آراء

آراء

ما يحدث في غزة الآن يحتاج إلى تأمل وإلى دراسة، خاصة ما يتعلق بردود الأفعال الدائرة حول الأحداث الكارثية التي تقع على مرأى ومسمع من العالم كله دون أن يحرك أحدهم، ممن يملكون سلطة اتخاذ القرار، ساكنا. والحقيقة المؤسفة أن الأحداث الكارثية لا يقابلها إلا صمت لا يقل كارثية، لأنه صمت متخاذل أمام عملية إبادة جماعية ممنهجة للقضاء على شعب كامل!

ويقينا لا يحتاج الأمر إلى تأمل ودراسة بقدر ما يحتاج إلى تدخل فعلي لإيقاف آلة الحرب غير الشريفة، التي لم تكتف بالقضاء على النساء والشيوخ، ولكن هجمت بوحشية لتغتال براءة الأطفال. غير أن موقف الصمت العاجز يفرض على الوعي الحائر هذه الوقفة التأملية الدارسة لأسباب الهزيمة النفسية وشيوع روح اللامبالاة تجاه ما يحدث للعرب عموما وللفلسطينيين على وجه الخصوص.

لا يخفي أن هناك اعتبارات سياسية وتاريخية معقدة يمكن أن تفسر موقف الحكام، وهي مسألة تخص علم السياسة، لكن يظل موقف الشعوب، العربية بخاصة، هو الذي يحتاج إلى دراسة من نوع آخر. دراسة فلسفية، فينومينولوحية، تتعلق بالفرد والمجموع، وتبحث في الكيفية التي تأسس بها المفهوم في الوعي، أي حضور القضية في العقل العربي الجمعي.

ولما كان البحث الفينومينولوجي يستوجب البدء من الذات، وتحديدا من اللحظة التأسيسية التي خبر بها الوعي موضوعه، فإننا سنبدأ من الأنا، ولتكن الذات الكاتبة، أو الساردة، هي موضوع هذا البحث.

وبهذا المعنى، أجد لزاما علي أن أعود إلى سنوات حياتي الأولى عندما كنت في الصف السادس الابتدائي وسمعت مدرس الحساب، الذي كان يدرس لنا المواد الاجتماعية! يتهكم قائلا: "فلسطين.. أولها فلس وآخرها طين". وكنت قد سمعت عن فلسطين والقضية الفلسطينية من قبل من خلال التلفزيون والإذاعة المدرسية، لكني كنت أصغر من أن أفهم أبعاد القضية، فظلت الصورة في وعييّ ضبابية. وربما لهذا السبب تفاعلت مع الدعابة اللغوية الممجوجة بالابتسام، لكني، مع ذلك، حاولت أن استنبط معنى القضية من التحليل اللغوي الهزلي الذي قدمه المدرس خفيف الظل! وفهمت أن المسألة ربما تتعلق بالأمور المالية للدولة وكونها أفلست فانحدر بها الحال.

وأذكر أن السنوات الست التالية، أي من الابتدائية وحتى الجامعة، لم ندرس القضية الفلسطينية بنحو يمكنه أن يعمق القضية في وعينا الناشئ، فلا أذكر سوى وعد بلفور وحرب ٤٨، أذكرها كأحداث تاريخية كانت تستوجب الحفظ من أجل الامتحان، في الوقت الذي كان فيه التركيز على أسباب الحملة الفرنسية، التي في مقدمتها إقامة مستعمرة فرنسية في الشرق، وكذا أهداف ثورة يوليو، والتي كان في صدارتها إقامة جيش وطني قوي. وهي، في المجمل، دروس تاريخية تعكس حقيقة العلاقة المتهافتة بين العرب والغرب، التي تعبّر عن ضعف الأنا وقوة الآخر. ولم تكن من أهمية لدرس دون آخر إلا بدرجة احتمالية طرحة كسؤال في الامتحان! لكن تظل التربية السياسية غائبة عن المنهج الدراسي الذي يأبى إلا أن يجعل التربية قاصرة على الأخلاق الفردية دون السياسة التي تمس قضايا المجتمع والأمة العربية والإسلامية بعامة. كما أن مادة التربية الوطنية التي كانت تُعرف بالتربية القومية كانت عبارة عن كتيب صغير لا يتم شرحه في الفصل ولا يُضاف إلى المجموع في نهاية العام مثل التربية الدينية في مفارقة تستحق التأمل!

وفي ظل غياب هذا الوعي أذكر أن صورتي نابليون بونابرت وكليبر كانتا معلقتين على الحائط في الفصل السادس الابتدائي، وسألتنا مدرّسة العلوم عن رأينا في هاتين الشخصيتين: هل نحبهما أم نكرههما؟ صمت الطلبة ولم يستطع أحد أن يجيب عن السؤال غير التقليدي المفاجئ، وهممت برفع يدي لأقول أني أحبهما لأنهما بطلان، وكان هذا هو الاعتقاد الذي ترسخ لدي لأن الصورتين كانتا بالزي العسكري. غير أن أحد الطلبة سبقني برفع يده، وأجاب بأنه ينبغي علينا أن نكرههما، لأنهما من المستعمرين. وهنا أفقت على تلك الحقيقة المباشرة التي درستها ضمن الأهداف الاستعمارية للحملة الفرنسية،  وتبخرت في لحظة أمام التعبير الفوتوغرافي الكاذب عن حقيقة الشخصيتين.

لكني تساءلت فيما بعد، لماذا صورتي نابليون وكليبر، زعماء الحملة الفرنسية، على الحائط بجوار صورة عمر مكرم، الشخصية الوطنية المعروفة،

 ولم أعثر على إجابة مقنعة عدا كون الأمر لا يعدو أن يكون مجرد ممارسة للون من النشاط المدرسي يلتزم به الطلبة والمدرسون دون سياق فكري أو عقيدة سياسية يمكنها أن تميز بين ما يستحق أن يـُعلق على الحائط وما لا ينبغي أن يُعلق.

غياب التربية السياسية والوطنية جعل الوعي لدي، وبدرجة ما لدى جيلي، يتجه إلى موضوعات أخرى بدت أكثر جاذبية ومناسبة للسن الصغيرة التي كنا عليها وقتها مثل الأدب والفن والرياضة. فأذكر أني كنت لا أقرأ من جريدة الأخبار التي دأب أبي، رحمة الله عليه، على شرائها إلا الصفحة الثانية التي كانت تحتوي على برامج التليفزيون والكلمات المتقاطعة وأبراج الحظ، وكذا صفحة الرياضة خاصة ما تعلق بكرة القدم، بالإضافة إلى فقرة "نص كلمة" التي كان يكتبها الكاتب الساخر أحمد رجب، وكاريكاتير مصطفى حسين ومقال مصطفى أمين في الصفحة الأخيرة، وكلها مواد لا تمس الحياة السياسية إلا مسا خفيفا  من بعيد.

ويمكن أن يقال الشيء نفسه فيما يتعلق بقراءاتي الحرة في تلك السن، فبالرغم من أني كنت قارئ نهم إلا إن قراءتي كانت تقتصر على كل ما هو غريب ومثير مثل الروايات البوليسية وكتب السحر والخيال العلمي، كما كان كتّابي المفضلين هم أنيس منصور ومصطفى محمود ثم زكي نجيب محمود بعد ذلك، وفي كل الأحوال أنت لا تجد لدى هؤلاء ما يغذي لديك الوعي السياسي، أو قل أن اختياراتنا، وربما اختيارات المكتبة المدرسية، ومراكز الشباب التي كنا نتردد عليها لم تكن تتجه إلى ما يكتبه هؤلاء في السياسة وقضايا الأمة!

وبالرغم من أن التليفزيون كان يمثل أداة مهمة لنقل المعرفة السياسية إلا إننا لم نكن نهتم سوى بالأفلام والمسلسلات ومباريات الكرة، وكانت نشرة الأخبار بمثابة الجملة الاعتراضية البغيضة التي تلي مسلسل المساء وتسبق فيلم السهرة! هذا فضلا عن أن البرامج الحوارية السياسية كانت ثقيلة الظل، ولم تكن من الجاذبية بحيث نجلس أمامها طويلا.

اختلف الأمر في الجامعة، لكنه لم يختلف كثيرا، فقد تحولت القضية الفلسطينية، من خلال الأسر الطلابية، إلى صور مفجعة تنقل ما يحدث في فلسطين من اعتداءات سافرة من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، وإلى شعارات تندد بالأحداث وتطالب المسؤولين، في الداخل والخارج، بالتدخل العسكري. لم يختلف الأمر كثيرا لأننا دخلنا إلى الجامعة بوعي سياسي وقومي متهافت، وكانت النتيجة أننا كنا نستقبل تلك الصور والشعارات بنوع من التعاطف الوجداني اللحظي، الذي ما كان يلبث أن يزول خلال دقائق قليلة، بعدها نواصل حياتنا اليومية وكأن شيئا لم يكن!

وبهذا المعنى كان الوعي متقلبا، يروح ويجيئ وفقا لدرجة سخونة الأحداث، حدث ذلك في الانتفاضة الأولى عام ١٩٨٧، التي عُرفت بانتفاضة الحجارة، والانتفاضة الثانية عام ٢٠٠٠، التي عُرفت بانتفاضة الأقصى. ففي كل مرة كان يخرج الطلاب باللافتات، وتذيع الفضائيات أغاني فيروز، وتتراوح المواقف السياسية العربية، بل والدولية، ما بين الشجب والمطالبة بضبط النفس، ويعود رجل الشارع للمطالبة بالتدخل العسكري. وفي ظل شعور عام بالضعف والعجز، يتم طرح السؤال المحرج حول حجم قوتنا العسكرية الحقيقية مقارنة بقوة السلاح الإسرائيلي!

وأذكر أن الرئيس مبارك خرج ذات مرة في وسائل الإعلام، وقال، معلقا على وقفة الشباب بالجامعات ومطالبتهم إعلان الحرب على إسرائيل، إنه يقدر هذا الموقف، ولو كان في نفس مكانهم لاتخذ الموقف نفسه وطالب بالحرب، لكنه كرجل دولة في موقع المسؤولية لا يستطيع أن يتخذ مثل هذا القرار بسهولة، خاصة أنه رجل عسكري ويفهم معني دخول البلاد في حرب.

وتزامنا مع هذه المرحلة، الثمانينيات والتسعينيات، وحتى بداية الألفية الثالثة تحولت القضية الفلسطينية، في الوعي، من الشعارات والوقفات الاحتجاجية إلى موضوع فني، عندما بدأنا نقرأ اشعار محمود درويش ونستمع إلى أغنيات فيروز الوطنية، ونشاهد كاريكاتير ناجي العلي وشخصيته الأيقونية "حنظلة". وفي هذه المرحلة، كما المراحل الأخرى، لم تقربنا هذه الأعمال من القضية الفلسطينية بقدر ما أبعدتنا، لأننا، وفي مفارقة لافتة، لم نكن نتفاعل مع القضية قدر تفاعلنا مع العمل الفني، أي أننا كنا نتلقى الأحداث، رغم بشاعتها، بوعينا الجمالي لا السياسي، لأننا تربينا على الأول أكثر من الأخير.

وفي هذا السياق، ينبغي أن نلاحظ أن كل الوسائل التي كان من المفترض أن تقربنا من القضية كانت بمثابة المسافات التي أبعدتنا عنها، ما جعل الأحداث التي تدور في الأراضي المحتلة مسألة قائمة على هامش الوعي. ففلسطين بعيدة في الزمان لأنها صارت مسألة تاريخية، وبعيدة في المكان لأننا لا نعيش تحت القصف، وإنما تحت أصوات الأغاني الوطنية والتصريحات السياسية المؤدلجة!

وبقدر بعد هذه المسافات كان الوعي العربي يعيش متفرجا تحت مظلة كاذبة من الشعور بالأمان. وبقدر هذه المسافات كان الوعي العربي يتعامل مع القضية الفلسطينية في نسختها المعاصرة، في الألفية الثالثة، كريموت كنترول معطوب، لا يحرك ساكنا مهما ضغطت على أزراره! ساعد على ذلك انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي حولت القضية إلى أيقونة تاريخية وجعلت النضال العربي، من أجل القضية، رمزيا. فيكفي أن تضع على بروفايلك صورة للمسجد الأقصى أو كوفية لفلسطين حتى تشعر أنك قمت بواجبك تجاه القضية الفلسطينية، بل تجاه القصف والحصار والقتلى الذين يتساقطون يوميا بالمئات!

بعد طوفان الأقصى الذي وقع في السابع من أكتوبر، كان رد الفعل الإسرائيلي عنيفا جدا، ولا إنسانيا إلى أبعد الحدود، لكن الوعي العربي، العاجز دوما عن الفعل، ابتكر طرقا ملتوية للتعبير عن تضامنه مع القضية الفلسطينية، وهي طرق تحقق له راحة الضمير وتنقذه من وطأة الشعور بالذنب، دون أن يدفع فاتورة الإخلاص للقضية الفلسطينية. وكانت استراتيجية هذا الوعي في ذلك السياق هو نقل المعركة من أرض فلسطين إلى ساحات التواصل الاجتماعي، أي تحويل نضال الرصاص والدم إلى معارك كلامية، وتوجيه سهام النقد إلى أعداء وهميين بدلا من توجيهها إلى العدو الحقيقي!

وضح ذلك في الحملة التي شنها المصريون على محمد صلاح، نجمهم الساطع في سماء الكرة الإنجليزية، ومطالبته باتخاذ موقف مما يحدث في غزة، واستمرت الحملة أياما، وفي ظل صمت صلاح أمام الضحايا الفلسطينيين الذين يتساقطون كل ساعة، بدا الأمر سخيفا، لأن الوعي العاجز جعل القضية الفلسطينية كلها مرهونة بكلمة من لاعب كرة لا يجيد سوى التسديد على المرمى! ولتأكيد هذه الأهمية وسلبها من صلاح في الوقت نفسه عمل الغيورون على القضية (ظاهريا)، الراغبين في التخلص من عقدة الذنب، على استدعاء مواقف ايجابية لنصرة القضية من قبل لاعبين آخرين، مثل "أبو تريكة" و"رونالدو"، بل إن الأمر وصل إلى حد الاستشهاد بموقف لممثلة أفلام بورنو تبرعت بأموالها من أجل نصرة القضية!

ولأن المشهد عبثي في مجمله، خرج صلاح عن صمته ليسجل فيديو مفتعل، يخلو من الروح، ومن خلال صورة داكنة وأداء آلي، يتحدث بكلمات محايدة لا تدين أحدا، فقط تندد بالعنف من قبل الطرفين وتطالب بضبط النفس. وهو الأمر الذي استفز الداعمين للقضية على الفضاء الافتراضي، ودفعهم للقول " ليتك ما تكلمت"! بمعنى أن المسألة لم تكن أن يتكلم صلاح، لكن أن يتكلم بنحو ما يريد هؤلاء. والحجة أن كلمته مسموعة، بحكم شهرته العالمية، وبهذا المعنى يمكن أن يكون معبرا عن صوت الشعوب العربية.

 والحجة هنا منطقية ومقبولة، غير أن الصورة تتضح أكثر عندما يسجل باسم يوسف مداخلة تليفزيونية مع الإعلامي الانجليزي بيرس مورجان وينجح في إفحامه بأسلوبه الساخر، وهنا يهلل العرب، ويتم الاحتفاء بالمداخلة على مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها نصرا مؤزرا للقضية الفلسطينية وللعرب بعامة. ومنذ هذه اللحظة يتحول باسم يوسف إلى بطل، و تنتشر مقاطع فيديو تصور باسم في صالات الجيم وهو يؤدي تمارينه الرياضية ببراعة، بعد أن تم نقل الصراع من الأرض الحقيقية (المحتلة) إلى العالم الافتراضي، وصار النصر يقاس بالقدرة على إفحام الخصوم على شاشات التلفزيون والموبايل، وليس في ساحات الحرب الدائرة فوق رؤوس الفلسطينيين!

ويعود المنطق نفسه للظهور، أن باسم شخصية عالمية وأن كلمته ستصل إلى العالم الغربي وهي مسألة تعد مكسبا للقضية في حد ذاتها، لكن الأيام التالية تكشف عن زيف هذا المنطق عندما يقرر المذيع الانجليزي استثمار النجاح الذي حققته مداخلة باسم في البرنامج، والتي لم تتعد الدقائق، ليشرع في تقديم حلقة كاملة حول القضية الفلسطينية، تتجاوز الساعتين بالاتفاق مع باسم يوسف. يصول فيها الأخير ويجول لتحقيق مزيد من المشاهدات. ويستمر باسم في دعمه للقضية بأسلوبه الاستعراضي عندما يشارك في حفل يرقص فيه رقصة الدبكة وهو متشح بالعلم الفلسطيني! في إشارة إلى أن البعد الرمزي للقضية هو السمة الغالبة على الوعي العربي.

فالوعي العربي يتعامل مع القضية من خلال استراتيجية خاصة يمكن اختزالها في مسألتين: البحث عن بطل رمزي، ومعركة افتراضية يمكن أن تُدار بملابس النوم! فنحن دائما في حالة بحث عن بطل للاحتفاء به أو نذل كي نصب جام غضبنا عليه، بعد أن تطهر الوعي من الذنب، وعرف طريقه نحو النضال الآمن. تأكد ذلك في واقعة اعتذار الممثل محمد سلام عن مسرحية كان من المقرر عرضها في السعودية، تضامنا مع فلسطيني غزة، وفي المقابل وقوف الممثل بيومي فؤاد على المسرح في الرياض للرد على موقف سلام بأنه لم يأت للإضحاك ولا لجمع المال، لكن من أجل تقديم فن! فيكفي أن تحتفي بموقف سلام وتكيل التهم لشخصية فؤاد حتى تشعر بأنك أديت واجبك تجاه ما يحدث في غزة!

وفي خطوة أخرى يتم استخدام القضية لأغراض سياسية. وهي مسألة ليست جديدة على مستوى الحكومات، لكن ربما صارت كذلك على مستوى الشعوب. حدث ذلك في الانتخابات الرئاسية في مصر، حيث روج المؤيدون إلى مقولة أن الرئيس حمى البلاد من التورط في حرب مع إسرائيل، بينما روج المعارضون لمقولة أن عدم وصول المساعدات لمنكوبي غزة تم بالتواطؤ مع أمريكا وإسرائيل لاستكمال مشروع الإبادة الجماعية. والمسألة برمتها إنما تعني أن القضية لم تعد غاية في ذاتها بقدر ما أصبحت وسيلة لأغراض أخرى، وأن وعي رجل الشارع العربي لم يعد مهموما بالقضية الفلسطينية بنحو يتناسب وحجم الكارثة، لهذه الأسباب لم تشهد العواصم العربية مسيرات احتجاجية كتلك التي شهدناها، وما زلنا، في العواصم الأوروبية!

الوعي العربي، في التحليل الأخير، هو وعي مستلب سياسيا، بحيث لا تجده إلا غارقا في همومة اليومية، واهتماماته السطحية التي لا ترسخ إلا لوضعيته المستلبة، المهادنة للواقع، المستسلمة للتكرار البغيض، الذي لا يضيف إلا مزيدا من القهر والمعاناة، يؤكد ذلك ما حدث بعد الهدنة القصيرة التي توقفت خلالها آلة الحرب.

بعد الهدنة عاد القصف الإسرائيلي مرة أخرى تجاه سكان غزة بشكل أكثر عنفا، وفي ظل مباركة العالم للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، عاد الوعي العربي المتهافت لاهتماماته اليومية الأكثر سطحية، وعلى رأسها متابعة مباريات الكرة، كأس العالم للأندية بخاصة، وأخبار الفنانين من قبيل طلاق شيرين عبد الوهاب وزواج سامح الصريطي!

حدث ذلك في الوقت الذي ارتفعت فيه نبرة التطبيع مع إسرائيل من قبل بعض الدول العربية مثل السعودية والإمارات، وهب الإعلاميون المصريون، ربما لأول مرة،  للتصريح بأن القضية الفلسطينية تخص الفلسطينيين وحدهم، ما يعني أن المسافة قد اتسعت بين الوعي العربي والقضية الفلسطينية، لتعود محض مسألة رمزية لدى رجل الشارع، يتم اختزالها في شعار "فلسطين في القلب"، وهو شعار يعلقه الناس فوق مركباتهم وداخل محالهم التجارية، لتظل فلسطين في القلب، لكن دون أن يتحول الشعار إلى فعل مؤثر في العالم الخارجي!

***

د. ماهر عبد المحسن

ها هي مقارنة مع (مجموعات وهويات مشابهة)

افريقيا، الهنود، الترك، الأمريك لاتين، الاوربيون!

ان افضل طريقة لمعرفة مدى صلاحية (تسمية عرب) وصحة القول بـ(هوية عربية مشتركة)، ان نجري عملية مقارنة مع  (هويات المجموعات الاخرى) المعروفة في العالم. سوف نكتشف بوضوح كيف ان كل واحد من هذه المجموعات تعاني من نقص بـ(الصفات الهوياتية المشتركة)، وان (المجموعة العربية) هي اكثرها توفرا لصفات الهوية الجامعة:

اولا، مثال قارة افريقيا:

1ـ بالحقيقة ان هذه القارة ، مثل قارة آسيا المتعددة الاقاليم الجغرافية والمجموعات الهوياتية المختلفة عن بعضها البعض بيئيا وبشريا،  فليس هنالك هوية مشتركة بين الصيني والسعودي والسيبيري، رغم انهم من آسيا.  كذلك افريقيا رغم وحدتها الجغرافية الا انها منقسمة الى مجموعتين مختلفين من النواحي البيئية والبشرية:

ـ القسم الشمالي البحر متوسطي: (وادي النيل المصري السوداني) مع بلدان شمال افريقيا المغاربية.

ـ القسم الجنوبي (افريقيا السوداء: جنوب الصحراء): المنفصل جغرافيا وبيئيا عن الشمال بصحارى شاسعة (الصحراء الكبرى) حيث يسود المناخ الاستوائي والغاباتي، والنوع الافريقي الزنجي.

ـ ان هذا القسم الجنوبي، بسبب موانع بيئية: (مثل المناخ الاستوائي وصعوبة تربية حيوانات النقل من خيول وجمال)، ادت الى عدم انبثاق دول كبرى وحضارات كتابية.

ـ  بسبب هذا الضعف العسكري والثقافي عانت هذه الشعوب، خصوصا المطلة على المحيط الاطلسي، من العبودية  في الحقبة الاستعمارية الاوربية، مما ادى الى خلق جاليات من زنوج  افريقيا في الامريكتين الشمالية والجنوبية، مرتبطة عاطفيا وعرقيا بافريقيا السوداء. وهذا الوضع التاريخي العالمي ادى الى تعميق الشعور لدى شعوب افريقيا السوداء بـ(هوية زنجية عالمية: Negritud) كما عبّر عن ذلك مثقفيهم الكبار.  لهذا ليس صدفة انه في جميع انحاء العالم  يفهم من تسمية: (افريقي)، ليس المصري والمغاربي، بل (الزنجي الاسود)، بحيث صار اسمهم الرسمي في امريكا بدلا من (زنوج): (افريقي امريكي: African Americans).

ـ من كل هذا، فأن العلاقة بين القسمين الشمالي والجنوبي لقارة افريقيا، هي علاقة جغرافية اسمية وليس (هوياتية)، اشبه بعلاقة عرب آسيا مع باقي شعوب الهند والصين واليابان.. الخ.. أي يصح الحديث عن مجموعتين بهويتين  مختلفتين في قارة افريقيا: المجموعة العربية في الشمال: (بلدان النيل والمغاربية)، والمجموعة الزنجية السوداء في الجنوب. ([1])

ثانيا، مثال (دولة الهند)، و(شبه القارة الهندية):

من المعلوم ان (اسم الهند) يطلق على (الدولة)، وايضا على (شبه القارة) التي تشمل سبع دول، اكبرها الهند وباكستان وبنغلادش (الخارطة مرفقة). هذه معلومات اساسية بخصوص (اسم وهوية الهند):

1 ـ بالنسبة لدولة الهند نفسها، فأن الناطقين باللغة الهندية فقط 47% من السكان، ثم عدة قوميات ناطقة بلغات اخرى: (تامول وبنجاب وبنغال.. الخ..).

2ـ لكن (العقيدة الهندوسية) هي الجامع الاكبر لاقوام (دولة الهند)، إذ يعتنقها 80% ، اما باقي بلدان (شبه القارة) مثل باكستان وبنغلادش، فهي مسلمة.

3 ـ  هذه معلومة مهمة: ان (الزعيم غاندي)، مؤسس الهند الحديثة، ليست الهندية لغته الاصلية رغم انها لغته الوطنية الثقافية، بل (اللغة الغوجاراتية) التي ينتمي الى مجموعتها، وحتى كتاباته بها، لكنه على (الديانة الهندوسية) ايمانا وتطبيقا.(عن الهند)([2])

ثالثا، مثال (منظمة الدول التركية):

وهي تجمع سبعة دول: تركيا وآذربيجان مع خمسة دول من آسيا الوسطى (الخارطة):

1 ـ  هذه الدول تتكلم عدة لغات مختلفة، لكنها ضمن:(عائلة اللغات الاتراكية: 35 لغة)، بعضها متشابهة مثل (اللغات الاوغزية: الآذربيجانية والتركية والتركمانية والتترية)، وبعضها كاختلاف العربية عن السريانية، مثل (الاوغورية والاوزبكية، والكازخستانية..).

2ـ كذلك هي تستعمل انظمة كتابية مختلفة: السيريلية الروسية واللاتينية والعربية.

3ـ في مجموع هذه البلدان، هنالك حوالي 20 % من السكان يتكلمون لغات خاصة بهم بعيدة تماما عن (العائلة الاتراكية) ، بنسب مختلفة، مثل: الروسية والكردية والعربية، وغيرها.. بل ضمنها (دولة هنغاريا الاوربية) المختلفة تماما جغرافيا ودينيا ولغويا عن (الاتراك)، ولمجرد ان (لغتها) مرتبطة من بعيد بالتركية: (عائلة اللغات الأورالية – ألالتائية).)

4ـ اكثر من 80% منهم (مسلمون) مع اقليات مسيحية مثل الروس. كذلك (هنغاريا) كلها مسيحية.

5 ـ غالبية هذه الدول غير مترابطة جغرافيا، ولا يجمعها غير التشابه اللغوي. ومنقسمة عموما الى اقليمين جغرافييين منقطعين تماما عن بعضهما بدولة ايران وبحر الخزر: (بلدان آسيا الوسطى)، ثم (تركيا وآذربيجان وقبرص التركية).

6 ـ ان هذه القطيعة الجغرافية، ادت طبيعا الى ضعف (الرابطة التاريخية) بسبب حصول الهجرات الكبرى منذ حوالي الف عام، للـ(القبائل التركية المسلمة: السلاجقة والعثمانيون)  من (آسيا الوسطى) الى (أذربيجان) والى (الاناضول: تركيا الحالية)، لمواجهة التهديد المسيحي الصليبي والبيزنطي. ([3])

رابعا: مثال امريكا اللاتينية

وهي  شعوب (قارة امريكا الجنوبية والوسطى)(الخارطة):

1ـ تحمل اسمها: (لاتينية) لانها تتكلم بلغتين لاتينيتين: (الاسبانية والبرتغالية) بالاضافة الى المذهب الكاثوليكي(اللاتيني).

2ـ لكن هنالك بجانب الاسبانية والبرتغالية، عدة لغات مهمة لـ(شعوب الهنود الحمر). في عدة دول، بالاضافة الى لغات اوربية متداولة بصورة محدودة: الانكليزية والهولندية، كذلك العربية التي ينطق بها عدة ملايين.

3ـ علما بأن اسم (امريكا) قد فرضه المستعمرون الاسبان والبرتغال تيمنا بالمكتشف الثاني بعد(كولمبس)، القبطان الايطالي (أمريكو فسبوتشي: Amerigo Vespucci: 1497).

4ـ صحيح ان هنالك الرابطة الجغرافية (في قارة واحدة) رغم الموانع الطبيعة الكبيرة بين البلدان: (غابات الامازون وسلاسل جبال)، لكن بالحقيقة هنالك اشكالية جغرافية داخلية مهمة: ان هذه القارة تمتد طوليا بين عدة اقاليم مناخية متناقضة جدا:  خط الاستواء الساخن شمالها، الى القطب الجنوبي المثلج جنوبها. وهذا يعني الاختلاف الكبير بين شعوب القسمين من جميع النواحي الثقافية والنفسية، رغم المشترك اللغوي التاريخي.

5ـ ان شعوبها تشترك بالتاريخ الشامل في مرحلتيه: الاولى القديمة السابقة للغزو الاوربي: (تاريخ من اطلق عليهم جزافا تسمية (هنود حمر) ودولهم القديمة: (المايا والانكا والازتك). ثم التاريخ الحديث مع الغزو الاوربي في القرن 15، الذي ارتكب عمليات ابادة جماعية كبرى حربية ووبائية ضد الشعوب الاصلية. وقد احتاجت الكنيسة الكاثولية حوالي القرن كي تقر بأن (الهنود الحمر) بشر وبتوجب نشر المسيحية بينهم.

6ـ انها تتكون من ثلاث مجموعات عرقية مختلفة تماما من الناحية التاريخية والاصل الجغرافي: الاوربيون الذين نزحوا بعد الغزو (حوالي 43%)، ثم (الهنود الحمر وهم السكان القدماء)، ثم (الزنوج) الذين جلبوا كعبيد من قبل الاوربيين.  وبين الجميع هنالك ايضا(المختلطون من هذه الاعراق). ([4])

خامسا ـ مثال قارة اوربا

1 ـ تشترك في جغرافية قارة واحدة اسمها(اوربا) وهو اسم اشاعه اليونان من اصل فينقي: (غوربا: الغرب: منطقة الغروب)..

2ـ مع اختلاف كبير جغرافي وبيئي بين القسمين الغربي والشرقي من القارة، ادى تاريخيا الى انقسام (ديني ولغوي ومصالحي) بينهما: (اوربا الغربية: الكاثوليكية والبروتستانية، واللغات الجرمانية واللاتينية)، وارتباط غالبيتها بـ(الاتحاد الاوربي)، ثم  (اوربا الشرقية: الارثوذكسية، واللغات السلافية). وهذا الانقسام سبب العداء التاريخي لـ(روسيا) بسبب موقعها كمصد طبيعي يمنع تمدد الغرب نحو شرق اوربا وآسيا.

3ـ منذ اكتشاف امريكا في القرن 15 راح يتفاقم الانقسام بين القسمين الشرقي والغربي، بعد تعمق انتماء (اوربا الغربية) الى (امريكا الشمالية) ثقافيا وسياسيا وتعاطفيا ومصالحيا، تحت اسم: (العالم الغربي).

4 ـ ان شعوب اوربا لا تشترك بلغة واحدة بل بعشرات اللغات المختلفة، مع نظامي كتابة لاتيني وسيرلي. ولكنها متفقة اكثر واكثر على استخدام الانكليزية لغة الثقافة والتداول والتفاهم.

5 ـ انها متفقة تقريبا على ان جذورها الثقافية تعود الى التاريخ الحضاري(اليوناني ـ الروماني) وهو التاريخ الاوربي الاول. ثم الحقبة المسيحية في القرون الوسطى. ولا زالت المسيحية بطوائفها، هي الديانة الغالبة.

6 ـ ان شعوب اوربا تتكون من نوعين(جنسين) من البشر: النوع الشمالي الاشقر، والنوع الجنوبي البحر متوسطي الحنطي وغلبة المختلط بينهما. رغم اصرارهم وخصوصا في الوقت الحالي على الادعاء الاستعلائي العنصري بتمثيلهم الاوحد لـ: (النوع الابيض) واعتبار جميع الشعوب الاخرى:(ملونين)، رغم انهم هم الملونون بالشقار والحمار والسمار!؟

7 ـ رغم التداخل التاريخي والميراثي والديني، الا ان شعوب اوربا طيلة تاريخها عاشت بينها حروبا كارثية دينية وعرقية وطبقية ابادت مئات الملايين من الاوربيين، وآخرها واهولها: الحربين العالميتين.

8ـ ان شعوب اوربا الغربية خصوصا، تتفاخر بان بلدانها معقل انبثاق الحضارة الغربية الحديثة، وانهم (مع امريكا الشمالية) لا زالوا ومنذ عدة قرون يتحكمون في باقي العالم.([5])

***

المجموعة العربية وصفات هويتها المشتركة

الامثلة المذكورة اعلاه، تساعدنا على المقارنة والاجابة على هذه الاشكالية المصطنعة، من خلال تحديد (المشتركات) بين هذه (الشعوب العربية) التي تسمح لنا بالقول بأنها بـ(هوية جماعية مشتركة: عربية):

1 ـ لأنها تجتمع بجغرافية (ارضية: منبسطة عموما وبوادي مترابطة من الجزيرة العربية وسيناء حتى الصحراء الكبرى المغاربية. كذلك (مناخ شبه صحراوي)، مع ضفاف مشتركة على (البحر المتوسط) ممتدة مفتوحة (عكس ضفاف اوربا المتعرجة والمتقطعة)، تمتد شبه مستقيمة من (اسكندرونة سوريا) حتى (طنجة المغرب).

2ـ أي ان بلدان هذه (المجموعة العربية)  جغرافيا وبيئيا مشتركة ومتداخلة ولا توجد بينها موانع كبرى وانقطاعات. فمثلا لو ان(قناة السويس) كانت موجودة منذ التاريخ القديم، يقينا لحصل انقطاع جغرافي تاريخي بشري كبير بين القسمين بسبب صعوبة تنقل القوافل والجيوش والاختلاط  والتجانس السكاني والثقافي بين المجموعتين ألآسيوية المشرقية والافريقية المغاربية.

3 ـ  لانها تتمتع بشرط مهم جدا وحاسم تفتقده كل التجمعات المذكورة اعلاه: اللغة العربية الواحدة، هي اللغة الرسمية والثقافية الاولى والشعبية والعائلية لاكثر من 80% من الشعوب العربية.  مع وجود نسب معينة من الناطقين بلغات مختلفة اهمها لغات: الاكراد والبربر(الامازيغ)، مع السريان والتركمان  والارمن، وغيرهم..

4 ـ لأنها بغالبية دينية كبرى: (مسلمة)، مع نسب مسيحية ويهودية.

5ـ لأنها جميعها تشترك في التاريخ  الحضاري العربي الاسلامي،  الذي لا زال حاضرا وحيا لدى هذه الشعوب ونخبها ودولها.

6 ـ لأنها تنتمى ايضا الى تاريخ حضاري اقدم: (الحضارة الشرقية الاولى: مصر والشام والعراق، مع قرطاجة) والاساس الثقافي واللغوي الاقدم: (السامي ـ الحامي). لكنها لاسباب عديدة و(سوء فهم قومي وبلداني) لم تبادر النخب العربية حتى الان باعتبار هذه الحقبة القديمة، هي اساسنا التاريخي الحضاري الاول السابق والمرتبط بالاسلام والعربية، مثلما اتفقت الشعوب الاوربية  باعتبار: (التاريخ اليوناني الروماني) هو جذورها وتاريخها الحضاري الاول، قبل المسيحية.

7ـ لأن جميع الشعوب العربية تشترك بالتكوين العرقي الخلقي الشكلي المزيج والمختلط الى حد كبير من مختلف الانواع البشرية: الحنطية والسمراء الافريقية والشقراء والاسيوية.

8ـ لأن  هذه الشعوب العربية، مهما اختلفت وتآمرت واغلقت الحدود بينها، الا انها طيلة التاريخ لم تشتعل بينها حروبا كارثية طاحنة تبيد الملايين،  مثلما حصل في التاريخ الاوربي. حتى الصراعات الطائفية(بين الشيعة والسنة، المسيح والمسلمين) لم تبلغ حدتها وعدد ضحاياها عشر العشر ما حصل في اوربا الغربية بين(البروتستان والكاثوليك: حرب الثلاثين عام) وعمليات الابادة ضد اليهود: (الهولوكوست)

9ـ لأن هذه الشعوب العربية في المشرق والمغرب، تشترك بمصالح عديدة تفرض عليها (التجمع وتقوية هويتهم المشتركة) لمواجهة المخاطر التاريخية التي تواجهم جميعا بدون استثناء: العداء التاريخي الجغرافي (الاوربي: ضفة البحر المتوسط المقابلة)  ومشاريع السيطرة والاستحواذ، منذ حقبة الاحتلال اليوناني ثم الرومان وحروب قرطاجة قبل اكثر من الفي عام، وحتى الآن.  وما تأسيس (اسرائيل) الا تعبير عن هذا الهوس الاوربي الممزوج بروح الجشع والسادية.([6])

10ـ هذه الشعوب في طريقها للتتخلص من الفهم(العرقي القومي العروبي وغيره)، واعتبار الروابط بينها اكبر واقدم من حكاية الاصول العرقية والجينية وغيرها، بل هي: روابط جغرافية تاريخية ثقافية مصالحية تعاطفية ووو..

11ـ بما انه لا توجد حاليا (دولة اتحادية تجمعها) فمن الخطأ الحديث عن:(امة عربية ووطن عربي) بل هناك: (عالم عربي) يتكون من(امم عربية) بعدد دولها، وكل (امة) تتكون من قوميات وطوائف خاصة بها.  كما هو حال(امم اوربا) التي قد تصبح: (امة اوربية واحدة) لو استمرت بتوحدها الى حد تكوين:(الولايات المتحدة الاوربية) على غرار(الامة الامريكية).

12ـ من المهم جدا التذكير: ان الانتماء الى(الهوية العربية الجامعة) يجب ان يكون جزءا من الانتماء الى(الهوية الانسانية الجامعة) لكل شعوب الارض، المتجنبة للعنصرية والاستعلاء.

اخيرا، يتوجب تذكير ذوي الخطاب العنصري ضد العرب: انتم تستكثرون على (العرب) انهم نشروا العربية والتعريب بين شعوب العالم العربي الحالي، لكنكم تتقبلون قيام الاوربيين الغربيين بتغريب قارات امريكا واستراليا وفرض لغاتهم  وثقافتهم  ودينهم على شعوب الارض، بواسطة الحروب والعبوديات والابادات.

***

سليم مطر ـ جنيف

...........................

لمن يرغب بمطالعة دراستنا مع الخرائط التوضيحية العديدة، والمصادر المفصلة، فانها في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/hide-feker/162-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D8%B4%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%B3%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%A8-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9.html

المصادر:

تماشيا مع الدور الكبير للعالم الرقمي(الانترنت) فأننا تسهيلا للقارئ، نسجل له المصادر التي يمكن بسهولة مطالعتها على شاشته:

[1] ـ عن موضوع افريقيا، ابحث عن: إفريقيا جنوب الصحراء../ سنغور وحركة الزنجية الأفريقية من منظورإفريقي../ أصل كلمة Negro (النسخة kamite) - الأفريكيبري

[2] ـ عن الهند وشبه القارة الهندية وعن غاندي، ابحث عن:

ـ  دولة الهند والهندوسية../ شبه القارة الهندية../ لغات الهند../ لغة غاندي الغوجاراتية

[3] ـ عن موضوع الاتراك، ابحث:

ـ منظمة الدول التركية../ اللغات الاتراكية../ دول آسيا الوسطى.

[4] ـ عن قسم: امريكا اللاتينية، ابحث عن المواضيع المنشورة التالية:

ـ تاريخ امريكا اللاتنية../الشعوب الأصلية في الأمريكتين../عرب أمريكا اللاتينية/ الجرح الغائر لأميركا اللاتينية: صفحات من تاريخ العبودية../الفاتيكان كيان إجرامى دولى.. / معسكرات الإعتقال الكنسية والقتل العرقى../ Catholic Church and the Age of Discovery../ الكنيسة الكاثوليكية وعصر الاستكشاف../ البابا يطلب العفو من سكان المكسيك الأصليين../الكاثوليكية في كندا تعتذر للسكان الأصليين.../ التنوع العرقي للقارة الأمريكية الجنوبية: Demographics of South America/ Diversité ethnique de la population sud-américaine).

[5] ـ عن موضوع اوربا، ابحث عن:

ـ الاتحاد الاوربي../ الحروب الدينية في اوربا../ روسيا، البعبع الدائم لاوربا الغربية: سليم مطر.. /معاداة الروس../لغات اوربا وطوائفها.. اوربا الغربية والولايات المتحدة

[6] ـ عن موضوع (العرب) راجع دراساتنا العديدة  عن العرب، المنشورة في موقعنا:

https://www.salim.mesopot.com/

كثير من الأكاذيب الإسرائيلية والأمريكية صاحبت حرب الإبادة في غزة سواء فيما جرى يوم السابع من أكتوبر أو حول مجريات الحرب أو مسماها (الحرب على غزة) وهو مسمى مضلل وبالتالي هناك حقائق يجب تسليط الضوء عليها والتأكيد عليها وهي:

1- بالرغم مما يتعرض له قطاع غزة من حرب ابادة غير مسبوقة تاريخياً وفلسطينيو غزة الأكثر معاناة الا أنها في الحقيقة حرب على كل الشعب في غزة والضفة والقدس وعلى القضية الوطنية برمتها؛ وهدف العدو من هذا المسمى تعميق الانقسام وتجاهل الحرب الدائرة في الضفة والقدس

2- الحرب على الشعب الفلسطيني لم تبدأ يوم إعلان إسرائيل الحرب على غزة بل هي متواصلة طوال ٧٥ عاما ولو لم يكن هناك احتلال لكل فلسطين وحصار لغزة ما كانت حرب غزة وما بعدها.

3- قطاع غزة وأهله جزء لا يتجزأ من فلسطين: الدولة والشعب ولن تنجح اية تسوية تتجاهل هذه الحقيقة.

4- مقاومة حركة حماس وكل الفصائل مقاومة شرعية للشعب الفلسطيني الخاضع للاحتلال

5- لأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني يخوض قتالاً حقيقياً يكشف أكذوبة الجيش الذي لا يقهر ويؤكد أن إسرائيل قابلة للهزيمة بل وللزوال.

6- المشاركة المباشرة والفعلية لواشنطن ودول غربية في الحرب مّكن العدو من إطالة أمد الحرب والقتال على عدة جبهات.

7- واهم الاحتلال إن اعتقد أنه بمجازره وإرهابه سينهي القضية الفلسطينية وحتى لو تم تهجير سكان غزة والضفة فالمقاومة ستستمر أشد مما كانت؛ حيث انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة منتصف الستينيات من خارج الأراضي المحتلة قبل أن تمتد للداخل.

8- الحرب لم تعد عسكرية في غزة فقط بل توسعت للضفة وتحولت لحرب سياسية أيضاً على القضية والقيادة بهدف إنهاء الصراع كما ورد في (خطة الحسم) التي طرحها المتطرف سموترتش.

9- المجازر في غزة والضفة أنتجت جيلاً فلسطينياً أكثر حقدا وكراهية للاحتلال وأكثر تصميماً على مواصلة النضال.

10- مجازر الاحتلال في غزة والضفة أكدت أن عدونا ليس فقط نتنياهو واليمين الصهيوني بل اليهودية الصهيونية كديانة وعقيدة شكلت المرجعية لكل أشكال الإرهاب والتطرف.

11- جرائم وعنصرية الكيان الصهيوني وممارسات اليمين الصهيوني المتطرف بددت كل فرص السلام في المنطقة وأكدت صعوبة التعايش بين الشعبين بل والديانتين.

12- أسقطت جريمة الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال أوهام التطبيع الذي يصنع السلام لأنها كشفت الوجه الحقيقي لدولة الكيان وأحرجت الأنظمة المطبعة أو على الأقل حدت من اندفاعها نحو التطبيع.

13- بطولات وصمود المقاومة في غزة الصغيرة بمساحتها والفقيرة بإمكانياتها للشهر الثالث يؤكد أن الجيوش العربية لم تحارب بجدية في كل حروبها السابقة بل كانت حروباً تآمرية وخيانية كانت السبب في ضياع فلسطين.

14- أكدت الحرب أن أمريكا هي العدو الرئيس ولا يمكنها أن تكون وسيطاً للسلام.

15- ما زالت واشنطن مسيطرة ومهيمنة على الشرق الأوسط مما يتعارض مع مراهنات وتحليلات البعض على تراجع حضورها لصالح روسيا والصين.

16- هناك كثير من الأمور مازالت خفية وملتبسة سواء المتعلقة بقرار (طوفان الأقصى) أو العلاقة بين حماس الداخل وحماس الخارج أو بمحور المقاومة

17- هزال وتردد المواقف الرسمية العربية يؤكد أن هذه الأنظمة متواطئة وشريكة في العدوان وليس فقط عاجزة.

18- غياب إيران عن المشهد وهي الداعم الأكبر عسكريا لفصائل المقاومة واكتفائها بمناوشات وكلائها في اليمن ولبنان والعراق يطرح أكثر من سؤال حول دورها في الإقليم؛ ونفس الأمر بالنسبة لتركيا وقطر اللتان تتصرفان كمحايدين.

19- صمود المقاومة ورفض الشعب لمخطط التهجير يؤكد عظمة الشعب الفلسطيني وبدد أوهام العدو وأنظمة التطبيع بأن الشعب الفلسطيني استسلم للأمر الواقع وتخلى عن حقوقه الوطنية.

20- حتى لو افترضنا جدلاً أن العدو تمكن من القضاء على حركة حماس أو إضعافها فحماس مجرد فصيل أو حزب والقضاء عليها لا يعني القضاء على الشعب الفلسطيني ومقاومته المشروعة، فالمقاومة ستستمر بحماس أو بدونها

21- الحراك الشعبي في العالم المندد بجرائم الاحتلال أعاد القضية الوطنية للواجهة وأكد أن لا سلام الا بدحر الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

22- للأسف، بالرغم من الخطر الوجودي الذي يهدد حاضر ومستقبل القضية الوطن إلا أنه لم يحدث أي اجتماع وطني للحث قي كيفية مواجهة الخطر والاتفاق على مستقبل القطاع، بل هناك تصريحات تعكس خلافات كبيرة حول الموضوع كتصريحات السنوار وهنية.

23- بالرغم من أهمية المواقف العربية والإسلامية والدولية المنددة بالعدوان وقرارات الجمعية العامة بوقف العدوان إلا أن كل هذه الدول لم تتخذ أي خطوات عملية في مواجهة المعتدي كقطع العلاقة مع الكيان الصهيوني أو مجرد سحب السفير.

24- بالرغم من تراجع الحديث عن التهجير الى سيناء إلا أن دفع حوالي مليون فلسطيني إلى رفح على الحدود المصرية مؤشر خطير.

بعد كل هذه الحقائق أو الملاحظات ما هي سيناريوهات نهاية العدوان ومستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية بشكل عام؟

لا شك أن العدو بجرائمه ألحق أضراراً هائلة في القطاع وقد يفرض معادلة سياسية جديدة ولن يكون القطاع ما بعد الحرب كما قبلها على كافة المستويات وستكون الحياة فيه أكثر قساوة؛ ولكن أهالي غزة مصممون على الصمود ورفض التهجير حالهم كحال أهلنا في الضفة.

ولأن لكل حرب نهاية الا أن نهاية هذه الحرب لا تعني نهاية الصراع ولن تجلب للعدو الأمن والأمان.

بالرغم من عدم معرفة ما هي مخططات العدو الحقيقية جنى الان إلا أن السيناريو المحتمل في حالة فشل التهجير خارج حدود القطاع وفشل مشروع دولة في غزة فقط أن يسحب العدو جيشه من داخل القطاع مع الحفاظ على منطقة أمنية على طول حدود القطاع الشرقية والشمالية

أما مستقبل القطاع وكما نتوقع ونأمل:

1 - صدور قرار أممي ومرابطة قوات دولية وعربية.

2 - أن تدار غزة مؤقتاً من طرف حكومة أو سلطة مدنية غير حزبية؛ مرتبطة بالسلطة والدولة الفلسطينية فيدرالياً بقيادة وطنية عليا مشتركة.

3- ان تكون منزوعة السلاح مقابل التزام دولي بحل عادل للقضية من خلال مؤتمر دولي للسلام.

***

د. ابراهيم أبراش

 

لقد ورثت النخب السياسية التي تولت الحكم في العراق بعد 2003 تراكماً سلوكياً وفكرياً وأنماطاً من الممارسات التي كان يمارسها الرئيس السابق صدام حسين ويستخدمها مع تمتعه بكاريزما عالية مدعمة بقوة وشدة في التعامل وإفراط في الإنفاق من المال العام، حتى أصبح بنظر العراقيين وغالبية الشعوب العربية إمبراطوراً يمتلك كل مقدرات العراق وله حق التصرف بها لوحده دون غيره.

هذا الإرث وغيره من الموروثات التاريخية تحول بدراية أو بدونها الى سلوك لدى كثير من الزعامات السياسية التي تبلورت خلال العقدين الماضيين، وأصبح جزءاً من ممارساتها اليومية في تقليد شخصية صدام حسين أو غيره بوعي أو كشعور انعكاسي وتحصيل حاصل لتراكم تاريخي من الحكم الفردي والشمولي المتكلس في الذاكرة الفردية والاجتماعية، ورغم أن صدام حسين في تاريخنا المعاصر يكاد أن يكون الأكثر تميزاً في هذا السلوك الطاغي في الفردية المطلقة إلا أن جولة سريعة في دهاليز التاريخ القريب والبعيد سنجد فيها المئات من أمثاله في مجتمعات مثقلة بالتخلف وغياب الوعي إلى درجة أن كل ما حدث في العراق وفي العديد من البلدان المتشابهة معه من تغييرات ترقيعية في النظام السياسي لم تزل تلك المتكلسات المتوارثة في التفكير والسلوك، بل ربما زادت اكثر في توالدها منذ تحطيم الأصنام الحجرية التي صنعها الانسان قبل آلاف السنين بديلة لرب يعبده أو قوة يخشاها أو مرجع يعود إليه في انكساراته وهزائمه حتى يومنا هذا، حيث تم استبدال الحجارة بالإنسان في صناعة الأصنام!

هذه الصناعة بحد ذاتها هي عملية بحث عن ملاذ او ملجئ يهرب اليه الفرد والمجتمع من حالة الانكسار للخلاص من التردي المتراكم، ولعلنا نتذكر قصة الحذاء الذي قذفه أحد الصحفيين بوجه الرئيس الامريكي في بغداد وتهافت كل وسائل الاعلام العربية على ذلك الحذاء الحدث الذي حولته خلال ساعات إلى رمز من رموز المقاومة والوطنية، وحولت الصحفي إلى شخصية تكاد تنافس عنترة بن شداد في ذاكرة التراكم الانكساري!

وبجولة سريعة في تاريخ منطقتنا المعاصر نرى أن هزائم الحروب في أربعينات القرن الماضي أفرزت ثورة مصر وزعيمها الرئيس عبدالناصر، كما أنتجت هزائم حزيران عام 1967م صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي، وأخيرا انتجت ماكنة الهزائم بعد اجتياح لبنان وسقوط بغداد العشرات من المنظمات المتطرفة والميليشيات وزعمائها التي تعمل ليل نهار في تخدير شعوب هذه المنطقة وسوقها الى أتون حروب مدمرة وانتكاسات جديدة كما حصل في هزيمة حزيران وحرب الخليج الثانية وسقوط بغداد وتدمير لبنان واخيراً ذبح غزة من الوريد الى الوريد تحت شعاراتهم وعنترياتهم الفارغة التي جاءت كالعادة صدى لتلك الماكنة الإعلامية العوراء التي تستهين بعقول الناس كي تحول تلك الهزائم المخزية الى انتصارات وهمية تشبه ذلك الانتصار البائس في حرب الخليج الثانية وجعله (ام المعارك) بعد تدمير العراق بالكامل، واعتبار تدمير غزة وقبلها لبنان انتصاراً لفرسان الأمة ومجاهديها؟

إن إطلاق وتداول تسمية الرئيس أو القائد على رؤساء مجموعات مسلحة وميليشيات وأحزاب واختزال الشعب أو الأمة فيها، هو بحد ذاته انعكاس لشعور داخلي متأثر جداً بسلوك صدام حسين وأمثاله في التاريخ، وهي أيضاً بداية عملية تصنيع أصنام بشرية وإدامة ثقافتها في بيئة نفسية واجتماعية لم تتغير بإسقاط نظام صدام حسين، وما زالت تعاني من تراكمات نفسية واجتماعية أدت الى الفشل في تكوين دولة ونظام سياسي معاصر تسوده القوانين وأسس الدستور تحت مظلة المواطنة، حيث بدلاً من إحداث تغيير جذري في بنية المجتمع والدولة لجأت تلك الأحزاب والمجموعات والأفراد تحت مطرقة تلك الأنظمة الفاسدة وتراكماتها وبغياب الوعي وتسيّد النظام القبلي والمذهبي وانتشار الفساد المالي والإداري إلى تقزيم الدولة بمجموعات مسلحة وميليشيات تتزعمها شخصيات مافياوية تحولت الى حيتان للفساد الذي ينخر مفاصل الدولة والمجتمع.

لقد اثبتت تجارب الشعوب أن إقحام الدين ورجالاته والقبيلة ورموزها وأنظمتها في تكوين وإدارة الدولة سيربك عملها ويزيد الفجوة بينها وبين بقية مكونات وتوجهات الشعوب، خاصة وان القبيلة كنظام اجتماعي في مجتمعاتنا محل احترام وتقدير له ولرموزه حاله حال الدين وقدسيته، ولذا فالنأي بهما عن الدولة والسياسة سيحفظ لهما مكانتهما ويبعد الدولة من ارهاصات تشابك وتشتت مراكز القرار ومن ثم اضعاف سلطة القانون والدولة واقحام هذين المكونين في الاعيب السياسة واداء الدولة، ولعل في تجارب دول أوروبا وأمريكا واليابان وكوريا دروس تؤكد أن طريق الخلاص يبدأ بالعلم والمعرفة والتربية الحقة وبناء دولة السلام والعدالة والعلم بعيداً عن هذا الإرث المتكلس في ذاكرة وسيكولوجية هذه الشعوب.

***

كفاح محمود

استحوذ الصراع فى فلسطين المحتلة على الاهتمام الإعلامي عالمياً فى نهايات عام 2023، وإن لم يكن الصراع الوحيد، بل سبقه الصراع فى السودان، وقبلهما الصراع الروسي الأوكراني. ثم هناك ما حدث فى الغرب الإفريقي من تداعِي للهيمنة الفرنسية على عدة دول انحازت للمعسكر الروسي سياسياً. وهو ما يجعل كل تلك الصراعات تصب فى المعركة الكبري القديمة والمستمرة بين القطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والقطب الشرقي بقيادة روسيا والصين. وليبدأ عام جديد وفصل مختلف من فصول الصراع الممتد بين الفريقين فى مستهل عام 2024.

9 شهور سوداء

كأنها ولادة متعسرة لجنين سوداني مشوه خارج من بوتقة حرب لم يخسر فيها إلا الشعب السوداني.

تقترب الحرب السودانية من إكمال شهرها التاسع، وقد تحول أكثر من 60% مما تبقي من السودان إلى ساحات حروب، وبدأت المناطق الآمنة للنازحين من ويلات المعارك تتقلص. وبات نحو ثلثي الشعب السوداني معرضين لأخطار المجاعة والمرض، ناهيك عن تعرضهم لمخاطر القتل والنهب والسلب والخطف والاغتصاب. ولتعلن الأمم المتحدة عن تعرض الشعب السوداني لمأساة إنسانية وشيكة، وأن هناك سبعة ملايين نازح سوداني غادروا بيوتهم متجهين إلى المجهول.

