أقلام ثقافية

أقلام ثقافية

بالفن يرى الكائن حيزا من ذاته وهو المسافر بكثير من التمني والأمل قبالة عالم مكتظ بالمشاهد والعناصر والحكايات التي تحيل الى سرديات ملونة طافحة بالمعاني وبالشؤون والشجون...هكذا نمضي الى عوالم الفنانة التشكيلية لبنى بوقلة التي تحلم بالعالم لتراه بمثابة علبة تلوين حيث أخذها الشغف بالرسم والتلوين منذ طفولة والى هذه الايام لترى في ذاتها تلك الأمنيات الملونة ...برز ذلك في مختلف أعمالها الفنية التي انطبعت من خلالها المشاهد ومنها قصر الجم الانيق وكذلك الحرفي المنهمك في خزفياته وشغلته الفنية مع الطين والطبيعة الميتة  والتراث والمراة وغيرها من الابداعات وما تحيل اليه من بهجة الفنانة لبنى وهي تنقل جمال الأشياء في صمتها وسكونها... وغير ذلك من مواضيع وثيمات اللوحات التي تنجزها.شاركت في معارض متعددة منها معرض "الفن والألفة " بسيدي بوسعيد وبمارينا المنستير سنة 2023 وفي معرض " استلهام ثلاثي " مع الفنانة نعيمة القيزاني والجامعي والفنان غازي حسني وذلك برواق فني بسوسة الى جانب أنشطتها المختلفة في الفنون بمدينة ليون الفرنسية.

لبنى بوقلة فنانة تشكيلية تكونت ضمن ورشات " الفنانون المبتدئون " بليون حيث دراسة التصوير والرسم والفن عموما وبالمعهد الفرنسي" في حصص الرسم والفن التشكيلي والابتكارات اليدوية فضلا عن تدريب مع الفنان التشكيلي سمير بن علية.Dagneux "

هذا الى جانب الحصول على البطاقة في الاحتراف من الديوان الوطني للصناعات التقليدية كما أنها كانت صاحبة العديد من المشاركات في المعارض والأنشطة الفنية التشكيلية. وعن جانب من علاقتها بالفن التشكيلي والرسم تقول الفنانة لبنى بوقلة ".. أنا أعتبر الفن تعبيرًا عن الذات أولاً وقبل كل شيء. حيث المشاعر من صميم الحياة وجوهر تفاصيلها وكل ما يحيط بي.. رسمت عوالم متعددة منها مشاهد الحياة والطبيعة والحيوانات التي أحبها قبل كل شيء ، وبالتالي تعبر لوحاتي عن جانب مهم من مزاجي وخيالي لأحكي قصة يمكن للجميع معرفة صميمها وهوامشها وذلك من خلال تجربة المعيش.قد يرى البعض اللوحة بالطريقة التي تتناسب مع متطلبات رؤيتها من خلال الألوان أو الموضوع. وما يهمني هو أنني أطلق العنان لخيالي تجاه تقبل الجميع.بالنسبة لي ، فأنا في بحث دائم عن نفسي في الرسم والفن بشكل عام ، ولا أتوقف أبدًا عن الحلم بالإبداع والابتكار. أنا أبحث دائمًا عن  مجالات جديدة للإبداع. لا أعرف ما إذا كنت قد انتهيت حقًا من العثور على أسلوبي ، ولكن على أية حال ، فأنا أعمل باستمرار على ذلك.بي طفلة في دواخلي هي لبنى بوقلة الفنانة الحالمة والرسامة المجتهدة المغرمة بالفن منذ الصغر، انضممت إلى نادي الرسم في اختصاص الرسم الزيتي ، حيث تمكنت من تقنية الرسم الزيتي وكان ذلك لمدة عام تقريبًا...".

هكذا هي المساحة الفنية للرسامة لبنى بوقلى حيث ترى في الرسم والتلوين مجالات للحلم والقول بجمال الأشياء وبهاء العناصر ضمن تخير أسلوبي ولوني تعمل عليه في سياق تعاطيها الجمالي أملا في عالم أجمل بالفن حيث الانسان ينشد جمال العناصر والتفاصيل في كون من الصراعات والتداعيات المربكة.

هذا ومن خلال تنوع لوحاتها وما تحمله من عناوين ومواضيع فنية تشكيلية تسعى الفنانة لبنى بوقلة لابراز خصوصيات تجربتها التي تشتغل عليها في عوالم التلوين وذلك بالاعداد لمعرضها الشخصي في احدى الأروقة المعدة للفنون بالعاصمة فالرسم لديها وعي وحب وجمال.

***

شمس الدين العوني

أن يكتب ليكتب فهو مجرد كاتب

وإن كتب ليحيا فهو كاتب حقيقي

أرفع ما في الكتابة هو قدرتها على اختزال الصور والمعاني، الأشخاص والمواقف، ويصبح مقامها أعلى حين تتمكن من جعل السطور الرقيقة على الأوراق عالم كامل يتحرك ويتحدث، يتفاعل أو يتمرد، ينسحب أو يبسط أجنحته في عالم الخيال أو يتجرد إلى أن يصبح صخره في واقع أقسى من ملمس الجبال.

هذا الكاتب المصور والرسام، المفكر أو المقلد لماذا يكتب؟ هل هي الموهبة فقط التي تدفعه لهذا العالم الموازي للعالم الحقيقي؟ الموهبة تكون السبب في بداياته في الكتابة، فهناك شيء ما دفين ولا يمكن تفسيره يدفعه للكتابة، شيء ما غامض يجعله ينفصل ولو لدقائق عن عالمه المجرد ليرسم عبر السطور عالم آخر ويبتدع أفكار أخرى، أو ربما يجد متعته بأن يُمسك القلم ويخط الكلمات بلا هدف ولا خطة.

ولكن مع مرور الوقت وحين يعلم أن الكتابة أصبحت جزء من ذاته، لا يكتب فقط لأنه يتمتع بموهبة الكتابة، فما كان يستمتع به أصبح مسؤولية تلازمه، لابد أن يفكر قبل ان يكتب، لابد أن يراقب ويدقق في الأحداث والظروف والمشاعر، يتحول دوره إلى المراقب والراصد ثم المحلل.

ولكن في مرحلة ما لابد أن يسأل نفسه أو بالأحرى تسأله نفسه: لماذا تكتب؟ فإن كان يكتب لأنه كاتب وهذه موهبته وربما حرفته فهو مجرد كاتب وسيبقى كذلك لأنه لم تُفتح له آفاق أخرى في الكتابة عدا عن الرصد والنقد والتحليل.

الفرق الجذري بين الكاتب الحقيقي والمجرد كاتب، هو ان تتحول الكتابة إلى حياة وليس مجرد انعكاس للواقع، أن تنمو في ذاته عوالم أخرى غير مرئية يتمكن من خلالها أن يكتشف ذاته وذوات الآخرين، فالإنسان في حالة اكتشاف لذاته وللآخرين كل سنوات حياته، فمن يعتقد أنه يعرف ذاته بشكل كامل سوف يكتشف أو حتى يُصدم في وقتٍ ما وبموقفٍ ما أنه على خطأ وكذلك فيما يتعلق بمن حوله، حين يدرك الانسان هذه الحقيقة يزول عنه عنصر الصدمة ويصبح أكثر حكمة بتقبل الأشياء؛ والكاتب الذي أدرك هذه الحقيقية يكون في حالة توقع لكل تغير وتقبل لكل تبدل في حياته أو حياة الآخرين؛ ولكن يبقى شيء ثابت في نفسه وهو قدرته على الانسحاب إلى عالم داخلي بناه بصورة فردية لم يشاركه به أحد، هناك حيث لا صديق له سوى قلمه واوراقه وهذا العالم الذاتي النائي عن الآخرين هو بالذات ما يجعله قادراً على الحياة بصورة مختلفة عن الآخرين، فهو يكتب ليحيا وليس ليكتب فقط، ومن هنا أيضاً يأتي صفاء الفكر واتساع الخيال، فلا صفاء بحضور الآخرين ولا اتساع بوجودهم الجسدي أو المعنوي؛ أن يتجرد الكاتب من حضور الآخر، وأن يتجرد من مفاهيم مكررة وان يبني مدينته الخاصة هو أن يحيا حياة إضافية، هو أن يكتب بعمق أكبر وأن يحتاج لهذه الكتابة لأنها تتحول مع الوقت ومع عمق الفكرة والسعي نحو الحكمة إلى إمداد معنوي وروحي لا يستطيع أن يعيش بدونه، فعوضاً عن أن يكتب لأنه هناك حاجة للكتابة بمواضيع كثيرة، فيكتب لأنه هو نفسه بحاجة للكتابة ليحيا في حيوات متنوعة، أو لينتقل إلى حياة أخرى، أو ليرحل لعالم آخر، فبدلاً من أن تكون الكتابة مركب شراعي صغير يطفو على مياه البحيرة الراكدة، تتحول إلى سفينة تجوب بحر أوسع وأعمق وأبعد.

مثلما لا يمكن لطفل ان يكتفي من البحر بأن يعبث برماله وتتبلل قدماه بمائه، فلابد له من أن يرغب بالذهاب لأبعد من ذلك، وكذلك الكاتب الحقيقي لا يمكن أن يحيا على الشاطئ لابد أن يُبحر بعيداً ولابد أن يكتشف أعماقاً أخرى، ولابد ألا يستطيع الحياة دون ذلك الإبحار البعيد والدائم.

***

د. سناء أبو شرار

أعلنت دائرة السينما والمسرح التابعة لوزارة الثقافة العراقية، ترشيح فيلم “جنائن معلقة” للمنافسة على جائزة “أوسكار” أفضل فيلم عالمي في الدورة السادسة والتسعين للجائزة، لعام 2024وذكرت في بيان صحفي: “ترشح الفيلم العراقي جنائن معلقة للمشاركة في جائزة الأوسكار لعام 2024 الحاصل على منحة وزارة الثقافة والسياحة والآثار لعام 2019 بعد النجاحات التي حققها في المهرجانات العربية والدولية وحصوله على جوائز عديد،، وتدور أحداث الفيلم حول قصة شقيقين خلال فترة الاحتلال الأمريكي للعراق، وآثار هذا الاحتلال السياسية والاقتصادية والاجتماعية. يعمل الشقيقان طه وأسعد في جمع المعادن والبلاستيك من مكب نفايات شهير يسمى (جنائن بابل المعلقة) في بغداد، وعندما يعثر أسعد على دمية مطاطية مهملة ويقرر امتلاكها، تتسبب الدمية في وضع علاقة الأخوين تحت الاختبار

وكان العراق  قد اعلن في شباط 2021 ترشيح الفيلم الروائي “أوروبا” للمخرج حيدر رشيد، لتمثيله في المنافسة على أوسكار أفضل فيلم دولي بالدورة الرابعة والتسعين للجائزة الأشهر سينمائيا يروي الفيلم ثلاثة أيام مأساوية من حياة الشاب العراقي كمال، الذي يحاول الوصول إلى أوروبا سيرا على الأقدام عبر الحدود التركية البلغارية ويقع فريسة لشرطة الحدود والجماعات المناهضة للمهاجرين، علما ان الفيلم الفيلم إنتاج عراقي إيطالي كويتي مشترك، وهو أحد الأفلام الروائية الخمسة المدعومة من قبل “منحة بغداد لدعم السينما العراقية” لعام 2021 المقدمة من وزارة الثقافة والسياحة والآثار العراقية.، وهو من بطولة، جواد الشكرجي، ووسام ضياء، وكان عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي عام 2022 ليجوب بعدها مهرجانات مرموقة في السويد وكوريا الجنوبية والسعودية والأردن وجرى عرضه مؤخرا في دور السينما بالعاصمة العراقية بغداد. وكتب مخرج الفيلم، أحمد ياسين، على صفحته بفيسبوك "أنا كلي شرف وافتخار بعد الإعلان الرسمي لدائرة السينما والمسرح الذي أشير به بأن فيلمنا ‘جنائن معلقة‘ تم اختياره لتمثيل العراق في جوائز الأوسكار، ورشح العراق عام 2022فيلم "الامتحان" للمخرج شوکت امین کورکي، وإنتاج ممد اکتاش،  والذي يمثّل العراق في أوسكار 2023 حول قضايا المرأة ومشاكلها في الشرق الأوسط، في 3 ديسمبر 2022 في لوس أنجلوس وفي 6 ديسمبر 2022 في نيويورك وفي 8 ديسمبر 2022 في برلين بألمانيا، هو إنتاج مشترك لإقليم كوردستان العراق، وحصد الآمتحان هذا الأثر السينمائي البارز، جائزة أفضل فيلم في القسم الدولي من الدورة السابعة والثلاثين لمهرجان سانتا باربارا في الولايات المتحدة،، وجائزة أفضل سيناريو في قسم "المسابقة الرئيسية" للمهرجان السينمائي الدولي التاسع عشر كما فاز مهرجان السينما الدولي الثالث للسكان في مصر،، والامتحان هو رابع عمل روائي طويل للمخرج الكوردي "شوكت أمين كوركيالن وأدى الأدوار في فيلم "الامتحان"مجموعة من الممثلين المشهورين وذوي الخبرة من إقليم كردستان العراق، إلى جانب عدد من الممثلين الشباب منهم؛ ئافان جمال، فانيا سالار، حسين حسن، شوان عطوف، هوشیار زیرو نیروه‌یی، نيجار عثمان، كاوه قادر، عادل عبدالرحمن

وتتلقى أكاديمية فنون وعلوم السينما الأميركية ترشيحا واحدا من كل دولة للمنافسة على جائزة أفضل فيلم عالمي والمخصصة للأفلام غير الناطقة بالإنكليزية ويقام حفل إعلان وتسليم جوائز الأوسكار في اذار من كل عام، بمدينة لوس أنجليس في الولايات المتحدة.

***

نهاد الحديثي

يُتحف "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب" في دولة الكويت، منذ سنوات بعيدة قارئنا العربي في كلّ مكان، بما فيه بلادنا، بالعديد من الهدايا الثقافية السخيّة، التي يقدمها إليه إما كل شهر وإما كل شهرين وإما كل ثلاثة اشهر، وتبرز من بين هذه الهدايا "سلسلة عالم المعرفة" الثقافية الشهرية واحدةً من العلامات الفارقة والمتقدمة في ثقافتنا العربية المعاصرة، فهي تحاول ربط هذا القارئ بالثقافة العربية الرصينة كما تصله بأفضل الاصدارات التي تصدر في لغات العالم المختلفة مترجمة إلى لغتنا العربية على ايدي طاقات مثقفة ومطلعة وذات خبرة واسعة في مجالات عملها، وهي في الوقت ذاته تقوم بمراقبة ما يُقدّم إليه وتحريره على أيد عربية متمرّسة، وتقدمه بأفضل ما يمكن وعلى حدٍّ عالٍ من الخبرة والمهنية.

