائن والمديون. فهذه الحالة من عدم التكافؤ في المعلومات تخالف ما افترضته النظرية النيوكلاسيكية بأن كل طرف من الاطراف يمتلك المعلومات الكاملة Perfect Information Assumption

ونظرية تباين المعلومات تبحث في اسس الوصول الى قرار الصفقة بين الطرفين اذا كان معلوما ان هناك اختلال في توازن المعلومات. وما استنبطه ستگلتز خلال دراسته لسوق التأمين هو التكنيك الذي سمي بغربلة المعلومات Screening من اجل تقليل آثار هذه الحالة على الطرفين . حيث ان شركات التأمين وبنوك الاعتماد تعتمد بشكل رئيسي على تصنيف العملاء بموجب مديات المخاطر التي تترتب على منحهم بوليصات التأمين أو القروض. والمثال الاكثر وضوحا هو تصنيف طالبي كارد الاعتماد Credit Card بموجب الدرجات التي تعطى لهم من قبل وكالات المعايير المالية المثبتة في تقارير تلك الوكالات Credit Report  عن كل مستهلك، فرد أو شركة.   ودرجات الاعتماد هذه  Credit Scores   هي التي تعوّل عليها شركات الاعتماد وتعتبرها مقياسا معتمدا لمدى ثقتها بالمستهلك.   وهكذا، فكم ونوعية المعلومات ستقرر لأي طرف ستترجح الكفة. فمثلا قد تكون الكفة لغير صالح شركة التأمين الصحي أو التأمين ضد العوق والعطل حين تنفق مبالغ طائلة في حالة عدم معرفتها الكثير عن مشتري التأمين الذي قد يدعي انه يعاني من مرض عضال او انه تعرض لحادث سيجعله  معوقا وعاطلا عن العمل. ويصح الامر كذلك حين تنشب الحرب بين دولتين نتيجة لسوء او نقص في معلومات طرف عن طرف آخر. وقد يسئ احد القادة التقدير حول امكانية الدولة الاخرى في طاقة البلاد لامتصاص ظروف الحرب او كمية ونوعية التسليح او استعداد جنوده للقتال او طاقة الاستخبارات وطبيعة الجغرافية والمناخ! وقد ويندفع لاشعال فتيل الحرب التي سيضمن خسرانها مدى كم ونوع المعلومات التي اعتمد عليها ذلك القائد.

Moral Hazard

بالرغم من ان هذا المصطلح قديم الا انه تجلى اكثر وضوحا في دراسات ستگلتز عن عدم توافق المعلومات. ففي ظل اختلاف المعلومات بين طرفين مشتركين في صفقة ما، قد يكون من الممكن للطرف الذي يمتلك المعلومات الافضل ان ينتهز الفرصة ويخاطر بجانب ما منها لمنفعته ولعلمه ان الطرف الآخر الذي افتقد لتلك المعلومات سيتحمل النتائج التي ستأتي لغير صالحه . وبهذا فان ذلك الطرف الاول سيرتكب مجازفة غير مناسبة اخلاقيا.

Adverse Selection

وهذا مصطلح مشابه لسابقه ويعني:  اذا قام طرف واحد (البائع مثلا) باستغلال فرصة ان الطرف الآخر (المشتري) لايعلم بجزء ما من الصفقة قد تكون متعلقة بنوعية او صلاحية السلعة التي يشتريها معتمدا على ثقته بالبائع. وهنا فان كل الاضرار التي يتحملها المشتري نتيجة لذلك ستكون مترتبة على ما  يسمى بالخيار المناوئ.

Monopolistic Competition

اكمالا لاهتمامه بموضوعة المنافسة الكا ملة في الموديل النيوكلاسيكي، عمل ستگلتز مع زميله أفينش دكست Avinash Dixit على صياغة موديل بديل في نظرية التوازن العام. وكان قد اظهر هذا الموديل تطبيقيا حالة الـ Increasing Return to Scale التي تحد من دخول المنتجين الجدد للسوق. ولكن عندما يفضل المستهلكون التنوع  في المنتوج سيكون الدخول الى السوق متاحا.

والمعروف ان المنافسة الاحتكارية تمثل نوعا من الاسواق التي يعمل فيها عدد من المنتجين الذين ينتجون سلعة مشابهة عموما لكنها متميزة نوعا ما، ولهذا فلا يستطيع اي منتج منهم ان يدعي احتكار انتاج تلك السلعة.

Shapiro-Stiglitz Efficiency Wage Model

في عام 1984 تعاون ستگلتز مع زميله كارل شبيرو Carl Shapiro لصياغة موديل رياضي يوضح السبب لعدم انخفاض الاجور للحد الذي يتوفر فيه عمل ما لكل من يبحث عن عمل. كما يوضح الموديل كيف ولماذا يشهد سوق العمل ما سمي بالبطالة القسريةInvoluntary Unemployment   حتى اذا كان سوق العمل في حالة التوازن العام.

Henry George Theorem

من ضمن مساهمته في نظرية المالية العامة، اقترح ستگلتز بأن أي منطقة تستطيع ان توفر ماتحتاجه من السلع العامة عن طريق فرض ضريبة خاصة على ريع الاراضي الواقعة ضمن حدودها الجغرافية. وكان قد سمى هذا الاقتراح احياءً لذكرى الاقتصادي الامريكي الكلاسيكي هنري جورج  (1839-1897) الذي كتب عن ضرورة فرض ضريبة محلية على قيمة الاراضي Land Value Tax في القرن التاسع عشر. وكان تبرير ستگلتز هو ان زيادة استخدام واستهلاك السلع العامة سيرفع من قيمة الاراضي وبالتالي زيادة اسعار ايجاراتها.

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

لن اكون مبالغا عندما اقول ان هذا الكتاب واعني كتاب كيركغارد او كيرككورد - كما يترجمه صديقنا العزيز قحطان جاسم – (إما – أو) يعد ابرز نتاجات الترجمة العربية لعام 2023، ان لم يكن واحدا من اهم الترجمات التي قدمت خلال السنوات الماضية، فللمرة الاولى سيطلع القارئ العربي على تحفة كيركغارد " إما – أو " الكتاب الذي فتن جان بول سارتر ومعه رهط من الوجوديين امثال هايدغر وياسبرز وميرلو بونتي وكامو وليس انتهاء بالاسباني اونامانو الذي كان يردد ان قراءة كتاب كيركغارد تسببه له قلقا مستفحلا يجعله يتخذ خيارات " إما – او ".

لم اكن اعرف كيركغارد عندما قد وقعت في حب الفلسفة الوجودية في سنوات مراهقتي، فقد كانت الوجودية بالنسبة لي تتمثل في سارتر ومعه سيمون دي بوفوار وصاحبهما الذي انقلب عليهما فيما بعد البير كامو. واتذكر المرة الاولى التي سمعت فيها باسم كيركغارد كانت عن طريق صديق الصبا عادل عبد الله الشاعر والباحث، في تلك السنوات كان هذا الصديق مهوس بشيء اسمه الوجودية، يقرأ سارتر، ويحفظ فقرات من البير كامو، ويعرج احيانا على كيركغارد الذي لم اعثر على كتاب له في ذلك الوقت وفي الضفة الاخرى كان لنا صديق آخر هو قحطان جاسم ماركسي الهوى والانتماء، وبسبب غواية عادل عبد الله رحت ابحث عن كتب تدلني على المرحوم كيركغارد، فعثرت على كتاب صغير بعنوان " الوجودية " كتبه انيس منصور، وفيه ساعثر على ضالتي، فصل كامل عن كيركغارد مكتوب باسلوب ممتع وسهل يشرح فيخ حياة هذا الفيلسوف وماذا يريد ان يقول؟، ولانني كنت اعمل في مكتبة تتجدد فيها الكتب والمجلات، وقد كنت كنت شخصا فضوليا فيما يتعلق بالكتب. ما ان اجد كتاب جديد يحط رحاله على احد الرفوف حتى اذهب باتجاهه لا ستكشف مضمونه؟ فقد عشقت عالم الكتب، وبعكس جورج اورويل الذي يشتكي من هذه المهنة عندما كتب: " أتود ان تكون مهنتك بائعا للكتب؟ على الاجمال – برغم لطف رب العمل معي، وبعض أيام سعيدة قضيتها في المحل – لا. " انا للاسف من الذين يتوقون للعمل مجددا في مهنة بائع الكتب، فمع الكتب ينتابني احساس بالتفاؤل، وعن طريق المكتبة، وبعد احاديث عادل عبد الله الممتعة عن الوجودية، كان لقائي الأول بهذه الفلسفة عن طريق مجلة مصرية اسمها " المجلة " يرأس تحريرها الروائي والقاص المصري يحيى حقي، فأثناء بحثي في المكتبة عثرت على اعداد من المجلة، وأذكر انني وجدت في احد الاعداد مقالا كتبه عبد الرحمن بدوي بعنوان " خلاصة الوجودية "، اخذت العدد معي الى البيت، وكان لا بد ان ابارز الاصدقاء بمعلوماتي الجديدة، يخبرنا عبد الرحمن بدوي في مقاله ان الوجودية لها مركز الصدارة في الفكر المعاصر، وهي اصدق تعبير عن حالة القلق العام الذي تملَّك العالم بعد الحرب العالمية الاولى ثم الثانية. فلقد كان لهذين الحدين اثر بالغ في اشعار الانسانية بالمعاني الكبرى التي تؤلف نسيج وجودها..ثم وجدت مقالا في مجلة الاداب اللبنانية كتبه شعبان بركات بعنوان " كيركغارد " وفي مقدمة المقال يكتب: " تخضع الفلسفة في الوقت الحاضر لتأثير فيلسوفين ألا وهما نيتشه وكيركغارد. ومع ان هذين الفيلسوفين لم يثيرا اي اهتمام في حياتهما بل ظلا بعيدين عن عناية الفلاسفة، فان تاثيرهما اخذ يعظم شيئا فشيئا "، اذن فقد اتضح لي ان كيركغارد فيلسوفا مهما ما دام كاتب المقال يضع اسمه الى جانب نيتشه الذي كان كتابه " هكذا تكلم زرادشت " يلقى اهتمام كبير من رواد المكتبة، وذات يوم وبسبب سؤالي المستمر عن الوجوية وكيركغارد وجدت المرحوم ابو يعقوب صاحب دار الكتب التي كانت تتخذ من شقة في شارع الرشيد، يقول لي " عندي لك كتاب لكن سعره غالي شويه "، كان الكتاب بعنوان " كيركجور.. رائد الوجودية " المؤلف إمام عبد الفتاح إمام والكتاب بجزئين وبعدد صفحات تجاوز الـ " 800 " صفحة، وهذه الصفحات كانت اشبه بعبارة افتح ياسمسم، حيث كشف لي المؤلف عن خفايا مغارة هذا الفيلسوف الذي رفض كما يخبرنا عبد الفتاح إمام ان يطلق عليه لقب فيلسوف،ف في الفصل الاول والذي عنونه المؤلف: " هل كان كيركغارد فيلسوفا " يكتب إمام عبد الفتاح إمام: " كان كيركجور يقول عن نفسه ان مهمته في هذه الدنيا ان يثير الاشكالات في كل مكان لا ان يجد لها حلا، فهل يمكن ان يعد كيركجور فيلسوفا؟ وهل هو جدير ببحث فلسفي متخصص؟ اول ما يجيب بالنفي عن هذين السؤالين هو كيركجور نفسه ! فهو يرفض أن يكون فيلسوفا او ان توصف افكاره بانها فلسفة، كما كان يخشى ان يتم تناوله بعد موته بالدراسة العلمية او البحث الاكاديمي "، اذن ها انا ادخل مغارة كيركغارد اخيرا ومن بابها الذهبي، وسياخذني كاتب آخر اهتم ايضا بالفلسفة الوجودية وكان من انصار الوجودية وهوعادل كامل ترجم العديد من الكتب التي تناولت الوجودية ومنها كتاب كيركغارد " خوف ورعدة " وهو الكتاب الذي اعاد ترجمته عن الدنماركية الصديق قحطان جاسم تحت عنوان " الخوف والرعشة.. انشودة ديالكتيكية " والترجمة الجديدة صدرت عن دار الرافدين التي اتحفتنا بعدد من مؤلفات كيركغارد، وكان آخرها الكتاب الذي حصلت عليه هذا اليوم واعني به كتاب " إما – أو ".

بعدها ستتحفنا سلسلة " مكتبة الدراسات الفلسفية " التي كانت تصدر عن دار المعارف المصرية بكتاب مذهل بعنوان " سوؤين كيركجورد أبو الوجودية " للدكتورة فوزية ميخائيل وفيه تخبرنا ان عناصر الوجودية موحودة في الفلسفة القديمة لكن الوجودية كفلسغة: " لم تنشأ إلا مع كيركجورد، لذلك نقول عنه انه رائد واب ومنشئ لتلك النزعة المسيطرة على الفكر الاوربي المعاصر رغم كل ما نجده من عناصر الوجودية قبله ".

كنت ولا ازال اؤمن ان كتابا جيدا لشخص ما، هو بالتاكيد كتاب رديء لشخص آخر، وهذا ما حصل معي، فقد كنت أسأل العديد من الاصدقاء من قرأ كيركغارد؟ فاجد البعض متحمس، فيما البعض الآخر يجد ان كتبه صعبة ومن العبث ان يقضي المرء وقتا في حل الغازها..قرأت مرة في احد الكتب ان بائع مجوهرات قدم نصيحة لصاحب مكتبة قال فيها: " اذا رايت شيئا ملفتا للنظر، اشتريه، سواء عشقته بالمطلق أو كرهته بالكامل "، وهذه النصيحة انفذها بدقة منذ سنوات طويلة، وانا اجمع الكتب، فلا يوجد عندي كتاب لا اهمية له، سواء احببته ام لم اقع في هواه.. بعض القراء يختار التخصص. انا لا.للمكتبة عندي مفهوم واسع من عناوين واسماء.ولم ادخل مكتبة يوما من الايام واغادرها بايدٍ فارغة.

منذ ذلك الحين بقي المرحوم كيركغارد مصاحبا لرحلتي الفكرية، ليس بشكل حرفي وإنما حينا يكون معي وحينا احاول الهروب منه . ربما يكون ذلك عائد إلى غرابة الحياة التي عاشها والمآسي التي طاردته.

ولد سورين كيركيغارد في كوبنهاغن في الخامس من أيار عام 1813، حاول في سن الشباب ان يتخلص من جو الكآبة الذي عاشه في البيت مع أبيه، فأقبل بكل قوة على حياة اللهو، ورفع شعار "تلذذ بكل ما هو حسي"، ونراه يحاول ايجاد اعذار لهذه المرحلة من حياته، فيكتب في يومياته: "لقد ولدت كهلاً حين أتيت الى الوجود، ولكن يعزى إلي الفضل في إخفاء أحزاني بسعادة ظاهرة".

ترسم لنا الكتب التي كتبت عن سيرة كيركغارد، صورة طريفة لصبي منعزل يرتدي سروالاً قصيراً وقميصاً ملوناً، وجوارب طويلة، حتى اطلق عليه زملاؤه في المدرسة لقب "صبي الجوارب"، لم يكن يملك اية لعبة في منزله، وحين كان يطلب الخروج من البيت كان والده يمنعه، فالاختلاط خطر: "لقد سرقوا طفولتي، وأعطوني وانا طفل هيئة رجل عجوز، كان ذلك رهيباً". كانت تسيطر على ابيه فكرة الخطيئة، وقد قال لأولاده انه عندما كان شاباً يرعى الأغنام، شعر باليأس والضجر، فأنكر الله الذي لم يساعده في الحياة، وانه رأى بعد ذلك في المنام ان عاصفة رعدية ضربته، ومنذ ذلك التاريخ وهو يظن ان الله سينزل عليه في يوم من الأيام عقاباً رهيباً، وحين ازدهرت تجارته، بدت له الثروة والحياة المرفهة كنوع من الاختبار، وحين وقع لابنه الأصغر سورين عدد من الحوادث، اعتقد الأب ان لحظة سداد الدين قد حانت، وان عليه ان يقدم آخر أبنائه قرباناً كما فعل النبي ابراهيم مع آخر أبنائه. ولعبت الأقدار دوراً في ازدياد كآبة الأب الذي دفن خمسة من أبنائه بالاضافة الى زوجته، هذا المزاج السوداوي يصفه لنا كيركيجارد في يومياته : " تلك الحياة هي العالم معكوساً، حياة قاسية وغير محتملة، احيانا نقول الوقت يمر، والحياة تتدفق، ولكني لا أرى ذلك، بل يبقى الوقت ساكناً، وانا كذلك، كل خطط المستقبل التي ارتبها ترتد الي، وحين أرغب ان أبصق، فأنا أبصق في وجهي".

وكان كيركيغارد يذكر الماضي الذي عاشه مع أبيه ويتعذب، لكنه لايريد ان يغادر هذا الماضي، انه يصر ان يجعل من عذابه نقطة انطلاق نحو فهم للحياة: "مهمتي ان أصرخ وأدعو الناس، ان أخلق المشاكل والصعاب في كل مكان".

في السابعة عشرة من عمره ينهي تعليمه الثانوي ويستجيب لرغبة والده بدراسة اللاهوت، وتبدأ مرحلة جديدة من حياته كان فيها مولعاً بقراءة اعمال الفلاسفة المثاليين الألمان، فنراه يبدي سعادة كبيرة حين يلتقي الفيلسوف الألماني شيلينغ: " انا سعيد سعادة لاتوصف لسماعي محاضراته، حتى انني تنهدت طويلاً بما فيه الكفاية، وتنهدت الأفكار بداخلي". وقد اتفق مع هجوم شيلينغ على هيغل.

عندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره توفى والده، الأمر الذي أحدث تحولاً كبيراً في حياته،: " لقد توفى والدي قبل ان يتم العقاب حباً لي، وذلك حتى اتحمل وحدي العقاب ".وبعد عامين حصل على شهادة في اللاهوت وخطب "رجينا اولسن"، لكنه فسخ خطوبته بعد عام، معلناً بوضوح انه لاينفع للحياة الزوجية، فقد اصبح مقتنعاً بأنه انسان لديه رسالة عظيمة، وان الزواج والعائلة يتعارضان مع هذا الهدف.

في العام 1843 ينشر اول كتبه "إما – أو" وفيه يعبر للمرة الاولى عن موقفه من الحياة، وهو موقف المتشائم: "لندع الآخرين يشتكون من هذا العصر الذي هو عصر الشر، إنني اشكو لأنه عصر تعس، عصر بلا عاطفة، وافكار الناس نحيلة وهشة كرباط الحذاء، ان نفسي مثقلة حتى انه ما من فكرة بقادرة على تعزيتها ". بعدها بأشهر ينشر كتابه الثاني "خوف ورعدة"، وتبع هذين العملين في عام 1844 كتاباه "مفهوم التهكم" و "شذرات فلسفية". وبعد عام نشر كتابه الخامس "مراحل على طريق الحياة"، ويبدو انه كان يشعر ان حياته قصيرة فأخذ يكتب بشكل محموم، فنشر خلال ثلاثة أعوام أكثر من مؤلف واصدر مجلة خاصة حاول من خلالها ان يبث افكاره التي اراد ان يقول من خلالها ان على الكنيسة ان تعود الى جوهر المسيحية، اذ يجب على المسيحية الكنسية ان تعترف بأنها ليست مسيحية.. وقد اتهم الكهنة بأنهم يتلاعبون بالدين، وجعلوا من الكنيسة مصدر كسب للعيش، لكنهم لم يفهموا ان الدين هو الولاء، وقبل كل شيء "في الارتفاع عن هذا"، وعن الكهنة الذين وصفهم بأنهم: "أكلة لحوم البشر".

في احد الأيام من شهر تشرين الاول عام 1855 وبينما كان كيركغارد يسير في الشارع، وقع مغشياً فنقل الى المستشفى،حيث رقد شهرا كاملا، والغريب ان اول عبارة قالها عند دخوله المستشفى: " لقد جئت هنا لاموت، " لتعلن وفاته في الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1855

كانت نتاج كيركيغارد على الرغم من وفاته في سن الحادية والاربعين، نتاجاً ضخماً وميادين البحوث التي تعرض لها تبلغ من الاتساع ما بلغته تلك التي ناقشها هيغل، وبما ان الوجود يعني القبام باختبارات اخلاقية فهو " إما- أو " مستمر وحياة عمل، ان نظرة كيركيغارد للفلسفة تعتقد انه لاتوجد باستمرار حدود حاسمة او واضحة المعالم للحياة، فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار شذرات غير مكتملة، ربما تكون رسالة كيركيجارد الأكثر اهمية هي أن فهم العالم والعمل على النفس يتطلب وجودك الكامل.لقد كان لعمله وحياته عمق أخلاقي حقيقي، إلى جانب السخرية التي اتسمت بها حياته: " فالشك للعلم، مثل السخرية للحياة الشخصية ". لم يكن كيركغارد بمثابة واحة جديدة استريح في ظلالها، بل عاصفة هائجة تثير حولها العواصف إن اكتشافي له في سنين المراهقة جعل القراءة بالنسبة لي ساعات من التأمل الجاد والمثمر، فقد كنت امام كاتب صارم وجاد.

ساعود من جديد الى الى المرحوم " كيركغارد " وانا استمتع بقراءة كتاب الاثير والمهم " إما – أو "، واتذكر معه سنوات جميلة مضت واصدقاء لا يزالون ينيرون حياتنا ومنه العزيز قحطان جاسم.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

كان هيجل من بين الشخصيات الرائدة  في الحركة التي عُرفت بـ "المثالية الألمانية" في القرن التاسع عشر. هؤلاء المثاليون كانوا في عملهم يجسدون رد فعل لعمانوئيل كانط ولكن باسلوب لم يتفق عليه كانط ابدا. اعتقد كانط باننا لا يمكننا ابدا معرفة العالم الخارجي كما هو "في ذاته"، نحن لا يمكننا ابدا معرفة العالم كما يتقرر بأذهاننا لإعطائنا تجربة به. هيجل بنى على هذا الاستنتاج ليجادل بان الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكد من وجوده هو الوعي الذي به ندرك العالم. لذا هو أعاد صياغة العالم بالنسبة للوعي وهذا ما كانت تعنيه "المثالية".

من المفارقة ان معظم الميراث العلمي الهام لأعمال هيجل هو تأثيره على ماركس بصبغة مادية. ذلك بسبب ان ماركس كان مفتونا باستعمال هيجل لفكرة هرقليطس في "الديالكتيك" لتوضيح الكيفية التي إنكشف بها المجتمع طوال التاريخ.

المراحل المبكرة لهيجل

وُلد هيجل في فترة هامة جدا من التاريخ، حيث وصلت الامبراطورية الرومانية المجيدة بعد ألف عام الى نهايتها. وخلال عشرين سنة من ولادة هيجل، اكتسحت متاريس وبنادق الثورة الفرنسية قرونا من اقطاعيات القرون الوسطى لتبشر باسس الديمقراطية الجمهورية التي استمرت حتى اليوم.هذه الاحداث الدراماتيكية ستترك انطباعا مستمرا على الشاب هيجل في تأثيرها الكبير على أفكاره.

بدأ هيجل تعليمه المدرسي في وقت مبكر. أرسله والداه الى مدرسة آلمانية في بلدته شتوتغارت Stuttgart عندما كان بعمر الثالثة، بعدها اُرسل الى مدرسة لاتينية وهو بعمر الخامسة. وعندما بلغ هيجل 11 سنة توفيت والدته التي أحبها كثيرا نتيجة لإصابتها بالحمى الصفراوية. ومباشرة بعد وفاة امه، حصلت لدى هيجل إعاقة في الكلام استمرت معه طوال حياته. وفي عمر 14 وبعد ان بانت عليه القدرة الأكاديمية، انتقل هيجل للدراسة في مدرسة شتوتغارت Stuttgart Gymnasium IIIustre لدراسة الكلاسيك واللغات القديمة والحديثة والفيزياء والرياضيات.

وعندما بلغ 18 عاما أدخله ابوه مدرسة توبنغن اللاهوتية على أمل ان يتبع خطى أعمامه الذين حضوا بمواقع محترمة كقساوسة. لكن هيجل وجد عناءً لا يُحتمل في اللاهوت. هو كان اكثر اهتماما بالفلسفة، وفي اللاهوت صنع هيجل صديقين شاركاه حماسه وهما فردريك شيلينغ وفردريك هولدرلن. شيلينغ سيصبح قطبا بارزا في الحركة المثالية الألمانية، ونجمه لمع باكرا لكن بالنهاية نجم هيجل سيصبح اكثر لمعانا. اما هولدرلن اصبح من اكثر شعراء المانيا الرومانسيين تبجيلا، وقد اُحتفي  به في حركة العاصفة والسحب الأدبية.

عندما كان هيجل بعمر الـ 19 عاما سمع هو و رفاقه أخبارا مثيرة عن الثورة الفرنسية تفيد بسقوط الحكم الارستقراطي في فرنسا بين عشية وضحاها بفعل رغبة الناس. هم كانوا سعداء جدا لرؤيتهم ان افكار أبطالهم الفلسفيين مثل كانط وفولتير وروسو كانت تلهم الامة الفرنسية نحو مجتمع راديكالي جديد؟ وكانوا يأملون ان تنتشر هذه الافكار شرقا (وهو ما لم يحصل).

بعد إكماله برنامجا دراسيا لمدة خمس سنين في مدرسة توبنغن، ابتعد هيجل عن ممارسة أي عمل بصفة قسيس وبدلا من ذلك عمل مدرّسا لأحدى عوائل برن الثرية. كانت لدى صاحب العمل الجديد مكتبة غنية، استخدمها هيجل للاطلاع على مجموعة من الكتب الكلاسيكية والمعاصرة. في هذا المكان عثر هيجل على كتاب (تاريخ انحطاط وصعود الامبراطورية الرومانية،1776) لـ بادوارد جيب Edward Gibbon. ما احتواه الكتاب من وصف مفصل وشامل لمصير أكبر امبراطورية اوربية اصبح مصدرا رئيسيا للالهام في عمله.

في شهر جنوري 1801 تلقّى هيجل دعوة من شيلينغ للالتحاق به في مدينة جينا الالمانية. وعلى الرغم من ان دعوة شيلينغ لا تتضمن عملا مدفوع الأجر الذي يبحث عنه هيجل، لكن ذلك ساعده في احتضان مجتمع اكاديمي مليء بالافكار الجديدة. وباشراف فون غوته، اصبحت جامعة جينا مشهورة كمركز للفلسفة المثالية لما بعد كانط ولكلاسيكيات ويرمر والادب الرومانسي الالماني. كانت جينا ايضا مكانا للرومانسية بالنسبة لهيجل. وفي عمر 37 عاما بدأ هيجل علاقة غرامية مع مالكة منزله جوانا بوركهارت، التي حالا اصبحت حاملا بابنها لودفيج.

وبعد ادراكه ان الولد الجديد سيشكل فما بحاجة للطعام،عمل هيجل في كل ليلة لإنهاء اول عمل رئيسي له وهو فينومينولوجيا الروح. هنا اقترح نظرية جديدة سميت الان (المثالية الديالكتيكية) اكّدت على ان تطور المجتمع طوال التاريخ  تقرر بقوى عملاقة وغير مرئية واحيانا متناقضة. وكتأكيد لهذه النظرية، دخلت قوات نابليون لجينا في 13 اكتوبر عام 1806، حينما كان هيجل يضع توا اللمسات الاخيرة لعمله. ومع انكسار جينا وعدم وجود أي عمل في الافق، انتقل هيجل الى بامبرج Bamberg ليمارس عملا كمحرر صحيفة. هو ترك طفله لودفيج وجوانا خلفه على أمل العودة ليتزوجها متى ما اصبح قادرا على ذلك.

في ابريل 1807، نشر هيجل فينومينولوجيا الروح في بامبرج . هذا العمل الضخم انبثق من عدة مصادر ألهمت هيجل وهي: دراسة هيجل للتاريخ، ومشاهداته للثورة الفرنسية، وقرائته لاستنتاج كانط بان العالم الواقعي لايمكن معرفته ابدا. وكما في المثاليين الألمان الآخرين، اعتقد هيجل بان الشيء الوحيد الذي يمكننا التأكد منه هو الوعي الذي به ندرك العالم. هيجل دمج هذه الفكرة في تفكيره التاريخي، ليقول ان التاريخ هو عملية ادراك الوعي لذاته. في فينومينولوجيا الروح تعقّب هيجل الكيفية التي اصبحت بها المجتمعات أكثر تعقيدا، وان الثقافة الانسانية اقتربت اكثر لما رآه هيجل كحالة حتمية لمعرفة الذات. هو تنبأ بان هذه العملية بالنهاية ستصل ذروتها في مجتمع انساني يصبح على وعي تام بالذات وهي الحالة التي سماها هيجل بـ الروح المطلقة.

ومع نشر اول طبعة لفينومونولوجيا الروح، أثار الكتاب فقط ردودا متواضعة في الحلقات الفلسفية وفي محيط القراءة العام. هذا بلا شك يعود الى اسلوبه الصعب وهو اسلوب تميزت به كل أعمال هيجل. وفي الأشهر التي أعقبت نشر الكتاب، وبعد ان أمكن للقراء فك التشابك والرموز الموجودة فيه واستوعبوا بشكل أفضل افكاره الرائدة، بدأ الإعجاب يتزايد بالكتاب وبسمعة هيجل ومكانته في الدوائر الاكاديمية وبالجماعات الأوسع نطاقا. ومع تزايد هذه الشهرة، نسي هيجل جوانا ولودفيج في جينا وبدأ البحث عن زوجة جديدة تتماشى كثيرا مع مكانته الجديدة.

في عام 1808،عُرضت على هيجل وظيفة راقية في نورمبيرغ كمدير لاحدى المدارس العليا. وهنا التقى هيجل مع ماريا توشر الشابة ذات الـ 19 عاما المنتمية الى عائلة ارستقراطية محترمة. ورغم ان جيانا حاولت عرقلة هذا الزواج، لكن هيجل مضى قدما للزواج من واحدة من أرفع مستويات المجتمع. هو الان في طور الرقي الاجتماعي الشخصي. وفي السنوات التي أعقبت زواجه حصل لديه انتاج متزايد ونشر عمله الثاني الذي نال شهرة ايضا وهو (علم المنطق) في ثلاثة أجزاء من عام 1812 الى 1816. هذا العمل ساعده في انجاز هدفه المنتظر منذ وقت طويل وهو نيل الاستاذية في الفلسفة. وبعد سنتين في جامعة هايدربيرج عُرضت عليه وظيفة أكثر احتراما في جامعة برلين .