آخر الأخبار تتحدث عن سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة (ود مدني) فى الجنوب الشرقي من مدينة الخرطوم بعد انسحاب الجيش منها. وهو الأمر الذي يوسع رقعة الصراع ، ويزيد الانقسامات بين عناصر النسيج الداخلي للمجتمع السوداني. ذلك المجتمع القبلي الذي وصل فيه عدد الحركات المسلحة به إلى نحو 92 حركة، أكثر من 90% منها فى دارفور وكردفان. وبعد نحو 300 يوم من الحرب، اختلفت انحيازات تلك الحركات إما نحو الجيش أو نحو الجنجويد، وإن أعلن أكثر تلك الحركات وقوفه على الحياد.

القطاع الصحي فى السودان يتداعَي، وحتى منظمات الهلال والصليب الأحمر توشك أن ترفع راية الاستسلام بسبب انعدام قدرتها على مواصلة خدماتها فى ظل صراع دموي بغيض ينتهك الأعراف. والمناطق التي اجتاحتها قوات الدعم السريع شهدت عمليات نهب وسرقة واسعة النطاق، وانتشرت مشاهد لسيارات محملة بأكوام من النقود يتم تداولها بين جنود الجنجويد. كما انتشرت أخبار النازحين والمفقودين والقتلي فى الطرقات. كما انتشرت فظائع الاغتصاب وانتهاك الأعراض لدرجة حدوث نقص حاد فى أدوية منع الحمل بسبب الطلب الشديد عليها من جانب ضحايا الجنجويد من نساء السودان!

وما تزال عمليات تدفق السلاح تمثل الخطر الأكبر على تمدد واتساع نطاق الصراع، فحتى لو جلست أطرافه على مائدة المفاوضات كما هو مرتقب خلال أيام أو أسابيع. سوف تبقي شعلة الخلاف متأججة بين مجتمع انقسم على ذاته وتحولت كل مكوناته إلى ميليشيات يحارب بعضها بعضاً، بما ينذر بإعادة تقسيم السودان جغرافياً وسياسياً وعسكرياً. والأخطر من التقسيم أن يستمر الصراع بين الدويلات المقسمة ويستمر التدمير والتهجير حتى يتم تفريغ السودان تماماً من كل مواردها البشرية والطبيعية، وتصبح مرتعاً للقوى الخارجية تتحكم فيها كيف تشاء!

إن الاتفاقات القادمة بين أطراف النزاع فى السودان لن تكون اتفاقات سلام ووقف للحرب بقدر ما ستكون تفاهمات حول تقسيم الكعكة السودانية، وليذهب كل طرف بما كسب! وليكون الشعب السوداني هو الخاسر الوحيد فى أى اتفاق قادم!

إسرائيل تصرخ!

الإعلام الإسرائيلي تحدث فى الأيام الأخيرة عما أسماه انتصارات نوعية لجيش الاحتلال، تمثلت فى اكتشاف نفق كبير شمال جباليا. ثم نفقين جديدين وجدوا بأحدهما خمسة من الأسري قتلي داخل النفق. كما أعلنت إسرائيل تمكنها من اغتيال أحد قادة الحرس الثورى الإيراني فى سوريا. وكل تلك الأخبار تصب فى حالة تصعيدية تشير لتوسيع الحرب بدلاً من إنهائها. بينما يتحدث الإعلام الأمريكي عن الضغط فى اتجاه إنهاء الحرب وبدء المفاوضات قبيل بداية العام الجديد. فأي السيناريوهات أقرب للحدوث؟

هناك أنباء عن ضربات موجعة وجهتها كتائب حزب الله اللبناني ضد مستوطنات ومواقع عسكرية قريبة من جنوب لبنان، بينما الإعلام العسكري الإسرائيلي يتكتم حول حجم الخسائر ومواقع الضربات. وهو ما يشي بمحاولات التحجيم والتعتيم. فى نفس الوقت الذي تسببت فيه تهديدات الحوثيين للسفن الإسرائيلية المارة بمضيق باب المندب ذهاباً وإياباً لوقف الكثير من الرحلات وتحويلها إلى مسارات بحرية وبرية بديلة، وهو ما تسبب فى رفع تكلفة التأمين على جميع الرحلات التجارية المارة بالمضيق. ويبدو أن التحالف الأمريكي الذي تم توجيهه للوقوف فى وجه تهديدات الحوثي لم يفلح فى تحقيق أية نتائج تكتيكية ملموسة، وهو ما يعني تفاقم الوضع  وازدياد التهديدات ضد إسرائيل من جهة اليمن.

لقد أعلن الجيش الإسرائيلي مؤخراً عن استعداده لبدء المرحلة الثالثة من الحرب على غزة. وبدأ تلك الخطوات بسحب لواء جولاني من منطقة الشجاعية، وربما ألوية أخرى من شمال غزة، ليركز أعماله القتالية فى منطقتي الوسط والجنوب. والحديث الآن يدور حول ترتيبات ما بعد الحرب. وأن المطلوب هو تقويض قدرات حماس فى غزة، وإنشاء منطقة معزولة تقع تحت سيطرة إسرائيل خاصة عند المعابر والمحاور الرئيسية، وهو ما يعنى مزيداً من إحكام الحصار حول غزة والمقاومة. غير أن ما يحدث على الأرض يسير فى عكس الاتجاه الذي تخطط له إسرائيل..

الأرقام تؤكد حدوث خسائر حادة للجيش الإسرائيلي على كل المحاور.. هناك أكثر من خمسة آلاف جندى وضابط إسرائيلي سقطوا فى أرض المعركة بين قتيل ومصاب ومعاق. ونحو مليار شيكل خسائر يومية لاقتصاد إسرائيل. وأهالي الأسري ما زالوا يضغطون على حكومة نتنياهو وقادة الجيش لاستعادة أسري فشل الجيش فى استعادتهم بالعمليات القتالية، ولم يعد أمامه إلا استعادتهم من خلال المفاوضات. وربما كانت استراتيجية "هانيبال" لقتل الأسري قائمة فى أعراف الجيش، بعد أن أعلن الأخير عن قتله لثلاثة من الأسري الإسرائيليين عن طرق الخطأ!

ومهما كانت نتائج الحرب، فإن ما بعدها أسوأ بالنسبة لإسرائيل، فالنازحون والهاربون من جحيم الحرب قد لا يعودوا للمستوطنات، وسوف تتعرض حكومة إسرائيل لهزة سياسية كبيرة وستحدث بها استقالات وانشقاقات بالجملة، بخلاف التحقيقات الرسمية التي ستسفر عن انكشاف فضائح وأسرار كثيرة تم التعتيم عليها طوال فترة الحرب.

المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي قادمة لا محالة، لأن إسرائيل تنزف بشدة وتبحث لنفسها عن مخرج. وكلما ضغط دعاة الحرب فى حكومة نتنياهو لمزيد من إطالة أمد المعارك، فهم يستنزفون إسرائيل أكثر وأكثر، ويجعلون المفاوضات القادمة أشد صعوبة على المفاوض الإسرائيلي. وليس عندى أدني شك أن إسرائيل هى الخاسر الأكبر من هذه الحرب.

أمريكا وبداية النهاية

أسابيع قليلة وتبدأ أعنف وأسوأ انتخابات رئاسية أمريكية تحدث فى ظل انقسامات داخلية حادة هوت بشعبية بايدن وحزبه الديمقراطي إلى الحضيض. وعلاقات خارجية هى الأسوأ فى تاريخ الدبلوماسية الأمريكية. والعداء والكراهية ضد أمريكا وسياساتها فى تصاعد مستمر.

يحدث هذا فى الوقت الذي حققت روسيا عدة انتصارات كان آخرها السيطرة على منطقة محصنة شرق أوكرانيا، فى نفس الوقت الذي يقرر فيه الكونجرس الأمريكي تجميد المساعدات المقدمة لأوكرانيا. وربما جاءت انتخابات أمريكا القادمة بتغيرات دراماتيكية فى المشهد السياسي لا فى أمريكا وحدها بل فى العالم أجمع. إذ أن الحديث يجري عن إمكانية عودة ترامب لسدة الحكم، وهو ما قد يعني إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بالمفاوضات وبدء حلقة جديدة من الصراع الأمريكي الصيني، فى ظل تقلص حجم الحلف الأمريكي الغربي مع تزايد كراهية الدول للعنجهية الأمريكية فى مقابل علاقات اقتصادية أسرع نمواً نحو الحلف الصيني ودول البريكس.

لاشك أن عام 2024 سيحمل الكثير من المفاجآت هنا وهناك. وهو ليس عام الحظ بالنسبة لأمريكا ولا إسرائيل.

***

د. عبد السلام فاروق

 

"إذا كانت الحرب تقوم على قضايا معينة، فيجب أن تكون هذه القضايا بالضرورة قضايا عادلة. فلا حرب عادلة من دون قضية عادلة"  ديفيد فيشر

كسٌر العام الميلادي الجاري الذي نودعه بعد أيام قليلة، جدل الاحتيال الأخلاقي والسياسي، الذي يبتدعه الغرب، وينافح عنه بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة. وصار الاختزال النمطي للتدجين بالأساليب الادعائية، مجرد قشرة رقيقة، تجتزؤها فراغات قيمية وإنسانية، سرعان ما ترعوي وسط ركام فظيع من التخرصات التاريخية المليئة بالندوب والآلام والقذارات الممارسة خلال أحقاب وعقود.

فالغرب الديمقراطي، المتفاخر بإنجازات الحداثة والعولمة والتكونولوجيات العالية والحروب السيبرانية المتسارعة، المجاهر بسمو النظام العالمي لحقوق الإنسان والحيوان، والمناصر لقضايا العدالة والسلام والمساواة، هو نفسه، المستعمر القديم، المهيمن على مقدرات الشعوب المستضعفة، المستنزف لثروات بلدانها الثالثية، المستبد بالحكم الأممي المصيخ إلى قالب الفيتو الظالم.. لا ينفعل مع نهضته الفلسفية والعمرانية، في أقرب تصوراتها ومرجعياتها. فقد افتقد روح الأخلاق الأرسطية المنزوعة، المرتبطة بالسعادة الإنسانية، غاية الوجود والعقل والتسامح. بل إنه هدم قيم كانط، المرتكزة على الواجب الأخلاقي والمثالية الإنسية المتبعة للعقل والوجدان.

خلال عقدين من الزمن، ارتكزت بروبجندا الغرب الأخلاقي، على الترويج الإعلامي للأخطار المحدقة بالعالم، على سبيل مواجهة التطرف الديني، ومجابهة التيارات الإسلامية المتحالفة مع المشاريع السياسية المشبوهة، وبرامجها لتزييف حقيقة "الإسلام" و"المسلمين"، فكانت الأحداث الكبرى التي اهتز لها ضمير العالم، هجمات 11 سبتمبر 2001 وما أعقبها من الحروب الإبادية والتخريبية، في العراق وأفعانستان. ثم بزوغ نظرية الربيع العربي عام 2011، التي صارت وبالا وشنارا مأفونا على البلدان العربية، في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا.

صار لزاما علينا، أن نعيد تقييم سؤال الغرب والإسلام، أو في الحد الأدنى، إثارة الاستفهام السيروري المتصل ب: "ماذا يريد منا الغرب؟ أو لماذا يكرهوننا؟"، والذي يؤسس في العمق، لمحاولة استجلاء عناصر التشكيل الحضاري الإسلامي المتجاور مع التشكيل الحضاري الغربي (المسيحي)، وعلاقة ذلك بالتحريض الصهيوني واندغامه في السياسة والاقتصاد الموجهين؟.

هل ثمة ما يحيل إلى هذا التشاكل بين عقيدتين أو منظومتين أخلاقيتين متباعدتين، تؤثثان حقولا تاريخية ضاربة في القدم، من البغضاء والتنافر والعداء والقطائع؟

لقد أفرزت المساحة الثقافية والهوياتية للأحداث المترابطة، في سياقاتها المتشعبة، نوعا من التصادم في إنتاج جبال من المشاكل وما تفرزه من عراقيل وإكراهات، لم تكن لتحجب مستوى القلق المرتفع بين الطرفين، وتجاذبات المصالح السياسية بينهما، لدرجة الإسفاف وضعف القابلية، وتمكين توجيه طفرة التبادل وتصحيح المسار وتنظيم العقد السياسي وتخفيف حدة التوتر وتقبل وجهات النظر وترسيخ مبادئ السلوك الحضاري والتفاهم والاحترام المتبادل. ما أضحى يغلب على واقع التباس غامض ومناكف للواقعية والنظرية الأممية القائمة على "السيادة" و"الهوية الوطنية" و"الانتصار للقيم الكونية"، من جهة كون الغرب، يزجي بفوقيته وأنانيته وانتقائيته واستغلاله، بل وانتقامه وغصبه للحقوق؟.

لم تكن سنة 2023، سوى نافذة لفرز هذا التوجه. وفيها ظهر للعيان، كيف يمكن للغرب أن يعود لسابق عهده، وأن ينقاد من قبل منظومته لتأكيد تسامي "الاستراتيجية الاستعمارية"، و"الخيار الحربي" على كل المفارقات السلوكية والأخلاقية المغايرة.

وعلى الرغم من أن "التاريخ يعيد نفسه"، كما يقال، فإن الحروب اللاأخلاقية للمثالية الغربية "الأمريكية"، منذ غزو خليج الخنازير عام 1961، وغرينادا 1983، وبنما 1989، وحرب الخليج الثانية 1990، وحرب العراق 2003، وقبل ذلك كله حرب الفلبين ومورو 1899/ 1913، وفيتنام 1955/1975، ثم أفغانستان 2001/2021، أزاحت القناع عن الوجه الحقيقي لتمثال الحرية المصطنع، وأعادت صياغة مفاهيم "الغرب الحداثي الحقوقي" ، وأبصرت الفوارق السياسية والمجالية والثقافية للخلفية الإيديولوجية والبراغماتية التي يرتديها مديرو العمليات في الغرف الموجهة، بلبوسات متعددة، منها ما هو تنموي، ونسائي وبيئي ومالي وشبابي ..إلخ.

لقد تحدث بعض أبناء هذا الغرب، في الكثير من المحطات النقدية المتفردة، عن أزمة الغرب الأخلاقية، وانتقالها إلى "الهمجية" و"الإسراف في العداوة"، والتأليب الميؤوس. فكان من بعض هذه الأمثلة، ما ينصف ويرد الصاع، لدرجة أن أحدهم وهو عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، استعمل أداة "أزمة الغرب" لنقد الحداثة وما تشكله من تناقضات وتأثيرات سلبية على الفكر والحياة، ليستقوي بعناصر أسئلته الحارة والمؤلمة، كسؤاله عن:"هل نسير نحو الهاوية؟" و"الأزمة التي تتخبط فيها حضارتنا" و"عنف العالم" و"الأزمة الكوكبية للحضارة الراهنة" و"دوامة الحاضر" و"أزمة الحداثة"؟."

لكن قسوة الغرب ونكوصيته، فاقت كل تصور ونظر، قبل أن تغادرنا سنة 2023 الدموية والعصية على التأويل. فقد أعمت سلطة الغرب أخلاقية المنظمة الأممية، وعرت كل ما تبقى من أقنعته الخفاشية، بعد أن استوعبت قناعاته المشؤومة، الفاشستية الصهيونية في أيشع صورها. حيث انقضت الأخيرة بحلف شيطاني مع "الغرب" بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لإبادة غزة المحاصرة المحتلة، وتدميرها وتهجير ما تبقى من ساكنتها ...

تكشفت نوايا الغرب بشكل لا يدعو للشك، بعد أن فشلت المنظومة الدولية، حتى في أبسط قراراتها لوقف إطلاق النار وإبادة الشعب الغزاوي وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، وإيقاف تدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والخدمات الإنسانية ...

تأكد كذب الغرب واحتياله على النظام العالمي، وزيف ادعاءاته بالانتماء لقيم الحداثة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر و....

لقد جأر الغرب بما لم يكسبه أملا في إعادة تصحيح صورته، التي أدغمت بين الاحتلال والقتل والعدوان، إلى كسر الشأفة وإبطال القوة والجبر على الخنوع والخضوع. فصار هذا الغرب، شوكة في حلق، وطغمة في نحر، ونصبا في قعر.

لقد باتت "سياسات الغرب غير مستقرة، وهي إلى ذلك مترددة ومتأرجحة في تعبير بليغ عن الأزمة البنيوية التي تعتري الغرب"، كما يذهب إلى ذلك حسن أوريد في "أفول الغرب"، لكن هذه السياسة لم تكن محجوبة أو غائبة، عن أنظار أصحاب التفكير والاجتماع، بل إنها تتمترس في سياق تأويل براديجم التغيير في صلب مجتمعاتها ومكوناتها الثقافية، التي تشكل إحدى أهم خصوصيات ديمقراطيتها النخبوية، وهو ما يظهر جليا في رفض الشارع الغربي، بشكل عام، لسياسات إداراته وتناقضاتها الصارخة. ولنا في مثال غزة أبلغ نموذج لرفض الاحتلال والعدوان والإبادة والظلم.

***

د مصطَفَى غَلْمَان

جاءت كلمة الامين العام للأمم المتحدة في الذكري الخامسة والسبعين لحقوق الانسان في العاشر من الشهر الجاري، متزامنة مع مرور خمسة وسبعين عاما ايضا على احتلال اسرائيل لأرض فلسطين العربية .

هذه السنوات الطوال حرم فيها الفلسطينيون من الأمن والسلام وحرية التنقل واقامة دولتهم المستقلة على أراضيهم، بل استبيحت دماؤهم بالقتل، واستبيحت أنفسهم بالاعتقال، وسلبت اراضيهم ومنازلهم وسرق عمرهم في الصمود على الارض .

عبرت كلمة أنطونيو غوتيريش عن كل انسان علي كوكبنا الارض ذاق مرارة الظلم والاضطهاد والتهجير وسلب الحقوق الأساسية للحياة، فتفاعلت معه العقول والافئدة الانسانية الشريفة، خاصة عندما ذكر وذكّر بالفاتحة الشهيرة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تنص على: " يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق".

هذه الحقوق الأساسية للإنسان لم تجد لها محلا من الاعراب الا بإرادة القوي العظمى، فهي التي تحدد الدول التي تحظى بالديمقراطية وتتحقق فيها العدالة والمساواة في الكرامة والحقوق الأساسية، وتحرم دولا أخرى منها في منطقتنا العربية من الفوز بهذه الحقوق وشعب فلسطين المحاصر يعد المثال الصارخ لانتهاك هذه الحقوق.

نعم ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان قد كرس قيما شريفة تحفظ كرامة الانسان وتصون حقوقه، ولكن البشرية أو بالأحرى قادة المنظومة الدولية المسيطرة على العالم، جعلت هذا الميثاق بمثابة حبرا على ورق، حينما انتشرت الحروب في العالم شرقا وغربا ولم تسع لوقفها، لسبب بسيط وهو تجارة السلاح العالمية ومكاسبها الخرافية .

وانتشار الفقر في العديد من قارات العالم، بل تعمد افقار دولا كانت غنية أو على الأقل تحقق الاكتفاء الذاتي من غذائها ودوائها مثل العراق و اليمن وسوريا، لسلب خيراتها من نفط وغاز وجعلها خاضعة وتابعة للقوى العظمي وميراثها الاستعماري .

 جرى تغييب قيم السلام العالمي سواء من خلال الكيل بمكيالين كما في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وعدم تطبيق قواعد القانون الدولي لتحقيق العدالة للشعب الفلسطيني الواقع تحت نير الاحتلال، أو بافتعال الفتن الطائفية والعرقية والدينية لتقسيم وتفتيت منطقتنا العربية في العراق ولبنان والسودان واليمن وسوريا وغيرها .

نشر الأوبئة في العالم لسنوات طويلة لصالح شركات الأمصال والأدوية وتجارتها الرابحة على حساب صحة المرضى وأموال الدول والشعوب . ومع تعاظم الإجرام العالمي خارطة طريق لإنهاء الحروب .

دول القوى العظمى هي التي تنعم بحقوق الانسان، لان دولها ليست موطنا لدفن النفايات الخطرة كما يجري في قارة افريقيا، وتنعم الدول الكبرى بحقوق التعليم الجيد، بينما فتات العلم يساق الينا دون ان نستفيد منه الا اذا حصلناه في المدراس والجامعات العالمية .

حق الحياة نفسها لم يعد مضمونا ليس فقط بسبب الحروب والنزاعات، ولكن بسبب رغبة بعض القوى العالمية في حصد أرواح الناس وتقليص سكان البسيطة الى مليار نسمة فقط والعمل على تحقيق هذا المخطط الشيطاني بأساليب متنوعة مثل اوبئة كورونا وغيرها، وإحداث خلل متعمدا في المناخ بقطع الاشجار وإحراق الغابات، واشعال حروب المياه وغيرها .

ان وصف الامين العام للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنه: " بمثابة خارطة طريق تهدى الى السبيل لإنهاء الحروب ورأب الانقسامات وتعزي العيش في سلام وكرامة للجميع، وصف حق وخريطة حق ولكن لم يريد السلام للبشرية، بينما الواقع ان البشري رجعت القهر في حقوق الانسان، بل انها تعيش رغم تطورها العلمي والتكنولوجي الفائق في ظلام جاهلية توظف فيه العلم لدمار الانسان وسحقه بدلا من امنه وسلامه وكرامته .

***

 سارة طالب السهيل

 

كتبَ عبد الرحمن الكواكبيّ(ت: 1902): «تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعيّ للأديان، على أن الاستبداد السّياسيّ متولد مِن الاستبداد الدّينيّ، والبعض القليل يقول: إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان، أبوهما التّغلب وأمهما الرَّئاسة»(الكواكبيّ، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). قال الكواكبيّ ذلك في زمن الإمبراطوريات، التي لا تهيمن بلا عقيدة دينية، وقد عاش ورَحل في الزَّمن العثمانيّ(1849-1902).

انتهى التَّلازم بين الاستبداديَن، الدَّينيّ والسّياسيّ، بانتهاء الإمبراطوريات، ولهذا التّلازم جهد الإسلاميون على إحيائها بعنوان «الحاكميّة»، «ولاية الفقيه» بعينها، لكنَّهم تحولوا بالظَّاهر إلى الهتاف الوطني، فاختصر معروف الرُّصافيّ(ت: 1945) التَّحايل ببيته: «أُحبولة الدِّين رَكت مِن تقادمها/فاعتاض عنها الورى أُحبولة الوطنِ».(الدِّيوان 1959، الدِّين والوطن).

كنا نقرأ في المدارس، وما تداولته كتب المعاصرين، مِن مقالة للخليفة الرّاشديّ عُمَر بن الخَطَّاب، قالها قبل دهرٍ طويلٍ: «متى استعبدتم النَّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».. سمعناها وقرأناها هكذا، وقبل العثور على مصدرها، قلنا اُختلقت لأجل التّربية والتّعليم، ولم يُكلف المعاصرون أنفسهم البحث عن مصدرها، فصاغوها بلغة أقرب إلى ألسنة العصر الحديث.

لكن المقولة ليست مِن مختلقات المعاصرين، ولم ترو لهدف سوى كتابة التّاريخ، رواها المؤرخ عبد الرَّحمن بن عبد الله بن عبد الحكم(ت: 257هج) كالآتي: «مذ كم تعبّدتم النَّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً»، (ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب)، ثم رواها: الثَّعالبيّ(ت: 429هج)، في «الشّكوى والعتاب»، والمفسر المعتزليّ محمود الزّمخشريّ(ت: 537هج) في «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار»، وابن حمدون(ت: 562هج) في «التّذكرة الحمدونيَّة»، وبعدها انتشرت في كتب مَن أتى بعدهم. رويت عن سندها الصَّحابي أنس بن مالك(ت: 93هج).

كان بين زمنيَ الخليفة الرّاشديّ الثّاني وعبد الرّحمن الكواكبي نحو 1300 عام، قالها الأول وهو صاحب أمر، ونفذها قولاً وفعلاً، أمَّا الثّاني فكان مثقفاً داعيّةً ضد الاستعباد، وكذلك تبناها قولاً وفعلاً، وراح ضحيتها.

ستكون مقالة الخليفة سنداً قويّاً لكتاب الكواكبيّ ونقده للاستعباد لو ذكرها، وقد استعان بأمثلة كثيرة مِن تراث الخلفاء والأمراء في الاستعباد، مِن التّاريخ والدّين، كما ذكر الخلفاء الرَّاشدين: «أظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفاء الرّاشدين، التي لم يسمح الزّمان بمثال لها، بين البشر حتَّى ولم يخلفهم فيها بين المسلمين أنفسهم خلف، إلا بعض شواذ، كعمر بن عبد العزيز والمهتدي العبّاسيّ ونور الدّين الشّهيد(قصد نور الدّين زنكيّ (الكواكبيّ، طبائع الاستبداد...).

يغلب على الظّن أنه لم يلاحظ مقولة عُمَر بن الخَطَّاب، وإلا لم تفته، وكانت موثقة مِن مؤرخين أقدمين، لكنها لم تنتشر، عندما كتب الكواكبيّ كتابه، وهو القرن التَّاسع عشر الميلاديّ، فالمصادر التي وردت فيها لم تُحقق آنذاك وتُنشر، وإلا لو لاحظها الكواكبيّ لكانت جوهرة كتابه.

قد يقول قائل، ومن أدراك أنّ الخليفة قالها؟! فعادمو التّاريخ أخذوا يتكاثرون ويتكاتفون. جوابنا ليكن ابن الخَطَّاب لم يقلها، لكنّ خذوا قِدمها مِن تاريخ روايتها المتصل بعصرنا، وهو زمن ابن عبد الحكم، وزمن رواتها عن تاريخه «فتوح مصر والمغرب»، كالثّعالبيّ والزّمخشري وابن حمدون، واتركوا مِن رواها قبلهم وبعدهم!

هذا، وقد يثور سؤال آخر، إذا كان عمر قالها فلماذا لم يلغ العبوديّة، التي استمرت حتَّى بداية قرننا العشرين؟! الجواب، كانت العبوديّة سمة اجتماعيّة واقتصادية سائدة، يُنزع إلى رفضها والتّخفيف عنها، لكن لم تحن الظّروف لإلغائها بالكامل، والحِقب الاجتماعيّة لا تلغى بأمر أو رأي، إنما مثل تلك المقولة كانت بداية التّدرج في إلغائها، وفكرة التَّدرج، عبر العتق، جاءت في خطاب عبد الرّحمن الكواكبي، راداً على مَن شكك في مؤتمر زنجبار العالمي بخصوص إلغاء الرِّق(الكواكبي، الأعمال الكاملة).

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

اجتماع المجلس الاقتصادي الأوراسي الأعلى، الذي اختتم في العاصمة الشتوية الروسية سانكت بطرسبورغ، انتهى بالتوقيع على وثائق مهمة في المقدمة منها، التوقيع مع ايران على اتفاقية للتجارة الحرة مع إيران، والتي ستحل محل الاتفاقية المؤقتة المعمول بها منذ العام 2019، ووقعها رئيس مجلس إدارة اللجنة الاقتصادية الأوراسية ميخائيل مياسنيكوفيتش ونائب رئيس وزراء الروسي أليكسي أوفتشوك، ووزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني عباس علي آبادي، كذلك وقع على الاتفاقية ممثلو بيلاروس وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان..

وسبق وان تم إبرام اتفاقية مؤقتة بشأن إنشاء منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوراسي (والذي أنشأ مطلع عام 2015 على أساس الاتحاد الجمركي الذي كان قائما آنذاك بين روسيا وبيلاروس وكازاخستان، وانضمت إليه لاحقا كل من أرمينيا وقرغيزستان في السنة ذاتها). وإيران في 17 مايو 2018 وهي سارية اعتبارا من 27 أكتوبر 2019، وتضمن اتفاقيات، للاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم كلا من روسيا وأرمينيا وبيلاروس وكازاخستان وقرغيزستان، ويقدر سوقه بنحو 190 مليون مستهلك، لجميع أعضائه حرية تنقل السلع والخدمات ورؤوس الأموال واليد العاملة، وانتهاج سياسة متفق عليها في قطاعات التجارة والطاقة والصناعة والزراعة والنقل.

أن اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وإيران، لها أهمية كبيرة في تعزيز العلاقات الاقتصادية، وفقا للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي أكد خلال الاجتماع على إمكانية أن تكون هذه الاتفاقية مهمة حقا في سياق تعزيز علاقات الاتحاد الأوراسي، مع أحد أكبر الاقتصادات وأكثرها تقدما من الناحية التكنولوجية في منطقة أوراسيا، وبمجرد دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، فإن جميع فئات السلع المنتجة في الاتحاد تقريبا ستتمتع بإمكانية الوصول إلى السوق الإيرانية الواسعة، والتي يبلغ عدد سكانها 90 مليون نسمة بدون رسوم جمركية، وسيتم تخفيض العوائق الغير الجمركية بشكل كبير.

كما ووقع زعماء الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي على إعلان مشترك حول تطوير التعاون الاقتصادي حتى عام 2030 ووثيقة "الطريق الاقتصادي الأوراسي" للفترة حتى عام 2045، واعتبرت روسيا هذه الوثيقة الجديدة بأنها ذات طابع منهجي، تنص على إجراءات محددة لتكثيف الجهود المشتركة في القطاعات الرئيسية، وهي تحدد كذلك المجالات الإضافية للتعاون مثل جدول الأعمال الخاص بالمناخ والطب والسياحة وغيرها، وأكد بوتين أن الاقتصاد يسجّل نمواً في جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وأن روسيا تعول على مصادقة الدول الأعضاء في الاتحاد على انضمام إيران إليه على وجه السرعة.

وحرص الرئيس الروسي خلال كلمته على تذكير الدول الغربية بعقوباتهم، التي لم " تهز " تبادل بلاده التجاري ودول الاتحاد، واكد نمو إجمالي الناتج المحلي في روسيا خلال الأشهر التسعة من العام بنسبة 3%، بينما بلغت نسبة النمو في أرمينيا أكثر من 9% وكازاخستان نحو 5% وقرغيزستان أكثر من 4% وبيلاروس 3.5% خلال الفترة ذاتها، لافتا الانتباه إلى أن حصة العملات الوطنية في التعاملات التجارية بين دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بلغت 90%، مشيرا إلى أن هذه النسبة ستزداد في المستقبل بفضل الإجراءات المشتركة التي تتخذها هذه الدول في القطاع المالي.

في غضون أربع سنوات فقط، قطع الاتحاد الأوراسي وايران، الطريق نحو التفاعل العميق، قدر الإمكان في الظروف الحديثة، في مجالات الاقتصاد والتجارة، وهو ما استغرق تحقيقه عقودًا أخرى، ويمكن التوصل إلى هذا الاستنتاج ليس فقط من خطابات كبار المسؤولين، وليس فقط من نتائج الاجتماع بين قادة إيران وروسيا، العضو القيادي في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، ولكن أيضًا، على سبيل المثال، من نتائج المعرض السادس من إمكانات التصدير الإيرانية التي انتهت مؤخرا .

والاتفاقية بالنسبة الى ايران يمكن تسميتها من وجهة النظر الإيرانية، بانها بداية انتقال علاقات إيران مع الدول إلى مستوى مختلف، وفي الواقع، سيتم توسيع نطاق اتفاقية التجارة التفضيلية المعروفة، والتي تم التوقيع عليها في عام 2018 ودخلت حيز التنفيذ في 27 أكتوبر 2019، قدر الإمكان، ولنتذكر أنه بموجب هذه الاتفاقية، خضعت حتى الآن حوالي 862 مادة سلعية للتعريفات التفضيلية، وليس هناك شك في أنه في إطار اتفاقية التجارة الحرة، سيتم توسيع هذه القائمة بشكل كبير للغاية، وفي الوقت الحالي، ينمو حجم التجارة المتبادلة بين إيران والدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بوتيرة تتطلب تحديثًا فوريًا، قبل الإطار القانوني بشكل ملحوظ، وهكذا، في الأشهر الثمانية الأولى فقط من السنة التقويمية الإيرانية الحالية (21 مارس - 21 نوفمبر)، زادت قيمة الصادرات الإيرانية إلى دول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي بأكثر من 20٪ مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ويتم توفير هذه البيانات من قبل لجنة العلاقات الدولية وتنمية التجارة التابعة لغرفة الصناعة والتعدين والتجارة في جمهورية إيران الإسلامية.

يذكر أن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يضم كلا من روسيا وأرمينيا وبيلاروس وكازاخستان وقرغيزستان، وتتمتع كوبا ومولدوفا وأوزبكستان بصفة عضو مراقب فيه، ومن المقرر أن تستضيف موسكو قمة الاتحاد في عام 2024، حيث ستحل الذكرى العاشرة لإنشاء الاتحاد.

ولايقتصر التعاون بين دول الاتحاد وايران، فهناك وكما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى وصول اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومصر " الى مرحلة متقدمة"، مؤكدا الحرص على التوقيع عليها بأسرع ما يمكن، وفي الوقت الراهن هناك مفاوضات هامة قيد الإعداد مع دول أخرى ذات قدرات اقتصادية كبيرة، والحديث يدور عن اتفاقية حول التجارة التفضيلية بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومصر، "أحد شركائنا الرئيسيين في العالم العربي وفي القارة الإفريقية بحسب تعبير الرئيس بوتين، مؤكدا "أننا معنيون بالتوقيع عليها بأسرع ما يمكن"، والإشارة أيضا إلى أنه بالإضافة إلى ذلك تجري المفوضية الأوراسية مفاوضات مع الإمارات العربية المتحدة وإندونيسيا، والتأكيد أن إقامة مناطق التجارة الحرة مع هاتين الدولتين ستسمح بزيادة صادرات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي وزيادة التوريدات إلى أسواق الدول الصديقة وتحفيز التنمية الاقتصادية لدول الاتحاد وستزيد من حجم السوق المشتركة وتنويعها.

وكثيرون على استعداد لاعتبار تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع إيران خطوة أولى نحو انضمام الجمهورية الإسلامية إلى الوحدة الاقتصادية للجمهوريات السوفييتية الخمس السابقة، ومع ذلك، ومن خلال نظرة رصينة إلى آفاق التعاون بين إيران والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، لا يسع المرء إلا أن يعترف بمثل هذا التقييم، باعتباره رغبة في تمرير ما هو مرغوب فيه على أنه حقيقة واقعة، والنقطة المهمة هي، أولاً وقبل كل شيء، أن الظروف الموضوعية لا تسمح ولن تسمح لإيران بالتحول الكامل نحو الشمال لفترة طويلة، ومع تزايد حجم التجارة وأنواع التعاون الأخرى بين إيران وروسيا وشركائها في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فإن الاتجاه الشرقي هو السائد تقليديًا في الاقتصاد الإيراني، وهو أكثر توجهاً نحو الدول المجاورة، وليس من قبيل الصدفة أنه بالتوازي مع توسيع التعاون مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، هناك تقارب بين إيران والمملكة العربية السعودية والدول الصديقة لها.

وفي الوقت الحاضر، تواجه قدرات النقل والخدمات اللوجستية في إيران وعلى الجانب الجنوبي من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي صعوبات كبيرة بسبب الحاجة إلى خدمة التبادل التجاري المتنامي، وذلك على الرغم من أن حصة الأسد من الصادرات والواردات بين إيران ودول الاتحاد الاقتصادي الأوراسي تقع على المنتجات الزراعية والغذائية والحيوانية، وتمثل البضائع من هذا النوع أكثر من 84% من حيث الوزن وما لا يقل عن 71% من قيمة الواردات الإيرانية من الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، أما حصتها في صادرات إيران إلى الاتحاد الأوروبي فهي أقل ــ 20% من حيث الوزن و39% من حيث القيمة.

ويجب الاعتراف بأنه في المستقبل، بدون تنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق، فإن احتمالات التكامل الأعمق لإيران مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ستكون موضع تساؤل، ومما يزيد أهمية ذلك أن طهران أوضحت أكثر من مرة أن أولويتها الرئيسية في التجارة الخارجية هي تصدير الخدمات الفنية والهندسية، وبطبيعة الحال، لا يمكن لأي قطاع في الاقتصاد الإيراني أن يضاهي تصدير النفط والمنتجات النفطية من حيث الحجم والقيمة، لكن هذا لا يعني أن هذا سيكون هو الحال دائمًا.

وبالنسبة لروسيا وكما يؤكد المراقبون، فإن الصراع في أوكرانيا لا يشكل عائقًا، بل يشكل عاملاً محفزًا لتعميق التكامل الأوراسي، وهناك تفسيرات عديدة لذلك، أولاً، تعمل روسيا، آخذة في الاعتبار تقليص الحوار متعدد الأشكال مع معظم الدول الغربية، على تنويع وجودها في مناطق أخرى من العالم، وفي الوقت نفسه، لا يوجد ما يسمى بالتحول نحو الشرق، بل هناك تجسيد لسياسة روسيا متعددة الاتجاهات، ثانيا، تم إعلان دول الجوار أولوية لأنشطة السياسة الخارجية الروسية منذ عدة سنوات، ولم تنته هذه المهمة، بل على العكس من ذلك، تكتسب زخما إضافيا، وثالثًا، ان العقوبات الاقتصادية غير القانونية التي فرضتها الدول الغربية والصراع في أوكرانيا على روسيا، تدفع إلى استخدام مزايا التكامل في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي بشكل أكثر نشاطًا، مع الأخذ في الاعتبار عددًا من العوامل، بدءًا من غياب الحدود الجمركية وانتهاءً بانتقال الروس إلى الدول المجاورة.

وبطبيعة الحال، ومع الأخذ في الاعتبار الأهداف الحالية وطويلة الأجل، تسعى روسيا إلى تعميق التكامل، ضمن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ورابطة الدول المستقلة ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ودولة الاتحاد بين روسيا وبيلاروس، وكذلك ضمن اتحادات أكبر مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، و بريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، والشراكة الأوراسية الكبرى. وتنعكس هذه الاتجاهات أيضًا في تطوير الإطار القانوني لتشكيل اتحادات.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

يكثر القادة الإسرائيليون من استخدام مصطلح «تغيير الوعي الفلسطيني»، منذ بداية الحرب على غزة، كأحد أهداف هذه الحرب وتبريرات لنوعية العمليات الحربية التي ترافقها، وفيها يدفع المدنيون الفلسطينيون ثمنا مريعا، وليس صدفة أن وزير الدفاع، يوآف غالانت، ردد الكلام بعد ساعات من تنفيذ القصف الدموي على مدرستي الفاخورة وتل الزعتر، وفي مخيم جباليا، والتي أوقعت في يوم واحد نحو ألف قتيل من المدنيين، لكن هناك أساسا عقائديا لهذا التصعيد وهذا الثمن الباهظ من الدمار، يأتي من مكان آخر. لقد أسماه الوزير غالانت «تغيير الوعي الفلسطيني». وهذا المصطلح ورد للمرة الأولى في الوثيقة التي وضعتها وزارة الاستخبارات الإسرائيلية، نهاية الشهر الماضي، لغرض التوصية بترحيل جميع أهالي قطاع غزة إلى مصر. وتضمن المخطط فقرة تؤكد أن أي حل لمستقبل غزة «يجب أن يترافق مع حملة كي للوعي الفلسطيني يتم فيها تغيير المفاهيم والعقائد المعادية لإسرائيل، بحيث يقتنع الفلسطينيون بأن هجوم حماس على إسرائيل كان فاشلا وتسبب لهم في الدمار وسقوط الضحايا والتشرد،هذا التعبير ظهر قبل ذلك في الأبحاث التي أجريت في رئاسة أركان الجيش الإسرائيلي عام 2018، عندما كان رئيس الأركان غادي آيزنكوت، يتحدث عن حرب متعددة الجبهات. وآيزنكوت هو أحد أعضاء المجلس الخماسي لإدارة الحرب على غزة

نتنياهو اختار مبدأ تقوية حماس عن طريق تعزيز الانقسام الفلسطيني، الضامن الأكبر لمنع مفاوضات على إقامة دولة فلسطينية. لكن نتنياهو هذا كان قد تحدث عن تغيير الوعي الفلسطيني في سنة 2005، أيضا بمعرض الحديث عن غزة. ففي حينه ظهر أمام مؤتمر القدس وقال إن الفكرة التي رسمت عن إسرائيل في اتفاقيات أوسلو وخطة الانفصال عن غزة هي أن ديننا الهرب. ويجب أن نهاجم بقوة شديدة حتى يبدأ لديهم تفكير جديد عن إسرائيل. وقال: «بهذه الطريقة تصبح مسألة تغيير الوعي والثقافة والمفاهيم لدى العرب أصعب حتى من فكرة تغيير المفاهيم لدى الألمان واليابانيين،، فليس صدفة أن نتنياهو عاد ليتحدث عن الألمان واليابانيين في بداية الحرب على غزة. وغالانت، الذي كان في سنة 2005 قائدا للواء الجنوبي في الجيش ومسؤولا عن قطاع غزة، عاد ليتحدث عن الألمان واليابانيين، في المؤتمر الصحافي الذي ظهر فيه مع نتنياهو وبيني غانتس في الليلة الماضية. المشكلة في هذه التصريحات تكمن في الأسلوب الذي اتبعه الأميركيون والغرب لتغيير الوعي في ألمانيا واليابان،، وبحسب المؤرخين، كان تدمير مدينة دريسدين الألمانية في فبراير (شباط) سنة 1945 وقتل 35 ألف مواطن فيها بمثابة الحدث الذي حفر في ذاكرة الألمان على أن النازية جلبت له الكوارث وأن الغرب مصر على سحق النازية. وأما في اليابان فقد تغير الوعي عندما ألقى سلاح الجو الأميركي أول قنبلة نووية في التاريخ على كل من هيروشيما فدمرها بالكامل وقتل من سكانها 66 ألفا، وناغازاكي التي قتل من سكانها 40 ألفا، ودمرت المدينتان بالكامل، بعد فشلهم في إخضاع الفلسطينيين بقوَة السَلاح، صار الهدف الإسرائيلي الجديد هو احتلال الوعي العربيّ وطمس الهويّة الإسلامية في فلسطين، وذلك لمعرفتهم بكون العنصر العربي عنصرًا أكثر شراسةً وإقدامًا وصبرا على الحرب من العنصر الأشكينازيَ الحاكم ومن الجنود الّذين لملمتهم إسرائيل من شتى بقاع العالم لتكوّن شعبًا غير متجانس يعينها على تصدير روايتها البائسة إلى العالم. كون الإسلام قد شرع الجهاد ضد المعتدين، فقد باتت إسرائيل تذوق الأمرّين من التفنّن والتنوّع الفلسطيني في أساليب المقاومة مع البسالة منقطعةِ النظير التي أبداها المجاهدون والمجاهدات في سبيل إيلام هذا الكيان وإضعافه ودبّ الرّعب بين سكانه

تصريحات المسؤولين الصهاينة ومن شايعهم تحيل إلى أمر آخر تمامًا، وتنطلق من قاعدة أنّ حماس “حركة إرهابية” ذات أيديولوجية دينية متطرفة تهدف إلى إبادة اليهود، وهذه الأيديولوجية متغلغلة في العقل الجمعي الفلسطيني، ومن ذلك مقال منشور على موقع “ميدا” العبري ذي التوجهات اليمينية المتطرفة، بعنوان “حماس هي عرضٌ لمرض فلسطيني“، ويردُ فيه أنّ الفلسطينيين هم من يمكّنون حماس من الوجود، وهي تتمتع بتأييد في المناطق الفلسطينية بسبب أنها تمثل الهدف الديني المتطرف، وهو إقامة دولة إسلامية تقتلع إسرائيل

حيث بات جليًا أنّ دولة الاحتلال تهدف إلى إحداث تغيير في الوعي الفلسطيني يهدف إلى التخلص من فكرة حماس، كما يراها قادة الاحتلال،وتجاهلوا ان حركة حماس فكرة وأيديولوجيا مغروسة في الوعي الفلسطيني، ولذلك يصعب القضاء عليها، وتجاهلوا مقولات شارو ن ويهود باراك حين وصفوا حماس من غير الممكن القضاء على حماس، لأنها فكرة أيديولوجية، وإنما يجب ضربها وإضعافها بصورة لا تتعافى منها.

***

نهاد الحديثي

 

قد يستغرب البعض من العراقيين المتفائلين انتكاسة التيار السياسي (المدني) المنضوي تحت مسمى (قيم) في الانتخابات المحلية التي جرت يوم الاثنين المصادف الثامن عشر من الشهر الجاري (كانون الأول)، بعد أن داعبت مخيلتهم المجيشة بالشعارات والمعبأة بالخطابات الكثير من الأحلام والأوهام . من منطلق ان الشارع العراقي قد ذاق ذرعا"بممارسات القوى السياسية التقليدية (الشوفينية والطائفية والقبلية)، التي أدخلت البلاد في دوامات من الخراب الحضاري واليباب الإنساني على نحو غير مسبوق، جراء تعميم الفوضى واستشراء الفساد في كل مرفق من مرافق الدولة وضمن كل قطاع من قطاعات المجتمع . بحيث ان هؤلاء اعتقدوا ان فرص نجاح التيار في هذه الانتخابات (المحلية) ستكون مجزية لا بل وفيرة، وبالتالي سيشهد العراق باكورة تحولات نوعية على كافة الصعد والمستويات .

وعلى أساس من هذا الاعتقاد الخاطئ، فقد ظن أولئك البعض أن العراقيين هذه المرة سوف لن يكرروا ذات الأخطاء التي ارتكبوها في السابق، لاسيما حيال اختيار مرشحيهم (ممثليهم) - كما حصل في الانتخابات التشريعية الماضية - وفقا"لقواعد الانتماء الأصولي والولاء العصبي الأثيرة لدى الجميع، بعد أن تكشفت لهم عواقب ذلك الاختيار وتعرت أمامهم أكاذيب وادعاءات من سوقوا أنفسهم ك (منقذين) و(مخلصين) لنيل أصوات الناخبين المخدوعين بالوعود . وإنما سيغيرون بوصلة توجهاتهم صوب القوى (المدنية) المستقلة التي روّج الكثير عن أهدافها (الوطنية) وبرامجها (الإصلاحية)، متجاهلين حقيقة ان مكونات المجتمع العراقي – ضمن جغرافية الوسط والجنوب - لن تفضّل مصالح (المواطنة) على مصالح (القبيلة / العشيرة) أو (الطائفة / المذهب) . مثلما ان مكونات الشطر الشمالي من جغرافية الإقليم العراقي، لن ترجح انتمائها (الوطني) الشكلي على ولائها (القومي / الاثني) الأساسي، لاسيما وان جميع المكونات العراقية – شمالا"وجنوبا"شرقا"وغربا"- باتت غارقة في مستنقع الانتماءات التحتية والولاءات الفرعية، وانه يستحيل عليها التخلص من هذه الروابط الأولية والتملص من تلك الوشائج العاطفية بهذه السهولة مهما كانت التحديات التي تواجهها والتضحيات التي تتطلبها .

والغريب في الأمر ان مرشحي التيار السياسي (المدني) المهمشين، فضلا"عن الجمهور المنخرط في حملاتهم الانتخابية الفقيرة، لم يروادهم أدنى شك حيال معطى سوسيو – سياسي أضحى واقعا"ملموسا"مفاده ؛ ان الشعارات التي تبناها هذا التيار وراهن عليها، لم تعد تجد لها ضمن تكوين المجتمع العراقي الحالي صدا"يمكن الركون إليه والتعويل عليه كما كان يظن، خصوصا"وان الأفكار والرؤى والتصورات التي أسس عليها هذا التيار وجوده الاجتماعي وشرعيته السياسية، لم تعد تحظى بذاك الاهتمام والتعاطف الذي كانت تتمتع به في السابق، وذلك جراء مجموعة من الأخطاء والانحرافات التي تورط بها رموزه بعد أحداث (السقوط) التي تمخضت عن الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 . وهو الأمر الذي أفضى – ولا يزال - الى عزوف الكثيرين ممن كانوا يحملون تلك الأفكار ويروجون لها، كما لو أنها كانت تمائم دينية تستحق التوقير والتقدير .

وبدلا"من أن يصار الى مراجعة هذه التجربة الكسيحة مراجعة (نقدية) صارمة ودراستها دراسة موضوعية معمقة، تتوخى البحث عن الأسباب الفعلية والكشف عن العوامل الواقعية التي أفضت الى حصول هذا الفشل والإخفاق، رغم كل العوامل الذاتية والموضوعية التي كان من المتوقع أنها ستحقق (فوزا") كاسحا"لمرشحي هذا التيار على منافسيهم، فقد ارتأى (الفاشلون) - لتخفيف وطأة الصدمة – صبّ جام غضبهم على فساد المؤسسات المسؤولة عن فبركة نتائج هذه التجربة، فضلا"عن اتهام القوى والكتل السياسية (الفائزة) في التلاعب بأعداد الناخبين لصالح هذا الطرف أو ذاك، وكأنهم لم يكونوا على دراية تامة بطبيعة هذه العملية التي مهما طبل وزمر عن طابعها (الديمقراطي) المزيف، لم يكن مخطط لها تحقيق العدالة وضمان المساواة بين المتنافسين .

والحقيقة ان كل من تناول تجربة هذا التيار (المدني) ظلّ – حتى بعد مفارقات وتداعيات ما بعد السقوط – متمسكا" باعتقاد ان كل ما جرى ويجري، لم ولن يؤثر على سيرورات البنى الاجتماعية والأنساق الثقافية والسياقات التاريخية التي كانت فاعلة في مضامير الواقع الاجتماعي للعراق، وبالتالي فان معظم الجماعات المنضوية تحت شتى مسميات (اليسارية) و(العلمانية) و(الليبرالية) و(الديمقراطية) استمرت محافظة على رصيدها الشعبي وصيتها الجماهيري، حتى بعد أن جردها الواقع المعاش من صدقية الكثير من الادعاءات والمزاعم التي كانت تتحصن خلفها وتحتكم اليها، بحيث استمر وهم الاعتقاد بأنها لم تفقد مواقعها ولم تخسر أنصارها رغم كل ما طرأ على الواقع من انهيارات مدوية وانكسارات مفجعة . أي بمعنى انه كان ينظر الى واقع المجتمع العراقي الحالي نظرة استاتيكية جامدة لا جديد فيها سوى الثبات والاستمرارية، وان كل الذي حصل من تغيرات جذرية وتحولات عميقة وانقلابات واسعة، حيث عصفت بهذا الواقع المتداعي على نحو دراماتيكي لم تطال سوى أبعاده (الفوقية) السياسية والاقتصادية والعسكرية، في حين حافظت أبعاده (التحتية) السوسيولوجية والانثروبولوجية والسيكولوجية على ثباتها الأصلي وسكونها الدائم .

وهكذا يمكن القول؛ ان الانتكاسة التي مني بها التيار السياسي (المدني) في الانتخابات المحلية، لم تكن حالة شاذة خارج السياق أو واقعة طارئة غير متوقعة، بقدر ما كانت تعبير عن واقع حال جرى نسيانه وإهمال معطياته، الأمر الذي لم يتأخر في الثأر لنفسه من كل أولئك الذين اهتموا بكل شيء، سوى أنهم وضعوا سيرورات الواقع ودينامياته خلف ظهورهم ! .

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

القانون الفرنسي الجديد للهجرة هل هو تقنين للعنصرية؟

(لهذه الأسباب فشلت منظمة "سوس راسيزم" S.O.S racisme المناهضة للعنصرية)

رغم تمريره على البرلمان الفرنسي لا تزال الشكوك تراود الجزائريين في القانون الفرنسي الجديد المتعلق بالجالية الجزائرية في المهجر، والتدابير التي ينص عليها القانون الفرنسي، من حيث التنقل والإقامة والعمل في فرنسا، إلا أن مصادر مطلعة أكدت أن القانون لا يخص الجزائريين وحدهم، حيث اعتبره البعض تقنين للعنصرية، يبقى السؤال هل سيعاد النظر في ملف القانون الفرنسي الجديد؟ أم أنه مؤجل؟ خاصة وأن الرئيس إيمانويل ماكرون قلبه وعقله مع المسيحيين الكاثوليك في غزة، وقد أعلن عن قلقه العميق إزاء الوضع المأساوي لرعية اللاتين في غزة.

فقد أحدث قانون الهجرة الفرنسي الجديد جدلا على كل المستويات والأصعدة خاصة ما تعلق بالشروط التي وضعها المشرّع الفرنسي ومنها، عدم ازدواجية الجنسية، أي التمسك بالجنسية الفرنسية، ومن يرفض يعيدون إلى بلده، احترام شعار الجمهورية ورموزها، وهذا يعني الانضباط وعدم المساس بالرموز الفرنسية،حتى لو كانوا يرفضون أن تقام الشعائر الدينية (الإسلامية) فوق أراضيهم، كما شمل القانون المهاجرين الغير نظاميين وترحيل مرتكبي الجرائم إلى بلدانهم الأصلية، وهذا الشرط كما يرى ملاحظون مبهم وغير دقيق، فهل يمس النشطاء السياسيين أم لا؟، خاصة وحسب التقارير هناك هاجس انتخابات 2027 والفوز المحتمل لمارين لوبين زعيمة حزب "التجمع الوطني" أقصى اليمين التي فشلت في الوصول إلى قصر الإليزيه في الانتخابات الرئاسية السابقة التي عادت فيها اغلب الأصوات لإيمانويل ماكرون.

ويأتي صدور القانون الجديد من باب التخوف من الجاليات المغاربية التي وسعت وجودها عن طريق الجمعيات وبنائها المساجد، حيث تمكنت من فرض عقيدتها فوق التراب الفرنسي، الذي يكن عداءه للإسلام، كما تتدخل عوامل أخرى سياسية واجتماعية واقتصادية، هذه الأخيرة شكلت في الفترة بين 1968 و1971 أزمة "بترولية" أثرت على الهجرة المغاربية، فقد كانت الهجرة مسموح بها وخاصة بالنسبة للجزائريين في إطار اتفاقيات أبرمت، حسب التقارير، يعود أول اتفاق حول الهجرة أبرم بين الجزائر وفرنسا إلى أفريل 1964 وهو ينص على أن عدد المهاجرين إلى فرنسا يتحدد في ضوء اليد الجزائرية العاملة المتوفرة من جهة ومن جهة أخرى إمكانيات سوق العمل الفرنسية، وتواصلت الاتفاقيات حول هجرة الجزائريين إلى فرنسا إلى غاية 1973، السنة التي أعلنت فيها الجزائر وقف الهجرة الجزائرية إلى فرنسا.

ولعل السبب الرئيسي في القرار الجزائري بتوقيف الهجرة الجزائرية إلى فرنسا إلى الوضع الموجود آنذاك في فرنسا والذي تميز بصراعات ومشاكل واجهتها الجالية في فرنسا بسبب استفحال البطالة، قبل أن تظهر قضية الحجاب التي هزت الرأي العام الدولي، كون هذه القضية أبرزت مدى عنصرية فرنسا تجاه الجاليات المغاربية، حتى أن منظمة "سوس راسيزم" S.O.S racisme المناهضة للعنصرية فشلت بل عجزت عن حل مشاكل المهاجرين، بعد فقدان هيبتها خاصة في الفترة التي أعيد فيها ترشح فرانسوا ميتران لولاية جديدة في سنة 1988، وراهن أبناء المغرب العربي على إعادة انتخابه بعدما ساندوه في انتخابات ماي 1981 وما إن وصل إلى الرئاسة حتى تجاهلهم، بعد أن ظهرت مفاهيم ومصطلحات جديدة، فعلى سبيل المثال كان البعض يقول أن أرض فرنسا لم تعد "دار عهد" بالنسبة للمسلمين، بل تحولت إلى دار للتبشير بالإسلام، ومن هنا أصبحت الجالية المغاربية تطالب بحقوقها القانونية كمواطنين فرنسيين، مثلهم مثل البروتستانت واليهود، الذين كانوا يتمتعون بحقوق لا يتمتع بها المسلمون.