صدر العدد الاول من هذه السلسلة الرائعة عام 1978، وتمحور موضوعه حول " الحضارة- دراسة في اصول وعوامل قيامها تطورها"، اما مؤلفه فهو الباحث العربي الدكتور حسين مؤنس، صاحب الدراسات الرصينة في ثقافتنا العربي. بعده صدر ضمن هذه السلسلة 484 كتابًا كل واحد من هذه الكتب يعتبر متفردًا بموضوع خاص ومن شأنه أن يثري من يطلع عليه بالمعرفة المتعمقة في موضوعه، ويذكر كاتب هذه السطور أنه تحدث ذات لقاء إلى عدد من محبي الثقافة وشداة المعرفة في بلادنا عن هذه السلسلة، طالبًا من كل منهم أن يقرأ خلال سنة واحدة اصدارات هذه السلسلة الاثني عشر، وان يرى إلى أي تغير حدث في حياته واية ثقافة باتت ملك ذاكرته واضافت إلى معرفته.

العدد الاخير من هذه السلسلة صدر هذا الشهر، ووصل إلى بلادنا، وقد حمل عنوانًا لافتًا هو " علم الاجتماع الرقمي- منظورات نقدية"، تحرير: كيت أورتون - جونسو، نيك برويور ترجمة: هاني خميس أحمد عبده، وواضح من عنوانه هذا انه يحاول ادخال قارئه العربي الى الاجواء الجارية في العالم المعاصر حول المجتمعات والرقميات، وان يطلعه على آفاق موضوع ملح يشغل افكار الناس في انحاء مختلفة من عالمنا، وان يضعه في صورة العصر الرقمي تحديدًا. هذا العدد يأتي استكمالًا وإضافة إلى الكثير من اعداد هذا السلسلة الهامة في مجال الرقميات والمجتمعات الحديثة، وبإمكان الاخوة القراء المهتمين الدخول إلى شبكة البحث العالمية العنكبوتية للاطلاع على ما ضمته وقدمته هذه الاعداد من الكتب في مجالها الخاص والهام في الآن. بل انه يمكن لهؤلاء قراءة اعداد من هذه السلسلة فهي حاضرة وجاهزة للتحميل المجاني، اما سعر العدد الواحد منها بعد وصوله الى بلادنا فانه بالكاد يساوي مقابل الارسال في البريد!!

لقد توزعت مواضيع المؤلفات والكتب التي ضمّتها هذه السلسلة خلال فترة صدورها المديدة، على العديد العديد من المواضيع في شتى العلوم والمواضيع، ونشير هنا إلى اعداد مختلفة منها مثل " التفكير العلمي"، للكاتب المبدع الدكتور فؤاد زكريا، كما قدمت اصداراتها الاولى كتابًا هامًا هو " اتجاهات الشعر العربي المعاصر"، للدكتور احسان عباس المعروف بموسوعيته الثقافية واطلاعه على اسرار وخفايا شعرنا العربي ببعديه المعاصر والقديم، ومن الكتب التي يشار اليها من هذه السلسلة الثقافية الشهرية كتاب حكمة الغرب تأليف الفيلسوف البريطاني البارز برتراند راسل ترجمة الدكتور فؤاد زكريا، وتراث الاسلام تصنيف: جوزيف شاخت وكليفورد بوزورت. ترجمة: كل من الدكاترة: محمد زهير السمهور، حسين مؤنس، احسان صدقي العمد. تعليق وتحقيق كل من الدكتورين: شاكر مصطفى وفؤاد زكريا، وكتاب " الذكاء العاطفي" تأليف: دانيال جولمان، ترجمة ليلى الجبالي، مراجعة محمد يونس، وكتاب "سيكولوجية فنون الاداء" تأليف: جيلين ويلسون، ترجمة: شاكر عبد الحميد. مراجعة: محمد عناني. اضافة الى مؤلفات الباحث في النقد الادبي الدكتور عبد العزيز حمودة، والباحث المبدع الدكتور شاكر عبد الحميد في الابداع وعلم النفس. اما المترجمون الذين تعاملوا مع هذه السلسلة الرائعة فيبرز من بينهم كل من الدكتورين امام عبد الفتاح، وشوقي جلال وغيرهم كثير.

كما سبقت الاشارة فان كل كتاب صدر ضمن هذه السلسلة يُعتبر وجبةً دسمة في موضوعه، علمًا أن مواضيع كتب السلسلة متنوعة ومختلفة وأهم من هذا تعمل ادارة السلسلة بدأب ومثابرة على مدِّ قارئنا العربي بأحدث الاصدارات العربية الموضوعة ونظيرتها الاجنبية المترجمة التي تضع هذا القارئ في صورة العصر وقضاياه الملحة، وتزوده بثقافة متعمقة، في كتاب انيق مُحرّر بأيدٍ وكفاءات ذات معرفة، خبرة وتجربة. يزيد في أهمية هذه السلسلة، اسوة بغيرها من السلاسل الكويتية المماثلة، أن اسرة تحريرها تشترط على ما يُقدم اليها من كتب مترجمة خاصة ان يزودها مترجموها او بالنسخ الاصلية المترجم عنها لغرض المراجعة، التدقيق والتعليق اذا اقتضى الامر.

من مميزات هذه السلسلة ايضًا، انها تصدر في تاريخ مُحدّد من الشهر، لا يتأخر يومًا واحدًا عن موعد صدوره، ويُذكر بكثير من الشكر والعرفان انها لم تتوقف خلال سنوات صدورها الا مرة او مرتين، احداهما عندما دخل الجيش العراقي إلى الكويت، وقد توقفت فترة عام على ما اذكر، والاخرى في فترة الكورونا سيئة الصيت، وقد افرح القلب واثلج الصدر، انها عاودت الصدور في تموز الجاري.

مُجمل القول ان هذه السلسلة تعتبر وجبةً ثقافية شهرية مميزة، وانها تضع القارئ في صورة العصر وقضاياه بعلمية ومهنية ملموستين، كما انها تُعتبر خطوة متقدمة في ثقافتنا العربية نحو العصرنة.. علمًا انها لا تنسى الماضي وتضعه في صُلب حساباتها معتبرة ان الحاضر ما هو الامتداد الطبيعي له.

إلى المجلس الوطني للثقافة والفنون والادب في دولة الكويت، كل التحيات على هديته القيمة هذه.. لكم منا فائق التقدير وخالص الامتنان.

***

ناجي ظاهر

الكاتب المصري المعروف احمد عباس صالح، اصدر قبل عقود، كتاباً عنوانه: اليمين واليسار في الاسلام.. عنوان كتابه ذلك، ألهَمَني عنوان هذه المقالة القصيرة.

في اوائل السبعينيات من القرن الماضي، ظهر جيل من الشعراء الشعبيين العراقيين ابدعوا في نظم القصائد العاطفية الجميلة التي تحول الكثير منها الى اغاني جميلة تداولها الناس..

السلطات صنّفت معظمهم باعتبارهم (يساريين)، اما لأنهم فعلاً يساريون او لأنهم رفضوا الكتابة السياسية لتمجيد تلك السلطات..

هؤلاء كتبوا صوراً شعرية تنقل عواطف الناس وظروفهم واحلامهم والعقبات والمرارة التي تطبع حياة الكثيرمنهم حتى في عشقهم.

بالمقابل، كان هناك جيل (أقل شأناً) من شعراء ترضى عنهم السلطات.  كانوا يكتبون شعراً عن الحرب والجماجم التي تعبد طريق الحرية والتنمية ودماء الشباب التي يجب ان تسيل كأنها نذر يقدم لألهة وثنية قديمة..

كانوا ينظمون شعراً عن نيران الحرب والسيوف البتارة والتضحية بالغالي والنفيس!!

لماذا كل ذلك الدمار والعذاب والنيران؟؟

لأن السلطات اعتقدت انها تستطيع تغيير العالم !!

المجموعة اليسارية، هم وعدد ممن غنّى لهم من المطربين، طوردوا وشُرِّدوا في اصقاع الارض. وبعضهم تعرض للاعتقال والتعذيب والعزل والاهمال والتهميش ومُنعوا من الكتابة والنشر ...

المحزن ان هذه الاجراءات حرمت المجتمع من نتاجاتهم الجميلة. واوقفت عصر الاغاني الخالدة التي كتبها هؤلاء ولم يستطع أحد من شعراء اليمين ان يأتي بمثلها..

من بقي منهم على قيد الحياة ويعيش في المنفى، توقف تقريباً عن الانتاج والعطاء .

كيف يمكن له أن ينتج نفس الجمال القديم وهو بعيد عن بيئته واهله؟؟

سؤالي: هل ان هؤلاء اليساريين كانوا اكثر حريةً وانفتاحاً وتحرراً من القيود الاجتماعية والموروثات، لذلك استطاعوا الابداع؟

***

د. صلاح حزام

صدر كتاب "مجالس الجٍنان في تجويد القرآن"، في سنة 2022م ، وهو عبارة عن مجموعة دروس ومحاضرات ألقاها سماحة الشيخ ميثاق محمد الزبيدي في جامع ومقام علي بن موسى الرضا (ع) في العشار/البصرة، قام بجمعها وترتيبها وإعدادها للطباعة الشيخ عباس محمد الأسدي. والكتاب بمئة وست وثلاثين صفحة تتقدمه كلمة تمهيدية للسيد طالب الحكيم صاحب كتاب "المراسلات"، ثم مقدمة للشيخ عباس الأسدي حيث قسّم الكتاب الى ثلاثة فصول. الفصل الاول: يتحدث عن التجويد لغة واصطلاحاً / اللحن الجلي والخفي / آداب التلاوة /مراتب التلاوة / العلامات في رسم المصحف /القراءة التفكيكية / مخارج الحروف / صفات الحروف اللازمة / وغيرها . والفصل الثاني: يتحدث عن صفات الحروف العارضة / التفخيم والترقيق / أحكام النون الساكنة والتنوين (الاظهار /الاخفاء / الاقلاب / الادغام / أحكام الراء (الترقيق / التفخيم) / أحكام الميم الساكنة / أحكام اللام الساكنة / أحكام المد وانواعة. والفصل الثالث: يتحدث عن الوقف والابتداء / السجدات في القرآن الكريم / ملحق بعض الكلمات الصعبة وتفكيكها، وغيرها.

طُبع هذا الكتاب بغلاف أنيق يليق بعنوان الكتاب، وعرض للمعلومات مميز ومريح للقارئين والقارئات، ومما لفت نظرنا في صفات الحروف عند الكلام عن صفات التوسط بين الشدة والرخاوة، أنه أثبت عبارة جديدة في الصفحة (43) تجمع حروف التوسط الخمسة، وهي (نُر عَلَم) بدلا من العبارات المعروفة (لن عمر / عن رمل / لم نرعَ) وإنّ شرح هذه العبارة مذكور في الحاشية.

ومع تقديرنا لهذا الجهد المميز في تأليف هذا الكتاب، وإعداده وإخراجه، إلا أن هناك بعض الملاحظات الثانوية، منها أنه بحاجة إلى فقرة قصيرة هي خاتمة أو خلاصة تتضمن نصائح وإرشادات عامة مختصرة عن أحكام التجويد ومراتب التلاوة وآدابها بخاصة للمبتدئين. أضف إلى ذلك أن المصادر التي ذكرت في آخر الكتاب، بحاجة إلى بيانات أكثر، كتاريخ الطبع، ومكانه، ودار النشر. كما أن الكتاب نفسه بحاجة إلى توثيق، وذلك بذكر أسم الناشر أو أسم المطبعة، ومكانها.

وفي الختام ندعو الدارسين لأحكام التجويد وآداب تلاوة القرآن الكريم، الاطلاع على هذا الكتاب أي كتاب: "مجالس الجنان في تجويد القرآن"، ففيه الجديد والمفيد، ومن الله تعالى نستمد التأييد والتسديد.

***

أحمد محمد جواد الحكيم - باحث وأكاديمي عراقي

عندما تقرا كتبا بعينها مرات ومرات ويشدك الكاتب بقوة أسلوبه وبجاذبية خاصة لا تعرف سرها تتساءل في قرارة نفسك: لماذا ينجح كاتب في جذب القراء ويفشل آخر؟ ..

أتذكر منذ سنوات وانا في مراهقتي في سن السابعة عشرة عندما وجدت على رف مكتبة مدينتي كتابا سميكا بني اللون يحمل صورة العقاد من 702ص بعنوان " في صالون العقاد كانت لنا أيام " للكاتب الكبير أنيس منصور رحمه الله  استهواني الكتاب وأبحرت في محيطه حتى انهيته وبين الفينة والأخرى ولفترات أعيد قراءته حتى وصل عدد القراءات إلى خمس.

وبدات رحلة البحث عن كتب أنيس منصور هذا المثقف الموسوعي الذي يجمع بين الصحافة والأدب والفلسفة والترجمة والدين وعشق الأسفار..

وأدمنت قراءة زاويته اليومية بالأهرام "مواقف" وعرفت بعد السنوات من خلال قراءة سيرة المبدعين الكبار الذين أثروا في الإنسانية بأعمالهم الخالدة أن للكتابة المتألقة الكونية التي تتجاوز الإيديولوجية الضيقة، خلطة سرية تتمثل في هذه التوابل منها:

أولا: التدريب على الكتابة اليومية مهما كانت الظروف ..

ينصح الكاتب الأمريكي ستيفن كينج الكاتب ألا يجلس لينتظر الإلهام حتى يأتيه من أجل أن يستعد لإمساك قلمه، ولابد عليه أن يدرب نفسه على الكتابة يوميًا وبشكل منتظم مهما كانت الظروف والعوائق..

فعلى الكاتب الجاد أن لا ينتظر الإلهام بل عليه أن يجلس أمام مكتبه ويشرع في الكتابة، يكابد ويصارع من أجل إيجاد فكرة جميلة يقيدها على دفتره او حاسوبه اوشاشة هاتفه...

ثانيا: الكتابة الجيدة تتطلب قراءة واعية مثمرة متنوعة وهذا ما تميز به أنيس منصور وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم واحمد رجب ونجيب محفوظ ومصطفى محمود فالتنوع في القراءة بين أدب وفلسفة وتاريخ ودين يثري ثقافة الكاتب ويجعله يتميز عن غيره من الكتاب الأقل قراءة وثقافة..