هيجل في ذروته

عندما وصل هيجل الى برلين عام 1818، كانت عاصمة بروسيا اكبر مدينة المانية والمدينة الرابعة في الحجم في اوربا، ومركز مزدهر للموسيقى والفن. جمعية برلين رحبت بالفيلسوف الشهير وزوجته الانيقة الشابة. وعند بلوغه الـ 48 عاما بلغ هيجل ذروة أعماله . أعطى علم المنطق توضيحا مفصلا عن فكرته المركزية في فينومينولوجيا الروح، ليقول ان الواقع ليس فقط يتشكل بواسطة الذهن وانما هو الذهن. هذا العمل رسخ سمعته كأحد اكثر المفكرين الآلمان جرأة منذ كانط. محاضرات هيجل ممتلئة بالحضور واصبح هيجل حديث برلين، اسلوبه الغامض في الكلام الذي سُخر منه في الماضي،اصبح الان يُنظر اليه كشيء اكبر من السحر والافتنان بحياة الفيلسوف. وبعد سماعة بنبأ موت جيانا، أخرج هيجل ابنه غير الشرعي من دار الأيتام ليأخذه الى عائلته الى جانب الاولاد الاثنان اللذان أنجبتهما ماريا. لودفيج، لم يتناسب مع عائلة هيجل البرجوازية الثرية، مما جعل هيجل يشعر بالتمزق بين واجباته نحو زوجته واولادها (الذين هم لا يحبون الاضافة الجديدة لعائلتهم) والتزاماته تجاه لودفيج وامه الاخيرة. في الحقيقة، حياة هيجل الشخصية هي الان محاصرة بالتوترات الديالكتيكية المشابهة لتلك التي كتب عنها في فلسفته. في عام 1821 نشر هيجل عمله الثالث الكبير (فلسفة الحق) الذي طرح فيه افكاره حول الفلسفة السياسية. هو جادل بان القانون هو حجر الاساس للدولة الحديثة. هو كان محبطا من ان هذا الكتاب جرى فهمه من جانب العديد من القرّاء باعتباره متعاطفا مع جناح اليمين للملكية البروسية.

في تلك الأثناء، اصبحت حياته في البيت  مقلقة باستمرار بفعل الصراع مع لودفيج الذي اضطر هيجل لطرده في النهاية من المنزل وتبرّأ منه بعدما وجده يسرق النقود من صندوق العائلة. انضم لودفيج الى جيش المرتزقة في امستردام وأبحر الى جاوة للقتال في الحروب الاستعمارية. في عام 1831،الى جانب كل شيء في بروسيا، وجد هيجل نفسه مذعورا بالتقارير عن وباء كوليرا اكتسح آسيا متجها نحو اوربا. وعندما ضربت اول موجة للوباء بروسيا، طُلب إغلاق جميع المسالخ والمدارس والبنايات العامة، وصدرت الاوامر الملكية بتعقيم جميع العملات المعدنية والبريد بالدخان او الكبريت. ومع تزايد اعداد الاصابة، اصدر الملك مرسوما بفرض حجر صحي على جميع المنازل المصابة في برلين. هيجل وعائلته حزموا حقائبهم وتوجهوا الى مكان آمن في كروزبيرج، وهي منطقة خارج برلين حيث سمحت لهم عائلة صديقة لهم باستئجار الطابق العلوي من بيتهم.

استمر وباء الكوليرا يصول لشهور في برلين حيث كان هيجل وعائلته في كروزبيرج  ينتظرون انحساره. ورغم ان هيجل بقي قلقا من إمكانية انتشار الكوليرا الى موقعه الجديد، لكنه أمضى تلك الشهور بهدوء وراحة عالية للعائلة، حيث أشارت ماريا لمكانهم المؤقت بالقصر الصغير، وكان هيجل آنذاك يستمتع في الحديقة الخلفية للمنزل ممضيا الوقت في لعب الشطرنج مع ابنه وفي قراءة الصحف وكتابة الفلسفة.

وبعد الإعلان الرسمي عن إنتهاء موجة الوباء،عادت العائلة مجددا لمنزلها في برلين. لكن الفيلسوف المتقدم في السن لم يشعر بالأمان رغم التطمينات من السلطات بانحسار خطر الوباء. هو اشتكى لماريا بان هواء برلين القذر جعله يشعر "كسمكة اُنتزعت من جدول رقراق واُلقي بها في مياه الصرف الصحي". وكما تبيّن لاحقا، ان هواجس الفيلسوف القاتمة كانت في محلها. في الساعة 11 صباحا من يوم الاحد 12 نوفمبر 1831، وفقط بعد ايام قليلة من عودته الى برلين، شعر هيجل بمغص شديد في المعدة. وفي اليوم التالي تدهورت حالته الصحية أكثر ولم يعد قادرا على التبول، وبدأ يعاني من سعال شديد. و بعد الظهر من نفس اليوم، وجدته عائلته بلا حركة ودون تنفّس، وجهه كان شاحبا. تم إستدعاء الطبيب الذي أعلن عن وفاة آخر ضحية في المدينة. هيجل لم يسعه الوقت للإستماع الى أخبار عن وفاة ابنه اللاشرعي لودفيج قبل عدة شهور أثناء القتال في باتافيا.

استنتاجات ما بعد هيجل

في ذروة شهرته، نُظر الى هيجل  كمفكر عصره ومتحدث بامتياز عن اوربا ما بعد نابليون، وما بعد الثورة. بعد موته أسرع تلامذته لنسخ محاضراته معتقدين انه كان واحدا من الذين استوعبوا التغيرات التي تكتسح اوربا، عندما سمحت الكنيسة والارستقراطيون لرؤية نابليون حول الحاجة لمزيد من المساواة والمجتمع الانساني. وحتى بعد وفاته، كان تأثير هيجل في صعوده وهبوطه أشبه بحركة المد والجزر في التاريخ الذي وصفه في فلسفته، عندما قسّمه أحد أتباعه الى معسكرين متضادين: الهيجليون اليسار الذين اعتقدوا بالحاجة الى تغيرات ثورية اخرى، والهيجليون اليمين الذين دافعوا بحماس عن الدولة البروسية الملكية.

أحد اكثر الهيجليين اليسار الشباب راديكالية كان اسمه كارل ماركس (1818-1883). ماركس حوّل المشهد السياسي للقرن القادم بافكاره عن الكيفية التي يجب ان تستجيب بها اوربا للتحديات واللامساواة التي تجسدت بصعود الرأسمالية والتصنيع الواسع. اليوم نشير لهذه الافكار بـ "الماركسية" او "الشيوعية"، لكن ماركس سمى نظريته بـ "المادية الديالكتيكية" اعترافا منه بحقيقة انها تأثرت مباشرة بمثالية هيجل الديالكتيكية.

ورغم ان فلسفة هيجل الصوفية لا تتماشى مع الرؤية العلمية المادية المهيمنة اليوم، لكن رغبته في فهم التاريخ كان لها تأثيرا مستمرا، ليس فقط في الفلسفة القارية، وانما بشكل اوسع في الفكر الاكاديمي والشعبي.

***

حاتم حميد محسن

بعثة وزارة النفط

بعد حصولي في بكالوريا الدراسة الإعدادية على معدّل 78% عام 1953، وهذا ما يؤهّلني للحصول على بعثة وزارة النفط إلى بريطانيا، حيث كان يُقبل كل طالب يحصل على معدل لا يقلّ عن (75%) في السنين السابقة. وعلى هذا الأساس قدمت طلباً للالتحاق بهذه البعثة وكانت مقابلة.

كان موعد المقابلة في صيف تلك السّنة (1953) في مديرية شؤون النفط العامة الواقعة في شارع أبي نواس. وكانت لجنة المقابلة متكوّنة من الدكتور أحمد حقي الحلّي (مدير الكتب والمناهج والامتحانات في وزارة المعارف حينذاك) والذي سيرد اسمه في محكمة الشعب – المهداوي التي شُكّلت بعد ثورة 14 تموز 1958 بتهمة التجسّس على الطلاب في لندن، وإبراهيم الألوسي (مدير المعادن في وزارة النفط) والمستر هوفـر (ممثل شركة النفط البريطانية في كركوك) . كان يُنادى على الطلاب واحداً واحداً. فيدخل الطالب للمقابلة، وعند خروجه من المقابلة نسأله عمّا سئل وماذا أجاب. مثلاً، كان أحد الطلاب قصير القامة نحيف الجسم، سُـئِل عن الفرع الذي يرغب بدراسته، فأجاب: هندسة الطرق، فقال له إبراهيم الألوسي: كيف تستطيع أنْ تحمل الأنابيب الحديد والموادَّ الثقيلةَ وأنت بهذا الجسم؟ فأجاب الطالب: سأكون مهندساً وليس حمّالاً، فرسب في المقابلة . ولم يُقـبَلْ أيضاً الطالب النجفي السادس في التسلسل على العراق، والذي كان معدّله 86% . لكنَّ طالباً (ابنَ وزير) سُئل: بيش (بكم) تشتري كيلو الشاي وربع كيلو السكر (والعكس هو الصحيح، حيث كان الشاي يباع بربع الكيلوغرام والسكر بالكيلوغرام، لكنهم أرادوا أن يعرفوا فيما إذا انتبه إلى هذا التضليل)، فقال لهم لا أدري، لأني لا أذهب للتسوّق. وكان يجيب على كل سؤال يسأله مستر هوفـر بـ I don’t know ، فقال له إبراهيم الألوسي عندما تذهب إلى لندن ستتعلم ! فَـقُـبِلَ. وجاء دوري مباشرة بعد هذا الطالب. سألني إبراهيم الألوسي فيما إذا كنت أدرس وحدي أو مع مجموعة طلاب، أجبته وحدي. فسألني لماذا وكيف؟ أليس لك أصدقاء؟ طبعاً لديّ أصدقاء، أجبتُه، ولكني أفضل الدراسة وحدي وخصوصاً في الأسابيع القريبة من الامتحانات خوفاً من ضياع أوقات في نكات وأحاديث لا علاقة لها بالدراسة، فـفي هذه الحال أحبّ العزلة. قلت ذلك وأنا لا أقصده، لأن الحكم كان عسكرياً حينذاك على إثر انتفاضة تشرين عام 1952 وتسلّم الفريق نور الدين محمود السلطة، ولأنَّ مدينة الكاظمية اشتهرت بسمعة الشيوعية، بل كانت تُسمّى (موسكو الصغيرة!)، فكلُّ (كظماوي) كان مشكوكاّ فيه إلى أن يُـثبِتَ براءته! فأيُّ اجتماع مع طلاب أو غيرهم يُحسَبُ تجمعاً سياسيّاً له عواقب غير محمودة. فقال لي: كيف إذاً تستطيع العيش في لندن وأنت تُحِبُّ العزلة؟ وعليك الاختلاط بالطلاب والناس لتتعلم اللغة. أجبته بأن الحال في لندن مختلف . سألني بعد هذا، وما أزال أتذكر سؤاله حرفياً إلى هذه اللحظة: سيد بهجت أنت قضيت الثانوية في الكاظمية، فأين قضيت المتوسطة؟ أجبته على الفور وبتحدٍّ وأنا أعرف ماذا سيكون: في الكاظمية أيضاً! أما الدكتور أحمد حقي الحلّي، فأعطاني ورقة فيها خطان متوازيان بسهمين متعاكسين في نهايتيهما  (خداع النظر)، وسألني: أيّهما أطول؟ قلت له ربما يكونان متساوييْن عند النظر أو ربما الأعلى أطول.  فقال: مرة تقول متساويان ومرة تقول واحد أطول من الآخر. لم يسألني أيَّ سؤال بعد هذا. أما المستر هوفـر فسألني باللغة الإنكليزية: لماذا اخترت الكيمياء الصناعية؟ أجبته بأنَّ بلادنا تحتاج إلى مشاريع صناعية أولاً، ولأنَّ لي ولعاً وقدرة لدراسة الكيمياء ثانياً . طيب، ومن تعرف من علماء الكيمياء؟ أعرف همفري ديفي،  ذكرت له هذا الاسم بالذات لأنه إنگليزي، وفي الواقع كان عالماً مكتشفاً. سألني: تكلم عن حياته. ولما كنت قد قرأت قبل هذا بأشهر قلائل كتاب الهلال (قصة العناصر في الطبيعة)، وهي سلسلة شهرية في حجم صغير كان يصدرها الكاتب المصري جورجي زيدان مؤسس دار الهلال في مصر في الخمسينات من القرن الماضي . ذكرت له بعض الأشياء عن حياته واكتشافه الصوديوم والبوتاسيوم عام 1807 وقلت له بأنه قال حكمة عظيمة تدل على علمه وتواضعه. سألني ما هي؟ أجبتُ: أستطيع أن أذكرها بالعربية وليس بالإنگليزية، فوافق بعد احتجاج، فذكرتها بالعربية وترجمها الألوسي له إلى الإنگليزية فأعجب بها، والحكمة كما أتذكرها هي: "كلما توغلنا في الطبيعة وجدنا أنَّ أشياءً كثيرةً لم تكتشف بعد، فما أقلَّ ما نعلم، وما أكثرَ المجهولَ الذي لم نتوصل إلى اكتشافه بعد." فقال لي بعد سماع ترجمتها: very good، ولكنّي لم أستبشر خيراً حيث أعرف أنّ الأمر ليس بيده، وهكذا كان. فلم أُقـبَلْ، حيث حصلت على درجة 3 من 10 من كلٍّ من العراقييْن، الحلّي والألوسي، وعلى 7 من 10 من مستر هوفـر، فكان المجموع 13 من 30. وكانت أقلُّ درجة ناجحة هي 14 من 30 ! أما سبب عدم قبولي فكان (لا يستطيع العيش في لندن لأنه انعزالي !)

كانت المقابلة (غربلة) حقاً، فقد اختير 37 طالباً من مجموع 59 طالباً والمفروض أن يكونوا خمسين طالباً مقبولاً حسب السنين السابقة. هل كانت القضية طائفية؟ أم سياسية؟ أم كلتيهما؟ ربما لعبت الطائفية بعض الشيْ، ولكنّ المسألة كانت سياسية أكثر مما هي طائفية. ولم يكن الطلاب المتجمّعون من جميع أنحاء العراق للمقابلة طائفيين، بل كان الواحد منهم يساعد الآخر دون أن يعرف من هو ومن أين أتى، وإلى أيِّ جهة ينتمي. كانوا متحمسين للبعثة والدراسة في بريطانيا وكفى. والواقع أنَّ معظمَ مَنْ قُبِلوا كانوا من أبناء الذوات والنخبة.

كان عدم قبولي صدمة قوية عليَّ، فقد تناثرت الأحلام كعقد لآلئ في تراب، وأصبح مستقبلي في مهبّ الرياح وأصبحت الكآبة تخيِّم عليّ . فاشتدّ عدائي للطبقة الحاكمة وتمنيتُ زوالها، وكان لفلسفة نيتشه تأثير كبير عليَّ، حيث كنت قد قرأت كتابه (هكذا تكلم زرادشت – ترجمة فليكس فارس) من قبل وأخذت أفكر في أقواله مليّاً، فكانت هذه القصيدة التي كتبت في صيف 1953.

خطرات من وحي نيتشه

(نُشرت في مجلة (الصيدلي) التي كان يصدرها اِتحاد الطلبة في كلية الصيدلة والكيمياء الملكية في كانون الأول 1953 باسم (ب. ع.) حيث كنت طالباً في السنة الأولى فيها . صدر منها عدد واحد فقط وأُغلقت وفُصل من الكلية بعض كتابها ومحرريها، أذكر منهم الصيدلي فيما بعد عدنان الخطيب، الذي كتب مقالة فيها تحت عنوان (الديمقراطية التي نريد) وفصل الطالب سعدون حمودي بعد ذلك لأنّه سافر إلى فيينا للمشاركة في (مؤتمر الشبيبة العالمي المنعقد في فيينا عام 1954) ولو كنتُ كتبت اسمي الصريح، لربّما لم أكنْ صيدلانياً أبداً! ولم أحظ بشهادة الصيدلة التي كانت بوليصة التأمين أو قارب النجاة في حياتي.

" أرسلتُ نظراتي إلى أعماق عينيك السّـاهدتين أيتها الحياة، فوقف نبضان قلبي، إذ رأيتُ الذّهبَ متوهِّـجاً فيهما، ورأيتُ مركباً ذهبياً يشـعّ ُعلى بحر الظّـلام يُـشَـدّ ُ بمهـد مُـذهبٍ مُـشرفٍ على الغرق. " (هكذا تكلم زرادشت – نيتشه)

بسمَ الفجرُ، فرفَّ الـزَّهـر في خـُضـْر الرَّوابي

جـذِلاً يخـتال فـي بُـردِ الصِّـبا غـضَّ الإهــابِ

يمـزج العـطــرَ كمـــا شـاء بـأنـفــاسٍ عِــذابِ

وتـهـادى السّـادرُ الجـبّـارُ يشـدو باصطخـابِ

قـطفَ الـزَّهـرَ وولـّى بين أغـصانٍ رطـــابِ

أكـذا مـنْ يُـخـمدِ الأرواحَ يَسـعدْ بالرِّغـــابِ؟

والـذي ينشـرُ نَـفـْحَ الـروح في دنـيا العذابِ؟

فرويـداً أيـّها المخـتـالُ فـي الروضِ الأغـنِّ

سوف تأتـيك الـرِّياح الهـوج تـلوي كلَّ غصنِ

حين تهوي صـارخاً مـن وطـأة الـدَّهر الغريرِ

**

كم مـن الأرواح هامتْ تـَتـَنـاجى في الظَّـلامِ ِ

مـذ بـدا البـدر ُ كئيـبـاً شاحبــاً خلف الغَّـمــامِ ِ

إنّني أبصـرتُ روحـيـن على بحــر الـرِّمـام ِ

قالت الأولى: أيطوي النورَ نسج ٌ مـن قَـتـام ِ؟

مـا لهذا الكوكبِ الهـائـلِ كالـزَّهـــرِ المُـضام ِ

فأجابتْ تلك: لا يسطيعُ يطـويه غمام ٌ مترامي

إنَـمـا يُـبـْصَرُ فــي غـيــر مكـانٍ ذا ضِـرام ِ

غير أنَّ النَّفسَ قالـتْ وَهْـيَ في هـمّ ٍوحـزنِ

كمْ حِجـابٍ أسدل المـرء على فـكـر وعـينِ

في ظلامٍ دامسِ الأرجـاء كـالـرّعب المُطـيرِ؟

**

ولولي ما شـئـتِ بالإعـصار يا ريحَ الشَّـمـال ِ

واعصِفي بالـزَّهـر والأنـداء في مهد الظِّـلالِ

واسكـبي كـأسَ عذابٍ وانـثـُري عِقـدَ لآلـــي

كم شراع ٍقـد سـرى يخـفق في بحـر الخَـيالِ

حـالم ٍ كالأفـق ِالمطـويِّ فـي صمتِ اللّـيالي

فطــواه المـــوجُ فانـْهــارَ إلــى شـرِّ مـــآلِ

أيّ ُ شـيءٍ صـيـَّر الزَّورق فـي ذاك المجالِ؟

غـيرُ أحـلام ٍتراءتْ وانـْثـنَتْ ومضاً كـفَـنِّ

أبصَـر النّـورَ وشـيكاً وانطـوى إثـْرَ التجنّي

يمـلأ ُ الأقـداحَ مَـنْ في روحه جـهلُ المصير ِ

**

ورميتُ البصرَ الشّـاردَ من خلف الحـجـابِ

فإذا الأيـّام تسـري مثـلَ أشـباح السّـراب ِ

وإذا كهلٌ تـولّـى في حضـيض الاكتـئـابِ

غـارقٌ في لجج البـؤس وأهـوال العـبـابِ

أ وميضٌ من حـياة يـتـوارى في الضَّـبابِ؟

يا لكأسٍ رَقـْرقَـتْها النَّـفسُ في فجـر الشَّبابِ

وأمـانٍ مـزجتها الـروح بالـدَّمـع المُـذابِ

في خـريف العمـر أشباحٌ لأرواحٍ تُـغـنّـي

ذهبَ العـمرُ هـباءً وانـطوى فجـرُ التَّمـنّي

فَهـلُـمَّ الآنَ نـفـثأْ سـَوْرةَ الـكأس ِالمريـــرِ

1953

*** 

د. بهجت عباس

 

بقلم: بيتر ليلاند

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

من خلال تجربتى الشخصية ومن خلال تدريس العلاج بالقراءة للطلاب، أعلم أن الكتب يمكن أن تساعد في شفاء العقول والقلوب. قبل بضع سنوات، تعرضت لانهيار مما يمكن أن نسميه الآن "الإرهاق". ربما كان الأمر مرتبطًا بوفاة والدي المبكرة بعد صراع طويل مع المرض عندما كنت في الثانية عشرة من عمري، والذي هربت منه إلى القصص والشعر. بينما كنت مستلقيًا على السرير في فترة نقاهة، عدت إلى الكتب مرة أخرى، قرأت بالكامل رباعية راج (1966-1975) لبول سكوت. مما لا شك فيه أن حبكته الغنية بالطبقات والشخصيات المرسومة ببراعة في بيئة هندية ساعدتني على التعافي.

كانت هناك أوقات أخرى في حياتي كانت فيها القراءة أكثر من مجرد هروب من الواقع. لقد دفعني فقدان السمع الجزئي في الثلاثينيات من عمري أثناء التدريس في المدارس إلى اللجوء إلى المعينات السمعية، وهو الأمر الذي وجدته صعبًا للغاية. ومع ذلك، فقد وجدت الخلاص في قراءة الشعر التي لا تنسى لبنجامين صفنيا في مهرجان هاي في ويلز في الوقت الذي كنت أجرب فيه المعينات السمعية الحديثة. دعا صفنيا جمهوره على خشبة المسرح للرقص على موسيقى مجموعته الشعرية The Dread Affair (1985) - وقد فعلنا ذلك.

وعندما لم أعد أستطيع سماع الأطفال بوضوح، تركت الفصل الدراسي في المدرسة وأصبحت معلما للكبار. بعد تقديم عدد من الدورات الناجحة في الشعر والروايات، والتي ابتكرتها بنفسي لمجموعات متنوعة من البالغين، قررت البحث في "العلاج بالقراءة". نظرية العلاج بالقراءة هي أن الناس يتعاملون مع الأدب، ليس فقط للهروب من العالم المألوف والسفر إلى مكان آخر، ولا للأغراض الأكاديمية فقط، ولكن لتخفيف آلام الوجود، وكونهم بشرًا. لقد اكتشفت باحثين يدرسون هذا المفهوم، مثل كيلدا جرين، مؤلفة أطروحة "عندما يأتي الأدب لمساعدتنا" (2018)، وأخصائيين في العلاج بالقراءة، مثل إيلا بيرثود وسوزان إلديركين التي كتبت "العلاج بالرواية" (2013). وعثرت أيضًا على دورة تدريبية عبر الإنترنت حول العلاج بالكتاب، يديرها المؤلف والصحفي بيجال شاه. لكنني أردت أن أعرف بنفسي ما إذا كان هناك أية حقيقة في نظرية العلاج بالقراءة.

تقدمت بطلب للحصول على منحة من جمعية تعليم العمال (WEA)، حيث كنت أعمل لديها في ذلك الوقت، لتشغيل دورة مجانية مدتها 10 ساعات أسميتها "القراءة يمكن أن تحسن حياتنا". تأسست WEA في بريطانيا عام 1903 على يد ألبرت وفرانسيس مانسبريدج. لقد خلقا جيلًا من الرجال والنساء المتعلمين ذاتيًا، أو "الذين تعلموا ذاتيًا"، ومن شأن هذه الحركة أن توفر التعليم للعاملين.  لقد صممت الدورة بمساعدة مجموعة محلية من طلاب WEA، حيث قال أحدهم: "إن قراءة الشعر والروايات يمكن أن تخرجنا من تجربتنا اليومية وتمنحنا المتعة والتحفيز الذهني والشعور بالرفاهية والصحبة". استخدمت هذا في إعلان الدورة، وقامت بتجنيد مجموعة من 12 رجلاً وامرأة. وكان معظمهم أكبر من 50 عامًا، لكن واحدًا أو اثنين منهم كانا أصغر سنًا.

تحدثت في الفصل عن نظرية العلاج بالقراءة. أخبرتهم أن الأمر موجود منذ سنوات عديدة وأن أحد الكتاب الأوائل الذين قالوا إن قراءة الكتب يمكن أن تريح شخصًا ما بعد حسرة أو فجيعة كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين في القرن السادس عشر. قال مونتين، بعد وفاة صديق ماتبسبب الطاعون، إن أفضل علاج هو صحبة الكتب. وقال أفلاطون أيضًا أن الفنون يمكن أن تعيد دائرة الروح إلى التوازن بعد خلل شديد. وقالت جورج إليوت، التى استخدمت قراءات دانتي للتغلب على وفاة زوجها، إن: “الفن هو أقرب شيء إلى الحياة؛ إنه  طريقة لتضخيم الخبرة وتوسيع اتصالاتنا مع زملائنا من البشر خارج حدود قدرنا الشخصي.

ومن الأمثلة الأخرى التي شاركتها هو الشاعر ويليام وردزورث، الذي كتب عن كيفية العثور على "بقع زمنية" في الشعر حيث يمكن للمرء أن يتعافى من ضغوط الحياة ويستعيد ويصلح نفسه. في الآونة الأخيرة، في عرضهما التقديمي حول العلاج بالقراءة في مهرجان كامبريدج للعلوم في عام 2019، استشهد الباحثان الإنجليزيان إدموند كينجوشفقت توحيد عن ستيفن هنري هيويت، الذي قُتل في معركة السوم عام 1916، الذي كتب: "أنا قادر على حبس أنفاسي على قيد الحياة مع القراءة المستمرة. لقد قرأت الكثير من الكتب الرائعة: رواية روسية مليئة بالفضائح والاكتئاب، لكنها أصبحت سامية بفضل ما يسميه الكتاب الروس دين الشفقة..."

بعد أن قدمت هذه المقدمة لطلابي، أردت أن يكون لديهم خبرة عملية في نظرية العلاج بالقراءة. بناءً على فكرة لروبرت ماكفارلين في كتابه هدايا القراءة (2016)، طلبت منهم إحضار كتاب يقدمونه كهدية لصديق أو قريب أو معارف جديدة. توقعت أن يحضروا مجموعة من الروايات، لذا فوجئت بوجود رواية واحدة فقط، وهي رواية جريمة كتبها ستيفن بوث، وهو كاتب محلي. أحضروا كتبًا لم أسمع بها مثل "حياة الراعي" (2015) لجيمس ريبانكس، و"سجناء الجغرافيا" (2015) لتيم مارشال، و"أوجه المسيح الثلاثة" (1999) لتريفور دينيس.

بعد ذلك، تحدثت عن استخدام المذكرات المكتوبة كوسيلة لفهم حياتنا. أشرت إلى مقالة لإحدى عضوات المجموعة عن نفسها وعن حبها للقراءة، والتي شاركتها معي سابقًا. بعد ذلك، عرضت على المجموعة مقالًا في صحيفة الغارديان للكاتبة لويز ويلش حول كيف أن قراءة مذكرات مايا أنجيلو "أعرف لماذا يغرد الطائر الحبيس" (1969) جعلتها تفكر مليًا في الحياة التي عاشتها أنجيلو. وفي الجلسة التالية، طلبت منهم إحضار كتاب أثر فيهم بشدة.

انقسم الفصل إلى مجموعات وناقشوا ما أحضروه. وكان من بين اختياراتهم تاريخ حالة طبيب أعصاب، وكتاب عن الصمت، والكتب التي يتذكرها الأطفال من قراءة الطفولة، وكتاب الأغاني وكلمات الأغاني، وكتاب وصفه أحد الفائزين بجائزة بوليتزر بأنه "قصة شعرية مؤرقة"، وكتاب عن الأنبذة الفرنسية. كانت المناقشة متفائلة، واستمعت بذهول إلى 12 قصة رواها الناس، حول ذكرياتهم عن تأثير قراءة كتاب على حياتهم. قال أحدهم: «القراءة تتيح لنا الوصول إلى مجموعة من التجارب والعواطف التي لم نكن لنحصل عليها لولا ذلك»

لقد وجد بعض الطلاب صعوبة في اختيار كتاب، وأدركت أنهم بحاجة إلى أن يكونوا قادرين على تفسير متطلبات الدورة على أوسع نطاق ممكن. أصبح هذا أكثر وضوحًا في الجلسة التالية عندما طلبت منهم اختيار قصيدة خاصة بهم لقراءتها والتحدث عنها مع الآخرين في المجموعة. ذهبت أولاً، وقرأت بصوت عالٍ قصيدة بعنوان "لأنك سألت عن الخط الفاصل بين النثر والشعر" بقلم هوارد نيميروف (1980). ثم استخدمت بعد ذلك طريقة تدريس الاختيار العشوائي حتى يتمكن من يريد التحدث عن اختياره. قام البعض بتوزيع نسخ من القصائد التي طبعوها، والبعض الآخر قرأ القصيدة بصوت عالٍ – ناقلين مشاعرهم من خلال صوتهم وإيقاع حديثهم.

فكرة العشوائية نجحت بشكل جيد. وبينما كان كل طالب يقرأ ويناقش كل قصيدة، بدا أن القصيدة التالية تتبعها دون أن أطلب ذلك. يقرأ أحد الطلاب كلمات أغنية البيتلز "In My Life" (1965)؛ وآخر، الذي اعتقدت أنه قد لا يتمتع بنفس القدر من الثقة، قرأ الكلمات من كتاب روبرت فروست "الطريق الذي لم يُسلك" (1915)؛ قرأ أحدهم مقتطفًا من رواية البؤساء (1862) لفيكتور هوجو،والتي تمت مشاركتها مع زميل سابق قبل سنوات عديدة؛ وقرأ آخر كلمات قصيدة لليونارد كوهين بعنوان "العندليب" (2004)، تخليدًا لذكرى زميل له أيضًا. ساهم معظمهم، على الرغم من أن أحدهم طلب مني أن أقرأ قصيدة نيابة عنها، والتي بدأت: "على أي عظام تم بناء منزلي..." أتخيل أنها كانت شخصية للغاية: "إنه علاج، ومن الجيد لفترة قصيرة أن تكون كذلك". على قيد الحياة،' كنت قد كتبت في بيان سابق أعطيت لي لمشاركته مع المجموعة أثناء القراءات.

لقد وجدت جلسة الشعر مؤثرة بشكل لا يصدق وطلبت استراحة، واقترحت أن يتحرك الناس في جميع أنحاء الغرفة. أنا بالتأكيد في حاجة إليها. ولا يمكن الاستهانة بمستوى الثقة المطلوب بين المعلم والطالب لتعزيز  مثل هذه الثقة المتبادلة. أظهرت لي العروض التقديمية مدى أهمية فكرة العلاج بالقراءة لحياة الناس وصحتهم العقلية المستقبلية.

بالإضافة إلى تجربتي الشخصية حول كيفية معالجة العلاج بالقراءة لمشاكل الصحة العقلية، فقد حضرت أيضًا دورة حول هذا الموضوع تديرها جمعية WEA في سياق التعامل مع التوتر في مكان العمل. خلال هذه الدورة، عندما طُلب مني قائمة بالكتب التي قد تكون مفيدة، أوصيت بـ "أحدهم طار فوق عش الوقواق" (1962) بقلم كين كيسي؛ الناقوس الزجاجى (1963) لسيلفيا بلاث؛ والرواية المذكورة أعلاه علاج.

يقترح كتاب The Novel Cure  كتبًا محددة لحالات معينة مثل البطالة، والقلق، وحصار الكاتب، والأكثر إثارة للاهتمام، "الزواج" والنضال من أجل الحفاظ على الشعور بالذات في مواجهة الالتزام المستمر. العلاج المقترح لـ "الزواج" هو رواية بعنوان "أبريل المسحور" (1922) بقلم إليزابيث فون أرنيم، حيث تقرر امرأتان استئجار منزل في إيطاليا للهروب من الجمود الذي تعيشانه في حياتهما الزوجية. تنضم إليهما امرأتان عازبتان أخريان وتبدأ سلسلة رائعة من اللقاءات.