في ظل الفشل الذي عرفته الفدرالية الوطنية للجزائريين بفرنسا وتقاعسها في التكفل بملف الجالية الجزائرية في المهجر، بات السؤال يطرح وبحدة حول الوضع البائس للجالية الجزائرية في فرنسا وما مصير المبادرة التي قامت بها مجموعة تمثل النخبة الجزائرية في فرنسا بإنشاء حركة سياسية تمثل صوت الجالية الجزائرية في فرنسا التي كما يقول أحد المهاجرين تعيش غربتين غربة الذات وغربة المكان، من هنا ارتفعت أصوات الحاملين للجنسية الفرنسية من الجزائريين، وكذلك أبناءهم الذين ولدوا داخل التراب الفرنسي وحصلوا على الجنسية الفرنسية للمطالبة بحق المواطنة، ويكون ذلك في إطار التسامح وثقافة السلام، باعتبارها من بين المبادئ الهامة التي اهتمت به اليونيسكو.

وكانت المنظمات اليهودية ومندوبيها (الكريف) ولا تزال تقر بأن الإسلام والمسلمين هما العدو المشترك، وفي هذا فالجالية الجزائرية في فرنسا والتي تحمل الجنسية الفرنسية باتت مخيرة بين إسقاط جنسيتها الأصلية (الجزائرية) أو العودة إلى بلدها وهذا يشكل تضييقا على الحكومة الجزائرية في ظل الوضع التي تمر به البلاد، للعلم وحسب التقارير فإن معظم المنخرطين بهذه الحركات الصهيونية الفرنسية هم يهود مزدوجي الجنسية (جنسية فرنسية وجنسية إسرائيلية)، وبالتالي فولاءهم الأول لإسرائيل، ويحاول" الكريف " منذ سنوات استخدام الدعاية (البروباغاندا) Propagande لإبعاد الشبهة عن يهود فرنسا مزدوجي الجنسيات) بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك من خلال التأثير على الرأي العام الفرنسي والأوربي، لانشغالهم بالجالية المسلمة، في وقت يستمر فيه الصهاينة العمل في الظل وسنّ القوانين من أجل التحكم في الأحزاب ويوجهونها في السياسة الخارجية، وفي ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها فرنسا تروج المنظمات اليهودية ومندوبيها لأشكالٍ من المغريات الخاصة باليهود الفرنسيين، غير أن النخبة الفرنسية الأصيلة وهي الطبقة الممثلة في الفرنسيين البسطاء (فنانون ومثقفون وسياسيون) تفطنوا للمخطط الصهيوني، بطرح هذه النقاط وانتقاد المنظمات الصهيونية وكشف حقيقتها واللعبة القذرة التي يمارسونها في حق المسلمين.

***

ورقة علجية عيش الجزائر

يدور الحديث هذه الأيام في الاعلام الغربي ولدى المسئولين الغربيين، عن الجوع الذي تصدره روسيا للعالم، خصوصا بعد ان أوقفت العمل باتفاق إسطنبول 2022، ومحاولة  الدول الغربية، وتحت ذريعة العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، إلقاء اللوم على روسيا في أزمة الغذاء العالمية، و هنا يكمن التناقض، فقد  أصبح الغذاء باهظ الثمن ولا يمكن الوصول إليه في بداية الوباء،  وبدأوا في إنتاج كميات أقل منه، ونشأت صعوبات في الإمدادات، لذلك بدأت الدول الأكثر ثراءً، على سبيل المثال الولايات المتحدة، في الشراء بأسعار باهظة، وطبعت تريليونات الدولارات مقابل ذلك.

ومعلوم  ان  القمح  يعد الغذاء الأساسي، لأكثر من ثلث سكان العالم، لكن أسعاره ارتفعت بنسبة 60% منذ بداية العام،  ووفقا للتوقعات، قد ترتفع تكلفة طن القمح في المستقبل من 430 دولارا حاليا إلى 700 دولار، وفي الواقع، لم يؤثر ارتفاع الأسعار على القمح فحسب، بل على المنتجات الغذائية الأخرى أيضا، ومع بداية شهر مايو من هذا العام، ارتفع مؤشر أسعار الغذاء العالمية بنسبة 41% مقارنة ببداية العام الماضي، وارتفعت تكلفة الذرة بنسبة 54%،  ووفقاً لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، قد تواجه البشرية "أكبر أزمة غذائية منذ الحرب العالمية الثانية"، وسيرتفع عدد الجياع في العالم، ونتيجة لذلك، فإن مئات الملايين من الناس معرضون لخطر المجاعة، ويتزايد نقص الغذاء في بعض المناطق بمعدل 40-50%.

وبصرف النظر عن تأثيرات الظروف المناخية الطبيعية، فإن السبب الرئيسي هو التحكم الاصطناعي، فقد  كانت الشبكة العالمية لتجارة الحبوب الدولية، دائمًا في أيدي أكبر أربعة تجار زراعيين، ويرتبط الارتفاع السريع في أسعار الحبوب العالمية،  ارتباطًا وثيقًا بالتلاعبات التي تقوم بها هذه الشركات،  ولا يمكن حل التقلبات الحادة في أسعار الغذاء العالمية ومشاكل الإمدادات إلا من خلال الآلية الحالية،  والسبب الرئيسي هو أنه لم يكن هناك حافز يذكر على مدى سنوات عديدة لدى اللاعبين المهيمنين العلنيين أو السريين في سوق الغذاء العالمية لمعالجة المشكلة، (شركات التجارة الزراعية "الأربع الكبرى" - آرتشر دانييلز ميدلاند، وبونج، وكارجيل، ولويس دريفوس -) يشار إليها مجتمعة في كثير من الأحيان باسم ABCD  InoSMI) ) والشركات التي تقف وراءها هي المستفيدين الرئيسيين)، وبشكل خاص، أصبح بوسعهم الآن احتكار صوت العالم من خلال تقديم معلومات كاذبة وتحويل اللوم،  ولحل هذه المشكلة في المستقبل، يحتاج العالم إلى آلية بديلة جديدة، تتشكل على أساس توحيد الغالبية العظمى من دول العالم، وليس لعبة المحصلة الصفرية للولايات المتحدة وحلفائها، كما يحدث الآن، والتعاون وحده هو الذي سيساعد في حل المشاكل العالمية.

إن الفجوة بين روسيا والغرب آخذة في الاتساع، لكن موسكو تعمل على زيادة التعاون في أجزاء أخرى من العالم،  وأصبح هناك اتجاه مختلف تمامًا، فقد زادت موسكو من نفوذها في العديد من البلدان المهمة، بما في ذلك تلك التي لها أهمية كبيرة بالنسبة لواشنطن، واستغلت هذه الدول بدورها الانقسامات العالمية الجديدة لتعزيز سلطتها الإقليمية والدولية، كذلك حولت روسيا الماضي السوفييتي، إلى أداة فعالة لتحقيق أهدافها السياسية الحالية، وفي علاقاتها مع الهند وإندونيسيا والمكسيك وجنوب أفريقيا، تعتمد روسيا على الدعم التاريخي الذي يقدمه الاتحاد السوفييتي للحركات المناهضة للاستعمار،  ويضع الوزير لافروف روسيا في صف الدول التي تعارض "محاولات الغرب لتزوير التاريخ ومحو ذكرى الجرائم الفظيعة التي ارتكبها المستعمرون، بما في ذلك الإبادة الجماعية".

الولايات المتحدة الامريكية تتهم  روسيا بابتزاز العالم في أزمة الحبوب، بدلاً من المساعدة في حل أزمة الغذاء العالمية، ويؤكد وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "لا يسمح بإمدادات الغذاء" ويحاول جعل العالم يوافق على مطالبه ويرفع العقوبات، " وبعبارة أخرى، بكل بساطة، هذا ابتزاز"، والاشارة الى إن أوكرانيا الآن غير قادرة على نقل الحبوب "بسبب الحصار البحري الروسي"،  وبحسب تقديره فإن «هناك ملايين الاطنان من القمح محتجزة في منشآت التخزين قرب أوديسا وعلى متن السفن العالقة في ميناء أوديسا بسبب هذا الحصار الروسي».

كما تواصل الولايات المتحدة صب الزيت على الصراع بين روسيا وأوكرانيا،  وتزيد العقوبات ضد موسكو، بالإضافة إلى ذلك، اتخذت أمريكا تدابير داخلية، واستولت على حصة روسيا في سوق الغذاء العالمي، ويقال إن الرئيس الأمريكي جو بايدن زاد عدد المقاطعات المؤهلة للتأمين المزدوج على المحاصيل على مستوى البلاد من 681 إلى 1935، كما رفع استثمارات الحكومة الفيدرالية في إنتاج الأسمدة المحلية من 250 مليون دولار إلى 500 مليون دولار، مما عزز الصادرات الزراعية الأمريكية،  وزيادة الاعتماد الخارجي على الغذاء الأمريكي، ويبدو أن النية الحقيقية للولايات المتحدة هي بسط هيمنتها على مجال الأمن الغذائي.

كذلك  اتهامات رئيسة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، سامانثا باور، التي اتهمت روسيا في برنامج تلفزيوني أمريكي PBS NewsHour باستفزاز أزمة الغذاء العالمية، ووصفت سبب «القفزة الهائلة في أسعار المواد الغذائية» في العالم بأنها  جراء عملية عسكرية روسية خاصة في أوكرانيا، وهذا الحصار المتعمد بالكامل حول تصدير الحبوب من الموانئ الأوكرانية، وردا على سؤال أحد الصحفيين عما إذا كانت تدرك أن العقوبات الأمريكية المفروضة على شركات النقل التي تصدر الحبوب الروسية، قالت "كل ما هو مطلوب هو ضمانات السلامة لجميع السفن الجارية، وبعد ذلك ستنعكس ضمانات السلامة هذه في أسعار التأمين"، فضلاً عن قيود أخرى مماثلة، «ساهمت في ارتفاع أسعار الغذاء العالمية».

وكل ما تقدم من اتهامات فندتها روسيا عندما أعربت موسكو عن استعدادها لتقديم 50 مليون طن من الحبوب للمساعدة في التغلب على أزمة الغذاء، فقد أتهمتها الولايات المتحدة وأوروبا بـ "الابتزاز"، حيث طالبت روسيا برفع العقوبات،  ووفقا لمتحدث باسم البنتاغون، فإن روسيا "تستخدم الغذاء كسلاح"، وفي الواقع، يعد تحويل الغذاء إلى "أسلحة" ممارسة شائعة في الولايات المتحدة، ولأن أمريكا استخدمت الغذاء مراراً وتكراراً "كسلاح" فقد أصبح الغذاء نقطة ضعف في التجارة العالمية.

تصريحات المسئولين الروس وعلى كافة المستويات ترفض الاتهامات الغربية عموما والأمريكية بشكل خاص، مسئوليتها عن الازمة العالمية في الحبوب، ويؤكدون أن  أزمة الغذاء العالمية لم تنشأ  بسبب العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، وكما يروج له الغرب،  بل هي بسبب تصرفات الدول الغربية، ويؤكد  الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ان هذه الازمة قد نشأت نتيجة أن الدول الغربية، سواء الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية، بدأت في الانخراط في انبعاثات غير مبررة وغير مبررة اقتصاديا من أجل حل مشاكلها المرتبطة بوباء فيروس كورونا.

إن الوضع الحالي المتمثل في نقص المنتجات الزراعية في العالم قد تطور من وجهة النظر الروسية، بسبب عدد من العوامل، وعلى وجه الخصوص، بسبب عواقب الوباء، والاضطرابات في سلاسل التوريد، والتضخم، والتوسع الحضري المتسارع، وإرهاق التربة المتراكم، وكذلك تغير المناخ،  ومع ذلك، فإن مكانًا خاصًا في هذه القائمة تحتله مجموعة من العقوبات غير القانونية المناهضة لروسيا، ويركز الجانب الروسي  أيضًا على حقيقة أن العقوبات المفروضة في مجالي النقل والمجال المالي، هي التي تزيد من تفاقم الوضع الصعب الذي تطور في أسواق الغذاء العالمية.

وبدافع من الاحتياجات الاستراتيجية، تعمل الولايات المتحدة وأوروبا وفقا للمسئولين الروس،  على تحويل المسؤولية عن أزمة الغذاء العالمية إلى روسيا، وتمارس الضغوط عليها بطرق مختلفة، لكن فلاديمير بوتين،  نفى ذلك، وقال إن اتهامات روسيا بوجود صعوبات في توريد المنتجات الزراعية "لا أساس لها من الصحة"، معللا في الوقت نفسه ان الأزمة الحالية، ناجمة عن العقوبات التي فرضها الغرب على موسكو، فقد كانت القيود المناهضة لروسيا هي التي أدت إلى تفاقم الوضع، ويعود ذلك في الواقع إلى تعطل سلسلة الإمدادات الغذائية العالمية بسبب العقوبات الاقتصادية الشاملة، مما أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار المواد الغذائية، وفي الوقت الحاضر، لم تقترح أمريكا وحلفاؤها بعد حلولاً حقيقية للمشكلة، ولكنها تواصل تصعيد الصراع من خلال تزويد أوكرانيا بالمزيد والمزيد من الأسلحة والمعدات الجديدة، الأمر الذي لن يؤدي إلا إلى زيادة خطر الأمن الغذائي العالمي في المستقبل.

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بدوره، يؤكد إن التكهنات التي تروج لها الدعاية من الدول الغربية وأوكرانيا بأن روسيا "تصدر الجوع" ليس لها أساس من الصحة، ووفقا له، فإن مثل هذه التصريحات في الغرب تحاول مرة أخرى "تحويل المسؤولية من رأس مريض إلى رأس سليم"، وأشار الوزير إلى أنه خلال أصعب أوقات جائحة فيروس كورونا، قام الغرب الجماعي، باستخدام آلية انبعاث العملة، بسحب تدفقات السلع والغذاء، مما أدى إلى تفاقم الوضع في البلدان النامية التي تعتمد على الواردات الغذائية، وذلك عندما بدأت الأزمة في سوق المواد الغذائية بالتشكل.

والأمر الأسوأ من ذلك هو أن العقوبات غير المدروسة ضد الغاز والأسمدة الروسية، أدت إلى ارتفاع الأسعار في العالم وزيادة التقسيم الطبقي، واستمر الأغنياء في شراء ما يزيد على حاجتهم، وخلال الوباء، زاد عدد الجياع في العالم بمقدار الثلث، وبمجرد أن أصبح من الواضح أن أسمدة لن تكون متاحة في السوق العالمية، ارتفعت أسعار الأسمدة والأغذية على حد سواء على الفور، لأنه إذا لم تكن هناك أسمدة، فلن يكون هناك الحجم المطلوب من المنتجات الزراعية المنتجة،  وروسيا ليس لها علاقة بالأمر على الإطلاق، فقد  ارتكب الغرب نفسهم الكثير من الأخطاء، "وهم الآن يبحثون عن شخص يلومونه عليه».

وتصف موسكو محاولات الولايات المتحدة إلقاء اللوم على روسيا في أزمة الغذاء بأنها "سخيفة" وهكذا، ردت على اتهاما، سامانثا باور، التي وصفت سبب «القفزة الهائلة في أسعار المواد الغذائية» في العالم بأنها عملية عسكرية روسية خاصة في أوكرانيا، وإن تصريحات الجانب الأمريكي غير مهنية، وتخلو من التحليل والفهم الصحيح للوضع، “أو بالأحرى الرغبة في فهم جوهر المشكلة”،  وإن الولايات المتحدة تلوم روسيا بلا أساس على هذا الوضع من أجل المزيد من شيطنتها.

الاستنتاج الأخير هو إن واشنطن تتعمد تضخيم مشكلة تصدير الحبوب الأوكرانية عبر موانئ البحر الأسود بشكل مصطنع من أجل “إخفاء دورها الكارثي في أزمة الغذاء”، وإن الغرب يحاول "تحويل" المسؤولية عن المشاكل في سوق الغذاء العالمية إلى روسيا، ولكن أوكرانيا لديها العديد من قنوات نقل الغذاء للاختيار من بينها، وروسيا لن تتدخل في الإمدادات الغذائية، بالإضافة إلى ذلك، وأن صادرات القمح الروسي سترتفع إلى 50 مليون طن في العام الزراعي المقبل.

***

بقلم: الدكتور كريم المظفر

الشعب في غالبيته العظمى يعتاش بالمعنى الحرفي على ما تمنحة الدولة من مرتبات ومخصصات ومعونات، والدولة بدورها تدير أكبر رأسمال في البلد والمتمثل باستخراج النفط وبيعه وصرف ما تجنيه من أموال على ما يعرف بالميزانيات التشغيلية، من دون تفكير في مشاريع تطوير تنموية مستقبلية، أو إنعاش قطاعات الصناعة أو الزراعة، أو الخدمات التي من المفروض أن توفر دخلا للدولة عبر ما تجنيه من الضرائب، والنتيجة هي أن الحكومة في العراق ممسكة بمصدر الدخل الأكبر، الأمر الذي يرسخ غياب مفهوم المواطنة والمواطن (دافع الضرائب) الذي من حقه محاسبة الحكومة إذا قصرت في عملها، والمطالبة بكشف الفاسدين ومعاقبتهم. النتيجة أصبح المواطن يعيش نوعا من الفصام، إذ يطالب بأعلى صوته بالقضاء على الفساد والمحسوبية والمحاصصة، طالما كان الأمر مجرد شعارات يصرخ بها في ساحات التظاهر، لكن حالما تُمس مصالحه نراه يتحول إلى متواطئ مع الفساد، بل ممارس له وساعٍ للاستفادة من علاقاته بقريب سياسي، أو نسيب يشغل منصبا حكوميا، وربما كان المثال الاوضح الذي يمكننا الاشارة له هو السياق الجاري عندما يذهب شخص ما لإنجاز معاملة في دائرة خدمية، إذ نراه يبحث عن معارف في هذه الدائرة أو تلك، لينجزوا له ما يطلبه من خدمة حتى إن تجاوز في سلوكه على حق الآخرين. وهذه هي أولى خطوات ترسيخ الفساد, ويحق لكل موظف الإبلاغ عن مخاوفه من خلال استخدام مجموعة متنوعة من قنوات الإبلاغ المتوفرة في جميع أنحاء الشركة، مع تعهدنا بالحفاظ على السرية وحظر أي نوع من أنواع الانتقام تجاه أي شخص بسبب الإبلاغ عن مخاوف تتعلق بالنزاهة أو المساعدة في تداركها, نحن جميعًا مسؤولون عن الالتزام بقواعد (ميثاق أخلاقيات المهنة) وفهم مخاطر الامتثال التي تؤثر على وظائفنا، فجميع الموظفين يقرون سنوياً بفهمهم لقواعد (ميثاق أخلاقيات المهنة) ويكملون التدريب المخصص على السياسات الواردة فيه. ونتحمل جميعًا مسؤولية الإبلاغ على الفور عن المخاوف المتعلقة بالنزاهة أو الانتهاكات، وقد يؤدي عدم القيام بذلك إلى عواقب وخيمة على شركتنا وموظفينا والمجتمعات التي نعمل فيها,, عليه يتمثل أساس ثقافة النزاهة لدينا في قواعد (ميثاق أخلاقيات المهنة). وتتطلب هذه القواعد في  سلوكًا مسؤولًا في العمل كقيمة أساسية، مع إيلاء أولوية عالية للنزاهة، فالنزاهة لا تبني بيئة عمل وثقافة جيدة للشركة فحسب، بل تجذب الاستثمار أيضًا وبالتالي ترعى النمو الاقتصادي وتعزز التجارة الدولية

إن انتخاب الحكومات المحلية انتخابا ديمقراطيا حقيقيا من أبناء المحافظات أمر جيد، لكن فساد هذه الحلقة من حلقات الحكم في العراق مماثلة لما جرى ويجري في الحكومة المركزية، وإن الحل هو المعالجة الحقيقية التي ترسخ قيم النزاهة ومعالجة الفشل والفساد، وذلك عبر ترسيخ أنظمة فعالة وجدية لتقويم أداء المؤسسات الحكومية، من خلال مبدأ محاسبة تكاليف الفساد المادية وغير المادية، لكي لا تكون مبرراً لتجميد إلغاء خطط مكافحة الفساد لارتفاع تكاليفها عن تكاليف الفساد. كما يجب خلق طرق فعالة للحد من ظاهرة تسهيل غسيل الأموال التي تتبعها شبكات التخادم بين الطبقة السياسية ومافيات الفساد المنتشرة، وبضمنها مافيات السلاح والمخدرات والاتجار بالبشر، وتداخل ذلك مع بعض الانشطة السياسية والاجتماعية في العراق. والتأكيد على التحفيز على القيام بالواجب وعدم ارتكاب المخالفات عن طريق الترغيب والترهيب،انتهت الانتخابات، وبنى البعض عليها الدراسات والتحليلات، وبعضهم شغلوا أنفسهم بالاستنتاجات والتوقعات والتنبؤات المستقبلية،فيما عد البعض أنفسهم للافراح والليالي الملاح، لأنهم عرفوا كيف يختارون من يتولى جلدهم بسياط الفساد.,, لست متشاؤم، لكن هذا ماسمعته بأذني خارج احد المراكز الانتخابية، حيث شراء الذمم والأصوات والضمائر، بخفافيشية ومن تحت الطاولة, هؤلاء ( مرشحين ومروجين وناخبين ) بنظرهم الانتخابات مجرد لعبة قذرة، يفوز فيها من يتحايل فيها، ومن يتقن الالتفاف على القانون الذي يحكم هذة الانتخابات، وعملية تزوير لإرادة الناخبين، وتغيب وعيهم، وفرض الوصايه عليهم، ومن أهم شروطها ان لا تمارس بشرف ووطنية.- ولا تخص المرشحين أصحاب الشعبية الجيدة والمعتدلة، بل تخص تحديدا من لا شعبية لديهم،

إن الثقافة هي الركن األساسي لبناء النزاهة وتعزيزها في المجتمع، باعتبارها رافدا من روافد الثقافة المستقبلية، وبما أن النزاهة هي مجموعة من القيم والمبادئ المتعلقة بالصدق واألمانة واالخالص بالعمل مهمتها تعزيز ثقافة السلوك األخالقي للعاملين داخل العمل المؤسسي لتسهم في تحديد وتعزيز العمل باالتجاه الصحيح، فإن الوعي بأهمية النزاهة يجب أن ينعكس على أهداف النزاهة، فاألهداف التربوية الصحيحة هي التربية الصحيحة، لذا فإن األهداف البد أن تكون مشتقة من قيم المجتمع وأهدافه ومراعية إلمكانات الواقع وظروف كل عصر وأن تكون قابلة للتنفيذ وعلى مراحل. فالتعليم الفعال يوصلنا إلى الغاية واألمل المنشود, والقانون ليس هو الرادع الوحيد للفساد، بل يجب أن تكون هناك ثقافة النزاهة وحفظ المال العام، وهنا يجب إعطاء الدور الريادي لوزارات الثقافة والتربية والتعليم العالي لوضع مناهج دراسية لكل المراحل، للمساعدة في خلق ثقافة الحرص على المال العام والنزاهة في التعامل، وتقليص روح الأنانية الفردية والسمو بالروح الجماعية. والعمل على تثقيف المجتمع وتحويل ولائه الضيق بصورة تدريجية من العائلة والعشيرة إلى الوطن، عبر ترسيخ قيم المواطنة

وختاما نؤكد على أهمية تفعيل القانون ووضع مناهج تربوية وثقافية يتم ترسيخها عبر وسائل الإعلام المختلفة، لخلق ثقافة النزاهة وحفظ المال العام عبر استراتيجية طويلة المدى، لغرض ترسيخ سلوكيات الولاء والانتماء لدى الأفراد وتعزيز قيمنا الوطنية الخالدة,, ونجاحنا يعتمد على ترسيخ ثقافة النزاهة، التي تعزز بدورها الجودة والإبداع، وتحافظ على معايير عالية للبيئة والصحة والسلامة، وتوفر فرص العمل العادلة والاستدامة. ولذلك فالنزاهة تعد جوهر كل ما نقوم به, والتزامنا بمعايير الامتثال وثقافة النزاهة في المجتمع يمتد إلى ما هو أبعد من محاولة منع العواقب المرتبطة بالانتهاكات، مثل العقوبات والغرامات، حيث نؤمن أن أداء العمل بنزاهة، وترسيخ ثقافة نزاهة قوية على مستوى الشركة، عاملان أساسيان في تحقيق ألاهداف على الأمد البعيد.

***

نهاد الحديثي

تحرير الأنسان "... هذا ما قالهُ الروائي والكاتب الروسي نيكولاي وستروفيسكي وهو على فراش الموت بعمرٍ مبكروهو سعيد لا يشعر بندم ولسع الذات طالما شارك الجموع الغفيرة في تحقيق الأمنية الغالية (النضال في سبيل تحرير الأنسان)، في موسكو تجد متحفاً وسط المدينة أسمهُ متحف نيكولاي ويستروفيسكي، إن أول ما يلفت النظر في محتويات المتحف  قولهُ نيكولاي على لسان بطل روايته الطفل بافل والذي نقش على قاعدة تمثاله " تعلم أن تعيش حتى ولو أصبحت حياتك لا تطاق " ويأتي أليه تلاميذ المدارس والجامعات ليتعلموا الصبر والشجاعة والصمود من روايته الشهيرة (كيف سقينا الفولاذ) فالرافعة المنقذة هنا الأدب الأشتراكي صاحب المدرسة الواقعية وقادة هذه الرافعة المنقذة هم نخبة اليسار  التقدمي في أعادة بناء الطموحات الأسترأاتيجية المستقبلية في تحقيق آمال الجماهير ودحض النظريات الرأسمالية المتهالكة فتكون هذه النخب مؤهلة في تكوين كتلة قيادية لمواجهة الزحف الأستعماري المتلهف لمراكز الطاقة في وطننا العراق، والذي نراهُ على صفحات الخارطة السياسية العراقية تثير ظاهرة الأستقطاب الحاد بين المعادلة السياسية وغياب وتشظي قوى اليسار التقدمي في العراق التي باتت تميزه في ظل أنحساره وتراجعه وأنشقاقاته وتشرذمه إلى ماركسية وماوية وتروتسكية وجيفارية وو، بعد أحداث غياب التجربة السوفيتية، والواقع المخيف بأعتقادي: إن هذا المد السريع لأحزاب اليمين والمتطرف خاصة أصبح رقماً صعباً في المعادلة السوسيولوجية الجمعية الغربية أصبح بأمكانه ِ (أزاحة) التكوينات اليسارية بطرق شيطانية متاحة أخبثها الأنقلابات العسكرية كما حدثت في أمريكا اللاتينية أو اللجوء إلى عكازة الديمقراطية الأمريكية العرجاء  وإلى صناديق الأقتراع بمقاس أمريكي، وتطفح حينها على السطح نكوصات وخيبات، وعبر الصراع الطبقي الغير حميد تبرز الحروب الأهلية كالحرب الأهلية اللبنانية في سبعينات القرن الماضي، وأنقسام المجتمع حسب مصالحها الطبقية حيث العصبيات الأثنية والطائفية، وتشظي اليسار العراقي بفعل تلك الفايروسات الهوياتية والشعبوي في سبعينيات القرن الماضي إلى يمين متطرف وثم إلى يسار متطرف بكفاح مسلح بتأثير المد القومي الناصري الذي أصبح عاملا فعالا في أنجاح أنقلاب 63 ضد ثورة 14 تموزوالأطاحة بقائدها الزعيم الخالدعبدالكريم قاسم .

وللوصول إلى مفهوم دقيق لليسار يجب أن يقوم على اسس متينة نقية من الشوائب الطفيلية والنفعية والأنتهازية، وأن يكون مستعداً ومشاركاً فعالاً في الصراع العالمي اليوم المتمثل في سطوة الأمبراطورية الأمريكية القائمة على الأحتلال والأستحواذ على خيرات الشعوب، وهنا يحتم على اليساري أن يكون المدافع الأصيل على طبقته أي مصالح الطبقات الفقيرة والكادحة شغيلة اليد والفكر، وأن يكون اليساري في قلب عاصفة الصراع الطبقي ليصيح حقاً ( أيقونة ) الشعوب المضطهدة وبالسعي الحثيث لتحقيق الدولة المدنية الديمقراطية .

أسباب أنشقاق وتشظي اليسار العراقي

فهوحدث تأريخ مأساوي ذو شجون ومن الصعوبة لملمة ما قيل وقال في الأعلام المحلي والعربي والعالمي حول هذه الأنقسامات المزرية، وأبرز وأهم سبب أجمع عليه المختصون في هذه  الظاهرة المعيبة هو أنفراط عقد منظومة الأتحاد السوفييتي المدافع عن الشرعية والعدالة ودفاعها المستميت عن الديمقراطية والحرية وتبادل السلطة سلميا والوعي الأنتخابي وثقافة الناخب .

ونعود للبحث عن ثمة أسباب وأسباب متعددة أخرى فرضت نفسها في فوضى الرأي وخوائه منها : دكتاتوريات (بعض) الأحزاب الشيوعية على قواعد حزبها المؤدلجين خصوصا بدوافع أثنية ودينية، ولاننسى دور العولمة في قطب الرحا الواحد وتغول الرأسمالية المتوحشة في زعزعة بوصلة الأعلام العالمي الموجه وهي تلك القوة الناعمة الخفية في تعميق الصراع الطبقي الذي أدى لأظهاربيئة خصبة بالفقر والجهل والتخلف وخاصة في الدول النامية وكان عاملا مساعدا في أنقسامات اليسارالتقدمي، أضافة إلى تحالفات الأحزاب الشيوعية والقومية والدينية كانت لها آثار واضحة في أنقسامات وتشظي اليسار التقدمي .

ومن تداعيات غياب اليسار التقدمي في العراق

كان لأفول نجمه أثراً واضحاً في ظهور اليمين المتطرف في الغرب الأوربي وأمريكا وتطلعاتها السلبية المثيرة على الساحة السياسية الأوربية خصوصاً، وهي أحدى أكبر الظواهر السياسية أهمية خلال العقدين الأخيرين حيث قلبت الأجواء السياسية بشكل مقلق ومثير، حينها أصبحت أدارة الملفات الأمنية تحت تأثير ممثلين اليمين المتطرف من مؤسسات وأفراد، وأن الخطاب الأمريكي بعد الألفية الثانية من هذا القرن قد مال نحو اليمين المتطرف فيما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط العربي وخاصة أنهيار مفاوضات كام ديفيد للسلام الأولى عام 2000 (قبل الثانية) بزعامة بيل كلنتون وياسرعرفات، والوافع المخيف من هذا الطوفان السريع لأحزاب اليمين الغربي أصبح من الصعب في توازن المعادلة السوسيولوجية الجمعية لأزاحة اليساربالطرق الديمقراطية، وكانت أقوى ضربة قاصمة وجهت لليسار في العراق والشرق العربي كانت الحرب الأهلية اللبنانية في سبعينات القرن الماضي بسبب الغلو في ألأثنية والقومية والطائفية ومع الأسف الشديد ظهرالفايروس الأثني والطائفي والهوياتي والشعبوي إلى العراق المجاور سنتي التعصب الفكري والطائفي المقيت وظهوره بنموذج شبه حرب أهلية 2006 - 2014 ولولا عناية الله في التهدئة في أنقسام الجماهير حسب مصالحها الطبقية وتشظي اليسار العراقي إلى اليمين المتطرف بتأثير المد القومي الناصري، وإلى اليسار المتطرف برفع شعار الكفاح المسلح من قبل تيارات يسارية متطرفة منشقة من آيديولوجيات معتدلة ومسالمة، وتوسعت الهوة بين التيارات والآيديولوجيات مما أدى إلى ظهور دكتاتوريات قمعية بوليسية قطعت العمل السياسي بشكل ممنهج وظهور التخندق الطائفي واضحاً جداً بعد 2003 .

العلاج...؟!

ليس هناك حسب النظام العالمي الجديد وصفة جاهزة لعلاج أنقسامات وتشظي اليسار التقدمي في العراق والأقليمي والدولي بل هنا وهناك مسؤليات (طوعية) في تصور ورؤية اليساري التقدمي في أيمانه الوطني بالتغيير ببرنامج قريب للواقع وبديل لما نعيشه اليوم، وهذا البرنامج –حسب أعتقادي – خطير يمس تأريخ اليساري بأفتقاده مبدأ الأختيار فهو يقف على فوهة بركان فأما أن يقف سداً مانعاً أمام الخطاب الطائفي والعرقي والشعبوي ليس هذا فقط بل القفز على الفكر السياسي المتكلس وأن يعي الوعي الأنتخابي وأدراك ثقافة الناخبين والرضوخ لمبدأ المساومة والأنتقائية وأزدواجية المواقف والوقوف على التل لمشاهدت أحتلال العراق وضرب الكرد بالكيمياوي وأحتلال أفغانستان وحرب تقسيم يوغسلافية وأطلاق يد اللوبي الصهيوني في أستباحة غزه (او) الرجوع  إلى حزبه الشيوعي إن كان ماركسيا أو إلى حزبه  الذي يمثل طبقته وكفى اللهُ المؤمنين شر القتال، ولآن :كل ما طُلب من اليساري التقدمي من واجبات لحلحلة التفكك والقبول بالنظام العالمي الجديد هي حلول آنية ترقيعية، ولآنها لم تعد اليوم وضوحا بين خطوط التماس في خارطة القطب الواحد بين اليمين العالمي بزعامة أمريكا واليسار (اليتيم) بعد أنهيار الأتحاد السوفييتي، وأخيراً لا يصح إلا الصحيح وهو اللجوء إلى الحل الجذري  الثورة (التغيير) للوضع المتخلف بالدولة المدنية الديمقراطية وهي كفيلة بتوحيد قوى اليسار التقدمي

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب

كانون أول \ سبتمبر23

 

ظهر مصطلح "الكذبة الكبرى" في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بعد أن سعى هتلر إلى إلقاء اللوم على السكان اليهود وغيرهم من الأعداء في هزيمة ألمانيا.

في كتابه "كفاحي" أوضح هيتلر فكرة مفادها أن الناس أكثر عرضة لتصديق الأكاذيب الهائلة من الأكاذيب الصغيرة، لأنهم لا يتوقعون من الآخرين اختلاق شيء بهذه الجرأة. وأصبح هذا المفهوم حجر الزاوية في الدعاية النازية، مما مهد الطريق لنشر الأكاذيب الهائلة التي غذت الكراهية والتعصب.

غالبًا ما يعتمد نجاح الكذبة الكبرى على العديد من التكتيكات والآليات الرئيسية التي تتلاعب بالرأي العام وتستغل نقاط الضعف النفسية ومنها التكرار المتواصل للأكاذيب الذي يمكن أن يضفي عليها لونا من المصداقية. كلما زاد عدد الأشخاص الذين يسمعون دعاية أو ادعاءً ما، حتى لو كان كاذبًا، زاد احتمال قبولهم له على أنه حقيقة. ويستفيد هذا التكتيك من الظاهرة النفسية المعروفة باسم "تأثير الحقيقة الوهمية" حيث تنتج الألفة عنصر الاعتقاد.

غالبًا ما تلعب الأكاذيب الكبرى على عواطف الشعوب، وتثير الخوف أو الغضب أو غيرها من المشاعر القوية. من خلال دغدغة الغرائز البدائية، يمكن للمتلاعبين تجاوز التفكير العقلاني وإقامة علاقة عاطفية عميقة مع جماهيرهم.

إن تحديد عدو مفترض أو كبش فداء يمكن أن يكون بمثابة قوة موحدة للأمة . غالبًا ما تتضمن الكذبة الكبرى إلقاء اللوم على مجموعة معينة في القضايا المجتمعية، وصناعة عدو مشترك وتعزيز الدعم من أولئك الذين يشعرون بالتهديد أو التهميش.

والكذبة الكبرى لا تنطوي دائمًا على التلفيق الكامل؛ وقد تتضمن عناصر من الحقيقة لتعزيز مصداقيتها. من خلال تقديم نسخة مشوهة من الواقع، يمكن للمتلاعبين التضليل دون الابتعاد تمامًا عن الأسس الواقعية.

وتمتد تداعيات الكذبة الكبرى إلى ما هو أبعد من عالم الدعاية؛ فمن الممكن أن يكون لها عواقب وخيمة على الأفراد، والمجتمعات، بل وحتى الشؤون الدولية .

يؤدي توظيف الكذبة الكبرى إلى تآكل الثقة في المؤسسات ووسائل الإعلام والمواطنين. وعندما يصبح من الصعب تمييز الأكاذيب عن الواقع، تسود الشكوك، وتتضاءل الثقة في مصادر المعلومات.

تساهم مؤامرة البحث عن كبش الفداء والخلافات المتأصلة في الكذبة الكبرى في الاستقطاب والتكتل الاجتماعي. ومن خلال تعزيز عقلية "نحن في مواجهة عدو مفترض" يزرع المتلاعبون بذور الشقاق ويضعفون النسيج الاجتماعي.

إن قبول الكذبة الكبرى يمكن أن يؤدي إلى تطبيع الخداع في الخطاب العام. عندما يعتاد المجتمع على الأكاذيب الكبرى، قد تمر الأكاذيب الصغيرة من جهتها دون أن يلاحظها أحد أو يتم تجاهلها باعتبارها غير ذات أهمية.

في المجتمعات الديمقراطية، الكذبة الكبرى تشكل تهديداً كبيراً. إن التلاعب بالرأي العام من خلال الخداع من الممكن أن يقوض أسس الديمقراطية ، حيث يفسح اتخاذ القرارات المستنيرة والعقلانية المجال أمام الاختيارات العاطفية والمتحيزة.

من جانب آخر يعد محو الأمية الإعلامية أمرا ضروريا في العصر الرقمي. ومع انتشار المعلومات عبر منصات إلكترونية مختلفة، يحتاج الأفراد إلى المهارات اللازمة لتمييز المصادر الموثوقة عن المعلومات الخاطئة. يمكن لبرامج محو الأمية الإعلامية تمكين الناس من التنقل في المشهد الرقمي بطريقة مسؤولة.

إن الكذبة الكبرى، بجذورها في التاريخ وتشابكها في المجتمع المعاصر، هي بمثابة قصة تحذيرية حول قوة الخداع السياسي. إن فهم الآليات التي تقوم عليها هذه الظاهرة أمر بالغ الأهمية لتطوير استراتيجيات لمواجهة تأثيرها. بينما نبحر في عصر يتسم بوفرة المعلومات والتلاعب بها، أصبحت ضرورة تعزيز التفكير النقدي، ومحو الأمية الإعلامية، والتواصل الشفاف أكثر إلحاحا من أي وقت مضى. وفي مواجهة الكذبة الكبرى، تصبح القدرة الجماعية للمواطنين المطلعين والفطنين على الصمود أقوى دفاع ضد تشويه الحقيقة.

***

عبده حقي

 

بعد 70 عاما من الحياد الفنلندي، أقدمت هلسنكي على خطوة تخليها عن ذلك الحياد، بالتوقيع على اتفاقية تعاون ثنائي مع الولايات المتحدة الامريكية، وقالت ان هذه الاتفاقية ستعزز التحالف الثنائي بينهما، أمن فنلندا ودفاعها وتسمح للبلدين للتعاون في أي حالات متعلقة بالأمن، كما أن هذا الاتفاق له أهمية إقليمية وسيساعدها على المساهمة في جهود الدفاع الجماعي لحلف شمال الأطلسي، وبحسب وزير الدفاع الفنلندي، فإن الاتفاق لا تستبعد نشر الأسلحة النووية، لكنه ينص على وجوب مراعاة التشريعات الفنلندية، ويحظر قانون الطاقة النووية تخزين ونقل الأسلحة النووية في فنلندا.

واتفاقية التعاون الدفاعي بين فنلندا وواشنطن، والتي وقعها وزير الدفاع الفنلندي أنتي هاكانن ووزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن في واشنطن، تسمح لواشنطن من إرسال قوات لفنلندا، الواقعة شمالي أوروبا، والتي تشارك حدودا مع روسيا، لتعزيز دفاعها وتخزين أسلحة ومعدات عسكرية هناك وغيرها من البنود، وقد أفتتحت فنلندا لهذا الغرض 15 منشأة لنشر الأسلحة والأفراد العسكريين الأمريكيين، وقال وزير الدفاع الفنلندي أنتي هاكانن عشية التوقيع، بأنها "تحمل رسالة قوية للغاية في هذا الوقت، مفادها أن الولايات المتحدة ملتزمة بدفاعنا أيضا في اللحظة الصعبة"، وطالب الوزير الفنلندي برلمان بلاده المصادقة على الاتفاقية  لأنها برأيه " مهمة للغاية لأمن ودفاع فنلندا"، وبالإضافة إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، فإن هذا يشكل رادعاً قوياً إلى حد ما " لجيراننا، ولا أحد يجرؤ على ممارسة ضغوط عسكرية علينا أو زعزعة استقرار الوضع”.

وتقول القيادة الروسية إن مجرد ضم فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي لا يثير قلق موسكو بشكل خاص، وليس لديها نفس المشاكل مع السويد وفنلندا التي لديها للأسف مع أوكرانيا، وليست لديها قضايا إقليمية، ولا نزاعات، وليس لديها أي شيء يمكن أن يزعج فيما يتعلق بعضوية فنلندا أو السويد في الناتو ، ويشدد الكرملين الذي سبق التعليق على اتفاقية التعاون الدفاعي التي وقعتها فنلندا مع الولايات المتحدة، وشدد على إن الأمر “سيشكل بوضوح تهديدا لروسيا”، وكجزء من الاتفاقيات الجديدة، سيكون للأميركيين إمكانية الوصول على نطاق واسع إلى القواعد العسكرية والمرافق الأخرى في فنلندا، وسيكونون قادرين على نشر القوات والأسلحة والمعدات هناك، والتي سبق وأن حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أنه إذا تمركزت قوات الناتو والبنية التحتية في فنلندا، فإن روسيا سترد بنفس الطريقة .

وقال بوتين في لقاء تلفزيوني عشية توقيع الاتفاق الأمريكي الفنلندي، أن علاقات روسيا مع فنلندا كانت من أفضل العلاقات، ولكن انضمام الأخيرة إلى الناتو" أجبرنا على تركيز الوحدات العسكرية في منطقة لينينغراد العسكرية"، وتابع بوتين، متحدثا عن عواقب انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي "لم تكن هناك مشاكل، والآن ستظهر هناك، لأننا سننشئ الآن منطقة لينينغراد العسكرية هناك ونركز وحدات عسكرية معينة"، ووفقا له، في السابق "لم تكن هناك أي تهديدات" لهذه البلدان، والآن، إذا استضافت الوحدات العسكرية والبنية التحتية للحلف، فإن موسكو "ستضطر إلى الرد بطريقة مرآة وخلق نفس التهديدات للمناطق التي تنطلق منها (روسيا).

بدوره اعرب وزير الدفاع الروسي سيرغي شايغو عن اعتقاده أنه "في المستقبل القريب، لا يمكن استبعاد نشر قواعد عسكرية للتحالف وأسلحة هجومية على أراضي هذه الدول"، ووصف الوزير الروسي الشراكة الاستراتيجية بين موسكو ومينسك بأنها مهمة في الظروف "عندما تدهور الوضع على طول محيط حدود الدولة الاتحادية بشكل حاد بسبب الأنشطة العدائية العلنية لحلف شمال الأطلسي"، مشددا في الوقت نفسه على ان روسيا تعمل على تعزيز حدودها الغربية، بما في ذلك ردا على إمدادات الأسلحة إلى أوكرانيا من دول الناتو، المركبات المدرعة، وأنظمة الدفاع الجوي، والصواريخ عالية الدقة، وقال إن روسيا تعمل على تعزيز حدودها الغربية،، واعترف في وقت سابق بأن الناتو سينشر أسلحة في فنلندا قادرة على ضرب أهداف روسية مهمة في الشمال الغربي، واكد خلال اجتماع للإدارتين العسكريتين في روسيا وبيلاروسيا، إن انضمام فنلندا إلى حلف شمال الأطلسي وإجراء مناورات مشتركة في السويد "خلق مصدرا إضافيا للتوتر".

وبعد توقيع الاتفاقية، يجب أن يتم التصديق عليها من قبل برلماني البلدين، ولدى الولايات المتحدة اتفاقيات مماثلة مع لاتفيا وليتوانيا والنرويج وإستونيا، وفي 5 ديسمبر/كانون الأول، وقعت الولايات المتحدة مثل هذه الاتفاقية مع السويد،، واستكملت الدنمارك مؤخرًا المفاوضات بشأن تطوير نفس الوثيقة مع الولايات المتحدة، ويؤكد المراقبون أن هذا الاتجاه يؤدي إلى تشكيل تحالف جديد من الدول ذات المصالح المماثلة .

ويعود التعاون الدفاعي الوثيق بين فنلندا والولايات المتحدة إلى أوائل التسعينيات، ولم يكن توقيع اتفاقية جديدة ممكنًا بدون هذا التاريخ الطويل من التعاون، وقد تم اتخاذ قرار إعداد مثل هذا الاتفاق بين هلسنكي وواشنطن في أغسطس 2022، وبدأت المفاوضات الموضوعية حول هذه المسألة في مارس 2023، ووصفت وزيرة الخارجية الفنلندية إيلينا فالتونين، الاتفاقية بأنها "ليست نقطة نهاية"، ولكنها "خطوة جديدة نحو تعاون أوثق بين وزارتي الدفاع في فنلندا والولايات المتحدة"، وان الاتفاق يعكس التزام الولايات المتحدة بأمن فنلندا، ويخلق بيئة للتعاون في أوقات الأزمات، وإن فنلندا لن تدافع عن نفسها بمفردها، بل كعضو في حلف شمال الأطلسي ومع الولايات المتحدة.

ونشرت الحكومة الفنلندية نص الاتفاقية قبل أيام قليلة من التوقيع، و تحتوي الوثيقة المكونة من 37 صفحة على 30 مقالًا وملحقًا واحدًا، تنص الديباجة فيها، على وجه الخصوص، على أن الوجود العسكري الأمريكي سيعزز أمن واستقرار فنلندا نفسها والمنطقة ككل، و"إن الظروف الأمنية المتغيرة في فنلندا وأوروبا نتيجة للحرب العدوانية الروسية على أوكرانيا تؤكد مرة أخرى أهمية التعاون الثنائي، وهو مناسب لمختلف المواقف الأمنية"، حسبما ذكرت وزارة الخارجية الفنلندية على موقعها الإلكتروني.

ويحدد الاتفاق كيف يمكن للجنود الذين يصلون إلى هلسنكي العمل في المنطقة وإعادة الإمداد في وقت مبكر، وإن الطرفين سيتفقان مسبقًا على نشر القوات الأمريكية على الأراضي الفنلندية، ولم تناقش الوثيقة عددها أو موقعها على وجه التحديد، وأشار هاكانن إلى أن الولايات المتحدة تتمتع بالولاية القضائية النهائية عليها، ولكن في بعض حالات الجرائم الجنائية، مثل الجرائم الجنسية، يمكن لفنلندا المطالبة بأولوية الولاية القضائية، وقال "سيتم مناقشة دور الجنود الأمريكيين مع الولايات المتحدة في المستقبل".

والاتفاقية الجديدة بين واشنطن و هلسنكي، جاءت استكمالا لمشوار فنلندا الذي بدأ في في الرابع من أبريل من هذا العام، حيث انضمت فنلندا رسميًا إلى حلف شمال الأطلسي، لتصبح العضو الحادي والثلاثين في حلف شمال الأطلسي، على الرغم انهما يتعاونان منذ تسعينيات القرن الماضي، لكنهم قرروا مراجعة سياسة عدم الانحياز التي انتهجوها منذ أكثر من 70 عامًا مع الكتل العسكرية فقط بعد بدء العملية الروسية في أوكرانيا،   وبدأت فنلندا، التي حافظت على شبه الحياد منذ عام 1948، في التحرك بشكل أقرب إلى حلف شمال الأطلسي في منتصف التسعينيات.

ففي عام 1994، انضمت إلى برنامج الشراكة من أجل السلام التابع لمنظمة الحلف، وأرسلت قوات حفظ السلام إلى أفغانستان وكوسوفو، وبدأت القوات المسلحة الفنلندية في التحول تدريجيًا إلى معايير الناتو، وبدأ ممثلو الدول في حضور مؤتمرات القمة والاجتماعات رفيعة المستوى للحلف بانتظام، وفي سبتمبر 2014، وقعت فنلندا والسويد اتفاقية مساعدة عسكرية مع ( الناتو )، مما يعني تعميق التعاون بشكل كبير، ومنذ عام 2021، بدأت فنلندا في إنفاق أكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الإنفاق الدفاعي، على الرغم من حقيقة أنه لم يحقق جميع أعضاء الحلف بعد هذا الهدف الذي اعتمده الناتو، وفي بداية عام 2022، أبرمت فنلندا صفقة مع الولايات المتحدة لشراء 64 مقاتلة متعددة المهام من طراز (F-35 بقيمة 8.5 مليار يورو تقريبًا)، ولم تنضم أي دولة إلى حلف شمال الأطلسي بهذه السرعة من قبل، قدمت فنلندا والسويد طلبا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي في 18 مايو من العام الماضي، وبعد أقل من 11 شهرا أصبح الفنلنديون أعضاء كاملي العضوية، ولكن كان من الممكن أن يجتمعوا في فترة زمنية أقصر لو لم تجعل تركيا والمجر مشروطة الموافقة على طلبهما بمطالبهما السياسية، والتي لا تزال السويد تحاول تلبيتها.

فنلندا لم تتخلى عن حيادها اليوم، مع توقيعها الاتفاق الثنائي مع الولايات المتحدة، فهلسنكي، التي حافظت على شبه الحياد منذ عام 1948، بدأت في التحرك بشكل أقرب إلى حلف شمال الأطلسي في منتصف التسعينيات، ففي عام 1994، انضمت إلى برنامج الشراكة من أجل السلام التابع لمنظمة الحلف، وأرسلت قوات حفظ السلام إلى أفغانستان وكوسوفو، وبدأت القوات المسلحة الفنلندية في التحول تدريجيًا إلى معايير الناتو، وفي سبتمبر 2014، وقعت فنلندا والسويد اتفاقية مساعدة عسكرية مع (الناتو)، مما يعني تعميق التعاون بشكل كبير .

ومنذ عام 2021، بدأت فنلندا في إنفاق أكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الإنفاق الدفاعي، على الرغم من حقيقة أنه لم يحقق جميع أعضاء الحلف بعد هذا الهدف الذي اعتمده الناتو، وفي بداية عام 2022، أبرمت فنلندا صفقة مع الولايات المتحدة لشراء 64 مقاتلة متعددة المهام من طراز (F-35 بقيمة 8.5 مليار يورو تقريبًا) .

ان الاتفاق الجديد هو (مسيس) بالدرجة الأساس، ومحاولة أمريكية لخلق استفزاز لروسيا، فالإدارة الامريكية في الوقت الراهن، تمني النفس بأي انتصار من شأنه ان يعزز مكانتها داخليا، بعد الفشل الذريع لها في أوكرانيا والشرق الأوسط، ورفع شعبية الرئيس بايدن التي تدنت الى اقل مستوى له، كما أن الوضع مع فنلندا يختلف جذريا عن الوضع مع أوكرانيا، فهلسنكي لم تصبح قط معادية لروسيا، ولم تكن لدى روسيا أي خلافات معها على الإطلاق.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

محاضرة جريئة للباحث السوري الكردي فاروق إسماعيل حول الكرد والتاريخ يدحض فيها أوهاماً وتلفيقات ومبالغات كثيرة لأشخاص لا علاقة لهم بعلوم التأريخ والإناسة والآثار واللغات القديمة: يُعتبر الباحث الانثروبولوجي والمؤرخ والأستاذ الجامعي د. فاروق إسماعيل سوري (كردي) من الباحثين والمؤرخين المتخصصين الشجعان والمخلصين للمنهج العلمي. وهو بهذه الصفات ربما سيواجه بعض ما واجهه الباحث الراحل والشجاع بهنام أبو الصوف حين وقف بوجه العابثين بتواريخ الشعوب والمهرجين والساعين إلى الشهرة فشنوا عليه وقتها حملة ظالمة لأنه قال لهم: "لا علاقة لكم ولنا بالآشوريين والكلدانيين القدماء فنحن سريان آراميون نسطوريون تحولنا إلى مذاهب مسيحية أخرى!".

والمثير للإعجاب في أداء الباحث فاروق إسماعيل هو أنه حين شنت ضده الحملة المتوقعة من التشنيع والتحريض من طرف أولئك الذين كشف حقيقتهم من متعالمين وجهلة يحشرون أنوفهم في الشؤون العلمية التي يجهلون كل شيء عنها ويكتبون عنها بدوافع أيديولوجية وحزبية وقومية متطرفة لم يتراجع أو يتنازل عن أحكامه العلمية ففي محاضرة ثانية له تحدث وبنبرة حزينة عما قيل عنه ولكنه ظل صلبا علميا وكرر كلامه وأحكامه دون أي مساومات ويختمها بالقول "هناك من اتهمني بالإساءة الى قومي الكرد والعلماء الكرد والحط من شأنهم وأنا أقول إنَّ من يسيئون للكرد وللعلوم الحديثة هم أولئك الذين ينشرون الآراء الخاطئة وغير العلمية حتى إذا كانوا يحملون شهادات أكاديمية رفيعة"!

الباحث فاروق إسماعيل يُعَدُ من أبرز المختصين في اللغة الأكّادية والكتابات المسمارية، والنقوش الآرامية والفينيقية، كما يهتم بالنقوش اليمنية القديمة والمخطوطات الكردية وقد مارس التدريس في عدد من الجامعات السورية والعربية كاليمن والعالمية في تركيا وألمانيا. وتأتي محاضرته هذه لتكشف عن الأوهام والخرافات والتلفيقات والمبالغات التي انتشرت في السنوات الأخيرة حول الكرد ودورهم في التاريخ وذهب بعضها إلى جعل الأكراد أحفاد من نسل السومريين وهم الشعب الغامض والمشكوك بوجوده أصلا.

في هذه المحاضرة - الأولى - التي نستعرضها هنا يسجل الباحث وبصرحة أن هناك نزعة عنصرية لدى بعض الكتاب والباحثين الكرد في دراسة وكتابة التأريخ، وأن هناك محاولات في هذه الكتابات للربط العرقي بين الكرد والشعوب القديمة في المنطقة كالسومريين وغيرهم وقد أصبح هذا هو الهم الأساسي في كتابة التاريخ.

ثم يتساءل: هل هي محاولة لإثبات الوجود؟ ولكن إثبات الوجود لا يكون بهذه الطريقة. ويضيف: وقد يقول قائل إن جيراننا يفعلون ذلك ويزورون ويشوهون وأنا لا أرى أن ذلك الأمر مبرر.

  ويضيف الباحث: "مَن يكتب التأريخ الكردي؟ الآن، كثيرون هم مَن يكتبون تأريخنا الكردي ولكن هل تتوافر فيهم صفات المؤرخ الحقيقي أو حتى هاوي التاريخ؟ لا أعتقد ذلك. ثم يذكر تلك والصفات فيقول إن كتابة التاريخ تعتمد على مثلث قاعدته العمل الأثري الذي يكتشف مخلفات الإنسان القديم أيا كان عرقه. وكذلك ما كتبه ذلك الإنسان وما بناه وأبدعه من فنون وآداب. ثم يأتي اللغوي ليقرأ تلك الآثار والكتابات ويترجمها ويحللها ثم يأتي المؤرخ ليكتب التاريخ في ضوء تلك المكتشفات والنصوص المترجمة.