ثالثا: الخبرات الحياتية والرحلات والأسفار والانفتاح على العالم يثري ثقافة الكاتب ويمده بمادة ثرية مشوقة وهذا ما تميزت مقالات أنيس منصور فسرد تجاربه ورحلاته وخبراته الحياتية وما يحدث في العالم من مواقف غريبة محيرة للعقل فهذا ما يجعل القارئ ينجذب لقراءة المقال ومتابعة الكاتب في كل ما يكتبه..

ثالثا: الصفاء الذهني والروحي والتفرغ للكتابة، فالكاتب المحترف صاحب الاسلوب الجذاب يعطي الوقت الكافي لأعماله الإبداعية تتضج على نار هادئة فلا يتسرع في النشر وحب الظهور والشهرة الكاذبة لهذا لا نستغرب أن نجد كتابا كبارا عالميين الذين تحصلوا على جائزة نوبل تستغرق أعمالهم سنوات حتى تظهر للنور وتنال الشهرة ويكتب لها الخلود.. 

فالكاتب الكولومبي  غارسيا ماركيز قضى سنوات طويلة في التفكير في « مائة سنة من العزلة « و« وقائع موت معلن « قبل كتابتهما

والروائي الأميركي الذي انهى حياته بالانتحار أرنست همنغواي أعاد كتابة آخر صفحة من روايته « وداعا للسلاح « 39 مرة...

رابعا : الكتابة بلغة راقية شفافة تخاطب العقل والقلب ينتقي فيها الكاتب كلماته فلا حشو ولا غرابة ولا مفردات بعيدة عن العصر مدعمة بالحكمة وفلسفة الحياة وهذا ما اشتهر به أنيس منصور من آراء عميقة حول الحب والمرأة والسعادة

وكمثال على ذلك قوله:

-'الفرق بين الحب الفاشل والحب الناجح أن الأول يؤلمك شهرا، في حين أن الثاني يؤلمك مدى الحياة".

-"الحياة مثل البصل، قشرة تحت قشرة وفي النهاية لا شيء إلا الدموع ".

-" لقد وُلدنا وسط غابات من علامات الاستفهام، فتركناها وراءنا غابات من علامات التعجب ".

هذه بعض توابل الخلطة السرية للكتابة سيدة المقام لا يقدر عليها إلا أولو العزم من المبدعين الذين تركوا كل شيء وراءهم وتفرغوا لها وفي محرابها تفجرت مواهبهم فلونوا العالم بجمال أفكارهم فكانوا قيمة مضافة في هذه الحياة.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

شدري معمر علي

تحية حُبٍ إلى الشَّاعر الكبير سُليمان العيسى

من خُضرة الضَّيعةِ ونبعِ الغَدير.. من حُقول الحنطةِ، وزغردةِ العصافير.. من حفيفِ الصَّنوبر وفيافي السنديان عند ساعات الهجير.. من إغفاءة وردةٍ باغتها شُعاعُ شَمسِ الصَّباحِ، من رائحةِ التُربةِ حين تُقَبِلُ وجناتُها حَباتَ مطرٍ تتوقفُ لوصالٍ حميمٍ.

من هناك جاء سُليمان العيسى .. من غاباتِ الحَورِ التي تَفرشُ بساطَ لواءِ اسكندرونة، هناك حيث غسلت عينيه ألوانُ الخضرة وفسحةُ السَّماء وتنشَّقَت رئتاهُ عبيرَ القَرنْفُلِ وشَذا الرَّياحين.. وغازلَ سمَعُهُ صُداحَ البلابلِ وطيور الحسونِ.. تَشرَّبت روحُه نسائمَ النَّقاءِ، فجاءت كلماتُهُ وريقات نَرجِسٍ صافيةٍ،سقتها ينابيعُ الطِّيب في تُربةٍ سَخيَّةٍ.

عَشِقَ الأرضُ وهامَ بحنايا البساتينِ وأغوتهُ بغُنجِها سهولٌ ووهادٌ.. عِشْقُ الأرضِ لا يُدانيهُ عِشقٌ أو غرامٌ.. فالأرضُ وإن نهجُرُها لا تَهجُرنا.. نَخونُ عشرتَها، ولا تُفكرُ يوماً بِخيانتِنا.. نقسو عليها، نسيءُ معاملتَها، ولا تفكرُ يوماً بمعاقبتِنا.. وحدَها الأرضُ هي الأمُّ وهي الحبيبةُ.. كم يَصعُبُ أن تجتمعَ الاثنتانِ في واحدةٍ من غير شجارٍ ومن غير عويلٍ.

وما الحيلةُ إذا أرغمنا الباغي أن نهجُرَها قَسراً.. أن يجعلَنا رَغماً عنَّا ننسلخُ عَنها.. وحينها جُلَّ ما نستطيعُ أن نفعلَهُ هو أن نُبقيَ شيناً من روحِنا بين حبيباتِ تُربتِها.. نُغطيه بِعنايةٍ كي لا يكتشفهُ الغاصِبُ ذات مرةٍ.. وتُرغِمُنا أعقابُ البنادقِ على حزمِ بضع حقائبَ عتيقةٍ، نطوي فيها دمعةً، وجحيمَ ذكرياتٍ يلسعُ حناجرَ من بُكاءٍ:

"أذنتك هل أمضي من دون وداعِ الحيِّ

ورنوةِ عاشقٍ للدَّار

سأخلفُ شطراً من عُمري

باللَّهفة خَضبٌ والتِّذكارُ"

أسيراً يصبحُ لواءُ اسكندرونة وشريداً يصيرُ سُليمان العيسى، يؤرِّقُهُ ألمُ الرَّحيلِ، والجِراحُ كثيرٌ، جرحُ وداعِ أرضٍ طَيّبَةٍ، وجِرحُ التَشرُّدِ والضياعِ:

"العُمرُ رحيلٌ والحُبُّ رَحيلٌ

والمَثوى إما طالَ رحيلٌ

أُلامُ إذا غادرتُ الدَّارَ

ورحتُ أطوفٌ في الأفاقٍ

ولا أدري سأحِطُّ رِحَالي

أين لا أدري"

يُلَملِمُ أوراقَهُ ويحتضنُ تحتَ إبطهِ حُزمةً من سُطورٍ وكَلماتٍ ويركبُ فوق ظهرِ غيمةٍ ويسافرُ إلى حُدودِ المَتاهةِ:

"تلٌ يغيبُ

وقمةٌ تبدو

روادٌ كالخيالِ كالُّلغزِ

يزدحمُ السُّؤالُ

على شفةِ السؤالِ"

وتشتعِلُ في أعماقهِ جَذوةٌ من ثَورةٍ، راحت تموجُ في حنايا حُروفِهِ المُلتهبةِ، تنتظرُ يومَ العَودةِ وتَهفو إلى أرضٍ يجمعُها الِّلسانُ ذاته، فيفيضُ نبعاً يُسقي نبتَةَ أملٍ، راح يرنو إلى رؤيةِ شَبابِها، ذات ربيعٍ يجيءُ حاملاً بشائرَ الغَدِ الآتي وحُلُمِ الوعدِ والِّلقاءِ:

" هو نهرٌ يا صديقي

هو نهرٌ كان أحمرَ

وتَمطَّى الآن أخضرَ

ووسامي الضَّخم

أن أسمع أنباء الحبيبةِ أبداً

تزرعُ في الأرضِ الحبيبة أبداً

تزرعُ أشجارَ الغدِ الموعودِ

ميلادُ العُروبةِ"

سليمان العيسى طَوفانٌ من حُبٍّ أبداً يفيضُ.. أبداً يَغرِفُ من أطرافِ الحِكايةِ.. من يرتوي من مَّعِينٍ، لا يُمكنُ أن ينضحَ بُغضَاً.. من يعشقُ الأرضَ والزَّهرَ ولونَ السَّماءِ، لا يقوى على غيرِ العطاءِ.. من يتشرَّبَ أطيافَ الجَمالِ.. من غير أن يدري ينسابُ منه حُلوَ الكَلامِ، ومن أجملَ من الأطفالِ؟ ومن أصفى من عيونِهِم، ولهذا يُتوّجُ طَوفانَ الحُبِّ ناثراً من مخازنَ لا تنضبُ أشعارَ محبةٍ يغرسُها في دفاترِهم مَرةً وفي قلوبِهم الرقيقةِ آلاف المَرَّاتِ.. تعيشُ فيهم، تنبتُ غَرسَةً في النُّفوسِ العِطشى، وتنمو باسقةً في الوجدانِ.. تُعمِّرُ كالأشجار تَتَوَحَّدُ في العيونِ وفي البُنيانِ.

يتكلم بلسانِ الصِّغار، طفلاً يصيرُ يبحثُ في اهتماماتهم الأثيرة، والطُّفولةِ والأُمومةِ صِنوانٌ، وأجمل أطراف الحِكاية يهتفُ معهم:

"ماما ماما يا أنغاما

تملأ قلبي بنِدی الحُبِّ

أنتِ نشيدي

عيدُكِ عيدي

بسمةُ أُمي.. سِرُّ وجودي

أنا عُصفورٌ مِلءُ الدَّارِ

قُبلةُ ماما ضوءُ نَهاري"

ينشئُ بريشتهِ جيلاً.. يرسمُ بالكلماتِ شعراً ودفئاً، وألحاناً عذبةً، وبايقاعاتٍ من حنينٍ يجمعُ أُسْرَةً من محبةٍ ووطناً من ضياءٍ:

أرسمُ ماما أرسم بابا بالألوانِ

أرسم علمي فوق القممِ

أنا فنَّانٌ

أنا صيادُ الَّلونِ السَّاحِرِ

أرضُ بلادي كَنزُ مَناظِر

دعني أرسمُ ضَوءَ النَّجمِ

دعني أرسمُ لونَ الكَرْمِ

أكتبُ شِعراً بالألوانِ

أحيا حُرَّاً.. أنا فَنَّانٌ"

وبعد.. تلك بضعُ كلماتٍ صغيرةٍ ما استطاعت أن تُحيطَ سوى بجزءٍ يسيرٍ من فيضِ عطاءِ الشَّاعرِ الكبيرِ سُليمان العيسى صَيَّادِ الَّلونِ السَّاحرِ الَّذي اصطادَ بريشتِهِ قُلوبَنا، فاضحينا أسرى لعُذوبةِ أشعارِهِ.. حفظناها في حنايانا.. وغداً نُوَرِّثُها للصِّغَارِ، أناشيدَ مَحبةٍ تُبدِّدُ عن النُفوسِ زَمنَ الجَفاءِ.

سليمان العيسى شكرا يا نبع السخاء.. ونحن على يقين أن لون الشمس قدره دوما دفء العطاء، وكل الاحتراقات تحتمل ما دامت تفضي الى دروب الضياء.

***

جورج مسعود عازار

القول بالابداع كقيمة جمالية وانسانية جوهرية..

بعد مشاركاتها الفنية المتعددة ومنها المعارض الجماعية والشخصية شاركت الفنانة التشكيلية والمسرحية زينب النفزي في معرض جماعي بدار الثقافة ابن خلدون حيث قدمت عددا من لوحاتها وأعمالها الفنية التشكيلية.و قد تعددت معارضها في فضاءات ثقافية بالعاصمة لتبرز مناخات تلويناتها.. ثمة بهاء نائم في الأقواس والأزقة والأبواب وصراخ الفتية وبياض تلتحفه المر أة في ضروب كثيرة من الدهشة.. وفي خشبة المسرح وما تحيل اليه من خيال وحب وامتاع وابداع.. والحكاية هنا هي هذا الذهاب الى الدواخل في شواسعها نحتا للكيان وتأصيلا له.. انها فكرة الفن تقتحم عوالمنا اليومية بتجددها وانسيابها مثل نهر قديم يصنع موسيقاه التي لا نرى لها لونا غير صفاء الحال.. والأحوال.. خاضت التربة المسرحية لتعانق الركح من خلال دور في حكاية من حكاياتها هي وفق ولع وشغف بالمسرح كمجال للفعل الثقافي العميق.. ومن تفاصيل التلوين وهي تعد لمعرضها الخاصالرسم هامت بالأمكنة ومنها المدينة ومشاهد أخرى قريبة منها حيث تنوعت معارضها الجماعية والخاصة لتبرز جمال النظر والحلم.. تفعل كل هذا وكأنها تقول ".. تأسرنا الذكرى ويقتلنا الحنين وينهشنا الوجد.. فنلوذ بالألوان وبالكلمات.. ماذا لو حدثتك أيتها المعاني بشأن ما رأيت.. لكننه الحلم يبث شيئا من رغباته ينثرها على البياض.. في البياض.. نعم.. مثلما تنثر فكرة ألوانها هناك.. على الجدار.. في الجدران.. تدخل المدينة.. .تدخل المكان الجميل.. هناك نعم تجد اللوحات وهي تسعد بك مثل فراشات من ذهب الأزمنة.. والأمكنة.. كان سفرا ممتعا خضته ذات معرض هناك لتتواصل الرحلة.. ".كون من دهشة الجمال العابر للمسافات.. مسافات اللون والحركة والوجد والشجن والأمنيات و.. .. الأحلام.. ان الأحلام هنا تصرخ ترتجي كلماتها.. هي أحلام بمثابة العناوين ابتكرتها الرسامة وهي تلهج بالصور وبالذكرى والنوستالجيا.. معرض تتلوه معارض أخرى للرسامة زينب في تونس وهي تعد لمعرضها الشخصي برواق بالعاصمة.. وسعي ونزوع نحو المغامرة التشكيلية بكثير من الوفاء والبحث المفتوح والذهاب مع العناصر والتفاصيل والأشياء في عالم معتل.. و به الكثير من جنون البشر.. و ما الفن ان لم يكن مثل هذا الذهاب في البعيد من حيرتنا القديمة وسؤالنا الحارق ودهشتنا الطافحة بالصمت.. رحلة مفتوحة على الدهشة والحنين والحلم وفق المتاح في عوالم التلوين والمسرح ولأجل تحقيق الذات في هذا السفر الانساني المفعم بالابداع والامتاع.

***

شمس الدين العوني

الموهبة الشعرية ذاتها منذ أقدم الأزمان، فالموروثات الجينية تحملها وتورثها للأجيال، والمواهب القديمة توفرت لها معارف قليلة وتحديات محددة ومعروفة، ولهذا كانت أغراض الشعر عندها جلية ومتكررة.

وفي عصرنا تنامت منابع المعارف، وتبدلت صور الحياة، وتألقت العقول بمبتكراتها، والدنيا بمعطياتها المادية المتنوعة، وتطورت المواهب وفاقت ما سبقها بقدراتها التعبيرية واللفظية، وبصورها البلاغية الباذخة الروعة والجمال.