اعتقدت أن الأفكار من The Novel Cure قد توفر تركيزًا جيدًا للجلسة الرابعة من الدورة التدريبية الخاصة بي، ولكن عندما قدمت للفصل اختبارًا قصيرًا، سألته عن الكتب المناسبة لحالات عاطفية معينة، وجدت أن الفكرة لم تكن شائعة جدًا كما كنت أتوقع. هذا جعلني أعيد النظر في الجلسة الأخيرة، ومن ثم قررت أن أجعلها تتمحور حول الطالب. عندما سألتهم عما يريدون القيام به، اقترح أحد الطلاب أن يكتب الجميع بضع جمل حول كيف تُحدث القراءة فرقًا في حياتهم، مع الإشارة إلى الأمثلة إذا رغبوا في ذلك. وافق الجميع على ذلك، وفي الأسبوع التالي قرأوا أفكارهم وناقشناها. فيما يلي بعض الأمثلة من تلك الجلسة الأخيرة:

في حياتي الشخصية، أشعر أنني تلقيت هدية هائلة لأنني، منذ أن كنت طفلاً، تمكنت من "تصفح الجزء الخلفي من خزانة الملابس". أنا قادر على الاستغناء عن أي وعي بالكلمات والسكن في كتب معينة... إنه أمر سحري، وأنا ممتن له للغاية.

أجد العزاء في الكتب، حيث أصبحت بسهولة واحدة من الشخصيات مع تقليب الصفحات... العائلة والأصدقاء طيبون ولكن في العالم الحديث المتغير الجميع مشغولون للغاية... ولكن هناك نقاط بارزة، وهي أن تكون جزءًا من مجموعة من الأشخاص الذين يستمتعون ويفعلون مناقشة أي شكل من أشكال الثقافة، والشعر على وجه الخصوص.

شعر الطلاب أنهم يريدون أن يفرضوا قراءتهم الخاصة بدلاً من أن يقوموا بها، وكانت هناك مجموعة من التعليقات الإضافية حول ما فعله الأدب بالنسبة لهم مثل: "لقد كانت فرصة للدخول إلى عقل آخر". أنت تخرج من نفسك إلى عالم مختلف." "يمكن أن يجعل الشخص الذي لا ينتمي إلى أي مكان ينتمي إلى مكان ما."

انتهت الدورة. ثم وصلت جائحة كوفيد-19 ولم تتمكن المجموعة من الاجتماع لأكثر من عام. قرر عدد صغير الانضمام معًا كأصدقاء على Zoom. كنا نشارك قصائد كاتب مختار كل أسبوع، وآخرهم الشاعر جيليان ألنوت. أستطيع أن أقارن هذا بنادي الكتاب على الإنترنت الذي أنتمي إليه، والذي تديره منظمة "Carers First" في المملكة المتحدة، حيث اجتمع المشاركون لأنهم كانوا مسؤولين عن رعاية شخص يعاني من مرض مزمن.

تشترك كلتا المجموعتين في نفس الديناميكية الأساسية لتطوير الفهم الذي يمكن من خلاله للناس الاستفادة من التفاعل مع رواية أو قصيدة. كما كتب أحد أعضاء Carers First (كجزء من مشاركتنا في مسابقة نادي الكتاب التي تديرها وكالة القراءة):

لقد اجتمعنا معًا من خلال شيئين، وهما تقديم العلاج ومشاركة حب القراءة. ندرك جميعًا مدى أهمية العلاج الذاتي وأن الكتب تساعدك على الشعور بأنك جزء من عالم أكبر. ولهذا السبب نختار القراءة بشكل متنوع ومشاركة القراءات الجيدة مع بعضنا البعض.

هذا ليس بيانًا عن العلاج، بل عن كيف يمكن للمرء ببساطة الاستمتاع بالقراءة كوسيلة للمضي قدمًا في حياته. إنه يردد تعليق طالب WEA حول إخراجك من نفسك إلى عالم مختلف. باختصار، العلاج بالقراءة يدور حول اكتشاف طرق لتحويل عقولنا وحتى شفائها من خلال القراءة. يتعلق الأمر بقوة العثور على الكتاب المناسب في الوقت المناسب، كما خبرته في حياتي الخاصة. عند دمجه في إطار تعليمي أو اجتماعي مشترك، سواء كان ذلك في دورة تعليمية أو مجموعة كتب عبر الإنترنت، فقد رأيت بنفسي أن العلاج بالقراءة يمكن أن يقدم فوائد هائلة للصحة العقلية والعاطفية للناس.

(انتهى)

***

.........................

المؤلف: بيتر ليلاند / Peter Leyland معلم مدى الحياة. قام بتدريس اللغة الإنجليزية والعلوم في المدارس، وقام بتدريب المعلمين، وكان مدرسًا للأدب في تعليم الكبار. ألف كتابًا عن الأطفال الموهوبين والموهوبين، وآخر عن الرواية البوليسية. وهو يدرس الآن ما إذا كانت قراءة الكتب يمكن أن تحسن صحتنا العقلية. يعيش في باكنجهام، إنجلترا.

* المقال المترجم منشور فى مجلة سايكى/  PSYCHE    بتاريخ 26 أبريل 2023 م

* وراابط المقال:

https://psyche.co/ideas/reading-books-is-not-just-a-pleasure-it-helps-our-minds-to-heal

مقتطفان من المقال:

(طلبت منهم إحضار كتاب ليقدموه كهدية لصديق أو قريب أو معارف جديدة)

(لا يمكن المبالغة في تقدير مستوى الثقة بين المعلم والطالب المطلوب لتعزيز مثل هذه الثقة المتبادلة)

 

غدا الثامن عشر من كانون الاول، يحتفل ابناء لغة الضاد، بيوم اللغة العربية التي مهما عرفنا عنها وقرأنا في سيرة اعلامها، فهي كانت وستبقى  أخصب اللغات.

 وسواء رافقتنا اللغة في حياتنا اليومية أو في كنوز القواميس. فان لكل كلمة صورتها التي تترسخ في الذهن.. ولعل اول درس يجب ان يتعلمه العامل في مهنة الصحافة ان اللغة يجب ان ترافقه في عمله اليومي.. وان للكتابة شروطها التي تبقى اللغة ابرزها، تضاف لها الموهبة.. ولهذا نجد ان البعض يسطر صفحات كاملة دون جملة مفيدة واحدة.

ولحسن حظي فان حبي للغة  العربية تأتى من تعلقي المبكر بقراءة كتب طه حسين، الذي يحتل مكانة خاصة عندي، قرأت جميع كتبه وما كتب عنه وقلدته وانا صبي بان ارتديت نظارات سوداء، بل تمنيت في لحظة من لحظات جنون الصبا لو اصبحت بصيرا مثله، واعثر على واحدة مثل سوزان تقرأ لي .. وخلال سنوات الارتباط بالكتاب، كنت ولا زلت كلما اشاهد كتابا عليه اسم طه حسين اجد يدي تتلقفه وكأنني أقرأ اسم طه حسين للمرة الاولى .. واتذكر عندما خطفت من المكتبة التي اعمل فيها كتاب " تجديد ذكرى أبي العلاء " ورغم ان الكتاب كان صعب المراس على صبي في عمري آنذاك، لكن رحلتي مع طه حسيت استمرت، وشغفي بقراءة " ابي العلاء المعري " ترسخ مع مرور الزمن، فكيف لا اعجب بالمعري وطه حسين يخبرني انه مثله الأعلى، ذلك المفكر والشاعر الذي " وقف حياته في دار من دور المعرة على الدرس مُمعنا فيه . غير معني إلا به، محرما على نفسه ما اباح الله للناس من طيبات الحياة " – طه حسين الايام –  . كان طه حسين ذلك الفتى الفقير الذي قهر ظروف حياته وبيئته، واستطاع ان يصبح عميدا للادب العربي . وحينما افكر الآن باثر رجعي اكتشف ان كتب طه حسين كانت دليلي في الكثير من القراءات سواء في التراث او الفكر الغربي، فقد كنت احرص على تتبع ما يقوله في كتبه، وابحث  بين صفحات مؤلفاته عن الاسماء التي تتقافز بين سطور " حديث الاربعاء "، حيث يمضي القارئ ساعة مع الحطيئة وساعة اخرى مع لبيد وساعة ثالثة في صحبة كعب بن زهير، وتتنظر القارئ  اكثر من ساعة مع قيس ابن الملوح  وياخذ طه حسين بيديك ليدخلك عالم زعيم الغزليين عمر بن ابي ربيعة " /، وتنتظرك ساعات وساعات في حضرة ابي نواس . وفي كتابه الممتع  " قادة الفكر "  وجدت نفسي وجها لوجه امام سقراط وتلميذه افلاطون وحفيد المدرسة السقراطية ارسطو، وتتوقفت رحلتي في القراءة   كثيرا عند كتابه " الوان " حيث  كان ينتظرني فولتير وكافكا وسارتر واوغست كونت وروسو، ومع كل كتاب اقرأه له اتذكر وصيته التي كتبها في مقدمة كتابه " تجديد ذكرى ابي العلاء " من ان الباحث في شؤون الادب :" ليس عليه أن يتقن علوم اللغة وآدابها فحسب، بل لا بد له أن يلم إلمامًا بعلوم الفلسفة والدين، ولا بد من أن يدرس التَّاريخ وتقويم البلدان درسًا مفصلًا، و لا بد له من أن يدرس علم النَّفس للأفراد والجماعات إذا أراد أن يُتقن الفهم لما ترك الكاتب أو الشاعر من الآثار" . وفي رحلتي مع طه حسين كنت اتتبع المصادر التي اغنت حياته الفكرية، واتخيل المكتبة التي  كان يمتلكها، وقبل ايام وانا اقرأ بكتاب الدكتور صبري حافظ " طه حسين ذكريات معه " وجدت وصفا لمكتبة العميد حيث يكتب صبري حافظ :" فادحلني الى غرفة مكتب فسيحة ومحاظة جدرانها جميعا بمكتبات رصت فيها الكتب بشكل انيق " وتذكرت ما كتبه طه حسين في الايام وكيف ان اخاه الشيخ احمد كان يقتطع من قوتهما ما يجلد به الكتب المهمة ويحتفظ بها في اعن ما كان بالغرفة من أثاث، وهو الدولاب الذي اشتراه خصيصا لذلك . وفي كتابها ذكرى طه حسين تتحدث تلميذته سهير القلماوي بصفحات جميلة عن المكتبة واهتمام طه حسين بكتب التراث، ومما اثار اهتمامي وانا اقرأ فصول كتاب " حديث الاربعاء "  وجود  كتاب الاغاني  لابي الفرج الاصفهاني كمصدر مهم من مصادر دراسته للشعر والشعراء العرب . وكنت اثناء عملي في المكتبة اشاهد اجزاء كتاب الاغاني بحجمها الكبير تحتل مكانا واسعا على احد الرفوف .كتاب ضخم الحجم، متعدد الاجزاء، اشبه بموسوعة  او دائرة معارف، ويذكر مؤرخوا الادب ان مؤلفه  امضى خمسين عاما في كتابته، يسافر ويستمع ويسجل  ثم يكتب منه فصولا حتى تجاوزت اجزاءه الخمسة وعشرين مجلدا، ويخبرنا ابن خلكان في كتابه وفيات الاعيان" انه كان يستصحب في اسفاره حمل عشرة جمال من كتب الادب والتاريخ، ولما حصل  على كتاب الاغاني لابو الفرج الاصفهاني  لم يكن بعد ذلك يستصحب غيره  لاستغنائه به عن سواه ..

في اثناء عملي في المكتبة ، كانت الكتب التي تصل كثيرة جدا، وكنت اصاب بالحيرة  في اختيار ما اقراه، وكنت اسال نفسي هل استطيع قراءة كل هذه الكتب، بالطبع لا، يكتب امبرتو إيكو :" تزخر المكتبات الجيدة بملايين الكتب، ولو افترضنا أننا نريد قراءة كتاب كل يوم، فهذه 365 كتابًا في العام، ولو فعلنا ذلك على مدار 10 سنوات، فسنقرأ حوالي 3600 كتابًا، ولو تسنى لأحد أن يفعل ذلك من سن العاشرة حتى الثمانين، فسيكون قد قرأ 25,200 كتاب وحسب " .

هل قرات  يادكتور كتاب الاغاني كاملاً ؟ هل هو كتاب جيد ؟ سألت نذات يوم العلامة علي جواد الطاهر، فابتسم وهو يروي لي حكايته مع الكتاب والمقالات التي كتبها عن تحقيق الكتاب وانه اختار عنوانا مثيرا لمقاله " "فضيحة تحقيق الاغاني "، وعندما لاحظ الراحل علامات الحيرة تملأ قسمات وجهي ابتسم وهو يقدم لي واحدة من نصائحه الثمينة :" احرص على أن تكتشف الكتب بنفسك "، ثم شرح لي ان اعتراضه  كان على بعض الهفوات في التحقيق وليس على الكتاب الذي يصفه المستشرق ريجيس بلاشير بانه كتاب :" غطى كل ما تقدم من تراجم الشعراء " ..اعرف انني حرصت على اقتناء كتاب الاغاني بعد نصيحة العلامة الطاهر، وكنت  كلما يصل الى المكتبة جزء جديد من الكتاب، اتناوله واذهب به الى البيت واقرا منه صفحات على مدى ايام ثم اتركه، واعود اليه عندما يصل الى المكتبة مجلد جديد منه، لكني حرصت على معرفة تفاصيل حياة المؤلف ابو الفرج الاصفهاني، وكنت مندهشا وانا اقرأ انه كان يتلصص على مجالس الوزراء  والشعراء والجواري والمغنيات ليحصل على معلومة جديدة يضيفها لكتابه، وان حكايته تشبه حكاية الكاتب الفرنسي  موريس لوبلان الذي كان مهتما بدراسة علم النفس، اذ وجد نفسه ذات يوم امام طلب صديقه ناشر احدى المجلات ان يكتب له قصه مغامرات مشوقة، انذاك احس لوبلان بالحرج فهو لم يجرب كتابة القصة، لكنه امام الحاح صديقه ارسل للمجلة بعد شهر  مظروفا يتضمن قصة  تتحدث عن مسافر في احدى السفن التابعة لشركة الخطوط البحرية الفرنسية . وفي عرض البحر يتلقى عامل التلغراف  برقية تقول ان على ظهر السفينة لص مشهور اسمه ارسين لوبين تحت اسم مستعار، وفي هذه اللحظة تتسبب عاصفة في انقطاع الاتصال بين السفينة والعالم الخارجي، فيعم الاضطراب في نفوس الركاب لاسيما بعد الابلاغ عن بعض السرقات فوق السفينة، ودارت الشكوك حول الرجل الغامض، الذي يلقى القبض عليه بعد وصول السفينة الى الميناء، نلاقي القصة نجاحا كبيرات بعد نشرها، ويطلب رئيس التحرير من صديقه لوبان ان يواصل كتابة قصص جديدة، لكن الروائي لم يتحمس للامر ويبرر ذلك بالقول : لقد اودعت البطل في السجن، فرد الناشر بقوله :" لابأس دعه يهرب .

يحدد ابو الفرج الاصفهاني السبب وراء تاليف كتاب الاغاني فيقول :" الذي بعثني على تأليفه ان رئيسا من رؤسائنا كلفني جمعه، فجمعت كتابا صغيرا، وعرفني ان هذا الكتاب لايفي بالغرض، وسيكون قليل الفائدة ما لم استمر في تاليفه " .

ومثل سلسلة ارسين لوبين التي امتلات بكم هائل من اللصوص، ورجال الشرطة، واصحاب المتاجر، والسجناء، والباعة في الشوارع، والنساء الجميلات، امتلأ كتاب الاغاني بكم كبير من فرسان الصحراء، والخلفاء والندماء، والشعراء، والجواري  والمغنيات، والسلاطين والصعاليك، وعلماء النحو والكلام ن وقاطعي الطرق، والهازلين . قضى معهم ابو الفرج الاصفهاني خمسون عاما  يخطط فيها اجزاء موسوعته ، يقدم لنا تفاصيل حياة مئات الشعراء والمغنيين، ويتعرض من خلال ذلك لكافة جوانب العصر السياسية والاجتماعية، وكان في كل يوم يذهب الى سوق الوراقين فيحمل الى بيته عشرات المخطوطات يراجعها ويجعل منها مصدرا لكتابه  الذي يمكن ان يوصف بانه كتاب الحضارة العربية شعرا وادبا وعناء وتاريخا وحكايات اعدها اعدها ابو الفرج الاصفهاني لتشغل الاجيال منذ صدور الكتاب وحتى يومنا هذا . كتاب فريد من نوعه في آداب العالم، حيث نجد مؤلفه، يقدّم للقارئ شعراء زمنه والأزمان التي سبقته، ويقدّم المغنين والمغنيات وأصحاب  الأوزان الموسيقية، رابطاً بين هذه الفئات الثلاث بحيث يبدو الشعر والموسيقى الغناء كما كان يجدر بهم أن يكونوا منذ البداية، فنوناً ثلاثة في بوتقة واحدة.

انظر الى مجلدات كتاب الاغاني التي احتلت رفا كاملا في مكتبتي واتساءل : ترى ماذا لو عاش ابو الفرج الاصفهاني في عالمنا اليوم، هل سيتمكن من كتابة موسوعته هذه في زمن مواقع التواصل الاجتماعي وكثرة المشاغل، وعدم اهتمام القراء بمثب هذه التوعية من الكتب .. والاهم من اين لخ ان يجد كل هذه الكتيبة من الشعراء والمغنيين والفرسان والصعاليك والامراء ؟ . وربما يقل البعض ياعزيزي في زمن مواثع التواصل الاجتماعي، سيقى كتاب مثل الاغاني على الرف، فالايام لم تعد ايام مثل هذه النوعية من الكتب التي تجعل من كاتبها ان يعتكف ما يقارب الخمسين عاما في بيت على ضفة دجلة يسةد الصفحات دون كلل او ملل، وعندما انتهى منه حمله ليهديه الى سيف الدولة الحمداني الذي منخه مبلغا زهيدا لم يتجاوز الالف دينار معتذرا .

منذ اول كتاب اضعه في مكتبتي الخاصة، ان يكون لهذا التراث حصة في رفوف المكتبة،  فكان ان تجمعت عندي مئات المجلدات في الشعر والنثر الادبي والفلسفة والتاريخ، وكنت ولا ازال ومن خلال تجربتي الخاصة، والتي اتمنى ان لا يعتبرها البعض نوعا من الاحتماء بالقديم، اجد ان القراءة الجادة لن تكتمل إلا بالتوجه الى قراءة التراث ايضا.. لكن للاسف لاحظت في السنوات الاخيرة ندرة قراء التراث العربي، واصبح من الصعب ان تشاهد شابا يحمل رواية لدوستويفسكي ومعها احد كتب التوحيدي، او ان يقرأ البير كامو وينتبه الى فيلسوف متمرد من عينة الجاحظ، او الهيام بتشاؤم شوبنهاور وعدميته، وعدم الانتباه الى ان ابن الرومي سبقه بمئات السنين في اشاعة هذه الفلسفة، ونتغنى بشك ديكارت ولا ننتبه لشك ابن سينا، ونبحث عن حكايات طروادة وننسى ان التراث العربي مليء بمئات الحكايات لاتقل روعة واهمية .

كان الأقدمون يصفون المتضلّعين بأن اللغة طوع بنانهم. وكان صاحبنا طه حسين إذا كتب تتراقص من حوله حروف اللغة،  وكان يصر على ان اللغة العربية :" ليست أداة للتعامل والتعاون الاجتماعيين فحسب، وإنما هي أداة للتفكير والحس والشعور بالقياس إلى الأفراد من حيث هم أفراد أيضًا. وإذا كان هذا حقّا فنحن نتعلم اللغة العربية ونُعلِّمها لأنها ضرورة من ضرورات حياتنا الفردية والاجتماعية، ووسيلة أساسية إلى منافعنا مهما تختلف قربًا وبعدًا ويسرًا وعسرًا، وسهولة وتعقيدًا " – طه حسين مستقبل الثقافة –

هل اللغة يجب ان نحافظ عليها كما جاءت في القواميس ؟ يخوض طه حسين معركة من اجل تطوير اللغة العربية ويكتب في واحدة من مقالاته :" أن اللغة العربية هي الأداة الطبيعية التي نصطنعها في كل يوم بل في كل لحظة ليفهم بعضنا بعضًا، وليعاون بعضنا بعضًا على تحقيق حاجاتنا العاجلة والآجلة، وعلى تحقيق منافعنا الخاصة والعامة، وعلى تحقيق مهمتنا الفردية والاجتماعية في الحياة إن كانت لنا مهمة في الحياة، ونحن نصطنع هذه الأداة ليفهم بعضنا بعضًا كما قلنا ولنفهم أنفسنا أيضًا، فنحن إنما نشعر بوجودنا وبحاجاتنا المختلفة وعواطفنا المتباينة وميولنا المتناقضة حين نفكر، ومعنى ذلك أننا لا نفهم أنفسنا إلا بالتفكير، ونحن لا نفكر في الهواء ولا نستطيع أن نعرض الأشياء على أنفسنا إلا مصورة في هذه الألفاظ التي نقدرها، ونديرها في رءوسنا ونُظهِر منها للناس ما نريد، ونحتفظ منها لأنفسنا بما نريد" . هل كان طه حسين مع تجديد دماء اللغة العربية، وهو الكاتب المولع بالتراث والمتعمق فيه ؟، سنجد احد الاجوبة في كتاب ممتع بعنوان " مكتوب على الجبين " تاليف جلال امين، وفي واحدة من المقالات يخبرنا عن رؤيته لطه حسن للمرة الاولى وجها لوجه رغم علاقة الصداقة بين والده الكاتب المعروف احمد امين وبين طه حسين، إلا انه لم يقابله سوى هذه المرة ، وكانت داخل مجمع اللغة العربية، عندما اراد المجمع ادخال مفردات اقتصادية الى القاموس العربي يقول جلال امين :" شاهدت طه حسين وهو يدخل القاعة بصحبة سكرتيره.... وأخذنى أحد الحاضرين من يدى ليقدمني إلى طه حسين لمصافحته، وذكر له بالطبع أنني ابن الأستاذ أحمد أمين، فرحب بي بلطف. كان فى الحجرة نحو عشرين شخصا، تسلموا كلهم فى يوم سابق على الجلسة نسخة مما أعددته من مصطلحات وتعريفات، وبدأت أتلو عليهم مصطلحاً بعد آخر حتى وصلت إلى مصطلح (الانكماش)، كمقابل للمصطلح الإنجليزى (Deflation) وقرأت تعريفي له بأنه انخفاض مستوى الإنفاق والدخل والأسعار... إلخ، فإذا بأحد الأعضاء يهب واقفا معترضاً بشدة على استخدام هذه الكلمة (الانكماش) لوصف حالة كهذه، وقال أن القواميس تقول (كمش الحصان أى أسرع فى سيره)، وهو عكس المعنى الذى أقوله، والذي يتضمن ركوداً وتباطؤاً فى الحركة. عرفت فيما بعد أن هذا المعترض رجل مهم هو الأستاذ عباس حسن صاحب الكتاب الشهير (النحو الوافي)، وكان يعتبر من أقدر اللغويين العرب الأحياء، إن لم يكن أقدرهم على الإطلاق. نظر طه حسين فى اتجاه الرجل وقال بصوته الفخم (جبتها منين دى يا عباس؟). فإذا بعباس حسن، وكان لايزال واقفاً، يجيب بحماس، وقد رفع بيده كتاباً ضخماً، بأن هذا هو ما يقوله (لسان العرب) . توجه طه حسين بوجهه فى ناحيتي وسألني: (هل درجتم، أنتم معشر الاقتصاديين، على استخدام هذا المصطلح، أي الانكماش، بهذا المعنى؟) . أجبته بالإيجاب، فإذا بطه حسين يفاجئ الجميع بقوله لعباس حسن (طز يا عباس!) . ثم قال ما معناه أنه إذا كان العمل قد سار على ذلك، واستقر استخدام الاقتصاديين للفظ بهذا المعنى فلا ضرر من ذلك، ويجب على المجمع أن يقره. كان هذا كافياً لأن يلتزم عباس حسن الصمت، وأن أستمر أنا في قراءة بقية المصطلحات " .

يخبرنا ابو فرج الاصفهاني في كتابه " الاغاني " ان ناقدا سمع أبا تمام ينشد قصيدته المشهورة:

أهُنَّ عَوادي يُوسفٍ وصَوَاحِبُه

فعزمًا فقدمًا أدركَ السُّؤل طالبُه

فقال له: لمَ لا تقول ما يُفهم؟ فأجابه أبو تمام: ولم لا تفهم ما يُقال؟

ولعل عبارة " لمَ لا تقول ما يُفهم؟ "، نحتاجها اليوم مثلما نحتاج " لم لا تفهم ما يقال؟" ونحن نستذكر لغتنا العربية وسط غابة من الكتابات الشائكة، الكثير منها كأنه يُكتب للمختصين فقط، ولامكان فيه للقارئ العادي . في مرات كثيرة كنت اتوقف عند كتاب  الناقد رونان ماكدونالد "موت الناقد"  الذي  تدور فكرته حول الجدل الدائر منذ أكثر من نصف قرن عن دور الناقد في فهم العمل الأدبي وإفهامه للقارئ، وعن كون المؤلِّف مبتكراً أم شخصاً يستعير من الثقافة، وعن كون القارئ هو الحكم النهائي على ما يقرأ لأنه هو المتلقّي في النهاية.

في عيد اللغة العربية  اتذكر ذلك الصبي الذي شغف بحكايات ابو الفرج الاصفهاني والتي لا تزال تبعث في نفسه الدهشة .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

كتب تركي الدِّخيل سيرةً أدبيّة نفيسة للدبلوماسي، والأديب، وأول وزير إعلام سعوديّ جميل الحجيلان، بمناسبة مئوية ميلاده، ورد فيه: «إذا أَعْمَلْنا المثل السَّائد: إن كُلَّاً له من اسمه نصيب، فإن للشيخ جميل من اسمه النَّصيب الأوفر، فقد كان جميلاً في خُلُقِهِ، جميلاً في مَظهَرِهِ، جميلاً في تَسَامُحِهِ، جميلاً في أَدَبِهِ وثقَافَتِهِ» (الشّرق الأوسط 8/12/2023).

سيكون اعتراضنا على القول القديم الشَّائع «إنّ لكلٍ مِن اسمه نصيب» (استخدمه مُعَظّم الدّين السَّامري/ 616هج) في كتابه «الفروق على مذهب الإمام أحمد»، باسم «الجاحظ» و«نفطويه» و«الخنساء» وغيرها مِن الذّوات، ليس كلٌ مِن اسم أحدهم نصيباً، فتلك أسماء صارت عناوين للمواهب الكبرى، غابت وراءها معاني ألفاظها.

ذلك استهلال لما نقوله في فقيدة الإعلام السّينمائي العراقيَّة اعتقال الطّائيّ (1949-2023)، نضيفها إلى قائمة الأسماء التي لا نصيب لأصحابها منها، ولا ندري إذا ما كان الاسم مِن النَّوادر وبالعراق لا في غيره مِن البلدان، كون الاعتقال سمة لأكثر عهوده. لم نفكر بمعنى اسمها «اعتقال»، وهي تطل أسبوعياً مِن تلفزيون بغداد، الذي لو قُدم في عصر انتشار الفضائيات، ما ضاهاه برنامجٌ مِن نوعه، تقديماً واختياراً وإعداداً وهدفاً ثقافيَّاً مرموقاً.

لا يحتاج البحث عن سبب اسمها «اعتقال»، فذلك لم تُسأل عنه، لأنه معروف لمَن عرف ظروف أسرتها، لم تُسأل عن قصته أو سببه، حتَّى في استجوابات مديرية الأمن لها، ولجنة التّحقيق في القصر الجمهوريّ بسبب عرض فيلم «جميلة»، ثم في المجلس الوطني، ومقابلتها لنائب الرئيس آنذاك صدام حسين (أعدم عام 2006)، يوم كان يستقبل اتصالات النّاس.

فقد الإعلام السِّينمائيَ بوفاتها، ومِن يوم حجب برنامجها الفاخر «السّينما والنّاس» (1972-1978)، إحدى واهبات المعرفة بهذا الفن، إلى جانب ذلك كانت اعتقال متعددة المواهب: نحاتة، كاتبة، مترجمة. لكنها اشتهرت عراقيَّاً ببرنامجها المذكور.

حببت السِّينما الرّاقيّة لجيل السّبعينيات، وما زال أثرها ماضياً فيه، يُميز الرَّاقي عن الهابط، في وقت لم تزل أبواب السينما مفتوحة ببغداد وبقية المحافظات، قبل تحولها إلى مخازن، وصالات مهجورة، واستثمار تجاري.

لم يبق أثر للسينما التي فتحت صالاتها مع وجود الدّولة العراقيّة الحديثة (1920): العراقيّ، الحمراء، الرَّافدين، رويال، الزَّوراء، غازي، الوطنيّ، الخيام والسندباد، علاء الدين، ووجود مكاتب لطبع الرقوق السينمائية (الأفلام)، ومكاتب استيراد السينما ولوازمها (الدَّليل العراقي الرّسمي 1936 و1960). بعدها فتحت سينما: النّصر، بابل، وأخذت تتكاثر في بغداد والمحافظات كافة، مع وجود الجوالة منها.

انتهى هذا الضّرب مِن الفن، بدايةً بالإهمال ثم الإهمال المنظم، مع تدشين «الحملة الإيمانيَّة الكبرى» (1993 وحتى يومنا هذا)، وتكاتف معها الحصار الجائر، فأعدم كلَّ شيءٍ، حتّى صار هذا الفن خارج اهتمام العراقي. ظلت أخبار السينما بالعراق طي الكتب، فحسناً فعل عباس البغدادي وأرّخ لـ«بغداد في العشرينيات» (1998)، وكان شاهد عيان على فتح دور السِّينما آنذاك، حتّى وصول الناطقة منها بغداد في بداية الثّلاثينيات. وحسناً فعل أحمد فياض المفرجي بتسجيل تراجم الرُّواد في كتيبه «فنانو السِّينما في العراق» (1981).

بدأ برنامج اعتقال الطّائي (1972) بفيلم «الحرب والسّلام» وأغلق بفيلم «جميلة» (1978)، وبين التّاريخين كان النُّهوض شاملاً. لكنَّ العقيدة الحزبيّة أخذت تتعاظم، فأخضعت الفنونَ وألسنة العراقيين كافة لها، ومَن لا يطيق عليه النّزوح، فنزحت اعتقال عام 1979، العام الذي شهد نزوج جمهرة كبرى مِن المثقفين في شتى المجالات، وكأنه عراقيّاً تجاوب مع الأحداث التي أسست لصحوة دينيّة كبرى بالمنطقة، كان فن السّينما أحد أبرز أهدافها.