يذكر المحاضر أن أول من كتب عن الكرد أو ذكرهم في كتاب هو شرف خان البدليسي في كتابه "شرفنامه"، وذلك في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. وكتب كتابه هذا بين (1597 وحتى سنة 1599) وهذا تأريخ متأخر نسبيا أي قبل أربعة قرون ونيف. وليس هناك أي عمل مكتوب عن تاريخ الكرد قبل ذلك. والبلديسي كان أميرا كرديا ولكنه لم يكن يعرف اللغة الكردية، وكان يعيش في المنفى في بلاط الصفويين في إيران قبل أن يغير ولاءه ويصبح مواليا للعثمانيين وقد ألف كتابه باللغة الفارسية وبالحروف العربية.

* ولد شرف خان البدليسي في قرية كرهرود أحد نواحي محافظة اراك في إيران عام 1543 للميلاد وعند بلوغه التاسعة من العمر تلقى تعليمه في البلاط الصفوي في زمن الشاه طهماسب وفي عام 1576 قام شاه طهماسب بتلقيبه بلقب أمير الامراء وأوكل إليه قيادة جميع العشائر الكردية الإيرانية قبل شرف خان بلقبه الجديد ولكنه بعد سنتين غير موقفه وأصبح مواليا للعثمانيين في حروبهم ضد الصفويين فقام السلطان العثماني مراد الثالث بتلقيب شرف الدين بلقب الخان ونصبه أميرا على بدليس في عام 1583 وفي عمر 52 عاما قام شرف الدين بتوليه ابنه شمس الدين بك أبو المعالي شؤون الإمارة، توفي في 1005 هـ 1603 م.

* وأول نص كُتب باللهجة الكردية "الكورانية" في إيران هو من القرن الرابع عشر أو الخامس عشر الميلادي هو للشاعر ملايا بريسان كتب شعراً ومصنفات دينية شيعية بعنوان (فيرسان نامه).

في المراحل التالية، وحين أصبح بين الكرد مثقفون ومتعلمون بدأ البعض بالاهتمام بالتاريخ وكتابة التأريخ. ولكنهم فقدوا الموضوعية التي كان عليها محمد أمين زكي. وأصبحنا نسير إلى الوراء من حيث المنهج. وبدأت تظهر أفكار عنصرية وشوفينية كما كان يكتب التأريخ بعض الفرس وبعض العرب في تقليد غير مبرر تماما لهؤلاء.

بعض الكرد ممن تخرجوا من الدول الاشتراكية كروسيا وبلغاريا وحملوا شهادات الدكتوراة ولكنهم لم يمتلكوا من العلم ما يكفي. فخلطوا في المعلومات واعتبروا كل الشعوب التي وجدت في إقليم كردستان هي شعوب كردية. حتى الآشوريين جعلهم جمال رشيد أحمد من أسلاف الكرد وكتابات آرامية واضحة جعلها كردية لمجرد أنها وجدت في منطقة هورمان الكردية. ثم ظهر بين الكرد ما يشبه ما ظهر عند العرب من كُتاب من موضة فاضل الربيعي وأحمد يوسف داود وبهجت قبيسي. وفي سنة 1992 ظهر كتاب " ذه كرد" لمهريداد إزادين. وفيه كتب عن تاريخ الكرد للفترة الممتدة من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد حتى أربعمائة ق.م، واختصر كل هذه القرون في أربعين صفحة فقط بمعلومات عامة جدا مستقاة في معظمها من مقالات متفرقة. وقد تبين أن الرجل ليس متخصصا في التأريخ بل كان متخصصا في الاستشعار عن بعد ويكتب في الجغرافيا والتاريخ ويعمل في الجيش الأميركي وحلف الناتو في العراق وأفغانستان!.

ويعدد المحاضر بعض الكتب عن الكرد التي كتبها أجانب بعضهم ألمان يذكرهم بالاسم حتى سنة 2019. وهي كتب تجارية يحاولون نشرها وترويجها بذكر الكرد في العنوان الرئيس. في السنوات الأخيرة تحسن الوضع قليلا وظهر بعض الباحثين المهتمين بالتاريخ القديم ولكن عددهم قليل قياسا الى عدد الجامعات الموجودة في إقليم كردستان وهو 35 جامعة؛ 17 جامعة حكومية و18 خاصة!

* هناك أيضا مشكلة المندسين الذين قدموا من خارج الاختصاص في التأريخ والدراسة المنهجية، ووسائل الإعلام بيدهم لأنهم يقولون ما يرضي قلوب الكرد ويكتبون على هواهم بلا أية قاعدة تخصصية. ويذكر مثالاً من كرد سوريا فيقول يبدو إننا – كرد سوريا - الأكثر عنصرية من سائر الكرد حتى أن زملاءنا من كرد العراق تعجبوا من درجة العنصرية في مجال التأريخ لدينا نحن الكرد السوريين! فهذا الشخص وهو مدرس تاريخ أصبح نجم الإعلام وهو يقول مثلا إن الإنكلوسكسون يعترفون بأنهم جاؤوا من كردستان، وان المثرائية (هي ديانة رومانية باطنية ترتكز على الإله ميثرا) هي ديانة كردية، وأن المسيحية ظهرت منها، فالميثرا هو المسيح عيسى بن مريم، وجلجامش هو دركاميش الكردي... وتعني كلمة "دركاميش" القوي والضخم، والحيثيون كرد والعيلاميون كرد وووو كلهم كرد!

أما في اللغة فهذا الشخص متخصص أيضاً فقد حول الكثير من الكلمات في اللغات القديمة إلى أصول كردية فكلمة "البروكار" وهو القماش الدمشقي الشهير يقول إنه قماش اخترعه شخص كردي اسمه بروو كان يعيش في دمشق فسموا القماش على اسمه (بروكارد/ بروكردي). وأن هناك كلمات في القرآن هي كردية مثل كلمة ضنك في عبارة (عيش ضنك) هي كردية، حتى كلمة (دين) كردية. ويضيف الباحث فاروق ساخرا؛ أي إنه لم يترك للعرب شيئا!.

وهؤلاء كُثُر ومنهم مَن يُدَرِّس في جامعات كجامعة القامشلي! هذه أشياء مضحكة مضحكة إلى درجة البكاء! فقبل أيام كتبت عبارة في محرك البحث على الانترنيت هي "الكرد سومريون" فظهرت أمامي الكثير من المقالات والمواد الإعلامية التي تقول إن السومريين أصلهم كردي ولغتهم كردية وقد ألف أحدهم كتابا قال فيه: مَن يكون السومريون إن لم يكونوا كردا؟ وكأنه ضابط شرطة أمام القارئ ويصيح به: انتبه ووافق على أن السومريين كرد وإلا!

وهناك طبيب أسنان في القامشلي ألف كتابا عنوانه "الألفاظ المشتركة بين السومرية والكردية"! وأنا دَرَسْتُ السومرية لأربعة فصول دراسية في جامعة ألمانية أي لمدة سنتين وأقرأ وأترجم السومرية ولكني لم أجد ما هو مشترك بين السومرية والكردية.

ويختم الباحث محاضرته بالتساؤل عن أصل الكرد فيقول: لا علاقة للبحث في أصول الكرد بالتأريخ بل هو متعلق بعلم الإثنولوجيا ولغرض البحث العلمي وليس للتفاخر وبهذا الخصوص نقول إنَّ الكرد هم أحد الشعوب الإيرانية، شأنهم شأن الشعوب الإيرانية القديمة، مثلهم مثل الفرس والبلوش والطاجيك والإذريين (يقصد أن الكرد شعب من الشعوب الإيرانية وليس شعب فارسي بل إيراني مثل الفُرْس). وقد ارتبط الكرد بسلسلة جبال زاكروس.

إنَّ الذكر الصريح للكرد تأخر حتى القرن الرابع ق.م، وورد لأول مرة في كتابات للمؤرخ اليوناني سترابون. وقد أخطأ الباحث فاروق إسماعيل هنا، فالمعروف أن المؤرخ سترابون ولد في القرن الأول قبل الميلاد ومات في بداية الأول الميلادي وبالتحديد (من 63 ق.م - إلى 24م) وليس في القرن الرابع قل الميلاد.

 ويضيف الباحث أن الكرد ذكرهم سترابون بلفظ كاردو أو كردوخي، أما اسم كردستان فقد تأخر ظهوره إلى القرن الثاني عشر بعد الميلاد ففي زمن الحاكم السلجوقي أحمد سنجر اقتطع هذا الحاكم أرضا من إقليم الجبال في إيران حتى سهل شهرزور شرقي السليمانية في العراق وسماها كردستان وعين عليها ابن أخيه حاكما أو أميرا ولكن هذه القطعة من الأرض توسعت لاحقا. وفي هذا الإطار الجغرافي كانت هناك شعوب قديمة ليس لها أية صلة عرقية بالكرد، هي شعوب قديمة كانت تسكن في كردستان القديمة. هذه الشعوب ليست أجداد الكرد ولكنها كانت تسكن في منطقة سكن الكرد فيها لاحقا ومن حق الكرد ومن واجبهم أن يهتموا بتاريخ هذه الشعوب القديمة.

***

علاء اللامي

............................

رابط يحيل إلى الفيديو وهو اللغة العربية ماعدا المقدمة باللغة الكردية:

https://www.youtube.com/watch?v=SzugO3MtsY4&t=772s&ab_channel=Ehmed%C3%AAMeymo

* رابط لتحميل كتاب "شرفنامه" لشرف خان البدليسي:

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%B4%D8%B1%D9%81%D8%AE%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%AF%D9%84%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D8%B4%D8%B1%D9%81%D9%86%D8%A7%D9%85%D9%87-1-pdf

هل لغزة حقاً كل هذا التأثير..

هل يمكن للمنظومة العالمية بأسرها أن تتأثر بفعل بقعة جغرافية صغيرة كانت منذ سنوات محاصرة ومعاقبة ؟! الحقيقة أننا نري بالفعل إرهاصات تغييير دراماتيكي سيأتي بعد سنوات أو شهور من توقف الحرب فى غزة. وهي تغييرات حتمية لمن يريد أن يقرأها ويستعد لها.

أول تلك التغييرات وربما أهمها أن تكتيكات الحروب واستراتيجيات المعارك تغيرت بالفعل. ليصبح السؤال الأهم هنا: كيف يمكنك التغلب على أعتي الجيوش بإمكانيات محدودة وبواسطة ميليشيات قتالية منظمة، أو قوة عسكرية ضعيفة؟

البعض رأي أن أقوى أسلحة المقاومة الفلسطينية تجاه القوة الغاشمة الإسرائيلية سلاح الأنفاق. وبالفعل تم استخدام الأنفاق عسكرياً بشكل بارع من جهة المقاومة. فمن خلالها كان يتم احتجاز الأسري ونقلهم لتغيير أماكنهم باستمرار. كما تمت من خلالها كل العمليات النوعية الناجحة. والأهم فى تلك الأنفاق أنها تظل مجهولة أمام العدو، فهو لا يدري حجمها ولا امتدادها ولا خريطتها. إنما هى مجرد تكهنات وظنون وتوقعات. والكلام يدور فى إطار أنها تمثل شبكة عملاقة تفوق فى تعقيدها وامتدادها الشبكة البريطانية للأنفاق، وكأنها مدينة كاملة تحت الأرض، بها من العتاد والمؤن، بل والمصانع، ما يكفي لتزويد القوات المقاتلة لعدة أشهر قادمة، ما يعني أنهم مستعدون لحرب طويلة لا تستطيعها إسرائيل ولا تحتمل تكلفتها الباهظة.

فى تلك الأثناء كان بوتين يحقق مكاسب مستمرة على أرض أوكرانيا بعد أن فقدت الأخيرة دعمها الأمريكي والأوروبي لصالح جيش الاحتلال الذي بدأ يتلقي كل ما كانت تتلقاه أوكرانيا وأكثر. فالأولوية القصوى لدي الغرب هى إسرائيل!

ثم أشيع أن بوتين بدأ تحت تأثير إعجابه بالملاحم القتالية التي سطرتها المقاومة الفلسطينية يبني شبكة أنفاق شبيهة بشبكة مقاتلي غزة. وربما لا يكون الوحيد الذي يفعل هذا الآن سراً. غير أن الأنفاق لم تكن هى العامل الوحيد للانتصار. فلا بد أن هناك عوامل أخري نعلم منها القليل، وهى محل دراسة الجيوش الآن فى كل العالم.

النموذج الأمريكي يتآكل!

لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية هى الأفضل. فالنموذج الأمريكي فى الأفضلية والتفوق ينهار بالفعل.

كنا نقول هذا ونبرهن عليه بأدلة مختلفة فيما سبق. أما الآن فالكلام مختلف؛ لأن هناك أصوات كثيرة بدأت ترتفع فى كل الدنيا ضد الغطرسة الأمريكية. بل أزيد فأقول إن الداخل الأمريكي نفسه مناهض لسياساتها وأفكارها. لدرجة أن الكثير من قادة الفكر فى أمريكا ذاتها يحذرون من أنها تفقد قواها الناعمة داخلياً وخارجياً. وأن النغمة السائدة الآن هي نغمة الوقوف فى وجه أمريكا وصلفها وغطرستها التي لم تعد تُحتمل. وهو ما بدا واضحاً للغاية فى الاجتماع الأخير لمجلس الأمن حينما وافقت جميع الدول على الضغط لوقف إطلاق النار فى غزة، فإذا بأمريكا تقف منفردة فى جانب وحدها لتعلن الفيتو ضد كل هؤلاء، وكأنهم بلا قيمة تذكر.

الحرب في غزة دعمت تلك النغمة. لأن فشل إسرائيل أمام المقاومة الضعيفة، وانهزامها الذي بات واضحاً للعميان هى فى الواقع انهزام أمريكي. لأن السلاح الإسرائيلي بكامله سلاح أمريكي، والدعم الأمريكي كان حاضراً فى المعركة منذ اللحظة الأولي. الآن دعونا نفكر بطريقة الصين أو روسيا، وهي تري خصمها الأمريكي اللدود ينهزم فى غزة، بل وفى باب المندب. فكيف يكون تصوره لمعركته مع مثل هذا العدو الذي أبدي ضعفاً وانكساراً؟ بل كيف يكون استعداده للمعركة القادمة المؤجلة بين الفريقين التقليديين. فريق الشرق والغرب؟

ثمة مؤسسات ومنظمات ودول كانت على الحياد أو حتي فى الجانب الأمريكي اضطراراً، بدأت تفقد ثقتها وتأييدها لأمريكاـ لا لشئ إلا أنها تري طريقتها فى دعم المجازر الوحشية التي تنفذها إسرائيل دون رادع من قانون دولي أو مبدأ إنساني. وعلى الناحية الأخري رأينا تأييداً شعبياً عالمياً للقضية الفلسطينية سحب البساط من إسرائيل الآن وإلى الأبد. ولن يكون تعامل شعوب العالم مع الاحتلال الإسرائيلي كما كان قبل حرب غزة.

نحو فلسفة اقتصادية جديدة

الفلسفة الاشتراكية تداعت وحدها منذ زمن لأنها لا تفي بمتطلبات العمل الحر المتجاوز للحدود. والفكر الاستعماري بشكليه المباشر وغير المباشر أثبت أنه يؤول مع الزمن للانهيار والضعف عندما تواجهه قوة أعتي وأكبر، كما حدث مع الإمبراطورية البريطانية. ثم ها هو الفكر الرأسمالي الاستغلالي يثبت كل يوم أنه قائم على مبادئ رخيصة تفضي إلى انهياره. مثل استغلال ثروات الشعوب ومقدراتها وهو ما تمت مقاومته فى غرب إفريقيا مؤخراً. ومثل الاعتماد على سياسات العمل المصرفى والائتماني الورقي والتي تقفد الاقتصاد قوته الحقيقية وتحوله لاقتصاد هش قابل للانهيار مع أي هزة، كما حدث فى انهيارات البورصة والبنوك  عام 2008 ثم عام 2020. ومثل السماح للاقتصاد الموازى والأسود والخفي أن يكون جزءاً من الاقتصاد القومي لبعض الدول، فيتحول مع الزمن إلى غول فاقد السيطرة، يقضي حتي على الاقتصاد النظيف ويتغول عليه، وتبدأ أنواع المافيا المختلفة فى التكون حتي تصبح مشكلة مزمنة غير قابلة للحل.

بعد حرب غزة ستحدث عدة متغيرات اقتصادية. منها أن المشروعات الإسرائيلية لتسهيل عمليات النقل انتهت للأبد، ولا أظن أنه سيوجد مغامر غبي يأمن على بضائعه فى هذا الطريق المار بإسرائيل بعد أن بات استهدافها سهلاً ومتاحاً. ثم إن ما حدث فى باب المندب قد يدفع المؤسسات الدولية لتغيير قوانينها الملاحية طبقاً لتلك المستجدات، بحيث يتم تحييد القوي المسيطرة على المضايق حتي وإن كانت طرفاً فى معركة. أو أن يتجه العالم للطريق الآمن القادم، وهو الطريق الذي ستوفره الصين قريباً جداً، وهو طريق الحرير، وهو ما سيضمن للصين نفوذاً أكبر يخصم من النفوذ العالمي الأمريكي.

مصير القضية

التغير الأكبر فى مشهد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أن المعادلة كلها انعكست. لأن إسرائيل ستكون مضطرة لتقديم تنازلات كبيرة ليس الآن فقط وإنما لسنوات طويلة قادمة. وستصبح المقاومة الفلسطينية هي ورقة الضغط الدائمة ضد إسرائيل وداعميها.

القضيىة الفلسطينية صارت لها الآن حاضنة شعبية عالمية أكثر اتساعاً وتأثيراً عن ذي قبل. بغض النظر عن الاستراتيجيات التي رسمتها الإدارة الأمريكية لما بعد حرب غزة، فإن كل تلك الاستراتيجيات ستظل رهناً بما توافق عليه المقاومة. وهى الآن فى موقف قوة. وستظل كذلك لفترة طويلة قادمة.

أغلب المحللين فى إسرائيل يؤكدون أن المهاجرين والنازحين من إسرائيل إلى أوروبا وأمريكا لن يعودوا من جديد للمستوطنات، وأن المستوطنين داخل إسرائيل فقدوا ثقتهم في وعود وأكاذيب حكوماتهم. وستصبح هناك صعوبة كبيرة لإقناع العمالة القادمة من خارج إسرائيل لتدوير مصانعها وشركاتها التي توقف أغلبها بسبب الحرب. كل هذا يعني أن الحياة لن تعود فى الداخل الإسرائيلي كما كانت من قبل. بل سيزداد التهديد والشعور بانعدام الأمان لدي كل المقيمين فى المستوطنات، لاسيما تلك القريبة من بؤر القتال، كالمستوطنات الشمالية ومستوطنات الغلاف.

التفاهمات التي ستأتي فى أية مفاوضات قادمة. وهي قادمة لا محالة. سوف تعزز موقف المقاومة الفلسطينية، بل وستصبح هى النموذج الأمثل لدي كل الفلسطينيين الذين رأوا كيف أخضعت المقاومة أعتي الجيوش وهزمتها هزيمة سيظل العالم كله يذكرها لسنوات وسنوات.

هكذا ستصبح المقاومة تتحدث بلسان نفسها دون الحاجة لوسيط. وسوف تكون قادرة بعد أيام قليلة أن تضع شروطها على موائد المفاوضات. وهذا للعلم والعمل به عند اللزوم!

***

د. عبد السلام فاروق

كان الشّعراء يظنون أنَّ ثورةً انفجرت، ستغيّر مجرى التّاريخ في المنطقة؛ وبالفعل غيّرت الثّورة الإيرانيَّة، التي تحوّلت إلى إسلاميَّة، المنطقة، بإنعاش الإسلام السّياسيّ، والمنظمات الدِّينية المتطرّفة، وكانت للصّحوة الدّينية القاتمة أحد أبرز المنابع، وليس لنا القول إنّها خلقت الصّحوة، فالأخيرة بدأت بعد (1967) حتَّى وصلت الى ذروتها في الثَّمانينات، بالثّلاثي: الثورة الإيرانيّة (شباط / فبراير 1979)، وإحدى المتحفزات بها حادثة جهيمان العتيبي (تشرين الثّاني/ نوفمبر 1979) في الحرم المكيّ، واجتياح أفغانستان (كانون الأول/ ديسمبر 1979)، وكلُّ تلك الحوادث حفلت بها السّنة (1979)، وبهذا تكون لهذه السّنّة حكاية لن ينساها التّاريخ، تُذكّر بسنين الطَّواعين الكبرى.

 كان اليسار والشّعراء (اليساريون أو القوميون أو المعتقدون بالاثنين)، يرونها ثورةً مِن نوعٍ آخر، أيّ لم تكن انقلاباً عسكريّاً، ولم تحمل سمة عقائدية، كانت مطلبية، حالها حال انتفاضة تشرين (2019) في بغداد، مطلبية كادت تقود إلى تغيير شامل للوضع المزري، لكن قُضي عليها بنتائج الثّورة الإيرانيّة نفسها، فمدير تشتيتها وقتل شبابها كان أحد أولاد تلك الثورة قاسم سليمانيّ (قُتل: 2020)، والقوى الدِّينية التي انقضّت عليها هي مِن صناعة تلك الثّورة. فكان الاعتقاد أنّها ثورة في طهران نبعت من بين النّاس، وكانت في بدايتها هكذا، قبل التفاف الإسلاميين عليها، وتحويلها إلى عقيدة دينية طائفيّة، وهذا يحتاج إلى حديث طويل، ليس مِن صلب مقالنا.

 لم يكن نزار قباني (تـ: 1998)، ومظفر النَواب (تـ: 2022) وحدهما من مجدا آية الله الخميني (تـ: 1989)، أو ما اُصطلح عليه مِن قَبل بـ"لاهوت التَّحرير"، فيساريون كبار صفقوا للخميني وتراجعوا، ومنهم مَن دس رأسه في الرّمال، بعد النَّتائج التي أسفرت عنها الثّورة في شهورها الأولى، ومنهم مَن ظلّ معتزاً بخطيئته، كالشّاعر الذي قضى جلّ حياته يمدح رئيساً، وهو يعرف كغيره كان رئيسه يشرب الدّماء، وبعد سقوط الرَّئيس، ظلّ معتزاً بالمديح، لأنه وجد له مصفقين.

قد يكون نزار قبانيّ سبق الشّعراء بقصيدته إلى الخمينيّ، وما كنا نظن أنَّ نزاراً كان بهذه السّذاجة، معتبراً الخميني سيدحر "الفرس"، وأنّ ثورته لإخراج الفرس مِن إيران، ولم يكن يعلم أنَّ عروبة (بحسب ما تقول عمامته السَّوداء إنّه مِن آل النَّبي الهاشمي) الخميني وهنديته (أسرة هندية نزحت من كشمير إلى النَّجف ثم إلى خمين بإيران)، سيكون ضدّ الحلم الكسروي، بالإطاحة بتاجه، ولا يعلم نزار أنّ العمامة استُبدلت بالتّاج، فقال فيه بعد وصفه بـ"قمر شيراز" عنوان قصيدته:

  "زهرُ اللّوز في حدائق شيراز/ وأنهى المعذبون الصِّيامَ/ ها هم الفُرس قد أطاحوا بكسرى/ بعد قهرٍ وزلزلوا الأصنامَ/ شيعٌ سُنةٌ جياعٌ عطاشٌ/ كسروا قيدهم وفكوا اللّجامَ/ شاه مصرَ يبكي شاه إيران/ فأسوا ملجأ لليتامىَ/ والخُمينيّ يرفع الله سيفاً/ ويُغني النّبيّ والإسلامَ/ هكذا تصبح الدِّيانةُ خلقاً مستمراً/ وثورةً واقتحامَ" (تسجيل فيديو بصوت الشّاعر).

لكنَّ نزاراً، غير المتثبت، كغيره مِمن عجلوا بوضع الخميني في موضع النّدى، رجع العام (1988)، وقرأ قصيدة بمناسبة ما أعلنه العراق مِن انتصار في الحرب، بين إيران والعراق، وأنشد هاجياً الفُرس كافة، بعد أن مدحهم بالإطاحة بتاج الشّاه: "اليوم عرسٌ خرج الفرسُ"! وهكذا العواطف غلبت نزار شاعر "الأنثى" في وطنياته وثورياته.

 أّما محمَّد مظفر النَواب، فربّما كان متأخّراً في سكب ثياب مديحه على الخمينيّ، ومِن تفسير قصيدته فيه، أنّها جاءت عتباً، لكنَّه عتب الأحباب. فالإعدامات والدّماء، التي عَمّدت بها الثّورة رؤوس الإيرانيين، وكتب في حينها الإخواني الكويتيّ عبد الله النّفيسيّ "أثخن بهم يا خميني بوركت يداك"، لم يسمع بها لا نزار ولا محمَّد مظفر، ولا مَن دسّ رأسه في الرّمال بعد تكشير الثّورة عن أنيابِها.

 أنشد النَواب للخميني يعاتبه بالحملة الشّعواء التي وجّهها ضدّ مَن يعتبرهم رفاقه في النّضال العالميّ، قيادة الحزب الشّيوعي الإيرانيّ (تودة) وقاعدته، وكان هذا الحزب أحد عناصر الثّورة الإيرانيّة، فقد شوهد نور الدّين كيانوريّ (تـ: 1999)، على شاشة التّلفزيون الإيراني، معترفاً بالإكراه بأنّه كان عميلاً، كي تشطب عنه الثوريّة التي شارك بها الخميني وبقية العمائم، بانتصار الثّورة. غير أنَّ النَواب الذي استصرخ الشُّعوب بفضح الأنظمة التي مارست قمع اليسار، جعل عتابه للخميني اعترافاً بإمامته، ليس على المعتقدين بولاية الفقيه فحسب، بل وعلى العالم أجمع. عندما خاطبه، خطاب المنتمي: "مبايعٌ طيني وحبٌ كُله/ روح بلا منزلها بلا سَلام/ مبايعٌ أنَّك بين الدُّول الكُبرى الإمام".

ثم يذمّ اليسار، في قصيدته، الذي لم يتحالف مع الإسلاميين، وكأنّ حزب تودة لم يُشارك في الثّورة، قبل الإسلاميين أنفسهم، ولم يتحالف تحت قيادة الخمينيّ، لكنه الخطأ نفسه، عندما صار الزّمام بيد الإسلاميين، اكتشفوا أنَّ هذا اليسار كافر، يجب أن يُمسح مِن على وجه الأرض، على يد الذي أعلن مظفر مبايعته، وألقى زهرة البيعة في يده! فقال: "أما ترى الذِّئاب قد عوت أجوافها مِن الوحام/ كيفَ اليسارُ كاليمنِ/ هكذا الضّياء كالظَّلام/ مِن طائفيّ ثعلبيّ أو مرتدٍ قومية/ الذّئاب أو منافق زُئام/ كيف اليسارُ كالظَّلام/ بعض اليسارِ سيدي به فصام/ عاش على موائد الحرام/ بعضٌ وليس البعضُ في الكُّلِ احتكام/ لا لم يكن يوماً عليٌّ/ وسطاً بين الوراء والأمام"(تسجيل بصوت الشَّاعر).

كان النِّظامان، العراقي بزعامة صدام والإيراني بزعامة الخمينيّ، ضربا الحزبين اليساريين، في بلديهما، ولا يُزايد أحدهما على الآخر في خطاباتهما مع القضية الفلسطينية، وما فعله الخميني باليسار عين ما فعله صدام حسين (إعدام: 2006)، لكن ترى مظفر يتحدث مع الخميني معاتباً، وبينما ناشد مظفر الخميني مادحاً ضمن مديحه ذماً لصدام: "مِن طائفيّ ثعلبيّ أو مرتدٍ/ قومية الذّئاب أو منافق زُئام". لكنّ ذوي قتلى الشّعب الإيرانيّ، ومَن شملته (عدالة) قاضي الخمينيّ صادق خلخاليّ(تـ: 2004)، وحدهم يعرفون الدَّرس الذي تعلّمه الخميني مِن صدام، في ضرب اليسار واليمين غير المنصهر فيهما. كذلك وحدها تفضح الميليشيات التي أنتجها الخميني الطّائفية الثّعلبيّة في إيران الثّورة.

انتقاد مظفر لليسار "بعض اليسار سيدي به فصام"، يقصد الذين لم يلتحقوا بجهيمان والخميني، لكن أليس حزب تودة وقف في صف الخميني، ومهّد له ما صار به مِن سُلطة، فماذا فعل به؟! ما تقدّم، مِن إعلاء شأن جهيمان والخميني الثّوري، ونقد اليسار لعدم الالتحاق بالأول وتمجيد الخميني ثورياً، كان مظفر السَّبعينات والثمانينات، لكنه بعدها وجد نفسه في حلٍّ مِن ذلك، فلم يذهب إلى إيران الخميني، وقاسم سليماني يؤسس الميليشيات المدمّرة، ويسطو على بغداد بها، ويقتل بها شباب العراق، ولم يرَ في  مخلّفات جهيمان، "داعش" و"القاعدة"، غير الدمار والترويع، فاستقرّ في الخليج الذي دعا إلى حرقه وإسقاط أنظمته، ولم يعاند ما شاهده مِن عُمران، وهو القائل في ما مضى "مرحباً مرحباً أيها العاصفة".

لم نكتب هذا تخطئةً ولا تصويباً، وإنما تعجباً مما حصل، لو انتصرت بالفعل دعوة مظفر: "اِشعل مياه الخليج تسلّح/ وعلّم صغارك نقل العتاد/ كما ينطقون/ إذا جاشت العاطفة"، وقد جاشت العاطفة فأفرزت ما أفرزت، حتّى عجبتُ مما قاله الخميني وهو يزور مقبرة جنة الزّهراء، حال عودته إلى إيران(1979): "ينبغي القول بأنّ محمد رضا بهلوي، هذا الخائن الخبيث، قد رحل وفرَّ، وترك كلَّ ما لدينا هباءً منثوراً، لقد دمّر بلادنا، وعمّر مقابرنا"(3 ربيع الأولى 1399)! لكنّ كم مِن المقابر عمّرها الخميني، حتّى أنّ مراجع دين، مِن درجة آيات الله العظمى، لم تُعرف لهم شواهد قبور، كآية الله محمد كاظم شريعتمداريّ! وضحايا الميليشيات وسليماني تملأ مقابرهم البلدان، فكيف ببقية الخصوم، والإصرار على استمرار الحرب!

أقول: ما زلنا ننشد مدائح أبي الطَّيب المتنبيّ (اغتيل: 354هـ)، ملاحمَ أدبيّةً، مناسبة لعصرها، مِن ممدوحين ومادحين، وجرت في عصرنا أمثالاً وكنايات، لكن لم يكن ذلك العصر عصر ثورات وطبقات ويسار، لذا ما جاء على لسان الشاعرين كان مديحاً مُرَّاً.

***

د. رشيد الخيّون

لا شك أن جملة ظروف قد ساهمت في تعميق هذه الأزمة التي يعيشها السودان الآن، والتي قادت لتعثر التحول الديمقراطي الذي يشرئب إليه الوجدان الشعبي في أرض النيلين، ومرد هذه الظروف والاختلالات هي هياكل حزبية واهية غارقة في الآثرة والفساد، وقوة عسكرية غاشمة اعتادت التمرد على سحق الديمقراطية، ومجتمع مدني ضعيف عرضة للتجاذبات والشحن، وصحافة هشة تجعل من الخلافات موضوعاً لنضالها اليومي، وأعداء باتوا هم من يرسموا الخارطة السياسية التي يلتزم بها المجلس العسكري، والنخب السياسية من خلفه، فالنخب السياسية قبل حرب الخرطوم من دون استثناء، كانت تعاني أوضاعاً تتسم بالجدب السياسي، فهي فضلا عن ابتعاد آليات الديمقراطية عن نظمها التي تخلو من كل صيغة تمت للديمقراطية بصلة، أو تصل إليها بسبب، قد فشلت في حشد خطاب رصين يمحص أسباب هذه الأزمة، ويضع الحلول للتعافي من عقابيلها، فشعبها الذي لم تتحطم قناعاته على صخرة الواقع، لم يسعى أن يحوز على قصب السبق في النضال بصفوفها، لأنها لا تعرف النضال إلا في النكوص والارتكاس عن مبادئها، ولا تجيد إلا التناحر الشديد بين أطيافها، ولا تتقن إلا التودد والتجانس مع من يقود دفتها، وإظهار الولاء لنهجه وشخصه مهما أمعن في الجور، وغرق في ثنايا التطرف .

وظاهرة الولاء الأعمى معروفة لدى كل من خبر الأحزاب التي تمارس أنماط الطاعة، ولا تستسيغ أن يعبر المنتمين إليها عن رفض بعض سياساتها المرسومة إذا لاح خطلها، كبعض الأحزاب الإسلامية التي تتوخى الطاعة العمياء في أديباتها، فهناك كما نعلم أحزاباً إسلامية يستغرق دمج هذا المبدأ في ذهن العضو المنتسب إليها حديثا وقتاً طويلاً، وهي لا تبغض شيئاً كما تبغض أن يناقشها هو في هذا الشأن، عليه أن يتشابك ويتفاعل مع هذا الطرح دون تفصيل، ونسيت هذه الأحزاب أو تناست أن مرونة الإسلام وقوته كانت تكمن في الخلاف وتعدد الآراء، لأجل ذلك أبصرنا محصلة التقوقع والانكفاء في مصر والسودان، فالتنظيمات المستقرة على الطاعة دون مناقشة حول مسارات الخطط والاستراتيجيات فيها، نجدها ضاربة بعرض الحائط بأهمية التعبير عن الرأي وجدواه، فهي لا تذعن إلا للطاعة العمياء، وتجد أن الطاعة المفرطة أمراً لا مرد له ولا مندوحة عنه، لأجل ذلك تكبدت في خاتمة المطاف خسائر فادحة لا يمكن تتداركها بين عشية وضحاها، كخسارة الإخوان في مصر، والمؤتمر الوطني في السودان، ولعل من خطايا المؤتمر الوطني خلاف أنه رضخ للمشير البشير الذي سلب إرادة الحركة الإسلامية، وطمس هويتها، أنه أيضاً لم يسعى لجمع شتات الحركة الإسلامية، ففي تلك الأيام الحالكة من تاريخ الحركة الإسلامية إذا تم عرض هذا الموضوع على الطاولة من قرومها الذين سعوا إلى تغليب الصلح على الشقاق، ثارت أمامهم لجاجة الناقمين على الشيخ الترابي رحمه الله ورهطه، وأطنبوا في سرد هذه المشكلات التي لم تحكم صنعتها، أو تثبت صحتها.

 إن الخلاف في وجهة نظرنا يتمحور في فئة أعرضت عن اللذة وأقبلت على الجد، وقيادات في المؤتمر الوطني تجانفت عن الحق، وركنت إلى الدنيا، هذه القيادات هي التي بسطت بغض الشيخ بسطاً، وفصلته تفصيلا،  إن الشيء الذي يفهمه الناس جميعاً، كل الناس دون مشقة أو عسر، أن الخلاف الذي وقع بين قطب الحركة الإسلامية وعرابها وبين المشير البشير، قد تسبب في نفور العديد من أتباع الحركة، مما أضعف من شوكتها، والحركة التي اشتد نزيفها حينما أطنبت رموزها في التطرف والمغالاة، أظهرها بمظهر غير متجانس، واضحت عبارة عن طبقات، كل طبقة من هذه الطبقات تنكر بعضها بعضا، ولم تستوعب مغبة هذا الخلاف إلاّ عندما انتزع اليسار الحكم من أنيابها .

والشيء المؤسف بعد كل هذا، أن الحركة الإسلامية لم تسعى أن تتخذ العبرة من تجربتها الطويلة في الحكم، وأن تتعود على إلقاء اللوم على نفسها، فهي عوضاً على أن تنكب على تجربتها وتسعى أن تعلل ما ورد فيها من خير أو شر، نجدها بأصولها وجوهرها، قد ساهمت في السراب الديمقراطي الذي كنا ننعم به، قبل أن يتحول هذا السراب إلى هيجاء مستعرة لا تأصرها آصرة، في قلب الخرطوم لتنتقل بعدها إلى غرب السودان، ثم في وسطه هذه الأيام، فها هي الجزيرة الخضراء تتكالب عليها مليشيا الدعم السريع المدعومة من بعض الدول الاقليمية.

ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن المجلس العسكري بقيادة الفريق أول البرهان الذي كان مضطرا أن يتعاون مع الحركة الإسلامية على كره ومضض، كانت الوقائع والأحداث تنذره من حين إلى حين، أن يبقي على علاقته مع الحركة الإسلامية حميمة غير فاترة، فالبرهان رغم اعترافنا بأنه حتى كتابة هذه السطور، لم يعتمد على الحركة بصورة كلية، أو يثق بها، أو يطلب إليها أن تسبغ عليه من ألمعية عقلها، وحدة ذهنها، إلا أنه كان كلما فرغ من معركة من معاركة الحامية مع قوى الحرية والتغيير إلتفت إليها. ونظر إذا كانت الحركة الإسلامية فرحة مبتهجة بما سلكه من تدابير، أم هي عابسة مقطبة الجبين، وفي الحق أن كاتب هذه السطور ما زال يسعى لتحديد كنه العلاقة بين الفريق أول البرهان الذي انطلق وجهه بعد عبوسه، خاصة بعد أن أزاح شذاذ الآفاق من طغام الحرية والتغيير، ونائبه وغريمه حميدتي عن سدة الحكم، وبين الحركة الإسلامية التي يعتقد الكثير ممن هم منضوين تحت لوائها، أن البرهان قد استأثر بخيرها في عهد المشير البشير، ثم تنكر لها وجحد فضلها، بعد أن دانت له الأمور، والحركة الإسلامية التي أيقنت أن من الخطل أن تطمئن إلى البرهان، بعد أن أحاطت بلوذعية الرجل ومكره، فلم تعد تأخذ نفسها بما يجتره من عهود، فقد أدركت كما أدرك غيرها من الأحزاب السياسية، أن الرجل الذي  يشنف مسامع الناس بأحاديث في هذا اليوم، ويعلن التزامه بوعود يقطعها لهم، حتى إذا أتى اليوم التالي وانتصف ذلك اليوم، جحد ما قطعه من وعود، وتنصل مما نطق به من عهود، وهزء كتفيه غير مباليا بما يغتلي في وجدانك، بل يظهر لك في وضوح وسفور أن الأمر سيان عنده إذا ازدرت هذا النكران وهضمته، أم ناهضته واستهجنته، حسنا هذا هو سحر البرهان إذن، عقل راجح، ومزاج معتدل، ورغبة محتدمة في مصاولة الأذكياء، لأجل هذا أبصرناه يزداد قوة وتسلطاً كلما تقدمت الأيام، وأن قبضته المحكمة على صولجان السلطة رغم حجم المتهافتين عليها  ما زالت جذعة قوية، إن الواقع من الأمر على كل حال، أن الكثير ما زال يرى أن الفريق أول البرهان امتدادا للمؤتمر الوطني، فقد كان من ضمن القيادات الرفيعة في الجيش التي تحيط بالبشير، هؤلاء ومن ضمنهم أنا  ننظر إلى البرهان ومجلسه العسكري، بأنه لم يحترم رغبة هذا الشعب في أن يعيش حياة جديدة، يتحرر فيها من ملق الفاقة، وأوهاق المنية، وأغلال الذل، ورسف العبودية، حياة تشوبها الثقة والأمانة، في حاكم ليست الغلظة والشدة في طبعه ولا سنخه، حياة لا تتحكم في تفاصيلها دولاً مجاورة أظهرت ضجرها من الخلق والعرف والدين، ورغم يقيني بأن الحركة الإسلامية لا تكلف بالبرهان كلفاً شديداً، ولا تطمئن إليه كل الاطمئنان، لأنه لم يعترف على نفسه بفضل الحركة عليه، ولأنه لم يحرر أقطاب حزبهم من سجونهم، إلاّ أنها تمنحه بعد كل هذا ما كانت تمنحه للبشير من دعم وأيد، فهي تعلم أن التجزئة تقبل مسرعة غير متمهلة، وأن السودان بعد طوفان عرب الشتات، وسعيهم لنيل الحكم عنوة، قد دنا من الموت، أو دنا الموت منه، وأنّ العاصم من موته من بعد الله سبحانه وتعالى، المؤسسة العسكرية التي يعتليها بكل أسف قائد هو أساساً للمأساة، ونائبه الذي فرضته الظروف وأنشأته الوقائع، فهذين الرجلين بتكالبها على الحكم، وتنافسهم فيه، قد انتهيا بنا إلى ما نحن فيه من ضعف واعياء ومصير قاتم.

***

د. الطيب النقر

 

تحديات وفرص

الوقود الأحفوري: مواد أولية تُستخرج من باطن الأرض، تُستعمل لإنتاج طاقة تستخدم في كافة المجالات.كالفحم الحجري، الفحم، الغاز الطبيعي، والنفط الخام،

 ولا يزال الوقود الأحفوري يمثل أكثر من 80 بالمائة من إنتاج الطاقة العالمي، لكن مصادر الطاقة الأنظف تزداد قوة، حوالي 29 بالمائة من الكهرباء تأتي حاليًا من مصادر متجددة.

ويعدّ النفط من الموارد الاقتصادية الحيوية في العديد من الدول، ومن بين هذه الدول العراق، الذي يمتلك احتياطيات هائلة من النفط الخام، ورغم ثرواته البترولية، يعاني العراق من تبعات عدة تجعله بحاجة للتنوع، في اقتصاده والتخلص من الاعتماد الشديد على النفط.

أهداف البحث:

 يهدف هذا البحث المختصر إلى تحليل الواقع الاقتصادي في العراق بعد انتهاء الاعتماد على البترول، ومعرفة التحديات التي تواجهه، والفرص المتاحة لتنويع مصادر الدخل .

فقد توصلت الدول المجتمعة في قمة المناخ 28 المنعقدة في دبي بالإمارات، خلال الجلسة العامة الختامية الأربعاء 13 كانون الأول 2023، إلى اتفاق تاريخي بشأن التوجه نحو التخلي بشكل تدريجي عن استغلال الوقود الأحفوري.

ويهدف الاتفاق الذي توصل إليه ممثلو ما يقرب من 200 دولة في مدينة دبي الإماراتية، بعد مفاوضات شاقة لأسبوعين، إلى توجيه رسالة قوية إلى المستثمرين وصناع السياسات مفادها أن العالم متحد الآن في الرغبة في التوقف عن استخدام الوقود الأحفوري، وهو أمر يقول العلماء إنه آخر أمل لدرء كارثة التغير المناخي.

نتائج البحث:

الوقود الأحفوري، مثل الفحم والنفط والغاز، هو إلى حد بعيد أكبر مساهم في تغير المناخ العالمي، إذ يمثل أكثر من 75 في المائة من انبعاثات غازات الدفيئة العالمية وحوالي 90 في المائة من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.

العلم واضح: لتجنب أسوأ آثار تغير المناخ، يجب خفض الانبعاثات بمقدار النصف تقريبًا بحلول عام 2030 والوصول بها إلى مستوى الصفر بحلول عام/ 2050  .

ولتحقيق ذلك، نحتاج إلى التخلص من اعتمادنا على الوقود الأحفوري والاستثمار في مصادر بديلة للطاقة تكون نظيفة ومتاحة وفي المتناول ومستدامة وموثوقة.

أولاً:عراق بلا بترول !!!.

بغض البصر عن ما أطلقته مفاوضات كوب28 بشأن التبدل المناخي الرامية الى تخفيض استهلاك البترول الأحفوري وإنتاجه، بأسلوب عادل ومنظم ومنصف، بهدف تحري الحياد الكربوني بحلول عام / 2050، فأن ذلك يشكل انذار قبل فوات الأوان وشديد الحساسية للدول الريعية التي تعتمد اعتمادا كبيراً على البترول، وفي مقدمتها العراق الذي يهيمن فيه البترول على اكثر من نصف  الناتج الإجمالي وعلى 99 بالمائة من اجمالي الصادرات وعلى 95 بالمائة من الإيرادات العامة.

 وهو منشأ الكسب الأساس والممول والمحرك للأنشطة الاستثمارية في العراق، تحت ضعف شبه كامِل للأنشطة السلعية كالزراعة والصناعة، والتخلف المريع في القطاعات الخدمية والتوزيعية.

واذا ما غادر العالم يوم ما البترول، او اذا ما نضب البترول وهو مورد غير متجدد، سوف تكون النتائج كارثية علينا:

اذ ستختفي الصادرات النفطية ويهبط تبعا لهذا الإيرادات النفطية، ويقل معدل الميزانية العامة السنوية الى اقل من عشرة مليارات دولار، وسينهار الدينار العراقي، وتتدنى الدخول الحقيقية للموظفين وأصحاب الدخول الثابتة، وستتفاقم البطالة والفقر، وسيصاب الاستثمار العراقي بالشلل الكامل .. وسيكون الحال أسوأ بشكل أكثر من الذي عاناه العراق في زمن (الحصار الاقتصادي 1990 –2003 ).

 ومن هنا يجيء لزوم التحسب والعمل الجاد في اطار تدبير إنماء حقيقي، يوُّظف فيها جزء كبير من الإيرادات النفطية لتنويع اقتصاد الدولة وتنشيط القطاعات الأخرى غير النفطية، وعدم وضعه تحت رحمة سلعة واحدة ناضبة تخطط الدول العظمي الاستغناء عنها مستقبلا.

ثانياً: ماذا سيحل بنا؟.

عند إلغاء استخدام الوقود الأحفوري في العراق، سوف تواجه البلاد تحديات وفرصًا جديدة منها:-

 ستتأثر العديد من القطاعات في البلاد بشكل كبير، بدءًا من النقل وصولاً إلى الطاقة والاقتصاد، في هذا المقال، سوف نناقش تأثير الانتقال إلى مصادر طاقة مستدامة على وضع العراق ما بعد إلغاء استخدام الوقود الأحفوري.

* واحدة من أبرز التحديات التي سيواجها العراق بعد إلغاء استخدام الوقود الأحفوري هي تأمين مصادر طاقة بديلة، حاليا يعتمد العراق بشكل كبير على النفط والغاز الطبيعي، وبالتالي، سيواجه البلد صعوبة في تحويل بنيته التحتية وتأمين الطاقة اللازمة للمواطنين.

* يجب على الحكومة الاستثمار في تنمية مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح والمائية، وإنشاء مرافق توليد الطاقة الجديدة، وهذا سيساعد على تقليل اعتماد العراق على النفط والغاز وتأمين إمدادات الطاقة المستدامة للمواطنين.

* وبالإضافة إلى ذلك، ستفتح استخدام مصادر الطاقة المتجددة أبوابًا جديدة لتوفير فرص العمل في العراق، وهذا يتطلب تطوير وتشغيل محطات توليد الطاقة المتجددة عمالة مهرة، وسيعزز سوق العمل في البلاد ويقلل من معدل البطالة.

*  وعلاوة على ذلك، يمكن للعراق استغلال إمكاناته الطبيعية الوفيرة مثل أشعة الشمس الساطعة والرياح العاتية لتوليد الكهرباء وتصديرها إلى دول أخرى، وهذا سيعزز الاقتصاد العراقي ويعزز دخل البلاد.

* على صعيد آخر، يمكن للاستثمار في الطاقة المتجددة أن يساهم في حماية البيئة في العراق. استخدام الوقود الأحفوري يسبب مشاكل بيئية خطيرة مثل التلوث والتغير المناخي. بدلاً من ذلك، فإن الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة يمكن أن يساهم في تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة وتلوث الهواء، مما يحسن جودة الحياة للمواطنين ويحمي البيئة الطبيعية في البلاد.

* مع ذلك، يبقى تحقيق الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة تحديًا كبيرًا بالنسبة للعراق. تحتاج الحكومة إلى القيام بتحديث شبكة الكهرباء وتطوير بنية التحتية لدعم هذا التغيير. يجب أيضًا تطوير سياسات وقوانين لتعزيز الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة وتشجيع الشركات الوطنية والدولية على المشاركة في هذا القطاع الحيوي.

إن الانتقال إلى مصادر الطاقة المستدامة في العراق بعد إلغاء استخدام الوقود الأحفوري يشكل تحديًا كبيرًا وفرصة لتطوير البلاد وتحسين وضع المواطنين.

كما إن تأمين مصادر الطاقة البديلة وتطوير البنية التحتية اللازمة سيدعم الاقتصاد المحلي ويوفر فرص عمل جديدة ويساهم في حماية البيئة.

 في الوقت نفسه، تحتاج الحكومة العراقية إلى اتخاذ إجراءات فورية لتشجيع الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة وتحقيق التحول اللازم نحو الاستدامة، فقط من خلال هذا الالتزام والتنفيذ الجاد، يستطيع العراق أن يحقق مستقبلاً يعتمد على الطاقة المستدامة ويرفع مستوى حياة شعبه.

واعتبر الأمين العام للأمم المتحدة والسياسي البرتغالي “أنطونيو غوتيريش1949”، أن عصر الوقود الأحفوري: “يجب أن ينتهي”... وقال “غوتيريش” في بيان له: “عصر الوقود الأحفوري يجب أن ينتهي، ويجب أن ينتهي من خلال تحقيق العدالة والإنصاف”.

ثالثاً: التحويل إلى الاقتصاد المعرفي:

يجب على العراق الاستفادة من مصادره الثروة الأخرى مثل الطاقة المتجددة، والزراعة، والسياحة الدينية والإثارية، والتعدين، والتكنولوجيا، ينبغي أيضًا تحسين البيئة الاستثمارية وتقديم الدعم للشركات الصغيرة والمتوسطة.. أضف الى ذلك التحديات الاقتصادية:-

* الفساد واستغلال الموارد.

* ضعف البنية التحتية والخدمات العامة.

* سوء إدارة الاقتصاد وقلة الشفافية في العمليات المالية.

* تفشي البطالة وعدم توفير فرص العمل الكافية للشباب.

* تحقيق التنمية المستدامة من خلال استثمارات في البنية التحتية، وتطوير الصناعات غير النفطية.

* تعزيز التعليم وتدريب الكوادر العراقية لتطوير مهاراتها الفنية والمهنية.

* تعزيز السياحة وتطوير المناطق السياحية في العراق لزيادة الدخل السياحي.

* تشجيع المشاركة الفاعلة لمنظمات المجتمع المدني وإدماجها في مبادرات العمل المناخي، من خلال تمكين الأفراد في اتّباع ممارسات مستدامة  في إطار جهود الحفاظ على البيئة على مستوى القاعدة الشعبية.

* تعزيز المشاريع المجتمعية التي تتصّدى لتحديات الأزمة المناخية، وبناء القدرة على التكيّف، وتعزيز الشعور بالمسؤولية الجماعية عن البيئة.

* على القادة الدينية أن يفسحوا المجال أمام الجهات الفاعلة للاستفادة من منصاتهم كمنابر، وأن يدعوا إلى التحوّل العادل إلى مصادر الطاقة المتجددة والدفاع عن حقوق الأشخاص الأكثر عرضة  لآثار تغير المناخ (بما في ذلك الشباب والنساء والأطفال والفئات الفقيرة ) .

 رابعاً: الطاقة المتجددة وفرص العمل الجديدة

كل دولار يُستثمر في أصول الطاقة المتجددة سوف ينتج ثلاثة أضعاف الوظائف المستحدثة في قطاع الوقود الأحفوري، و تتوقع الوكالة الدولية للطاقة أن يفضي التحول إلى صافي انبعاثات صفري إلى زيادة عامة في وظائف قطاع الطاقة.

 في حين يمكن فقدان حوالي 5 ملايين وظيفة في مجال إنتاج الوقود الأحفوري بحلول عام/ 2030، سيتم استحداث حوالي 14 مليون وظيفة جديدة في مجال الطاقة النظيفة، أي كسب 9 ملايين وظيفة.

بالإضافة إلى ذلك، ستتطلب الصناعات المتعلقة بالطاقة 16 مليون عامل إضافي، على سبيل المثال لتولي أدوار جديدة في تصنيع السيارات الكهربائية، والأجهزة عالية الكفاءة، أو في التكنولوجيات المبتكرة مثل الهيدروجين.. وهذا يعني أنه يمكن خلق أكثر من 30 مليون وظيفة في مجالات الطاقة النظيفة والكفاءة والتكنولوجيات قليلة الانبعاثات بحلول عام/2030.

سيكون تحقيق تحول عادل ووضع احتياجات الناس وحقوقهم في صميم التحول الكبير، أمرًا بالغ الأهمية لضمان عدم تخلف أحد عن الركب. لطاقة المتجددة وفرص المجهود العصرية.

خامساً: الذكاء الاصطناعي والبترول

في العقود الماضية، شهدت التكنولوجيا تطورًا كبيرًا جعل الذكاء الاصطناعي (AI) واحدًا من أبرز الابتكارات التكنولوجية في العصر الحالي.

و يستخدم الذكاء الاصطناعي نماذج رياضية ومجموعات بيانات هائلة لاكتساب المعرفة واتخاذ القرارات، ويقوم بتنفيذ المهام المعقدة والمتجددة بشكل أكثر كفاءة من الإنسان، وبفضل استخدامه الشامل في مجموعة واسعة من الصناعات.

ومن بين العديد من الشواهد التي تدعم فوائد الذكاء الاصطناعي، هناك نقطة تتصل باستخدام النفط. فالنفط عبارة عن مصدر للطاقة غير متجدد ويسبب التلوث البيئي بشكلٍ كبير، علاوة على ذلك، تعتمد العديد من الصناعات على النفط ومنتجاته، مما يجعله ضرورياً وصعب الاستغناء عنه.

ومع ذلك، يمكن أن يؤدي تقدم التكنولوجيا وتطور الذكاء الاصطناعي إلى تخفيف الاعتماد على النفط وتلغي استخدامه بشكلٍ جزئي أو حتى كلي.

أحد التطبيقات المباشرة للذكاء الاصطناعي التي تؤدي إلى تخفيض استخدام النفط هو في مجال النقل. فالنفط يستخدم في وقود السيارات والشاحنات التي تعتمد على الحركة بالاحتراق الداخلي، ومع ذلك، يتم تطوير العديد من تقنيات النقل الصديقة للبيئة بفضل الذكاء الاصطناعي، مثل السيارات الكهربائية.. تستخدم هذه السيارات بطاريات قابلة لإعادة الشحن بدلاً من الوقود التقليدي، مما يقلل استهلاك النفط وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

 بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير نظم النقل العام الذكي وتحسين تدفق الحركة المرورية، مما يؤدي إلى تقليل الاحتياجات الوقودية ووقوع الازدحام المروري.

علاوة على ذلك، يمكن أيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة الطاقة، وهنا نذكر مجال الطاقة المتجددة، فالتكنولوجيا الحالية تعتمد بشكل كبير على مصادر الطاقة غير المتجددة مثل الفحم والنفط والغاز الطبيعي.

 ومع ذلك، يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز استفادتنا من مصادر الطاقة المتجددة بشكلٍ أفضل وأكثر كفاءة، و يمكن للذكاء الاصطناعي مساعدة الشبكات الكهربائية في تحديد الطلب الفعلي على الطاقة وتنظيم استخدامها، مما يقلل من هدر الطاقة والحاجة إلى استخدام مصادر الطاقة غير المتجددة.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في تجاوز استخدام النفط في مجالات أخرى مثل صناعة الإلكترونيات والتكنولوجيا الرقمية، فجميع هذه الصناعات تستهلك كميات كبيرة من الطاقة، والتي غالبًا ما تكون مشتقة من النفط، سواء كان ذلك في إنتاج الكهرباء المستخدمة أو في الإنتاج الذاتي لتلك المنتجات.