ويمكن القول بأن هناك العديد من الشعراء الذين يضاهون طبقات الشعراء الأولى، وربما لدينا المئات منهم، والأمة لديها نزوع للتجمد والتحجر، والوقوف عند حالة ما تضفي عليها ما ليس فيها، وترفعها إلى مقامات المستحيل.

فما قيمة الشعر القديم أمام فطاحلة الشعراء المعاصرين؟

أستمع لشعراء شباب لديهم مواهب متميزة وقابليات تعبيرية خارقة، ويأتون بأشعار لم يأتِ بها الأولون، فهم أقدر منهم وأطول باعا في اللغة والمعرفة والمهارة الشعرية.

والأمة تغمرهم وتلغيهم وتتمسك بأسماء شعرية قديمة، وتحسبها الذروة ولا مَن يتفوق عليها، وكأنها تقول بأنها لا تتقدم ولا تتجدد، وقد أعطت سلاف ما فيها وخمدت، مما يتنافى وإرادة الحياة وبديهياتها الفاعلة فوق التراب.

الأمة ولودة ولا وجود فيها لكلمة أوحد، وأعظم، بل تضم الرموز المتنوعة المتوافدة المترافدة، فلا يجوز التجمد عند حالة واحدة ، فعندنا أكثر من متنبي، ومن أبي تمام، والبحتري، وأحمد شوقي، وغيرهم،  فلكل جيل شعراؤه المبدعون.

الأمة ليست خاوية، بل يُراد لها أن تتشرب بثقافة الخواء والعقم، وتنوح على الغابرات، فالأمة التي أنجبت الأفذاذ في سابق عصورها، قادرة على إنجاب أمثالهم المتفاعلين مع زمانهم ومكانهم بطاقاتها الخلاقة وجوهرها الحضاري المتوهج.

فلننظر لواقعنا الإبداعي بعيون التفاؤل والثقة بولادات متجددة ذات قامات فارهة وعطاء منيف.

فعصرنا عصر التعبير الأمثل عن طاقات أمة ذات مقام رفيع!!

***

د. صادق السامرائي

قلة هم الشعراء الذين لم تكن للمحافل الشعرية ولا منصات الانشاد دورا في تسويقهم وانتشارهم ومن بينهم الشاعر (كريم العراقي) الذي غادرنا مؤخرا بعد معاناة طويلة مع المرض، ذلك ان الجمهور عرف العراقي وردد قصيدته الذائعة الصيت (فتاة الجسر) وبطلتها " بهيجة قبل ان يعتلي العراقي منصة الشعر ولأول مرة في مدينة الديوانية عام 1972، فقصيدته المذكورة جسدت بطولة الفتاة الثورية  " بهيجة " التي استشهدت برصاص السلطة الملكية على الجسر في التظاهرة المنددة بمعاهدة بورتسموث عام 1948، ويومها انتشرت هذه القصيدة بشكل واسع وصارت ايقونة الشباب اليساري يرددونها في احتفالاتهم وتجمعاتهم ويتغنون ببطولات فتاتها والتي لحن كلماتها لاحقا الفنان " كوكب حمزة "، بهيجة الفتاة الشجاعة التي لم تهاب رصاص القتلة عندما وقفت على الجسر بين المتظاهرين تجسد البطولة ووحدة المعاناة وهي تصرخ:

يا صدري كل للفرح

أوف الشعب أوفي

دم بالضمير اشتعل

شيلني يجفوفي

......

........

هيه يا رصاص وهلا

وطرزلي نفنوفي

شو جني ليلة عرس

تتراكص زلوفي

قبل سنوات ظهر الشاعر كريم العراقي في مقابلة على قناة السومرية يستذكر فيها بداياته مع الشعر حيث ذكر انه اعتلى منصة الشعر ولأول مرة في الديوانية، وفعلا كان ذلك في مهرجان قطري انعقد في صالة سينما الخيام وكنت من بين الحضور الذي شهد استقبال الشاعر كريم العراقي من قبل جمهور الديوانية والذي كشف به عن هويته اليسارية حيث كان الشاعر العراقي وكما اسلفت معروفا من خلال قصيدته " بهيجة "، صعد ذلك الشاب النحيف المسرح بقميصه الفضفاض ويبدو عليه الخوف والارتباك رغم الاستقبال المهيب له وقد ادركت لاحقا ومن خلال ما أدلى به في تلك المقابلة انه وقبل توجهه الى الديوانية للمشاركة في المهرجان حذره بعض اصدقائه ان تكون بدايته القراءة في الديوانية لأنها ــ وحسب قوله ــ  فيها (شعراء كبار ومثقفون كبار) وربما كانت اسباب تلك الرهبة التي ظهرت عليه وهو يقف خلف المنصة لا تعود الى صعوبة البداية فحسب انما لحساسيته من الوقوف امام جمهور كان يتمتع بذائقة شعرية لا تهضم ولا تستقبل الا الشعر الجميل والرصين وقد ظل الجمهور في تلك الجلسة الشعرية متحمسا لسماع شيء من قصيدة بهيجة مرددا ومستفزا ذاكرة ببعض ابياتها:

خدي بحلاة الخبز

والدم شتل حنطة

يا وجهي رد اللهب

دخان للشرطة

الا انه ولحساسية القصيدة وطبيعة الجلسة تدارك الشاعر بذكاء انشادها في ذلك المحفل الذي انفرط منذ يومه الأول وانتقاله الى مدينة السماوة بسبب الاصطفاف السياسي الذي ساد القائمين على المهرجان.

وبرحيل الشاعر كريم العراقي يكون السرب قد فقد طائرا جميلا ياما صفق بجناحيه مغردا في سماء الشعر راسما بألوانه الجميلة قوس قزح شعري.

***

ثامر الحاج امين

مكفهراً، ولا أقول ممتعضاً، سألني فولفغانغ المولع بتفكيك الخطاب نصاً ومفردات، سألني بحرقة، ونحن نجلس في مقهى ندردشُ:"لماذا لا تثورون على الأوضاع الكارثية في بلادكم ؟!"

لوهلةٍ، إضطربت مشاعري حد الفوضى، لأن سؤاله حرَثَ جرحاً في صدري..

قلتُ وجِلاً، مُتلعثماً، كمَنْ يدافع عن تُهمة وُجِّهت له: "لكن الناس خرجت إلى الشوارع والساحات، بمئات الآلاف خلال السنوات التي سبقت الكورونا، ولم ...! مئات القتلى وآلاف من الجرحى والمعوقين، ناهيك عن المغيبين!

غدت الناسُ تتضوّر وتَتَلوّى خرساءَ، بعد أنْ نَزَفَت دمها والخيال من كسورِ"ممكنٍ "مشبوه !

فقد جاؤوا (الحاكمون) في غفلةٍ من البحر والطير.. ذبحوا النسيمَ ونثروا أشلاءنا على سيوف الحقد والكراهية.. فتكلَّسَ التأريخ في الخراب!

طوفانُ بلاءٍ صَيَّرَ البروقَ رصاصاً..

من سيحملُ نقيَّ عظامنا المتبقية من المذابح "الرحيمة" والحروب "المقدسة"؟!

رسم إبتسامةً مشفّرةً وقال:" لن تُحرِّروا بلادكم بالهتافات في الساحات وبالخُطبِ من على منابر الوهم المُنوِّم.. فالحاكمونَ موغلونَ بأبتلاعِ البلاد ومواردها، تارة بالمداهنة وأخرى بالسيف.. فلا فائدةَ من الوَلوَلة، لأنَّ الأخيرةَ لن تُعيدَ ما إنسكبَ من ماءٍ إلى جرّةٍ الندم والأسى"!

+ " لكن ما ذنبُ الناس إذاً، في زمانٍ يقصف العمر ويهذي موتاً، حين تساوى الجبانُ مع الشجاع منذ إختراع المسدس والبندقية؟" أجبتُ.

-: " أين هو دور المثقفين والتنويريين، الذين طالما قرَّعتَ رأسي بالحديث عنهم ؟"

+ كثرةٌ منهم إستطابت النوم في حضن السلطان، أدارت "دفَّةَ السفينة" نحو المحتل والحاكمين ومَنْ تسيَّدَ المشهد عنوةً، فأصيبوا برُهاب المرآةَ حتى لا يصابوا بالخجل من أنفسهم! أما المثقفون الحقيقيون فلاذَ قسمٌ منهم بالصمت كي يحافظ على رأسه بين كتفيه..! وقسمٌ ضئيلٌ

***

* فولفغانغ باوتس أستاذ جامعي (سوسيولوجست) عمل عشر سنوات في نيكاراغوا أستاذاً في جامعة ماناغوا، قبل أنْ يحال على التقاعد، متابع للشأن السياسي في منطقتنا كذلك.

بقي يصارع الموج ضد التيار..لكن مَنْ يسمع وسط الضجيجِ والزعيق الهابط ؟!

فبسبب من الحروب الحمقاء والقمع المُمنهج لعقود خَلَتْ، تَردَّت الثقافة والعقول، حدَّ الإنحطاط المروع، وإنتشرت الأمية بكل معانيها، حتى غدونا أمةً مُتيمَةً بالميتافيزيق/ الخرافة والغيب.. أمة تصنع لافتة وتروح تسجد لها، مثلما فعل أجدادنا الأوائل حين كانوا يصنعون آلهتهم من التمر ولمّا يجوعونَ يلتهمونها..

لذلك صرنا أمةً تدخرُ الثورة حتى يسقط النظام أو يأتي مَنْ يسقِطَه..

أمةٌ تؤمن بأنَّ" العجالةَ من الشيطان والصبرُ والهدوءُ من الرحمان"!

أمةٌ يدخر حكامها قِرشَ الحرية الأبيض لأيامنا السود..

وأرباب العمل يدخرون الشغل لأحفادهم وأقاربهم..

زوجاتٌ يدخرنَ في الثلاجة مشاعر الحب والرِقّة لفارسٍ أفلَتَ منهن مذ نجا أتونابشتم من الطوفان!"

- متى ستلتهمون "آلهة التمر" اللعينة؟ أما ضرَّكم الجوع ؟!! قالها بشيء من التهكم والمُكر،

+ إنَّ شعباً يريدُ التحرُّرَ من القمع والإستبداد والإحتلال، لا يسكن الوفاء لأرضه قلوبَ أبنائه، وأبناؤه لا يحترمون حقوقَ المختلف الآخر ولا قدسية الحياة، ستظل حريته منقوصة ونضاله أعرج، خاصة بعدَ شيوع مظاهر التفاهة وتكاثر التافهين، حيثُ "تساوى" الإنسان المثقف والعالم مع التافه والجاهل والرقيع بفضل الإنترنت وغيرها من وسائل الإتصال الحديثة ..

لكن يا فولفغانغ، أنتَ تدري أنَّ الأمل- غير الخامل- يظل مرجلَ الإرادة ومحركَ النضال، فأنْ فقده الناس شُلَّتْ إرادتهم وعقولهم، وغزا الصمتُ حناجرهم !

فما زلنا نملك ما يمكن فقدانه !

لكننا لا ندري لمن نُهدي هذا الخراب ؟!

ومَنْ سيسقينا شراباً يعيدنا لسُباتنا الآمنِ في الخرافة .. ننامُ دون أوجاعٍ وكوابيس، فلا نصحو حتى يحين موتنا !!

........................

........................

- غالباً ما نميلُ إلى عَقْلَنَة وقَوْنَنَة كل شيء، لكن الإنتفاضات والثورات، يا صاحبي، قد تـأتيك من حيث لم تحتسب !!

+ أما ترى أنَّ في قولتك هذه شيئاً من القدرية؟!

- كلا ! لأنَّ ذلك لا يعني أنْ تضع يديكَ في حِجرِك وتنتظر..! عليك بالعمل الدؤوب لتسهيل ولادتها لمّا تحين ساعتها..

+ لكن للثورات شروطها، من دونها لا تتحقق، وإلاّ أُجهضت، وخلَّفَت بُركاً من الدماء والرماد دون

جدوى ! فلا ثورة بدون حوامل إجتماعية مسلحة بالوعي السياسي والثقافي ...

- أراك عدتَ إلى العقلنة والقَوْنَنَة إياها..!

ضحك صديقي و رَبَتَ على كتفي برفقٍ، كأنه يواسيني،

قلتُ صحيحٌ أنني هرمتُ على أكتاف الغربة،

لكنني لم أفقد نعمةَ الإنتماء لأرضٍ لم أُولد خارجها !

وسأكملُ الطريقَ الذي بدأته قبل ستين عاماً، فليس لدي طريقٌ آخر..

........................

نادى فولفغانغ على النادل ليكسر الصمتَ الذي سقط بيننا..

***

يحيى علوان

حديث ماتع مع الحبيب بكري أبوالقاسم

اللغة أوسع نطاقا من اللهجة وتتصف دائما اللغة التي تعارف على تراكيبها وألفاظها أكبر قدر من القبائل والأطياف بالجزالة والبعد عن الحشو والاسفاف.. أما اللهجة فمعانيها في القواميس ومعاجم اللغة العربية مرتبطة ارتباطا وثيقا باللحن ولعل ما يفيد أن اللهجة منحدرة من اللغة ما جاء في أحد معاجم اللغة "لحن الفصيل ثدي أمه" أي رضع منها.. وفي الكتاب المعظم قال تعالى:" ولتعرفنهم  في لحن القول"اي من خلال تعابير وجوههم ومساقط ألسنتهم تستطيع أن تسبر أغوارهم وتدرك ما تجيش به أفئدتهم.

واللهجة في الأساس هي المنهل الذي يسقي الطفل موارد اللغة داخل محيطة الأسري دون كد ذهن أو شحذ خاطر وفي الغالب تتكون اللهجة من خليط غير منسجم ولا متناغم من اللهجات أو الرطانات كما في لهجتنا العامية في السودان نجد أنها تحتوي على الكثير من ألفاظ موغلة في القدم تعود لحضارات السودان القديمة في كوش وغيرها.. واللغة أوسع اطارا من اللهجة وهي تمتاز بالجزالة والفصاحة ولها قوالب توافق عليها الناس واللغة في العادة تكون هي الماعون الجامع لعدد من اللهجات التي جبل الناس على تداولها والتحدث بها,أما اللهجة فهي تتناقض مع اللغة إذ أنها لا تلتزم بالنضج والأصالة في خصائصها وتراكبيها كما أنها تختلف وتتفاوت من منطقة لأخرى وأيضا تتسم بالهشاشة والضعف والهزال في نواحى البلاغة وأجراس الكلام ,شئ آخر اللهجة تفتقد لبريق الألفاظ وسحر الصياغة خاصة في مظان الكتابة الابداعية من شعر موزون مقفى أو رواية تخلب الألباب أو قصة تأخذ بمجامع القلوب.. اللهجة في الغالب لا نستطيع أن نضع عليها تلك المعايير الصارمة من القواعد والالزام كما في اللغة فهي أوهى من أن نرصفها بتلك القوالب التي تتطلب النقاء والتاريخية والامتزاج.. فليس للهجة مهما استطالت وامتدت عبر القرون ما للغة من إرث وتاريخ ضارب في القدم والحديث عن التفاوت بين اللغة واللهجة طويل وشائك حبيبنا بكري أبو القاسم.. اللهجة قبل أن أنسى تحتوي على تنوع فرعي نابع من خصائص اللغة الأم أو هو هجين من لغات متعددة تحيط بالبيئة أو القطر الذي تتوطن فيه هذه اللهجة لأجل ذلك نجد أن هناك ألفاظ محددة بعينها تكون كثيرة الدوران على ألسنة قاطني منطقة جغرافية بعينها ونفس هذه الألفاظ قد تجد بعضها أو لا تجدها إذا سريت شمالا أو سعيت غربا.