أقول مع شيوع مفردات القسوة مثل «الاعتقالات» و«المعتقلات»، إلا أنّ الاسم لبس معنى آخر، شأنه شأنه «الجاحظ»، صار عنواناً لموهبة، تفجرت بهنغاريا، بينما مواهب لذوات كثيرين خوت، واستوحشت مِن أصحابها، بعد هجرهم العِراق.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بقلم: أولجا زيلبربورج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في 24 فبراير/شباط 2022، وهو اليوم الذي أمر فيه بوتين القوات الروسية بشن غزو واسع النطاق لأوكرانيا، بلغت الثالثة والأربعين من عمري. وبينما بدأ الأوكرانيون في الرد العنيف على المعتدي، وهم يراقبون القنابل وهي تتساقط من بعيد، أذهلتني وأعجبتنى شجاعتهم وإصرارهم على إيقاف جيش بوتين. وكنت أيضًا ممتنًة من أعماق قلبي. مثل العديد من أقراني الذين نشأوا في روسيا، قضيت معظم حياتي خائفة من العنف. لم يكن لدي الشجاعة لمواجهة خوفي ولكن بدلاً من ذلك حاولت التغلب عليه.

ولدت عام 1979 في لينينغراد لعائلة يهودية. عندما كنت في الثامنة من عمري تقريبًا، عندما قررت أنني بلغت من العمر ما يكفي للرد على هاتف العائلة، اتصلت بـ "نيكولاي دميترييفيتش". أخبرت المتصل أنه لا يوجد مثل هذا الشخص في منزلنا؛ يجب أن يكون لديه الرقم الخطأ. فخورة بنفسي، أبلغت جدتي بالحادثة. شحب وجهها وأخفضت صوتها: "هل سألت من المتصل؟ كان يجب أن تعطي الهاتف لديدوشكا. إنها من أجله."

كان اسم جدي إسحاق دافيدوفيتش (بالنسبة للروسي، يكشف هذا الاسم عن أصول يهودية). كان في شبابه عضوًا في الحزب الشيوعي وحارب في الجيش السوفيتي ضد فنلندا. خلال الحرب العالمية الثانية، كان مشرفًا على قاعدة جوية في جزيرة ساريما الإستونية، التي كانت تُعرف آنذاك باسم أوسيل. عندما سقطت القاعدة الجوية في أيدي الألمان، ترك ونقل إلى معسكر أسرى الحرب. حلق رأسه متظاهراً بأنه تتري، وأخفى ختانه عند تفتيش السجناء. تدرب على صناعة السروج في طفولته، وعين في مزرعة إستونية عاملا ومن هناك هرب في النهاية. وعندما تم لم شمله مع وحدته في الاتحاد السوفييتي، قدم له قائده معروفًا كبيرًا: فقد أزال اسم جدي من السجلات، وقد فعل ذلك بدقة شديدة حتى أنه في التسعينيات، عندما عرضت ألمانيا تعويضات على الأشخاص الذين يمكنهم إثبات مايفيد أنه تم القبض عليهم ،  حاول جدي العثور على أدلة لكنه فشل.

ولكن بعد تصفية سجله، تجنب جدي الحكم عليه في معسكرات العمل، إذ كان الاتحاد السوفييتي يعامل الأشخاص الذين ذهبوا إلى معسكرات أسرى الحرب الألمان باعتبارهم خونة محتملين. لقد ظل بعيدًا عن الرادار، حيث تولى وظائف وضيعة في المصانع تحت الاسم الروسي الآمن نيكولاي دميترييفيتش، وعلى الرغم من أنه ظل شيوعيًا متشددًا، فقد ظل بعيدًا عن وظائف الحزب الشيوعي قدر الإمكان. لقد نجا جسديًا، لكنه قضى بقية حياته في خوف من كل شيء وكل شخص. تتذكر والدتي أنه في طفولتها كان والداها يتحدثان مع بعضهما البعض همسًا، خوفًا من أن يسمعهما الجيران في شقتهم المشتركة. ولدت عام 1949، وفي الخمسينيات كان والداها يحتفظان بكيس من الخبز الجاف في زاوية المطبخ تحسبًا للاعتقال المفاجئ.

بحلول الثمانينيات، كان كيس الخبز الجاف قد اختفى، وهكذا، في معظم الأحيان، أصبح لقب الجد من الاسم الروسي. ومع ذلك، كان الخوف راسخا. كلما أخبرته عن أصغر مواجهة دخلت فيها – مع امرأة في الحافلة كانت تصرخ في وجهي لأنني حملت حقيبتي بحيث أخذت مساحة كبيرة جدًا؛ أو مع معلمة ارتكبت خطأ في مسألة رياضية لكنها رفضت الاعتراف بأنها مخطئة - أخبرني جدي أن وظيفتي هي أن أتصرف "بهدوء أكثر من الماء، وعلى مستوى أدنى من العشب"، وبعبارة أخرى، أن أظهر الخضوع التام لكل شخصية من شخصيات السلطة. لقد أعطاني "دوريت الصغيرة" لديكنز ليعلمني كيف يجب أن تتصرف الفتيات: كما لو أنهن غير موجودات.

لم يكن جدي وحده الذي علمني هذه الرسالة. جدتي، التي نجت من الجوع والمذابح في الأكواخ اليهودية ومن حصار لينينغراد، طبقت نفس الأجندة. أثناء تعامل والدي مع فوضى البيريسترويكا، شجعاني وأخي على حضور دروس الدفاع عن النفس وتأكدا من أننا لن نسير أبدًا في أي مكان دون مرافق بعد حلول الظلام. كان العنف في كل مكان حولنا. شاهدنا في الأخبار بينما كانت أرمينيا وأذربيجان تحملان السلاح ضد بعضهما البعض، واندلعت أعمال العنف في فرغانة، وأوش، ودوشنبه، في أوسيتيا، وأبخازيا، في بريدنيستروفي في مولدوفا. في وقت لاحق ذهبت روسيا إلى الحرب بالقوة.

طاعة الشيشان. خوفًا من العنف ضد اليهود وقدامى المحاربين في الجيش السوفييتي، انتقل أعمامي من ريجا إلى لينينغراد. وتعرض رجال الأعمال والصحفيون والسياسيون للتهديد والقتل. وفي لينينغراد، التي أعيدت تسميتها إلى سانت بطرسبورغ، تعرض العديد من أصدقاء والدي للمعاملة الوحشية على يد البلطجية من أجل الحصول على مبالغ مالية، كبيرة وصغيرة. وكان كبار السن يتعرضون للسرقة من شققهم. الأطفال الذين يرتدون سترات رياضية مستوردة من الغرب معرضون لخطر كسر أنوفهم.

لم يكن العنف منتشرًا في كل مكان حولنا فحسب، بل مر دون عقاب إلى حد كبير. في عام 1992، في مدرستي، قام معلم أخي بتمزيق قرط من أذن فتاة، ومزقه "باللحم" عبر شحمة الأذن، بسبب التحيز السوفييتي ضد الأقراط (لا ينبغي للفتيات "الجيدات" ارتداء الأقراط أو الماكياج فإن فعلت فهذا جعلك عاهرة). بقي هذا المعلم في المدرسة. لقد التحقت بمدرستين مختلفتين في روسيا، وفي كل منهما كان هناك مدرس معروف بأنه مفترس جنسي، وكلاهما يستهدف الأولاد. تم طرد أحد هؤلاء المعلمين في النهاية من التدريس، وأجبر على التقاعد، لكن الآخر بقي ولا يزال يعمل في تلك المدرسة. كل يوم، في الحافلات العامة وعربات المترو المزدحمة، في الطريق من وإلى المدرسة، كنت أتعرض لملامستي من قبل رجال صغار وكبار، كانوا يضعون أيديهم تحت تنورتي، وهو عمل من أعمال العنف شائع جدًا في روسيا لدرجة أنه يبدو حتى يومنا هذا بلا جدوى. للحديث عن ذلك. لم أقل كلمة واحدة لهؤلاء الرجال؛ حاولت الابتعاد أو استخدام حقيبتي كحاجز. أتذكر حالتين عندما تدخلت النساء الأكبر سنا. صرخ أحدهم في وجهي قائلًا: "يجب أن أعتني بنفسي بشكل أفضل".

على الرغم من الحافلة العامة، كنت طفلاً محميًا. ذهبت إلى المدارس المتخصصة (القبول يعتمد على من تعرفه)، وجمعت عائلتي الموارد حتى لا يجوع أحد في أصعب أوقات البيريسترويكا. كانت تفاعلاتي مع الأشخاص خارج عائلتي والمدارس ضئيلة. عندما كنت في السادسة عشرة من عمري، عندما اضطررت للحصول على جواز سفري الأول، أصرت عائلتي على أن أحاول مواجهة السلطات بمفردي. أخذت شهادة ميلادي وذهبت إلى مكتب الجوازات المحلي، وتم إبعادي على الفور لجمع أوراق إضافية وإيصال من مكتب البريد. في مكتب البريد أعادوني إلى مكتب الجوازات للحصول على ورقة لم تكن بحوزتي. عندما كنت في مكتب الجوازات، لم يتحدثوا معي حتى أظهر الإيصال من مكتب البريد. عندما عدت مرة أخرى إلى مكتب البريد، محاولة مناقشة وجهة نظري، انفجرت في البكاء ولم أستطع. ركضت إلى المنزل وأنا أشعر بالكراهية تجاه جميع الأشخاص ذوي الوجوه المتحجرة الذين رفضوا المساعدة في مثل هذه المهمة اليومية. (لم أكن قد قرأت كافكا بعد، ولكن بعد بضع سنوات، عندما قرأت ذلك، تعرفت على العالم الذي كان يكتب عنه).

في اليوم التالي، جاءت جدتي معي إلى مكتب الجوازات. لقد أصلحت المشكلة كما كانت تفعل دائمًا، بالتوسل والتوسل. قالت بنبرة أرعبتني: "أنا كبيرة في السن وحفيدتي صغيرة وغبية، هل يمكنك مساعدتنا من فضلك". رفضت أن أتخيل كيف تمكنت من إتقان مهارة التسول. وكان الشخص الوحيد الذي أعرفه والذي كان أفضل منها في ذلك هو جدي. كان يبدأ كل محادثة هاتفية مع أحد الشخصيات ذات السلطة، سواء كان صيدليًا أو سباكًا، بقوله: "أيتها الشابة (أو الرجل)، أنا كبير في السن ومريض جدًا. أتوسل إليك أن تساعدني." لقد كرهته لأنه تحدث بهذه الطريقة، لكنني الآن أعلم أن ما شعر به كان شفقة، وكرهت أنه طلب الشفقة. عند سماع ذلك، شعرت بالخجل.

غادرت روسيا في أسرع وقت ممكن، عندما كنت في السابعة عشرة من عمري. كثيرا ما يسألني الناس في الولايات المتحدة: "لماذا قررت مغادرة روسيا؟"ولم أستطع، وما زلت لا أستطيع، أن أعطي إجابة واضحة. لم أستطع التعامل مع تعقيد كل ما كنت أشعر به. أحببت سان بطرسبرج. كان منزلي. عائلتي كانت هناك وأصدقائي. وحتى يومنا هذا، لا تزال مدينتي التي ولدت فيها تحمل أوتار قلبي ومخيلتي. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استلقيت للنوم على نفس الحلم المتكرر: إنه الصيف، وأنا في الريف، في المقصورة التي قضيت فيها الصيف، وأركض نحو البحيرة الجليدية الصغيرة. أذكر أسماء التلال والبرك وجذور أشجار الصنوبر الموجودة في الطريق، وأتوقع متعة الغطس في الماء البارد. ثم أخذت المنعطف الأخير، فأجد البحيرة مغطاة بطبقة من التلوث، ومصنع كبير ينفث الدخان في الهواء خلفها.

لسنوات عديدة تجاوز كابوسي الواقع. كنت أعود إلى روسيا كثيرًا وأحيانًا لفترات طويلة. فكرت: هل أستطيع العيش هنا الآن؟ هل يمكنني أن أشعر بالحرية وعدم الخوف؟ كانت هناك سنوات عندما تخيلت أنني أستطيع ذلك. كان والدي، الذي نشأ في بيئة آمنة نسبياً في سنوات خروتشوف، قد خاطر بالحصول على وظيفة ثابتة في أحد المصانع لبدء مشروعه الخاص. والدتي، التي كانت سعيدة بترك مخاوف والديها وراءها واحتضان العالم الجديد، فعلت الشيء نفسه. لقد تخرج أصدقائي من الجامعات ووجدوا أنفسهم يعملون بأجر، حيث يوفر الاقتصاد الجديد لكثير من الشباب فرصًا للتقدم السريع. بدأ البعض أعمالهم الخاصة أيضًا: وبدا أن كل ما يتطلبه الأمر هو بعض روح المبادرة والبراعة في تجنب البيروقراطية والبلطجية.

كانت هناك لحظة معينة أدركت فيها أن الأمور تغيرت مرة أخرى في روسيا، بشكل لا رجعة فيه. كان ذلك في عام 2013، بعد عام من إعادة انتخاب بوتين رئيسًا وقمعه بوحشية الاحتجاجات السلمية الحاشدة واعتقال العديد من زعماء المعارضة، بما في ذلك بوريس نيمتسوف وأليكسي نافالني. كنت أتابع الأخبار عن كثب،وخاصة التغطية النسوية لأداء فرقة Pussy Riot واعتقالها ومحاكمتها في وقت واحد. لكن قراءة الأخبار شيء ورؤية كيف تسير الأمور في الوطن شيء آخر.

لقد شعرت بالقلق عندما هبطت في سانت بطرسبرغ في يونيو من ذلك العام. في اليوم التالي لوصولي، اضطررت للذهاب إلى مركز معالجة الوثائق الموحد لتجديد جواز سفري. ذهب والدي معي؛ كنت ما أزال خائفًة من مواجهة السلطات وحدي. في الثامنة صباحًا، كان كل مقعد في غرفة الانتظار الضخمة في مبنى مصنع النسيج الذي أعيد تصميمه مؤخرًا، مشغولًا؛ اصطف الناس في الممرات وعند النوافذ في الخلف. ومع ذلك، وبدون سبب واضح، تم تطويق جزء من المقاعد القريبة من المكان الذي كنا نجلس فيه أنا وأبي بحزام قابل للسحب.

ما حدث بعد ذلك حدث بسرعة، ولكن كان لديه ما يكفي من الوقت لاستيعاب كل التفاصيل. شاب - اثنان وعشرون أو ثلاثة وعشرون عامًا، ولد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي - يرتدي سترة واقية خضراء نيون وجينزًا ضيقًا مدسوسًا تحت حزامه، ويجلس في منتصف صف المقاعد الفارغة، ويمد ساقيه إلى الداخل  فى وضعية مريحة. وعلى الفور تقريبا، ظهر اثنان من حراس الأمن من الجانب. اقتربا من الشاب وهما يحملان هراوات سوداء تتأرجح على وركهم. وأمره أحدهم بمغادرة المنطقة.

قال الرجل: "لا يمكنك إجباري على الذهاب". بدت كلماته سخيفة لأنها كانت تعني ذلك بوضوح. في ملاحظاتي من ذلك اليوم، كتبت أن الشاب بدا وكأنه يتخلص من امتيازاته، وأنه لسبب ما كان يتصرف وكأن القواعد لا تنطبق عليه.

لكن في تلك اللحظة، بينما كنت أقوم بتقييم موقف الرجل، قام حارسا الأمن بسحب السترة الواقية من الرياح فوق رأسه حتى أصيب بالعمى على الفور وحُرم من الهواء. ولووا ذراعيه خلف ظهره. لقد عملا بكفاءة وواقعية، دون بذل الكثير من الجهد.

صرخ الشاب وهو يحاول يائسًا أن يفلت من قبضتيهما:

-  المساعدة! المساعدة!"لماذا لا تقولون أي شيء أيها الناس؟ هذان البلطجيا كادا أن يقتلاني!

لم ننظر أنا وأبي إلى بعضنا البعض أو نصدر أي صوت. ومن الحشد الذي خلفنا ارتفع صوت أنثوي غاضب:

- اتركاه وشأنه! لا يمكنكما معاملة الناس بهذه الطريقة!

وظهر رجل ثالث بالقرب من حراس الأمن. كشفت ملابسه المدنية عن الرجل المسؤول. أعطى الأمر. ساعد حارسا الأمن الشاب على الوقوف على قدميه،  وسحباه  إلى نهاية الردهة. كان لا يزال يقاوم، ويحفر بقدميه في الأرض ويصرخ. وسرعان ما اختفى خلف باب  ما ولم نعد سمع صراخه .

كان صمت مئات الأشخاص المتجمعين في منطقة الانتظار ثاقبًا. نظرت إلى والدي ورأيت أنه يبدو أصغر قليلاً، منحني الظهر، والخوف في عينيه. لقد قاوم دائمًا عقيدة حماه المتمثلة في البقاء أكثر هدوءًا من الماء، وتحت العشب، ولكن هل كان ذلك لأنه لم يكن خائفًا حقًا على سلامته من قبل؟ أو ربما حتى هذه اللحظة لم أره خائفًا. لم يسبق لي أن رأيت خوفي ينعكس في عينيه.

لم يفعل أحد من الحشد أي شيء، باستثناء تلك المرأة الشجاعة الوحيدة. لم يخطر ببالي أبدًا أنني يجب أن أفعل شيئًا ما. ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ بالكاد كنت أنتمي إلى هذا البلد؛ كانت حياتي في أمريكا. بدأ تبرير الذات على الفور.

واليوم، مثل كثيرين من الناس، أشاهد جيش بوتن وهو يغزو أوكرانيا، وأشعر بالخوف أولاً وقبل كل شيء. إنني أخشى مما قد يحدث لشعب أوكرانيا، وما قد يحدث لهؤلاء المتظاهرين الشجعان الذين بقوا في روسيا ويقاومون الرجل القوي. أنا أيضًا مندهشة وممتنة لرؤية أن الكثير من الناس، ربما بشكل مختلف عني، ليسوا خائفين، وأن العديد من الآخرين قادرون على وضع خوفهم جانبًا للقتال.

أعلم أن العديد من الأوكرانيين يتساءلون لماذا لا يخرج المزيد من الروس إلى شوارع مدنهم للاحتجاج على حرب بوتين. من حقهم أن يطرحوا هذا السؤال. ونظراً لما يحدث في أوكرانيا الآن، فإن الخوف يشكل إجابة غير مرضية. ومع ذلك، من خلال تجربتي، فإن الخوف حقيقي جدًا، وشامل، وقاس. قلبي يضيق من الخوف على بعد آلاف الأميال، وأنا أكتب هذا. ومرة أخرى، أرى آخرين يعبرون عن خوفهم ويحتجون في شوارع المدن الروسية على الرغم من التهديد الحقيقي بالاعتقالات والتعذيب الوحشي. أرى شعب أوكرانيا يقاوم والعالم يستيقظ ويتحد للتحرك ضد المعتدي. يعتمد المتنمر على خوفنا ويتغذى عليه. وهذا حقيقي أيضًا.

شيء آخر واضح. الخوف يتنكر في هيئة أشياء أخرى كثيرة. الغضب. يكره. السخرية. نقل ملكية. "هذا ليس عني." "لماذا تهز القارب؟" "لماذا يجب أن أتدخل؟" "لا ينبغي لي أن أفعل أي شيء يمكن أن يضر عائلتي." أشاهد عقلي يقوم بهذه التشوهات. عقلي ليس مرتاحًا للخوف ويحاول دفن هذا الشعور في سلاسل أطول وأطول من تبرير الذات. أذكر نفسي بالأساسيات، بالخوف وشيء آخر: الخطر الذي لا يمكن إنكاره أو التغلب عليه. يجب إيقاف بوتين.

***

........................

المؤلفة: أولجا زيلبربورج/ OLGA ZILBERBOURG   نشأت أولجا زيلبربورج في سانت بطرسبورغ، روسيا، وجاءت إلى الولايات المتحدة في سن السابعة عشرة. ظهرت مجموعتان من قصصها في سانت بطرسبرغ، وأنتج فيلم قصير بعنوان "أين يتدفق البحر" استنادًا إلى قصتها، إلى التصفيات النهائية في مهرجان مانهاتن للأفلام القصيرة. زيلبربورج كاتبة ومحررة ثنائية اللغة وتعمل حاليًا كمحررة استشارية في مجلة Narative Magazine.

 

حذرها سارتر من أن تصبح ذات يوم امرأة بيت عادية. تعترف انها ظنت ان وجودها الى جانب الفيلسوف الشاب قد جعلها تربح كل شيء، بعد سنوات ستكتشف إن أضمن طريقة لأن يفقد الانسان حريته هي أن يعمل لتحقيق الخلاص لشخص آخر غير نفسه. كانت في الخامسة والعشرين من عمرها عندما عرضت على سارتر ذات يوم: " تلك الاخلاقيات التي صنعتها لنفسي لتسويغ الناس الذين أحبهم، لكني لم اكن اريد ان اشبههم " – مذكرات فتاة رصينة ترجمة ندى حداد –.عاشت سيمون دي بوفوار حياتها مثل سارتر تتغنى بالوجودية: " ان أوجد من اجل ذاتي ". ان تعبر عن نفسها علنا، وأن تجعل الناس يسمعونها. في كلمات مؤثرة يصفها سارتر بانها: " انسان لا يفكر في نفسه، فهي تفكر فيما تواجهه، انها هي نفسها حرة، وحين تواجه سيمون دي بوفوار اسئلة حول نفسها فهي لا تواجهها من قبيل النرجسية، بل من قبيل الحساسية التي تندهش بأن لها (الانا) وحينئذ فهي تتساءل الحق أنني ذاتية، وأنني أوجد ايضاً) " - سارتر يتحدث عن سيمون دي بوفوار مجلة الهلال 1967 -

كانت صورتها في المقهى والى جانبها رفيق رحلتها في الحياة والفكر جان بول سارتر، هي الصورة التي جعلت الكثيرين منا كقراء للفلسفة الوجودية يشيرون الى هذه الكاتبة بانها تعيش تحت ظلال صاحب الوجود والعدم، وان مشروعها الفلسفي لا ينفصل عن مشروع سارتر الوجودي، فقد القت شخصية سارتر بظلالها على اعمال بوفوار الفلسفية، وذهب البعض الى القول ان مؤلفاتها ما هي إلا تطبيق لفلسفة سارتر الوجودية، ولهذا لم نكن نوليها الاهتمام، فما الذي يمكن أن تكتبه هذه المرأة في وجود كاتب وفيلسوف باهمية جان بول سارتر.لندع سيمون دي بوفوار تتحدث عن هذا الأمر: " ليس صدفة أن الانسان الذي اخترته هو سارتر، فقد اخترته في نهاية الأمر. وإذا كنت قد تبعته بفرح فذلك لأنه قادني الى حيث كنت اريد أن اذهب. اما انفعالاتي ومشاعري، فقد احسست بها بفضل اتصالي المباشر بالعالم. وما قمت به من اعمال تطلب مني ابحاثا واتخاذ قرارات مدروسة ومداومة واصرار على العمل بل وصراعا من اجل العمل. وهو قد اعانني. وقد ساعدته ايضا. أنا لم اعش من خلاله " – قوة الاشياء ترجمة عايدة مطرجي ادريس -. ونجدها في " قوة العمر " تشرح لنا الفوارق بينها وبين سارتر: " يعيش سارتر ليكتب، كان يرى ان من واجبه أن يشهد على كل شيء، وأن يعيد صياغته تحت ضوء الحاجة، اما بالنسبة إليّ، فكان ما يحثني على الكتابة هو أن اعير وعيي لمباهج الحياة التي عليّ انتشالها من الزمن والعدم "، وفي مكان آخر من السيرة الذاتية تؤكد بوفوار ان هناك فرق كبير بينها وبين سارتر وخصوصا فيما يتعلق بعلاقتهما بالماضي: " بدا لي معجزة ان انتزع نفسي من ماضِيَّ، ان احقق اكتفائي بنفسي، ان اقرر شأني، دخلت مرحلة التعويل الكامل على الذات: لا شيء في وسعه انتزاعه مني ".

عندما نقرأ بتمعن اعمال سيمون دي بوفوار نكتشف ان هذه السيدة تحاول أن تتبارى مع سارتر في سعيها لفلسفة وجودية جديرة بالاسم، فلسفة تقلق الإنسان لكنها في الوقت نفسه: " تريد أن تُجنب الإنسان الخيبة والغيظ المكتوم الذين تسببهما عبادة الاصنام الكاذبة. إنها تريد أن تقنعه بأن يكون انساناً بأصالة. انها فلسفة ترفض تعازي الكذب، وتعازي الاستسلام: انها تثق بالبشر " – سيمون دي بوفوار الوجودية وحكمة الشعوب ترجمة جورج طرابيشي -.

لعل اكثر ما يثير الانتباه ونحن نقرأ سيرة سيمون دي بوفوار، هو ارادتها الواضحة والصريحة في تقديم صورة لمراحل تطورها الشخصي. حيث حاولت ان تبين اسباب تحررها، وتعطي الاولوية للإرادة التي منحتها قوة حياتها. وتكشف للقراء ان هذه الفتاة التي اطلقت عليها في مذكراتها وصف " الرصينة او العاقلة " اكتشفت استقلالها الذاتي بفضل ثقافتها، كانت دائما على وعي بقدرتها على تاكيد ذاتها.كانت هذه الفتاة وهي تسعى إلى الانفصال عن طبقتها الاجتماعية البرجوازية، تدرك انها اصبحت بلا مكان في هذا المجتمع ولهذا فقد " قررت بفرح ألا اتوقف بأي مكان "، وقد ساعدها هذا الموقف أن تكون دائما على استعداد للاحتجاج وفي تكوين وعيها الاجتماعي وان حياتها تكونت: " عبر الإرادة الدائمة لاثراء المعرفة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي - لكن هذه المعرفة لم تكن متاحة دون الآخرين، وهي بذلك تقف على النقيض من سارتر الذي اطلق عبارته الشهيرة " الآخرون هم الجحيم "، حيت تعترف: " كنت قد اكتسبت المعرفة بوجود الآخرين عندما شعرت بانقباض التاريخ علينا، فانفجرت واصبحت اشعر اني ارتبط بكل كياني بالجميع وبكل فرد " – قوة العمر -. وبسبب هذا الموقف سعت طوال حياتها أن تعبر عن رغبة عميقة في البحث عن الاتصال الانساني، رغم الصراعات والتقاليد الاجتماعية المحافظة التي كانت تحيط بها، ولعل هذا الانفتاح على الآخر هو الذي قادها لان تكتب كتابها الشهير " الجنس الآخر" والذي سمي اثناء صوره بـ " الكتاب الفضيحة ".، وأثار عاصفة من الاحتجاجات، وبسببه انهالت على سيمون دي بوفوار كتابات تصفها بأبشع الأوصاف.

ولدت سيمون لوسي إرنستين ماري برتراند دو بوفوار في صبيحة يوم التاسع من كانون الثاني عام 1908، وهي اكبر ابنتين لاسرة من الطبقة البرجوازية وجدت نفسها بعد الحرب العالمية الاولى تواجه الافلاس، والدها من محبي الادب والفلسفة، وفي شبابه راودته فكرة أن يصبح ممثلا، ولكن الخشية من العائلة المتزمتة جعلته يدرس الحقوق، ليصبح موظفا، وكانت والدتها من عائلة غنية محافظة دينيا، فربت ابنتيها " سيمون وهيلين " على الطاعة الدينية، وستخبرنا سيمون دي ببوفوار ان تاثير امها كان كبيرا عليها، حتى انها قررت عندما كانت صغيرة ان تصبح راهبة، دخلت المدرسة الكاثوليكية، لكنها ستتمرد على واقعها عندما بلغت الرابعة عشر من عمرها، الأمر الذي دفع والدها لأن يقول " انها تفكر كرجل ". في مذكرات فتاة رصينة تتذكر صراعها مع الواقع الذي كانت تعيش فيه، فهي رافضة لافكار عائلتها البرجوازية الخانقة، وفي الوقت نفسه كانت حائرة كيف تتصرف كفتاة في مجتمع يرى ان قدر المراة هو بيت الزوجية.اصبحت تشعر بالملل، قالت لأمها ذات يوم: " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل؟ ". بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركغارد: " علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة أو مفرحة، لأنها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت أن تعيش حياتها، لأنها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا أن تصنع حياتها بنفسها، " أن تجرب الحياة كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير "، وتعترف في " مذكرات فتاة رصينة " انها دائما ما كانت تحاول ان تختلق المشاكل لكي تتمرد على سلطة أمها، وتبحث بينها وبين نفسها عن طريقة للفرار بعيدا عن البيت العائلي. كانت تجاهر بعدائها لكل ما يتصل بالإلتزام نحو العائلة: " في العشرين كنت اعتقد انني يجب ان اعيش خارج المجتمع ".

عاش والدا سيمون في عالمين مختلفين، فالأب كان يرى ان الديانة من شأن النساء والاطفال. كانت مفاهيمه علمانية، اضافة الى انه ينتمي إلى اليمين المتشدد، وينظر بحذر الى الاجانب وينتقد الحركات اليسارية، اما الام (فرانسواز دو بوفوار) فكانت مصممة على تطبيق التعاليم التي تلقتها في مدرسة الدير، لتكون ربة بيت مثالية، وستقول سيمون دي بوفوار فيما بعد " ان المسافة الفكرية بين والديها كانت بمثابة مصدر يدفعها لأن تصبح مثقفة " - توريل ماي سيمون دي بوفوار ترجمة قاسم المقداد -، تصف امها بانها كانت " رقيقة، مرحة وكانت تقول لابنتها: انما مني انا تستمدين حيويتك " – موت عذب جدا ترجمة كامل العامري -. قررت الام ان تدخل ابنتها سيمون مدرسة الراهبات وستقدم بوفوار صورة بائسة للدراسة فقد كانت المعلمات " غنيات بالفضيلة اكثر من الشهادات "، تقترح على امها ان تنتقل للمدارس الحكومبة حيث الدراسة فيها اكثر فائدة، بعد اجتيازها مرحلة الثانوية تتوجه لدراسة الرياضيات واللغات في معهد سانت ماري، في المرحلة الثانوية تطمح لأن تصبح " مؤلفة مشهورة "، وكان السبب اعجابها الشديد بالكتب التي تقرأها. تدرس الفلسفة الأمر الذي اثار استياء والدتها، فالفلسفة تفسد الروح على نحو مميت، لكن في النهاية رضخت العائلة لاصرار الابنة البالغة من العمر الثامنة عشر عاما، فسمح لها باكمال دراستها الفلسفية في السوربون.عام 1929 وجدت سيمون دو بوفوار ضمن اكثر من 70 طالب تقدموا لامتحان شهادة الاستاذية في الفلسفة، كانت في الـ " 21 " من عمرها، تقدمت برسالة عن الفيلسوف الالماني " فجوتفريد فيلهلم ليبنتز " حصلت على المرتبة الثانية وكان صاحب المركز الاول جان بول، فيما كانت سيمون دي بوفوار اصغر طالبة تنجح في الامتحانات النهائية في تاريخ الجامعة الفرنسية.

الحديث الاول مع سارتر تم في المكتبة الوطنية عندما قدم لها هدية عبارة عن صورة للفيلسوف الالماني " ليبنتز "، وكما تقول في " مذكرات فتاة رصينة " ان سارتر حاول التقرب منها لكنها كانت حذرة منه، تُقدم لاختها هيلين صورة كاريكاتيرية عن سارتر: " قصير جدا، يضع على عينيه نظارتين، وقبيح جدا "، كانت قد سمعت الكثير من القبل والقال عن هذا الطالب المعتد بنفسه، في مذكراتها نرى سيمون دي بوفوار تلك المراة الشابة التي كانت تتهيا لخوض غمار الحياة من دون نصير قبل ان تتعرف على سارتر الذي وجدت فيه شخصا متميزا: " التقيت رفيق الرحلة الذي كان يسير في نفس الطريق بخطوات اكثر ثقة من خطواتي " – قوة العمر -

وضح لها سارتر منذ البداية بانه لايهتم لموضوع الارتباط، فالحب بالنسبة اليه حب الشخص بصفته كائنا حراً، في البداية وجدت بوفوار اراء سارتر مخيفة، فعلى الرغم من انها تعلن في مذكراتها ازدرائها لفكرة الزواج، إلا انها في مراهقتها كانت تحلم بالزواج من ابن عمها جاك، فيما بعد ستكتشف ان علاقتها بسارتر منحتها مفهوما وجوديا للحياة فتكتب في مذكراتها: " بما اننا افراد مستقلون فنحن احرار. إنها ليست سهلة تلك الحرية، إنها تجلب معها ألم الاختيار، إنها تاتي مع عبء المسؤولية ".