ومع ذلك، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدعم تقنيات أكثر كفاءة في استخدام الطاقة وإنتاج المنتجات بشكلٍ أكثر ذكاءً، عن طريق تحسين التصميم والإنتاج والاستخدام.

على الرغم من الفوائد المحتملة في تقليل استخدام النفط، يجب أيضًا أن ننظر إلى بعض التحديات المصاحبة للاعتماد الشامل على الذكاء الاصطناعي لإلغاء استخدام النفط، قد يشكل استخدام الذكاء الاصطناعي في بعض الصناعات تكلفةً عاليةً، وربما يكون بحاجة إلى بنية تحتية واسعة النطاق ليتم تنفيذه بشكلٍ فعال، بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن الاستغناء عن النفط في كل الصناعات، مثل الصناعات الكيماوية التي تعتمد بشكل كبير على النفط في إنتاجها.

الخلاصة:

تواجه العراق تحديات اقتصادية بالغة بسبب اعتماده المتطرف على النفط، ومن خلال المصادر المتاحة الأخرى وتنويع الاقتصاد، يمكن للعراق أن يحظى بفرص جديدة ويتحقق من التنمية المستدامة،  إن تحقيق هذا التحول يتطلب تحسين الإدارة الاقتصادية ومكافحة الفساد، إلى جانب توفير البيئة الملائمة للاستثمار وتعزيز البنية التحتية وتوفير فرص العمل الكافية للشباب.

بعد أن توقف راشد عن الزراعة وصيد الأسماك بسبب، جفاف الأهوار وشح المياه القادمة الينا من تركيا وأيران وسوريا، سوف يتوقف الدكتور/ علي العلاق عن بيع الدولار في سوق العملة وتتوقف النافذة الواحدة، ويتوقف معها أكثر من 80 مصرف، ومئات شركات التوسط ببيع وشراء العملات الاجنبية في بغداد والمحافظات، ومكاتب الصيرفة التي تتعامل بالدولار.. وهذا ما يضر دول الجوار التي تعتاش على الدولار العراقي، نتيجة توقف نشاط شبكات التهريب والمضاربة.

على الرغم من تكتم -  البنك المركزي العراقي-  على اسماء بعض المصارف المشاركة بمزاد بيع العملة الاجنبية، وسط اتهامات ومعلومات عن هيمنة مصارف معينة على مزاد بيع العملة دون غيرها.

بالإضافة الى توقف العمل بتمويل البطاقة  التموينية المدعوم حكومياً، كذلك رواتب الحماية الاجتماعية لـ أكثر من 7 مليون شخص،على شكل رواتب مالية ومعونات شهرية للعاطلين عن العمل والأرامل والأيتام، علماً أنّ الراتب الواحد لا يزيد عن 180 ألف دينار عراقي (نحو 120 دولاراً) .

وبالتالي يضعف المستوى المعيشي للمواطنين، ويتوقف السفر الى أيران وسوريا.. ومعها يتوقف حجي حسوني عن نشر إعلاناته على صفحته في الفيس بوك، والتي يدعوا فيها الناس الى قضاء أمتع الأوقات في ربوع دمشق وشيراز وأصفهان.. وبالتالي لا يوجد من يسافر الى أيران لغرض السياحة وتلقي العلاج، إلا ما ندر... فيتوقف أطباهم ومطاعمهم وفنادقهم والأدلاء الطبيين والسياحيين ومترجميهم عن العمل، بما فيهم أم علي المياحي، ورؤيا، والعلوية شيرين، والست مينو.

***

شاكر عبد موسى/ العراق

..................

المصادر:

* Export diversification for economic growth in oil-dependent economies: The case of Iraq (Al Chalabi، H. and Khan، M. S))

Iraq Economic Monitor: Toward Economic Diversification (World Bank) *           

* موقع الجزيرة/ قمة كوب 28 تتوصل الى أتفاق تأريخي بشأن الوقود الأحفوري/ وكالات/ 13 كانون الأول 2023. https://www.aljazeera.net/news/2023/12/13.

* موضوع أكبر موقع عربي بالعالم/ ما هو الوقود الأحفوري؟/ وكيف تشكل؟ / عبير الخزاعلة، 20 ديسمبر 2021. https://mawdoo3.com/.

* موقع الدكتور نبيل المرسومي/ أستاذ جامعي. https://www.facebook.com/profile.php?id=100001053409050.

 

من هو الملك حمورابي، ومن هم الانبياء الذين جاؤوا من بعده، وماهي شريعتة القانونية، وما هي شرائعهم؟ والشريعة هي المنهج او طبيعة الفلسفة والقوانين التي تحكم النظام او الدولة، وطاعة الحاكم تأتي من طاعته للشريعة القانونية وتطبيقها على الناس دون تمييز، هذا ما جاء به الاسلام كنظام لحكم الدولة، وليس التفرد بالسلطة والمال دون الشعب.

حمورابي الملك البابلي الشهير "ت 1754 ق.م، واضع القوانين، لم يدعِ النبوة، لكن موسى وعيسى ومحمد اصحاب الاديان، كلهم أدعوا النبوة ومعهم نصوصهم الألهية المقدسة، وشرائعهم هي من مصدر واحد هو الله،؟ نحن بحاجة ماسة الى هذه الدراسة لنكشف لكل اصحاب الديانات وشرائعهم المهملة منهم، لو ان حمورابي ادعى النبوة مثلهم، أما كانت شريعته في مقدمة الشرائع القانونية المقدسة في الوجود والقيم، ولأصبحت هي مصدر التشريع في التطبيق، من كل الشرائع من بعده، ولكان تطبيقها اليوم افضل من تطبيقات شرائع الانبياء والحكام الذين يدعون شريعة التقديس وهم عنها بُعاد، فالعبرة ليست في قدسية الشريعة والدساتيرولا حتى في مصدرها، بل في قدرتها على الانصياع لتطبيق العدالة في خدمة الانسان والقيم، كما طبقها حمورابي الكبير، وشريعته فخر الفكر العراقي القديم.

شريعة حمورابي البابلي تتكون من 282 مادة قانونية، وشريعة موسى تتكون من توراة العهد القديم، ابتداءً بالتكوين وانتهاءً بعهد المزامير والامثال على عهد داود، وشريعة عيسى تتكون من الانجيل الذي تشعب الى اربعة اناجيل هي متى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا.لكن كل أنجيل منها يمثل جزءً من دينه المقدس، وشريعة محمد هي القرآن جاءت ب6334 أية قرآنية مقدسة، قسم منها يدعي التنزيل "منزل" كالوصايا العشر والآيات الحدية "الانعام 151-153، وقسم منها جاء على سبيل العضة والاعتبار كالقصص القرآنية"نحن نقصُ عليك نبأهم بالحق الكهف 13"، وقسم منها متشابهة القابلة للتأويل اي تخضع للمعرفة النسبية مادامت اللغة العربية عبرالزمن في تطور مستمر.

الشعب نفس الشعب والوطن نفس الوطن، فعلام الاختلاف في المعتقد والقيم والتشريع والفصل بينهم على طريقة الأمويين والعباسيين.واذا كان الخالق يريد وحدة البشر"انا خلقناكم من نفسٍ واحدةٍ" دون تفريق فعلام التعدد في الديانات وخلق التفريق، والتوراة والانجيل والقرآن هي قوانين الوجود.هنا يجب البحث لمعرفة الصحيح من الخطأ في معتقدات شرائع الديانات الثلاثة التي تدعي الاختلاف والتفريق، وتحويلها الى امم مختلفة في العقيدة والدين "والكتاب المقدس يقول: "انا جعلناكم أمة واحدة وانا ربكم فأعبدون، الانبياء 93".فمن أجاز لهم اختراع المذاهب المتعارضة ونظريات التفضيل بين الديانات في التطبيق ولا زلنا نصدقهم.

الديانات الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام تؤمن بثلاثة فروع: الاول في الصراط المستقيم والاستقامة والحنيفية ايمانا متشابها في التطبيق، فيما يخص نظرية الحدود، وهي تشريعات حدودية لا حدية قابلة للتطور عبر الزمن وليست ثابته خضوعا لنظرية صيرورة التاريخ.

والثاني الوصايا العشر التي وردت في الديانات الثلاثة وقد تم فيها تحديد مفهوم الاخلاق والاعراف، فالاخلاق عالمية التوجه والعادات والتقاليد محلية التطبيق، وهي ملزمة لكل الناس (التقوى الاجتماعية) وهي القاسم المشترك بين الجميع فعلام التفريق.

والثالث هو: المعروف والمنكر والطاعة المطلقة للنص مع مراعة الزمن في التغيير، وهنا تم تحديد السُنن للانبياء والاجتهادات فيها لمنفعة التطور ومصلحة الناس عبر الزمن، لذا لا يجوز لمذهب او فصيل الأنفراد بالأوامر الربانية بحجة التفضيل، فلا تفضيل في الاديان ما دامت كلها من مصدرواحد فعلام كل هذا الاختلاف بين الناس في التطبيق.

قال الباحثون منذ القدم: ان القانون صناعة عراقية جاءت من وحي البشر قبل الديانات، منذ عهد السومرين والملك السومري لبت عشتار الذي تحول الى قانون تل حرمل الذي يسمى عند المؤرخين اليوم بقانون مملكة أشنونة.

سجل حمورابي هذه القوانين على مسلة كبيرة من حجر الديورانت الاسود الذي وجد في مدينة سوسة عاصمة عيلام، وجد اثناء التنقيبات الفرنسية عام 1901 ولا زالت المسلة موجودة في متحف اللوفر (شاهدتها بنفسي) ذلك ان ملك العيلاميين نقلها الى ملكه بالغزو وحرَم البابليون منها.هذه المدونة لا زالت موضوع بحث مختلف في اصلها.

صنفت هذه المدونة القانونية الحمورابية المهمة الى اثني عشر قسماً:

احتوت على قوانين القضاء والشهود، وقوانين السرقة وعقابها، وقوانين الجيش ومهماته، وقوانين الزراعة والبيوت، وقوانين التجارة، وقوانين الخمور، وقوانين البيع والشراء، وقوانين العائلة وحقوقها، وقوانين التعهدات والتعويضات والغرامات، وقوانين الاسعار، وبناء البيوت وأنظمتها، ووسائل النقل، وقوانين مراعاة حقوق الانسان و الحيوان، وقوانين حقوق الرقيق وواجباتهم وحمايتهم من الاعتداء والأستغلال، وأستمرت القوانين تتطور عند الآشوريين التي دونت بوثائق سميت بالوثائق الاشورية والتي سرق معظمها ونقلت للبلدان الاخرى، وأهميتها في فكرها المبكر الذي سبق كل الأخرين، والمهم كيف أصبح وطن هذه الافكار اليوم من المتخلفين هنا تستحق الدراسة.

لكن المهم ليس في أهمية هذه القوانين بل في تطبيقها الحرفي الصارم على عهد الماضين، مقارنة بقوانين الاديان الثلاثة التي طبقت على البشر حسب رأي الحاكم والفقيه ومزاجه دون تثبيت كما عند اليونان والرومان والفرس والمسلمين من بعدهم وكيف اختلف التطبيق.

اما الديانة اليهودية: فهي أول وأقدم الأديان التوحيدية الثلاث، وهي دين وطريقة حياة الشعب اليهودي، وتستمد هذه الديانة شرائعها وعقائدها الاساسية من التوراة، هي أول خمسة اسفار من الكتاب المقدس، وعقيدتهم الايمان بالله الواحد الاحد، الفرد الصمد الذي يريد لجميع الشعوب ما هو عادل ورحيم لكنها دنيوية التطبيق، حتى جاءت المسيحية.

الا ان تلك البداية الآلهية الرائعة لتثبيت حقوق الانسان اصابها التشويه والتشويش من جراء عصيان الانسان وتمرده على القيم، فحل الموت والفساد والعداء والطمع والحروب بدلا من من العلاقة الحميمة بين الانسان والانسان وخالقه حتى تحول ذلك الامل الى سراب، والبحث يطول في النبي ابراهيم ودعوته لتحويل الفداء البشري الى الفداء الحيواني في اية اسماعيل وذبحه واستبداله بالكبش، من هنا كتبت اول القوانين في حقوق الانسان، و كانت البداية لتكريم الانسان، لتنتقل بعدها الى شخص المسيح ليتحول ظلام البشرية الى نور لها حين اختار الحياة الابدية للكل ممثلا عنهم، لكن النظرية لا زالت بحاجة الى توضيح وتثبيت، دون البعض، حتى جاءت الدساتير المدنية بعد الماكنا كارتا البريطانية وقوانين الثورة الفرنسية والامريكية التي تحولت الى قوانين مطبقة كما في اوربا وامريكا والقسم الاخربقي مجرد اوهام كمافي دول الاسلام النافقة، والناكرة للقيم.

المسيحية جاءت في القرن الاول الميلادي حين اوحى السيد المسيح الى اربعة من رجاله ان يدونوا الانجيل، فتولى كل واحد منهم التركيز على جانب معين من جوانب حياته وشخصيته المتميزة، وليست اربعة اناجيل كما يتوهم البعض.

 من هنا بدأت رحلة المسيح الذي به بدأت الديانة المسيحية منذ القرن الاول للميلاد، حين اوحى السيد المسيح الى اربعة رجال ان يدونوا الانجيل كل منهم ركزعلى جانب من حياة المسيح ودعوته وهم انجيل مَتى، ومرقس، ولوقا، ويوحنا، فتولى كل واحد منهم جانب من جوانب حياته وشخصيته الفريدة.مع انه هو ابن داود بن موسى الذي تمت به نبوءات العهد القديم، وابن ابراهيم الذي بدأ به الاسلام:: "وجهت وجهي للذي فطر السموات والارض حنيفا مسلما وما انا من المشركين.

ثم جاء الاسلام بدعوته العظيمة لكل الناس بالعدل والمساوة بين الجميع"أعدلوا ولو كان ذا قربى" قانون لم تدونه القوانين من قبل، ورغم ما قدم من تضحيات لنجاحه باعتباردعوته اخر الاديان.الا ان المهمة لم تنجح حينما تحول الاسلام الى قابل ورافض له.فكان السيف بدلا من حرية الاختيار"لكم دينكم ولي دين".الاسلام اراد تطبيق الوصايا العشرالتي وردت في الديانات السابقة له، ويقف العدل في المقدمة والايات الحدية في التطبيق لكنه لم ينجح الا في القليل لأنانية المعتقدين، ولا زال المسلم يعاني من فرقة القبيلة والطائفة والمذهب الذي ركزه الفقيه في اذهان المسلمين.

ولو بقي العرب بلا دين يحكمهم الدستور والقانون مثل اليابان والصين لكانوا افضل حالا اليوم من الاخرين. بعد ان مزقهم الغريب وخاصة العناصر الفارسية الكارهة للعرب بعمق العداء الحضاري في التطبيق، ولا زالوا،

الفرق بين الاديان الثلاثة والدساتير الحالية بحاجة الى دراسة محايدة يكتبها القلم الواعي لا مؤسسة الدين المفرقة للجماهير التي حولت حقوق الانسان الى تخريف، دعوا المرجعية للدين، ولا تدخلوها في شأن القوانين، فهي والقانون المدني على طرفي نقيض، ومالم تحرق المصادر المسمومة ويعدل المنهج المدرسي لصالح الحق والفكر الانساني في التطبيق لن يكون هناك من امل في التغيير.

 نشأت النظم السياسية الغربية على المبادىء وهي دستورية الحكم وسيادة القانون، مما مكنت لجماهير الغرب الاستيقاظ ومعرفة الحقوق والحدود، وما زالت في عالم التطور، وخاصة بعد فصل الدين عن السياسة ودخولها عالم الحرية في التثمين والتثبيت، وهذا هو المهم.فعصر الدولة الدينية انتهى اليوم، فلا تتشبثوا في الميت القديم.

سقط النظام السابق في العراق جراء التصرف الاهوج غير الصحيح.لكن الذين جاؤا من بعده لم نجد عندهم اعدادا فكريا وسياسيا يذكر مغايرا للقديم، لابل مجرد انتقال من استبداد رخيص الى فوضى زعماء وقواد وظلم للناس غير منظم في التطبيق.فما لم تكن في حكم الدولة صفوة واعية قائمة على فكر جماعي يخدم الجميع مؤمنة بالوطن والقيم لن يصل الجدد الى تغيير، لان الصفوة تشعر بثقل التكليف وتتحمل اعباءه ومضانكه فتنجز ما وعدت به الجماهير فالدولة للجميع وليس للحزب او المذهب او المرجع او من ينفرد في التكليف.

هنا الخطأ الغير مدرك ممن رافقوا التغيير، وستبقى الجماعة بخير ما دامت صفوتها بخير. فالتقدم يخضع لقانون التحدي والاستجابة والمعرفية وليس للقبيلة او المذهب او العائلة او خرافات التكهن في التطبيق، هنا مكمن ال خطأ وسقوط دولة المسلمين.

***

د.عبد الجبار العبيدي

في تقليده السنوي ولقاءه مع الصحفيين، يحرص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كل عام، على استعراض نتائج العام، والإجابة على أسئلة الصحفيين، وأشباع فضولهم في التعرف على آخر المستجدات لدى القيادة الروسية في العديد من القضايا الدولية المهمة، واحيانا تشمل تلك الأسئلة، حياة الرئيس الروسي الشخصية، وكذلك،الخط المباشر للإجابة على أسئلة المواطنين الروس حول الأوضاع المحلية والعالمية، وكذلك حرص الرئيس فلاديمير بوتين وهو يستعرض نتائج عام 2023، على كشف جميع الحقائق وكما هي ودون رتوش، خصوصا وان بلاده تمر في وقت عصيب، حيث تتكالب الدول الغربية وتتسابق على الحاق الأذى بروسيا، سواء في ديمومة تجهيز أوكرانيا بالأسلحة لإطالة أمد العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، او محاولاتها المستميتة، لزرع الفتنة وزعزعة الامن والاستقرار في الداخل الروسي .

ولعل أهم النقاط الحيوية في المؤتمر الصحفي للرئيس بوتين، هي الوضع الاقتصادي الروسي، والتي يحاول الغرب بكل امكانياته " وخبثه "، لوضع العصا في عجلة الاقتصاد، وتعطيل مسيرة تطوره، من خلال تشديد العقوبات " الظالمة " على روسيا، والتي راهن الغرب عليها كثيرا، لكنها ووفقا للأرقام التي أوردها الرئيس الروسي، أكدت فشل هذه المحاولات الغربية،  فروسيا وبحسب بوتين، جمعت من قدراتها ومرونتها في مجال الاقتصاد، وكذلك في مجال الأمن، ما مكنها أيضا من مواجهة العقوبات .

ونمت الصناعة في روسيا ووصلت إلى 6%، والاستثمار نما بنسبة 10% وهو ما يعني أن النمو في الناتج المحلي الإجمالي والصناعة ناجح تماما، وسيضمن النمو المستدام في المستقبل، وأرتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.5% وهو يعني " أننا عوضنا ما خسرناه خلال العام الماضي" بحسب تعبير الرئيس بوتين، ووصل التضخم إلى 7.5% وربما 8% ولكن البنك المركزي والحكومة تتخذ التدابير اللازمة لمواجهة ذلك، ووصل التضخم إلى 7.5% وربما 8% ولكن البنك المركزي والحكومة تتخذ التدابير اللازمة لمواجهة ذلك، وإن أرباح الشركات وصلت إلى 24%، وربحت البنوك أكثر من 3 تريليونات روبل خلال العام، ومن يحتفظون بأموالهم في البنوك الروسية يشعرون بالأمان لاستقرار النظام البنكي في روسيا، ما سيخلق هذا فرص عمل جديدة.

الرئيس الروسي وهو يسرد هذه الأرقام المتفائلة، اعرب عن افتخاره بنمو دخل المواطنين، وان نسبة 3% من البطالة، وقد انخفض هذا المؤشر إلى 2.9% وهو رقم قياسي آخر، وانخفاض دين الدولة الخارجي من 46 مليار دولار إلى 32 مليار دولار، وزاد متوسط الأعمار في روسيا من 70.6 في السنوات السابقة، ووصل في عام 2023 إلى74 عاما، وهناك حاجة إلى الأيدي العاملة، وقال "علينا الانطلاق من حاجتنا للقوى العاملة المؤهلة"، حيث يعيش في روسيا اليوم 10 ملايين مهاجر للعمل فيها، وأشار الى وجود قوانين أساسية لحل مسائل الحصول على الجنسية الروسية، و" نرحب بكل المواطنين الذين يحترمون القوانين، ويرغبون في ربط مصيرهم بروسيا، وعلى ما يبدو أن هناك الكثير مما يريدون القدوم إلى روسيا، حسب رأيه.

وبالتأكيد مثل هذه المؤتمرات الموسعة للرئيس الروسي لا يمكن ان تنتهي دون الولوج في علاقة روسيا والولايات المتحدة الامريكية، والتي أكد على ان بلاده مستعدة لبناء العلاقات معها، معربا عن اعتقاده أنها (أمريكا) دولة ضرورية في العالم، لكن سياساتهم الإمبراطورية تعيقهم أنفسهم، وصرفت الولايات المتحدة 5 مليارات دولار بغرض إفساد العلاقات بين بلاده وبين أوكرانيا، ومن جهة أخرى العلاقة بين روسيا واوروبا، والتي بدأت القطيعة معها حس قوله عقب الانقلاب في أوكرانيا عام 2014، حيث أجبر الأوروبيون روسيا على الذهاب إلى هذه الإجراءات بسكوتهم، وقال "نحن مع بناء العلاقات مع أوروبا، إلا أنهم يظهرون وكأنهم لا يتذكرون أي شيء، ولا يعرفون أي شيء. لقد نسوا كل الضمانات التي منحوها للاتفاق بين يانوكوفيتش والمعارضة".

واعرب الرئيس الروسي عن اعتقاده أن إمداد أوكرانيا سوف يتوقف في يوم من الأيام، وان 747 دبابة تم تدميرها، وأكثر من ألفين من المدرعات منذ الهجوم الأوكراني المضاد، مشددا في الوقت نفسه على ان السلام من وجهة نظر الرئيس بوتين سيتحقق عندما " نصل إلى أهدافنا التي لم تتغير، وهي اجتثاث النازية في أوكرانيا ونزع سلاح الدولة الأوكرانية والوضع الحيادي لها"، والاشارة الى ان هناك آلاف من المتطوعين الذين يرغبون في المشاركة في العملية العسكرية الخاصة، "ولسنا بحاجة إلى إعلان التعبئة العامة" .

والرسالة المهمة التي أراد الرئيس الروسي أيصالها حول الشأن الأوكراني، هي ان جنوب وشرق أوكرانيا كان دائما روسيا وهي أرض روسية تاريخيا، وان أوديسا مدينة روسية، وهي حقيقة يعرفها الجميع، سلمها فلاديمير لينين كل شيء، وقد قبلت بلاده بهذا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والروس بطبيعتهم كانوا يصوتون للشعارات المؤيدة لروسيا، وكانت روسيا تقبل بهذا الوضع، ولكن بعد الانقلاب، أصبح من الواضح أنهم لن يسمحوا للروس ببناء علاقات مع أوكرانيا، وعبر بوتين عن ثقته من أنه في مدن عديدة من أوروبا والولايات المتحدة ومناطق أخرى من العالم يؤمن الناس أن روسيا تدافع عن مصالحها الوطنية، وان عدد أنصارها يزداد بشكل كبير جدا.

ولم يغفل الرئيس الروسي قطاع غزة، وما يجري هناك وشرح أسبابه، وأوضح بوتين، انه ناقش مع زملائه في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، وأنه على تواصل مع الرئيس المصري، ولا بد من توصيل المساعدات الإنسانية، وأشار الى أن الجانب الإماراتي قد أنشأ على أراضي غزة بالقرب من معبر رفح مستشفى ميداني، وتحدث حول إمكانية أن تقوم روسيا بفتح مثل هذا المستشفى، إلا أنه حسب قوله، لا بد من الحصول على موافقة مصر و "إسرائيل"، وتحدث مع الرئيس المصري ودعمه، وتحدثت مع رئيس الوزراء الإسرائيلي وناقشته مع هيئات أخرى، وأضاف ان الجانب الإسرائيلي يقول إن فتح مستشفى روسي هو أمر غير آمن، و "لكننا لا نوقف هذه الجهود وإذا كانت المسألة غير آمنة من وجهة النظر الإسرائيلية، فقد طلب منا من تسليم المزيد من المساعدات الطبية، وهو ما نقوم به، ونتواصل مع كافة الأطراف".

وكشف الرئيس بوتين على وجود مواقف مشتركة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويخطط للقاءه قريب العام القادم، والاشارة الى ان هناك دور رائد للرئيس التركي فيما يتعلق بقضية تسوية الأوضاع في غزة، وان الرئيس التركي يقوم بكل ما بوسعه لتغيير الأمور في الاتجاه الأفضل وتهيئة كل الظروف لإحلال السلام طويل الأمد، وشدد بوتين على ان التطرف والراديكالية ينشأ من رد فعل العالم الإسلامي على عدم تسوية القضية الفلسطينية، وكرد فعل على ذلك تظهر الإسلاموفوبيا، وقال " نحترم ونقدر رؤساء الطوائف المختلفة، إن الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية تظهر استنادا لوقوع الظلم على الناس"، مشيرا في الوقت نفسه الى الروسوفوبيا وهي أحد مسارات المواجهة مع روسيا، وقال " لا بد علينا من مواجهة كل مظاهر التفرقة والعنصرية وكل المحاولات لتأليب المجتمع الروسي من الداخل".

الرئيس الروسي الذي كان يريد أن يصبح طيارا، ولكن في السنوات الأخيرة من المدرسة أراد أن يصبح عاملا في أجهزة الاستخبارات، وردا على سؤال حول النصيحة التي كان سيقدمها لنفسه لو عاد به الزمن، قال بوتين " كنت سأقول لنفسي: أنت تسلك الطريق الصحيح يا رفيق، لكني كنت سأحذر نفسي من السذاجة الزائدة والثقة المفرطة في من يسمون أنفسهم شركاءنا.. وكنت سأقول له أيضا: لا بد من الإيمان بالشعب الروسي العظيم، وهو الأساس لإعادة بناء وتطور روسيا" .

***

د. كريم المظفر

صمتت روسيا طيلة أيام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بات تحت الأنقاض بعد أكثر من شهرين وهو يتلقى القصف الهمجي الصهيوني بأحدث الأسلحة الأمريكية والغربية.

 وأخيرا، حين تكلم وزير خارجيتها نطق بالباطل حين تحدث عن “أمن إسرائيل” وبشكل يبعث الى حيرة المراقبين الذين تلقفوا قبل ساعات فقط تصريحات الرئيس الأميركي التي تحدثت عن حماية السكان المدنيين وضرورة إيصال المساعدات الإنسانية إليهم وقد باتوا نازحين في ديارهم.

فيما بدت التصريحات الأميركية والروسية وكأنها حرب أخرى تجري على هامش الحرب على الشعب الفلسطيني.  ولا تبدو هذه التصريحات أنها تجرى في القنوات التقليدية للسياستين الأميركية والروسية.

من الغريب والمستهجن أنْ تتحدث روسيا الآن عن “أمن إسرائيل” وهي تربط ذلك بضرورة إقامة دولة فلسطينية، فيما المشهد الفلسطيني الراهن برمته من قبل ومن بعد هو الذي يحتاج إلى الأمن والحماية ليستطيع الفلسطينيون العبور إلى الدولة.

وكان الأجدر بوزير الخارجية الروسي أنْ يتحدث عن معاقبة إسرائيل على جرائمها التي تتصرف فوق القوانين الدولية بقتلها للمدنيين ومعظمهم من الأطفال والنساء في حربها الفاشية المفتوحة.

مرة أخرى يقوم السؤال بإلحاح أكثر: من الذي يحتاج إلى الأمن، الاحتلال الغاصب أم الشعب الواقع تحت الاحتلال؟

جاءت تصريحات لافروف عن أمن إسرائيل بعد ساعات فقط من حديث بايدن، الذي يُظهر أنّ الإدارة الأميركية تنقلب على نفسها وهي تُعلن عن ضرورة إيجاد هدنة إنسانية وحماية المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وعن ضرورة لجم المستوطنين عن هجماتهم ضد المواطنين في الضفة الغربية. ومما قاله بايدن: أنّ إسرائيل تفقد دعم المجتمع الدولي”، وقبل ذلك كانت الولايات المتحدة هي الأكثر تشدداً حتى من دولة الاحتلال تجاه وقف إطلاق النار. وكانت الممارسات الإسرائيلية خارج نطاق أي انتقاد أمريكي رسمي.

ما الذي يدفع الدولتان الكبيرتان أمام قسوة المشهد الغزاوي أنْ تتحولان في صياغة سياستهما. وبالضرورة أنْ تظهران كما هي العادة النقيض في المواقف الذي يتسم في معالم سياستهما؟

 هكذا، وفجأة بعد أكثر من شهرين من الحرب تصبح أمريكا أول المنادين بحماية الشعب الفلسطيني، بينما تصبح روسيا في صدارة صفوف المنادين بــــ “أمن إسرائيل” وهي الأسطوانة المشروخة التي أطلقتها أولاً الولايات المتحدة بداية الحرب وراحت دول الاتحاد الأوروبي ترددها لليوم بشكل ببغائي.

ولكن، هل سيستيقظ العالم الغربي غداً وهو يردد تصريحات بايدن حول الهدن الإنسانية وضرورة الاتفاق على “حل الدولتين”، وهذا ما ترفضه حكومة نتنياهو وتصر على مواصلة الحرب والاحتفاظ بكلّ أرض تحتلها.

وهنا، كيف ستبدو السياسة الروسية، وبأي صياغة سيظهرها لافروف على العالم؟ وهل تتطور هذه المواقف وتخرج من إطار المناكفات وتتحول الى سياسة استراتيجية؟

حقاً.. العالم يتغير!

***

كاتب فلسطيني

قررت تركيا من جديد كسب حليف قديم ليدعم توجهها نحو التمدد على حساب الأرض العربية فأرسلت شحنة مساعدات " إغاثية"  لجنود الاحتلال الصهيوني أملا في أن تلق من سلطات الاحتلال ما يترجم مبدأ المعاملة بالمثل .

استقبلت سلطات الاحتلال الصهيوني طائرة شحن تركية هبطت حديثا محملة بمساعدات جرى  وصفها "بالإغاثية " وهي بالفعل كذلك لأنها كانت عبارة عن حفاظات " بامبرز" وملابس داخلية لجنودها التعساء، ونحمد الله أنها لم تكن شيئا آخر.الخوف من الموت المنتشر في كل مكان في الأراضي الفلسطينية يسيطر على نفوس الجنود الصهاينة ويؤرقهم في منامهم ويزعجهم في يقظتهم حتى صارت ابتساماتهم صفراء، إنهم يقضون حاجتهم على أنفسهم بشكل لا إرادي من الرعب ويبدوا أن السلطات أدركت أن  نجاستهم تعيق حركتهم عند القتال،  ويبدوأيضا أن تركيا قد تفطنت إلى أن معدلات استهلاك الجنود المرتفعة من الملابس الداخلية يفوق انتاجهم منها فأرادت أن تتستر عليهم وتبادر بما يحفظ ماء الوجه بإرسال كميات كبيرة منها لمواجهة ما تحمله التوقعات من أيام سوداء تنتظرهم.

أرادت تركيا كعادتها أن" تأكل مع الذئب وتبكي مع الراعي " فطبيعي أن تسارع بتكذيب الخبر، ولكن الكاميرات الصهيونية فضحتها بعدما أبرزت عبارة  made in turquie وبتاريخ عام الإرسال في  2023

نعلم أن قضاء الحاجة البيولوجية عند الإنسان أساسية وليست نقيصة فيه، ولكن أن تصيب الفرد في أدق لحظات التضحية والفداء فهذا ما يستدعي وقفة تأمل، لأن الجندي لا يرسل للقتال فور تجنيده إنما يحتاج إلى فترة تدريب عسكري عنيف تمتد لشهور من أجل ضمان تأقلمه مع مختلف ظروف الشدة وحتى لا يصاب بالإسهال والقيء بمجرد أن ير الدم ومناظر لقتلى، أو يسمع دوي الانفجارات وصراخ المصابين، كل هذا شيء بديهي ويعلمه العدو الصهيوني ، ولكن ما لا يعلمه أن الله سبحانه وتعالى لعنهم و كتب عليهم الذلة والمسكنة وهي أسباب أكثر من كافية لتلقي الرعب في قلوبهم وتصيبهم بالإسهال في الخطوب فيضطرون إلى استيراد كميات إضافية من البامبرز التركية.

ندعو الله تعالى أن لا نرى اليوم الذي يتمكن فيه الكيان الصهيوني من رد الجميل لتركيا، وأن لا تنتظر تركيا يوما الدعم من الصهاينة، فإن الدعوة إلى المقاطعة ترفض التعامل تصديرا واستيرادا أي من الأساس.

نعلم أن تركيا لم تكن يوما ضد التطبيع مع الصهاينة، ومن المعروف أنها كانت ثاني دولة إسلامية تعترف بالكيان الصهيوني عام  1949وأن تركيا عضو في الحلف الأطلسي، والحلف مرتبط بطريقة أو بأخرى أمنيا وعسكريا بالكيان الصهيوني، وشئنا أم أبينا ترتبط تركيا بصورة مباشرة وغير مباشرة أمنيا وعسكريا والارتباط الأمني والعسكري أقوى بكثير من الارتباط الاقتصادي والسياحي، وليس من السهل فضه، وإذا كان لتركيا أن تفض التزامها الأمني تجاه الصهاينة فإن عليها الخروج من الحلف الأطلسي، وما دامت تركيا تحافظ على عضويتها في الأطلسي فهي تحافظ على التزامها الأمني تجاه الصهاينة، وعلينا نحن ألا نفاجأ بتطبيع العلاقات بينهما بعد ذلك.

أن العلاقات بين تركيا والسلطة الوطنية الفلسطينية تعتبر قوية نسبياً وبناءة ، خاصة بعد الإجراءات الفعّالة التي اتَّخذها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ضد إسرائيل إبان عدوانها على غزة عامي 2008-2009. وتاريخياً كانت فلسطين تحت حكم الدولة العثمانية لأربعمائة عام قبل الانتداب البريطاني على فلسطين ،ومع مجيء حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم في تركيا مطلع القرن الحادي والعشرين، ازداد زخم الدعم التركي للفلسطينيين وقضيتهم ومقدساتهم بين عامي 2005 و 2018 حيث قامت رئاسة وكالة التعاون والتنسيق التركية بدعم انشاء 543 مشروعاً في الأراضي الفلسطينية وتُعد تركيا مصدراً رئيسياً للإغاثة الإنسانية إلى فلسطين، وخاصة منذ بداية الحصار المفروض على قطاع غزة.

في بداية عملية " طوفان الأقصى" أشار تقرير صادر عن " المونيتور" في 2 أكتوبر 2023 كتبه الصحفي التركي فهيم طاشتكين  أن تركيا تحاول موازنة موقفها بعناية في مواجهة الحرب على قطاع غزة  إذ حافظت على مناصرتها للقضية الفلسطينية مع تهدئة العلاقات مع الحركة والسعي لتجنب تداعيات جديدة مع إسرائيل ، وحذر وزير الداخلية التركي، علي يرلي قايا، الكيان الصهيوني من محاولة تنفيذ اغتيالات لقادة “حماس” على الأراضي التركية، وقال أن بلاده لن تسمح بذلك لأي كان.وقال وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان في مقابلة مع قناة “الجزيرة” القطرية "  أن بلاده قد تقطع العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب في حال كان ذلك قرارا جماعيا من قبل عدة دول لتحقيق الأثر المطلوب.، وقال فيدان أنه منذ بداية الصراع اتخذنا موقفا مبدئيا يتمثل في ضرورة اتخاذ القرارات في وقت واحد من قبل العديد من الدول الإسلامية ودول العالم وحتى من أمريكا اللاتينية، حتى تكون أكثر قوة "

إذن الموقف التركي من القضية الفلسطينية لا يمانع في السعي لاتخاذ قرارا يدعم الأمن والسلم في فلسطين   ويحقق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط  ولكنه يحتاج إلى تعزيز دولي واسع .

***

صبحة بغورة

الدبلوماسي الفرنسي الشهير شارل موريس تاليران، كان مثل قبعة نظام راسخ أمام رياح مواطنه نابليون التي ضربت أوروبا و العالم غزواً و أفكاراً. أصرَّ دائماً أن يُذكِّر الإمبراطور بأن العالم ليس دراجةٍ بخارية، و إن "حرية، إخاء، مساواة" كما اثبت التاريخ بعد ذلك، برميلٌ من النفط.. تسعون في المائة منه سياسة و عشرة في المائة اقتصاد.

إحدى أهم الدروس التي قدَّمها هذا الدبلوماسي القبعة للإمبراطور الشهير، إنهُ ملأ غابة تقع في أملاكه بالأرانب كي يستطيع نابليون صيد ما يشاء منها بدون مشقة. كان درساً ساخراً عن الفرق بين الدبلوماسية، و شقيقتها التي تتواجد في أزمات العالم.. دبلوماسية الشخصية الكاريزمية و الأعوان الذين يرون العالم بعيونه.

بعد هزيمته في معركة واترلو عام 1815، وما جرى بعدها من تداعيات سياسية، حاول نابليون التأكُّد إن كان يستطيع قياس وزنه بقبعة. رمى قبعته على الأرض أمام مترنخ. عندما لم يلتقط هذا النمساوي الداهية قبعته. علِم الإمبراطور إن زمنهُ ولَّى.

انطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، قرر يوم الـ 7 من ديسمبر 2023، أن يلبس إحدى قبعات الفصل الخامس عشر من ميثاق الأمم المتحدة. اختار المادة التاسعة و التسعين كي يُعلِن إنّ ما يجري في فلسطين "غزة"، بات يُهدِّدُ "السِّلم و الأمن الدوليين".

السؤال البارد هنا؛ هل كان ما أعلنه غوتيريش دعاية لقبعة تاليران أم نابليون؟

ميديا العالم صوَّرت لنا لجوء غوتيريش إلى المادة الـ 99 بـ "الحدث النادر". أو ربّما نصيحة جنتلمان يقِفُ على قمة جبل لينصح المتحاربين في وادٍ أسفله. الحقيقة إنَّ هذه المادة و موقف الأمين العام، كانا قذيفة تقليدية صُنِعت من مواد كثيرة في ميثاق الأمم المتحدة، مثل المواد الواردة في الفصل الرابع من الميثاق من (10-14)، رغم التقييدات الواردة في المادة الثانية عشر منه.

فطيرةُ حفظ الأمن و السلم الدوليين، عموماً، لم يستطع مجلس الأمن إنضاجها إلَّا مرَّات قلائل. أغلبُ تلك القلائل كان خاصاً بأوروبا، لكن و كما علَّمنا التأريخُ الأممي بأننا كلما ابتعدنا عنها كانت قراراتُ المجلس فَطِير لا فطيرة. و هكذا تحوَّلت المادة الـ 24 الموجودة في الفصل الخامس إلى فرنٍ مهجور، رغم أنها تعطي مطبخ مجلس الأمن الصلاحية الحصرية لمواجهة الأخطار التي تُهدِّد أمن العالم.

الفقرة الثالثة من المادة السابعة و العشرين الأممية، تعطي أيضاً، القُدرة للأمين العام على نقل قضية فلسطين مرّة أُخرى و ليست بالأولى إلى الجمعية العامة. الفشل المتكرر لمجلس الأمن هو ما يعطي الجمعية العامة و بالأغلبية التصويتية البسيطة لأعضائها، فُرصة سحب قضايا مثل فلسطين و كوبا كقضايا "إجرائية"، بعيداً عن فيتو الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن.

الجمعية العامة استطاعت أن تُميَّع الحدود الفاصلة مع مجلس الأمن، و بحسب عالم السياسة الواقعي مورغنثاو بقرار "الاتحاد من أجل السلام" الذي أعطاها فُرصة تأسيس "لجنة الإجراءات الجماعية" للحفاظ على السلم و الأمن الدوليين.

تصريح السيد غوتيريش عن الوضع في فلسطين، تزامن أيضاً مع تصريحٍ لمجموعة "إيلدرز" التي أسسها نيلسون مانديلا، و التي تضمُّ أعضاءً حاصلين على جائزة نوبل و أمناء عامين سابقين للأمم المتحدة مثل بان كي مون و كوفي عنان. الأبرز إنه جاء بعد أن أظهرت الدول الأعضاء فيما يخصُّ غزة، للتعاطي مع فلسطين كمسألة لا تؤثِّر على ارتباطاتها مع الدول الخمس العظمى. أو إذا أردنا استخدام علكة التحليلات السياسية الأشهر "المصالح الجيواستراتيجية" فإنّ الحل الأفضل المؤرّخ في المنظمة الأممية تحت يافطة "حل الدولتين"، لن يصيب مصالح أيٍّ من القوى العظمى بالضرر، لكنه سيفتح الباب أمام موسكو و بكين في الشرق الأوسط.

غوتيريش استفاد أيضاً من ثروة الرأي العام الدولي الذي تُجسِّدهُ المنظمة الأممية. ذكّر الجميع بأن الأرنب الوحيد الذي يستأهل الصيد في فلسطين، هو الحفاظ على الأمن و السلم الدوليين. الأرانب الأُخرى التي أطلقتها واشنطن، بروكسل، و منها حق "الدفاع عن النفس" بالنسبة لإسرائيل، لا يعدو كونه "كليشيه" إعلامي، يحاول تمييع الشُرع الأممية و المواثيق الدولية فيما يخصُّ الاحتلال و حركات التحرر.

الموقف الأمريكي و زائدته الأوروبية في فلسطين خطير جداً. هو يكشِفُ، عن قرارٍ ثقافي و اجتماعي لأروقة القرار الأمريكية، بنقل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من ملفات السياسة الخارجية إلى الداخلية، بعد تسرُّب زيت الدين و النقاء العنصري له، بعد أن كان طيلة عقود محفوظاً في جرَّة مجلس الأمن القومي الأمريكي.

واشنطن عليها أن تفهم، بأن رؤية العالم لفلسطين اليوم، تسير بعكس الدُعابة التي تداولها المسؤولون في وزارة الخارجية أيّام الرئيس دوايت إيزنهاور عن قوة اللوبي الصهيوني بحسب جانيس ج. تيري " أن رئيس دائرة فلسطين يجب أن يكون طويلاً جداً لأن الرجل القصير ستغمره البرقيات الصهيونية في أوقات الضغط".

الرئيس بايدن مطالب اليوم بأن يسمع منَّا هذهِ الدُعابة الإنسانية، مفادُها " ولد صغير لم يُكمِل العاشرة من عُمرِه، يعيش في الشرق الأوسط، حرَّم على أهله استهلاك كُل المنتجات التي قد تستفيد إسرائيل من بعض فواتيرها، علماً إن لوحه العقلي لم يكُن منقوشاً بإزميل ثقافة دينية أو قومية؟

المسألة الأهم، إن حدث 7 أكتوبر الفلسطيني، و فيما يخص تداعياته داخل الأمم المتحدة، ربّما قد يدفعُ الجمعية العامّة فيها و بشكلٍ جدي، إلى أن تُطالب بتمثيل صوت أغلبية أعضائها، كصوتٍ أصيل (اقترح أن تكون له قيمة صوتين) من ضمن أصوات الدول دائمة العضوية، لمحاولة معالجة ما وصفهُ مورغنثاو بـ "الشذوذ الدستوري" للميثاق الأممي الذي دفع وما زال كل من الجمعية العامة و مجلس الأمن إلى مُعالجة القضايا بطريقتين متناقضتين. ذلك سيكون أفضل من خيار جَزَرَة انضمام دول جديدة إلى مجلس الأمن الذي عرضه الرئيس بايدن على الدول الأفريقية في وقتٍ سابق.

العالم يحتاج للدبلوماسية اليوم أكثر من السابق. ولا اعتقد إنّ تأثير واشنطن و بروكسل يستطيع أن يؤمِّن قُدرة استقطاب أصوات الأعضاء في الأمم المتحدة، كما استطاعتا تأمينها سابقاً زمن الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. ارتفاع ميزانية استقطاب أصوات الدول الصغيرة و المتوسطة من قبل الكبار، بالمشاريع الاقتصادية و الترتيبات الأمنية، لم يعُد فعَّالاً إعلامياً.  حتى مارشال أوروبا و هو النُسخة الأصلية، لم يتحقق خارجها إلَّا مرَّات قلائل بحسب نسيم طالب في كتابه "البجعة السوداء".

العالم يتجه نحو ترتيبات عائمة، تستطيع تلبية المزيد للدول التي تندرج في الفئات الصغيرة و المتوسطة، بدون إي ضريبة إيديولوجية على المدى القصير و المتوسط. لذا نتمنى على الرئيس بايدن أن يفهم بأن قبعة دعمه التي ألقاها في تل أبيب، ليست من ماركة نابوليون بل جوزفين!

***

مسار عبد المحسن راضي

كاتب، صحافي، و باحث عراقي

محاولة للإجابة على سؤال  / ما الذي يجمع داعش والنازيين الجدد في أوكرانيا مع الصهاينة في جيش نجمة داوود؟

عندما نضجت فكرة الحرب الهجينة وتجنيد المرتزقة كي يقاتلوا لتنفيذ  مشاريع القوى الغربية، هذه المشاريع الجيوسياسية، نضجت في ذهن مفكري الأوساط الغربية - فكرة تجنيد أبناء شعوب البلدان المراد تخريبها وتجزئتها بغرض تسهيل عملية السيطرة على مقدراتها، وجعل أبناء تلك الشعوب مرتبطين لزمن طويل مع مصالح الغرب.. والفكرة ليست جديدة هذا هو نابليون في بداية القرن التاسع عشر جعل نصف جيوشه من ابناء الشعوب الأوروبية، التي خضعت لجيشه، عندما غزت جيوش نابليون أراضي روسيا عام 1812 كان نصف جنوده من أبناء الشعوب الأوروبية، والنصف الثاني من الفرنسيين. غير أن المفكرين الغربيين الجدد أرادوا إبعاد المسؤولية عن حكوماتهم  وعن قادتهم السياسيين لذا رأيناهم قد  نحوا منحى آخر، إذ أنهم أعطوا الحرية في السلوك وفي الأمور العملانية والعقيدة لقيادات هذه التظيمات. ومن جهة أخرى وبغرض الإساءة إلى الإسلام – إلى الدين الحنيف كانت إقتراحات المشرفين، والمدربين، والممولين أن تصبح تلك التنظيمات مرتبطة بالأفكار الإسلاموية وبالتطرف. لذا برزت إلى الوجود تنظيمات مثل (القاعدة) ثم (داعش) ثم (النصرة) و(القعقاع) و(جيش الإسلام)  وغيرها وغيرها. عندما كانت التنظيمات الإرهابية تشغل جزءا من الأراضي السورية في محافظة القنيطرة ودرعا كانت العلاقة بين جيش الإحتلال وعناصر التنظيمات الإرهابية على أحسن حال، حتى أن جيش داوود كان يقدم الدعم للتنظيمات الإرهابية  حين تقع في حشرة أوضيق، حينها كانت المدفعية الاسرائيلية تقوم بقصف مواقع الجيش العربي السوري. السؤال المطروح هو التالي – لماذا هذه التظيمات الإرهابية التي كانت مستعدة لقتل أي إنسان مسلما كان أو مسيحيا إذا هو رفض قبول تعاليمها الدينية المتطرفة، بينما تم إغماض العين وتجاهل دولة إسرائيل التي حاربت الإسلام والمسلمين منذ أكثر من 75 عاما. بشهادة جنود الأمم المتحدة والمراقبين الدوليين منذ عام 2013 كانت تجري مقابلات بين قادة من التظيمات الإرهابية وضباط في الجيش الصهيوني، بغرض دخول عناصر داعش وغيرها إلى الأراضي السورية المحتلة، والواقعة تحت سيطرة الجيش الصهيوني بغرض الراحة والعلاج، وكذلك بغرض تبادل المعلومات والتنسيق بين الطرفين - قادة داعش وضباط من الجيش الإسرائيلي.

 لا شك أن مسألة إثبات وجود تعاون مشترك ونشاط مشترك لعناصر داعش والعناصر الإرهابية من النصرة  وداعش وغيرها  مع ضباط الجيش الصهيوني لا تحتاج إلى عناء وتعب كبيرين. من هنا يمكننا القول أن النخبة في جيش الإحتلال الصهيوني توصلت منذ عام 2011 أي منذ بدء (الربيع العربي) إلى قناعة مبنية على مفهوم وهو التالي : (عدو عدوي – صديق لي). إسرائيل أرادت من خلال تنسيقها مع التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق محاربة عدوها الأساسي وهي جمهورية إيران الإسلامية إلى جانب محاربتها ضد الحكم الوطني في سورية ومحاربة التنظيمات الفلسطينية، وحزب الله، ومحاربة القوى الوطنية في العراق، إلى جانب العمل على محو قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه.

أما الأساليب التي اتبعتها داعش، والنازيون الجدد في أوكرانيا، وجيش الإحتلال الصهيوني تجاه السكان من المدنيين: نساء وأطفال وشيوخ فهي تكاد تكون واحدة. عناصر داعش وعناصر النازيين الجدد في أوكرانيا هذه العناصر كانت تختبئ وراء المدنيين ولا تسمح للمدنيين بالخروج من الكاريدورات الآمنة. أثناء المعارك. من جهة أخرى عناصر داعش والنازيون الجدد قصفوا الأسواق وسيارات الإسعاف والمشافي والصيدليات وحتى مخازن المواد التموينية والحبوب وصولا إلى مصانع الأدوية. عندما قامت التنظيمات الإرهابية في قصف مصانع الأدوية في غوطة دمشق رافقت ذلك صيحات التكبير. إرهابيو مناطق الشمال دمروا المشفى الجامعي في حلب لعلاج الأمراض السرطانية، ولم يوفروا حتى السجن، حيث يقبع المساجين، أما المدارس فقد تم فعل السيطرة على آلاف المدارس ،وتم تحويلها إلى مقرات لقوى الإرهاب، وأوكار للعناصر الإرهابية، أما المكتبات فقد تم حرقها. النازيون الجدد في أوكرانيا هاجموا الأسواق، ودمروا البيوت، والجامعات، والساحات العامة، والمدارس، وحتى رياض الأطفال والسدود على الأنهار، ولم يوفرروا جهدا لتدمير محطة زاباروجيا النووية، وقد بقيت سليمة فقط بفضل الحراسة من قبل القوات الروسية. أما  سلوك جيش صهيون فحدث ولا حرج هؤلاء غلبوا داعش والنصرة في سلوكهم البربري وهمجيتهم  وترافق ذلك مع البرابغندا والنفاق الأسود. في الثامن من أكتوبر قامت أبواق الدعاية والبربغندا الأمريكية بالتشارك مع الصهاينة بنشر أفلام (فيك) أفلام الكذب والنفاق عن أن رجال المقاومة قطعوا رؤوس الأطفال وغيره وغيره.... من الإدعاء المنافق. وعند خروج المدنيين من المجتمع الصهيوني، عند خروجهم من الحجز قالوا أن طائرات الأباتشي هي التي قصفت مكان الشباب المحتفلين في غلاف غزة، وهي التي قصفت البيوت - بيوت اليهود كي تدَمّر على من فيها. عندما تذهب قيادة الجيش الصهيوني إلى سياسة الأرض المحروقة، وتقوم بتدمير المدن في القطاع حيا بعد حي، ومربعا بعد مربع، وبناية بعد بناية، وشارعا وراء شارع، وعندما تصل أطنان القنابل المرمية على رؤوس الفلسطينيين العزل أكبر من تلك القنابل التي نزلت على رؤوس البشر في  (هيروشيما) و(نا غازاكي) يفهم من ذلك أن الصهاينة يتقنون القتل وليس القتال، ويفهم أيضا أن هذه هي سياسة الإبادة الجماعية، والغرض من ذلك تهجير سكان القطاع ، أو إبادتهم جميعا، وهنا تتبادر إلى الذهن نظرية النازيين الألمان في العقاب الجماعي، هذا العقا ب، الذي أشتكت منه الأدبيات اليهودية خلال أكثر من ثمانين عاما. ألا يحق للمراقب اليوم القول أن ما يجري في قطاع غزة اليوم وفي الضفة الغربية على يد قادة الصهاينة إنما هو هولوكوست جديد، ولكن هذه المرة ضد الفلسطينيين. إنه النفاق الذي حذرت منه تعاليم الديانات السماوية كلها − وهو أن تشتكي من أمر وتقوم بفعل يماثله. لا غرابة في الأمر فإن المعلم لدى الأطراف الثلاثة داعش والنازيين الجدد والصهاينة هي الأواساط الغربية الحاكمة وخاصة الأمريكان، إذ لا تزال تعيش في ذهن الأمريكان والبريطانيين ذكرى هيروشيما وناغازاكي وذكرى مدينة دريزدن. البريطانيون والأمريكان لديهم قناعة أن القمع يولد الطاعة، أي قمع الشعوب يجعلها ترضخ. ولكن رأينا نحن أن ذلك لا يجدي بل سيولد الكفاح ، إن الكفاح سوف يستمر مهما تطاولت أيادي الغدر ، ومهما طال زمن المنافقين.

***

بقلم إسماعيل مكارم

شوكة في أعين الغزاة والمحتلين!

كان اسمها عند الكنعانيين هزاتي وعند المصريين القدماء غزاتو وعند الآشوريين الرافدينيين عزات، أما في اللغة العبرية فيطلق عليها "عزة" بالعين أو بالهمزة بدلاً من العين، وعند العرب غزة، وعرفت في العصر الإسلامي بـ "غزة هاشم"، نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، الجد الثاني للنبي العربي الكريم محمد بن عبد الله. وتوفي هاشم في غزة شاباً في الثلاثينيات من عمره ودُفن فيها في القرن الخامس الميلادي. وفيها ولد فيها الإمام الشافعي مؤسس المذهب الإسلامي الشهير باعتداله، الذي قال عنها:

وإني لمشتاقٌ إلى أرضِ غزةَ ...... وإنْ خانني بعدَ التفرقِ كتماني

و"جاء في المعجم اليوناني أنها سميت عبر العصور بأسماء مختلفة، منها "إيوني" و"مينووا" و "قسطنديا"، كما أطلق عليها الغزاة الفرنجة "الصليبيون" غادريس. ويقول يوسابيوس القيصري الذي يلقب بـ "أبي التاريخ الكنسي"، إن "غزة" تعني العِزة والمَنَعة والقوة. وانضم إليه في ذلك، بحسب المؤرخ المقدسي عارف العارف، السيرُ وليام سميث في قاموس العهد القديم الذي صدر عام 1863. كتب العارف في كتابه (تاريخ غزة) "غزّة ليست وليدة عصرٍ من العصور، وإنما هي بنت الأجيال المنصرمة كلها.. لم يبق فاتح ولا غازٍ، إلا ونازلتْه، فإمّا يكون قد صرعها، أو تكون هي قد صرعتْه".

كانت غزة في القرن الثاني عشر ق.م، واحدة من المدن الخمس التي بناها شعب الفلسطة المهاجر من جزر المتوسط إلى الساحل الجنوبي لبلاد كنعان كما يعتقد باحثون بناء على توثيقات إركيولوجية عثر عليها في مصر القديمة وتحديدا نقوش الملك رعمسيس الثالث (ابن إله الشمس) في معبده الجنائزي في طيبة ذكر فيها ثلاث حملات عسكرية انتصر فيها على شعوب البحر وهي حملات حقيقية في السنوات 5 و8 و12 من حكمه. وهناك باحثون يعتقدون أن غزة بناها الكنعانيون أصلاً، وهاجر إليها وسكنها المهاجرون الفلسطة الذين هزمهم رعمسيس الثالث واندمجوا بسكانها الأصليين وذابوا فيهم خلال خمسة قرون، إلى جانب مدن أخرى هي: عسقلان، أسدود، جت وعقرون، في الساحل الجنوبي ما بين يافا ووادي العريش، وقد أعطى الفلسطة اسمهم لاحقا للبلاد كلها فأصبحت تسمى فلسطين.