أما الرطانة فهي تراكيب شديدة الخصوصية تتحدث بها مجموعة من الناس في محيطهم العائلي أو القبلي هذه الرطانة يتوارثونها كابر عن كابر وهي لا تستحق عناء الوقوف لمعرفة ملابسات نشئتها أو احصاء أسباب تكوينها لفقرها وجدبها الأدبي والفكري.

وسقى الله تلك الأيام الغوادي في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا وحفظ الله أساتذتي الكرام الذي نهلت هذا المعين منهم: بروفيسور أحمد شيخ عبد السلام من نيجيريا.. بروفيسور أكمل خزيمي من ماليزيا.. بروفيسور أحمد سمساعة من السودان  وفي الأدب دكتور عوض الله الداروتي من السودان.. دكتور أسامة السيد من السودان.. دكتورة أماني عبدالفتاح  من مصر.. بروفيسور منجد مصطفى بهجت من العراق العظيم.. بروفيسور نصر الدين إبراهيم من السودان.. دكتور الطابولي من ليبيا وبروفيسور أحمد سليم عمران من ليبيا.. أدام الله شخصوصهم وحفظ سيرتهم من الهدم والاضمحلال..

***

د. الطيب النقر

كثير من القضايا والأسئلة البيداغوجية والتربوية والتعليمية الشائكة تثار مع كل دخول مدرسي أو جامعي .. وتتغير هذه الأسئلة بتغير وتطور مصادر التعلم والتكوين التي تطرحها أسواق الاختراعات التكنولوجية والتطبيقات الرقمية وغيرها ولعل أهمها اليوم تقنيات الذكاء الاصطناعي وكيف يمكن للمدرسين الاستفادة منها في الفصل الدراسي بطرق مختلفة لتعزيز تجربة التعلم، وتخصيص التعليمات والمهارات، وتبسيط المهام الإدارية.

فعلى مستوى التعلم الشخصي يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل أداء الطلاب وتكييف المناهج الدراسية مع احتياجاتهم الفردية، مما يوفر مسارات تعليمية مخصصة.

كما يمكن لأنظمة التدريس الذكية أن تقدم مساعدات مخصصة للطلاب لاستيعاب المفاهيم بالسرعة التي تناسبهم.

يستطيع الذكاء الاصطناعي تصنيف أسئلة الاختيار مثل ملء الفراغات أو الأسئلة ذات الإجابات القصيرة، مما يوفر الوقت للمعلمين ويقدم إجابات فورية للطلاب.

يمكن للذكاء الاصطناعي تقييم المقالات والمهام الكتابية وتقديم تعليقات عليها بناءً على القواعد والبنية والمحتوى.

بالنسبة لروبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي يمكنها الإجابة على أسئلة الطلاب وتوفير المعلومات وتشجيع المشاركة داخل الفصل الدراسي وخارجه وإنشاء تجارب تعليمية مخصصة قائمة على الألعاب لجعل الدروس أكثر جاذبية وتفاعلية.

اقتراح الموارد التعليمية ومقاطع الفيديو والمقالات والكتب المدرسية ذات الصلة للمعلمين لاستخدامها في دروسهم. وإنشاء اختبارات وأوراق عمل ومواد تعليمية أخرى بناءً على أهداف تعليمية محددة.

أتمتة عملية تسجيل الحضور وإنشاء تقارير للمعلمين وهيأة الإدارة.

تعلم اللغة من خلال توفير المساعدة في الترجمة والنطق في الوقت الحصري. وتقييم الكفاءة اللغوية للطلاب واقتراح تمارين مخصصة لتحسين مهاراتهم وتطوير أدوات وتطبيقات متخصصة لمساعدة الطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة، مثل تقنيات تحويل النص إلى كلام وتحويل الكلام إلى نص. تحليل مجموعات كبيرة من البيانات لتحديد الاتجاهات في أداء الطلاب، مما يساعد المعلمين على اتخاذ قرارات تعتمد على البيانات لتحسين التدريس.

من المهم أن نلاحظ أنه على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون أداة قيمة في التعليم، إلا أنه يجب أن يكمل دور المعلم فقط، ولا يحل محله. يجب أن يظل المعلمون مشاركين بنشاط مسؤول في توجيه وتسهيل عملية التعلم، في حين يمكن للذكاء الاصطناعي تقديم دعم ورؤى قيمة لتعزيز التجربة التعليمية للتلاميذ . بالإضافة إلى ذلك، يجب على المعلمين أن يضعوا في اعتبارهم خصوصية البيانات والاعتبارات الأخلاقية عند استخدام الذكاء الاصطناعي في الفصل الدراسي.

من المؤكد أن خصوصية البيانات والاعتبارات الأخلاقية لها أهمية قصوى عند استخدام الذكاء الاصطناعي في الفصل الدراسي.

جمع وتخزين البيانات اللازمة للأغراض التعليمية فقط، والتأكد من الحفاظ عليها آمنة ووضع سياسات واضحة بشأن مدة الاحتفاظ بالبيانات ومتى سيتم حذفها.

التأكد من أن التلاميذ يفهمون كيفية استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الفصل الدراسي والأغراض التي يتم من أجلها جمع بياناتهم وتحليلها.

أن نكون على دراية بالتحيز المحتمل في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، خاصة في التقييمات والتوصيات والتأكد من أن أدوات الذكاء الاصطناعي غير متحيزة بأدائها بانتظام.

حماية خصوصية التلاميذ من خلال عدم مشاركة بياناتهم الشخصية مع أطراف ثالثة دون موافقة صريحة أو غرض تعليمي مشروع.

تنفيذ تدابير أمنية قوية لحماية بياناتهم من الوصول غير المصرح به أو أي انتهاكات.

تجنب استخدام الذكاء الاصطناعي بطرق قد تضر برفاهية التلاميذ أو تؤدي إلى إدامة عدم المساواة.

والامتناع عن استخدامه للمراقبة دون وجود مبررات وضمانات واضحة.

التأكد من أن المواد والتقنيات المعززة بالذكاء الاصطناعي متاحة لجميع الطلاب، بما في ذلك الطلاب ذوي الإعاقة.

من جانب آخر يجب أن يتلقى المعلمون التدريب المناسب على الاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي في التعليم وأن يظلوا على اطلاع بأفضل الممارسات. حيث يجب توضيح من يملك البيانات التي تم إنشاؤها بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي في الفصل الدراسي. التأكد من أن المعلمين والطلاب والمدارس لديهم فهم واضح لحقوقهم ومسؤولياتهم.

التعرف على القوانين واللوائح ذات الصلة المتعلقة بخصوصية البيانات والتكنولوجيا التعليمية في منطقتنا وبلدنا والقيام بالتقييم المستمر لتأثير وفعالية أدوات الذكاء الاصطناعي في الفصل الدراسي للتأكد من توافقها مع الأهداف التعليمية والمبادئ الأخلاقية.

لا مفر من إنشاء آليات للتلاميذ وأولياء الأمور لتقديم الملاحظات أو إثارة المخاوف بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي، والاستعداد لمعالجة هذه المخاوف.

من خلال مراعاة خصوصية البيانات والاعتبارات الأخلاقية، يمكن للمدرسين ضمان استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وأخلاقي لتعزيز التجربة التعليمية مع حماية حقوق ورفاهية طلابهم.

***

عبده حقي

اطلعت على حوار مع سفيتلانا ديومكينا – مديرة متحف مكسيم غوركي في معهد الادب العالمي التابع لاكاديمية العلوم الروسية، وجرى هذا الحوار بمناسبة الذكرى (155) لميلاد غوركي، والتي احتفلت به الاوساط الادبية الروسية في مارت / آذار عام 2023، وقد وجدت في هذا الحوار الحيوي جوانب طريفة و مهمة حول مكسيم غوركي، وأظن، انها ربما ستكون ممتعة ومفيدة وجديدة للقارئ العربي بالذات، اذ ان غوركي هو واحد من أشهر الادباء الروس بعالمنا العربي، بل انه كان في فترة (مالئ الدنيا وشاغل الناس في عالمنا العربي !!!)، وكان رمزا كبيرا يحتذي به بعض الادباء العرب باعتباره مؤسس منهج جديد في الادب هو الواقعية الاشتراكية، وكلنا نتذكّر (سيل!!!) الكتابات العربية النظرية والتطبيقية في اواسط القرن العشرين عن هذا المنهج الادبي الجديد وكيف انعكس – كما كانوا يكتبون - في نتاجات ادباء عرب كبار مثل عبد الرحمن الشرقاوي وحنا مينا وغيرهم، وكيف ان هذا المنهج سينتصر لاحقا ويسود في دنيا الادب العربي، ويمكن القول طبعا ان هذه (الموّجة!) قد انحسرت الان بشكل عام، رغم ان (بقايا و آثار!) هذه الكتابات لازالت لحد الان تظهر هنا وهناك احيانا في الدوريات العربية دون الأخذ بنظر الاعتبار، ان الكلام عن منهج الواقعية الاشتراكية قد اختفى واقعيا في الساحة السوفيتية نفسها منذ سبعينيات القرن العشرين تقريبا .

ولهذه الاسباب والعوامل بمجملها ارتأينا عرض المضمون العام لهذا الحوار حول غوركي في مقالتنا هذه، خصوصا وان الحوار يجري بالذات في وقتنا الحاضر (اي في عام 2023) مع مديرة متحف غوركي في اكاديمية العلوم الروسية، اي مع شخص اكاديمي روسي يعمل من أجل الحفاظ على تراث غوركي ومكانته، وكي يطلع عليه الناس في متحف خاص بهذا الكاتب الروسي الكبير، ولا يمكن لهذا الشخص طبعا ان يكون مضادا لغوركي (وما أكثرهم بيننا وحتى بين الروس ايضا!!!)، ويجب ان تكون افكار هذا الشخص حول غوركي بعيدة عن الشعارات الطنانة وهادئة و موضوعية (وهذا هو المهم جدا) بعد اكثر من قرن ونصف على ميلاد غوركي واكثر من ثمانين سنة على وفاته.

السؤال الاول الذي نود ان نتوقف عنده في هذا الحوار كان يدور حول منهج الواقعية الاشتراكية في الادب، باعتبار ان غوركي - قبل كل شئ – هو، كما جاء في نص السؤال (... واضع اسس هذا المنهج...)، فقالت مديرة المتحف في اجابتها عن هذا السؤال، ان هذا المفهوم الذي تنطلقون منه في سؤالكم (.. عتيق وغير دقيق ..)، واوضحت، ان منهج الواقعية الاشتراكية لا يرتبط بغوركي، وانما يرتبط بافكار ستالين حول الادب، هذا الزعيم السوفيتي الذي كان متابعا دقيقا للادب الروسي المعاصر له ويتفهمه بعمق، ولهذا فانه (اي ستالين) كان يعرف الدور الكبير و الحاسم للادب في توجيه الرأي العام، وبالتالي في بلورة الوعي الاجتماعي للشعب، وكان يضع آماله حول هذا الادب وتوجيهه، وتستشهد مديرة متحف غوركي بقول ستالين الشهير حول تعريفه للاديب بانه - مهندس الروح الانسانية، وقالت ديومكينا، ان ستالين كان بحاجة الى ربط هذه الافكار باسم اديب كبير وبارز مثل غوركي، والذي كان اكبر الادباء الروس شهرة داخل روسيا وخارجها آنذاك، والذي كان مقبولا ومعترفا به من جميع الاطراف الادبية الروسية رغم خلافاتها وعدم انسجامها، اي ان غوركي لم يكن (واضع اسس مفهوم الواقعية الاشتراكية)، وانما ربطوا هذا المفهوم باسم مكسيم غوركي ليس الا، علما، ان رواية (الام)، التي استشهدوا بها واعتبروها (النموذج!) لهذا المنهج قد أصدرها غوركي عام 1906، اي قبل ميلاد هذه المفهوم باكثر من ربع قرن، وقبل الافكار عن الاتحاد السوفيتي نفسه، وتضيف مديرة المتحف الى ان مكسيم غوركي واسلوبه ومنهجه في الكتابة الابداعية و مكانته الادبية في مسيرة الادب والفكر الروسي قد تبلورت كلها قبل ثورة اكتوبر بمدة طويلة، وانه لم يكتب اي شئ يتناسب او يتطابق مع مفهوم الواقعية الاشتراكية بعد المؤتمرالاول لاتحاد الادباء السوفيت (1934)، الذي اقر منهج الواقعية الاشتراكية . تختتم مديرة متحف غوركي اجابتها عن هذا السؤال قائلة، ان الحديث عن منهج الواقعية الاشتراكياة الان هو (... شئ شكلي وبلا حياة ...)، اذ يعني البحث في زوايا بعض النتاجات الادبية آنذاك، ومحاولة ايجاد بعض المقاطع فيها، وهي مقاطع تتناول الواقع عندها لا اكثر . 

الحوار مع مديرة متحف غوركي طويل ومتشعب، اذ تحدثت فيه عن الطريق الذاتي العصامي الصعب، الذي اخترقه غوركي، واستطاع ان يصل به الى مكانته المتميّزة في روسيا والعالم، وتوقفت عند قيصر روسيا آنذاك وعلاقته السلبية تجاه غوركي، لأنه اصبح في روسيا رمزا للحركة الثورية، وكيف تدخّل القيصر في قضيّة اخراجه من اكاديمية العلوم وكيف تضامن معه تشيخوف و كورولينكو، وتحدثت بتفصيل عن مواقف غوركي تجاه الادباء الروس وكيف حاول حمايتهم في بداية السلطة السوفيتية، وكيف عرض افكاره بكل شجاعة امام السلطة ...الخ ...الخ، وكم اتمنى ان يقوم أحد المترجمين بترجمة هذا الحوار باكمله الى العربية، لأن مديرة المتحف رسمت صورة حقيقية لمكانة غوركي واهميته في تاريخ الادب الروسي، صورة لغوركي كما هو في الواقع و دون رتوش واضافات من هذا الطرف او ذاك، وكم يحتاج القارئ العربي ان يطّلع على هذه الصورة الموضوعية، كي يعرف قيمة غوركي الحقيقية ومكانته في مسيرة الادب الروسي والعالمي . 