في السنوات التي عاشها معا حتى لحظة رحيل سارتر عام 1980، حافظ سارتر وبوفوار على معتقداتهما بالحرية الفردية المطلقة.في واحدة من رسائله كتب سارتر الى دي بوفوار: " ثمة شيء واحد لا يتغير ولا يمكن ان يتغير هو انه مهما حدث ومهما اصبحت ساصبحه معك " فيما كتبت بوفوار في الجزء الاخير من مذكراتها: " كنت اخادع حين اعتدت ان اقول باننا كنا شخصا واحدا، فالانسجام بين شخصين لايُمنح ابدا، ينبغي ان يكتسب دائما على الرغم من العقبات " – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي -.

كانت سيمون دي بوفوار اثناء دراستها تحاول الاستفادة من معظم حقول المعرفة وفي يومياتها تقدم لنا خارطة لقراءاتها: " قرأت برغسون وافلاطون وشوبنهاور وليبتنز، وخصوصا نيتشه، وكان هناك عدد من الموضوعات تشعلني: قيمة العلم والحياة والمادة والزمن والفن، لم تكن عندي نظرية محددة.. واستعدت حبي للادب فقرأت بريتون واراغون، واستولت عليَّ السيريالية، وباخت في نفسي فلسفة القلق والحيرة " – قوة العمر ترجمة محمد فطومي -. بعد سنوات قليلة ستحاول أن تثبت نفسها فيلسوفة وجودية الى جانب سارتر وميرلوبونتي حيث تصدر عام 1943 اولى رواياتها " المدعوة " وهو نفس العام الذي صدر فيه كتاب سارتر الشهير " الوجود والعدم "، يصف ميرلوبونتي " المدعوة " بانها طريقة جديدة لممارسة الفلسفة الوجودية. هي أولى مغامرات بوفوار الفلسفية. إنها مثال واضح على ما تسميه بوفوار بالرواية الميتافيزيقية، حيث يظهر لنا من الرسائل المتداولة بين سارتر وبوفوار ويوميات بوفوار في تلك الفترة، أن سؤال الآخر ومفهوم الوجود كانا يشغلان بال دي بوفوار، ولهذا حاولت أن تقدم في روايتها شخصية امرأة حائرة بين وضعها الوجودي الفريد والظروف الاجتماعية التي تعيش فيها.

لم تنتظر دي بوفوار طويلا لتقدم لنا ارائها الفلسفية في كتاب بعنوان " نحو اخلاق وجودية " – ترجمة جورج طرابيشي، ويعتبر اول كتبها الفلسفية، تناولت فيه العديد من المسائل الفكرية والسياسية، وطرحت اسئلة من عينة: كيف يمكنني أن أرغب في أن أكون ما أنا عليه؟ كيف يمكنني أن أعيش حريتي المحدودة بشغف؟ هذه الأسئلة الوجودية ستؤدي إلى الأسئلة الأخلاقية والسياسية التالية: ما هي الأفعال التي تعبر عن حقيقة حالتنا؟ كيف يمكننا العمل بطريقة تخلق الظروف التي تدعم إنسانية البشر؟. والسؤال الاهم: ما هي علاقتي بالآخر؟ لتصل الى نتيجة مفادها، أن العالم يتشكل من خلال الخيارات البشرية، ومهما كانت هذه الخيارات، فانا لي خياري المستقل، ولا يمكنني دعمه دون مساعدة الآخرين، والحقيقة الماثلة هي أن قيمي لن تجد لها مكانة في العالم إلا إذا احتضنها الآخرون، ويتم ذلك من خلال بجعل قيمي قيمهم.

تؤكد دو بوفوار أننا بصفتنا كائنات حره، فنحن بحاجة إلى التواصل مع الآخرين وجذبهم لمشاركتنا في مشاريعنا الخاصة، وعليه تتمثل المشكلة الأخلاقية الرئيسة هنا في كيفية تجاوز عزلة الحرية لخلق مجتمع من الحلفاء، وذلك من خلال النظر إلى ضرورة احترام حرية الآخرين، وان امكانية تحقيق هذا الهدف، تتم من خلال الاستناد إلى الحوار والتواصل بين الأفراد. وتمضي دي بوفوار لتقول نحن نصنع الآخرين بقدر ما نصنع انفسنا، أن علاقتنا بالآخرين ليست مفروضة علينا من قبل، ولا هي ثابتة على نحو معين، بل هي حصيلة متغيرة لما نؤسسه ونفعله، وعلى ذلك بامكاننا أن نوسع الى ما نهاية لعالمنا أو نضيقه الى اضيق الحدود. ورغم ما نحققه من افعال وغايات، ستظهر لنا حدود وقد نتساءل إن كان لكل شيء نهاية فلماذا لانتوقف من البداية، لكن الواقع ان الانسان لا يتوقف انه كما تصفه سيمون دي بوفوار " كائن الابعاد " وعليه ان يواصل مغامرة الحياة الى ابعد الحدود، وحتى الموت لا يمكن ان يكون نهاية الحدود، ذلك لأن مشروعات الانسان تتجاوز الموت، فالانسان على مدى تاريخه يبحث عن " ان يكون " لأن: الحياة التي يتركها المرء وراءه ليست شيئا جامدا (اي مستحيلا) بل انها حياة انسانية. وحينئذ يمكن للمرء أن يقول هذه هي الحياة التي حياها " – فرانسيس جانسون سيمون دي بوفوار ترجمة ادورالخراط -.اما عكس ذلك فهو خضوع الانسان للاشياء وتسليمه بالقواعد الموضوعية والقيم المطلقة، وفي هذا الغاء لحريته ووجوده، وهنا تنحسر عن الانسان روح القلق ازاء القيم الموضوعة الجاهزة، وتهاجم سيمون دي بوفوار هذه الروح وتنتقدها وترى انه يتجلى فيها هروب الانسان من حريته. تردد بوفوار انه لا يكفي للمرء ان يفهم اوهامه حتى يتحرر منها.فقد كانت تصر ان تكون حياتها " قصة جميلة " لكنها تكتشف فيما بعد: " سلمت اخيرا بان حياتي لم تكن قصة ارويها لنفسي.. بل مصالحة بيني وبين العالم ". كانت سيمون دي بوفوار فيلسوفة ملتزمة بالرأي القائل بان هوية الانسان تتجدد بافعاله، ونجدها تمضي بوفوار في تطوير فلسفتها الوجودية لتعلن في كتابها " مغامرة الانسان " بأنه من غير المنطقي ان يُعلي المرء شأن حريته دون ان يفعل الشيء عينه حيال حرية الآخرين تكتب: " اننا نسعى في غالب الاحيان الى تحقيق كينونتنا دونما عون: اسير في الريف، اقطف زهرة، أركل حصاة. افعل هذا كله، دونما شاهد، ولكن ما من احد يرضى حياته كلها بمثل هذه العزلة. فما أن تنتهي نزهتي، حتى اشعر بالحاجة إلى ان اقصها على صديف " – مغامرة الانسان ترجمة جورج طرابيشي -.

ليس غريبا ان يرتبط اسم سيمون دي بوفوار بقوة بجان بول سارتر، إلا اننا لا يمكن أن نختزل بوفوار بأنها مجرد كاتبة. لاشك ان لسارتر تاثيرا كبيرا على تفكيرها، غير ان العكس ايضا صحيح حيث مارست من جانبها تاثير على وجودية سارتر، تكتب ماريا فاوسيه ان: " وجودية سارتر كانت ستبقى جامدة لولا مساهمة بوفار " – هكذا تكلمت سيمون دي بوفوار ترجمة رحاب منى شاكر –، فبينما كان سارتر ميالا لأن يصنع من الفرد مخططا متوجدا، كانت بوفوار ترى الانسان ضمن علاقته مع الاخرين. غير ان المنطلقات الفلسفية التي اعتمدها كل من سارتر ودي بوفوار لا يمكن فصل بعضها عن بعض، فجميع النصوص التي كتباها بشرت بفلسفة حول الانسان ككائن متفرد تتجلى من خلاله مصطلحات الحرية والمسؤولية الذاتية: " ان تعريف الانسان بالحرية فد بدا دوما ميزة الفلاسفة المتفائلين، فمن المغالطة اعتبار الوجودية مذهبا بائسا، فهي ابعد ما تكون عن ذلك. ان الوجوديين ابعد ما يكونون عن إنكار الحب، والصداقة، والاخاء، حتى انهم يرون أن كل فرد يستطيع في هذه العلاقة الانسانية فقط أن يجد اساس وجوده واكتماله " – الوجودية وحكمة الشعوب ترجمة جورج طرابيشي -.

خلال حياتها وبعد وفاتها هوجمت سيمون دي بوفوار وسخر منها كثيرا واعتبرت " امرأة منحرفة "، لانها رفضت ان ندخل في الوجود الانساني باسم مبادئ اخلاقية واجتماعية مطلقة ودعت الى النشاط والعمل قبل كل شيء وقالت: " انه حتى اذا كان الثمن هو القلق الدائم يجب على الانسان ان يرفض تلك الثقة الكسولة في شيء آخر سوى نفسه ".

ترجمت كتب سيمون دي بوفوار الى اكثر من ثلاثين لغة، ولاقت في السنوات الاخيرة اهتماما كبيرا، فَحولها اليوم عشرات الكتب من السير والدراسات والمذكرات. إلا ان علاقتها بسارتر كانت الأبرز بالنسبة للذين يُقبلون على معرفة اسرار حياتها..

في الصفحة الاخيرة من مذكراتها تكتب: " قال لي سارتر يوما إن لديه شعوراً بأنه لم يؤلف الكتب التي حلُم بها في سن الثانية عشرة. أنا اختلف عنه، طبعا ليس في استطاعة احد ان يواجه مشروعاً غامضاً ولا متناهيا بكتاب منجز ومحدد. لكني لا أشعر بالفجوة بين النوايا التي دفعتني لتاليف كتب وبين الكتب التي امكنني أن أنجزها. لم اكن موهبة في الكتابة. لم املك مثل فرجينيا وولف وبروست وجويس، القدرة على تحريك العواطف والقبض على العالم الخارجي في كلمات. لكنها لم تكن غايتي. أردتُ أن أوجد في عيون الآخرين." – وانتهى كل شيء ترجمة محمد فطومي –

في مساء الرابع عشر من نيسان عام 1986 اعلن عن وفاة سيمون دي بوفوار، كانت تعاني في سنواتها الاخيرة من التهاب رئوي، تمنت ان تقام لها جنازة شبيهة بجنازة رفيق رحلتها، إلا ان سارتر تفوق عليها بعدد مشيعيه الذين تجاوزوا الـ " 50" الف، نفذت وصيتها بان دفت الى جواره، وكانت قبل وفاتها باسابيع قد كتبت: " لقد فرقتنا وفاته، ووفاتي لن تجمعنا، وهكذا بالرعم من أن حياتنا كانت متوافقة ولأمد طويل ".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

عندما قرأت خبر رحيل  استاذي الدكتور جميل نصيف التكريتي على صفحة الصديق هاتف الثلج هذا اليوم السبت 2/12/2023، تذكرت المرة الاولى التي قابلت فيها صاحب الابتسامة المتميزة والصرامة العلمية، وكنت قبل ان اقرأ خبر رحيله المؤلم في الغربة على سرير في احد مستشفيات لندن، اتابع اخباره واعرف انه يعاني من المرض ومن غياب الاحباب والاصدقاء، ومن  حنينه الى ضجيج قاعات الدرس التي كان فيها فارسا من الطراز الاول. وكنت اقول لبعض الاصدقاء ممن يعرفون قيمة وفضل الدكتور جميل نصيف على الثقافة العراقية: لماذا غابت عن حياتنا الثقافية اسماء كانت تشكل قيمة معرفية، والأهم لماذا النسيان لهذه القامات الكبيرة وعدم الإعلاء من شأن أفكارها ومبادئها، لتصبح مرجعية عامة لسلوكنا الثقافي والمجتمعي؟.

عرفت الدكتور جميل نصيف في نهاية السبعينيات، كنت آنذاك أعمل في مجلة الثقافة برعاية المعلم صلاح خالص، وكانت المجلة تنشر لي سلسلة حلقات عن مسرح يوسف العاني، وأتذكر انني في إحدى الحلقات اقتبست عبارة شهيرة كتبها الدكتور جميل نصيف عن يوسف العاني، واعتمدت أيضاً على دراسته المتميزة " نحو دراسة جادة للمسرح العراقي " كأحد المصادر المهمة التي تناولت تأثيرات المسرح الملحمي على المسرحية العراقية انذاك، وكان الدكتور جميل نصيف أول من قدم لقراء العربية الترجمة الكاملة للمؤلف المسرحي الالماني برتولد برشت " نظرية المسرح الملحمي "، وفي أحد الأيام أخبرني الدكتور صلاح خالص، إن جميل نصيف يسأل عني، وكأي شاب في بداية الطريق، أصبت بنوع من الخشية والرهبة، كيف يمكن لي أن أقف أمام استاذ بحجم جميل نصيف، لكنني في النهاية قررت أن أخوض التجربة، وذات يوم كنت أهِمْ بدخول ساحة كلية الفنون الجميلة، فإذا أنا أمام الدكتور نصيف بقامته الفارعة وأناقته المتميزة، وما إن اخبرته باسمي حتى وضع يده على كتفي وقال لي: تعال معي الى غرفة الاساتذة، حيث كان آنذاك يدرس مادة النقد المسرحي، لأجد نفسي استمع الى شخصية ساحرة امتزجت فيها الرؤية الانسانية، مع جمالية فنية متميزة وهو يحاول أن يصحح خطواتي الأولى في كتابة النقد المسرحي، ويعلمني درساً في كيفية مخاطبة القارئ بلغة مفهومة ذات دلالات واضحة. .. كنت اصيغ السمع الى الدكتور المعلم وهو ينبهني الى اسماء مهمة في الادب المسرحي يجب ان ترافقني في رحلتي، سوفوكليس، راسين، كورني، ابسن العظيم، جان انوي واقتباساته المهمة عن المسرح الاغريقي، جان جيرودو، نشيخوف وبساطته العميقة .. وذات يوم سيهديني الاستاذ نسخة من كتاب ارسطو فن الشعر كانت النسخة بترجمة شكري عياد، وكنت احتفظ بنسخة من الكتاب بترجمة عبد الرحمن بدوي، وسألت الاستاذ ذات يوم ما الفرق بين الترجمتين، فقال لي ان ترجمة شكري عياد بها اضافات نقدية كتبها المترجم حول تاثير كتاب ارسطو على البلاغة العربية، واضاف هذا لايعني ان ترجمة بدوي غير جيدة، بالعكس فهي ترجمة جيدة بحدود انها منقولة عن الترجمات العربية التي قام بها الفارابي وابن رشد وابن سينا لكتاب ارسطو .

جميل نصيف من جيل يؤمن بان مهمة المثقف، هي بالاضافة المستمرة التي يقدمها للحياة العامة، وإن الاستاذ الجامعي يجب أن لاينغلق على نفسه داخل اسوار الجامعة منعزلاً عن قضايا المجتمع وأحلامه في التقدم والرقي، وإن دراسة الأدب أو الفن لا معنى لها ما لم تضع في الإعتبار الدور الاجتماعي الذي يسهم به الأديب والفنان في الارتقاء بالحياة، وان الاستاذ الجامعي هو من يمتد برسالته الابداعية التنويرية خارج نطاق الدرس الجامعي مشيعاً قيم الحرية في المجتمع، متحدياً التقاليد الجامدة، ويبدو إن ذلك هو السبب الذي جعل الحياة الثقافية والاجتماعية تتأثر آنذاك بطروحات أساتذة كبار من امثال علي الوردي وسامي عبد الحميد وصلاح خالص وعلي جواد الطاهر وجواد علي وكاظم حيدر ومدني صالح وجبرا إبراهيم جبرا وإبراهيم كبة ومحمد سلمان حسن، وكنا نعرفهم ونتأثر بكتاباتهم المختلفة في الصحف والمجلات حتى قبل أن نعرف انهم يمارسون مهنة التدريس .

كانت طريقة جميل نصيف في كتابة النقد المسرحي، هي أول ما شد انتباهي اليه، كما كانت دقته في اختيار عباراته التي تبقى عالقة في الذهن لاتنزلق الى النسيان بسهولة، اتاحت لي كقارئ أن أتمثلها وأتمكن من تحديد مقاصدها، قال لي ذات يوم اقرأ جيدا كل ما يتعلق بالدراما الاغريقية التي كان يصفها بانها اشبه بالملمحة التي تنفع لكل عصر ومكان .

ولعل نظرة شاملة لمؤلفات جميل نصيف سنجد نوعاً من التنوع يغني ويعمق مجال الدراسات النقدية، فمابين موسوعته الشهيرة " نظرية الأدب " الادبية، ومروراً بدراسة مسرح ابي خليل القباني وتقديم المسرح الملحمي الذي اشتهر به الالماني برتولت بريشت و"المذاهب الادبية " " و" في سبيل الواقعية " وترجمة الدراسات الحديثة عن بوشكين وبيلينسكي، ومقالاته التي كان ينشرها في المجلات والصحف العراقية والعربية تكشف الأصل في الفعل الابداعي عند جميل نصيف وهو طاقته الخلاقة التي تجمع مابين التراث والمعاصرة، ولا زلت أتذكر دراسته القيمة والموسعة عن كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة وفيها استعرض بالنقد الدراسات العربية الحديثة عن هذا الكتاب التراثي وقارنها بأحدث دراسة ظهرت باللغة الروسية للمستشرق الارمني اوهانسيان . وقد سألت الدكتور جميل عن العلاقة بين دراسة التراث والسعي لترجمة أحدث مدارس النقد العالمي فأجاب: " لاأظن إن على الناقد أو دارس الآداب والفنون أن يفضل فناً من فنون الأدب على الأنواع الأخرى، كما أن عملي استاذ جامعي يفرض عليَّ ان لا أقف عند نوع معين من الأدب، بل إن تطور قراءاتي مرتبط بتطور حياتي مع تطور نموي الفكري، هناك في التراث العربي نقاط مضيئة كثيرة علينا دراستها وتقديمها للقارئ، وهناك حقيقة يجب أن نعرفها إنه لاخلق فني من دون أصالة، أعني بها أصالة التعمق في تراثنا القديم " .

أما أهم المعاني التي تقدمها لنا تجربة جميل نصيف فيرتبط بالطريق الطويل الشاق الذي قطعه الاستاذ الجليل على مدى ما يقارب ستة عقود في مجال الكتابة في عزم ومثابرة لايمكن لاي مؤرخ منصف لتاريخ الأدب العراقي إلا الوقوف أمام قدرة هذا الاستاذ بما أنجز وما حقق وما فتحه من أبواب مغلقة في الدراسات المختصة بالمسرح أو الأدب المقارن أو في مجال النظريات النقدية الحديثة وخصوصاً المدرسة الروسية التي كان أبرز أعلامها باختين وكان لجميل نصيف فضل السبق في تقديمه للعربية من خلال كتابه الشهير " شعرية دستويفيسكي "

لم يكن هذا العمق بعيداً عن النزعة الاشتراكية التي يؤمن بها جميل نصيف ويحاول أن يقدمها من خلال دراساته النقدية او ترجماته، رغم انه يرفض أن تتسم هذه الكتابات والترجمات بعداً ايديولوجياً:" قد اختلف مع التسميات التي توضع لمنهج الواقعية الاشتراكية، حيث يسميه البعض المنهج الايديولوجي، انا مؤمن بالواقعية الاشتراكية، لكني مع تنوع الأساليب والأشكال الادبية، فالمضمون الجديد يحتاج بالتأكيد شكلاً جديدا يتلاءم معه، والفنان والاديب وهو يواجه مظاهر الحياة عليه أن يتسلح بالقدرة على الكشف الخلاق لنواحي الحياة هذه، وأن يساهم في تغيير نمط حياة الناس ".

غاب الاستاذ والانسان الذي أمضى عمره يحفر في الثقافة  مثل عالِم آثار، وربما لايجود زمان العراق كثيراً باساتذة ومثقفين وطنيين بمنزلة الاستاذ جميل نصيف كاتبا ومترجما ومثقفا تنويريا، لم يكن فيها الاستاذ مجرد مثقف على الهامش،  وإنما كان نموذجا انسانيا يفيض علما ومهنية ومحبة للجميع.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

عبد الأمير المنصوري رجل الدعوة المفترى عليه

كيف سقط أخطر رجال تنظيم الدعوة الاسلامية بيد أخطر رجال مخابرات العراق؟

لم يعرف شيئا عن عبد الأمير المنصوري أحد القادة العسكريين لتنظيم الدعوة الاسلامية، والذي هو ثقة قائد ومفكر الدعوة محمد هادي السبيتي؛ إلا من خلال اللقاء الشهير الذي تم عرضه في تلفزيون بغداد بعد القاء القبض عليه في نهاية عام 1979، فالرجل كان مصدر حيرة وشك من قبل زملائه في تنظيم الدعوة الاسلامية، ولا سيما أبو زينب الخالصي الذي كان لديه شك بوجود صلة بين المنصوري ونظام البعث كونه كان ينتمي سابقاُ للمنظمات الطلابية البعثية، لكن هذه الانتماءات التي كانت للمنصوري هي من تدبير العقل المفكر لتنظيم الدعوة الاسلامية محمد هادي السبيتي، وقد أخبر السبيتي والدي شخصيا في عمان، وأخبر زملائه من رجال الدعوة أثناء اللقاء اليتيم معهم في طهران عام 1980 .

ومن يطلع على الهيئة الشخصية والبدنية للمنصوري سيجد أنها كانت تشبه هيئة البعثيين من حيث شاربه وملابسه، فقد كانت هذه الهيئة عملا متقناً غايته اختراق المؤسسات الأمنية والقيام بالعمليات داخل تلك المؤسسات، وقد كانت من تصميم أبو حسن السبيتي أيضا كما يخبر والدي، وبالفعل وعندما كان المنصوري يزورنا في بيتنا كانت هيئته تشبه هيئة البعثيين في منطقتنا حيث الشوارب المتينة (8 شباط) والملابس التي توحي بأنه رجل أمن.

إن بداية علاقة والدي بعبد الامير المنصوري كانت عن طريق محمد هادي السبيتي وكانت في نهاية عام 1977 كما أظن، إذ وصلت رسالة من السبيتي الذي كان يقيم في الأردن، بضرورة مد يد العون الأمني والعسكري للمنصوري العائد من دولة الكويت، وقد استجاب والدي لدعوة السبيتي، وبالفعل يحصل لقاء مع المنصوري في منطقة قناة الجيش؛ إذ أقام  في منطقة داخل قناة الجيش الموازية لشارع فلسطين، وقد كان يتقن التخفي والاختباء من أجل البقاء بعيداً عن أعين مراقبة السلطة.

لقد كان الملازم جوامير الذي هو أحد مناضلي الحركة الكوردية يوفر السلاح والعتاد لعبد الأمير المنصوري الذي كان يستلمها من خانقين ويوزعها على جماعته في بغداد والمحافظات، وقد كان يزورنا في بيتنا عبر بيت جارنا أبو جعفر الذي يقع بيته خلف بيتنا ومقابل قناة الجيش؛ حيث كان المنصوري بعد اتفاق والدي مع أبو جعفر يقفز من حائط بيته ليلا ليقيم مؤقتا في بيتنا من أجل الاستحمام ولقاء والدي، وبعدها يعود إلى مخبأه السري في قناة الجيش الذي لا يعرف مكانه حتى أقرب معارفه.

لقد كان المنصوري يلتقي مع رجال تنظيمات الدعوة في مدينة الثورة وباقي المناطق الأخرى، وقد كان التواصل مع جماعته يتم من خلال شخص يوزع الحليب عبر دراجة نارية، وكان المنصوري يرسل الينا الحليب مع رسالة لوالدي، وقد كانت أيامنا صعبة جداً بعد القاء القبض عليه وظهوره على شاشة التلفزيون عام 1980 .

ففي إحدى جلسات نادي صلاح الدين العائلي في الكرادة يخبر ضابط المخابرات العميد هوشنك سيد أحمد ضيوفه وكان والدي حاضرا الجلسة عن كيفية القاء القبض على عبد الامير المنصوري مسؤول الجناح العسكري لتنظيم الدعوة الاسلامية الذي يقوده محمد هادي السبيتي (أبو حسن)، وكيف استطاع فاضل البراك أن يميزه من بين المعتقلين بوصفه أخطر شخص، وعلى حد تعبير كاك هوشنك أن أخطر رجل في حزب الدعوة قد سقط بيد أذكى رجل مخابرات في العراق وهو الدكتور فاضل البراك الذي أتقن فنون الاستجواب والتحقيق مع المطلوبين بطرق علمية، وقد كان بعكس أبو حرب (ناظم كزار)، لا يستعمل الطرق العنيفة عند التحقيق مع معارضي النظام، بل يستعمل طرق ناعمة مع أدوات التنويم المغناطيسي التي تعلمها من المخابرات السوفيتية، ومخابرات المانيا الشرقية، والتي أصبحت جزءا مهما من وسائل جهازي الأمن المخابرات في العراق للحصول على المعلومات من الأشخاص الذين هم بحجم المنصوري الذي يصعب على أكبر محقق الحصول على معلومات مهمة منه.

يقول والدي أن كاك هوشنك حدثنا عن كيفية التعرف على عبدالامير المنصوري الذي كان ثقة أبو حسن السبيتي، والذي كما يخبرني والدي كان على علاقة متوترة مع أبو زينب الخالصي، وقد شبه والدي تلك العلاقة المتوترة بالعلاقة بين القائدين الكورديين (علي العسكري)، و(نوشيران مصطفى) حيث الشتائم والاتهامات بالخيانة والعمالة للبعثيين.

يخبرني والدي أن السبيتي أثناء لقائه معه في عمان كان يصف شجاعة وإخلاص عبد الامير المنصوري لجماعته ويشبهها باخلاص علي بن أبي طالب، فهو مقدام، يقتحم مقرات حزب البعث، والأمن، والمخابرات، ومعسكرات الجيش بشجاعة قل نظيرها، وقد كان لا يترك أي أثر على وجوده في العمليات التي يقوم بها، وقد كان الشهيد جوامير يؤمّن له السلاح ويرسلها له إلى خانقين من أجل استلامهما، كما كان يفعل مع أبو زينب الخالصي.

يقول كاك هوشنك سيد أحمد عن كيفية التعرف على عبد الأمير المنصوري في سجن الأمن العامة أن أحد ضباط الأمن الذي كان يعمل في جنوب العراق وأصبح فيما بعد يعمل في مقر مديرية الأمن العامة في بغداد، قد أخبر فاضل البراك أن هذا الشخص قد شاهده في أحد الأيام وهو يدخل مقر الأمن العامة في الناصرية تحت عنوان أنه ضابط مخابرات جاء للسؤال عن متهمين بحزب الدعوة وأنه يريد التحقيق معهم في مقر المخابرات، وهنا اشتغل كما يقول كاك هوشنك العقل الذكي لفاضل البراك، وقد اخبره مباشرة عزيزي عبد الامير المنصوري البصري انتهى الأمر لطفا اعلامي بكل شيء تعرفه عن التنظيم الذي تقوده؟، لكن المنصوري رفض الاستجابة لدعوة البراك مما أضطر أن  يستعمل معه التكنولوجيا والتنويم المغناطيسي التي جعلته يفرغ ما في دماغه للمحققين، وأستطاعت من خلالها انهاء قوة حزب الدعوة بالعراق بشكل كبير جداً، وتعد عملية التحقيق بواسطة التنويم المغناطيسي أول ممارسة لأجهزة الأمن في العراق، وقد كانت من نصيب عبد الأمير المنصوري الذي كان كما يخبرني والدي رجلا شجاعاً، وصاحب خصائل انسانية قل نظيرها، فقد كان يدعم عوائل المعتقلين ماديا بشكل سري من خلال أموال يرسلها له أبو حسن السبيتي بطريقة سرية ويخفيها المنصوري في بيتنا.

لقد كان المنصوري يؤمن بالعقيدة السبيتية التي تتميز بالاستقلال الذاتي لإرادة الدعاة، وعدم خضوع ارادتها للتأثيرات الدولية، ولا سيما تأثير الثورة الاسلامية في ايران، والتركيز على الإجماع الوطني في النشاط الذي يقاوم نظام الحكم في العراق بعد عام 1968 الذي أصبح نظاما استبداديا يرفض التعددية في الحكم.

***

الدكتور كريم الجاف – أكاديمي / العراق

ندرَ أن التقيتُ مثقّفاً عراقياً يحمل بين جنباته صفات النّبل، والنّقاء، والتّواضع، والطّيبة الّتي لمستها في شخص عبد الجبّار الرّفاعي، صفات تضاءلت، مع الأسف، وانحسرت، وكأنّها لم تكن في يوم ما من أخصّ ما يحرص عليه المثقّفون في حياتهم، وفي علاقاتهم بالآخرين. في بداية الأمر خلتُ أنّنا مختلفان الاختلاف كلّه، لاختلاف منابع المعرفة، ومسالكها، وغاياتها، فقد تلقّى الرّفاعي تعليماً دينيّا رفيعاً، ونال درجة عالية في الفكر الإسلامي، وتوسّع في ذلك، إلى درجة انخرط فيها بتطوير منظور جديد لفلسفة الدّين أراد به نزع الغطاء الثّخين الّذي أطبق على الظّاهرة الدّينيّة في القرون المتأخّرة.

أطبق عليها حتّى توارت ملامحها الرحبة، وأمست مصدر فزع لا منبع ألفة، فقد انحبستْ بين دفّتي مدوّنة تجمّعيّة ضخمة يتنفّع بها شيوخ تربّعوا في أروقة معتمة، لا محلّ للهواء والضياء فيها، يقلّبونها ظهراً لبطن، ورأساً على عَقب، في تكرار دائم، كأنّ الزّمن لا معنى له في حسابهم. فلا يهمّهم تداول المعارف حول الظّاهرة الدّينيّة بما ينتهي إلى تطويرها من منظور المؤمنين إليها، بل تقييدها بمنوال تكراري من الشّروح الّتي تخلع عليها الهيبة المخيفة جيلاً إثر جيل حتّى أمستْ كالصُمّ الخوالد لا يَبينُ كلامُها.