وبهذا، فغزة تؤكد حقيقتين: الأولى أنها كانت همزة وصل عريقة جدا بين فلسطين الكنعانية (أرض كنعان) والجزيرة العربية، وخصوصاً الحجاز واليمن، على مرّ العصور قبل الإسلام وليس بعده كما يقول الصهاينة، ومن والاهم من كتبة مأجورين يريدون قطع الصلة بين الفلسطينيين وبلادهم الأصلية فلسطين، ويكررون القول أو الإيحاء بأنهم مهاجرون كلهم جاؤوا من بلاد عربية أخرى. والحقيقة الثانية هي أن هجرة الأقوام الجزيرية «السامية» بين أقاليم المشرق العربي حقيقة واقعة، لكنها ليست كل الحقيقة. فهناك شعوب أصلية وأخرى مهاجرة تندمج بالسكان الأصليين كما اندمج شعب الفلسطة البحري بالكنعانيين. والفلسطينيون العرب اليوم شعب أصيل وعريق وهو وريث الشعوب القديمة وفي مقدمتها شعب الفلسطة والكنعانيون ومن هؤلاء، اليبوسيون وهم القبيلة الكنعانية التي بنت مدينة أورسالم/ القدس والأدلة الآثارية الملموسة على هذه الحقيقة كثيرة، أما الأدلة الوراثية الجينية الحديثة فقد أكد قرابة الشعب الفلسطيني المعاصر إلى الشعوب الجزيرية "السامية القديمة كالكنعانيين وبُعْد الأشكناز الخزر المتهودين الذين يحتلون فلسطين اليوم بُعْدا كبيرا عن الشعوب السامية ولكنهم يتسلحون بالدفاع عن السامية ويحتكرونها كذباً وزيفاً ويبتزون العالم كله بمعاداة السامية هم يقتلون الساميين الحقيقيين "الجزيريين" أي الفلسطينيين .

وحتى قبل الإسلام بقرون عدة، كانت غزة مركزاً تجارياً كبيراً للتجار العرب الجزيريين من الحجاز واليمن كما قلنا، ويبدو أنَّ العرب كانوا على اتصال وثيق بالشطر الجنوبي من الساحل الفلسطيني منذ ظهورهم في التاريخ. ففي المدونات التاريخية، نقرأ أنَّ تاجراً مكياً يسمّى عقبة بن أبي معيط كان له ــ قبل الإسلام ـــ متجر كبير في مدينة صفورية القريبة من الناصرة. أما أبو سفيان، فقد كان يملك عقارات ومتاجر في فلسطين. كيف كانت غزة ومشاركاتها في تاريخ دول المدن في ما نسيها اليوم بلاد الشام في خضم الصراع الدولي بين الإمبراطوريتين الرافدانية "العراقية القديمة" في وادي الرافدين والمصرية القديمة في وادي النيل؟ هذا ما سنتوقف عنده في الجزء القادم من هذه المقالة.. شكرا لكم على المتابعة والنصر للمقاومة الفلسطينية الغزاوية!

* في 720 ق.م، اندلعت ثورات ضد الهيمنة الآشورية في حماة وغزة ودمشق والسامرة، بتحريض ودعم مصرييْن على الأرجح، واستطاع سرجون الثاني الآشوري أن يقضي على هذه الثورات، في ولايات الشمال الكنعاني، في موقعة «قرقرا». ثم زحف سرجون الثاني جنوباً حتى وصل إلى ربيحو «رفح»، فأوقع هزيمة نكراء بـ «سيبو» قائد جيوش مصر الفرعونية، الذي أرسله ملك مصر لنجدة حنون «هانُّو» ملك غزة، فانسحبت القوات المصرية وتركت غزة تواجه مصيرها وحيدة.

* لقد حاولت مصر الاستمرار في دعمها للممالك الفلسطينية ضد غريمها الرافديني الآشوري، فتشجّع حنون ملك غزة - وكان لاجئاً سياسياً في مصر - على الثورة ضد الدولة الآشورية، وأمر الفرعون قواته في ربيحو «رفح» بقيادة سيبو بدعم الثائرين الفلسطة. وحين بدأ الصدام العسكري، هرب القائد الفرعوني سيبو ودمّر سرجون الثاني مدينة رفح وأسر ملكها حنون.

* نافست مدينة ومملكة غزة مملكة صور الفينيقية شمالاً في عنادها وصمودها الأسطوري. ولم تتعظ من نهاية جارتها الشمالية المأساوية، التي دمّرها الإسكندر المقدوني وأسر سكانها بالجملة، فلم يتعامل مع المدينة الجريحة صور بشهامة كما فعل الملك الرافديني نبوخذ نصر سنة 585 ق.م، الذي احترم أهلها ولم يؤذهم، بل فتكت الجيوش المقدونية بأهلها بقسوة بعدما قاتلوا قتال الأحرار المستميتين، وباع الإسكندر أكثر من ثلاثين ألفاً من سكانها، نساء وأطفالاً، في أسواق الرقيق سنة 332 ق.م.

* صمدت "غزاتو" كما صار اسمها، تقاتل قتالاً بطولياً ضد جيش الإسكندر بن فيليب الجرار، وشارك في القتال جميع سكان في تجربة حرب شعبية هي الأولى من نوعها في التاريخ البشري المعروف. وكان يقود قواتها الشعبية عسكري إغريقي مهاجر يدعى باطيس لجأ إليها هاربا من ظروف الاستعباد اليونانية وأحبها وأهلها وأحبوه فجعلوه قائدا لجيشها واندمج بهم، واستمر القتال على أسوار غزة تصل إلى أربعة أشهر حسب الروايات، وهي أطول مدة تصمد فيها مدينة أمام جيش الاسكندر الذي كان اسمه يثير الفزع ويدفع أعداءه إلى الاستسلام دون قتال، ثم، وبعد هذا الصمود الأسطوري البطولي، دخلتها جيوش الإسكندر بعد تدميرها تماما، وقبض الغزاة على القائد الغزاوي باطيس، وأمر الإسكندر بإعدامه بطريقة وحشية وجبانة. "فوفقاً للمؤرخ الروماني روفوس، قُتل باطيس على يد الإسكندر تقليداً لمعاملة أخيل لهيكتور حيث تم إمرار حبل من خلال كاحلي باطيس، ربما بين عظم الكاحل ووتر العرقوب، وجروا باطيس حياً بعربة حربية تحت ما تبقى من أسوار مدينة غزة حتى مات". وقد نهب الغزاة الإغريق بضائع التجار العرب في أسواق المدينة، ولا سيما العطور والبخور، ووزّعها الإسكندر بنفسه على أعوانه ورجال دولته. وهذا دليل لا ينكر على وجود العرب في غزة منذ القرن الرابع قبل الميلاد وعلى العلاقات الوثيقة بين المدينة والحجاز واليمن كما قلنا!

***

علاء اللامي

.............................

 * ملاحظة توثيقية: بعض الفقرات الخاصة بغزة القديمة مقتبسة من كتابي «موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربي الإسلامي» (دار الراعي - سنة 2019). أما المعلومة والاقتباس عن كتاب عارف العارف فقد وردتا في مقالتين الأولى بقلم أميمة الشاذلي ونشرت على موقع بي بي سي بتاريخ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والثانية باسم طالب الدغيم على موقع الجزيرة، بتاريخ 2 تشرين الثاني 2023، من دون توثيق دقيق من كليهما. وإذا أخذنا بتاريخ النشر فمقالة أميمة الشاذلي هي الأقدم بيومين من مقالة الدغيم وهي موسعة أكثر.

 

النفط مصدر الطاقة الأهم والذي يتحكم باقتصاديات معظم دول العالم سواء كانت منتجة أم مستهلكة والذي جعل كثيراً من الدول التي حباها الله بهذه النعمة في بحبوحة من العيش وجعل شعوبها تعيش برفاهية عالية، والتساؤل المنطقي هو هل ستستمر هذه النعمة أبد الدهر أم سيأتي يوم وينضب النفط؟

جواب هذا السؤال تعاملت معه الدول المتقدمة بحكمة وذكاء ومكر بنفس الوقت وكرّست الدراسات العلمية والأبحاث المتخصصة لتصل الى حقيقة دامغة وهي ان العمر الافتراضي للنفط في العالم هو ستون عاماً في حالة استمراره كمصدر رئيسي للطاقة في العالم، أما في حالة ايجاد بدائل أخرى للطاقة فان هذه الفترة الزمنية ستطول أكثر ولكن كم ستطول عشرون أم ثلاثون أم أربعون عاماً على أبعد تقدير، وتعاملت هذه الدول المتقدمة بذكاء مع هذه الحقيقة العلمية بأن كرّست جميع الجهود العلمية وبدأت بالانفاق العالي على الأبحاث والدراسات العلمية لايجاد بدائل جديدة وأمينة للنفط وهي كثيرة مثل (الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وطاقة البحر والطاقة النووية وطاقة النفايات الحيوية) وغيرها وتم التركيز على قاعدة مهمة في البحث عن البدائل وهي أن تكون (أقل تكلفة وأكثر أمناً وأن تكون صديقة للبيئة) وذلك لأن النظام الرأسمالي الحديث الذي يعتمده الاقتصاد العالمي قد تم بنائه على أساس توفير واستخدام الطاقة الرخيصة سواء كانت نفطية أم أخرى بديلة، ناهيك عن التغيرات الكبيرة في المناخ والتي تشهده الكرة الأرضية حيث أن ناقوس الخطر بدأ يدق منذ سنوات وبدأت المنظمات العلمية المختصة تحذر من كوارث بيئية نتيجة التغيرات الكبيرة في المناخ وتحذر من الاستخدام الخاطيء للنفط الأحفوري والتأثيرات الخطيرة والمدمرة على سكان العالم خاصة من الغازات المنبعثة، وتم عقد المؤتمرات الدولية وتم عقد الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص وانخرطت معظم دول العالم في هذه الاتفاقيات وتم اصدار قرارات ملزمة لجميع دول العالم تطلب اتخاذ اجراءات عديدة لتقليل الخطر المحدق بشعوب العالم وضرورة التوجه للطاقة البديلة لتقليل الخطر على حياة الانسان والحيوان والنبات وحماية البيئة، لذا فكل التصورات والتحليلات تؤشر بأن مستقبل النفط في خطر وان الاعتماد عليه كمصدر رئيسي للطاقة بدأ بالتنازل تدريجياً وهذه ارادة عالمية ومنطقية لحماية الأرض وشعوب الأرض من تاثيراته السلبية، لذا ومن المنطق أن تفكر الدول النفطية بالتخطيط السليم لاستثمار عائداتها الضخمة من النفط خلال السنوات القادمة بتطوير بلدانها وتطوير قطاعاتها الاقتصادية والخروج من عبائة الاعتماد الكلي على النفط في رفد اقتصاداتها، وهنا نرى مدى ذكاء وفطنة الدول المتقدمة في التخطيط السليم والبعيد المدى لمصلحة دولها وشعوبها وفي الجانب المقابل تؤكد لنا الحقائق في هذه القضية المهمة مدى غباء وقصر نظر حكام العرب في الدول المنتجة للنفط الذين لم يعيروا أي اهمية لهذه الحقيقة الواضحة للعيان (الا بعض الاستثنائات القليلة في بعض الدول) فأنهم يعيشون يومهم ولا يفكرون بمصائر دولهم وشعوبهم، فهم ينفقون أموال النفط دون التخطيط للمستقبل ودون بناء اقتصاد متين وصناعة حقيقية ودون التفكير بالتنمية المستدامة التي تستند على تخطيط علمي سليم يضع اللبنات الأساسية لاقتصاد قوي ينهض بالبلاد بدون الاعتماد على النفط بشكل رئيسي في تمويل موازنات بلدانهم، فنجد أن معظم البلدان العربية النفطية تستورد كل شي من الدول الاخرى وذلك لضعف القطاعات الاقتصادية والصناعية والزراعية والسياحية وغيرها ضاربين عرض الحائط كل المخاطر المستقبلية التي تهدد بلدانهم واقتصاداتها، فمتى سيستيقظ حكامنا من غفلتهم؟ ومتى يدركون حجم الخطر الكبير الذي يحدق ببلدانهم وشعوبهم عندما ينضب النفط أو يصبح استخراجه غير مجدي من الناحية الاقتصادية ؟ ومتى سيحذون حذو الدول المتقدمة في فهم الحقيقة والتعامل معها بشكل علمي سليم؟

الحقائق كلها تؤكد بأن المستقبل القريب سيكون مظلماً على الدول العربية المنتجة للنفط وسيعود شعوبها الى الجوع والفقر والتخلف وسيدفعون ثمن غباء وجهل حكامهم الذين بددوا الثروات الهائلة ولم يحسنوا استغلال هذه النعمة الإلهية التي أنعم الله بها عليهم ولم يخططوا لمستقبل شعوبهم ولم يؤمنوا لهم القاعدة السليمة للعيش الهانيء، فلن يرحمهم التاريخ وسيدخلون فيه من أسوا أبوابه وسينالون اللعنة على مرّ العصور.

***

رائد الهاشمي

باحث وخبير اقتصادي

حربا الغرب غزة، وأوكرانيا

إعداد وترجمة د. جواد بشارة

***

"إننا منخرطون في حربين، في أوروبا والشرق الأوسط، ولهما عواقب متزايدة الخطورة على ظروفنا المعيشية وعلى أمننا أيضاً". هذا ما يردده المثقف الغربي المنصف والذي يعاني من تبعات الحروب ويدفع ثمنها من قدرته الشرائية وحياته اليومية وأمنه الشخصي.

على الجبهة الأوروبية، تم إنجاز ما تصفه صحيفة وول ستريت جورنال بأنه “واحد من أكبر أعمال التخريب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية” في سبتمبر 2022؛ فقد قامت الولايات المتحدة، بمساعدة النرويج وبولندا، بتفجير خط أنابيب نورد ستريم، وهو خط أنابيب الغاز الرئيسي الذي ينقل الغاز الروسي الرخيص إلى ألمانيا ومن هناك إلى دول أوروبية أخرى. وقد أعيد بناء ديناميكيات هذا العمل الحربي، على أساس أدلة دقيقة، من قبل الصحفي الأمريكي سيمور هيرش ومن خلال تحقيق ألماني مستقل.

ووصف وزير الخارجية الأميركي بلينكن حصار "نورد ستريم" بأنه "فرصة استراتيجية ضخمة لسنوات قادمة"، وشدد على أن "الولايات المتحدة أصبحت المورد الرئيسي للغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا"، وبالطبع بسعر أغلى بكثير من سعر الغاز الروسي، ما يعني إن المواطنين الأوروبيين، يدفعون اليوم أكثر بكثير. مما استوردوه من روسيا. وفي نفس الوقت، تقوم الولايات المتحدة بتفريغ التكلفة الهائلة لحرب الناتو في أوكرانيا ضد روسيا على عاتق أوروبا لأنها باتت مفلسة حالياً ولا تستطيع الاستمرار في دفع تكاليف هذه الحرب العبثية باعتراف قادتها. إن المفوضية الأوروبية تمهد الطريق أمام انضمام أوكرانيا المقبل إلى الاتحاد الأوروبي، ونتيجة لذلك سيتحمل المواطن الأوروبي ثمن العجز الضخم الذي تعاني منه أوكرانيا، إلى جانب العواقب الجيوسياسية والجيوسترتيجية المترتبة على لك لأنه روسيا لن تقبل بسهولة مثل هذه المناورة الغربية لمحاصرتها وتطويقها وخنقها وتهديد أمنها بالقرب من حدودها الحيوية.

وعلى جبهة الشرق الأوسط، يدعم الاتحاد الأوروبي الحرب التي تهاجم فيها إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، فلسطين المحتلة وتؤجج الصراع الإقليمي من خلال استهداف إيران على وجه الخصوص. وإيطاليا، التي ارتبطت بإسرائيل بموجب اتفاق عسكري منذ عام 2004، قدمت المقاتلات التي يتدرب عليها الطيارون الإسرائيليون، الذين يقصفون غزة ويذبحون المدنيين، ويدعمون القوات المسلحة الإسرائيلية بعدة طرق. وفي المقابل، وعد رئيس الوزراء نتنياهو رئيس الوزراء ميلوني بأن تصبح إيطاليا مركزًا للطاقة لتوجيه الغاز إلى أوروبا الذي سترسله إسرائيل عبر خط أنابيب الغاز EastMed.

ويقع جزء من حقل الغاز البحري في البحر الأبيض المتوسط، والذي تدعي إسرائيل ملكيته الحصرية، إلى حد كبير في المياه الإقليمية للأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية. ومن خلال خط أنابيب الغاز EastMed، ستصدر إسرائيل إلى إيطاليا والاتحاد الأوروبي الغاز الطبيعي الفلسطيني الذي استولت عليه بالقوة العسكرية. كما وقفت فرنسا إلى جانب إسرائيل باندفاع وبلا حدود في باديء الأمر مما دفع الرئيس الفرنسي ماكرون إلى اقتراح تأسيس تحالف عسكري دولي لمحاربة حماس على غرار ما تشكل من تحالف دولي لمحاربة داعش.

أما على الصعيد الإقليمي لاسيما الشرق أوسطي فهناك تصعيد مستمر من جانب إسرائيل سيعقبه بالتأكيد

تصعيد آخر من حزب الله في أعقاب تفاقم حرب غزة وارتفاع عدد الضحايا المدنيين من سكان غزة وحشرهم في زاوية ضيقة بالقرب من الحدود المصرية تمهيداً لتسفيره القسري وتوطينهم في صحراء سيناء وصرنا نشاهد الاستعدادات للمعركة على الجبهة الشمالية؟

منذ بدء الأعمال العدائية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أصبحت مبادرة حزب الله العسكرية ضد إسرائيل واضحة. وشنت الجماعة هجمات صاروخية على منشآت وأصول عسكرية إسرائيلية. ومن بين الأهداف أكثر من اثنتي عشرة دبابة ميركافا 4، ومنشآت رادار في الراهب وجل العلم، وثكنة زرعيت العسكرية، وقاعدة بحرية قرب رأس الناقورة، ونقاط استراتيجية على تلة التيهات، وموقع المالكية، وقاعدة بحرية قرب رأس الناقورة. موقع رويسة العلم في تلال كفرشوبا والمناطق العسكرية في منطقة شبعا المحتلة. وتسببت هذه الهجمات، التي تغطي مساحة جغرافية واسعة، من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، في سقوط ضحايا في صفوف الجيش الإسرائيلي. وردا على ذلك، ركزت إسرائيل هجماتها المضادة على معاقل حزب الله، مما أودى بحياة العديد من أعضاء المنظمة وعدد من المدنيين. ومع ذلك، فقد تطورت ديناميكيات الصراع مؤخرًا بطرق مثيرة للقلق. ولسوء الحظ، أدى الهجوم إلى مقتل مدنيين لبنانيين وصحفي، بالإضافة إلى إصابة عدة أشخاص آخرين.

إن هذا الخروج عن قواعد الاشتباك الموضوعة سابقاً، والتي استهدف فيها حزب الله في المقام الأول المواقع العسكرية وأبقى المدنيين بعيداً عن تبادل إطلاق النار، يثير أسئلة ملحة. هل تشير هذه الأحداث الأخيرة إلى تغيير في استراتيجية حزب الله العملياتية؟ والأهم من ذلك، هل يستعد التنظيم لتوسيع هجومه، ومن المحتمل أن يستهدف مواقع إسرائيلية تبعد أكثر من 3 إلى 5 كيلومترات عن الحدود اللبنانية؟ وهل أخذ بعين الاعتبار تهديدات إسرائيل بتدمير لبنان كلياً؟

على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، أظهرت إسرائيل ثقة لا تتزعزع في قدراتها العسكرية، ويبدو أنها تتجاهل الشعور بالرضا عن الذات الذي يؤثر على صفوفها. وفي المقابل، أجرى حزب الله تقييماً صارماً لذاته بعد حرب تموز/يوليو 2006 في لبنان، فحدد نقاط ضعفه، وتعلم من المعارك الماضية، وحسّن قدراته الصاروخية. قامت المنظمة بتحليل دقيق لنقاط القوة والضعف في الجيش الإسرائيلي وخلصت إلى أنها بحاجة إلى قوة مدمرة مماثلة لمواجهة القوة الجوية الإسرائيلية المهيمنة، وقد تكون على شكل أسلحة تدمير شامل بيولوجية وجرثومية وكيميائية.

لقد ركزت استراتيجية حزب الله على بناء ترسانة صاروخية مثيرة للإعجاب. وكان هدفها إطلاق الصواريخ بشكل متواصل وبدقة متزايدة ومضاهاة قوة النيران الإسرائيلية المتفجرة. لقد فهمت الجماعة أنها لا تحتاج إلى صواريخ بعيدة المدى لاستهداف إسرائيل؛ نصف قطر 450 كيلومترًا يكفي لتغطية البلاد بأكملها. ولا يتطلب الأمر سوى صواريخ يبلغ مداها 100 كيلومتر فقط لاستهداف مدن حيوية مثل تل أبيب. والأهم من ذلك، أن الهدف الاستراتيجي لحزب الله يشمل مواقع استراتيجية مثل حيفا، التي تبعد حوالي 30 كيلومتراً عن مواقع الإطلاق المحتملة. تعتبر هذه المدينة مركزًا صناعيًا واقتصاديًا إسرائيليًا، وهي موطن للعديد من البنى التحتية الأساسية. وتعد حيفا مركزًا حيويًا للاقتصاد والبنية التحتية في إسرائيل، فهي موطن لمصانع كيميائية وصناعية، ومرافق لمعالجة وتكرير المياه، ومحطات توليد الطاقة والموانئ المزدحمة. إن الهجوم الصاروخي الناجح على هذه المدينة يمكن أن يسبب دماراً فورياً ويكون له آثار طويلة المدى على الاستقرار والنمو الاقتصادي في إسرائيل. ويؤكد تركيز حزب الله على هذه الأهداف عزمه على شل العمود الفقري العسكري والاقتصادي للدولة العبرية. أعلن حسن نصرالله في خطابه الموزون : من المحتمل أن تهاجمنا إسرائيل هذا الصيف وقد تخسروني". يعتقد زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله إمكانية نشوب حرب مفاجئة مع إسرائيل في الصيف القادم في لبنان. ودعا السيد نصر الله، في كلمته إلى كبار قادته، إلى عدم إخفاء حقيقة الوضع أو احتمال الحرب عن رجالهم وعائلاتهم وأهالي القرى والبلدات التي ينشط فيها حزب الله. وقال :«قد لا أبقى معك لفترة أطول؛ من الممكن أن يتم قتل المستوى الأول من القيادة بأكمله. تستطيع إسرائيل أن تنجح في اغتيال العديد من القادة والكوادر المتقدمة في الحزب. وأضاف السيد نصرالله خلال اللقاء: “إن موتهم لن يؤدي إلى موت حزب الله، لأن حزبنا لا يعتمد على الأفراد فقط، بل على المجتمع كله، وهو عنصر أساسي في وجوده”. وأضاف أن "التدابير وقد تم تحديد الإجراءات والإجراءات للرد على الوضع الأخطر (اغتيال أحد أعضاء القيادة العليا بما فيهم السيد نصرالله نفسه)”.

ويفرض الفريق الذي يحمي زعيم حزب الله إجراءات أمنية مشددة على جميع الزوار، بغض النظر عن رتبهم أو وظيفتهم. لا يُسمح بالهواتف المحمولة أو أجهزة الرنين أو الأغراض الشخصية. يتم أخذها منهم قبل الوصول إلى مكان الاجتماع. ويتجمع القادة دائماً في أماكن مختلفة، ويُنقلون إليها في حافلات ذات ستائر سوداء، حتى لا يتعرفوا على المكان الذي يلتقيهم فيه السيد نصرالله. وفي نهاية اللقاء، يأخذه فريق الأمن الشخصي للسيد نصر الله قبل أن يغادر الآخرون.

«هناك مؤشرات قوية على أن هذه الحرب ستفاجئ الجميع، مثل حرب 2006. نتنياهو (رئيس الوزراء الإسرائيلي) يستعد، على عكس (رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت) الذي كان غير حاسم واتخذ قراراً سيئ الإعداد في يوليو (2006)».. وتستطيع إسرائيل أن تفاجئنا جميعاً كما فعلت في غزة عام 2008، بهدف القضاء على التهديد الذي يهدد حدودها إلى الأبد. هذا ما يحتاج حلفاء حزب الله أن يعرفوه، وعليهم الآن أن يستعدوا للسيناريو الأسوأ”.

يعتقد حزب الله أنه بعد تشكيل حكومته، ستتاح لنتنياهو فرصة فريدة لمهاجمة حزب الله لأن إسرائيل قد لا تتاح لها الفرصة مرة أخرى ليكون لها رئيس في واشنطن، مثل ترامب، يقدم لها (لنتنياهو) دعمًا غير محدود.

ومع ذلك حظيت إسرائيل بدعم غير محدود من جو بايدن الرئئيس الأمريكي من الحزب الديموقراطي بعد هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة . ولكن إذا قام حزب الله بالمخاطرة، فمن المحتمل أن تسمح إسرائيل لمقاتلي حزب الله بالتقدم قبل محاصرتهم. وهذا ما يسمى بالاستراتيجية الدفاعية المتنقلة، والتي تهدف إلى تدمير القوات المهاجمة.

وقال مصدر مطلع: «هذه هي المرة الأولى التي يطرح فيها السيد نصرالله مثل هذا الاحتمال المتشائم، مما يزيد احتمالات اندلاع الحرب من نسبة 50/50 إلى نسبة 70/30».

لا أحد في قيادة حزب الله يعرف على وجه التحديد ماذا ستكون الحرب المقبلة مع إسرائيل. التقييم الأول بسيط: من المتوقع أن تدمر إسرائيل ما بين 1000 إلى 2000 هدف في الأيام الأولى من الحرب. القيادة العسكرية الإسرائيلية تعتقد أنه من الممكن القضاء على التهديد الذي يمثله حزب الله، كما يقول السيد نصر الله. ولا شك أن إسرائيل ستبدأ الحرب فوراً إذا تمكنت من العثور على السيد نصر الله. وفي هذا السيناريو فإن الرأي العام الإسرائيلي قد يتقبل الحرب على الأرجح، على الرغم من الخوف من ردود فعل انتقامية رهيبة من جانب حزب الله.

ومن خلال تقديم المستقبل بهذا التشاؤم، يريد السيد نصر الله تنبيه قادته إلى ضرورة اتخاذ احتياطات كبيرة، والبقاء في حالة تأهب تحسباً لهجوم مفاجئ، وإبلاغ الناس الذين يعيشون معهم. ويرى أن الإسرائيليين والولايات المتحدة وبريطانيا والعديد من الدول العربية يمكن أن يشاركوا في الحرب المقبلة ضد حزب الله، وهو ما يعطي مؤشرا على حجم الدمار في الجولة المقبلة. ناهيك عن أن لبنان يمر بأزمة اقتصادية خطيرة وأن السكان سيجدون صعوبة في دعم حرب مدمرة. وأن الشرق الأوسط يدخل في تكوين جديد، مع قيام إسرائيل بتوسيع علاقاتها مع الدول العربية الراغبة في التطبيع والتي ستقدم لها الأموال والاستخبارات في حال نشوب حرب ضد شركاء إيران في لبنان.

وبقدر ما يتعلق الأمر بحزب الله، فإن ترسانته تبدو كافية. لديه ما يكفي من الصواريخ الثمينة لمواصلة حرب طويلة ضد إسرائيل وإطلاق مئات الصواريخ والقذائف كل يوم. وحرص حزب الله على عدم وجود صواريخ بالقرب من المنشآت المدنية لتجنب وقوع إصابات وخسائر مالية. وبحسب بعض المصادر، فإن الأعمال تحت الأرض في جنوب لبنان تذكرنا بالأنفاق الموجودة أسفل باريس والتي تشبه جبنة الغرويير. أما ماليا، فلم يعد حزب الله بحاجة إلى هذا القدر من التمويل الآن بعد أن انخفض وجوده على الخطوط الأمامية في سوريا بشكل كبير، وخاصة بعد أن تمكن من فتح منافذ تمويل مستقرة ومضمونة ومستمرة مع العراق وبدعم وتأييد الحشد الشعبي وفصائل المقاومة التي تحكم البلاد فعلياً. فهل ستتسامح إسرائيل مع وجود جيش غير نظامي مدرب تدريباً عالياً ومنظماً وذو خبرة على حدودها بينما يغير رئيس الوزراء نتنياهو استراتيجيته العسكرية؟

ويرى السيد نصر الله أن نتنياهو لم يعد يتبع سياسة دافيد بن غوريون الذي كان يكتفي بنقل المعركة إلى أرض العدو. فهو يريد القضاء على التهديدات في كل مكان في المنطقة. في عهد نتنياهو، قصفت القوات الجوية الإسرائيلية العراق (قوات الأمن العراقية التابعة للحشد الشعبي) على الحدود مع سوريا. وكلما لاحظت وجود شحنة أسلحة متطورة، قامت بالقصف على الفور بغض النظر عن العواقب. قام بتدمير المستودعات ومخازن الأسلحة في سوريا لإعاقة الجيش السوري. علاوة على ذلك، يعيش نتنياهو اليوم في عالم غابت فيه الجيوش العربية أو دمرت، ولم تعد تمثل أي خطر على وجود إسرائيل. بالنسبة لإسرائيل فإن التهديد الوحيد المتبقي هو حزب الله. لماذا يتحمل نتنياهو مثل هذا التهديد على حدوده بعد الآن؟

وعلى روسيا، القوة العظمى الموجودة في سوريا والتي تسعى إلى ترسيخ وجودها في لبنان، ألا ترد على إسرائيل على الأرض. ربما في الأمم المتحدة، نعم. لكن روسيا لديها مصلحة في إضعاف سوريا وعدم اعتمادها على حليف قوي مثل حزب الله. ومن الممكن أن تتوصل روسيا إلى اتفاق مع الولايات المتحدة بشأن سوريا ــ بمجرد القضاء على حزب الله أو إضعافه. وسيتضمن ذلك تبادل رحيل الرئيس الأسد إلى إدلب والشمال الشرقي الخاضع للاحتلال الأمريكي حاليًا. ومن شأن مثل هذا الاتفاق أن يسعد واشنطن ويمكن لبايدن بعد ذلك إنهاء وجود قواته في سوريا.

لكن ما الذي يفسر هذا التشاؤم المفاجئ وهذا الخطر المتزايد للحرب في لبنان؟ ويرى حزب الله تحركات القوات الجوية والبحرية الأمريكية في المنطقة، وسلوك نتنياهو مع غزة ، والحرب ضد حزب الله. إنه الدعم غير المحدود للولايات المتحدة، وهو ما يمثل فرصة فريدة لإسرائيل للحصول على ما تريد، إلى جانب الدعم العربي لنتنياهو، تصنيف حزب الله كدولة إرهابية من قبل عدد أكبر من الدول، التهديدات المتكررة من المؤسسة الأمريكية في لبنان لإسرائيل. منعهم من دعم حزب الله، وعداء الدول العربية لإيران (قبل الصلح والتقارب ين إيران والسعودية وترسيخ التعاون بين قطر وإيران)، وتشديد العقوبات على الدول الصاعدة، و"صفقة القرن" المزمعة هذا الصيف، وانتصار اليمين المتطرف في إسرائيل.

ولكن كيف سيكون رد فعل حزب الله وإيران؟ كلاهما في موقف دفاعي وليس من المتوقع أن يأخذا زمام المبادرة والهجوم أولاً. تستطيع إيران أن تطور قدراتها النووية وتفاجئ العالم بأن تسحب من قبعتها سلاحاً من شأنه أن يحظر كل الحروب. لكن حزب الله لن يقف مكتوف الأيدي. إنه يتخذ خطوات لمواجهة أهداف إسرائيل. لقد التهمت وغادرت مئات المواقع في جميع أنحاء البلاد. وتم تعيين قادتها العسكريين، وإسناد المهام، وإعداد الاحتياطيات لأسوأ السيناريوهات.

كل هذا يهدد بخسارة لبنان ودفعه ثمناً غالياً. ففي عام 2008، احتل حزب الله العاصمة بيروت عندما أرادت الحكومة تعطيل نظام اتصالاته. يمكنه أن يفعل أكثر من ذلك بكثير إذا كان وجوده في خطر.

هذه هي النظرة المتشائمة لقادة حزب الله وهم يستعدون للأسوأ. ولكن من الممكن أيضًا أن إسرائيل لا تستعد بأي حال من الأحوال للحرب، ويكفي أن تعمل الولايات المتحدة من أجلها من خلال فرض عقوبات اقتصادية على لبنان وسوريا وإيران. ومع ذلك، فإن الصيف ليس بعيدًا، فهو الوقت المثالي لإسرائيل لبدء حرب بينما تكون السماء صافية. هل سيتمكن اللبنانيون من الاستمتاع بصيف هادئ هذا العام أم عليهم أن يستعدوا ليصبحوا لاجئين؟

لماذا لم يستغل حزب الله "طوفان الأقصى" ليعلن الحرب الشاملة على إسرائيل؟

يتساءل كثيرون لماذا لم يخض حزب الله حرباً شاملة ضمن «طوفان الأقصى». وقد اختار حزب الله الحفاظ على دور الدعم والمراقبة بدلاً من الانغماس الكامل في هذا الصراع، على الرغم من أن قوات الاحتلال الإسرائيلي كانت منخرطة بكثافة على الجبهة الجنوبية في غزة. ويمكن تناول هذا القرار من عدة زوايا استراتيجية وسياسية وإقليمية. وقد يكون ذلك مبنياً على اعتبارات استراتيجية، لأن مثل هذا الإجراء كان من الممكن أن يؤدي إلى تصعيد الصراع إلى مستوى يمكن أن يكون له آثار إقليمية أوسع، وربما يجر دولاً أخرى ويؤدي إلى حرب على نطاق واسع ربما اعتبرها حزب الله غير مرغوب فيها حالياً. أو غير مستدامة، والتي لن تحقق أهدافها.

هل كان من الممكن أن تؤدي مشاركة حزب الله الكاملة إلى تحويل انتباه إسرائيل والمجتمع الدولي عن القضية الفلسطينية لصالح صراع إقليمي أوسع يمكن أن يصرف الأضواء عن الوضع السائد في غزة والضفة الغربية؟ هل كان من الممكن أن تكون لذلك عواقب غير متوقعة على لبنان وسكانه؟

ويبدو أن قرار حزب الله بعدم إعلان حرب شاملة أثناء طوفان الأقصى قد تأثر بمزيج من ضبط النفس الاستراتيجي، والحسابات السياسية، واعتبارات الديناميكيات الإقليمية، والصعوبات العملياتية.

وعلى الرغم من خطابه الناري وترسانته الكبيرة، فإن رد فعل حزب الله المتحفظ أثار تساؤلات في لبنان والشرق الأوسط. وقد أعرب حزب الله، باعتباره لاعباً رئيسياً في محور المقاومة، عن قدرته واستعداده لشن هجمات واسعة النطاق ضد المستوطنات الإسرائيلية ومنطقة الجليل كجزء من "وحدة مواقع محور المقاومة المسارح" الذي يجمع لبنان وسوريا واليمن وقطاع غزة والعراق. بشن هجوم متزامن على إسرائيل. هذه التصريحات، بالإضافة إلى امتلاك المنظمة لأسلحة متطورة ومدمرة قادرة على إلحاق أضرار جسيمة بإسرائيل، دفعت الكثيرين في لبنان والعالم العربي بشكل عام إلى توقع موقف أكثر عدوانية من جانب حزب الله. ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه التوقعات، فإن حزب الله لم ينخرط بعد بشكل كامل في الصراع. ويثير هذا التردد تساؤلات حول العوامل التي تؤثر على القرارات الإستراتيجية للمنظمة.

منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر، اتسم تورط حزب الله في الصراع بتطورات ملحوظة، بما في ذلك فقدان حوالي 80 من أعضائه، الذين يطلق عليهم "شهداءعلى الطريق إلى القدس"، واغتيال إسرائيل لستة مدنيين لبنانيين. وقد أدى هذا الاشتباك إلى جذب جزء كبير من القوات الإسرائيلية (حوالي الثلث) الجاهزة للقتال، فضلاً عن معظم قوتها الجوية والبحرية، إلى الحدود اللبنانية. وكانت هذه القوات قد شاركت في السابق في عمليات شمال قطاع غزة.

وفي العالم العربي، كانت ردود الفعل على ضبط النفس الذي يمارسه حزب الله متباينة. لم يعجب كثيرون قرار حزب الله بعدم شن حرب واسعة النطاق ضد إسرائيل بالتعاون مع حماس. كان البعض يأمل أن تتعرض إسرائيل لهزيمة ساحقة وأضرار جسيمة، بينما توقع البعض الآخر انتكاسة كبيرة لحزب الله ومؤيديه. وتختلف الدوافع وراء هذه التوقعات، فبعضها متجذر في المعتقدات الدينية، والبعض الآخر على أمل توجيه ضربة حاسمة لحليف إيران الرئيسي في المنطقة. تسلط وجهات النظر هذه الضوء على مدى تعقيد المشاعر الإقليمية تجاه استراتيجية حزب الله وأفعاله في الصراع الدائر.

داخل قيادة حزب الله، تباينت الآراء فيما يتعلق بتوقيت واستراتيجية الانخراط في الصراع. واعتقدت بعض الفصائل أن الفتح المتزامن للجبهات الشمالية (مع لبنان) والجنوبية (مع غزة) من شأنه أن يطغى استراتيجياً على العمليات الإسرائيلية الأميركية. ووفقاً لوجهة النظر هذه، فإن هذا الارتباط المتعدد الجوانب من شأنه أن يجهد قدرات إسرائيل اللوجستية واستعداد الولايات المتحدة لتعزيز إسرائيل من خلال إنشاء جسر جوي موسع وتسليمها الصواريخ اللازمة.

لكن ربما يكون هذا الرأي قد تجاهل اعتبارات أساسية أخرى. أحد الأسئلة الرئيسية المطروحة على قيادة حماس كان ما إذا كان دخول حزب الله في الحرب سينهي الصراع في غزة أو يمنع إنشاء منطقة عازلة في شمال قطاع غزة. وهناك اعتبار آخر تمت مناقشته مع حماس خلال حوار مفتوح وهو ما إذا كان تورط حزب الله سيؤدي إلى دمار أكبر في إسرائيل مقارنة بالأسابيع السابقة. تشير الردود غير المتوقعة لعدد من مسؤولي حماس إلى أن الإجابة على هذه الأسئلة كانت سلبية. وهم يعتقدون أن إسرائيل والولايات المتحدة سيكونان قادرين على إدارة الصراعات على الجبهتين، نظراً لوجود القوات العسكرية الأميركية في إسرائيل وقدراتها التنسيقية، وإلحاق دمار كبير بغزة ولبنان.

منذ بداية الصراع في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أثرت تطورات مهمة على استراتيجيات مختلف الجهات الفاعلة في المنطقة على الكيان الصهيوني. وكانت هذه الدعوة لحمل السلاح والانخراط في حرب شاملة لحظة محورية أدت إلى استجابة كبيرة من واشنطن. فالولايات المتحدة، التي فسرت هذه الدعوة إلى حمل السلاح على أنها إشارة إلى تصعيد عام محتمل ضد أقرب حلفائها، نشرت وحدات متخصصة في إسرائيل. ويتضمن هذا الانتشار وجودًا بحريًا كبيرًا مع حاملات الطائرات والغواصات والقوات البحرية الأخرى والقوات الخاصة. هذا الرد العسكري الأميركي القوي يفسره الاعتقاد بأن عملية منسقة ضد إسرائيل يمكن أن تتم على عدة جبهات، كما يشير إعلان محمد الضيف. إن نشر القوات الأمريكية لدعم إسرائيل كجزء من عملية 7 أكتوبر ينبع من قرار استراتيجي يعتمد على احتمال شن هجوم منسق على عدة جبهات. ويشير القرار الأميركي بالتدخل بدعم عسكري كبير إلى الإيمان بالتنسيق المسبق بين مختلف فصائل محور المقاومة وبتوجيه من إيران. يشير هذا الانتشار إلى أن الولايات المتحدة كانت تعتقد أن الوضع معرض لخطر التصعيد إلى صراع أكبر، مما يتطلب تدخلها لمنع إسرائيل من التصرف بمفردها. ومن المرجح أن يكون وجود القوات الأمريكية رداً على التهديد المتصور المتمثل في شن حملة واسعة ومتزامنة ضد إسرائيل، كما أشارت دعوة حماس إلى حمل السلاح والتعبئة الشاملة والتطورات اللاحقة.

تسلط هذه الخطوة من جانب الولايات المتحدة الضوء على مدى تعقيد الديناميكيات الجيوسياسية في المنطقة، حيث تتم مراقبة تصرفات وتصريحات اللاعبين الرئيسيين عن كثب ومن المرجح أن تؤدي إلى ردود عسكرية واستراتيجية كبيرة من جانب القوى العالمية. لم تكن مشاركة الولايات المتحدة في هذا السياق مجرد إظهار الدعم لإسرائيل، بل كانت أيضًا بمثابة إجراء احترازي ضد تصعيد الأعمال العدائية إلى صراع إقليمي أوسع، بما في ذلك إيران أيضًا.

لكن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قال إن محور المقاومة، بما في ذلك فصائله، ليس على علم بالخطط العملياتية المحددة أو الجدول الزمني لعملية 7 أكتوبر، والتي كانت قرارًا اتخذته حماس بشكل مستقل. ويسلط هذا البيان الضوء على ضرورة التنسيق المسبق داخل محور المقاومة فيما يتعلق بتوقيت وطبيعة مثل هذه العملية.

إن الإعلان عن عملية منسقة بهذا الحجم سوف يتطلب أكثر من مجرد بيان علني من جانب القيادة العسكرية لحماس. وسيتطلب ذلك تقييماً شاملاً لقدرات وظروف وأهداف كل طرف يشكل جزءاً من محور المقاومة. يسلط هذا النهج الدقيق الضوء على مدى تعقيد التحالفات والاستراتيجيات الفردية للأطراف المشاركة في المنطقة.

إن مواقف حماس وأفعالها تعبر عن وجهة نظرها بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر، وهو وضع يتسم بتعقيدات تاريخية وسياسية واجتماعية عميقة الجذور.

وعلى النقيض من حزب الله، فإن منظمة حماس الفلسطينية المسلحة لديها أهداف محددة في صراعها مع إسرائيل. وتشمل هذه الأمور جلب القضية الفلسطينية إلى واجهة الاهتمام العالمي، وتأمين إطلاق سراح أكثر من 7000 فلسطيني مسجون في السجون الإسرائيلية، والرد على ما تعتبره سياسات الحكومة العدوانية الإسرائيلية. وتنظر حماس إلى هذه السياسات، وخاصة تلك التي تم تبنيها تحت قيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، على أنها تقضي على أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية.

وكان إعلان نتنياهو أن اتفاقيات أوسلو لعامي 1993 و1995 لاغية وباطلة وتقديمه للأمم المتحدة لخريطة لا تشمل غزة والضفة الغربية، قد أدى إلى تفاقم التوترات بشكل أكبر. وتتهم حماس أيضًا الجيش الإسرائيلي بتنفيذ أعمال قمعية في الضفة الغربية، بما في ذلك التعذيب والاعتقالات والقتل ومصادرة الأراضي. حدثت هذه الإجراءات خلال حكم نتنياهو الذي دام 16 عامًا، وبرزت بشكل خاص منذ تشكيل حكومة يمينية متطرفة. ولم تؤد سياسات هذه الحكومة إلى إثارة استياء قسم كبير من السكان الإسرائيليين فحسب، بل أدت أيضاً إلى توتر علاقات إسرائيل مع العديد من حلفائها الدوليين.

أما بالنسبة لهدف "القضاء على إسرائيل وتدميرها"، فإن حماس ومحور المقاومة الأوسع يدركان أنه غير واقعي في الظروف الجيوسياسية الحالية. وكان يُنظر إلى دعوة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد للقضاء على إسرائيل باعتبارها خطاباً شعبوياً وليس هدفاً استراتيجياً قابلاً للتحقيق.

إن امتلاك إسرائيل للقدرات النووية والقوة العسكرية الهائلة يجعل احتمال القضاء عليها أمراً مستبعداً إلى حد كبير. علاوة على ذلك، فإن التحالف الاستراتيجي والعسكري الوثيق بين إسرائيل والولايات المتحدة يعزز من مكانة إسرائيل الأمنية والإقليمية. وتعتبر إسرائيل المعدات العسكرية والجنود والقوات الأمريكية في المنطقة امتدادًا لبنيتها التحتية الدفاعية.

إن الديناميكيات معقدة عندما يتعلق الأمر بالضغط على إسرائيل لاحترام القانون الدولي، ووقف أنشطتها العسكرية والضمّية، واحترام حقوق الفلسطينيين. ويظل تأثير الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية ودعمها لإسرائيل عاملاً رئيسياً. في غياب أية قوة أخرى يمكنها الضغط على إسرائيل وإجبارها على الانصياع. وبما أن إسرائيل قوة موازية ذات نفوذ ومصالح دولية كبيرة في الشرق الأوسط، فإنه من الصعب إجبار إسرائيل على تغيير سياساتها واحترام قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالقضية الفلسطينية وحق العودة. وينبغي أن تكون هذه القوة قادرة على استخدام نفوذها لإقناع واشنطن بالضغط على تل أبيب للامتثال للقوانين والمعايير الدولية، والتوقف عن بناء المستوطنات غير القانونية، ومراعاة حقوق واهتمامات الشعب الفلسطيني، وهذه القوة هي سلاح النفط الذي كان فعّالاً سنة 1973 .

إن فكرة تحقيق النصر على إسرائيل من خلال اكتساب «النقاط» تدريجياً، على حد تعبير الأمين العام لحزب الله السيد نصر الله، هي جزء من استراتيجية تؤكد على التأثير التراكمي بدلاً من الغزو العسكري البحت والبسيط. ويعني هذا التوجه ضمناً أن كل عملية تنفذها جماعات مثل حماس ضد إسرائيل تساهم في تحقيق هدف أوسع يتمثل في تحدي الاستقرار الإسرائيلي وإرسال رسالة إلى المجتمع الدولي. يُنظر إلى تعطيل السلام في إسرائيل على أنه وسيلة لتقويض ثقة العالم في المشاريع الدولية المتعلقة بفلسطين المحتلة التي تروج لها الولايات المتحدة، مثل الطرق البديلة لمشروع الحزام والطريق الصيني.

كما أن رسائل السيد نصر الله للجيش الإسرائيلي والمستوطنين تهدف إلى إطلاق إمكانية مفاجأة القدرات العسكرية الإسرائيلية وهزيمتها، وبالتالي تعزيز حالة من عدم اليقين وانعدام الأمن. ووفقاً لهذا المنظور فإن الانتصارات التي تطالب بها حماس في غزة لا تقاس بالمكاسب الإقليمية أو النجاحات العسكرية فحسب، بل وأيضاً بالمكاسب النفسية والاستراتيجية خلف الخطوط الأمامية للصراع وخارجها.

وتبشر تعليقات نصر الله أيضاً باستراتيجية لا تنطوي على حرب شاملة مع إسرائيل، بل مناوشات حدودية مستهدفة ومنضبطة وضربات دقيقة. وقد أصبح هذا النهج واضحاً عندما شن حزب الله سلسلة من الهجمات التي أصابت العديد من الأهداف، فقتلت 13 إسرائيلياً و31 مدنياً ـ وهي الخسائر التي لم تعترف بها إسرائيل رسمياً من أجل تجنب الإحراج في الداخل. هذه التصرفات دفعت وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت إلى الاستعداد لتصعيد كبير محتمل على الجبهة اللبنانية، مما دفع الوسطاء الأميركيين إلى التدخل. واتصل المسؤولون الأميركيون بحزب الله بشكل غير مباشر، عبر الحكومة اللبنانية، ليطلبوا منه توضيح نواياه.

يبدو أن هذا الرد المدروس من حزب الله، خاصة بعد الغارة الجوية الإسرائيلية في حمص بسوريا، والتي أسفرت عن مقتل العديد من أعضاء حزب الله، والهجوم الآخر في جنوب لبنان الذي أسفر عن مقتل ستة مدنيين في هجومين منفصلين، يحافظ على توازن القوى ويلتزم بقواعد التعامل الراسخة. ساعدت ردود الفعل هذه على تجنب التصعيد إلى صراع واسع النطاق على طول الحدود اللبنانية، وهو الوضع الذي كان على وشك التحول إلى مواجهة كبرى.

إن الأسلحة المتطورة التي يمتلكها حزب الله تخدم كرادع لمنع الحرب أكثر من كونها أدوات لبدء صراع أوسع فوائده غير معروفة وعواقبه خطيرة. وقد تم التأكيد على هذا الدور الرادع لترسانة حزب الله من خلال رسالة أخرى من الولايات المتحدة، أشارت إلى أن القوات الأمريكية المنتشرة في الشرق الأوسط لم تكن تهدف إلى محاربة حزب الله.

ويشير هذا إلى أن توازن الردع الحالي، حيث تتبادل إسرائيل وحزب الله إطلاق النار عبر الحدود، حساس وحاسم لمنع صراع أوسع في المنطقة.

ووفقاً لمصادر داخل قيادة حماس، طالبت الحركة أولاً بمشاركة حزب الله في الصراع. ثم أقنعت حماس نفسها بأن فتح جبهة شمالية مع حزب الله لن يمنع إسرائيل من التركيز على الجبهة الجنوبية في غزة. ونتيجة لذلك، أفادت التقارير أن حماس طلبت من السيد نصر الله من حزب الله أن يشرح علناً أسباب تصرفات حماس. لقد اجتذب خطاب نصر الله، الذي ألقاه بأسلوبه الفريد، قدراً كبيراً من الاهتمام الإعلامي ووفر منصة لنشر وجهات نظر حماس ودوافعها التي ربما لم يكن بوسعها تحقيقها بمفردها.

كما كان لتصرفات حزب الله ومشاركته في صراع غزة خلال هذه الفترة تداعيات أوسع. وتمكن التنظيم من نزع فتيل بعض التوترات الطائفية التي تفاقمت خلال الحرب في سوريا والعراق خلال مشاركته في تلك الحرب. ومما يزيد من روعة هذا الأمر أن حماس لم تتلق دعماً عسكرياً مباشراً أو وعوداً بالمشاركة في الصراع من الدول العربية السنية المجاورة، التي لم تتكبد خسائر بشرية، إلى جانب أمور أخرى مهمة. في المقابل، أدى تضامن حزب الله مع غزة إلى إجلاء آلاف السكان في جنوب لبنان، مما يؤكد التزامه بالقضية رغم المخاطر والتداعيات المحتملة على المنطقة التي يدافع عنها.

كما أن تورط حزب الله في الصراعات الأخيرة قد وفر الفرصة لاختبار أسلحة واستراتيجيات جديدة في ساحة المعركة. وقد راقبت المنظمة عن كثب فعالية هذه الأسلحة ضد إسرائيل، وكذلك ردود فعل إسرائيل على هجمات حزب الله. وعلى وجه الخصوص، استخدم حزب الله درونات طائرات بدون طيار وتكتيكات عملياتية مختلفة، مما سمح له باكتساب معرفة قيمة حول كيفية شن الحرب وإيجاد طرق لمواجهة القدرات العسكرية الإسرائيلية. "لقد تعلمنا دروساً مهمة حول القوات الإسرائيلية، وأنواع البنية التحتية التي يجب استهدافها، والمناطق في جنوب لبنان التي تعتبر معرضة للتسلل. وقد جرب حزب الله تقنيات مضادة للطائرات بدون طيار وتقنيات مضادة للطائرات لتقليل الخسائر البشرية. كما احتفظ ببعض أسلحته المتقدمة لوقت لاحق، واختار عدم استخدامها في الصراع الحالي".

وتتسبب الحرب المستمرة في معاناة إسرائيل من انتكاسات اقتصادية كبيرة. إن استئناف إنتاج الغاز الإسرائيلي، الذي تم تعليقه لمدة شهر لدعم الاقتصاد، يجعل من منصاتها البحرية أهدافًا محتملة لصواريخ حزب الله أرض-أرض الدقيقة في أي صراع مستقبلي.

وفي الوقت نفسه، تجنب لبنان حرباً واسعة النطاق، وهو الوضع الذي كان من الممكن أن يتصاعد بشكل كبير دون التدخل الدبلوماسي الأمريكي، وهو احتمال لم يكن لبنان يريده بشكل خاص. ومع ذلك، فإن الوضع في غزة، وخاصة في الجزء الشمالي من القطاع، لا يزال متقلبا ولم يتم حله. ولذلك، تظل النتائج المختلفة ممكنة، مما يبقي المنطقة في حالة من عدم اليقين والترقب.

لقد تأثر قرار حزب الله بعدم الانخراط بشكل كامل في الصراع بفهم دقيق للديناميكيات الإقليمية، والنتائج المحتملة، وحدود تأثيرها على الصراع الأوسع الذي يشمل غزة. فهو يعكس نهجا محسوبا، يزن المكاسب المحتملة في مقابل مخاطر وتعقيدات الحرب المتعددة الجبهات في المنطقة.

ويؤدي احتمال نشوب صراع مستقبلي بين حزب الله وإسرائيل إلى زيادة التوتر، خاصة بين المستوطنين الإسرائيليين الذين يعيشون بالقرب من الحدود اللبنانية. وأعرب هؤلاء المستوطنون لرئيس الوزراء نتنياهو عن إحجامهم عن العودة إلى منازلهم طالما أن القوات الخاصة لحزب الله (الرضوان) متمركزة على طول الحدود. ويعكس هذا الشعور تزايد انعدام الأمن وتوقع الأعمال العدائية المحتملة.

وجهة النظر السائدة في هذه المجتمعات هي أن المواجهة بين حزب الله وإسرائيل تكاد تكون حتمية، مما يجعلها مسألة وقت وليس مجرد احتمال. إن وجود قوات حزب الله على طول الحدود، والذي يعتبره المستوطنون الإسرائيليون تهديدًا مباشرًا، يزيد من التوتر واحتمال حدوث اشتباك محتمل. الأمر كله مجرد مسألة وقت.

تخبط الغرب:

إن التعطش للطاقة وحماية مصادرها له تأثير إيجابي على دول الشرق الأوسط، حيث تسعى الحكومات الغربية للحفاظ على الاستقرار في الدول المنتجة للنفط والغاز. لقد خلفت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا تأثيراً سلبياً على الدول الغربية، التي تسببت بفرض عقوبات ذاتية أولاً على تضخم وغلاء معيشة غير مسبوق يتردد صداه في مختلف أنحاء العالم. ليس هناك شك في أن الحرب الروسية الأميركية على الأراضي الأوكرانية تؤثر بشكل كبير على الاقتصاد العالمي. إن الولايات المتحدة وأوروبا مضطرتان إلى التسول المستمر للنفط والغاز من مصادر مختلفة، ويطرقان أبواب العديد من البلدان. وبالتالي فإن الشرق الأوسط، الذي يشكل مصدراً لجزء كبير من الطاقة العالمية، يستطيع أخيراً أن يتمتع باستقرار نادر وغير متوقع. بعد عقود من الحروب والغزوات والصراعات في الشرق الأوسط، حان الوقت للمسؤولين عن البؤس والموت لشعوب هذا الجزء من العالم أن يهتموا بمستقبل هؤلاء السكان وأمنهم.