***

أ. د. ضياء نافع

اضاءات سريعة في حياة بيرم التونسي واشعاره

قدّم الشاعر العربي المصري بيرم التونسي (23 اذار 1893- 5 كانون الاول 1961)، في حياته وشعره الغزير نموذجًا حيًا للشاعر الشعبي الذي يعيش همومه الخاصة في بُعدها الاجتماعي، فكان شاعرًا ناقدًا ساخرًا من الدرجة الاولى، رائعًا في لغته، حتى أن طه حسين قال عنه إنه لا يخاف على اللغة الفصحى إلا من عامية بيرم التونسي، أما كامل الشناوي- صاحب "لا تكذبي"، فقد قال عنه: "فنان ثائر، عاش طوال حياته يعاني العرق والقلق، وشظف العيش، وقد يتهيّب-خاصة المثقفون- عندنا من الاعتراف به في حين كانت جامعات أوروبا تدرس آثاره وتعترف بموهبته الأصلية وفنّه الرفيع"، فيما وصف أحمد شوقي زجله قائلًا: " هذا زجل فوق مستوى العبقرية".

المنشأ

كما ذكرت المراجع الوفيرة التي كتبت عن هذا الشاعر الرائد، فإننا نعلم أنه ولد في الاسكندرية لعائلة من أصول تونسية، وأن والده كان تاجر أقمشة، كما نعلم أن والده توفي وهو لمّا يزل فتى غض الاهاب، فيما تزوّجت أمه بعد وفاة والده، لتشهد حياته نجاحات قليلة واخفاقات كثيرة، وليتقلّب في شتى الاعمال الشعبية والمهن، متنقلًا من منفى إلى منفى، كما ذكر هو ذاته في كتاب مذكراته، وكيف اعترفت السلطات المصرية الحاكمة عام 1954 به مواطنًا مصريًا ومنحته الجنسية المصرية بعد حرمان طويل له منها. عاش شاعرنا تجربته المُرة هذه من أقصاها إلى أقصاها فاكتوى بنارها ونَعِمَ بأنوارها، مرافقًا دائمًا لمعشوقه الاول والاخير القول الشعري الزجلي او العامي. فما هي قصة هذا الشاعر مع محبوبه هذا؟ كيف جاء إليه، وماذا قدّم فيه؟

عاشق الملاحم الشعبية

تذكر المصادر، وهي وفيرة عن بيرم التونسي، أنه جاء إلى عالم الشعر عبر طريق الحكاية الشعبية، وقد تمّ مجيئه هذا، بعد أن أنس في طفولته إلى أحد عمال البناء في ورشة خاله، واستمع منه إلى قصة بهرته، فأمضى فترة من عمره في انتظار هذا العامل، ليستمع إلى قصصه وحكاياته. بعد أن تعلم القراءة والكتابة في الكُتاب، اكتشف عالم الملاحم الشعبية العربية أمثال ملحمة بني هلال وعنترة بن شداد والاميرة ذات الهمة، وربّما كان هذا التوجه سببًا في أن يمارس كتابة القصص وفي أن ينتج عددًا وفيرًا فيها، ومن المعروف أن وقوع ديوان الشاعر العربي القديم ابن الرومي في يده قد أثر في حياته أيما تأثير، فتوجّه إلى كتابة الشعر، وكان أول انتاج له في القول الزجلي هجاء للمجلس البلدي في مدينته، وذلك ردًا على فرض ضرائب باهظة عن سنوات سابقة، لا يعلم عنها شيئًا، على بيته الذي اشتراه بشق الانفس، ونقدم فيما يلي شيئًا من هذا الهجاء:

يا بائع الفجل بالمليم واحدةً

كم للعيال وكم للمجلس البلدي

كأن أمي بلَّ الله تربتها أوصت

فقالت: أخوك المجلس البلدي

أخشى الزواج فإنْ يوم الزفاف أتى

يبغي عروسي صديقي المجلس البلدي

أو ربما وهب الرحمن لي ولداً

في بطنها يدعيه المجلس البلدي

تذكر المصادر أن هذه القصيدة كانت من أوائل ما كتبه التونسي من شعر بالعامية، مشيرة أنه فضل العامية على الفصحى، لأنه كان يعرف انه يكتب إلى شعب 95% من افراده أميون لا يقرأون ولا يكتبون، وتتوقف هذه المصادر عند محطتين هامتين في حياة التونسي، تمثلت إحداهما في علاقته بسيد درويش والاخرى بأم كلثوم. علما أنه كتب الاغاني للكثيرين في مقدمتهم فريد الاطرش.

علاقتان مميزتان

ابتدأت علاقة التونسي بسيد درويش عندما طلب منه الاخير أن يضع له أوبريت/ مغناة تحرّض المصريين على رفض الحكم الانجليزي لبلادهم، وتُعلي من شأن الانسان المصري، ضمن محاولة لإثارته وتثويره ضد الحكم الانتدابي الانجليزي على بلاده، فقام بيرم التونسي باقتباس المغناة المطلوبة من أوبريت «دوقة جيرولستين الكبيرة» للكاتبين الفرنسيين: ميلهاك وهاليفي. ومما جاء فيها قوله:

أنا المصري كريم العنصرين

بنيت المجد بين الأهرمين

جدودي أنشأوا العلم العجيب

ومجرى النيل في الوادي الخصيب

من هذا المنطلق الوطني الشعبي المُحب، ما إن قامت ثورة الضباط الاحرار في 23 تموز من عام 1952، حتى وقف بيرم التونسي إلى جانبها نفرًا مجندًا لخدمتها ورفدها بنسغ الحياة، ومما قاله في العيد الاول للثورة:

العيد ده أول عيد عليه القيمة، مافيهشي تشريفة ولا تعظيمة

صابحين وأعراضنا أقله سليمة، والقيد محطم، والأسير متحرر

مرمر زماني يا زماني مرمر

أما علاقته بأم كلثوم فقد ابتدأت عام 1940 عندما عاد بيرم إلى مصر متسللًا بعد نحو العشرين عامًا من معاناته النفي، خارج البلاد المصرية، وقد مرّت هذه العلاقة بمرحلتين هما:

- المرحلة الأولى وبدأت بأغنية "أنا وانت" عام 1941 واستمرت حتى عام 1947، وكانت جميع أغانيه لأم كلثوم في هذه الفترة من تلحين زكريا أحمد.

- بين المرحلتين كان فيلم "فاطمة" نقطة فاصلة حيث غنت أم كلثوم لأول مرةٍ من تأليفه وتلحين محمد القصبجي، ورياض السنباطي.

- المرحلة الثانية بعد فيلم فاطمة حيث لحن رياض السنباطي جميع الأغاني التي غنتها أم كلثوم من شعر بيرم، باستثناء أغنية "بالسلام إحنا بدينا" لمحمد الموجي، و"هوّ صحيح الهوى غلاب " لزكريا أحمد.

أما الاغاني التي كتبها بيرم التونسي لأم كلثوم فهي:

تلحين زكريا أحمد: "أنا وانت"، "كل الأحبة"، "اكتب لي"، "أنا في انتظارك"، "الآهات"، "إيه اسمّي الحب"، "حبيبي يسعد أوقاته"، "أهل الهوى"، "الاولى في الغرام"، "غني لي شوي"، "سلام الله على الحاضرين"، "قو لي ولا تخبيش"، "يا عيني يا عيني"، "في نور محياك"، "برضاك يا خالقي"، "الأمل"، "حلم"، "الورد جميل"، "نصرة قوية"، "هوّ صحيح الهوى غلاب."

تلحين محمد القصبجي: "يا صباح الخير يا للي معانا"، "نورك يا ست الكلّ".

تلحين رياض السنباطي: "بطل السلام"، "بعد الصبر ما طال"، "الحب كده"، "شمس الأصيل"، "صوت السلام"، "ظلموني الناس"، "القلب يعشق كلّ جميل"، "يا جمال يا مثال الوطنية"، "يا سلام على عيدنا".

تلحين محمد الموجي: "بالسلام إحنا بدينا."

مُجمل القول، ان الشاعر بيرم التونسي قدّم نموذجًا حيًا للشاعر الزجلي الشعبي، الذي انحاز إلى جانب الطبقات الشعبية المسحوقة ونطق بلسانها المُعذّب معتمدًا النقد الحاد والسخرية المرّة، وهو ما كلفه أثمانًا غالية من النفي والتشرد في بلاد الله الضيقة، وقد أصدر خلال حياته صحيفتين ساخرتين هما :" المسلة" و"الخازوق". ليكون بهذا كلّه واحدًا من رواد شعر العامية المحكية/ الزجل في مصر، وليأتي بعده العديد من الشعراء الذين سيواصلون نهجه هذا وسيمضون في دربه الحافل بالأشواك والاشواق.

***

ناجي ظاهر

عاش الفنان الممثل السوري المبدع خالد تاجا، (6 تشرين الثاني 1936- 4 نيسان 2012)، حياة صاخبة ومات ميتة هادئة، تاركًا وراءه العشرات من الاعمال الفنية في مجالات التمثيل المسرحي، السينمائي والتلفزيونية، وقد اعتبرته مجلة "تايم" الامريكية عام 2004 واحدًا من أفضل خمسين ممثلًا في العالم، أما الشاعر محمود درويش فقد أطلق عليه لقب " انطوني كوين العرب".

بداياته الاولى

تعود جذور الفنان خالد تاجا إلى عائلة سورية كردية، وهو من مواليد مدينة دمشق. تقول المعلومات المتوفرة إنه كان ولدًا مشاغبًا حتى أن أمه اصطحبته إلى مصحة اجتماعية عندما كان في التاسعة من عمره، فقال لها أهل الشأن هناك إنه ولد فائض الطاقة. كان خالد طفلًا مشاغبًا. وكان يحب الرسم. ابتدأت موهبته في الفن التمثيلي بالظهور في العاشرة من عمره.. وذلك خلال دراسته الابتدائية، أما انطلاقته الفنية الاولى فقد كانت عام 1957، عبر مشاركته في العديد من الاعمال المسرحية السورية، وقد كان دوره الأول في السينما، في فيلم "سائق الشاحنة" الذي أنتجته "المؤسسة العامة للسينما" في دمشق عام 1966 حين اختاره المخرج اليوغسلافي يوشكو فوتونوفيتش للقيام بدور البطولة فيه، ومن ثم توالت أعماله الفنية السورية، ومن أفلامه الشهيرة فيلم "الفهد" وفيلم "رجال تحت الشمس".

حياته الشخصية

تزوج خالد تاجا أربع مرات، وقد انتهت حياته الزوجية بالفراق حينًا وبالطلاق حينا آخر، في أواسط التسعينيات قرّر أن يعيش وحيدًا برفقة فنه وذكرياته.

في أواسط الستينيات من عمره أصيب خالد تاجا جراء إفراطه في التدخين بالسرطان في إحدى رئتيه، مما اضطر الاطباء لاستئصالها، وقد توقف عن التمثيل مدة سنوات. في مطالع السبعينيات من عمره عاوده زائره المرض اللعين، وقد فارق الحياة وهو في الثالثة والسبعين.

حساسية مفرطة للموت

اتصف خالد تاجا بحساسيته المفرطة تجاه الموت، وبإمكان مَن يُبحر في الشبكة العنكبوتية مشاهدة العديد من مقاطع الفيديو التي يتحدّث فيها عن الموت/ موته أيضًا، باسى وحسرة عن لحظة الفراق الأبدية، وكثيرًا ما ردّد فيها مقولة " الموت حق". ومما يذكر في هذا السياق أنه كان يخطّط لكتابة قصة حياته ليحولها إلى مسلسل درامي، وعلّل السبب أن حياته فيها الكثير من الآلام والصعوبات والإصرار والعمل على تحقق الهدف.

عندما شرع شبح الفراق الابدي يدق بابه بقوة أسس خالد تاجا قبره بنفسه وكتب عليه “مسيرتي حلم من الجنون، كومضة شهاب زرع النور بقلب من رآها، لحظة ثم مضت”، كما حمل جملة “منزل الفنان محمد خالد بن عمر تاجا من مواليد عام 1939".

حظي خالد تاجا بالعديد من التكريمات والجوائز، منها جائزة أحسن ممثل ثان عن دوره في مسلسل التغريبة الفلسطينية، وذلك في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون الذي أقيم عام 2005.