وعلى خلاف ما كنتُ عليه من تعليم دنيوي حديث، فللرّفاعي شيوخ معمّرون، أثقلت رؤوسهم العمائم السّود والبيض، وأطالوا المقام في الظّلال، وتلقّف عنهم أصول الفقه، وعلم الكلام، والعقائد، فضلاً عمّا كان يتلقّاه طلبة علوم الدّين عن شيوخهم من دروس المنطق الصّوري، والنّحو القديم، والبلاغة المدرسيّة، بوصفها من الوسائل الضروريّة لمقاربة العلوم الدّينيّة، كما انحدر إليهم ذلك من شِعاب الماضي، فالمرجّح أن يكون قد أوغل في كلّ ذلك حتّى حاز درجة الدكتوراه فيه، وأحسب أنّه تآلف مع تلك الأجواء بفعل المعاشرة، ودوام التعلّم، والتّعليم، والمدارسة، مدّة طويلة، قبل أن ينأى بنفسه عن ذلك.

أنا، من ناحيتي، كنت شديد النّفور من تلك التّركة الّتي تخمّرت كتلتها في الأروقة المعتمة، وأرى في الدّين نفحة حرّة يتنفّسها المرء في الهواء الطلق، وإذ أُقبل على مناقشة مفكّري الأديان، فإنني أتحاشى الحوار مع رجال الدّين أنفسهم، فأحسب أنّهم في واد، وأنا في واد آخر، فالمنظورات مختلفة، والرؤى متباينة، أما الوسائل المنهجية فمتنافرة، وحتى طرق تحصيل المعارف متفاوتة، فتقطّعت السّبل بيننا؛ فلا أرضية مشتركة تجمعنا، ونجهل قواعد الحوار المتبادل، وكلّ طرف يصِم الآخر بالجهل، أو في أقلّه بضآلة التدبير؛ ذلك أنني تلقّيت تعليماً دنيويّاً لا صلة له بعلوم الدّين المذكورة، إلّا ما نفذ إليّ منها جرّاء اهتمامي بدراسة الثّقافة العربيّة الإسلاميّة، فقد غصتُ في المنطقة الأدبيّة حتّى ما عدت أعرف سواها إلّا في وقت متأخّر. ولم أحضر، على الإطلاق، درساً دينيّاً بالمعنى المباشر لتلك الدّروس، لا في جامعة ولا في جامع، ما خلا بعض الدّروس التّعريفيّة عن الحضارة الإسلاميّة، كانت مقرّرة على طلّاب الآداب العربيّة في الجامعات العراقيّة في سبعينيات القرن العشرين.

وبقي الأمر على تلك الحال إلى أن حصلت على درجة الدّكتوراه، فزادي الأدب ومناهجه وأجناسه، وبعد أن فرغت من ذلك تنبّهت إلى أهمّيّة التّجربة الدّينيّة، وشرعت في الغوص في سياقاتها الثّقافيّة والتّاريخيّة، وانهمكت في قراءة ما كتبه عنها المفكّرون العرب وسواهم، وإلى ذلك فقد شُغلت بتأويلها تأويلاً دنيويّاً، إذ كانت موضوعاً للبحث أكثر منها موضوعاً للاعتقاد، وانتهيت بنقد المسلّمات الشائعة حولها من منظور ثقافي دنيوي، بما في ذلك نقد مفهوم مركزيّة “دار الإسلام”، والصّورة النّمطيّة للعالم خارج تلك الدّار طوال القرون الوسطى، كما تجلّى ذلك في كتابيَّ “المركزيّة الإسلاميّة”، و”عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين”. أو دراساتي عن العلاقة الشائكة بين الإسلام والسرد، ومع ذلك، فقد فهي محلّ تقدير بصرف النّظر عن تحليلها.

أردت بذلك الاستطراد توضيح أسباب التّباين الافتراضي بين الرّفاعي وبيني، قبل اللّقاء والتّعارف، والحال، فلا يمكن إنكار العزوف المتبادل بين رجال الدّين ورجال الدّنيا، أي بين المنخرطين بالعلوم الدّينيّة والمنخرطين بالعلوم الدّنيويّة. وهو عزوف راسخ الجذر في الثّقافة العربيّة الإسلاميّة الحديثة والقديمة، ونتج عنه سوء فهم متبادل في دائرتيْن مهمّتيْن من دوائرها، ويتحمّل وزره الطّرفان سواء بسواء. وأنا ممّن توهّم، بتأثير من ذلك، أنّ من المتعذّر أن نتخطّى الهوّة الفاصلة بين الدّين والدّنيا كما ارتسمت ملامحها في حياتنا، وثقافتنا، وعلاقاتنا. لكنّ الرّفاعي بادر إلى ردم الهوّة المتخيّلة بسهولة بالغة، حينما كشف لي عن شخصيّة هادئة، ومتّزنة، ومرنة، ومستوعبة، وخالية من الأحكام القبليّة الجاهزة، شخصيّة أبعد ما تكون عن الخلافات المنطقيّة والدّينيّة والعرقيّة، فأسفر لي عن قدرة إنسانيّة عجيبة على الدّأب في السّؤال عن أصدقائه، وتفقّد أحوالهم، وتوثيق الصّلة بهم، والاطّلاع على مؤلّفاتهم، وإقامة الحوارات المعمّقة معهم، من جانب، والانكباب على تجديد الفكر الدّيني الّذي خاض فيه طولا وعرضاً، من جانب آخر. وهما وجهان لا ينفصلان في شخصيّة الرّفاعي، وفي أفكاره، وفي سلوكه العام. فعلاوة على صِلاته الوثيقة بالمفكّرين والمثقّفين من دينيّين ودنيويّين، كانت مجلّته “قضايا إسلاميّة معاصرة” خير سفير لثقافة التّسامح والتّفاهم بين الأديان والمذاهب. وأثمرت جهوده عن تأسيس “مركز دراسات فلسفة الدّين”، وهو من أكثر المواظبين الّذين عرفتهم على النّهل من العلوم الإنسانيّة، وشغله الشّاغل إسباغ نِعَم الدّين على الدّنيا، وتغذيته بمكاسبها. أي إنّه يريد أن يغمر الدّنيا بفيض الدّين، ويغمر الدّين بفيض الدّنيا، وهو رهان شاقّ بحقّ وحقيق.

قلب الرّفاعي الصّورة الشّائعة عن رجل الدّين المنكبّ على المتون العتيقة شرحاً، وتعليقاً، وتفسيراً، وتصنيفاً، وغاية ما يرجوه اختصار شرح، أو الإسهاب في آخر، وأحلّ بمكانها صورة أخرى مغايرة، أحسب أنّها الصّحيحة الّتي ورثها من الأسلاف العظام الّذين عالجوا الظّاهرة الدّينيّة بعدّة دنيويّة متماسكة، دون أن تتقطّع صلتهم بها، وما برحت أفكارهم محلّ تقدير ونفع، وذلك مرمى بعيد المنال لغير المتبصّرين بشؤون الدّين والدّنيا، فغاية ما يرجوه المرء من المعرفة، أيّاً كان شكلها، هو انتفاع النّاس بها في حلّهم وترحالهم عبر الأزمان دون إرغام وإلزام، ومن غير قَسْر وقَهْر.

ولا يضيرني الاعتراف بأنّ الرّفاعي هو صاحب الفضل في مدّ حبال الوصل بيننا، على المستويَيْن الشّخصي والفكري، وتوثيق تلك الصّلة وقتما خلتُ ضعفها، جرّاء الابتعاد والانشغال بالبحث والسّفر، وذلك إقرار بحفظ الجميل لأهله، والرّفاعي من أهله. في أوّل الأمر بدأ الرّفاعي بمراسلتي، وأنا في جامعة قطر، وما لبث أن طلب إليّ الكتابة لمجلّته الرّصينة، وفي أحد أعدادها ظهر لي أوّل بحث، جعلتُ عنوانه “المجتمعات التّقليدية في عالم متغيّر”، وفيه نقد صريح لحال المجتمعات الإسلاميّة التّقليديّة، ومناهضتها لمعالم الحداثة، وتأثيم أفرادها، وهو ما دفعني إلى الاصطلاح عليها بـ”المجتمعات التّأثيميّة”، الّتي لا شاغل لها إلّا كبح جماح أفرادها عن الإتيان بالجديد، الّذي تعدّه ضرباً من بدع الدّنيا الفانية، وتأثيمهم على ما يرومونه من تغيير وتجديد، ليس في أمر فهم الدّين واستيعابه، فحسب، بل حتّى في شؤون الدّنيا الّتي يعيشونها.

كانت تلك الخطوة الأولى في عمر علاقة ثمينة وطويلة، ثم بادر الرّفاعي إلى إجراء حوار مطوّل معي، ظهر في مجلّته، شتاء عام 2003. ومحوره “المركزيّات الثّقافية” الّتي شُغلتُ بها طويلاً، وكتبتُ فيها مؤلّفاتي “المركزيّة الغربيّة”، و”المركزيّة الإسلاميّة”، و”الثّقافة العربيّة والمرجعيّات المستعارة”، و”عالم القرون الوسطى في أعين المسلمين”، ومعظم الموادّ الأوّليّة لتلك الكتب انصهرت في مشروع، وضعتُ مخطّطه العامّ في نهاية ثمانينيّات القرن العشرين، واقترحتُ له عنوان “المطابقة والاختلاف”، وواظبتُ عليه، حتّى ظهر بصيغته النّهائيّة في عام 2018 بثلاثة أجزاء كبيرة. وقد انتهى ذلك البحث عن “المجتمعات التّأثيميّة”، الّذي نشره الرّفاعي في مجلّته، جزءاً من مقدّمة المشروع في طبعته الوافية.

يعلم الباحثون أنّه ليس لهم أفضل من المجلّات الرّصينة الّتي لا تُرمى بعد صدورها، بل يحتفظ بها مصادر أساسيّة لا تشيخ بمرور الزّمن، وهي، بالإجمال، قليلة العدد، ومنها مجلّة “قضايا إسلاميّة معاصرة” الّتي سكنها طموح للتّوسّع في معالجة اتّجاهات الفكر الدّيني، واستيعاب أعمال المشتغلين فيه. ولطالما داعب ذلك خيالي باحثاً، فداومتُ على الاستجابة لما يطلبه الرّفاعي، وتوالت إسهاماتي في المجلّة بدراسات مطوّلة، منها البحث الافتتاحي لأحد أعدادها، وكان بعنوان “حيرة المجتمعات الإسلاميّة: في القول بأنّ التسامح ليس منّة أو هبة”. ومنذ طرقتُ باب التّسامح في ذلك الوقت، جعلته بيتي، فالتّسامح قرين الصَّفح، وبدونهما لا تتحقّق الشّراكة في حياة الأفراد والجماعات.

ثمّ ما لبث أن اقترح الرّفاعي دعوتي متحدّثاً في “مركز حوار الحضارات” بطهران، الّذي كان يرأسه عطاء الله مهاجراني، وزير الثّقافة في عهد الرئيس الإيراني المستنير محمد خاتمي، وكان الرّفاعي، آنذاك، من سكنة قُم، فلبّيْتُ الدّعوة. وكانت تلك زيارتي الأولى لإيران، وألقيت محاضرة بعنوان “نقد التّمركزات الثّقافيّة في العالم المعاصر” بيّنت فيها مخاطر الانكفاء على المعتقدات الدّينيّة والأيديولوجيّة، وجعلت التّنازع في ما بينها من أسباب غياب السّلم الأهلي، بما في ذلك تسميم العلاقات بين الشّعوب والدّول، وكان الرّفاعي أوّل الحاضرين، فالتقينا وجهاً لوجه أوّل مرة، وعلى إثرها اصطحبني إلى منزله في قُم، فطفتُ في أرجاء المدينة العتيقة، وجمعني بأساتذة الفلسفة في إحدى جامعاتها، ودعاني إلى بيته، وعجبتُ من مكتبته الكبيرة الّتي تحتلّ قبوا أسفل الدّار، جعله مكاناً لاستقبال ضيوفه. ثم جاءت زيارتي الثّانية لإيران عشيّة الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، كانت الأجواء متوتّرة، فقد خيّم شبح الحرب على المنطقة العربيّة، ولا يمكن لأحد أن ينكر بأنّ غزو بلاد الرّافدين قائم لا محالة، وسرعان ما وقع.

وخلال تينك الزّيارتيْن لازمني الرّفاعي ملازمة الشّقيق لشقيقه، وله الفضل في كشف خارطة الفكر الإيراني الحديث أمامي، فلم يقتصر دوره على مدّ العلاقة مع نخبة من مفكّري إيران الفاعلين في الحياة الثّقافيّة والأكاديميّة، بل ترجم أعمالهم إلى العربيّة، وجعل من مجلّته المكان الأنسب للاطّلاع على أفكار جديدة في غاية الأهمّيّة، ومعظمها غير مطروق في الثّقافة العربيّة. وأيّاً كانت الأسباب، فمجلّة “قضايا إسلاميّة معاصرة” فتحتْ عيون المفكّرين العرب على ما كان يقوم به نظراؤهم في بلاد فارس. ثمّ التقينا في مكّة عام 2005، حينما اختيرت عاصمة للثّقافة الإسلاميّة، وتصادف ذلك الحدث مع موسم الحجّ في ذلك العام، ومكثنا معاً نحو أسبوعين، وهو الّذي درّبني على طقوس الحجّ الّتي كنت أجهلها، من الإحرام حتّى التحلّل، وكأنه بذلك أدخلني في حومة الرحمن، ثم دعوتُه إلى الدّوحة في عام 2007 للمشاركة في ندوة أشرفتُ عليها، كانت بعنوان: “الثّقافة والتّحوّلات المجتمعيّة”، حينما كنت خبيراً في وزارة الثّقافة القطريّة، فقدّم بحثاً معمّقاً بعنوان “قيم التّسامح، وقيم الكراهيّة”. تلك القيم التي نافح عنها طوال حياته.

بعد ذلك كلّه توثّقت صلتنا، حتّى ما عادت تفصل بيننا أيّ فواصل نفسيّة أو ثقافيّة، وساعد في ذلك تطوّر أجهزة الاتّصال الحديثة الّتي تغذّي تواصلنا باستمرار. وتعبيراً عن ذلك النّبل المتدفّق، فاجأني الرّفاعي بزيارته لي في بيتي بالعراق، صيف عام 2010، وكان قد عاد إلى البلاد، وسكن بغداد، وقطع الطّريق الوعر بين العاصمة وكركوك في ظروف غير آمنة، يعرفها العراقيّون جيّداً في تلك الحقبة المظلمة، إذ ثمّة منطقة شبه خالية بين المدينتيْن، يزيد طولها على 100 ميل، لا يتوفّر فيها شيء من الأمن آنذاك، ومع ذلك قصد الصّديق صديقه، متحمّلاً أعباء الخطر، والمشقّة، وحرارة الصّيف. وخلال العقد الّذي تبع ذلك داومنا على اللّقاء في غير مكان، وأحسب أنّني لم أزُر العراق إلّا والتقيتُه، حتّى ما عدتُ إخال وجودي في بغداد بدون الرّفاعي. ما الّذي أدام وقود الألفة بيننا طوال تلك المدّة؟ في ما يأتي أدوّن جوابي باختصار: يتلازم في شخصيّة الرّفاعي أمران لافتان للنّظر: دفء إنساني خصب، وثقافة موسّعة متفتّحة. فلا غرابة أن يتغلغل حضوره في ثنايا النّفس والعقل معاً، وهو بارع في إدارة الحوارات المثمرة، وقد جعل من مجلّته ميداناً لكبار المفكّرين العرب والإيرانيّين، وعلى صفحاتها قالوا قولتهم بشأن تأويل الظّاهرة الدّينيّة من منظورات متعدّدة أثّرت تلك الظّاهرة بفتحها في شؤون الدّنيا.

ولعلّ الرّفاعي المفكّر الدّيني الوحيد الّذي أشرع النّوافذ لتلاقح العرفان الفارسي بالثّقافة العربيّة، حينما ترجم نصوصاً تأسيسيّة إلى لغة الضّاد، ولم أعرف غير مجلّته مكاناً لذلك التّفاعل بينهما، ومع أنّ ثمار تلك المثاقفة لم تُقطف بعدُ، فأعوّل على نضجها مستقبلاً في ضوء تنامي الدّراسات التّأويليّة للنّصوص الدّينيّة والدّنيويّة في إيران والعالم العربي. وإلى كلّ ما ذُكر، فإنّ الرفاعي مبشّر صريح، لا يكلّ ولا يملّ، بثقافة التّسامح، ونبذ الكراهيّات المذهبيّة، والدّينيّة، والعرقيّة، وكلّ ضروب التّحيّزات المغلقة الّتي تحبس أهلها عن مجريات الدّنيا، وبذل جهده في تحديث الفكر الدّيني من داخل المنظومة الدّينيّة نفسها بالمشاركة في إحياء النّزعة الإنسانية في الدّين، فقد رأى أنّ رسالة الدّين تهدف إلى “إشاعة السّلم، والتّراحم، والمحبّة بين النّاس، والسّعي إلى تجفيف منابع العنف، والعدوانيّة، والتّعصّب”.

ومع إصراره على المضيّ في ذلك الدّرب غير الممهّد، وفيه كثير من العثرات، وحتّى المخاطر، فقد خلص الرّفاعي إلى أنّ مضمون تلك الرّسالة الدّينيّة قد نُقض “بنشوء جماعات وفرق، لا تقتصر على إعلان انتمائها للدّين، إنّما تصرّ على احتكار تمثيله، وتحرص على مخاصمة أيّ جماعة غيرها تقدّم فهما مختلفاً للدين”، وما دام الأمر على تلك الصّورة المتصلّبة، فلا سبيل إلّا بـ”إنقاذ النّزعة الإنسانيّة في الدّين، بالإعلان عن أبعاده المعنويّة، والعقلانيّة، والجماليّة، والرّمزيّة”. ولو تحقّق ذلك الفهم للظّاهرة الدّينيّة على أرض الواقع لتغيّرت علاقة النّاس بربّهم وبأنفسهم، فما يهدف إليه الفكر الأصيل، ليس نقد إله النّاس بذاته، بل نقد تصوّراتهم الضّيّقة عنه، فذلك هو الدّرس الأوّل في تحليل الفكر الدّيني كما ورثه المفكّرون المحدثون عن أسلافهم القدماء، وهو ما يطمح إليه الفكر المستنير، الّذي من أولى غاياته إزالة الحُجُب عن عيون المؤمنين بالله، ليتجلّى في عقولهم ونفوسهم وخيالهم ربّاً واسع الرحمة، فيكونون هم من عبّاده لا من عبيده.

ومن نافلة القول بأنّ الرّفاعي في توسّعه لمعالجة الظّاهرة الدّينيّة، قد طرق باب الكرامة الإنسانيّة في الدّين، وعالج تلك القضيّة الشّائكة بمهارة، وجعلها محوراً من محاور أفكاره، وذلك حينما أثار سؤالاً جوهريّاً يحتاج إليه كلّ مؤمن: هل يعزّز الدّين كرامة الإنسان، ويثريها، ويُعلي من مقامها؟ أم أنّه يجرّده منها لصالح معتقد سماوي، فيسلب من المرء ذاته الفرديّة، وكرامته الدّنيويّة؟ وقدّم جواباً وافياً عن ذلك السؤال المركّب بكتابه الجريء “الدّين والكرامة الإنسانيّة”، وهو كتاب، وإن بدا للقارئ سلساً في أسلوبه، ورقيقاً في عباراته، فهو عميق المغزى، وقويّ المبنى، ومتين الحجّة، ويغري القارئ بالخوض في موضوعه الشّائق لمعرفة الحدّ الفاصل بين كرامة ثريّة يسبغُها الدّين على المؤمن، وكرامة ضحلة يخلعها التّديّن عليه.

ويلزم ذلك تعليقاً منّي على الموضوع: فالإيمان ضربٌ من الفهم العميق لرسالة سماويّة، غايتها تغيير أحوال النّاس في الدّنيا صوب الأفضل، فيكون إيجابيّاً بمقدار ممارسة الإنسان للدّين بكرامة تصون هويّته، ويكون سلبيّاً إذا أُرغم عليه، وامتثل لتفسير ضيّق الأفق له، وفرّط بهويّته الدّنيويّة بإغراءات وهميّة، فالدّين الحقّ لا يقترح تبعيّة عمياء لإله غامض، وهو لا يرى في المؤمنين قطيعاً من الأتباع، بل يشترط فهما لمضمون رسالته، وانفتاحاً على السّياق التّاريخي للأديان السّماويّة، ولا قيمة لرسالة دينيّة لا تجعل من كرامة الإنسان رهانها الأوّل والأخير.

أحسبُ أنّ الرّفاعي قد وضع إصبعه على المعنى العميق للدّين، حيث تتمازج فيه أطياف الرّوح والعقل، في تناغم ورعٍ يجعل النّفس مطمئنّة، وآمنة، غير أنّها يقظة، وحيويّة. وكتاب الرّفاعي لا يُحابي التّركة الفقهيّة واللّاهوتيّة والكلاميّة، بل يحرّر المؤمنين من عبئها الثّقيل جدًّاً، ويخفّفهم من أحمالها الخشنة، وغايته الصّدق، والاستقامة، فالكرامة الإنسانيّة ليست موضوع محاباة، ولا ينبغي أن تكون كذلك، أيّاً كانت الذرائع. وهي تتقوّى حينما يكون الدّين داعماً لها، ومعزّزاً لقيَمها الجليلة، ونابذاً للعنف والفرقة. وكأنّي به في كتابه عن الدّين والكرامة الإنسانيّة ينطق بلسان أبي بكر الرّازي الّذي حذّر من العنف الدّيني، ومن الفرقة الّتي تؤدّي إلى الفتنة بين أهل الدّين نفسه، ودعا إلى الرّحمة، والعفو، والتّسامح، بقوله: “بحكمة الحكيم، ورحمة الرّحيم، أن يُلهم عباده أجمعين معرفةَ منافعهم ومضارّهم في عاجلهم وآجلهم، ولا يفضِّل بعضهم على بعض، فلا يكون بينهم تنازع، ولا اختلاف، فيهلكوا، وذلك أحوط لهم من أن يجعل بعضهم أئمّة لبعض، فتصدّق كلُ فرقة إمامها، وتكذّب غيره، ويضرب بعضهم وجوه بعض بالسّيف، ويعم البلاء”.

ومن أسف أن ذلك التّحذير لم يكبح غلواء التطرّف في كثير من الأديان والمذاهب، وما برحت الجماعات المؤمنة تضرب وجوه بعضها بالسّيوف القواطع، وقد عمّ البلاء في غير مكان، فموقد العنف مملوء بالحطب الجافّ، وهو في انتظار أيّ شرارة ليلتهب. وكما قيل: من الشّرارة يندلع اللّهب. العنف، ذلك الوباء الّذي يستوطن النّفوس، ويحيلها خراباً، ولطالما أكّدت في غير مكان بأنه يلزم مقاومته بالوسائل كافّة، ومنها نزع الشّرعيّة الدّينيّة عنه، ومن أسف أنّه يتربّع في قلب الثّقافات الإنسانيّة، والعقائد الدّينيّة، ولا تكاد تبرأ منه ثقافة، ولا يخلو منه معتقد. ويتجلّى في ممارسة القوّة، بشتّى ضروبها، ضدّ الآخرين، بذرائع شخصيّة، أو وطنيّة، أو قوميّة، أو دينيّة، حتّى يكاد يكون شرطاً إنسانيّاً ملازماً للنّوع الإنساني، وإلى ذلك يلاقي العنف الدّيني قبولاً عامّاً في سائر المجتمعات البشريّة ومنعطفاتها الحاسمة للتّاريخ، فبه تستفرغ المجتمعات رغباتها الدّفينة عن الآمال المؤجّلة أو الرّغبات المكبوتة. وينبغي أن ينتدب المفكّرون أنفسهم لمقاومة ذلك المدّ الخطير للعنف، الّذي يتجدّد بين عصر وآخر. وتنمية الحسّ بالكرامة الإنسانية ينشّط القوّة الفرديّة في تحاشي اللّجوء إليه. وقد ارتاد الرّفاعي مجاهيل تلك الآفة بالتّحذير الصّريح منها.

لا أغالط نفسي إذ أعترف بأنّني مكثتُ طويلاً في منطقة الدّنيا، وألفتها، وجعلتها موضوعاً لأفكاري، وكتبي، وعلاقاتي، ولكنّني حالما ألتقي الرّفاعي أو أقرأ له، ولأمثاله من المفكّرين المستنيرين في شؤون الدّين والدّنيا، حتّى تتبيّن لي منطقة الدّين، مفعمة بالحياة الهادئة، وغير منقطعة عمّا تهفو النّفس إليه، منطقة يمكن إعادة اكتشافها بعيداً عن النّسخة التّفسيريّة القهريّة المعتمة، والّتي أحالت الدّين إلى جملة من الأحكام الصّارمة الّتي تشهر سيوف القتل، وترفع رماح الفتك، وتدفن الرّحمة والطّمأنينة تحت وابل من الارتياب في كلّ شيء، نسخة جعلت من الدّين ضرباً من النّواهي والزواجر، فلا يباح فيها إلّا أقلّ ما يحتاج إليه الإنسان في دنياه منذ ولادته حتّى موته، فحياته مؤجّلة إلى زمن آخر.

***

الدكتور عبدالله ابراهيم،

مفكر عراقي، الحاصل على الجوائز التالية:

1. جائزة عبد الحميد شومان للعلوم الإنسانية عام 1997.

2. جائزة الشيخ زايد للكتاب في فرع الفنون والدراسات النقدية عام 2013، وذلك عن كتابه (التخيّل التاريخي: السرد، والإمبراطوريّة، والتجربة الاستعماريّة).

3. جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب في مجال الدراسات النقدية عام 2014، وذلك تقديرا لبحوثه المعمّقة في تحليل الرواية العربية.

4. جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية (جائزة الدراسات الأدبية والنقد) الدورة الثامنة عشرة (2022 ـ 2023).

حملتُ شـراعَ الموتِ في صمتِ آلامي

وأَرضعتُ من ثدي التباريـحِ أَعوامـي

*

حملتُ دمـوعَ الأَرضِ في جفنِ لوعتي

وخضَّبتُ في جـرحِ الملايينِ أنغامي

*

انا القمح والنخل العراقي انحني، يبوسا

واهوى جانب الشاطئ، الطامي

*

انا القرية الخضراء قحط أذلني

فاطفات فانوسي وأخفيت إكرامي

*

تعال وخذ يا جوع قمحك من دمي

ودعني أمت وحدي على رمح ألامي

*

وخل عراق الحزن يبتل رمله

وتبتل باليوم المذهب، أحلامي

*

انا المغرم الهيمان، شعبي حبيتي

وأنفاسه لحني وعيناه إلهامي

(مقتطفات من قصيدة قافلة الأحزن)

***

الشاعرٌ العراقيٌ عبد الإله الياسري وُلِد في في قرية (طُبَر سيـد نور) في ناحية المشخاب التابعة لمحافظة النجف الشريفِ، تلك المدينة المقدسة بيت الشهداء الإبرار والتي ارفدوا الحركة الأدبية في العراق بعشرات من الأدباء والعلماء والشعراء والسياسيين العظام .

ولد شاعرنا في هذه الربوع المقدسة عام 1950 وانهى دراسته الابتدائية، المتوسطة و الإعدادية فيها وتركها للدراسة الجامعية في كلية الآداب بجامعة بغداد وتخرج عام 1972  وبعد أدائه الخدمة العسكرية الإلزامية عمل عدد من السنين في سلك التدريس منتقلا بين قرى ريف الجنوب قبل ان يترك قلبه في ذلك الوطن الجريح مرغما ويهاجر. ذلك بعد أن قررت سلطة الحزب الحاكم تبعيث المؤسسة التعليمية في العراق. فاضطر مكرهاً إلى ترك الوطن في صيف 1979 وتوجة الى أقصى شمال افريقا  الى المغرب العربي وحل فيها قرابة عقد من الزمان.

لم يتمكن الشاعر قط من مدح الظالم او حتى السير بخطى افكار نظام قومي سلبي دكتاتوري. اما في المملكة المغربية  فقد عمل خلال عقدا من السنين ونيف في تدريس اللغة العربية  وتزوج فيها. مرة اخرى اضطر لشد الرحال هذه المرة بعيدا وما وراء البحار الى كندا ولم يكن وحيدا بل مع عائلته وأبناءه الثلاث.  لينتقل الى منفاه الطوعي ليطلب الجوء من اجل كرامة الإنسان وذلك عام 1989. استمر في كندا في نشاطه الادبي وشارك في الحياة الثقافية فيها.

ألتقي به اليوم وهو القليل الحديث عن نفسه وعن إعماله الى درجة الانزواء والتصوف. التقيت به في أمسية أندلسية جمعتنا عند صديقنا المشترك " ابوعلي" الأعزاء ونحن نجلس حول طاولة كبيرة مع وجبه عشاء شهية من المطبخ العراقي وحوار شيق في الأدب واللغة العربية ومفرداتها الأعجازية الجميلة والتي وصلتنا عبر دهر من الزمن من خلال نصوص الذكر الحكيم وصولا الى ما أبدعه القريحة الشعرية لشعراء العراق والنجف بصورة خاصة. حيث علاقاته الشخصية المتعددة مع العديد بمحي بلاد الرافدين.

كتاباته في الشعر العمودي والشعر الحر وتفتيته للعديد من الأفكار المطلقة والسلبية السائدة في المجتمع العراقي ونظرته الى الانفتاح خاصة فيما يخص بدور المرأة في المجتمعات الشرقية وتمكنه من اللغة العربية كان دافعا وحافزا له وهو على مقاعد الدراسة في جامعة بغداد الى اقتراض الشعر فأبدع أي إبداع.

* حدثنا عن اول مهرجان شعري شارك فيه وبحضور الوزير العراقي الأديب صالح مهدي عماش في عام ١٩٧١ ومدى إعجاب الوزير بشعره في حين كان يضرب بكلماته بمطرقة حديدية أسس الفكرية لبناء عنصر الشر القومي السلبي في جميع الأنظمة السياسية.

يقول الشاعر:

تعود ذاكرتي بظروف كتابة هذه القصيدة إلى مقالة نشر عام 1971 في "جريدة  الثورة" الناطقة باسم حزب البعث الحاكم الذي كان قد أطاح بحكم المرحوم عبد الرحمن عارف في انقلاب عسكري اسماه ب (الثورة البيضاء) وذلك قبل ثلاث سنوات من ذلك التاريخ وبات الحزب القوة الوحيدة والمطلقة في حكم العراق. عنوان المقالة كانت "الشعر يحتضر في كلية الآداب بجامعة بغداد" الكلية العريقة والتي كانت تسمى سابقا دار المعلمين العالية  الذي  تخرج منه خيرة شعراء العراق أمثال بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي و لميعة عباس عمارة ودرست فيها الشاعرة المبدعة  نازك الملائكة بعد تخرجها من " جامعة ويسكونسن" الأمريكية:

( University of Wisconsin–Madison)

وحصولها على الماجستير في الأدب المقارن وآخرون من خيرة أدباء العراق وشعراءه .

اعتبر كاتب المقالة بان القصيدة موجه بصورة خاصة ضد (الاتحاد الوطني لطلبة العراق) الفرع الطلابي التابع لحزب البعث الحاكم.

يروي الشاعر مستمرا في حديثة:

انه في الحقيقة بانه قبل الأمسية الشعرية في الجامعة وصلتني دعوة للمشاركة في هذا المهرجان الشعري لكني طلبت ان لا يشترطوا علي بأي شرط او تقيد، لقبول المشاركة في الأمسية، وكان لي ذلك.