وهدد حزب الله اللبناني بضرب إسرائيل. وللمرة الأولى على الإطلاق، أخذ زمام المبادرة بالإعلان عن أنه لن يتردد في إعلان الحرب إذا قامت إسرائيل باستخراج الغاز من حقلي كاريش وتمار. تزعم مصادر مطلعة أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قام بتقييم الوضع للتوصل إلى نتيجة، أهمها أن إسرائيل لا تريد الحرب ولن تهاجمها في الوقت الحالي. والأكثر من ذلك أن حزب الله يعتقد أن الغرب والولايات المتحدة لن يدعما إسرائيل، لأنهما منغمسان حاليا في بحثهما النشط عن الطاقة، ولا يريدان إطلاقا حربا أخرى، خاصة في الشرق الأوسط. فإلى ما يجري في أوكرانيا. يمثل الشرق الأوسط مصدرا أساسيا ورئيسيا للطاقة في العالم. ولذلك فإن الغرب ليس في وضع يسمح له حاليًا برؤية خط الإمداد هذا معطلاً بسبب الحرب أو أي مناوشات أخرى.

ومن المتوقع أن تتوقف إسرائيل عن استخراج الغاز وأن تنسحب الشركات العالمية من حقول الغاز والنفط المتضررة خوفا من مواجهة عسكرية، خاصة بعد أن أرسل حزب الله عدة طائرات مسيرة كتحذير لإظهار قدرته على ضرب مناطق ومنصات استكشاف أجنبية. وكما لو أن الأمر يزيد الوضع سوءا، أوصت البحرية الإسرائيلية بتدريب العمال الأجانب الذين يعملون على منصات استخراج الغاز على كيفية إخلاء الموقع في حالة الحرب. أثار هذا الاقتراح الذي قدمته البحرية الإسرائيلية حالة من الذعر بين العمال الأجانب على منصة الحفر. ودعت شركات النفط إلى اجتماع طارئ في فرنسا، أبلغت إسرائيل خلاله أن العمال لن يبقوا موجودين في بيئة مضطربة وأن استخراج الطاقة يتطلب الأمن والاستقرار. وبالتالي فإن حالة التأهب بين حزب الله وإسرائيل ستدفع جميع الشركات إلى الانسحاب من المنطقة البحرية المتنازع عليها حتى يتم التوصل إلى اتفاق رسمي.

وتدخل القادة الفرنسيون لمطالبة إسرائيل بالامتثال لرغبة لبنان وترسيم الحدود البحرية. كما رفع لبنان سقف المفاوضات ليطلب من الشركات الأجنبية ضمان بدء العمل في المناطق البحرية اللبنانية بعد التوقيع وترسيم الحدود، على أن لا يكون هناك تأخير في بدء التنقيب عن مصادر الطاقة في لبنان.

ودفعت المطالب اللبنانية فرنسا إلى التدخل بشكل مباشر، إذ تعتقد أن الطاقة من الشرق الأوسط ستتدفق في نهاية المطاف إلى أوروبا، التي تبحث عن بدائل لمصادر الطاقة الروسية التي تنوي الاستغناء عنها العام المقبل. وحتى السفير المصري في لبنان لعب دوراً في نزع فتيل التوتر بين حزب الله وإسرائيل، معتبراً أن القاهرة تلعب دوراً مركزياً في حصد الطاقة في الشرق الأوسط من مصادر مختلفة لنقلها إلى أوروبا.

ولم تكن إسرائيل قط في مثل هذا الموقف الضعيف من قبل، حيث استسلمت لتهديدات حزب الله دون دفع العالم من خلفها لضرب المنظمة. ولكن الوضع الحالي يتطلب الحفاظ على الهدوء، إذ يتعين على الدول المنتجة للطاقة أن تظل مستقرة في السنوات المقبلة، إلى أن تستقر أسعار الطاقة وتهدأ اضطرابات السوق، وخاصة وأن نتائج الحرب في أوكرانيا لا تزال مجهولة لذلك تم التوصل إلىترسيم الحدود البحرية الإسرائيلية اللبنانية والذي وافق عليه حزب الله. من جانبها، أعلنت السلطات المحلية الليبية عزمها زيادة إنتاجها النفطي إلى 1.2 مليون برميل يوميا لتلبية احتياجات الأسواق العالمية وازدياد الطلب على النفط.

الدور الروسي في الجبهة السورية الإسرائيلية: هل تعمل روسيا على توسيع سيطرتها على المزيد من الأراضي السورية وتضيق الخناق على حزب الله على الحدود؟

أنشأت الشرطة العسكرية الروسية ثمانية مواقع ثابتة على طول منطقة فض الاشتباك التي تم ترسيمها في عام 1974، وتحافظ على وجود قوي إلى جانب قوات قوة الأمم المتحدة لمراقبة فض الاشتباك التي تراقب وقف إطلاق النار في مرتفعات الجولان المحتلة. بالإضافة إلى ذلك، وللمرة الثانية هذا العام، وصلت قوة روسية بقيادة جنرال روسي إلى الجديدة، على الحدود السورية اللبنانية، حيث يتواجد حزب الله اللبناني. أراد الروس تركيب معدات اتصالات وأطباق استقبال الأقمار الصناعية وأجهزة إلكترونية في نفس المنطقة التي يسيطر عليها حزب الله. ويحتفظ التنظيم اللبناني بقوة كبيرة هناك بعد هزيمة تنظيمي القاعدة وداعش في وقت سابق من هذا العام. ويقال إن وجودها مؤكد لمنع مرور الأسلحة والجهاديين التكفيريين بين البلدين. من واضح أن روسيا تعمل ببطء ولكن بثبات على توسيع سيطرتها في بلاد الشام. ويبقى أن نرى إلى أي مدى سيكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على استعداد للذهاب إلى أبعد من ذلك.

وأكدت مصادر رفيعة تنشط في سوريا أن "جنرالاً روسياً وصل مع وحدة إلى الجديدة يطلب الإذن بإقامة نظام اتصالات وصحون أقمار صناعية مرتبطة بموسكو والقوات الروسية" موزعة في القطاع الذي يوجد به قاعدة عسكرية. في حميميم، التي تعتبر المركز العصبي للعملية العسكرية الروسية والسورية برمتها منذ منتصف عام 2015. أرادت الوحدة الروسية استخدام موقع حزب الله، لكن تمت دعوتها لاختيار موقع آخر أبعد على أرض مرتفعة. وبعد تفتيش سريع للمبنى، قبل الجنرال الروسي العرض ووضع رجاله على مسافة معينة من حزب الله.

وبحسب المصادر فإن عشرات الآلاف من القوات الروسية منتشرة في كافة أنحاء الأراضي السورية باستثناء الشمال المحتل من تركيا والولايات المتحدة.

ولا شك أن روسيا اتفقت مع الولايات المتحدة على أن تصبح بلاد الشام قاعدة عملياتها ومنطقة نفوذها. وهذا سيؤدي إلى تمدد القوات الروسية في كامل الأراضي السورية دون استثناء. وهذا يعني أيضاً أن روسيا لن تقبل بوجود تنظيم القاعدة أو “حراس الدين” أو أي تسمية أخرى تختبئ وراءها الجماعة. ولذلك، فإنها ستنظم نفسها لاستعادة الأراضي التي لا يزال التنظيم يسيطر عليها (رغم أن القضاء على أيديولوجيتها أمر مستحيل).

وفي الجنوب، سحبت جميع القوات المتحالفة (حزب الله وحلفاء إيران) قواتها، لأن وجودها لم يعد ضرورياً منذ تحرير كافة الحدود والقضاء على داعش في جيب القنيطرة. واتخذت هذه القوات موقعاً آخر في مواجهة تنظيم داعش شرق محافظة السويداء وفي البادية بهدف القضاء على ما تبقى من داعش في المنطقة. يبدو أننا قد وضعنا نهاية لمعركة إدلب، وهو الوقت المناسب للسماح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعادة تجميع وكلائه وإبعاد تنظيم القاعدة عن الأراضي التي يسيطر عليها في شمال شرق سوريا.

واستعادت الحكومة السورية السيطرة على الجنوب، ولم يبق سوى القوات السورية في محافظات السويداء ودرعا والقنيطرة، كما كان الحال قبل عام 2011، عندما بدأت الحرب. ولا يزال المستشارون الإيرانيون متواجدين داخل كل وحدة سورية ويواصلون تقديم المشورة والتنسيق مع مركز القيادة والسيطرة في مختلف المحافظات.

وتتحرك القوات الروسية إلى مناطق نائية، على الرغم من أنها لا تتعرض للتهديد. القيادة الروسية لا تنظر إلى حزب الله كقوة معادية، بل على العكس تماماً، إذا حكمنا من خلال كلام الجنرال الروسي لقوات حزب الله في الجديدة: “أنتم حلفاؤنا، نريد أن نكون إلى جانبكم ونحن نريد أن نكون إلى جانبكم”. دعونا نقيم بجانبكم فنحن لا نطلب منكم المغادرة. »

ولذلك لم يشعر حزب الله بالتهديد وطلب المشورة من قيادته. وقد عُرض عليه موقع آخر، ليس بعيدًا جدًا عن الموقع الذي اختاره الجنرال. وهذا بالضبط ما فعله الجنرال عندما وضع رجاله على أرض مرتفعة لتركيب معداتهم المتقدمة.

ومن غير الواضح ما إذا كانت روسيا ستطلب في نهاية المطاف من حزب الله مغادرة سوريا أو على الأقل الحدود السورية اللبنانية. إذا قررت موسكو في يوم من الأيام الاهتمام بالمسألة السورية الإسرائيلية برمتها من خلال السعي إلى التوصل إلى اتفاق سلام وعودة الأراضي المحتلة، فسيكون من المفاجئ للغاية أن يكلل هذا الإجراء الجريء بالنجاح. إسرائيل ليست مستعدة لصنع السلام، ولا للتخلي عن مرتفعات الجولان، التي تعتبر غنية واستراتيجية. وهذا ما قد يدفع الرئيس الروسي إلى عدم التمادي كثيراً إذا وجد نفسه في مواجهة الواقع المعقد جداً لقضية الشرق الأوسط، والتي نأت روسيا بنفسها عنها منذ عام 1990. وسيكون من المفاجئ جداً أن تحل روسيا قضية الشرق الأوسط في المستقبل القريب. برغم وجود حزب الله في سوريا ، حتى لو لم يكن لدى التنظيم اللبناني أي نية لمهاجمة روسيا أو منافستها في بلاد الشام.

لا تعارض إسرائيل فقط التخلي عن الأراضي التي تحتلها في سوريا ولبنان، بل إنها تضيف ضم المزيد: خلال اللقاء بين نتنياهو ولافروف، طالبت إسرائيل بانسحاب جميع القوات الإيرانية، وإزالة جميع الصواريخ طويلة المدى وعالية الدقة. الصواريخ الدقيقة من سوريا، ووقف جميع شحنات الأسلحة من سوريا إلى حزب الله اللبناني.

ولا تستطيع روسيا، ولن تطلب من إيران مغادرة سوريا، لأن طهران جزء من التحالف الاستراتيجي القائم مع الرئيس الأسد ضمن “محور المقاومة”. ولا يمكن لروسيا أن تطلب من سوريا التوقف عن تسليح نفسها أيضاً، لأن روسيا هي نفسها التي تزود الجيش السوري بالأسلحة. كما لا يمكنها أن تطلب من دمشق منع مرور الأسلحة عبر أراضيها. الأراضي، لأن سوريا وحزب الله أقاما علاقات عميقة جداً. وفتح الرئيس السوري بشار الأسد مستودعاته لحزب الله عام 2006 وسارع التنظيم لمساعدة الأسد في الحرب المفروضة على سوريا.

وتواجه روسيا أيضًا قصفًا وانتهاكات متكررة للمجال الجوي السوري من قبل إسرائيل. علاوة على ذلك، تواصل تل أبيب القول بأن لها "الحق في الدفاع عن نفسها" من خلال قصف أهداف في سوريا.

وحتى لو تأخرت معركة إدلب للسماح لتركيا بـ”تطهير” المدينة من تنظيم القاعدة، فإن المعركة ضد داعش بدأت وتهدف إلى وضع حد لهيمنة الجماعة المسلحة على أي أرض، وأوكلت المهة الى الجيش السوري . لكن الفصل الأخير من الحرب في الشرق الأوسط لم يُكتب بعد. إن التوازن في المشرق يتجاوز مصالح الجميع في الشرق الأوسط الآن بعد أن قررت روسيا مواصلة مشاركتها النشطة في سوريا. ووجود عشرات الآلاف من القوات الروسية خير دليل على ذلك. ستضمن روسيا خروج الولايات المتحدة من سوريا، لكن هذا لا يعني أنها ستصبح الشريك الوحيد لدول الشرق الأوسط.

لماذا يصر الغرب على شيطنة الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟

قال أحد مستشاري رئيس وزراء في أوروبا الغربية في حديث خاص: "عندما يريد الأميركيون من المسؤولين الحكوميين أن يقوموا بحملة من أجل رواية معينة، نتلقى قطعة من الورق تحتوي على تعليمات يجب اتباعها. ويُطلب من صناع القرار تنفيذ وصية واشنطن دون تأخير. ونحن نفعل ذلك ونتجنب أي نقاش أو سؤال حتى لو كانت الاقتراحات الأميركية تتعارض مع مصالحنا أو سياستنا الخارجية. »

وانتقد المستشار الألماني أولاف شولتز إيران مؤخرا بسبب ما أسماه "حملة قمع" على مثيري الشغب المدعومين من الخارج. وتبنى الاتحاد الأوروبي سلسلة من العقوبات المرتبطة بأشهُر من الاضطرابات. ما هو عليه الوضع الآن؟ لماذا هذا التصعيد الخطير ضد الجمهورية الإسلامية؟

قام وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بحملة من أجل "حرية التعبير"، وهي رواية تستخدمها واشنطن فقط ضد أعدائها أو عندما يقرر بعض حلفائها تحدي أهوائها وتوجهاتها.

في ذلك الوقت، واجه جوليان أسانج عقوبة السجن لمدة 175 عامًا بسبب قيامه بعمله كصحفي مستقل وحر، وضربت الولايات المتحدة عرض الحائط بمباديء حرية التعبير وحقوق الإنسان. علاوة على ذلك، في ذلك الوقت خضعت قناة "برس تي في" الإخبارية الناطقة باللغة الإنجليزية، والتي تبث من طهران، وكبار مسؤوليها للعقوبات لمجرد أنهم تجرأوا على تحدي السرد المهيمن الذي يدعمه الغرب.

المشكلة الرئيسية هي الخطة الشريرة للغاية لجلب إيران إلى “الاتفاق النووي الجديد كلياً” وجعلها دولة هشة وزعزعة استقرار البلاد. هذا، وبكل بساطة، ههو هدف واشنطن والغرب وإسرائيل.

أما الهدف الآخر طويل الأمد ولكنه طموح فيتلخص في "الإطاحة" بالجمهورية الإسلامية، واستبدالها بدولة مدفوعة الأجر وفرض "دمية" أميركية (مثل ابن الشاه).

ومن المنظور الغربي، أصبحت إيران "دولة مشكلة" بسبب قدرتها غير المسبوقة على تحدي وتحييد المخططات الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة. علاوة على ذلك، فهي تتمتع بالقدرة الاقتصادية اللازمة والأيديولوجية الشعبوية الواسعة لدعم أذرعتها في المنطقة «محور المقاومة"، الذي يعمل أعضاؤه كجسم واحد، على استعداد للدفاع عن المنطقة ضد المؤامرات والخطط الشريرة والشيطانية للقوى المهيمنة الغربية.

وأعلنت إيران مؤخرا أنها صنعت صاروخا باليستيا تفوق سرعته سرعة الصوت ولا يمكن لأي نظام دفاع صاروخي في العالم اعتراضه. يقع النظام الإسرائيلي وعشرات القواعد العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك الأسطول الأمريكي في البحرين، في مرمى الصواريخ الإيرانية الدقيقة.

وليس من غير الطبيعي أن تتحدى إيران الولايات المتحدة بشكل مباشر عندما يتعرض أمنها القومي للتهديد. نعلم جميعًا كيف ضربت إيران القاعدة الأمريكية في عين الأسد بالعراق أوائل عام 2020، وكيف أصاب 16 صاروخًا دقيقًا المباني الأمريكية. لكن أمريكا سفهّت الموضوع على لسان الرئيس ترامب الذي أعلن أن إيران طلبت الإذن في عملية القصف لحفظ ماء الوجه ولم تصب أي مبنى ولم تتكبد القوات الأمريكية أية خسائر بشرية.

ولو استخدمت إيران بعد ذلك قدرة هذه الصواريخ على حمل أكثر من 1000 رطل من الرؤوس الحربية المتفجرة، لكانت قد دمرت ما بين 20 إلى 30 طائرة، وكانت ستقتل ما بين 100 إلى 150 جنديًا، كما أشار الجنرال الأمريكي فرانك ماكنزي لاحقًا، قبل أن يصبح أي إجلاء ممكنًا. .

علاوة على ذلك هنالك التحالف الذي تقيمه إيران مع منظمة التعاون في شنغهاي وسوف تساعد عملية شنغهاي (OCS) ومجموعة البريكس الجمهورية الإسلامية على أن تصبح مستقلة وتجعل العقوبات الأمريكية الصارمة لاغية وباطلة أو على الأقل تقلل من تأثيرها. ولهذا السبب فإن إيران هي الهدف المفضل للغرب.

ومع ذلك، فإن الهجوم على إيران لا ينبع من الغرب. وتستخدم الدول العربية الغنية بالنفط، والتي تعاونت بشكل كامل مع الدول الغربية لتأجيج الاضطرابات، ثرواتها لدعم وسائل الإعلام والشبكات الاجتماعية الناطقة بالفارسية ذات الميول الغربية ضد إيران.

إن ما يحدث في إيران لا ينفصل عما قاله ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 3 مايو/أيار 2017: "لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل على أن يتعاملوا (المسؤولون الإيرانيون) مع الصراع داخل إيران. وكانت الرياض تخطط باللجوء، بالتعاون مع أجهزة التجسس الغربية والموساد، إلى كل الحيل والمكائد لزعزعة استقرار إيران، على غرار ما فعلته في الماضي بدعم إرهابيي داعش» بالإضافة إلى ذلك، تستهدف وسائل الإعلام التابعة للنظام السعودي الشباب الإيراني. وفي الوقت نفسه، يعملون على تشويه صورة إيران والإشارة إلى أن جميع الإيرانيين ضد قادتهم والنظام الإسلامي. لا شيء يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة. وليس من المستغرب أن توقف المملكة العربية السعودية الآن محادثات تخفيف التوترات مع إيران في بغداد بعد خمس جولات جارية منذ أبريل 2021. هذه المؤامرة، التي تم تنسيقها بعناية من قبل الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين لزعزعة استقرار إيران، تم التخطيط لها رسميًا بينما كان الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن لا يزال نائبًا للرئيس. لكن هذا المخطط المتأزم تغير اليوم وتصالحت المملكة العربية السعودية مع إيران وتطبعت العلاقات بين البلدين ونشأ مناخ جديد من التعاون والتنسيق بين الدولتين.

وفي بلدان أخرى، ولسنوات عديدة، تعاونت هذه الدول معًا لتعبئة الرأي العام المعادي للسياسات الإيرانية، واستهداف جمهور من الأقليات غير الفارسية في إيران. وشاركت في هذه الحملة مراكز بحثية إعلامية غربية رائدة وقطاعات من الشتات الإيراني.

تم تمويل البرامج التليفزيونية والإذاعية بالإضافة إلى المواقع الإلكترونية باللغات العربية والإنجليزية والفارسية لتقديم الاضطرابات على أنها "انتفاضة" في جميع أنحاء البلاد. وركزت وسائل الإعلام على مثيري الشغب المدعومين من الخارج، بينما تجاهلت ملايين الإيرانيين الذين تدفقوا إلى الشوارع لدعم قادتهم.

تم إنشاء منصات التواصل الاجتماعي لتغذية حملة التضليل والدعاية. وتم إنشاء مركز للدراسات والبحوث الخاصة بالشؤون الإيرانية لنفس الغرض، وتم إطلاق قناة إخبارية باللغة الفارسية لبث الأخبار على مدار 24 ساعة يوميًا تستهدف الشباب الإيراني.

ولا يفوت المحللون الغربيون أي فرصة للحديث عن «نشاطات إيران الخبيثة في الشرق الأوسط» من دون تحديد نوع الأنشطة التي يشيرون إليها. وهذه في الواقع إشارة إلى "محور المقاومة" الذي يمثل خط دفاع عن إيران وتحدياً للهيمنة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي غير القانوني لفلسطين.

لقد تبين مؤخرًا أن العديد من الاتجاهات على وسائل التواصل الاجتماعي منظمة للغاية لغسل أدمغة الرأي العام. شجعت حملات مثل "تخيل لو كانت هذه إيران" نشطاء مراكز الأبحاث والفنانين على المشاركة بالصور ومقاطع الفيديو والنصوص لرفع مستوى الوعي "بالمستقبل في إيران" وتسليط الضوء على رغبة المجتمع في "التغيير" إذا كانت الحكومة الحالية " أطيح بها".

ليس من المستغرب أن نرى العديد من الناس في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الإيرانيون، يسقطون في هذا الفخ الشرير المتمثل في الدعاية القوية المدمرة التي تهدف إلى إحداث "تغيير النظام" في إيران.

حتى أن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو وقع ضحية رواية كاذبة لفقتها وسائل الإعلام الغربية حول "الحكم على 15 ألف متظاهر بالإعدام" في إيران، لكنه قام لاحقًا بحذف تغريدته المتهورة والمحرجة.

وينبغي على طهران أن تتوقع عقوبات أكثر صرامة ومحاولات أكثر عدوانية للإطاحة بالجمهورية الإسلامية منذ أن انتهت المحاولة الأخيرة بالفشل. تستمر محاولات تشويه صورة جمهورية إيران الإسلامية، ومن غير المرجح أن تتوقف طالما أن البلاد واقفة على قدميها. وفي النهاية، الحق يبقى والباطل يختفي.

كتب أليستر كروك في الميادين:

إن المشاعر الإسرائيلية الشعبية -حتى بين الليبراليين السابقين- تتجه نحو نكبة كبرى. غزة تتعرض لضغوط من أجل النكبة. وينطبق الشيء نفسه على الضفة الغربية، حيث يتصاعد عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين. وحتى "الليبرالي" مثل زعيم المعارضة السابق لابيد، يعترف اليوم بأن "مستوطني" الضفة الغربية المحتلة ليسوا "مستوطنين" على الإطلاق، لأن الأرض ملكهم وهم ليسوا سوى "مستوطنين" في أرض إسرائيل التوراتية".

وتمتد «أطماع» النكبة أيضاً إلى جنوب لبنان (حتى نهر الليطاني). ويقول أعضاء متشددون في حكومة نتنياهو إن الإسرائيليين لن يعودوا أبدا إلى الكيبوتسات المتاخمة للبنان دون انسحاب حزب الله من المنطقة الحدودية. ولذلك يُطلب من "إسرائيل" أن "تأخذ" من أراضي لبنان إلى نهر الليطاني (مصدر مياه أساسي) - و"كما لو كان بالصدفة"، بدأ سلاح الجو الإسرائيلي العمل على مسافة تصل إلى 40 كيلومتراً داخل لبنان. ويتحدث أعضاء مجلس الوزراء الآن بصراحة عن ضرورة تحول الجيش الإسرائيلي إلى حزب الله بمجرد "القضاء" على حماس.

ومن الواضح أن البيت الأبيض يحاول تجنب هذا الانزلاق نحو حرب إقليمية شاملة، لكن الجبهتين اللبنانية والعراقية تشتعلان: يوم الأحد، أطلقت الفصائل العراقية المسلحة مرة أخرى صواريخها على قاعدة الشدادي الأمريكية. وتنظر "إسرائيل" إلى الأزمة الحالية باعتبارها خطراً وجودياً، ولكنها أيضاً "فرصة" ــ أي فرصة لإقامة "إسرائيل الكبرى" على "أراضيها التوراتية" في الأمد البعيد. ليس هناك خطأ، هذا هو الاتجاه الذي تسلكه المشاعر الإسرائيلية الشعبية، سواء على اليسار أو على اليمين، نحو الأخروية الدموية.

وكما أشارت وسائل إعلام عديدة إلى أن، الرئيس جو بايدن أيّد استراتيجية النكبة الإسرائيلية قبل أن يضطر إلى التراجع وصرّح في 12 أكتوبر 2023: تعمل الولايات المتحدة بنشاط على إنشاء ممر آمن للمدنيين في غزة: قال البيت الأبيض يوم الأربعاء إن الولايات المتحدة تجري محادثات نشطة مع إسرائيل ومصر لإنشاء ممرات “ممر آمن” للمدنيين في غزة هربا من الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة، في ظل التخطيط لهجوم بري متوقع في القطاع المحاصر جنوب قطاع غزة المحتل المحاذي للحدود المصرية.

وأضاف: “نحن نناقش هذا الأمر بنشاط مع نظيرينا الإسرائيليين والمصريين، ونحن نؤيد توفير ممرات آمنة للمدنيين. المدنيون ليسوا مسؤولين عما فعلته حماس. وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي للصحفيين في البيت الأبيض: “المدنيين في غزة لم يرتكبوا أي خطأ”.“نحن نعمل بنشاط على هذه القضية مع زملاؤنا المصريين والإسرائيليين. وأضاف أن المدنيين محميون بموجب قوانين النزاعات المسلحة ويجب منحهم كل الفرص لتجنب القتال. بينما تواصل إسرائيل دفع سكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة نحو الحدود المصرية: إسرائيل تسقط منشورات تحذر الناس من الفرار من البلدات في جنوب غزة – كما جاء في صحيفة الغارديان – 16 نوفمبر 2023. لقد أسقطت إسرائيل منشورات في جنوب قطاع غزة تحث المدنيين الفلسطينيين على مغادرة أربع بلدات شرق خان يونس، مما أثار مخاوف من أن حربها ضد حماس قد تمتد إلى المناطق التي سبق أن أعلنت أنها آمنة. وقال سكان لرويترز إن المنشورات أبلغت المدنيين في بني شهيلة وخزاعة وعبسان والقرارة أن أي شخص يقترب من المتشددين أو مواقعهم "يعرض حياتهم للخطر".

وقال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك إنه بعد مرور خمسة أسابيع على الحرب، بدا أن "تفشي الأمراض المعدية والمجاعة على نطاق واسع" أمر لا مفر منه في الأراضي الفلسطينية المكتظة بالسكان. وتوقع عواقب كارثية في حالة نقص الوقود، بما في ذلك انهيار أنظمة الصرف الصحي والرعاية الصحية، فضلا عن انتهاء المساعدات الإنسانية الشحيحة بالفعل.

وسيتم استخدام البؤس المتعمد للضغط على مصر والدول الأخرى لفتح حدودها أمام اللاجئين. وسيتم بعد ذلك تطبيق نفس الطريقة في الضفة الغربية. أما جنوب لبنان، عند منبع نهر الليطاني، فسوف يكون أكثر صعوبة، وذلك لأن حزب الله، بمجرد مهاجمته، سوف يشكل خطراً وجودياً حقيقياً على إسرائيل. وستكون الحيلة هي أن نطلب من الولايات المتحدة القيام بالعمل القذر. ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد، لأن بعض المستوطنين المتطرفين يريدون المزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية:

ما هي حدود هذه الأمة اليهودية؟

حدود الوطن اليهودي هي نهر الفرات إلى النيل. [وهذا يشمل أراضي العديد من دول الشرق الأوسط بالإضافة إلى الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل اليوم].

لقد أصبح الشعار الفلسطيني مثيراً للجدل إلى حد كبير: "من النهر إلى البحر"، أي من الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. وهو أمر مثير للجدل لأنه سيشمل جميع الأراضي التي تشكل إسرائيل حاليا. لكنك تقول "من النهر إلى البحر على لسان الإسرائيليين فهذا مسموح به ومقبول ...".

ما هو المثير للجدل؟

يستخدم الفلسطينيون أحيانًا شعار "من النهر إلى البحر". لكن ما تقوله هو أن وطن اليهود يمتد من نهر الفرات إلى نهر النيل، فهذا أمر طبيعي في نظر القادة الغربيين وأغلبية الشعب الإسرائيلي ويهود المهجر؟

إذا قرر شخص ما أن يخترع دينًا جديدًا اليوم، فمن سيضع القواعد؟ "الأمة الأولى التي قبلت كلمة الله، ووعد الله – الأمة الأولى هي التي لها الحق في ذلك. أما الآخرون – المسيحية والإسلام فيتبعونهم، بمطالبهم وتصوراتهم – فلا يقلدون إلا ما هو موجود بالفعل. فلماذا الإصرار في العيش في إسرائيل؟ يمكنهم العيش في أي مكان آخر في العالم. لقد جاءوا بعدنا بكل معنى الكلمة. إنها حرب يشنها عدد كبير من المؤمنين بدين واحد ضد جميع الديانات الأخرى.

***

...........................

Les deux guerres de l’Occident

بقلم مانليو دينوتشي Manlio Dinucci (نوفمبر 2023) ومون أوف ألاباما (استعراض صحفي: لو ساكر الفرانكوفونية - 18 نوفمبر 2023)* وإيليا ج. ماغنييه (23 أكتوبر 2023)*

ترجمة: دانيال ج.

* إيليا ج. ماغنيير هو مراسل حربي مخضرم ومحلل للمخاطر السياسية يتمتع بخبرة تمتد لعقود من الزمن في منطقة غرب آسيا.

ملخص موجز عن تقرير الصحافة العالمية Grandangolo يوم الجمعة 10 نوفمبر 2023 الساعة 9:30 مساءً على القناة الإيطالية 262 Byoblu (النسخة الأصلية بالإيطالية - فيديو) - ترجمة: ماري أنج باتريزيو

*المصدر: www.emagnier.com

*المصدر: Mondialisation.ca

في زيارة كتب لها النجاح منذ اللحظة الاولى من وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى \دولة الامارات العربية المتحدة، وأستقباله على أعلى مستوى بشخص رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل النهيان، وكانت مجرد بداية لسلسلة لقاءات بين رئيس الدولة الروسية ونظرائه من دول الشرق الأوسط، ذات أجندة غنية ومهمة، ولكن من بين أمور أخرى، فإن الزيارة أظهر فيها الرئيس بوتين للغرب عدم جدوى محاولاته لعزل روسيا، ووصف مساعد الرئيس الروسي للسياسة الخارجية، يوري أوشاكوف، هذه الاتصالات بأنها “وثيقة الصلة للغاية ومهمة للغاية”. وليس هناك شك في ذلك.

 وعلى خلفية العقوبات الغربية، أصبحت الدول العربية في الخليج شركاء اقتصاديين مهمين لموسكو، وهكذا ارتفع حجم التبادل التجاري بين روسيا والإمارات عام 2022 بنسبة 68%، ليصل إلى مستوى قياسي قدره 9 مليارات دولار، وفي الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري - بنسبة 63%، ليتجاوز 8.8 مليار دولار، أما مؤشرات التجارة مع السعودية فهي أكثر تواضعا - وهو بزيادة قدرها 4.8% في الفترة من يناير إلى سبتمبر 2023، لتصل إلى 1.35 مليار دولار، ومع ذلك، تعمل موسكو، على سبيل المثال، على زيادة إمدادات القمح إلى المملكة: ففي العام الماضي زودت روسيا السعوديين بكمية قياسية بلغت 1.8 مليون طن.

 هناك جانب آخر مثير للاهتمام في تعاون روسيا الأخير مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وهو توريد النفط والمنتجات النفطية الروسية إلى هذه الدول، وعلى الرغم من أن كلا البلدين ظلا في نهاية عام 2022 رائدتين في إنتاج النفط (وفقًا لمنظمة أوبك، تحتل الإمارات المركز السادس عالميًا، والمملكة العربية السعودية في المركز الثاني)، إلا أن ذلك لم يمنعهما من شراء الذهب الأسود الروسي بخصومات جيدة، كقاعدة عامة، يتم إعادة تصدير النفط الخام الذي تم شراؤه بسعر مخفض من روسيا، وتستخدم المنتجات البترولية لتلبية الاحتياجات المحلية.

 اللقاءات التي اجراها الرئيس الروسي مع قادة الامارات، ومن ثم مع ولي العهد السعودي الشيخ محمد بن سلمان، وأكتمل الماراثون الدبلوماسي، بلقاء بوتين وأجراءه محادثات مع نظيره الإيراني ابراهيم رئيسي في موسكو، لقاءات في بادئ ذي بدء، حدثت في وقت مثير للغاية - خلال فترة الإرهاق والانزعاج في الشرق الأوسط تجاه الأمريكيين -، خاصة بعد أن اتخذت الولايات المتحدة وأوروبا موقفًا مؤيدًا تمامًا " لإسرائيل " في الصراع بين تل أبيب وحماس، ذلك الموقف الذي وصفه وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، بأن "النهج الانتقائي الذي شهدناه في تطبيق المعايير القانونية والأخلاقية الدولية، فضلا عن تجاهل الجرائم البشعة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين العزل، أثار غضب العالم الإسلامي والعربي".

 إن بوتن، بنهجه المتوازن، لا يستحق إلا الاحترام، بهذه الكلمات أجمع من شهد أو حضر لقاءات الرئيس الروسي مع المسئولين في هذه الدول، وقد انعكست هذه الاجواء على مستوى اللقاءات التي جرت جميعها على أعلى المستويات، وهذا يعني عدم الوقفة الاحتجاجية طوال الليل لعقد اجتماع مع رئيس الدولة (وهو ما شهده وزير الخارجية أنتوني بلينكن في المملكة العربية السعودية)، وعدم الانتظار على متن الطائرة حتى يتنازل شخص ما للقاء الضيف المميز عند سلم الطائرة، وهو ماحدث (للرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير في قطر).

 وفي الواقع، لم تكن الأوضاع في غزة، وحدها من تسيدت مباحثات بوتين في الاجتماعات الثلاثة، حيث تقع هذه الدول الثلاث في منطقة يستمر فيها الصراع بين " إسرائيل " وفلسطين، وهي مستمرة – ولديها كل الفرص للتوسع في بلدان أخرى، وأكدت المباحثات أن إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ليست مهتمة بحرب كبيرة، تمامًا مثل روسيا، لذلك ناقش بوتين مع قيادة هذه الدول كيفية تجنب هذا السيناريو، وأشارت إيلينا سوبونينا، عالمة السياسة الدولية وخبيرة RIAC، لصحيفة VZGLYAD، الى انه يمكن لموسكو أن تعمل كوسيط جديد في إنهاء الأعمال العدائية، في حين كتبت صحيفة تايمز أوف "إسرائيل“، إن" الزيارة جاءت في وقت تريد فيه روسيا تعزيز دورها كوسيط قوي في صراع الشرق الأوسط” علاوة على ذلك، ينبغي تعزيزها في وقت فشل فيه الوسيط السابق.

 و“ حماس "، التي تعتبرها معظم الدول الغربية جماعة إرهابية، لديها علاقات جيدة مع روسيا وزار وفدها مؤخرا موسكو، ولم تتمكن قطر، التي اعتمد عليها الغرب كمفاوض مع حماس، من إيجاد الأساس لمزيد من تبادل الرهائن بين " إسرائيل " والجماعة الفلسطينية (وهو ما كان شرطاً مسبقاً لهدنة إنسانية ثانية)، لذلك، وبحسب صحيفة الغارديان البريطانية، ليس لدى بوتين ما يخسره بالتدخل الآن، وقالت " الأزمة هي فرصة لروسيا للعودة إلى السياسة العالمية، وتقديم نفسها كبطل غير متوقع لحل متعدد الأطراف للوضع في الشرق الأوسط، والمنطقة بحاجة لمثل هؤلاء الأبطال "، وإن التجارب السابقة أثبتت  إن الشرق الأوسط الغارق في الصراعات، وبدون مساعدة روسيا الاتحادية والصين لا يمكن حلها، ولا يمكن الاعتماد على الدول التي تم الاعتماد عليها في الحرب - سواء في أوكرانيا أو في فلسطين.

 وبالطبع كان الموضوع الثاني هو النفط، فهناك العديد من المواضيع هنا، أولا وقبل كل شيء، مصير اتفاق أوبك+، وهنا كانت الزيارة مناسبة للإجابة على سؤال استراتيجي، هو ما الذي ستفعله أوبك+ بعد ذلك؟ ففي نهاية المطاف، بينما يعمل على خفض الإنتاج، والحفاظ على الأسعار مرتفعة، تستفيد بلدان أخرى من ذلك وتزيد الإنتاج، وتأخذ مكان في السوق، وبناء على ذلك، يتعين عليهم (الامارات والسعودية و السعودية وايران) أن تقرر ما إذا كانوا سيواصلون خفض الإنتاج أو تغير موقفها بطريقة أو بأخرى، وبالنسبة لإيران فانه تمت مناقشة مسألة حصص الإنتاج لإيران بشكل منفصل، حيث صرحت طهران " أنها تعتزم في عام 2024 الوصول إلى حجم إنتاج وصادرات النفط قبل الأزمة "، وهي الآن لا تخضع لحصة الإنتاج، لأنها تخضع للعقوبات، ولكن إذا وصل الإنتاج إلى مستوى ما قبل العقوبات، فربما حان الوقت لفرض قيود عليه، كما هو الحال بالنسبة لأي بلد آخر، علاوة على ذلك، وطرحت القيادة الروسية مع الرئيس الإيراني في موسكو هذه القضية أيضًا.

 أما الموضوع الثالث هو بالتأكيد البريكس، فقد اجتمع الرئيس بوتين مع رؤساء الدول الذين من المتوقع أن ينضموا اعتبارًا من 1 يناير 2024 إلى البريكس (حيث ستكون روسيا رئيسًا مع بداية العام الجديد)، في وقت تقدم مجموعة البريكس وجهة نظر بديلة لكيفية هيكلة السياسة الدولية، تتحد الدول الأعضاء في المنظمة بالرغبة في التخلص من الهيمنة الأمريكية، وكذلك خلق نوع من الاتحاد من التفاهم المتبادل مع الآخرين الذين تخلصوا منها و"تطوير التعاون الاقتصادي والتفاعل التجاري".

 إن رحلة بوتين إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية كانت واحدة من أهم مرحلة في تطوير العلاقات بينهما، في الوقت نفسه باتت دليل للغرب على عدم جدوى محاولاته لعزل روسيا، وتقول بلومبيرغ بسخط: "تظهر هذه الزيارة ثقة بوتين المتزايدة في قدرته على السفر خارج روسيا، على الرغم من كل الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة وأوروبا لعزله على المسرح العالمي".

 الزيارة الرئيس بوتين للمنطقة بحد ذاتها، وكما أجمع المراقبين، بأنها منحت الرئيس الروسي بإيجاد لغة مشتركة مع محاوريه في المنطقة، في ظل عالم يتغير، والعولمة البدائية أصبحت بالية، ولم تعد الأساس الذي لا يتزعزع لـ "السياسة وفقًا للقواعد"، ويتم إنشاء أسس الجديد من خلال الابتعاد عن المركزية الغربية، وأكدت إن التوجه نحو الشرق يعني بناء مراكز نفوذ جديدة، ولا تحتاج العديد من البلدان إلى الابتعاد عن الدولار فحسب، بل تحتاج أيضاً إلى إنشاء بنية تحتية تجارية واسعة النطاق خاصة بها، وهكذا، فقد ضربت الصين بالفعل مثل هذا المثال من خلال بدء التداول في العقود الآجلة للنفط في بورصة شنغهاي.

 كانت الجولة الخاطفة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية لمدة يوم واحد بمثابة مفاجأة للكثيرين، لكن، وبحسب المراقبين، تبدو الزيارة منطقية تماماً، فبالنسبة للكرملين، الذي يخضع لعقوبات غربية، أصبح الشركاء الشرقيون ذوو أهمية متزايدة، وفي المقابل، بالنسبة لدول الخليج العربي، فإن التفاعل مع الجانب الروسي يمثل فرصة لاتباع سياسة متوازنة مستقلة عن موسكو أو واشنطن، خصوصا وان روسيا تسعى جاهدة لتحقيق شيء آخر، وهو ما أكده بوتين، "نريد إنشاء نموذج جديد، نموذج ديمقراطي حقًا، حيث تتولى المنافسة الحقيقية والعادلة لجميع المشاركين في النشاط الاقتصادي زمام الأمور"، حيث تكون المنافسة الحقيقية عادلة بين جميع المشاركين في النشاط الاقتصادي. يتم احترام آراء وتقاليد الجميع.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

يخطئ من يعتقد أن طبيعة التطورات في قطاع غزة تختصر القضية الفلسطينية، لأن الأمر يتعلق بدولة بكل أركانها، التراب الإقليمي، الشعب، والسلطة السياسية الموحدة وليس في مجرد تسوية حياة بضع آلاف من المواطنين يريدون لقمة العيش في سلام.

لغة السلاح في عقيدة الكيان الإسرائيلي المحتل هي في حقيقتها الثابتة ورقة ضغط هامة لأنها تمنحه إمكانية التلويح بها  في كل مناسبة والتهديد بها في كل موقف لإرهاب وتخويف خصومه والتأثير على مواقفهم لتغيير طبيعة الواقع مهما كانت إفرازاته، ومن أجل هذا تضمن له عدد من القوى الكبرى تمتعه بمستوى عالي من التفوق العسكري على جميع الجيران العرب لفرض الوجود بالقوة المسلحة، ولا بأس إن امتدت مظاهر الحياة العسكرية في الثكنات إلى كل مجالات الحياة في المجتمع كله وصار مجتمعا عسكريا يجند النساء ليمثلن الاحتياطي العسكري الاستراتيجي للكيان من منطلق ضمان الجاهزية القتالية والتوثب الدائم وأن السلاح الحديث في اليد هو صمام الأمان لضمان حياتهم، ووجودهم مرتبط به، فبالسلاح يتعامل الكيان الصهيوني مع الواقع من خلال إعادة تشكيله وفق تصوراته وبما يحقق له أطماعه في الاحتلال والتوسع، فوجود الكيان الإسرائيلي في قلب الوطن العربي هو لأمر أدركناه منذ عشرات السنين، وما زالت الأيام تحمل الخطوب التي تؤكده لكل الأجيال أنه وسيلة وغاية،هو موطأ قدم للقوى الكبرى في إطار سياسة التطويق والحصار، وغاية تفرضها استراتيجية تأثير التواجد الغربي بالقرب من مراكز صنع القرار العربي، وعليه يتم الإيعاز بأن بقاء الوجود الإسرائيلي ضرورة دولية ولو على حساب مستقبل الدول العربية ومصير شعوبها .إن من لا ثقافة سياسية له يجد في العنف وسيلته لتحقيق هدفه.

أما المنطق السياسي فإنه يتعامل مع الواقع حسب معطياته وليس بما يجب أن يكون عليه، وهذا الواقع هو دائما في حالة تغير مستمر، لذا لا يوجد ما يمكن وصفه بالمطلق في الواقع السياسي، ومن هنا كانت كيفية إدارة الواقع هي منبع وجود مناهج سياسية متعددة ومختلفة في العالم، وهذا في حد ذاته عمل حرفي ومهنية تستند إلى علم حديث ومعرفة واسعة وخبرة حياتية مكتسبة ودهاء حميد مصحوب باستخدام القوة واللجوء إلى الحيلة، ويساعد تحليل منطق التوظيف السياسي لمعطيات الواقع في فهم قواعد اللّعبة التي تستقر أو تنتظم من حولها مسألة التبادل في المجتمعات الديمقراطية، لأنها تفيد في إعطاء نظرة أولية حول ديناميكيات المنافسة السياسية وبلوغ هدف التّسويات السلمية الدائمة بين الأطراف والخصوم في القضية السياسية في مختلف مستوياتها ممن خلال الحوار الواعي والناضج، والمفاوضات السياسية المسؤولة .

يخوض قطاع غزة حاليا صراعا دمويا مع قوات الاحتلال و يعاني أهله وضعا مأساويا يحمل نذر الكارثة الحياتية بعد فرض سلطات الاحتلال اجراءات تهجير أهله من منازلهم في المناطق الشمالية نحو المناطق الجنوبية من غزة وتعرضهم لخطر الموت في العراء جوعا وعطشا وبردا وقتلا، هذا هو منطق العنف ولغة سلاح العدو المحتل لتثبيط العزائم ثم كسر الإرادة في استمرار المقاومة، وفي المقابل تأمل الشعوب المحبة للعدل والسلام أن تلقى دعوتها من أجل حل القضية الفلسطينية حلا سلميا بالمفاوضات استجابة فورية من جانب سلطات الاحتلال لحقن الدماء ووقف نزيف الدم من الجانبين، ولكن معطيات الواقع تعطي مؤشرات على عدم وجود استعداد اسرائيلي لوقف إطلاق النار وهي بهذا تضع نفسها في موقف تحدي المجتمع الدولي ودعوات السلام، هذا هو طبع المحتل، طبع قبيح مهما تجمّل، جبان مهما أظهر من شجاعة مصطنعة .

وفي المقابل حققت المقاومة الفلسطينية مكاسب عديدة حيث تفهّمت شعوب العالم موقفها واستوعبت أبعاد قضيتها، بعدما شاهدت وتأثرت بمناظر العنف والوحشية في القتل والتخريب والهدم، ولكنها في ذات الوقت فندت ذات المناظر افتراءات واتهامات سلطات الاحتلال ضد المقاومة، فكم تساوي عيون الفتاة الإسرائيلية"مايا " المفعمة بالامتنان والتقدير لعنصر المقاومة عند وداعه بنظرات الحب والاحترام، وكم تساوي تلويحة الوداع المتبادلة بين الأسيرات الاسرائيليات وعناصر المقاومة، وكم تساوي مشاهد الفتيات الإسرائيليات في كامل أناقتهن وزينتهن وهدوئن في طريقهن لركوب سيارات الصليب الأحمر، كم يساوي حمل عنصر المقاومة بكل لطف تلك المرأة المسنةإلى السيارة، وغيره الكثير، وللأسف كان حال الأسرى الفلسطينيين مثيرا للشفقة وقد بدت علامات التعنيف تعلو الوجوه، وسمع العالم كله الشهادات حول تعرضهم لكل أشكال الإهانة والمهانة للنيل من كرامة الأسيرات الفلسطينيات والشباب صغير السن.

مصير غزة الآن بين قوة السلاح بيد سلطة احتلال مجنونة، وبين دعوات متحضرة لتغليب لغة الحوار لإيجاد حل سياسي بالوسائل السلمية للقضية الفلسطينية وفق مبدأ حل الدولتين، جنون إسرائيل يعميها عن رؤية الحق ويحجب عنها حقائق التاريخ وأسرار الجغرافيا.

***

صبحة بغورة

 

في الأيام الماضية تصدر خبر محاولات إسرائيل المستمرة إجبار الفلسطينيين بقطاع غزة على النزوح والفرار تجاه مصر، تمهيداً لتوطينهم في سيناء، والذي تنبأ به "معمر القذافي" قبل أن يرحل وكأنه يجلس بيننا اليوم حيث قال بأن " هدف إسرائيل في النهاية مصر .. فهي أكبر دولة تشكل خطر على الكيان الصهيوني مصر.. وبالتالي يحطموا أركان مصر ويضعفوا الأمة العربية حتى تُقدم مصر على طبق من ذهب للإسرائيليين وتقام دولتهم من الفرات إلى النيل "؛ أي ما بعد غزة ستأتي مصر، ثم يأتي ما بعد بعد مصر، فمخطط إسرائيل تتضح معالمه سريعا، فلا هجوم طوفان الأقصى المباغت كان السبب، ولا هناك فكرة جديدة خرجت برأس نتنياهو اليوم، ولكن المشروع قد وضع منذ زمن، وهذا هو الوقت المناسب، حيث الفلسطينيون إلى سيناء ثم سنلحق بهم إلي هناك لنأخذ بعض من أراضي المحروسة، ونصفي القضية ونصفي معها درع مصر الواقي .

ولكن كيف تبدأ لحظة التنفيذ ؟ .. والإجابة تبدأ من عملية طوفان الأقصى، حيث أخذت إسرائيل أخرجت خططها من الأدراج المغلقة، فخرج نتنياهو أمام العالم كله ليقول "أن ما حدث سيغير الشرق الأوسط"، وذلك في إشارة لتغير موازين القوة والسيطرة في المنطقة، والجيش الإسرائيلي وعلى لسان أحد المتحدثين باسمه، قال لسكان غزة بأن "معبر رفح لا يزال يعمل،اتجهوا إلى مصر"، وذلك في إطار دعوة رسمية لتهجير الفلسطينيين من أرضهم من جديد.

بيد أن مصر رفضت الفكرة بشكل مباشر، وقالت على لسان الرئيس " عبد الفتاح السيسي" بأن " أي عملية تهجير تصفية للقضية الفلسطينية وأن القاهرة لن توافق على مثل هذه العملية" "، وهنا أخذت عملية التهجير أضحت تمثل ملفا ساخنا، ومعها أخذت إشارات الاستفهام، فهل يُعقل أن تفكر إسرائيل بخطة بهذه السرعة ؟، ولماذا تريد من الفلسطينيين ليتجهوا لسيناء بالتحديد؟

إن إسرائيل بكونها تعرضت لفضيحة في عملية طوفان الأقصى، كان الأهم لها أن ترد على الفصائل الفلسطينية على أرض المعركة، وهذا ما قاله الكثير من المحللين، لكنها بدلا من ذلك طرحت ملف التهجير لأكثر من مليوني فلسطيني، وكأنها تعيد رسم خارطتها من جديد، فهي تريد إشعال المنطقة مرة أخرى من خلال التخطيط لتهجير أهل غزة لسيناء.

فسيناء تمثل نقطة استراتيجية، فلطالما حلمت إسرائيل بأن تكون لها،وعلى الرغم من انسحابها منها قبل سنوات طويلة، لكنها اتفقت مع مصر على شروط معينة، بحيث لا تمثل سيناء أي خطر من الجيش المصري أو غيره .

فأصل الأطماع يبدأ من الانسحاب، ففي عام 1979م عندما وقعت القاهرة وتل أبيب على اتفاقية كامب ديفيد للسلام، حيث كانت سيناء واحدة من أهم نقاطها، حيث وافقت إسرائيل من سيناء البالغة أكثر من 60 ألف كيلو متر مربع، وتمثل 6% من كامل الأراضي المصرية، لكن بشروط، فسيناء ستقسم لثلاث مناطق : أ، ب، ج، وتلك المناطق تحدد تواجد المصري فيها، ففي المنطقة " أ " الممتدة من منطقة قناة السويس إلى خليج السويس، يُسمح لمصر بنشر 22 ألف جندي مع 230 دبابة، وفي المنطقة " ب" والتي تقه من ضمنها منطقة العريش، يُسمح لمصر بنشر 4 آلاف جندي من حرس الحدود فقط، وأما المنطقة " ج" والملاصقة للحدود مع غزو وإسرائيل، فُسمح لمصر بنشر شرطة مدنية فيها مع انتشار قوة من الأمم المتحدة المشتركة، ويضاف لها المنطقة " د"، والتي تقع داخل سيطرة إسرائيل، ويُسمح لتل أبيب بنشر 4 آلاف جندي أرض جو فقط.

ومنذ توقيع المعاهدة اُعتبرت المنطقة، منطقة حظر جوي، حيث لا يسمح للطرفين باستخدام الطائرات الحربية فيها، لكن تخلل الاتفاق بندا بنص على "التفاهم بين الطرفين عند الضرورة "، وعندما تُذكر جملة عند الضرورة، فاعلم أنها ستكرر كثيرا في المستقبل.

إن مصر قد اتفقت مع إسرائيل في عام 2021م على تعزيز قواتها في المنطقة " ب"، " ج"، وذلك لمحاربة الإرهاب في سيناء مع السماح للجيش المصري بتنفيذ غارات فيها ـ وبالمقابل حصلت إسرائيل على شبه ضوء أخضر لأي تسلل على حدودها بالطائرات الحربية، وتقول العديد من التقارير أن تل أبيب نفذت غارات في عمق سيناء خلال الحملة ضد الإرهاب فيها .

وقد يسالني الكثير من القراء الأعزاء هنا، وذلك لن تلك التفاصيل هو ما سوف تستغله إسرائيل للتمدد في سيناء، حيث حسب الأقاويل بأن تل أبيب تريد من مصر تهجير الفلسطينيين للمنطقة "ج"، والتي تنتشر فيها مجموعات من الجيش المصري بعد تعديل اتفاق 2021م، وفي ذات الوقت نُفذت فيها غارات من الجانبين تقريبا، والنقل سيكون من خلال تجمع خيام في البداية ثم تتحول إلى مدنا للاستقرار، وبطبيعة الحال سيتم تسلل مجموعات من الفصائل الفلسطينية إلى سيناء وهو ما تحدث عنه الرئيس " السيسي" بأن بلاده لن تقبل بأن تكون منطلقا لهجمات ضد إسرائيل والتي عادة ما ترد تل أبيب من مكان انطلاق الهجوم عليها .

وبذلك وفي حال وافقت مصر على التهجير، ونقل قطاع غزة لسيناء فإن إسرائيل أو بعد 50 عاما ستجد الحجة المناسبة للتدخل في سيناء، حيث ستعود لحجة محاربة الفصائل الفلسطينية والقضاء عليها ثم الهجوم البري الذي سيقضم سيناء شبرا شبرا حتى تعود لسيطرة إسرائيل وصولا لقناة السويس الاستراتيجية .

إن رفض مصر ليس حاليا بل بسبب حسابات المستقبل، فتمدد إسرائيل في سيناء حتى ولو بعد مدو طويلة سيكلف القاهرة الكثير، فهي ستقفد 6% من أراضيها وستصبح إسرائيل متذرعة بقناة السويس الفاصلة بين البر المصري وسيناء، كما ستعطل تل أبيب الحركة عبر قناة السويس وقد تطالب بإداراتها وربما توقيفها كما حدث من ذي قبل .

يضاف إلى ذلك معضلة وهي أن أكثر من 4 مليون مواطن مصري، و2 مليون فلسطيني في الوقت الحالي سيمونون في خطر وعرضة للنزوح والتهجير مما يُزيد الضغط على المدن المصرية كلها .

والسؤال الأكبر والذي يُطرح هنا : كيف استجمعت إسرائيل قوتها بسرعة وفكرت بتلك الخطة ؟، وهل يمكن أن تسمح من خلال غزوها البري لجنوب قطاع غزة بتهجير أهالي غزة؟، أم أنها تنتظر تلك اللحظة منذ سنوات، فهي اليوم تنقل الصراع من داخل حدود فلسطين إلى مصر وكأنها تقول للعرب نعم سأخرج خارج الحدود وسأحتل أرضكم وسأحقق ما أريد ؟ ـ بينما تقف مثر اليوم برفض قاطع وجدار من الجيش سيمنع أي تغير بالمنطقة، والعالم يشاهد قصف غزو لحظة بلحظة .. إن خطة إسرائيل بات مكشوفة، فهل ستتحقق أم أن القاهرة لها رأي آخر ؟

وفي اعتقادي أن القاهرة لها رأي آخر في حالة لو تم تهجير الفلسطينيين عنوة لسيناء بسبب الضغط المتزايد عليهم من قبل إسرائيل والمتمثل في الهجوم الكثيف على جنوب غزة، وهنا ستضطر مصر إلى الرضوخ لدخول الفلسطينيين لسيناء حتى لا يدخل الجيش المصري مواجهة مع الفلسطينيين بسبب التزاحم على أبواب رفح .