***

ناجي ظاهر

خضت رحلة البحث عن ذوات حرة متفردة، وانصهرت في صخب الحياة الاجتماعية، وشاركت المثقفين والمفكرين همومهم وطموحهم، وسعيت إلى التغيير الفكري والثقافي، وأعليت من شأن الكلمة الشفافة العميقة، وعزفت عن الأدلوجات المتآكلة والشعارات الرنانة الخاوية، وعشت بين ظهراني الدهماء زمنا طويلا، فغرت في نفوسهم المضطربة، ووضعت اليد على دائهم المزمن، ثم فكرت كثيرا وقررت أخيرا بأن تعتزل مضمارهم، وتجتنب ما خاض فيه دهاقنتهم، وتكتشف لنفسك سبيلا قاصدة، سبيلا لا اعوجاج فيها.. ثم ارتميت في أحضان الوحدة والعزلة باحثا عن إنسانك المثالي، بيد أنك لم تحمل مصباحك في واضحة النهار كما نقل عن ديوجين الكلبي، ولم تحمل مطرقة الهدم سعيا وراء بناء الإنسان الأعلى الأقوى كما فعل نيتشه، ولكنك حملت ذاتك المثقلة بالهموم، ارتأيت مشاركة الناس في حياتهم، ومحاولة فهم طبائعهم وطرائق تفكيرهم، ثم ماذا كان المآل؟ هل وجدت الإنسان الذي يشبهك ويحمل الهموم التي تثقلك؟ ها أنت عايشت المثقفين والمفكرين، وشاركتهم همومهم وطموحهم، ولكنك لم تستطع أن تنتسب لزمرتهم؛ لأن ما سعوا إليه لم يجد له سندا في الواقع، وطوباويتهم لم تصمد أمام واقع زئبقي لا يقر له قرار، وكلما ظنوا أنهم فهموه واستوعبوه في شموليتهم ظهرت لهم ظواهر وقضايا اجتماعية جديدة، فخلصت إلى ضرورة الاستفادة من أفكارهم، واستلهام روح فكرهم وطموحهم، وانطلقت وحيدا تبحث عن طريق مخالف لطرقهم، وسبيل خلاص لنفسك ولمن يحمل همومك. ثم هؤلاء الدهماء الذين خالطتهم في حيواتهم، وجالستهم في أماكن عمومية سنوات عديدة، هل هتكت حجب نفوسهم؟ هل غصت في لجج نمط تفكيرهم وسلوكهم؟

بحثت طويلا عن مثالك فلم أجد إلا نفسك؛ لأن الطريق التي سلكتها لم تكن طلبا للعثور على من يشاركك نمط تفكيرك وسلوكك وهمومك، وإنما كانت طريقا نحو ذاتك التي لم تستطع فهمها، والغوص في أعماقها المضربة: فذاتك هذه تضعف كلما ادعت القوة، وتحزن كلما زعمت الفرح، وتحجم إذ تقدم، وتسكن حينما تدعي الحركة والفعل.. ذاتك التي لم تسطع هتك حجبها، ووضع اليد على جرحها الغائر، هذا الجرح العميق الذي صاحبك منذ صغرك، وظل وشما في ذاكرتك ووجدانك، وقيدا محصنا يكبلك ويثقل خطوك. ألا ترى أن سبيل الخلاص لا يكمن في البحث عن مخلص؟ ألم تتمعن قول الفيلسوف بوئتيوس في عزاء الفلسفة حيث استغرب بحثنا عن السعادة خارج أنفسنا؟ أليس البحث عن الخلاص والسعادة والقوة والتفرد خارج ذواتنا جهلا قاتما منا لذواتنا؟ ثم لماذا تدعي الفكر وأنت لا تعرف نفسك؟ ولم تسعى إلى التحرر وأنت تجهل إمكاناته في نفسك، ومواطن القوة فيها؟

يا صاحبي المثقل بهمومه، الغارق في أحلامه وطوباويته، لعمري إني مكلوم لحالك، ومتأسف لخيبة أملك في رحلتك التي لم تكن من أجل نفسك؛ لأنك لم تدر أن لا سبيل لمعرفة الغير إلا بمعرفة ذاتك، ولا إمكان لتحررهم وتغيير منطق فكرهم ونمط سلوكهم إلا بالانطلاق من ذاتك أولا.. ولعل رحلتك القادمة تكون نقطة بدايتها ذاتك المثقلة، ومآلها الإقبال على معانقة الذوات الأخرى علك تستطيع أن تحدث فيها تغييرا فعالا، وتضيء ما عتم في عقلها ووجدانها، فتكون قبسا مضيئا، وسراجا منير تهتدي به الذوات في طريق البحث عن جوهرها، ومواطن قوتها وإخفاقها.

***

محمد الورداشي

هل يستطيع المتابع لآخر إفرازات الحركة الشعرية العربية المعاصرة أن يتغاضى عن اسم كبير ظلت إسهاماته الأدبية تلقي بظلالها وتمنح الحرف قيمة عليا، نتيجة اشتغاله المكثف على اللغة وتقنيات الكتابة وأبعادها الجمالية.. هذا الاسم اللامع والمحرك للسواكن والمشاكس للمشهد الثقافي العربي، وهو بلا منازع الشاعر والروائي والفنان التشكيلي الأردني المولد والفلسطيني الوالدين إبراهيم نصر الله صاحب الرواية السداسية( ستة أجزاء) زمن الخيول البيضاء. هذا الرجل الآتي من مأساة وملهاة القدس والذاهب كل صباح إلى ينابيع التساؤلات الوجودية الكبرى، لم يستطع أن ينزوي عن الدنيا أو يكتب نصا " شعريا " بعيدا عن صخب الحياة ومفارقاتها، وهذا المسار يعتبر أمرا طبيعا وبديهيا، ذلك أن الكتابة التي تروم الوصول إلى عتبات الإبداع، لا يمكن أن تتحقق بمجرد امتلاك مفردات اللغة وتقنياتها الدلالية والبلاغية

فقط، إنما تتحقق بتوفر الشروط السالفة الذكر واستحضار قضايا الراهن محليا وعربيا وكونيا، وهذا ما خطته أصابع كبار الشعراء على مدار التاريخ الإنساني القديم والوسيط والحديث.

إبراهيم نصر الله الذي ليس له من شغل منذ نعومة أضفاره سوى الكتابة، لم يجد من مسارات الحياة المتشعبة عدا مسار مسك القلم والريشة والترحال بين القصيدة والرواية واللوحة. في المدة الأخيرة، نشرت له إحدى الجرائد العربية الصادرة في لندن قصيدة مطولة، يزعم كاتب هذه السطور أنها أرقى ما وصلت إليه المدونة الشعرية العربية الى حد اللحظة الراهنة. حملت القصيدة عنوان" آخر الأرض ".. ولم ينسى هنا نصر الله

 أن يشتغل بشكل مكثف وعميق على التراجيديا الدامية والمربكة التي يحياها الإنسان العربي الفلسطيني والإنسان "الكوني" بشكل عام:                

"يتأمل غيم بلادا على حافة الهذيان

تتأمل عاشقة نافذة

لم تجد أفقا منذ عامين في عتمات المكان

يتأمل طفل أباه الذي لم يزل واقفا تحت شجرة توت منذ

سنين يراه يموت

كأن الزمان هنا واقف شبحا في الزمان

يتأمل حقل ذبول خطى النهر فجرا

وينشد مرثية الروح، صمتا، بلا شفة أو لسان

يتأمل زرع هبوب الخماسين

في أعين الناس والحيوان

تتأمل هذي الدمى طفلة

فوق ذاك الرصيف تشير بجبهتها نحوها

و اليدان مقطعتان"

هكذا، وبلغة مكثفة دلاليا وبلاغيا، يأخذنا الشاعر العربي الكبير إبراهيم نصر الله إلى ضفة الإبداع، ممتطيا صهوة اللغة المخاطبة للروح المنكسرة الباحثة عن مستقر لأحلام مهدورة وأجساد معذبة  وأقاليم أتعبتها ذاكرة الحروب وتداعيات العزف والحيف. إن اللافت في كل مقاطع القصيدة / النموذج هو تركيز نصر الله بدقة بالغة على صور وأحاسيس وتفاصيل تحدث الرجة في الجسد، ممعنا في سرد آهات الكائن الإنساني المراوح بين اليأس والأمل، العائد من طقوس الجنازات والدموع والعويل والصياح، الذاهب بأجنحة الخيال  الى حدائق النور والبهجة والانتشاء.. ولعل النقطة المفصلية التي زادت القصيدة أبعادا جمالية وفكرية دون السقوط في فخ المباشرة والوضوح الفج، هو المراوحة بين المكان والزمان وتأثير الواحد على الآخر، مما أثرى القصيدة بزخم كبير من الدلالات والمجازات الأمر الذي أعطى بشكل آلي النص الشعري تأويلات شتى لا حدود لها، علما بأن قصيدة محبكة فنية كهذه، بإمكانها  أن تعطي دروسا لا تنسى لبعض " شعراء " هذه البلاد، الذين لاعمل لهم سوى كتابة" نصوص " باهتة والتفكير في كل لحظة في بعض الامتيازات.. والحال أن الكثير منهم لازال متعثر في خطواته، ولا يعرف من أجواء الشعر والأدب والفكر والفن سوى السطح، أما العمق والتفاصيل والاشتغال الفني والتقنيات والجماليات، فحدث ولا حرج.. فهؤلاء  " الفطاحلة " لا يعرفون هذه القواميس ومن نظر لها شرقا وغربا، بل بإمكان أحدهم أن يقدم لنا في إحدى الفضاءات الثقافية مداخلة " قيمة" عن الحداثة في  الخطاب الشعري العربي المعاصر ولكن بمنظور سطحي شريطة أن نحظر له مكافئة رمزية تليق بمكانته الرفيعة في سماء الوهم!!.   هل بإمكان هؤلاء "الشعراء"

 المتسمرين في أماكنهم الفخمة والمسافرين إلى مدن وعواصم العالم للتحدث باسم الشعر التونسي.. أن يعطوناأجوبة ضافية وشافية عن أسئلة حارقة تهم المدونة الشعرية التونسية وإضافاتها إلى المشهد الشعري العربي الراهن؟

***

البشير عبيد - تونس

كاتب مهتم بقضايا التنمية والمواطنة والفكر التنويري وإشكاليات النزاعات والصراعات الإقليمية والدولية....

هناك كتاب مشهور للكاتبة الأمريكية "دوروثي برااندي" بعنوان "لياقات الكاتب".  تقدم فيه  “دوروثي براندي” خريطة طريق للكتاب الناشئين كيف يتغلبون على صعوبة الكتابة و ما هي المهارات التي يحتاجونها حتى يواصلوا السير على درب الإبداع الشائك..

قسّمت دوروثي الصعوبات التي يواجهها الكتّاب الناشئين إلى أربع صعُوبات رئيسية:

الأولى؛ صعوبة الكتابة بشكل عام، معلّقةً بأنّ مقولة ”(مَن لا يمكنه الكتابة ليس كاتبًا وعليه تغيير مهنته) هو استنتاج مستفزّ ومحض هراء! قد يكُون جذر المشكلة هو السنّ الصغيرة وتقليل الشأن من الذات … وقد يكون مصدر المشكلة ببساطة هو الخجَل.“

الثانية؛ المؤلف لكتاب واحد وعرّفته بأنّه المؤلف الذي ”حرّر نفسه من الشعور بالنقمة تجاه والديه ومجتمعه وثقافته كلها، وبعد أن بق البحصة واستراح، أصبح عاجزًا عن إكمال جولة الانتصارات .. وبهذه الطريقة قد يخسره عالم الأدب!“

الثالثة؛ الكاتب الموسمِي وهو الذِي يكتبّ بتدفّق رائع ومؤثر ثمّ يمر بفترة جفاف مؤلمة

الرابعة؛ الكاتب النيئ، وهو العاجز عن كتابة ما يريد بطريقة واضحة يستطيع فهمها القارئ، وذلك لافتقاره إلى الثقة بالنفس.

و إن كانت هذه اللياقة المهارية من حيث امتلاك أدوات الإبداع يحتاج إليها الكاتب في بداية الطريق ولكن هناك لياقة أخرى لا تقل اهمية عن اكتساب المهارات والفنيات و الوسائل وهي اللياقة الروحية المعنوية والنفسية فما أكثر الكتاب الذين يفتقدون لهذه اللياقة فتؤثر في كتاباتهم بحيث تفتقد للجانب القيمي الجمالي المنفتح على الإنسانية فالكاتب الذي يفتقد للجانب الروحي لا يملك ضوابط في كتابته لا بهمه إغراق عمله الروائي أو القصصي بالمشاهد الجنسية الفاضحة بدعوى ضرورات الإبداع حتى بطل رواياته هو بطل مهزوم سلبي غارق في الخمر و الضياع فهل هذا البطل يصلح أن يكون قدوة؟

فاللياقة الروحية إذن مهمة للمبدع حتى يرتقي عمله إلى مصاف الأعمال الإنسانية الخالدة...

فليست الكتابة اكتساب مهارات فنية والتدريب عليها فقط  وإن كان هذا ضروري فينبغي على المبدع أن يغوص في أعماق نفسه ليطهرها من كل الأدران و يدخل محراب الروح ليرتع من ينابيع الحب والخير والجمال بل ليفتح قلبه لأشعة الدين الساطعة تضيء دهاليز روحه التي تسكنها العتمة..

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

 شدري معمر علي

...........................

المرجع:

1- دروثي براندي، لياقات الكاتب، موقع تذكرة.

تأسست جامعة قازان (وقازان عاصمة تتارستان  ضمن روسيا الاتحادية) عام 1804 حسب أمر اداري أصدره قيصر الامبراطورية الروسية آنذاك الكساندر الاول (الذي يرتبط اسمه بالانتصار على نابليون في حربه ضد روسيا عام 1812)، وعندما كنت قبل اكثر من عشر سنوات في زيارة رسمية لجامعة قازان لاحظت لوحة كبيرة جدا لهذا القيصر تتصدّر القاعة الكبرى في تلك الجامعة، ولدى سؤالي عن ذلك، اوضحوا لي، ان هذه اللوحة كانت منسية ايام الاتحاد السوفيتي، ولكنهم اعادوها بعد ترميمها، وتبدو وكأنها مرسومة الان، وذلك احتراما لمؤسس جامعة قازان في الامبراطورية الروسية آنذاك، علما، ان هذه الجامعة تحمل اسم لينين ايضا، والذي اطلقوه عليها بالاتحاد السوفيتي في عام 1924، عندما توفي قائد ثورة اكتوبر الاشتراكية، وذلك لان لينين كان طالبا بكليّة القانون في تلك الجامعة، وهكذا، فان جامعة قازان ترفع صورة الكساندر الاول قيصر الامبراطورية الروسية، وتحمل اسم لينين مؤسس الدولة السوفيتية في نفس الوقت التزاما بمسيرتها التاريخية واحتراما لتلك المسيرة عبر اكثر من قرنين من الزمان وبغض النظر عن النظام السياسي السائد في روسيا (وكم يبدو ذلك الامر غريبا ومدهشا ورائعا بالنسبة لنا، نحن العراقيين، مقارنة مع واقعنا الاليم!!!)، علما ان هذه الجامعة تعدّ الان واحدة من الجامعات العشر الاولى بين الجامعات الروسية كافة، وهو موقع علمي متميّز فعلا في مسيرة التعليم العالي بدولة كبرى مثل روسيا الاتحادية، الدولة المتعددة القوميات والاعراق والثقافات والتي يوجد فيها المئات من الجامعات العامة والمتخصصة، اضافة الى مؤسسات التعليم العالي المتشعبة  الاخرى من معاهد ومدارس عليا...الخ.