كان الرئيس العراقي احمد حسن البكر قد دعي لحضور هذه الأمسية ولكنه أناب عنه الوزير الأديب صالح مهدي العماش لحضور الأمسية. صفق الوزير طويلا مشجعا عند سماعه القصيدة.

كنت اضن انه من باب الدبلوماسية يصفق.

كانت القصيدة  تترجم الظروف الصعبة التي كانت سائدة في العراق في تلك الأيام .

اما عميد الكلية الأستاذ محمود غناوي فكان متجهما وصعد خشبة المسرح مباشرة بعد انتهائي من تلاوة القصيدة ليقرر في كلمة مقتضبة ويصدر حكمه علي قائلا:

- بان الشاعر واهم ومغرر به مضيفا، بان العراق يعيش في ضل الثورة بخير وازدهار وسعادة.

اما الوزير الاديب فقال:

- قصيدة دون اي إساءة.

تلك الامسية التاريخية كانت شرارة أوقدت في نفسي رفض الظلم والبقاء صادقا لأفكاري رافضا التنازل للفكر القومي السلبي وأساليبه الإجرامية. طوبى لشعب ما برح غايته النضال  من " اجل كرامة الإنسان".

***

تقديم: د. توفيق رفيق التونجي ، الاندلس ، 2023

 

لست أدري أين قرأت قول أحد خلفاء بني أميّ ولعله معاوية اِبن أبي سفيان ـ ما شيّبني إلا اِنتظار المواعيد ـ فغفر الله لكل الذين بقيت أنتظرهم في مناسبات عديدة وعندما يصلون متأخرين يجدون كلّ الأعذار فأبقى متحسّرا على هدر وقتي فمن النادر جدّا الالتزام بالمواعيد لدينا معشر التونسيين إلا بعض اِستثناءات نادرة تشفي غليلي وآخرها ما كان مع الصّديق الأديب مصطفى يحي الذي وصل إلى الموعد قبل ساعة أو أكثر وذلك بمناسبة الاِحتفاء به في نادي الأدب بجمعية اِبن عرفة الذي تديره الأديبة سُونيا عبد اللطيف وأظنه تفاجأ عندما وجدني في اِنتظاره لعله اِعتاد مثلي الاِنتظار في المواعيد

باسمًا طَلقَ المُحيّا يصعد المدارج نشيطًا أنيقَا في كسوته الرّمادية فتراه ممشوقًا كرُمح كأنه في العشرين وهو في عقد التاسع فما شاء الله تبارك الله ومتّعه بالصّحة والعافية صديقي القادم في تلك القيلولة من مدينة قابس على مسافة أربع مائة كيلومتر من العاصمة تونس

الأديب مصطفى يحي بدأ الكتابة الأدبية بعد أن تجاوز الستين عاما وهذه مسألة مهمّة للغاية لأنه يؤكد أن الولوج إلى عالم الأدب لا يمكن أن نحدّه بسنّ معيّنة فهو متاح لكل من يروم معانقة الحرف والكلمة أما المسألة الثانية التي نعتبرها من صديقنا أبي جمال فإنها تؤكد أيضا أنّ الشهادة العلمية ليست ضرورية ولا كافية أيضا ولا شافعة كذلك لكسب صفة الأديب ذلك أن مصطفى يحي لم ينل حظه من التحصيل المدرسي إلا سنوات قليلة من التعليم الاِبتدائي وسبقه الجلوس إلى المؤدّب في الكتّاب ولكنه ثابر على التحصيل والمطالعة بعدهما فقد تمكّن من قواعد اللغة العربية والفرنسية عن كثب وحذق أسرارهما فكتب الشّعر والقصة بفصاحة الجاحظ وفُولتير معا لذلك فقد حلّق في سماء الأدب بجناحين معًا وقد زادته تجربته الطويلة والمتنوعة في الحياة من الاِستفادة من معاناته في الحياة فهو من مواليد سنة 1935 بقابس التي تجمع بين الواحة والبحر والصحراء وقد عمل سنوات في سلك الأمن الوطني إبّان السنوات الأولى من الاِستقلال وكان من المتطوعين في حرب بنزرت سنة 1961 ثم هاجر إلى فرنسا وعاش هناك سنوات طويلة متقلّبا في أطوار مختلفة فكل هذه المراحل أفادته في مواضيع كتبه باِعتبارها منهلا لا ينضب وقد أوجزت الأديبة سُونيا عبد اللطيف مسيرته في هذه الفقرة قائلة عند تقديمه :

أوّل كتاب له هو “ذكريات من المستقبل” سنة 2001 وهو مجموعة شعري) مزدوجة بين العربية والفرنسي، عبّر فيها عن اِنبهاره بمدينة الأنوار باريس.. وحنينه للوطن

المجموعة الشعرية الثانية “شظايا” 2007 بالعربية رثا في قصائده مآسي الأمة العربية…

في سنة 2008 فاجأ ابو جمال الساحة الثقافية بإصداره للجزء الأول من سيرته الروائية بالفرنسية passent les jours.. وتحدث فيه عن حرب بنزرت والمجزرة التي حصلت.. ولم يكشفها التاريخ..

و ـ الأمل لا يموت ـ هو عنوان مجموعته الشعرية الثالثة سنة 2009 وهي قصائد مزدوجة بين اللغتين..

في سنة 2013 أصدر روايته “لظى بنزرت” التي هي ترجمة للجزء الأوّل من من سيرته الذاتية passent les jourS فيها فضح المستور وعرّى المطمور..

في سنة 2015 أصدر مجموعته القصصية الأولى “أخشى النسيان” وهي مزيج بين الواقع والخيال، ومن خلالها نلاحظ فيها اِسترجاعا للذكريات واِستحضارها وكأنه يعيش على حنينها… وكأنه يتعجّل تدوينها خشية التلف والضياع…

ونشطت الذاكرة بعد الاضطراب فأتت المجموعة القصصية الثانية ـ قطوف الخريف ـ سنة 2018 وهي مزيج بين الماضي والحاضر.. وكان الأهداء فيها لروح زوجته التي فارقته..

وخريف أبو جمال ليس ذلك العراء وذلك الذبول بل هو بداية موسم جديد.. بداية دورة الحياة…

وكانت المجموعة القصصية الثالثة “حين يزهر الخريف ” وهو الكتاب التاسع في حصيلته..

(خريف أبو جمال خصب ومازالت أشجاره تزهر …

والأديب مصطفى يجي أبو جمال متيّم بمدينته قابس الفيحاء وعاشق لواحتها التي قضّى فيها طفولته وتمتع بجمالها وصفائها قبل أن تصاب الواحة والمدينة بالتلوّث وقد كتب قصيدة بديعة يتغنى فيها بالواحة والنخلة مستحضرا فيها سنواته العذبة في أرجائها ومتحسّرا على ماضيها بما كان فيه من هدوء ومرح وهناء ثم في آخر القصيدة يُبدي غضبه ونقمته على ما آلت إليه تلك الربوع حيث نالت منها أيدي العبث بالطبيعة نتيجة لطغيان المادة والجشع… وله قصائد أخرى من بينها قصيدة ـ شموخ ـ وقد رسم فيها مبادئه في الحياة لكأنها دستوره الخاص أو كأنها خلاصة حياته حيث يقول:

لا وجه منيّتي أخشاه

لا طول حياتي يغويني

*

في عقدي التاسع هذا

لا شيء عاد يغريني

*

ما المال كان مرادي

فنزر النزر يكفيني

*

شربت الحب أكوابا

من ذابلات الجفون

*

بعزم ذدت عن وطني

ما مال للغازي جبيني

*

وللتمجيد ما سعت قدمي

ولا فخم القصور يعنيني

*

فصديقة في الود صادقة

عن كل الغواني تغنيني

*

وخلّ إذا العواصف هبّت

هبّ في الحين يحميني

ومن قصائد أبي جمال بالفرنسية هذه القصيدة التي يمجّد فيها الرّفق بالحيوانات وهي لعَمري أرقى درجات الإنسانية التي تتجاوز الإنسان إلى الحيوان والطبيعة جمعاء حيث يقول:

MES AMIS LES ANIMAUX

Jamais je ne monte un cheval

Ni le faire courir à en crever

Jamais je ne chasse un animal

Ni priver un oiseau de liberté

Je ne tue point vipère ni crotale

Si je ne suis en grand danger

Le lion, le loup ou le chacal

Ne chassent que par nécessité

Le superbe tigre du Bengale

Ne traque le cerf que pour manger

La viande je mange car c’est vital

Mais n’use jamais de cruauté

Le toréro ce sanguinaire médiéval

Torture la bête pour des « Olé »

ومن مآثر أقوال صديقنا الأديب مصطفى يحي وهو في عقده التاسع ما يلي:

الصّبا له أريجه وكذلك المراهقة والشباب والكهولة أما الشيخوخة فهي داء لا دواء له. شخصيا أمقتها ولكني أجاريها ولا أجد لها أيّ طعم بل طعمها ترياق وحنظل نرى الشهد ولا نستطيع أكله ونرى الورد ولا نستطيع قطفة ويرانا الجمال فيفرّ هاربا من أمامنا.

هذه تحية لأديب تونسي أعتبره مثالا في العطاء وتقديرا له على مسيرته الجديرة بالدراسة متمنيا له المزيد من الإبداع في كنف الصحة والعافية وطول العمر

لا تحسب عُمرك بالسّنوات وإنما بالذكريات ولا تحسب ثروتك بالمال بل بالأصدقاء كما يقول المثل السويدي

***

سُوف عبيد ـ تونس

ضمن منهاجه الأسبوعي المعتاد شهد المركز الثقافي البغدادي في شارع المتنبي صباح يوم الجمعة 22 / 9 / 2023م، رفع الستار عن تمثال الشاعر الشعبي البغدادي الملا عبود الكرخي "1861-1946". وكانت المرة الأولى التي طُرحت فيها فكرة إقامة تمثال للكرخي مطلع السبعينيات من القرن الماضي لكنها لم تتحقق، كما أن أمانة العاصمة أقرت في العام 1985 وضع التمثال قرب بيته في منطقة الشواكة، لكنه لم يرَ النور أيضاً لأسباب غير معروفة.

الآن وبعد حوالي الخمسين عاماً على تلك الفكرة التي ذهبت أدراج الرياح، تبادر دار نوّار التي تعمل في بغداد وموسكو، وتسعى لتعزيز الحوار العراقي الروسي إلى اهداء تمثال نصفي للملا عبود الكرخي نفذه النحات عادل هادي، مثلما فعلت سابقاً مع تمثال للعلامة الأب أنستاس الكرملي" 1866 – 1947" تم وضعه في باحة كنيسة اللاتين" السيدة العذراء" في منطقة الشورجة، حيث دُفن. ومن الجدير بالذكر أن دار نوّار تم تأسيسها تخليداً لذكرى الشاب العراقي – الروسي نوّار الابن الوحيد للأديب والمترجم والأكاديمي الدكتور ضياء نافع العميد الأسبق لكلية اللغات بجامعة بغداد.

ولد نوّار في روسيا، وأنهى تعليمه في بغداد، ثم حصل على الدكتوراه في طب العيون من روسيا، لكنه توفي بسكتة قلبية مفاجئة وهو في ريعان شبابه، فرغب والده العراقي مع والدته الروسية بعمل يخلد اسم وحيدهما الذي رحل مبكراً، فكانت دار نوّار التي قامت بمبادرات عديدة لتوثيق العلاقات الثقافية بين العراق وروسيا، ومنها جائزة نوار لتعزيز الحوار العراقي الروسي التي تمنح لشخصية عراقية أو روسية تسهم بوضوح في تحقيق ذلك الحوار.

تمثال الملا عبود الكرخي الذي تم اهدائه إلى المركز الثقافي البغدادي باشراف الدكتور علي حداد، سيوضع في مكتبة حفيد الكرخي، الكاتب والأديب التراثي الراحل  حسين حاتم عبود الكرخي والتي سبق أن اهدتها اسرته للمركز. أما الحفل الذي سيزاح فيه الستار عن التمثال فسيتم فيه الحديث عن جوانب مهمة من حياة الكرخي وشعره وظرائفه ومواقفه الوطنية. ذلك أنه من الشعراء الذين تعتز بهم شعوبهم وتفتخر، فقد كان صوت الشعب الساخر الذي لا يتردد عن استخدام سوط الشعر لجلد كل من يرى أنه لا يعمل في مصلحة الوطن ومواطنيه، ويستقوي بالأجنبي على أبناء جلدته. أما مبادرة دار نوّار فإنها تضفي على المشهد بعداً درامياً حزيناً، لكنه مفعم بالأمل وحب الوطن.

***

د. طه جزاع

الخوارزمية عبارة عن مفهوم تكنيكي يرتبط اصلا بالرياضيات، وحديثا بعلوم الكومبيوتر، خاصة فيما يتعلق بصياغة البرامج ووضع شفراتها. كما يرتبط بالنظريات المعاصرة لصنع القرار ونظرية الالعاب. والتعريف المبسط  لهذا المفهوم يشير الى منظومة  من القواعد والتعليمات والخطوات والعمليات المتسلسلة التي تستخدم مدخلات معلومة وتفضي الى مخرجات تمثل الحلول للمسائل والمشكلات المختلفة . وقد تكون تلك المسائل حسابية اعتيادية كايجاد الارقام ذات القاسم المشترك أو معقدة كالمشاكل الطارئة التي يواجهها رائد الفضاء في حالة تعرض المركبة الى خلل ما. أو ما نراه بشكل اعتيادي الان عندما نستخدم لائحة الطلب الالكترونية المنتشرة في المطاعم لطلب وجبة معينة بمواصفاتنا الخاصة.

ولأن اساس الخوارزمية هو كيفية الوصول الى حل رياضي فاننا نستطيع ان نتتبع جذورها الاولية الى زمن أبعد من زمن الخوارزمي، كما كان  مثلا عند البابليين حوالي 2500 قبل الميلاد، وقدماء المصريين 1500 ق.م. وفي الحضارة الهندية 800 ق.م. والاغريق 240 ق.م. إلا ان الخوارزمي هو الذي وضع الوصف الاوضح والتحليل الاكمل لهذا المفهوم وتطبيقاته الاولية في كتاب الجمع والتفريق وكتاب الحساب  اللذان اصبحا المصدر الرئيسي الاول لما سمي باسمه، حيث ان Algorithm  هي الصيغة اللاتينية لاسم الخوارزمي.3955 الخوارزمي

الخوارزمي (780-847م)

تُعرّف المصادر العربية والاجنبية الخوارزمي بانه العالم  العربي أو المسلم! وأنا اقول انه العالم العراقي من أصل أزبكستاني الذي هاجرت عائلته في القرن الثامن الميلادي من خوارزم في خراسان قديما و(ازبكستان حديثا) الى العراق  وعملت واستقرت في بغداد العصر العباسي. ورغم ان هناك اشارة في تاريخ الطبري الى ان الخوارزمي ينتسب الى قرية قطر بل وهي ضاحية من ضواحي بغداد آنذاك الا اننا لانستطيع ان نجزم بانه ولد في تلك القرية. لكن من المؤكد انه نشأ وتعلم وتدرب واحترف البحث العلمي وعمل في بغداد. وحين لمع نجمه كرجل من رجال العلم عينه الخليفة المأمون مشرفا علميا على دار الحكمة الشهير الذي كان قبلة المعرفة في عاصمة التنوير بغداد آنذاك التي اشتهرت في ذلك العصر الذهبي بريادتها في العلم والادب والفن.

فالخوارزمي هو ابو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي عالم الرياضيات والفلك والجغرافية  الذي اشتهر بكتبه الرائدة التي احدثت اثرا عالميا بليغا في مسيرة العلم في الامس واليوم. فاضافة الى كتاب الحساب وكتاب الجمع والتفريق، له ايضا كتاب تقويم البلدان وكتاب خارطة الارض والتي ترجمت جميعها الى اللاتينية اولا ثم الى عدة لغات عالمية اخرى. وبذلك فقد اعتمدتها الجامعات الاوربية منذ ذلك الوقت وما تزال تُدرّس كجزء اساسي من تاريخ العلم.3956 الخوارزمي

في ختام هذا التعريف المختصر اقول: لقد آن الاوان ان ينهض شبابنا المتنور لينفض الغبار عن تاريحنا العظيم الطويل الحافل بالانجازات الحضارية والذي سمحنا ان يطاله الاهمال والتشويه بسبب الصراعات والاحقاد والحروب. كما اننا تركناه حتى في زمن السلم ان يُطوى تحت المظلة العربية الواسعة والعامة والغامضة!  فرغم اننا جزء من الامة العربية ولكن ينبغي ان لا نذوب في اديمها! فحين يذوب الجزء في الكل سيفقد خواصه الجوهرية. وهذا اجحاف كبير ان لم ندركه فسوف تحاسبنا الاجيال القادمة  عن ضياع جذورها.

أدعوك ان تتأمل التخطيط المرفق للخوارزمي، فهل تعلم انه طابع صدر في الزمن السوفيتي! وتأمل تمثاليه المنتصبان في أزبكستان! فماذا نتأمل نحن في بغداد؟ تمثال عنترة بن شداد والفارس العربي الذي يلوح بسيفه البتار ايذانا بزمن القتل على طريقة قطع الرؤوس الصحراوية؟!

***

ا. د. مصدق الحبيب

 

العلوم والمعارف المتاحة والمبتكرة بإستمرار؛ توجه رافق كل الحضارات بالتزامن مع الحروب التي تفضي الى تغيرات تطال منظومات التعلم والتعليم، وهذا ما شهده العراق منذ زمن بابل وأشور وبغداد الزوراء، وكان للحرب العالمية الاولى 1914 - 1918 وما تلاها من أحداث عبر أكثر من مئة سنة مضت؛  منعكساتها على التعليم في العراق، فكل خطوة للأمام تتبعها أحيانا خطوتان للخلف، وذلك ما يحاول المقال جغرافيا - تأريخيا وبالاعتماد على البيانات المكانية الوصفية والمنطقية - الرقمية الكشف عنه.

مؤسسات التعليم الاولى:

كانت أليات التعليم في العراق مطلع القرن العشرين مقتصرة على التعليم في بعض البيوت، والكتاتيب، والمساجد والجوامع، والمدارس الدينية، والحوزات العلمية، ضمن حلقات يقودها شـيخا، ويبدأ بالصبية صعوداً، وكذلك لحلقات النساء، وأطلق على هذه الحلقات أسماء محلية عديدة منها (الكُتاب) بضم الكاف، و(الكتاتيب)، وحلقة (الــمُلا/ الملاية) بضم الميم، وكان يتعلم فيها أفراد السكان بمختلف الأعمار أوليات القراءة والكتابة وتلاوة وحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والأحكام الشرعية، وهكذا وضعت الاسس الاولى للتعليم الحديث، وبعد انتشار المدارس في بغداد وبقية المدن العراقية تقلص عمل هذه الحلقات والكتاتيب تدريجيا.

المدارس العثمانية:

تضمنت المدارس العثمانية الاولى؛ الحكومية منها والأهلية كل من؛ المدارس الإسلامية والمسيحية واليهودية والأجنبية الأخرى، ومنها؛ اللاتينة للأباء الكرمليين 1721، الكلدانية 1843، والموصل 1855، والاتحاد الاسرائيلي 1865، (المدارس اليهودية/ مدارس الإتحاد الفرنسي/ الأليانس التي شملت؛ سبع منها في بغداد، وخمس في كل من؛ البصرة والعمارة وخانقين والحي وكركوك ). ومدارس كل من؛ السريانية الأفرامية، الأرمن المختلطة، الراهبات للبنات، البروتستانت للبنات، الاباء الدومنيكان. اضافة لمدارس كركوك 1868، وسامراء 1881، والنجف، 1882.[1]

شملت المدارس العثمانية النظامية التي تعتمد الاسس الحديثة أنذاك كل من؛ الرشدية المدنية، والفنون والصنائع 1869، والأعدادية العسكرية، والمدرسة الرشدية العسكرية/ كركوك 1870، والأعدادية المدنية 1871.  وقد تم افتتاح المدرسة الرشدية العسكرية ببغداد سنة 1870، وموضعها قرب شاطئ نهر دجلة من جانب الرصافة (بناية المحاكم المدنية سابقا)، والواقعة عند يسار نهاية شارع المتنبي، الى يمين بناية القشلة، ويعود أصل البناء الى أواخر العصر العباسي (مدرسة الأمير سعادة، خادم الخليفة المستظهر بالله 1078- 1118م )، ثم أشُغل المبنى بدائرة/ الدفترخانة المعنية بحفظ الوثائق والسجلات العقارية والمالية زمن المماليك 1749- 1831، بعدها قرر الوالي مدحت باشا 1870 استخدامها مدرسة عسكرية حديثة لاستقبال أبناء بغداد بهدف تأهيلهم للدراسة في الكلية العسكرية في إسطنبول، وفي 1891 تم نقل المدرسة الرشدية العسكرية الى بناية جديدة (خصصت لاحقا 1918 لدار المعلمين الابتدائية، وموضعها؛ بناية المدرسة الاعدادية المركزية العريقة، الحالية بالميدان).  وتم الغاء المدارس العسكرية العثمانية بعد احتلال بغداد 1917. وقد شرعت دائرة (مجلس المعارف) العثمانية ببغداد بفتح المدارس الاتية؛ في سنة 1889 فتحت؛ مدارس؛ جديد حسن باشا، الحميدية/ الفضل، الكرخ، والاعظمية. وفي 1891 الصابونجية، والعثمانية. وفي 1907 مدرسة تطبيقات دار المعلمين الابتدائية. وفي 1908 الجعفرية الأهلية/ مكتب الترقي الجعفري العثماني، والحقوق، وتذكار الحرية/ البصرة. وفي 1910 (كلية/ مدرسة) الامام الأعظم. وفي 1911 الكاظمية الأهلية، والحلة 1911. وفي 1914 شيدت بناية مدرسة تطبيقات دار المعلمين الابتدائية التي سبق أفتتاحها في 1907. كما تم في 1914 الأنتهاء من تشييد وفتح مدرسة الاتحاد والترقي (لاحقا بناية مدرسة المأمونية الابتدائية 1922- 1959/ جوار الدفاع، عند ساحة الميدان).

مدارس الادارة البريطانية:

في عهد الإحتلال/ الأنتداب البريطاني أستند التعليم على النظام التعليمي العثماني، ونظام التعليم في مصر المتأثرين بالفكر الفرنسي، وتم تقسيم العراق لأربع وحدات إدارية حيث إستهدفت السياسة التعليمية (لإدارة المعارف) المباشرة بفتح المدارس الإبتدائية فيها، وعليه تم إعادة فتح (كلية/ مدرسة) الامام الأعظم 1917، ودار المعلمين  1918، وفي سنة 1919 أعيد فتح مدرسة الحقوق، كما تم افتتاح المدرسة الاهلية الإبتدائية. ثم تزايد إفتتاح المدارس الحديثة تدريجيا في عدد من مدن العراق الكبيرة والصغيرة ومنها؛ مدرسة العمارة 1917، الناصرية 1917، كربلاء 1918، الكوت 1919، الرمادي والفلوجة 1919. وفي 1921 تشكلت وزارة للمعارف لتتولى انشاء وفتح المدارس والكليات في عموم العراق.[2]3929 جامعة بغداد

مرتكزات التعليم العالي وتطورها:

شهد التعليم العالي خلال السنوات المئة الماضية تطورا تدريجيا شمل؛ تزايد أعداد الطلبة، وتحويل المدارس المهنية الى كليات مع تنامي تشكيلها، لتنضوي إداريا وعلميا بعد مرور أكثر من ثلاثون سنة بجامعة بغداد/ الجامعة الام، وشمل ذلك ما يلي:

* دار المعلمين الأبتدائية؛ يعد أساس المدارس، لذلك تم فتح أول دار ببغداد 1907 ضمن بناية المدرسة الرشدية، وبعد أغلاقه 1914 أعيد فتحة 1918 في بنايته (موضع بناية المدرسة الأعدادية المركزية العريقة، الحالية بالميدان )، ثم انتقل بعد 1930 الى الاعظمية/ قرب المقبرة الملكية، وأستمر نواة لعشرات الدور التي تم أفتتاحها تباعا في العديد من مدن العراق خلال سنوات العقود العشرة الماضية.

* مدرسة الحقوق العثمانية؛ تأسست في بغداد سنة 1908 ثم أعيد أفتتاحها 1919، وتقع بنايتها مقابل مبانى السراي- القشلة تقريبا، والتي أعيد تشييدها 1934 على الطراز الانكليزي/ الفكتوري، ومن أبرز الشخصيات التي تخرجت منها؛ المحامي عباس العزاوي 1921.

* دار المعلمين العالية و كلية التربية؛ تأسس دار المعلمين العالية سنة 1923، وضم قسمين/ العلوم الطبيعية والعلوم الانسانية بضمنها الجغرافية، وأضيف اليها قسم الرياضيات فيما بعد، ويقبل فيه خريجو دار المعلمين الأبتدائية وخريجو المدارس الثانوية، وقد شغل في بدايته الطابق الثاني من مدرسة المأمونية الابتدائية (جوار الدفاع، عند ساحة الميدان)، ثم انتقل الى جوارها في ( بناية المدرسة الاعدادية المركزية العريقة، الحالية بالميدان، والتي سبق وأن شغلها دار المعلمين الأبتدائية ). وقد أغلق دار المعلمين العالية خلال السنوات 1931-  1935. ثم انتقل مرة أخرى الى الأعظمية -  مجاور المقبرة الملكية (بناية دار المعلمين الأبتدائية)، والتي أصلها أحد مباني جامعة آل البيت العراقية الملغاة 1930. بعدها أستقر دار المعلمين العالية في؛ بنايته الرئيسة مع ملحقاته من الأبنية الادارية والخدمية، والمشيدة  سنة 1952، وأفخم وأشهر ما فيها؛ البناية التي حضر فيها الألاف عبر أكثر من ستون سنة مضت ولحد الان، (قاعة ساطع الحصري) مؤسس الدار/ 1923 وعميده الأول، وموضع بناية الدارهذه بمحاذاة مسار (سدة المدينة الترابية المشيدة 1917، وهي السدة الأقرب من مسار سدة ناظم باشا الاسبق منها)، وتقابل بناية الدار موضع المقبرة البريطانية من الاتجاه الغربي، (وحاليا هي مبنى الكلية التقنية- معهد الادارة). ولقد أستمر الدار بهذه البناية لغاية إلغائه 1958 بعد تأسيس (كلية التربية) التي ضمت الدارنفسه، وفي بنايته ذاتها.

بعد مرور عشرة سنوات أغلقت كلية التربية 1969 ثم أعيد فتحها 1972، وتدريجيا أنتقلت عمادتها واقسامها الانسانية الى مبانيها الجديدة، مقابل مبنى كلية الأداب وسط مجمع كليات باب المعظم، حيث تشكلت منها لاحقا 1988 (كلية التربية/ الأولى/ أبن رشد). أما اقسامها العلمية فقد بقيت بمبناها (المقابل للمقبرة البريطانية)، وتشكلت منها ايضا (كلية التربية/ الثانية/ ابن الهيثم 1988) والتي أنتقلت لاحقا الى (مبنى كلية العلوم/ الاعظمية/ ساحة عنتر التي سبق وان أنتقلت بدورها الى مبناها الحديث في مجمع الجادرية لجامعة بغداد 1983).

* جامعة آل البيت العراقية؛ تأسست 1924 من عدة (كليات/ مدارس) ومنها؛ الحقوق، الهندسة، العلوم المالية، ودار المعلمين العالية، وتوزعت بعدة مباني في الاعظمية، ومنها مبنى (الكلية او الشعبة الدينية)/ موضع الجامعة العراقية الحالي) وقد الغيت هذه الجامعة 1930.

* كلية الطب الملكية العراقية؛ تأسست 1927 جوارمستشفى باب المعظم (موضع مدينة الطب الحالي)، وأتخذت نظام ومناهج الكلية الطبية الملكية البريطانية.

* كلية الصيدلة؛ تأسست 1936 جوار كلية الطب، ثم انتقلت الى بنايتها الأحدث خلف موضع سايلو باب المعظم 1973.

* كلية الهندسة؛ تأسست 1942 بضم (مدرسة الهندسة السابقه)، وتقع البناية الأولى لكلية الهندسة والمشيدة 1956؛ يمين شارع ابي طالب - جوار المبنى السابق لوزارة الري ( وحاليا؛ ملحق الجامعة المستنصرية - كلية الهندسة)، وقد انتقلت كلية الهندسة الى مبناها الحديث في مجمع الجادرية لجامعة بغداد 1983.

* كلية الملكة عالية؛ تأسست سنة 1946 بمبنى صغير/ بباب المعظم، وتحولت الى كلية التحرير للبنات 1958، ثم إلى كلية البنات 1963، وأخيرأدمجت مع كلية الاداب 1969. وكانت كلية الملكة عالية بديلا لدار ( المعلمات الاولية )، والمنشطر بالأصل من (دار المعلمات الابتدائية، المؤسس سنة 1926، والذي سبق وان أنشطر 1943 الى؛ دار المعلمات الابتدائية، والى دار المعلمات الاولية).[3]

* كلية الاداب و العلوم؛ تعد الأداب والعلوم من الكليات المركزية لكل جامعات العالم، وقد تأسست سنة 1949 في بغداد، وكان عميدها الاول الدكتور عبد العزيز الدوري 1949 - 1958، وضمت قسمين/ العلوم الطبيعية، والعلوم الانسانية بضمنها الجغرافية، وأضيف اليها قسم الرياضيات فيما بعد، وكانت بنايتها الاولى متواضعه في منطقة باب المعظم (بناية المدرسة القديمة للفنون المنزلية )، مقابل (كلية الملكة عالية - لاحقا التحرير ثم البنات)، وبنايتها حاليا؛ ملحق المعهد الطبي التقني (عند مجسر مشاة باب المعظم - شارع الخلفاء/ الجمهورية).

في سنة 1956 أنقسمت كلية الاداب والعلوم الى كليتين مستقلتين هما؛ (كلية الاداب) التي انتقلت الى بنايتها بمنطقة الاعظمية، وتحديداً خلف المجمع العلمي العراقي/ في البناية التي تشغلها حاليا كلية القانون. (ولاحقا في سنة 1969 أنتقلت كلية الاداب الى مبناها الحالي - بمجمع كليات باب المعظم -، والمشيد 1960، والذي كانت تشغله قبلها كلية التجارة ). اما (كلية العلوم) فقد توزعت اقسامها في بنايتين مؤجرتين في الاعظمية/ شارع المشاتل، ثم استقرت في بنايتها الجديدة أنذاك في الأعظمية/ ساحة عنتر.

* كلية التجارة؛ تأسست 1946 من معهد العلوم المالية المؤسس 1936، والذي كان ضمن كلية الحقوق، وأنتقلت كلية التجارة الى مبناها الجديد المشيد 1960 (مجمع باب المعظم، مبنى كلية الأداب الحالي)، وتحولت كلية التجارة سنة 1968- 1969 إلى كلية الادارة والاقتصاد بمبناها المجاور لكلية القانون/ الوزيرية.

* كلية الشريعه؛ تشكلت 1946 في الأعظمية، وإلحقت بجامعة بغداد 1963، وحاليا كلية العلوم الاسلامية.

* كلية الزرعة؛ أسست 1952 في ابي غريب/ بغداد، وتخرجت أول دوراتها 1956 برعاية ملك العراق فيصل الثاني.

* كلية طب الاسنان؛ أسست 1953 بجوار كلية الطب (جوارموضع مدينة الطب الحالي).