ولما كانت مصر قد أعلنت أن حدود سيناء خط أحمر، فهنا قد تلجأ القاهرة لتطبيق فكرة الخط الأحمر إلى الدخول في حرب مع تل أبيب ليس من خلال الجيش المصري، ولكن من خلال الحرب بالوكالة، فتلجأ لنفس السيناريو الذي تفعله أمريكا ضد الروس في أوكرانيا، حيث ستلجأ لتسليح ودعم حماس وكتائب القسام من الباطن لضرب العمق الإسرائيلي وإضعافها بكل ما أوتيت من قوة،وهنا ستضطر مصر إلى التحالف مع إيران وتركيا لمساعدتها في تطبيق هذا المخطط الذي كانت تميل إليه إيران وتطبقه من ذي قبل.

إن مصر لن تفكر أبدا في الدخول في حرب مباشرة وصدامية مع إسرائيل ولن تعادي أمريكا وأوروبا والتي تعلم جيدا أنها في حالة لو دخلت في حرب مباشرة مع إسرائيل ستكون هى الخاسرة، والرئيس السيسي يدرك ذلك جيدا، حيث لن يسمح بأن تذهب إنجازاته في بناء الدولة المصرية خلال السنوات الماضية أدراج الرياح، فهو يعلم حيدا أن إسرائيل دولة نووية، وفي حالة لو تفوق الجيش المصري في حرب معها ستضطر إسرائيل لاستخدام السلاح النووي، هذا ناهيك من أمريكا وأوروبا لن يسمحا لمصر بذلك، فكلاهما يدركان ذلك جيدا، بأن معادة واستفزاز مصر الآن سيحول المنطقة كلها لحرب إقليمية، وهذا يُخشى عقباه.. وللحديث بقية.

***

د. محمود محمد علي – كاتب مصري

.....................................

المراجع

1- قناة استيب: بعد غزة الدور على سيناء.. هكذا تريد إسرائيل أن يكون التهجير وهذا ما سيحدث!

 

الهجوم الذي اقدمت عليه حماس في السابع من اكتوبر الماضي سبب لأسرائيل وجع لا يمكن تجاوز آثاره بسهولة، فقد وضع الأمن الأسرائيلي والقدرات الأسرائيلية عموما في تساؤلات من الصعب الأجابة عليها، وممكن اختزالها بأسئلة سريعة: أين القبب الحديدية التي ترد الصواريخ على مطلقيها، وأين الجيش الذي لا يقهر، وأين الأمن الذي لا يخترق. أما التساؤلات التي تطال حماس فهي مختزلة بشدة في الآتي: هل كانت العملية جزء من استراتيجية واضحة لبلوغ الأهداف، ماذا ستجنيه حماس من العملية على مستويات المدى الأقرب والأبعد، أم أن ما جرى هو مجرد مشاغلة للعدو دون حساب لردود افعاله، ودون حساب أن حلفاء اسرائيل هم اكثر وضوحا في التحالف معها من حلفاء القضية الفلسطينية. وعلى مدار الصراع العربي ـ الأسرائيلي ومنذ العام 1948 تحولت القضية الفلسطينية على أيدي الحكام العرب والمتأسلمين الى مادة لتسويق الأجندة العقائدية وتجريدها من بعدها الأنساني، فتارة ارادها البعثيون ان تكون فلسطين بعثية وتارة اخرى ارادها القومجيون ان تكون قومية ثم ارادها الأسلامويون وفقا لسرديتهم المشوهة وبدون حل.

لا يمكن النظر الى العملية التي أقدمت عليها حركة حماس الأسلامية بأنها تعبير عن نهج حماس المتشدد فقط اتجاه أسرائيل فأن ذلك مجافي لأبسط قواعد الصراع مع اسرائيل وعنجهيتها خلال 75 عاما من الأحتلال وحرمانها لحقوق الشعب الفلسطيني في أقامة دولته المستقلة وفقا للشرعية الدولية والانسانية، ومن غير المقبول ان يكون شعبا محتلا ومحاصرا ومحروما من حقه في الحياة الحرة الكريمة أن يكون وديعا ومسالما مع من يغتصب أرضه، ولعل في تصريح الأمين العام للأمم المتحدة والذي اغضب اسرائيل" بأن عملية حماس في 7 أكتوبر لم تأتي من فراغ " أنه لخص ذلك لأطروحة سيكولوجية قوامها أن كل كبت مستديم واعادة انتاج الكبت عبر عقود يمكن له أن يعبر عن نفسه في احدى احتمالاته وهو " العدوان " والذي يسري على الأفراد والتجمعات والحركات، ومن هنا ومع طول أمد الكبت وعدم اشباع الحاجة الى وطن في ظل احتلال قاسي لا يمكن التنبؤ بطبيعة ردود الأفعال دفاعا عن النفس وعن البقاء.

أن المطالبة الغربية والأمريكية بشكل خاص بأدانة حماس بأعتبارها تنظيم ارهابي او حسب الرواية الأسرائيلية بأنها حركة داعشية هو أمر سقط في الحضيض بل وغبي وخاصة عندما نرى ردود الفعل الأسرائيلية على عملية طوفان الأقصى، كيف يمكن ان تكون ردود فعل بهذا الحجم المدمر في القتل والتشريد والخراب الشامل الذي ارتكبته في غزة بحق المدنيين والنساء والأطفال والبنية التحتية، فكيف يمكن تفسيره بغير ارهاب الدولة ذلك وهي تدعى أنها" دولة " وهي لا تقاتل دولة بل فصائل مسلحة. أن تهمة ألصاق الداعشية بحماس هي محاولة لأستجداء عطف العالم وحرف انظاره عن المأساة التي يرتكبها الأحتلال بجق الشعب الفلسطيني. فالداعشية تنطيم دولي متحرك لا ارض له يستقر عليها وهو يقاتل ويسبي في كل مكان تسنح له فرصة الأستيلاء عليها وهو يقتل ويحتل ويسبي اعراض وارض ومال المسلمين قبل غيرهم، اما حماس وبغض النظر عن اتفاقنا ام اختلافنا مع اجندتها العقائدية ومفهومها للصراع العربي او الفلسطيني ـ الأسرائيلي فهي جزء من مشروع المقاومة المشروعة ضد الأحتلال الأسرائيلي.

لا يمكن اقصاء حماس من منظومة التحرر الوطني الفلسطينية وأن ظروف ولادتها على الأرض الفلسطينية المغتصبة هي بدون شك تعبير حقيقي عن حالة الأحباط واليأس التي يمر بها الشعب الفلسطيني منذ عقود وخذلانه من حلفائه الذين يدعون نصرة قضيته او يعتبرونها قضيتهم الأولى الى جانب خذلان العالم له وفي مقدمتهم العالم الغربي وعلى رأسهم امريكا التي تخوض الحرب الآن مع اسرائيل متحالفة معها وتمنحها الضوء الأخضر بما تفعله مع بعض الأستثناءات الخجولة.

كل حركات التحرر ضد الأحتلال العربية منها وغير العربية في فترات الأحتلال المباشر وغير المباشر الفرنسية والبريطانية والعثمانية والأمريكية تشكل منظومات فكرية وعقائدية متنوعة من الأفكار والعقائد والأيديولوجيات والممارسات والتي تمتد بتصنيفاتها البنيوية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار وتلتقي جميعها عند هدف واحد هو تحرير الأرض المغتصبة من الأستعمار والأحتلال، ولنا في دروس الأحتلال من النضال في الجزائر وليبيا والعراق ومصر والمغرب وتونس وغيرها من بلدان العالم، فقد حضرت التيارات الدينية الأسلامية والمسيحية وغيرها كجزء من منظومة التحرر الوطني، وحكم على الكثير من قيادتها بالأرهاب وتم اعدامهم وتصفيتهم من قبل المحتل ولكن التاريح ينصفهم والشعوب كذلك بأعتبارهم رموز وطنية ضد المحتل والمغتصب للأرض.

أما ما بعد انجاز مرحلة التحرر الوطني والحصول على الأستقلال وعلى الأرض فأن الصراع ينتقل الى بناء شكل النظام السياسي وبناء الدولة وهويتها وتوجهاتها. لا أقول ان حماس تمثل البديل الأفضل للشعب الفلسطيني فهذا أمر يجافي الحقائق وحماس حالها حال الحركات والأنظمة الدينية المتأسلمة في المنطقة التي لا تمتلك مشروعا لبناء الدولة المدنية الحاضنة لكل التنوعات الفكرية والأيديولوجية والمذهبية كما ان موقفها من التعددية الجزبية وديمقراطية التدوال السلمي للسلطة هو موقف هش كما اكدت تجارب صراعها مع منظمة التحرير الفلسطينية.

ولاكن لا يمكن الأستهانة بحماس وتضحياتها وقدرة مقاتليها على التضحية والأستبسال بعيدا عن طبيعة ادارتها للصراع مع المحتل الأسرائيلي أو رؤيتها الأستراتيجية الشاملة للعمليات العسكرية التي تقوم بها من منظور الربح والخسارة ومديات الأقتراب في انجاز الهدف النهائي في التحرر والأستقلال، ولا اريد هنا شخصنة الصراع واعطائه صفة حماس ـ اسرائيل بل هو صراع كل الشعب الفلسطيني بأختلاف توجهاته مع المحتل الأسرائيلي.

أن الصراع الفلسطيني ـ الفلسطيني وحصرا منظمة التحرير ـ حماس هو من ساهم في اضعاف وحدة الصف الفلسطيني عالميا وقد راهن الأحتلال الأسرائيلي على تغذية هذا الصراع حتى انه في فترات سابقة دعم حماس لأغراض شق الصف الفلسطيني، الى جانب الأنظمة العربية والأسلامية فبعض منها مع حماس كما هي قطر وايران وتركيا¸ والبعض الآخر مترنح بين حماس ومنطمة التحرير، ولكن لايزال الحضور الدولي لمنظمة التحرير هو الأكثر وقعا بأعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية، وبالتالي فأن وجدة الصف الفلسطيني هي المطلب الأساسي لأدارة الصراع مع المحتل الأسرائيلي.

لقد حل بأسرائيل خراب غير قليل في بنيته التحتية وخسائر مادية وبشرية الى جانب اسقاط اسطورته الأمنية وتفوقه العسكري وقببه الحديدية واستنزاف للأقتصاد وهجرة معاكسة من اسرائيل الى أوربا وتداعي سمعتها يهوديا بأنها بلد الديمقراطية والأمن وخسائر تقدر بمجملها الآن 50 مليار دولار او اكثر الى جانب قتلى والذين بلغ عددهم في القوات الأسرائيلية اكثر من 410 قتيل وأسرى ومختطفين.

كما حل خراب شامل بغزة جراء القصف الوحشي الأسرائيلي أطال كامل البنية التحتية من مستشفيات ومدارس ومصانع وشبكات اتصال وتجمعات سكنية وقد بلغ عدد الضحايا ما يقابرب 17000 ضحية اغلبهم من النساء والأطفال وعدد الجرحى فاق ال 45000 واغلبها اعاقات مميتة الى جانب المأساة الهائلة لنزوح سكان قطاع عزة.

فهل يستطيع العالم الأستفادة من كل هذا في التفكير جديا في الضغط على الكيان الأسرائيلي للقبول بحل الدولتين كما نصت عليه القرارات الدولية ام يبقى شعار حل الدولتين مجرد شعار لتصريف الأزمة الحالية والعودة الى نقطة الصفر.

ان اكثر ما يلحق الضرر بالقضية الفلسطينة وتجريدها من مضمونها الأنساني هو أسلمة الصراع واضفاء البعد الديني عليه أو تهويده من الجانب الأسرائيلي وحلفائها، وبالتالي نحن كعرب ومسلمين او غيره سنفقد الشرعية في انهاء الأحتلال باعتبار ان قضية فلسطين هي قضية انسانية اولا وأخيرا، اما الأسرائيليون فهم يروجون لأطروحتهم المريضة مستفيدين من بعض سرديات المحارق " الهولوكوست " والأضطهاد التاريخي المفتعل، وكان تصريح وزير خارجية امريكا بلينكن عندما حضر لأسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى مباشرة بقوله " جئتكم يهوديا " هي دعوى صريحة لتهويد الصراع العربي ـ الأسرائيلي وتصوير اسرائيل بأنها الضحية والطرف الآخر هو الجلاد لا العكس !!!!.

***

د. عامر صالح

 

اكدت حرب غزة لمن كان يتوهم أن اسرائيل تسعى للسلام أنها الأكثر إرهابا وإجراما في تاريخ البشرية وأن إرهابها وإجرامها فاق جرائم النازيين ضد اليهود في الحرب العالمية الثانية، ولكن....

هل كانت حماس من خلال عملية طوفان الأقصى تسعى بالفعل لتحرير الأسرى أم أن هناك ما هو خفي في العملية وهل درس من اتخذ القرار ردود فعل العدو والعالم الخارجي أم كان يعتقد أن الصواريخ والأنفاق ومحور المقاومة ستحميه من إرهاب العدو ؟ وهل قرار بهذا الحجم يترك للعسكريين فقط أو كان بالأحرى مشاركة السياسيين والكل الوطني وخصوصا أن هناك اتفاق منذ سنوات بين جميع  الفصائل أن قرار الحرب والسلم لابد أن يكون بالتوافق الوطني؟

ومع احترامنا لتضحيات رجال المقاومة وشهداءها و لكل الأسرى هل كان تحريرهم يستحق دمارقطاع غزة واستشهاد حوالي ٢٠ ألف وجرح أضعاف ذلك واعتقال أكثر ممن تسعى حماس لتحريرهم؟

وهل لو سألنا الأسرى عن هذه الصفقة هل سيوافقوا عليها وبأي وجه سيقابلون أيتام وأرامل أهالي غزة؟

وأي انتصار تسعى له حركة حماس بعد كل ما جرى. وهل يمكن لحزب أن ينتصر على حساب تدمير وطن وتشريد شعب؟ وهل مجرد استمرارها تحكم غزة يعتبر نصرا؟

ألا تعرف حماس أن استمرارها في إطلاق الصواريخ التي لا تصيب مقتلا في العدو يعطي مبررا للعدو للاستمرار بجرائمه وحربه بذريعة استمرار تعرض مدنه للعدوان؟

ألا تخشى المقاومة كما نخشى جميعا من مخطط لتهجير قسري لسيناء ومن اتهامها بالتواطؤ في الموضوع؟ لقد  أثبتت هذه الحرب وهم محور المقاومة ووهم عالم عربي واسلامي يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني كما أكدت وهم الشرعية والقانون الدولي ، وما هو آت أعظم ، ويجب أن لا نستمع لتهريج فايز الدويري وقناة الجزيرة .

وسؤال أخير، كيف تتهم واشنطن وتل أبيب حماس بالإرهاب وتسعى لتصفية قياداتها في غزة بينما قياداتها الرئيسية تقيم في قطر وتصول وتجول في العالم بكل حرية؟!!!!

***

ا. د. ابراهيم ابراش

يستمد هذا السؤال مشروعيته وراهنيته من ثلاثة أمور؛ الأول هو حجم الكارثة وغزارة الدماء الفلسطينية المسفوكة من قبل ماكينة الحرب الصهيونية بالسلاح الأميركي، وثانيا من عراقة وقوة العلاقات التاريخية بين الدولتين والشعبين في روسيا الاتحادية والصين الشعبية والشعوب العربية وبخاصة مع الشعب الفلسطيني ومقاومته الوطنية طوال سنوات الصراع الدموي والحروب العدوانية التي شنتها هذه الدولة الأيديولوجية الخرافية الصهيونية على السكان الأصليين الفلسطينيين، وثالثاً من كون هاتين الدولتين هما عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي. وعليه، إن من حق الشعب الفلسطيني الأعزل أن يشعر بالخذلان ممن كان يعولهم عليهم ويعتبرهم أصدقاء ومساندين له لأنهم لم يقوموا بما يجب القيام به خلال محنته.

 نسجل منذ البداية أن موقف روسيا الاتحادية وجمهورية الصين الشعبية من العدوان الإبادي الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة هو موقف إيجابي ومنحاز للشعب الفلسطيني وقضيته ماضيا وحاضرا. ولكن، هل يمكن اعتبار التطبيقات العملية الدبلوماسية والسياسية لهذا الموقف هذه الأيام متناسبا مع حجم العدوان الصهيوني الأميركي الذي اتخذ طابعاً إبادياً عنصرياً صريحاً لا حدود لانتهاكاته وجرائمه وساديته؟ لقد قارب عدد القتلى المدنيين حرقاً بالقنابل والصواريخ الأميركية ستة عشر ألف قتيل، نصفهم تقريباً من الأطفال، وبمعدل طفل يقتل كل سبع دقائق، ودمرت أحياء بكاملها وبمن فيها من مدنيين، غير أنَّ مواقف الدولتين لم تتطور وتتصاعد بما يتناسب مع حجم المأساة الهائلة وغير المسبوقة لشعب يذبح جهاراً نهاراً وعبر البث التلفزيوني المباشر، وهذا هو الموضوع الذي سنتوقف عنده ناقدين ومعاتبين ومحذرين:

إن وقوف الأداء الدبلوماسي الروسي والصيني عند حدود متواضعة ولفظية مترددة تجاوزتها الأحداث المأساوية، وعدم تصاعده بما يتناسب مع تمادي العدوان الصهيوني وتحوله إلى عملية إبادة وتصفية عرقية لا يمكن تفسيره أو تبريره بعد الآن، وهو جدير بأن يلحق أفدح الضرر بالعلاقات بين الدولتين والعرب عموما والشعب الفلسطيني وقواه المقاومة خصوصا.

إننا ندرك أن روسيا الاتحادية اليوم ليست هي الاتحاد السوفيتي بالأمس، وخصوصاً في أيام الزعيم السوفيتي خروتشوف ورئيس وزرائه الباسل نيكولاي بولوغين صاحب الإنذار المعروف باسمه والذي وجهه للمعتدين البريطانيين والفرنسيين والإسرائيليين خلال العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأول سنة 1956، ونصه: "إذا لم يتوقف العدوان الغربي الإسرائيلي على مصر خلال أربع وعشرين ساعة فنحن مستعدون لإرسال قوات عسكرية إلى مصر لمواجهة المعتدين وسنمطر لندن بالصواريخ"؛ كما وندرك أن روسيا الاتحادية مستهدفة ومنشغلة في حربها الضروس المستمرة في أوكرانيا والتي تواجه فيها الغرب كله وتوابعه خارج القارة العجوز ولكن انشغالها هذا لا ينبغي أن يمنعها من القيام بواجب الصداقة نحو الشعب الفلسطيني النازف دما.

مثلما ندرك أن الصين الشعبية اليوم ليست هي صين ماو تسي تونغ والقيادات الثورية الأممية، وأن الصين نفسها مستهدفة من قبل الغرب على جميع الصعد الاقتصادية والأمنية والجيوسياسية وحتى في وحدة أراضيها الوطنية، ولكن هل يبرر لها ذلك هذا الأداء الباهت والمتردد والخجول منذ بداية العدوان؟  لقد التزمت الدبلوماسية الصينية الصمت لعدة أيام بعد بدء العدوان الصهيوني، لتخرج بعد ذلك بكلام باهت ومكرر ثم تراوحت مواقفها بين الصمت والكلام العام والإنشائي. لنقرأ ما قالته المتحدثة باسمها ماو نينغ ووانغ ون في الأيام الأولى للعدوان: "نحن نعارض التحرّكات التي تؤدّي إلى تصعيد الصراع وزعزعة استقرار المنطقة، ونأمل أن يتوقف القتال وأن يعود السلام قريباً. ويتعيّن على المجتمع الدولي أن يلعب دورا فعّالا للمساعدة بشكل مشترك في تهدئة الوضع". صحيح أنَّ الصين رفضت على لسان المتحدثة باسم الخارجية الصينية، إدانة الهجوم الذي نفذته المقاومة الفلسطينية في السابع من تشرين الأول، "مؤكدة مساندتها دائماً للإنصاف والعدالة"، ولكن هذا الرفض لا ينفي حدوث تراجع مهم قياسا إلى مواقف الصين المعهودة في الماضي.

وحتى حين، أعلنت وزارة الخارجية الصينية يوم السبت 14 تشرين الأول أن مبعوثها الخاص إلى الشرق الأوسط "تشاي جون" واجتمع هذا المبعوث يوم الجمعة 13 أكتوبر مع ممثلين عن جامعة الدول العربية في بكين بشأن ما سمته "الأزمة في قطاع غزة"، فهي لم تطور مبادرتها وترسل مبعوثها الى دول منطقة الصراع. ويبدو أن الرد الإسرائيلي المتشنج على التصريحات الصينية الهادئة منع الصين من تطوير مواقفها وحراكها الدبلوماسي. فردا على الموقف الصيني واجتماع المبعوث الخاص بممثلين عن الجامعة العربية، بادرت الخارجية الإسرائيلية، إلى الاتصال هاتفيا بالمبعوث الصيني إلى الشرق الأوسط وأبلغته "خيبة أملها الكبيرة"، إزاء عدم إدانة الصين وبشكل واضح لما وصفته بـ "المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها حماس". ومن الواضح أن رد الفعل الصهيوني هذا كان له تأثيره على الموقف الصيني، ويبدو أن الصين حجَّمت مهمة مبعوثها الخاص.

لقد تخلت الصين عن موقفها النقدي السابق من إسرائيل وحتى من حلفائها الغربيين، وسجل المراقبون تراجعا صينيا مؤسفا حتى عن مواقفها النقدية السابقة خلال معركة "سيف القدس" في أيار 2021، ولم يبدر منها أي موقف أو إجراء تضامني فعال سوى اشتراكها في التصويت إلى جانب مشاريع القرارات الروسية في مجلس الأمن.  والأكيد هو أن هذا التراجع لن يكون مستقبلا لمصلحة تطور العلاقات العربية الصينية، وإنه لا تنسجم مع مبادئ الصين الشعبية في التضامن الأممي وتحقيق العدالة والإنصاف ولن يخدم الصين ذاتها مستقبلا وهي المقبلة على صراعات وأزمات حادة متوقعة مع العدو ذاته الذي يحمي ويسلح قاتل الأطفال الفلسطينيين!

إن من المؤسف والمثير لخيبة الأمل أن يتراجع أداء الصين الشعبية الدبلوماسي وفعلها التضامني مع ضحايا الهجمة الإبادية الراهنة الفلسطينيين فهذا التراجع لم يحدث قط خلال العقود الماضية وهو يثير الكثير من القلق والأسئلة الصعبة خصوصا في الأوساط الشعبية والقوى التقدمية العربية.

أما بخصوص روسيا الاتحادية، فقد كان موقفها في مجلس الأمن واضحا ومبدئيا وقويا وشبيهاً بمواقف الصين الشعبية. وقد قدمت بعثتها في المنتظم الأممي أكثر من مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار أسقطت كلها بالفيتو الأميركي والبريطاني، ولا يمكن نسيان التصريح الشجاع للمندوب الروسي في المجلس فاسيلي نيبينزيا في الأول من تشرين الثاني، والذي قال فيه "إن إسرائيل ليس لها الحق في الدفاع عن النفس في الصراع الحالي لأنها دولة احتلال"، فقد كان هذا التصريح شجاعا ومهما كسر حدة الهجمات الغربية والإسرائيلية في مجلس الأمن، ولم يجرؤ أحد في المعسكر الغربي الصهيوني على الرد عليه، مثلما ردوا فورا على تصريح الأمين العام الذي قال فيه "إن هجوم السابع من تشرين الأول لم يأت من فراغ وإن أي طرف في الصراع المسلح ليس فوق هذا القانون"، حيث دعا سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان وبكل عجرفة، غوتيريش إلى الاستقالة وشنوا ضده حملة إذلال إعلامية شرسة. ولكن السؤال هو هل كان الأداء الروسي والصيني الدبلوماسي متناسبا مع حجم المذبحة المرتكبة بحق الفلسطينيين، وهل تطور ليصل إلى درجة التأثير على تمادي إسرائيل في عمليات القتل الوحشية وردعها لما لدى موسكو من كلمة ذات وزن مؤثر على تل أبيب؟

إن واقعة عدم الرد الغربي والصهيوني على نبينيزيا الذي جرد إسرائيل - وهو على صواب من وجهة نظر القانون الدولي- من حق الدفاع عن نفسها في مواجه شعب تحتل وطنه يمكن تفسيرها بسببين؛ الأول هو أن ما قاله صحيح ومتسق مع القانون الدولي الذي لا يمنح لأية قوة احتلال حق الدفاع عن النفس كما قلنا. وثانيا، فهو يؤكد أن إسرائيل تحسب حساباً ثقيلاً لروسيا ولدورها وتخشى أن تتحول إلى عدو صريح لها. معلوم أن العلاقات بين روسيا بوتين وإسرائيل نتنياهو علاقات جيدة وقد تم التغاضي عن العدوان الصهيوني المتكرر على سوريا طوال السنوات الماضية، ولكن الدبلوماسية الروسية تخطئ كثيرا إذا راهنت على الحصول على دور الوسيط مستقبلا بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وقيادات الشعب الفلسطيني والعرب عموما عبر إبداء هذا النوع من الحياد والمهادنة لمجرمي الحرب الصهاينة، فهذا الدور محتكر من قبل الولايات المتحدة، ولن تسمح لا هي ولا إسرائيل لأي طرف آخر أن يقوم به أو يشارك في القيام به مجرد مشاركة. إنَّ الدبلوماسية الروسية حين تطمح بدور الوسيط فتركن إلى المهادنة والسكوت على جرائم دولة الاحتلال إنما تراهن على الأوهام وتضحي بدورها المبدئي والتضامني الإنساني المفترض مع أقرب الشعوب إليها، فهي لن تحصل على هذا الدور إلا في حالة حصول كسر مهم في الهيمنة القطبية الغربية الإنكلوسكسونية على العالم وهذا ما لم يحصل حتى الآن وإنْ كنا نشهد بداياته المتواضعة.

وقد يسأل سائل ماذا بإمكان روسيا الاتحادية والصين أن تفعلا أكثر مما فعلت؟ إن ما فعلته الصين يبقى أقل كثيرا مما قامت به روسيا الاتحادية، وكان بإمكان الدولتين أن تفعلا الكثير ففي حين تسرح الدبلوماسية الأميركية والأوروبية الغربية وتمرح في الشرق الأوسط ويكرر بلينكن وزملاؤه زياراتهم وتنهال المساعدات التسليحية والمالية الضخمة على إسرائيل المعتدية لم نسجل نشاطا مستداما مماثلا لروسيا الاتحادية والصين الشعبية. كما لم نسجل إجراءات احتجاجية روسية صينية ضد المجازر التي ارتكبتها دولة إسرائيل حتى من قبيل الإجراءات الرمزية، بل أن الاندفاع الأميركي الهستيري إلى مساندة العدوان الإسرائيلي بإرسال حاملتي طائرات وبوارج حربية إلى شرقي المتوسط وقوات خاصة وخبراء استراتيجيين عسكريين ومدنيين لم يواجه بمواقف وإجراءات روسية مقابلة حتى من باب إرساء حالة من التوازن في المنطقة ومن باب الدفاع عن قاعدتها في "حميميم" وقواتها المسلحة الموجودة في سوريا!   

لقد تطورت المواقف التضامنية لبعض الدول الصديقة للعرب والشعب الفلسطيني كثيرا وتجاوزت مواقف روسيا الاتحادية والصين الشعبية كثيرا فجمهورية بوليفيا مثلا بادرت إلى قطع علاقاتها مع "إسرائيل"، أما كولومبيا وتشيلي فقد استدعتا سفيريهما احتجاجا على الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين. ولم تكتف جمهورية جنوب أفريقيا باستدعاء جميع الدبلوماسيين من تل أبيب بل وزادت فقدمت شكوى للمحكمة الجنائية الدولية من أجل التحقيق في "جرائم حرب" ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة كما أعلن رئيسها رامافوزا مؤكدا أنه سيتابع هذا الموضوع شخصيا.

وختاما، ومن منطلق الحرص على مستقبل العلاقات العربية الروسية والصينية، نصارح الأصدقاء الصينيين والروس، بأن هذا الأداء الدبلوماسي الباهت والمتردد لا يتناسب إطلاقاً مع هول المذبحة المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والتي بلغت درجة التطهير العرقي الصريح باستعمال الأسلحة الحديثة الفتاكة ولا مع العلاقات التأريخية التي تربط بين الشعوب العربية والدولتين والشعبين الصديقين في روسيا الاتحادية والصين الشعبية، فذاكرة الشعوب أقوى من ذاكرة الأفراد مهما كانوا عباقرة خصوصا إذا تعلق الأمر بسفك دماء الأبرياء كما يحدث هذه الأيام!

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

"محنة الحق تذهب منطق إدراكه وتأويله يسكت الضمائر عن ملامسة آثار الحقيقة "

قد تتقاطع الآراء وتتخالف، عندما تروم الاستئثار بوجهة نظر مغايرة، ترنو أحيانا إلى فك الالتباس، وتشريح المسكوت عنه، في مضمار استعار التأويل ولي الأعناق، في خضم أحداث غزة المؤلمة والمأساوية.

وأكثر هذه الاستنتاجات الواردة بخصوص آراء النخب الثقافية المغربية والعربية، أن يرتطم مدار تصنيف الأعمال التي تقودها المقاومة الفلسطينية في غزة، بأبواق غيرية خارج سياق التداول الإعلامي الغربي على وجه الخصوص، والتي تخندق حركة حماس وفصائل المقاومة الأخرى، في خانة البروبجندا المسعورة، التي تقول بنظرية "الإرهاب الإسلامي" وتؤلب عليه العالم بأسره.

ولست هنا، بحاصر أو مستنفذ لمنطق التدليل، على حجم التدافع المخيف والمروع، بين بني الجلدة الواحدة، أو التوجه المحدود، إذ لا يقيم المنطق في العدد فحسب، بل في القيمة الاعتبارية لهذا الاختلاف، إن كان بداهة، يصير إلى الحوار العقلاني والتنظير المنطقي، دون تعصب أو مزايدة.

وقد سبق للعديد من الأصدقاء الكتاب والمثقفين، أن أدلوا بأفكارهم في هذا السياق، عندما اشتد أوار الحديث عن القضية، في عز انبلاجها وانتشارها ما بعد السابع من أكتوبر المنصرم. وتحديدا بعد انتقال سرديات واهية متسرعة وملفقة لعديد أقلام تنهل من وعاء الفضاء الغربي، وتستثمره في نظام سيرورتها وأعمالها داخل الكيان الثقافي للبلد المضيف. ونسوق هنا، نموذج الكاتبين المغاربيين المقيمين في فرنسا الطاهر بنجلون وياسمينة بنخضرا، بالإضافة إلى الإعلامي المغربي ورجل الأعمال أحمد الشرعي.

بداهة، لا يمكن تقييم العلاقة التاريخية والسياسية، بين الضحية والجلاد، وجذور امتدادها وتداعياتها على الزمان والإنسان، دون استعادة الظروف والملابسات القائمة، ورصد معطياتها على ضوء الحقائق والوقائع الموثقة. وعلاقة بمثل هذه الحساسية، تفرض على القارئ وضع منظار لربط الأنساق السالفة الذكر، بالآثار المستنتجة راهنا، في أفق تحديد المسؤوليات والمخرجات الناجمة عن القراءة إياها.

ولا يختلف اثنان، عن وجود اختلال في القراءة المستنتجة وتبعاتها، وما يتصل بها من "التشكيك" و"الاستبلاد" و"محاصرة الحقائق"، الشيء الذي يجعل المتلقي فيها  قابلا للرهن والمحاججة الضعيفة وتغليف الأحداث. وهو أمر تلعب فيه ماكينة الإعلام الموجه، وخلفياته الإيديولوجية والسياسية، وظائف ممسوخة ومبتورة، لا تنفع فيها الاستعارات الساكنة والبلاغات الخطابية الفارغة واللعب على الأحبال، من غير المواجهة وسد الثغرات ونسف الافتراءات وتصحيح التوجهات المغلوطة.

فمن كان يؤمن طريق "الاحتلال" ويعول على تبريراته، ويوازن بين مطالبه وآفاق انتقاله، يكون مغيبا في الوعي، ومكرسا لتبعات ذلك في "الأفق التطبيعي" و"المصلحة المجزأة" و"الالتفاف حول القضية الفلسطينية". وسيكون تأويل هذه الخوارزمية المغلفة باشتراطية الديمقراطية وتقسيماتها المتباينة، مرفوعا بدرجة التآمر والفضح وتغليب المصلحة على ما دونها من الآليات النقدية الأكثر انضباطا للمعايير والمقايسات.

وإلى هذا التوجه، صار نظر العديد من المنظرين المعتبرين، ممن تستنفرهم الحاضنة التاريخية والثقافية لتجربة السلوك الإنساني والكوني، المبني على منطق العلم والتدافع والمآلات المحسومة.

وقد جمعني ببعضهم نقاش عميق وذي دلالة نبيهة ومشرقة في مسار الجدل إياه. وأعتبر رأي المجاهد الأستاذ مولاي عبد السلام الجبلي، واحدا من هؤلاء الشرفاء، الذين يناصرون على الدوام فكرة "المقاومة" أو "المجاهدة" في أسمى تجلياتها وامتداداتها. فهو يؤسس سيرورة هذه المقاومة، مهما كانت جنسيتها ومرجعيتها وجذورها الإنسانية، على شرف وجودها ورسالتها وتعاطيها مع الأحداث، كما هو الشأن بالنسبة للمقاومة الفلسطينية في غزة. بل إن مولاي عبد السلام، يراهن على مسألة انتقال القضية الفلسطينية، من موقعها في المنظومة الدولية كواجهة ل"التخزين" و"التقسيم والتورية" ومن تمة ل"التركيع" و"الاقصاء المتعمد"، إلى فاعل أساس في المنظومة، وفاضح لمتاهة تعويمها وإقبارها.

وتمة رأي آخر، مساهم بشكل لافت لنفس هذا التوجه، ويتعلق الأمر بما اعتبره الكاتب والمؤرخ الأستاذ مولاي عبد الله العلوي، الذي يرى أن استنفاذ أدوار المقاومة، لم يأت من فراغ، بل له أصول وامتدادات في الذاكرة العربية المعاصرة، مؤكدا على أنه "ليس حصرا اعتبار مفهومية المقاومة أو الجهاد، نمطا للصراع الحضاري، أو الديني"، بل "يتعداه إلى طمس الهوية القومية العروبية والإسلامية للمتصلين بالمفهوم والمصلحة". وللتحقق من هذا النظر، يفسر العلوي، اقتدارية المقاومة الفلسطينية في غزة ب "العودة إلى إحياء هذه الجذوة"، انطلاقا من واقع معاندة الدول النووية لعدالة القضية الفلسطينية، ومحاولة تعويمها وإفراغها من فكرتها. ولا يرى المؤرخ العلوي أي شك أو تردد في دعم مقاومة غزة، مستنتجا أن "الحصار والقتل والإبادة" و"كل أنواع الجرائم الصهيونية" هي بداية لنهاية محتومة، حقيقة أن الفلسطينيين سينتصرون لا محالة. وصدق من قال واعتبر "أن الحق لا يقاوم سلطانه، والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه، والناقل إنّما هو يملي وينقل، والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل، والعلم يجلو لها صفحات القلوب ويصقل"، كما " أن الحق إذا استنفد ما لدى الإنسان من طاقة مختزنة لم يجد الباطل بقية يستمد منها".

***

د مصطَفَى غَلْمَان

بقلم: أزاده نعمتى

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

وبينما يتعاملون مع نوع من الحزن، فإن أقارب من يؤذون الآخرين جنسيًا يتعرضون لللوم والمحاكمة.

عندما تم القبض على شخص مهم في حياتي بسبب جرائم على الإنترنت، كان الأمر كما لو أن قنبلة انفجرت في حياتي (تلتها عدد لا يحصى من القنابل اليدوية). وفي الوقت نفسه، تم نقلي فورًا وتلقائيًا إلى مكان آخر... وسرعان ما اكتشفت أن [هذا] مكان للحزن في المقام الأول. وإلى جانب هذا الحزن هناك خسارة فادحة، وخوف، وصدمة، وارتباك، وخيانة، وغضب شديد... ظهر وشم أسود على جبهتي. تقول: ‹الرجل الذي اخترته ليكون أبا لأطفالي هو مرتكب جريمة جنسية.›

- من منتدى دعم الأسرة العام عبر الإنترنت

***

تؤثر الجرائم الجنسية على حياة الكثير من الناس. وفي حين أن الاهتمام ينصب في المقام الأول على الضحية/ الناجية، إلا أن هناك آخرين يتأثرون بشدة وغالبًا ما يتم تجاهلهم. ومن بين هؤلاء أفراد الأسرة الذين يدركون أن أحبائهم قد ألحقوا الأذى بشخص ما جنسيًا. قد يكون هذا صعبًا بشكل خاص عندما يكون الأذى ضد الطفل. غالبًا ما تعاني عائلات الأفراد المسجلين في سجلات مرتكبي الجرائم الجنسية من العار والعزلة الاجتماعية وأضرار في الممتلكات، وقد تضطر حتى إلى تغيير منزلها.

يتوقع الناس غالبًا أن يستجيب أفراد الأسرة هؤلاء للموقف بالاشمئزاز والرفض الفوري، وقطع العلاقات مع المخطئ الموجود بينهم. ربما لديك هذا التوقع أيضًا. ومع ذلك، بالنسبة لأفراد الأسرة الذين خضعوا لهذه التجربة المروعة، فإن الأمر لا يعد عملية مباشرة.

بالنسبة للغرباء، يتم تعريف الفرد الذي ارتكب جريمة جنسية فقط من خلال هذا الفعل البغيض: فهو ليس سوى "مرتكب جريمة جنسية". جوانب أخرى من شخصية مرتكب الجريمة طغت عليها أسوأ الإجراءات التي اتخذوها. هذه التقييمات تجعل الشخص يمكن التخلص منه بسهولة لمن لا يعرفه. ولكن، من وجهة نظر الأشخاص الأقرب إليهم، ربما كان الفرد المعني والدًا محبًا، أو طفلًا مهتمًا، أو زوجًا مخلصًا. إنهم يرون الجاني بكل إنسانيتهم: مزيج من السمات الإيجابية والسلبية.

(قد يرفض الأشخاص من خارج العائلة التعاطف، ويوجهون اللوم والكراهية إليهم أيضًا)

يمكن أن تؤدي التجربة التي يمر بها أفراد الأسرة إلى شكل معقد من الحزن. وفجأة، يواجهون نسخة من أحبائهم الذين لم يعودوا يتعرفون عليها. غالبًا ما يكون التفاوت بين الصورة التي يحملونها لفرد عائلتهم العزيز (شخص جدير بالثقة ومهتم) والواقع القاسي (شخص تسبب في الأذى) صادمًا. يمكن أن يكون من الصعب للغاية معالجة الحادث. في حالة الزوجة التي ارتكب زوجها الاعتداء الجنسي على الأطفال، على سبيل المثال، فإنها لا تعاني فقط من العار والوصم المرتبطين بجريمته ولكن أيضًا مع الشعور بالخيانة والخسارة. وعلى الرغم من أن زوجها لا يزال على قيد الحياة، إلا أنها قد تشعر بأنها فقدت الرجل الذي عرفته وأحبته.

الحزن المحروم هو مصطلح يستخدم لأنواع معينة من الحزن التي لا يعترف بها المجتمع أو يؤكد صحتها. بعض أشكال الحزن لا تفشل فقط في جذب التعاطف من الآخرين، ولكنها يمكن أن تجلب أيضًا الرفض أو الإذلال أو الشعور بالذنب لأولئك الذين يتحملون وطأة الخسارة. مثال آخر على الحزن المحروم يحدث عندما يحزن شخص ما على فقدان حيوان أليف لفترة أطول مما يتوقعه المجتمع. غالبًا ما يتم التقليل من أهمية فقدان حيوان مقارنة بفقدان شخص عزيز عليه، مما يؤدي إلى التقليل من ألم الحداد.

يشعر أفراد عائلات الأشخاص الذين تسببوا في الأذى الجنسي بالأذى والخجل من الجريمة التي ارتكبها أحباؤهم. ولكن لأنهم غالبا ما يحتفظون في أذهانهم بالجانب الإنساني لأحبائهم (الذين يجسدون الشر بالنسبة لكثيرين آخرين)، فقد يرفض الأشخاص خارج الأسرة التعاطف معهم، كما قد يرفضون توجيه اللوم والكراهية إليهم.

وقد يواجه أفراد الأسرة أسئلة مثل: "كيف يمكنك الاستمرار في العيش معه؟" "لماذا لا تتبرأ من ابنك؟" "كيف لا يزال بإمكانك أن تحب هذا الشخص؟" تضع هذه الأسئلة ضغطًا على أفراد الأسرة للحفاظ على مسافة بينهم وبين أحبائهم. وقد يبدأون في إلقاء اللوم على أنفسهم لعدم قدرتهم على تلبية هذه التوقعات، أو لأنهم يثقون في مرتكب الجريمة، أو لعدم إدراكهم للإساءة.

في كثير من الحالات، لم يكن لدى أفراد الأسرة أي وعي بما يحدث؛ وهذا هو الحال غالبًا عندما يحدث الاعتداء الجنسي على الأطفال عبر الإنترنت. ومع ذلك، حتى في هذه الحالات، قد يُنظر إليهم بشكل غير عادل على أنهم متواطئون. في بعض الحالات - على وجه الخصوص، عندما يحدث الاعتداء الجنسي على الأطفال داخل الأسرة - قد يكون فرد أو أكثر من أفراد الأسرة غير الجاني على علم بالاعتداء، أو قد يصبحون مشبوهين، ومع ذلك يظلون صامتين أو سلبيين. هناك أسباب مختلفة تجعل الناس يقفون متفرجين على الاعتداء الجنسي: الإنكار، والخوف من العار وما يترتب على ذلك من حكم اجتماعي، والدعم الذي لا يتزعزع والاعتقاد في مرتكب الجريمة، وعدم التصديق أو اللوم الموجه إلى الضحية. في بعض الأحيان قد يظل أحد أفراد الأسرة صامتًا لأنه كان أيضًا ضحية لمرتكب الجريمة. في مثل هذه الحالات، يتطلب كسر حاجز الصمت منهم مواجهة صدماتهم غير المعلنة. قد يصبح البعض محاصرين في دائرة من الإساءة ويخشون من أن التحدث علنًا قد يؤدي إلى تفاقم الوضع. قد يحارب هؤلاء الأشخاص الشكوك التي تنتج عن سنوات من العيش تحت تأثير الغاز. كل حالة فريدة من نوعها، والافتراض بأن جميع أفراد الأسرة متواطئون هو تعميم مبالغ فيه.

لسوء الحظ، فإن الافتقار إلى الفهم العام حول الطبيعة المعقدة للجرائم الجنسية قد يدفع الناس إلى إلقاء اللوم على الآباء في رعاية "مرتكب الجريمة الجنسية"، أو إلقاء اللوم على الشريك (عادةً الشريكة الأنثوية لمرتكب الجريمة) لفشله في إشباع الاحتياجات الجنسية لمرتكب الجريمة. وهو ما يعتبره البعض السبب الرئيسي للجريمة.

على الرغم من أن بعض المشاكل النفسية يمكن ربطها بشكل مباشر وغير مباشر بوحدة الأسرة وبيئة الطفولة، إلا أن العوامل المعنية معقدة وغالباً ما تنشأ المخاطر من التفاعل المعقد بين العديد من العوامل البيولوجية والاجتماعية والتنموية. على الرغم من أنه من الصحيح أن بعض الأفراد الذين يتعرضون للأذى الجنسي قد ينحدرون من عائلات مختلة تتميز بالعنف وضعف الحدود الجنسية والإدمان وسوء المعاملة، إلا أن البعض الآخر لم يعاني من خلل عائلي كبير. لذلك، فكما أنه من غير الصحيح افتراض أن إهمال الوالدين أو مقدمي الرعاية هو المسؤول دائمًا عن الإيذاء الجنسي للطفل، فلا يمكن افتراض أن أفراد أسرة الجناة يستحقون اللوم تلقائيًا.

وماذا عن أولئك الذين يستمرون في دعم شخص ارتكب جريمة جنسية، حتى بعد الكشف عن الجريمة؟ هل تقديم الدعم يمكن مرتكب الجريمة من إحداث المزيد من الأذى؟ هل من المستحيل رفض تصرفات شخص ما مع قبوله كشخص ودعم إعادة تأهيله؟

في معظم برامج إعادة التأهيل المعروفة للأشخاص الذين ارتكبوا جرائم جنسية (على سبيل المثال، نموذج الحياة الجيدة)، يعد تحسين العلاقات الشخصية جزءًا لا يتجزأ من خطة العلاج، إلى جانب المشكلات المعرفية والعاطفية والسلوكية والتعليم والتوظيف. يمكن للأسرة أن تساهم في تطوير أسس أخلاقية قوية وروابط اجتماعية. وهو أيضًا مصدر غير رسمي للتحكم والإشراف الاجتماعي. يلعب التواصل الصحي مع أفراد الأسرة دورًا حاسمًا في شعور الشخص بالانتماء والمسؤولية تجاه الآخرين، مما يثبط السلوك الإجرامي. يمكن للبيئة الأسرية الداعمة أن تكون في الواقع بمثابة عامل وقائي، مما يساعد على تقليل خطر معاودة ارتكاب الجريمة. وعلى العكس من ذلك، تم توثيق رفض الأسرة والاستبعاد الاجتماعي بشكل جيد كعوامل خطر لجميع أنواع الجرائم، بما في ذلك الجرائم الجنسية. ومن ثم، فإن الضغط على الأسرة لقطع العلاقات لا يبدو أنه يفيد أحدا.

إذا كنت تعرف عائلة في هذه الحالة، هناك أشياء يمكنك القيام بها لتقديم الدعم. من المهم الحفاظ على الشعور بالارتباط معهم بدلاً من قطع العلاقات أو تجنبها. لا تفترض أن كل فرد من أفراد الأسرة متواطئ في جريمة الفرد. فكر في الظروف المؤسفة التي واجهوها - الصدمة والغضب والحزن والعار المحتملة. تعامل معهم كما تفعل عادةً. إذا كنت جزءًا من دائرة الأقارب أو الأصدقاء المقربين للعائلة المباشرة، فيمكنك تقديم تحيات بسيطة أو التواصل من خلال مكالمة هاتفية قصيرة وغير تطفلية. فكر في طرح أسئلة مفتوحة مثل "هل هناك أي شيء يمكنني القيام به من أجلك؟" وقدم أي مساعدة يمكنك تقديمها. يُظهر هذا استعدادك لدعمهم ويسمح لهم بالتعبير عن احتياجاتهم أو مخاوفهم إذا رغبوا في ذلك.

الأطفال في عائلة مرتكب الجريمة معرضون بشكل خاص للأذى العاطفي. قد تتعطل حياتهم اليومية، حيث يغادر أحد أحبائهم (على سبيل المثال، أحد الوالدين أو الأشقاء) المنزل أو يتم القبض عليه لأسباب قد لا يفهمونها تمامًا. وقد يشهدون أيضًا غضب أفراد الأسرة الآخرين ويأسهم. قد يكون فهم هذه الحوادث ومعالجتها أمرًا صعبًا للغاية، خاصة بالنسبة للأطفال الأصغر سنًا. يجب مشاركة المعلومات المناسبة للعمر حول الحادث فقط من قبل أحد الوالدين، أو شخص بالغ موثوق به قريب من الطفل، أو أخصائي الصحة العقلية.

إذا كان لديك أطفال، فمن المستحسن عدم إشراكهم في ما حدث. إن الجهود مثل إبعاد طفلك عن طفل الجاني في المدرسة أو إخباره بأن "والد توم مجرم" أو "شخص سيء" أو "شاذ جنسيا للأطفال" لا تتعلق بسلامة طفلك. دع الأطفال يكونون أطفالا. يمكن أن تجعل ردود الفعل هذه طفلك يشعر بالقلق وعدم الأمان دون داعٍ، أو تجعل طفل الجاني هدفًا للتنمر عندما تنتشر الأخبار. بدلاً من ذلك، استكشف أفضل الطرق لتوفير المعلومات المناسبة لعمره والتي تساعد طفلك على التعرف على المواقف التي يحتمل أن تكون غير آمنة والتعامل معها (على سبيل المثال، تعليمه تجنب قبول رحلات من الغرباء، بما في ذلك آباء زملائهم في الفصل).

الإساءة الجنسية تلحق الأذى وتثير مشاعر حادة. يمكن أن يكون إغراء الاستسلام للغضب والكراهية وإصدار الأحكام، وليس فقط تجاه مرتكب الجريمة، قويًا. ولكن من خلال الامتناع عن إصدار الأحكام ومراعاة رفاهية أفراد الأسرة المتضررين ــ وخاصة أولئك الأكثر ضعفا ــ يستطيع الأشخاص من حولهم اتخاذ خطوات استباقية للتخفيف من حجم الضرر.

(انتهى)

***

.......................

المؤلف: أزاده نعمتى / Azadeh Nematy أزاده نعمتي هي طبيبة نفسية إكلينيكية وباحثة مساعدة في قسم الطب النفسي في كلية ترينيتي في دبلن.

 

لا تكاد جلسة أو سهرة أو لقاء يخلو من حديث عن الفساد والإفساد، فأينما وليت وجهك في وسائل النقل أو المقاهي والمناسبات وفي الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة، حيث امتلأت بالدراسات والبحوث عن ظاهرة ظنّ البعض إنها ولدت للتو، بل ونسي الكثير بأننا في بلاد يزدحم فيها القيل والقال وكثرة السؤال، وتعج فيها أشكال وألوان من الفساد المتراكم ليس اليوم بل عبر حقب التاريخ وغيومه المدلهمة ككتل الليل الظلماء، كما أن هذا المطر الملوث بالسحت الحرام لم يهطل في هذا الشتاء فقط، ولم تلد الفضيلة اليوم كي تعادي الرذيلة بشكلها المزركش والمعاصر، إنه صراع محتدم بين الأخلاق العليا والأخلاق الدنيا، بين عزة النفس ودناءتها، وأكوام من التربية الفاسدة وحقب من الحكم الأعرج، وأكداس من الموروثات التي تبيح المال العام وتستسهل الاغتناء دون القيم والنبل؟

منذ البدء كان الفساد إنسانياً يبدأ في البيت والمدرسة وينتهي في دوائر الحكومة من القاعدة حتى الهرم ولا ينتهي في دهاليز السجون وغرف الإعدام، لأنه في الأساس إنتاج تربية منحرفة مذمومة رغم كل ما يحيط بها من زركشة وتجميل وإغراء في السلطة والمال والنساء، فهي أساس النخر في أبدان الدول والكيانات كما هي علة النفس والروح حينما يسقط الإنسان عن مجموعة ما فطر الله به خلقه من عزة في النفس وطهارة في القلب واليد.

هذا الزمن القاتم ينتج سيلا من الأسئلة المرة عن الفساد والافساد في دول ورثت أقدم حضارات الانسان، لكنها عجزت من أن تضع لها قانونا يحترمه الجميع ويؤمن به ويطبقه، عجزت عن مسائلة أي موظف مسؤول أو وزير أو حاكم يتقاضى معاشاً لا يتوافق إطلاقاً مع حجم قصره أو عمارته أو عدد سياراته ونفقاته وغنائه الفاحش خلال سنوات قليلة جداً ولا يُسأل عنها أو يُحاسَب؟   عجزت عن محاسبة كيفية تحول الوزارات الى ممالك وإمارات أما للأشخاص وعوائلهم وعشائرهم وأما للأحزاب دونما الوطن والشعب، حيث يتصرف المسؤول وزيراً كان أو نزولاً لأصغر مدير، كأمير أو مالك لتلك الوزارة أو الدائرة متنمراً ومشعراً المواطن بأنه ذي فضل عليه أو أنه أعلى شأناً منه علماً بأنه ما تمّ توظيفه إلا لخدمة هذا المواطن؟

في طوفان الفساد هذا وفي لحظة من صحوة الضمير وفي الانتشاء قال أحد كبار الفاسدين، لقد سرقتُ وأنا تلميذٌ صغير طباشير من الصف، ثم ذات سنة وأنا ما زلت دون الثانية عشرة من عمري سرقت مدفأة نفطية من مدرستي يوم الجمعة وأخذتها للبيت، رحبت بي أمي وشعرتُ بأنها سعيدة جداً، لم تسألني من أين أتيت بها ولم يسأل والدي عن مصدرها حينما عاد إلى البيت، أحسست بأن الأمر عادي وقد أسعدتهما بذلك!

وفي سقوط نظام الرئيس صدام حسين تجلى هذا الانحراف الجماعي بشكل واضح وامام مرأى الجميع، وفي خضم عمليات السلب والنهب العلني شاهدتُ أحد الموظفين الذي كان يؤم المصلين أحياناً بغياب الإمام، قد ملأ سيارته البيك آب بمقتنيات من أحد المعسكرات القريبة من بيته قلت له ما هذا يا رجل: أجابني وهو فرح بأنها غنائم(!) وهنا الالاف ان لم يكونوا مئات الالاف فعلوها في أنفالات* كوردستان وغزوة الكويت وقبلها فرهود اليهود وأخيرا فرهود العراق!

لم تأت هذه السلوكيات من فراغ بل جاءت كناتج متراكم لمنظومة تربوية اجتماعية متوارثة عبر الأجيال، لا ترى السرقة عملاً دنيئاً ولا الاختلاس أو نهب المال العام جريمة مخلة بالشرف، وتدرك شعوب منطقتنا إن معظم عمليات النهب والسلب التي جرت في تاريخ بلدانهم منذ الغزوات وحتى اليوم، نتيجة لتلك الموروثات المتأصلة إلا من رحم ربي، حتى أن فاعلها لصاً كان أو فاسداً أو مرتشياً أو مختلساً كان يعتبر إنساناً شجاعاً يتباهى بلصوصيته كما يتباهى اليوم فاسدو الدولة بما جمعوه من سحت حرام معتبرين عملهم فرصة العمر في تحصيل الأرزاق!؟

أين الحل وما سبيله؟

سؤال أكثر إيلاماً من إجابته التي يحتار المرء فيها مع تلاطم أمواج الفساد تحت حكم نظام سياسي فاسد من أخمس قدميه حتى قمة رأسه، فقد اختلط الحابل بالنابل، وأصبح القاضي والجلاد شخص واحد، وغدى الفساد وينابيعه وأسباب انتشاره اقرب للمشروعية والمقبولية الاجتماعية،  واختلطت احاديث الجميع فاسدين وغير فاسدين، في هستيريا الاستعراض والقيل والقال من حديث العامة والخاصة دونما إيجاد حل لإيقاف هذه الحمى النزفية التي تنخر الأجساد والكيانات، وتحيل الأوطان الجميلة إلى مساكن هزيلة وفنادق بائسة يضمحل فيها البشر ويهزل؟

وفي خضم هذا الطوفان هل ما زال الملح نقيا أم جرفته أمواج الفساد فتلوث؟

وهل ما يزال الكي آخر العلاج أم انه سيحرق الأخضر واليابس!؟

***

كفاح محمود

............................

* الأنفالات: تسمية أطلقها نظام الرئيس صدام حسين على حملات عسكرية لإبادة الكُرد في نهاية ثمانينيات القرن الماضي وذهب ضحيتها 182000 مائة واثنين وثمانين ألف مواطن مدني معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ.

في المثقف اليوم