* كلية الطب البيطري؛ أسست 1955 في ابي غريب/ بغداد، بموقعها/ العامرية غرب بغداد.

* جامعة الحكمة اليسوعية، مؤسسة أكاديمية أهلية تم تأسيسها سنة 1955، وفي سنة 1969 تم تأميم جامعة الحكمة وإلحاقها بجامعة بغداد.  سميت جامعة الحكمة سنة 1956 وبدأت بثلاثة اقسام؛ ادارة الاعمال والهندسة والفنون الحرة والدراسات العربية، وأنجزت بنايتها 1959 على قطعة أرض (272 دونما) في الزعفرانية جنوبي شرقي بغداد، واعتبارا من 1969 اصبحت بناية معهد التكنولوجيا/ بغداد.

* جامعة بغداد؛ (الجامعة الام) أقدم جامعة حديثة في العراق، وشرع لأول مرة قانون تأسيسها سنة 1956.

* كلية التمريض؛ فتحت 1962 قرب كلية الطب (جوارموضع مدينة الطب الحالي).3930 الجامعة المستنصرية

* الجامعة المستنصرية، أستحدثت (جامعة خاصة) 1963، وأستقرت سنة 1968 بمبناها الجديد الذي شيدته مؤسسة كولبنكيان الخيرية، وهو المبنى الحالي الذي يقع في الرصافة من مدينة بغداد/ شارع فلسطين، وأعتبرت جامعة رسمية حكومية سنة 1974. وتضم حاليا 13 كلية وبكافة التخصصات، (سميت نسبة إلى؛ المدرسة المستنصرية العباسية العريقة ذات المركز العلمي والثقافي، والتي تم تأسيسها ببغداد سنة 1233م على يد الخليفة العباسي المستنصر بالله 1192 - 1243م ).

* جامعة البصرة، أستحدثت سنة 1964 من خمسة كليات، وتضم الان 22 كلية بمختلف الاختصاصات العلمية، وشيدت بنايتها الاولى شرق شط العرب/ التنومة، ثم انتقلت الى مبانيها الجديدة  في كرمة علي 1983.

* كلية التربية الرياضية؛ تشكلت 1966 - 1967 من ضم المعهد العالي للتربية البدنية، واستقرت بمبناها (التي تشغله حاليا كلية التربية الرياضية للبنات) يسارمدخل شارع المغرب ومقابل منطقة الوزيرية، ثم أنتقلت الى مبناها الحديث في مجمع الجادرية لجامعة بغداد 1985.

* اكاديمية/ كلية الفنون الجميله؛ فتحت 1967، في بنايتها الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من منطقة الوزيرية/ يمين شارع ابي طالب، (وكانت بنيتها قبل توسيعها وتطويرها دارا لرئيس الوزراء الأسبق نوري سعيد).

* جامعة الموصل؛ تأسست سنة 1967 في مبانيها في الجانب الايمن/ المجموعة الثقافية. وسبق تأسيسها فتح كليات عديدة؛ أولها كلية الطب/ وزارة الصحة، والتي ألحقت بجامعة بغداد 1960، وتبعها فتح كليتا العلوم والهندسة 1963، وكلية الزراعة والغابات وكلية الصيدلة 1964، وكلية البنات 1967.

* جامعة السليمانية، أستحدثت سنة 1968، ثم نقلت الى اربيل سنة 1981 باسم (جامعة صلاح الدين /الحالية)، وفي سنة 1992 أعيد فتح جامعة السليمانية/ الحالية.

* الجامعة التكنولوجية، ببغداد/ حي الوحدة - شارع الصناعة، وتم أستحداثها سنة 1975، وتضم 13 (كلية/ قسما) هندسيا علميا، وأساسها ( المعهد الصناعي العالي) المؤسس 1960، والذي تحول الى (كلية الهندسة التكنلوجية) التي أرتبطت لعدة سنوات بكلية الهندسة/ جامعة بغداد.

جامعـة بغـداد:

أقدم جامعة حديثة في العراق (الجامعة الام)، ولم تبدء بالأدارة لافتتاح الكليات لاحقا، انما بدأت بضم كليات مضى على تشكيل بعضها أكثر من ثلاثون سنة، وشرع لأول مرة قانون تأسيس جامعة بغداد رقم 60 لسنة 1956، وتشكل مجلسها الاول 1957 برئاسة الدكتور متي يوسف عقراوي/ فلسفة (أول رئيس للجامعة)، وفي 1958 صدر قانون رقم 28 تنفيذا لقانون 60، وترأسها الدكتور عبد الجبار عبدالله الشيخ سام/ فيزياء 1958 (وحاليا؛ يتصدر تمثاله النصفي ساحة برج جامعة بغداد في الجادرية)، وفي 1963 ترأسها الدكتور عبد العزيز عبد الكريم الدوري/ تأريخ، وفي 1968 ترأسها الدكتور جاسم محمد خلف الركابي/ جغرافيا. وتنقلت رئاستها  بعدة أبنية تابعة لكلياتها ومعاهدها وفي بناية وزارة التعليم، وذلك في كل من؛ باب المعظم والاعظمية والطيران/البتاوين، ثم انتقلت الى بنايتها في الجادرية.

لقد تشكلت جامعة بغداد من؛ تسعة كليات سابقة التأسيس هي؛ الحقوق، التربية، الطب، الصيدلة، الهندسة، الأداب، العلوم، التجارة، الزراعة. كما الحقت بها المعاهد العالية الاتية؛ العلوم الادارية، اللغات، المساحة، الهندسة الصناعية، والتربية البدنية. وخلال السنوات العشرة اللاحقه لتأسيس جامعة بغداد  ضمت عدد من الكليات الأقـدم والمستحدثة وهي؛ الشريعة، طب الاسنان، التمريض، التربية الرياضية، أكاديمية/ كلية الفنون. وتبع ذلك ايضا أستحداث كليات عديدة منها؛ اللغات، العلوم السياسية، التربية للبنات. وتضم جامعة بغداد حاليا 24 كلية و4 معاهد و16 مركزا بحثيا و36 مجلة علمية، وتخرجت منها الدورة 66 لسنة 2023. ومن حيث التأسيس عدت جامعة بغداد الأولى عراقيا، والثانية عربيا بعد جامعة القاهرة/ 1816م، وفي سنة 2023 صنفت جامعة بغداد علميا بالمرتبة الاولى من بين 122 جامعة عراقية، والمرتبة 41 من بين 1365 جامعة عربية، والمرتبة 1571 من بين 12002 جامعة عالمية.

مجمع كليات باب المعظم

تشكلت جامعة بغداد من عدة كليات كانت تابعه لوزاراتها التي استحدثتها لأول مرة، وبالمقدمة وزارة المعارف/ مجلس التعليم العالي، وتركزت مؤسساتها منذ البدء بمركز منطقة باب المعظم لكونها المركز الحكومي الأول منذ العهد العثماني، وبالتالي تزايد الروابط فيما بين تلك المؤسسات خاصة الابنية والتجهيزات والعلاقات التعليمية والعلمية، ومنذ سنة 1943 بدء البحث عن الموقع المناسب لتشييد جامعة بغداد، وفي سنة 1955 شرعت وزارة المعارف بتشكيل لجنة تضم عدة أعضاء من وزارات ودوائر عدة برئاسة الدكتور عبد العزيز الدوري، لتشييد مباني للكليات خارج مبانيها القديمة/ المتفرقة بمركز منطقة باب المعظم، وذلك بسبب؛ التزيد السنوي لأعداد الطلبة، وتصاعد احتجاجاتهم ومظاهراتهم قرب المؤسسات الحكومية/ بباب المعظم في أعقاب الاضرابات الادارية المطلبية، والتظاهرات السياسية المتعاقبة منذ 1948، وخصوصا تلك التي جرت سنة 1952 بالساحة المقابلة لكلية الاداب والعلوم ( باب المعظم/ موضع مجسر مشاة تقاطع شارع الخلفاء/ الجمهورية)، وهكذا تم اختيار عدة مناطق ببغداد، وبوشرأولا بالانتقال الى محيط مركز منطقة باب المعظم.

يقع (مجمع كليات باب المعظم) في الركن الشمالي الشرقي لمدينة بغداد القديمة (المسورة)، مابين (منطقتي الفضل والشيخ عمر، وطريق محمد القاسم من الجهة الجنوبية الشرقية)، وبين ( شارع صفي الدين الحلي/ منطقة الوزيرية شمالا، وشارع ابي طالب غربا). لقد كانت عائدية أرض مجمع كليات باب المعظم تابعة للأوقاف، وهي بالاصل حقول زرعية للرز ومحاجر للطابوق وخندقا لتجمع المياه، وبعد 1917 شيد البريطانيون فيها كل من؛ سدة المدينة الترابية 1917- على طول حافتها الشمالية تفاديا لفيضان نهر دجله، وهي السدة الأقرب للمدينة من مسار سدة ناظم باشا 1911. كما شيدو؛ مقبرة لجنودهم، وحديقة عامة/ المعرض، ومعسكرا للخيالة، وخطا متريا لسكة حديد. مع بناء المسقفات والمخازن والدور السكنية للعاملين بمحطة قطار باب المعظم (محطة قطار شمال بغداد/ خانقين - كركوك - أربيل)، والمرتبطة بمحطة قطار باب الشيخ (محطة قطار شرق بغداد/ بمنطقة النهضة - مقابل مستشفى الكندي).

لقد حضي مجمع كليات باب المعظم لأهميته المكانية بالأهتمام الجامعي المبكر، فقد تم تشييد البناية الأولى (دارالمعلمين العالية 1952/ لاحقا كلية التربية 1958) قبل صدور قانون جامعة بغداد 1956، ثم (( بناية كلية التجارة 1960 - التي ضمت البناية الأقـدم منها/ ثانوية الصناعة والمشيدة 1953 - وحاليا هي بناية كلية الأداب))، ثم تبع ذلك تشييد بنايات الكليات السابق ذكرها، كما شيدت بنايات علمية وخدمية ذات أهمية علمية وجامعية وهي؛ المكتبة المركزية 1959/ يسار مسار شارع صفي الدين الحلي/ مقابل منطقة الوزيرية. وشيد مجمع الوحدة السكني/ دار الطلاب 1960، يسار مدخل شارعي (الكفاح/غازي، والشيخ عمر) من جهة باب المعظم. وأعيد مقابل كلية اللغات تشييد البناية الجديدة لمركز بحوث التأريخ الطبيعي (متحف التأريخ الطبيعي) سنة 1973. وتم كذلك بناء مجمع التعاون لأسكان الطالبات/ وسط المجمع في يسار مبنى كلية اللغات سنة 1975.

يضم المجمع حاليا عدة كليات تم تجديد أبنيتها مرارا مع توسيع ملحقاتها على مدى أكثر من نصف قرن وهي؛ الاداب، التربية/ابن رشد، الصيدلة، العلوم الاسلامية/الشريعة، اللغات، التمريض، والكلية التقنية، ومعهدي الادارة والرياضة. إضافة الى (ملحق الجامعة المستنصرية/ كلية الهندسة). كما تنتشر أبنية كليات المجمع بأتجاه نهر دجلة (المجموعة الطبية/ كليات الطب وطب الاسنان)، وتتبع المجمع أيضا كليات اخرى؛ الفنون الجميلة/ في الوزيرية. والادارة والاقتصاد، والقانون، والتربية/ أبن الهيثم في الاعظمية.3931 جامعة الموصل

مجمع الجادرية

في سنة 1955 تم أختيار الجادرية أرضا (بمساحة 1300 دونم = 325 هكتار) لأبنية جامعة بغداد وفقا لأحدث التصاميم الهندسية للجامعات العالمية أنذاك؛ وتم الاختيار على اساس بعدها عن المركز، وفرادت موقعها وموضعها، وسعة مساحتها للتوسع المستقبلي. وتقع أرضها جنوبي شرقي مدينة بغداد الكبرى، يسار مجرى نهر دجلة الذي كون تعرجه تلك الارض الأقرب لشبه جزيرة، وفي 1957 أنجز تصميم برجها، وبوشر بالبناء 1963، وأكتمل تشييد برج الجامعة ( 19 طابقا بارتفاع 80م ) سنة 1967، وتم لاحقا توسيع أبنيتها الاخرى سنة 1982، وقد أنتقلت الادارة/ رئاسة الجامعة (ببرج مجمع الجادرية) ابتداء من سنة 1975، ثم تبعتها كليات العلوم، الهندسة والرياضة سنة 1983، ولاحقا كليات البنات، الاعلام، الزراعة، السياسية، والطب البيطري.

تطورالمستوى العلمي للتعليم العالي:

في سنة 1958 أستحدثت وزارة التربية والتعليم بدلا من (وزارة المعارف/1921)، وتتبعها كل مؤسسات التعليم، وفي 1970 تشكلت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي المسؤولة عن الجامعات والكليات والمعاهد والمراكز البحثية مما زاد من تنظيمها اداريا وعلميا، والتي كانت لسنوات تدار من قبل وزارة المعارف ثم وزارة التربية والتعليم.

لقد أنطلقت من جامعة بغداد الملاكات التدريسية والفنية والإدارية المدربة تدريباً عال المستوى لصالح المؤسسات الحكومية. ولتنتشر ايضا في الجامعات العراقية التي تم تأسيسها في مدينة بغداد وخارجها، إعتماد على امكانات جامعة بغداد من حيث إعداد التدريسيين والكوادر الادارية والفنية وخبرات التشييد والتطوير والأداء العلمي ومنها؛ جامعات المستنصرية، البصرة، الموصل، السليمانية. ومجموعة جامعات 1987 وهي؛ الكوفة، القادسية، تكريت، الانبار. وجامعة المتميزين/ النهرين حاليا ببغداد/ الجادرية. كما أسست الجامعة العراقية ببغداد/ الاعظمية 1989. وتبع ذلك تدريجيا تأسيسس العشرات من الجامعات المستحدثة ومنها على التوالي؛ ديالى، سامراء، كركوك، ودهوك. وعبر السنوات الخمس والعشرين اللاحقة لتأسيس جامعة بغداد أمست جامعات البصرة، الموصل، المستنصرية؛ ذوات مكانة وشهرة علمية رصينة محليا وخارجيا، وتضاهي قي ذلك المكانة المرموقة لجامعة بغداد من حيث الإداء والكفاءة.

في أعقاب التدني التدريجي لنسبة الأمية في العراق، وتنامي مستويات التعليم بكل مراحلة، تسببت الأحداث المتكررة؛ بالتراجع التدريجي لتلك المستويات وبضمنها التعليم العالي، مما أدى الى تزايد هجرة الكفاءات التي لها دورا علميا كبيرا، كما ان التسرع بأستحداث الأعداد الكبيرة والمتزايدة للجامعات الحكومية والخاصة، والتوسع العام، قد أربك توجهات التعليم العالي نتيجة؛ الضغط المتزايد على الأمكانات المتاحة العلمية منها والأدارية وكذلك البنى الأرتكازية.[3]

هكـذا بـدا مشهد التعليم في العراق عبر أكثر من مئة سنة، مشرق النشأة التي تصاعد تألقها الذهبي تربويا - تعليما وعلميا في عقد الخمسينات وعقد السبعينات من القرن العشرين. ولازال التعليم ينحو جاهدا رغم الأحداث القاسية للإتجاة المستقيم، وذلك بالجهد المتراكم عبر السنيين للعقول النيره لكل من الساده؛ المشايخ، الائمة، الخطباء. والمعلمين، المدرسين. والتدريسيين، الأساتذه. والعلماء، والمفكرين المبدعين ... وجميعهم يستحقون الإحترام.

***

مجيد ملوك السامرائي

 جغـرافـي، كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي - ويكيبيديا.

.........................

المراجــع:

1. مجيد ملوك السامرائي، سامراء رؤية جغرافية للتأريخ، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان،2022. صص 154-156. منشور على موقع – نيل وفرات،  https://www.neelwafurat.com https  .

2. ابراهيم العلاف، تطور التعليم الوطني في العراق، 1982.

3. علاء خميس الحميري، تطور التعليم في العراق،2019.

4. عقيل عبد ياسين حسين، مشاكل التعليم العالي في العراق،2023.

 

تمر هذه الأيام ذكرى وفاة أبو عمار، وحتى يفهم المرء إرث عرفات  لا بد  له من متابعة نشأة هذا الإرث تاريخيا، التحرير، والمبادئ التي حكمت نشأته وتقلبت متأثرة بالمتغيرات التي ألمت بواقع الحال السياسي – فلسطينيا وعربيا وعالميا.

كان ياسر عرفات الرجل الذي أسس "حركة فتح" قد ولد بمصر وتحدث بلسانها لكنه لم يكن مصريا... كذلك كانت رئاسته وسلطته إلى سلطة أو دولة.. فتح عيونه على قضية وأغمضها عليها... اتهم اثيرين بخيانته واتهموه بالخيانة.. إنه أبو عمار الختيار أو ياسر عرفات وهو في الأصل يسمى محمد عبد الرحمن بن عبد الرؤوف بن عرفات القدوة الحسيني، ومحمد عبد الرحمن هو اسمه المركب، والحسيني قبيلة غزاوية غير تلك المقدسية الشهيرة، في حين أن والدته من كانت تنتسب ولعائلة حسيني المقدسية ذائعة الصيت والتي ينحدر منها أمين الحسيني مفتي القدس وزعيم النضال الفلسطيني أيام الاستعمار البريطاني.

استقرت أسرة عرفات في العشرينيات من القرن الماضي في القاهرة وتحديدا في حي السكاكيني، حيث كان الأب عبد الرؤوف يعمل بتجارة الأقمشة، وزوجته ربة منزل، ولهم سبعة أبناء السادس فيهم كان محمد عبد الرحمن الذي سيعرف لاحقا بياسر، وقد ولد ياسر 1929 وبدأ طفولته فيها ومنها اكتسب لكنته المصرية التي رافقته طويلا، وبعد أربع سنوات من ولادته توفيت أمه لينتقل للعيش في القدس عند أحد أقربائه في حي المغاربة.

هناك فتح عرفات الولد عيونه على الثورة الفلسطينية الأولى عام 1936 ثم ما لبث والده أن تزوج بامرأة أخرى، وايتدعى ابنه من القدس للقاهرة مرة أخرى ليتربى ياسر مع زوجة أبيه، الأمر الذي سيدفعه لكره والده والتمرد عليه، حتى أنه لم يحضر جنازته عام 1952، ولم يزر قبره في غزة ولا مرة واحدة، ولطالما كان عرفات كثير التردد على الأحياء اليهودية، دون أن يعلم أحد لماذا!، ما أغضب والده منه كثيرا، وفي الأحياء اليهودية تعرف عرفات بموشي ديان الذي سيصبح لاحقا قائد جيش إسرائيل ووزير الحرب فيها، كما كان عرفات الشاب كثير التردد أيضا على جلسات أمين الحسيني الذي كان الإنجليز قد نفوه إلى القاهرة لترسم طفولة عرفات في القدس وحياته في القاهرة ملامح تكوين شخصيته  فيما بعد ليأتي العام 1948 وتندلع أولى الحروب العربية – الإسرائيلية ليشارك فيها عرفات كجندي مصري ثم فدائي فلسطيني في غزة، لكن نهاية الحرب ستكون سريعة ليعود بعد عام للقاهرة ويكما فيها دراسة الهندسة المدنية وينخرط في العمل السياسي الطلابي فانتخب كرئيس لاتحاد الطلاب الفلسطينيين في القاهرة في النصف الأول من الخمسينيات، وخلالها جرت أحداث انقلاب الضباط الأحرار على الملكية في مصر ليتبنى الجيش المصري عقيدة القومية العربية وتحرير الأراضي العربية وتوحيدها لتندلع ثاني الحروب العربية – الإسرائيلية سنة 1956.

وتم استدعاء عرفات للمشاركة فيها لكن مصادر تؤكد أنه قاتل في أرض المعركة ولاحقا تدخل أممي لحل النزاع حل عبد الناصر قوات الوافدين العرب والذي كان عرفات احدهم ليبدأ في التفكير بالهجرة وتقدم بين عامي 1956-1957 بعدة طلبات للحصول على تأشيرة، وكان من هذه الدول كندا والسعودية والكويت، لكن لم يقبل إلا طلبه السفر للكويت، وهناك عمل في الهندسة بداية والتقى بأصدقاء قدامي كصلاح خلف (أبو إياد) وخليل الوزير (أبو جهاد) وفاروق القدومي وخالد حسن، وليبدأوا التفكير معا بفعل شيء لخدمة قضية بلادهم التي كانت قد احتلتها إسرائيل لتشهد الفترة من عام 1958 -1960 ولادة حركة جديدة على ساحة النضال الفلسطيني والتي ستعرف باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني وتعرف اختصارا باسم " فتح" ويرأسها محمد عبد الرحمن عرفات الذي كان اتخذ من اسم ياسر اسما له واختار اسم أبو عمار اسما حركيا وذلك تيمنا باسم آل ياسر والذي وعدهم الرسول الكريم بقوله " صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة".

وفي تلك الفترة ارتدى عرفات الكوفية الفلسطينية التي ترتبط هي الخرى بالنضال والكفاح الفلسطيني وتصبح رمزا للقضية برمتها، وفي البداية اعتمدت الحركة على الاقتطاعات من مرتبات الأعضاء والمتعاطفين من الفلسطينيين أنفسهم، ذلك أن عرفات لم يكن يرغب بالحصول على دعم دول بعينها كي لا تكون حركته مرهونة بسياستها، لكن هذا في البدايات فقط، ولكن لاحقا بدأ بالتعرف على رجال الأعمال الفلسطينيين الموزعين عبر العالم وفي الخليج وفي الدول العربية.

وفي قطر عام 1961 تعرف بمحمود عباس الذي  سيصبح جزءا من الحركة والتي سيصبح لها حضورا على الساحة الفلسطينية والعربية سريعا ليأتي بعد ذلك بأعوام وتحديدا العام 1964 تأسيس منظمة تنضوي تحتها الحركات الفلسطينية والتي تعد " فتح" جزءا منها وستعرف باسم " منظمة التحرير الفلسطينية" PLO والتي سيعلن عن قيامها في مؤتمر القاهرة وتنال اعتراف الدول العربية وتتخذ من القدس مقرا لها ويعين أحمد الشقيري رئيسا لها.

وعقب تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية بثلاثة أعوام اندلعت حربا عربية – إسرائيلية جديدة ستعرف لاحقا باسم " النكسة" أو حرب حزيران، وعلى إثرها تنتصر إسرائيل على الدول العربية وستتوسع دائرتها بعد احتلال مناطق جديدة أهمها القدس والضفة وغزة وسيناء والجولان، وستتعرض لمصر لهزيمة كبيرة ليستغل عرفات الهزيمة في إعادة زمام القضية للفلسطينيين بعد أن كانت ملفا مصريا وعربيا، ثم يأتي العام 1968 وتندلع معركة على الحدود بين الأردن وإسرائيل وتعرف بمعركة الكرامة وينتصر فيها الفلسطينيون تحت قيادة عرفات رفقة الجيش الأردني زمن الملك حسين على الجيش الإسرائيلي ليسطع نجم أبو عمار أكثر ويصبح بعدها بعام رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تعد الممثل الشرعي الوحيد لفلسطين.

وبعد معركة الكرامة بات المنظمة أكثر قوة ورأت أنها باتت قادرة على تحقيق انتصارات أكثر، حتى أن وجودها في الأردن  أخذ دفعة معنوية كبيرة وبات تنافس الجيش الأردني وسعت لإنشاء دولة داخل الدولة ورأت في الأردن قاعدة تنطلق منها لتحرير أرض فلسطين دون أي اعتبار لسيادة الأردن وسلطة الملك حسين، الأمر الذي سيستفز الأردنيين وقيادتهم سيما بعد تصرفات أُعتبرت مسيئة لعلاقات الأردن الدولية قامت بها بعض الحركات الفلسطينية على الأراضي الأردنية كخطف الطائرات وتفجيرها، مما دفع الجيش الأردني للتحرك لتبدأ مرحلة جديدة في حياة منظمة التحرير وفصائلها تحت قيادة عرفات وليبدأ فيما سيعرف لاحقا " أيلول الأسود" حيث اندلعت عام 1970 مواجهات بين الجيش الأردني وفصائل المنظمة أسفرت عن مقتل العديد في كلا الطرفين وأحدثت انقساما عربيا كاد يتوسع لحربا بين الدول العربية لولا تدخل عبد الناصر في أيامه الأخيرة لينتهى العام 1970 بخروج فصائل منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى لبنان.

وفي لبنان بدأت مرحلة جديدة قادها عرفات تمثلت بالعمل المسلح وطرح الحلول السياسية على الطاولة والسعي لنيل الاعتراف الدولي بالقضية الفلسطينية، فسرعان ما طرح عرفات فكرة إقامة دولة فلسطينية على ما يحُرر من أراضي فلسطين وقبل ضمنيا بفكرة " حل الدولتين"، ما سمح له عام 1974 بالذهاب إلى الأمم المتحدة وإلقاء خطابه الشهير هناك، كأول رئيس لمنظمة غير رسمية يسمح له بإلقاء كلمة للعالم.

إن موقف عرفات السياسي دفع فصائل فلسطينية لتأسيس ما يعرف بجبهة الرفض والخروج من المنظمة، لكن عرفات حاول الموازنة من خلال إبقاء خيار السلاح وبنفس الوقت عدم قطع الطريق على السياسة، لكن سرعان ما ستندلع حرب أهلية في لبنان سيجد عرفان نفسه طرفا فيها وستؤدي لاجتياح إسرائيل بيروت عام 1982 وستنتهي أيضا بخروج الفلسطينيين من لبنان، لكن هذه المرة إلى " تونس. وتحت إشراف دولي لتصبح المقاومة الفلسطينية أبعد خطوات كثيرة عن الأراضي الفلسطينية.

فبعد طردسها من سوريا والأردن ولبنان والتي تعرف بدول الطوق حطت رحالها في تونس، وهناك باتت الحلول السياسية أكثر واقعية من تلك العسكرية وهو أمر لم ينتبه له أبو عمار سابقا فيما اعتبر سنوات الفرص الضائعة حيث ظلت الضفة والقدس وغزة سنوات طويلة تحت حكم العرب ولكن مطالب المنظمة كانت كامل فلسطين دون وضع استراتيجية واضحة لهذا المطلب، كما أن اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية عام 1979 اشترطت على إسرائيل إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1967، لكن المنظمة رفضتها.

ثم ليعلن من الجزائر سنة 1988 قيام دولة فلسطين مستغلا قيام الانتفاضة الفلسطينية التي فتحت أنظار العالم على القضية الفلسطينية أكثر لتبدأ مرحلة جديدة من حياة أبو عمار ليلقي بعدها السلاح ليرفع غصن الزيتون في مواجهة الاحتلال.

جاء عقد التسعينات وأقر عرفات رفقة المجلس الوطني الفلسطيني المنبثق عن منظمة التحرير مبادرة السلام الفلسطينية والتي تتضمن إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 تعيش جنبا إلى جنب مع دولة إسرائيل فكان الأمر مفاجئة لكل الأطراف وحتى الفلسطينيون أنفسهم باستثناء أن الإسرائيليين اعتقدوا أنها مناورة من عرفات، لكن تلقف الإدارة الأمريكية للمبادرة الفلسطينية جعل إسرائيل ترضخ وتجلس على طاولات المفاوضات وبعد سلسلة من المفاوضات السرية تم الإعلان عام 1993 عن اتفاقيات أوسلو للسلام والتي قبلها بعام كان عرفات تعرض لحادث سقوط طائرته ومقتل ثلاثة من مرافقيه فيما تأثر هو بإصابته ستجعله يرجف تلقائيا عند الكلام، وكذلك قبل ذلك بعامين استفز عرفات دول الخليج ودولا عربية أخرى بعد تأييده لغزو صدام حسين للكويت.

أحداث سرعت من بحث الرجل عن مخرج تمثل في اتفاقية أسلوا للسلام والتي جعلت العالم يعترف به رئيسا للسلطة الفلسطينية وكممثل شرعي ووحيدا لها، لكنها بالمقابل خلقت له معارضين ومنشقين من داخل البيت الفلسطيني وخرجت له حركة حماس كمنافس قوي حيث رأى البعض في الاتفاقية اعترافا بإسرائيل بلا مقابل ؛ في حين رأى أنصارها حلا مؤقتا للوصول للحل النهائي الذي لم يأتي حتى الآن ورغم كل ذلك تمت الأمور وعاد عرفات ومنظمته للأراضي الفلسطينية عام 1994 وبدأ عهد جديد في حياة عرفات الذي أنفق من عمره 30 سنة سابقة حاملا فيها السلاح ضد من باتوا الآن جيرانها الذين اتسمت علاقته بهم بطابع من الشد والجذب، فتارة تتهمه إسرائيل بالتحريض على العنف، وتارة ينسق عرفات معهم أمنيا حتى أن سلطته اتُهمت بأنها باتت الشرطي الإسرائيلي على الفلسطينيين ونال على ذلك عرفات جائزة نوبل للسلام رفقة قادة إسرائيل.

لكن السلام لم يدوم طويلا أو هكذا بدأ وتحديدا مع اندلاع الانتفاضة الثانية التي بدأت مع مطلع الألفية الجديدة واتهمت إسرائيل عرفات بالوقوف وراءها والتحريض  عليها والتي كانت سببا مباشرا بحصار إسرائيل لعام 2002  لعرفات ومرافقيه في مقر إقامته في رامله ما صاحب ذلك من اقتحام وتدمير لمقراته وقتل وإصابة مرافقيه، وكانت رسالة إسرائيل واضحة من هذا التصرف أن لا سلطة تعلو فوق سلطة الاحتلال لتبدأ صحة الرجل الذي بات يلقب بالختيار، حتى جاء عام 2004 حتى غادر عرفات وطنه لباريس وعاد إلى وطنه جثة حملها حملها الفلسطينيون على الأعناق ليودعوه في مثواه الأخير.

وهكذا كان رحيل ياسر عرفات استثنائياً، مثلما كانت حياته تماماً. فقد شيعته ثلاث قارات معاً: أوروبا وأفريقيا وآسيا. ونعاه معظم قادة العالم امثال فيدل كاسترو وجاك شيراك وطوني بلير والبابا يوحنا بولس الثاني وفلاديمير بوتين، وأقيمت له جنائز رمزية في جميع مخيمات اللاجئين في لبنان وسورية والأردن وغزة، وسارت مسيرات حزينة تكريماً لاسمه في باريس وروما وواشنطن وغيرها. وفي باريس حمل نعشه جنود فرنسيون. وعزفت موسيقى الجيش الفرنسي نشيد المارسلياز ثم النشيد الوطني الفلسطيني: فدائي، فدائي يا أرضي يا أرض الجدود.. فدائي، فدائي يا شعبي يا شعب الخلود.. فلسطين داري، فلسطين ناري.. فلسطين ثاري وأرض الجدود.. الموت والطائرة المشطورة.... رحم الله أبو عمار.. جيفارا العرب.

***

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة بجامعة أسيوط

...........................

المراجع:

1- قناة استيب: ياسر عرفات من المهد إلى اللحد - وثائقي الختيار.. يوتيوب.

2- محمود عباس: طريق أوسلو، بيروت شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 1994.

3- الموسوعة الفلسطينية، دمشق هيئة الموسوعة الفلسطينية، ج1، م2.

الصفحة 2 من 7

في المثقف اليوم