من جملة ما تفخر به جامعة قازان، هو ان الكاتب الروسي تولستوي كان طالبا لديها في القرن التاسع عشر (التحق بالجامعة عام 1844)، ورغم انه قضى سنتين دراسيتين فقط في صفوفها ليس الا، حيث  كان في البداية طالبا يدرس اللغات الشرقية (درس اللغتين التركية والعربية)، ثم انتقل للدراسة في كليّة القانون، وترك تولستوي الدراسة الجامعة بعدئذ نهائيا، الا ان جامعة قازان لا زالت تحتفظ بوثائقه وتعتزّ طبعا  ان تولستوي كان طالبا لديها في فترة ما، ولهذا، فان الجامعة تقيم بين حين وآخر ندوات علمية ومحاضرات وسمنارات حول هذا الاديب الروسي الشهير، باعتباره  كان احد طلبتها، اضافة الى انها اطلقت اسمه على عدة مؤسسات داخل الجامعة، ونود ان نعرض للقارئ العربي في مقالتنا هذه بعض جوانب تلك الفعّاليات الثقافية في جامعة قازان حول تولستوي، اذ اننا نرى في جوهر هذه النشاطات جانبا مشرقا ورائعا للتعبير عن وفاء الجامعة تجاه طالب سابق لديها درس سنتين دراسيتين فقط، وكم يذكّرنا هذا الوفاء بواقعنا المرير عن (عدم الوفاء، ولا اريد استخدام كلمة اخرى !!!) لمؤسساتنا الجامعية العراقية تجاه اعلام عراقيين كبار درسوا في صفوفها  (لم نشاهد مثلا في مئوية الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة اي مشاركة حقيقية لجامعة بغداد في تلك المناسبة المهمّة، وكأن نازك الملائكة ليست خريجة تلك الجامعة، ولم نسمع بأي مبادرة حول خريج جامعة بغداد  بدر شاكر السياب ايضا، وهناك الكثير الكثير من اسماء المبدعين العراقيين طبعا في هذه القائمة !!!) . ان المؤسسات الجامعية لدينا لا تتذكر خريجيها او الذين درسوا فيها من هؤلاء المبدعين العراقيين بتاتا مع الاسف، بل ولا تشير الى ذلك نهائيا حتى في اصداراتها وادبياتها، ولهذا لا تعرف الاجيال العراقية الجديدة الجذور والاسس الفكرية والحضارية لهؤلاء المبدعين . لقد اطلعت على محاضرة تم تقديمها لطلبة الكورس الاول في جامعة قازان عن دراسة تولستوي في تلك الجامعة، وتحدّث المحاضر بالتفصيل عن مسيرة (الطالب تولستوي)، وكيف انه لم يتقبّل نظام التعليم الجامعي بشكل عام، ويشير المحاضر الى تفصيلات طريفة، منها، ان تولستوي لم يكن يستسيغ المحاضرات (الجافة!)، التي كان بعض الاساتذة يلقوها على الطلبة بالطريقة الاملائية، وكان الطالب تولستوي في هذه الاثناء يجلس في الصفوف الخلفية (..ليقرأ الجرائد ..)، وذكر المحاضر ايضا، كيف ان تولستوي كتب في مذكراته عن تلك الفترة، حيث جاء في تلك المذكرات السبب الذي قرر على اساسه ترك الدراسة الجامعية، وقال تولستوي في تلك المذكرات، ان  أحد الاساتذة طلب منه مرّة كتابة تقرير علمي، واستهوى تولستوي الموضوع فذهب الى القرية، وهناك اندمج مع قراءة مونتيسيكيو، وفتحت هذه القراءة المعمقة لتولستوي آفاقا واسعة، فانتقل لقراءة جان جاك روسو، واستمرّ في القراءة والبحث العلمي، وقرر بعد ذلك ترك الجامعة (...كي يتعلّم ..)، ويوضّح المحاضر للطلبة، ان هذا القرار كان يتناغم مع نفسية تولستوي (الانسان الحر، والانسان المتمرد) منذ ان كان في ذلك العمر اليافع، وانه استمر هكذا طوال حياته، ويشير المحاضر، الى ان روايته (الحرب والسلم) هي في الواقع (.. نقاش مع علم التاريخ، الذي كان سائدا في عصره ...)، وان موقفه المعروف من الكنيسة الروسية هو تعبير آخر من مظاهر ايمانه المطلق بالحرية، وصولا الى حادثة هروبه الغريب من البيت قبيل وفاته،  ويصل المحاضر الى استنتاجه المنطقي الاخير عن سبب تركه  الجامعة، وهو ان تولستوي كان يجب ان يترك الجامعة، لأنه لا يمكن ان يخضع دون نقاش لقوانينها الصارمة .

تولستوي وجامعة قازان موضوع واسع جدا في الدراسات الروسية عن تولستوي، اذ توجد العديد من الكتب والبحوث حول ذلك، حيث يجد الباحثون في ثنايا التفاصيل الدقيقة لتلك المرحلة المبكرة ملامح وخصائص تولستوي الكاتب والمفكّر، والتي سوف تتبلور في مسيرته اللاحقة .

متى نرى بحوثا علمية عندنا بعناوين مثل – نازك الملائكة ودار المعلمين العالية، بدر شاكر السياب ودار المعلمين العالية، غائب طعمه فرمان وكلية الآداب ......  

***

أ.د. ضياء نافع

يتحدث عن مشاركته في تونس وعن دور الفن في السلام بين الشعوب والبلدان:

من عوالم الفن الرحبة اكتسب حميمية النظر والتلوين فراح مسافرا يحمل حلمه وبعض طفولة يانعة حيث الرسم والفن التشكيلي عموما من عناوين الترحال لديه وفق ما يعتمل في دواخله وما وسعته شواسع قلبه ... بثقافة جمالية وفنية انسانية وكونية وبرسالة الفن العارمة كان تطور الابداع لديه وهو القادم من سيبيريا الروسية ليستقر في سلوفاكيا مكان ابداعه وشغله الفني كطفل حالم في سماء البراءة يقتفي أثر الفراشة...تلك الفراشة المزركشة بأبهى الألوان.

ألكسندر جازيكوف حامل فكرة الرسم والألوان هذا المتجول  في الخرائط حيث تعددت مشاركاته في عديد البلدان من الصين....والى تونس بالمحرس وما بين ذلك من بلاد متعددة ومدن فيها الفن والفنانون ضمن بيانال وسمبوريوم ومعرض و...ورشات وتفاصيل أخرى معنية بما في رغبات الطفل الفنان الكسندر .

قبل أسبوعين كانت زيارته المميزة والحافلة بالتعارف والرسم والمشاريع بالمهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس الدورة (35) بتنسيق مع الفنانة التشكيلية سهيلة عروس وذلك الى جانب مشاريع قادمة ضمن التعاون الفني الابداعي والثقافي بين فنانين من سلوفاكيا وتونس ...

و عن مشاركاته العالمية ومنها بتونس يقول "... بالنسبة الى مشاركاتي في العالم متنوعة حيث أنه في عام 2019، أقيم البينالي العالمي الثامن للفن المعاصر في بكين في المتحف الوطني للفنون في الصين. (8 BIAB. بينالي بكين الدولي الثامن للفنون، الصين 2019.) وقد تم ترشيح  فنانين من 117 دولة من جميع أنحاء العالم في هذا المنتدى الفني الفريد. أنا سعيد جدًا باختيار لوحتي لهذا المعرض الكبير ولأنني أستطيع تمثيل سلوفاكيا. انطباعات لا تُنسى من المعرض، لقاء فنانين رائعين وأعمالهم، وكذلك فرصة رؤية الصين !!!! ذكريات رائعة!!!!!...و البوم في مهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية ضمن الدورة (35) لمست حيزا مهما من شواعل الفن وجماليات عناصره لأتعرف على فنانين من تونس ومن بلدان عربية أخرى على غرار المغرب والجزائر وليبيا وهذا مهم الى جانب اللقاء بالناس الطيبين وسعدت بالاطلاع على تجارب مهمة في الفن وجمال وسحر المحرس وتونس بصفة عامة...".

الكسندر تم تكريمه بالمحرس وفي هذا الاطار كان هذا الحوار معه:

ماذا عن البدايات مع الفن؟

- في البداية لم أكن أنوي أن أصبح فنانا ولكن فيما بعد أحببت علم الحفريات والفن والرسم وبدأت أشعر بالرغبة والهيام تجاه الفن ..دخلت أكاديمبة الفنون لأتخرج بمرتبة الشرف ثم صرت أعمل كفنان مستقل فالفن صار يملأ حياتي وتعددت مشاركاتي الفنية في بلدان العالم .

و مشاركتك هذه بمهرجان المحرس الدولي للفنون التشكيلية

لقد كانت جيدة وثرية وسبقها تعرفي غلى فنانة تونسية هي سهيلة عروس التي ساهمت في ربط جسور التواصل مع الساحة الفنية التونسية وبالخصوص مهرجان المحرس وفي سنة 2019 كانت لي مناسبة عرض اعمالي عن طريقها وتعرفت على تونس البلد الجميل بأهله وفنانيه ومدارس الفن واتجاهات الفنانين الجمالية وأعمالهم وأسعدني كل ذلك كفنان باحث ومتعاون وحالم.

الوالدان ينحدران من سيبيريا ومنذ 30 عاما أعيش في سلوفاكيا وأنا عضو باتحاد ابداع سلوفاكيا وعضو في اليونسكو ومع كل هذا وبعده صار لي اعتقاد أن الفن يساهم في مد العلاقات بين المبدعين والشعوب بروسيا وسلوفاكيا وافريقيا وآسيا وغيرها من جغرافيا العالم ..الفن هو السلام والحب والانسجام والعالم اليوم في حاجة الى كل هذا بعيدا عن الحروب والصراعات والتفرقة...الفن يوحد ويجمع.

وماذا عن عملك الفني وتقنياته؟.

أعمل بتقنية الزيتي والأكريليك وهذا يبدو في أعمالي حيث أحرص على التوغل في التجربة وابتكار أسلوب جديد ..الرسم عندي بمثابة مشروع يتوافق مع ما أفكر فيه ففي أعمالي جوانب كبيرة من الروحانيات والمشاهد والورتريهات.

و كان ضمن هذا عملي المشارك في بيانال الصين بمناسبة دورة الالعاب الشتوية بمشاركة واسعة لفنانين من العالم وبعنوان " الصين في عيون فنانين من العالم " سنة 2022 وهي مناسبة للرياضيين للاطلاع على أعمال فنية لفنانين من العالم وما تضمه من جماليات وابداعات عالمية. كما تم اختياري كفنان وحيد من سلوفاكيا للمشاركة في بنغلاديش ضمن المهرجان الفني  .

وأخيرا ما ذا تقول أيها الفنان:

أود أن أشكر تونس وشعبها على الضيافة والمشاركة ..لمست عمقا ثقافيا لتونس وحبا للفنون ووعيا بما للابداع من دور في تقريب الثقافات والأفكار والشعوب ..المحرس بها مهرجان مهم وأشكر بالمناسبة القائمين عليه وقد استمتعنا بمختلف الفقرات من المعارض والشعر والفكر والنقد والورشات والهامش المهم الذي به أصوات الناس وحياتهم وأحلامهم.. شكرا لتونس الفن والابداع والمحبة.

***

شمس الدين العوني

عبد المجيد يوسف أديب تونسيّ من مواليد 26 جويلية سنة 1954. حفظ نصيبا وافرا من القرآنَ وهو في الثّامنة. نشط في الحياة الثّقافيّة التّونسيّة منذ ان كان تلميذا وشارك في العديد من الأندية الأدبية والتّظاهرات الثّقافيّة. متخرّج من كلية الآداب بتونس بالأستاذيّة في الآداب العربيّة وتحصّل على الدّبلوم العالي للّغة والدّراسات الإيطاليّة ثمّ على دبلوم الدّراسات المعمّقة من كلية الآداب بسوسة. يكتب الشّعرو القصّة والرّواية ويهتمّ بنقد السّرد. ونشر عدّة قصص وقصائد ودراسات مترجمة من وإلى اللّغات العربية والفرنسية والإيطالية وأصدر أكثر من ثلاثين كتابا

توفّي الفقيد يوم السبت 26 أوت 2023 ودفن في مدينة سوسة

من إصداراته

= “مقاربات نقديّة“. الناشر: دار سعيدان بسوسة، تونس 1994.

= “أهداب النّخل” (دراسات عن القاص التونسي بشير خريف). الناشر: دار سيبويه بالمنستير، تونس 2008.

= “زوايا معتمة” (قصص). الناشر: المجلس الثقافي الليبي، ودار قباء، مصر 2008.

= “سحب آسنة” (مجموعة شعرية). الناشر: دار البراق، سورية، 2010

= “وبعد“. مجموعة شعرية للشاعر الإيطالي جوزبي نابوليتانو. ترجمها عن الإيطالية. الناشر: دار البراق، سورية 2010.

= “تراتيل الترحال” مجموعة شعرية للشاعرة راضية الشهايب نقلها إلى الفرنسية وترجمت للإيطالية وصدرت بنابولي 2010 عن دار لا ستنازا دل بويتا [بيت الشاعر].

= = ترجمة من العربيّة إلى الفرنسيّة لديوان للشاعر السعودي رائد أنيس الجشي[7]، صدر في فرنسا عن دار هارماتن في بداية 2014.

كتاب المواجيز ـ شعر

رواية اللواجست ـ رواية المعصرة ـ ورواية Les nichons de ma mère

المعراج والخيول ـ ديوان مشترك مع  سُوف عبيد

Oxyde de l’ame  قصائد مترجمة للفرنسية لسُوف عبيد

شارك في كتاب جماعي بعنوان “المسعدي  مبدعا ومفكرا”  الصادر عن بيت الحكمة بتونس بمقالة ـ من التخوم إلى الأعماق ـ حدث أبو هريرة ـ المسافر ـ .

قراءة في قصيدة ـ المقهى الأزرق ـ لعبد المجيد يوسف

وهذا نص القصيدة:

أخطأت النادلة

فأحضرت لنا كأسيْــن

كأنّ بها حــــــــوَلا

نحن واحـــد متّحـــد، فكيف رأتنا اثنيْــن؟

الطرف يأخذ بالطرف

والنبض مشوب بالنّبض

والعين تسيـــــــح في العين

والجزء يذوب في الجزء… والصّوت صدى

روحان في جسد… جسدٌ في روحيْــــن

واليوم أعود إلى ذات المقهى

وأنا غير أنا

مختلف… منشطر وكسير

أجلس في ذات الرّكن

قمرا متهرئا وقديم

تقف النادلة

ثمّ تولّي مدبرة حيرى

تبحث في السلّة عن شيء يشبهني

كوب مشطور نصفــــــين

بأسلوب جديد مبتكر نقرأ – المقهى الأزرق – لعبد المجيد يوسف الّذي نهج فيه أسلوب السّرد لكأنّه ينقل لنا خبرا أو يصف واقعة بعيدا كلّ البعد عن معجم الشّوق وما قاربه من سِجلاّت الحبّ والشّجون حيث نقل لنا حالتين أو واقعتين.

تتمثّل الأولى في جلوسه مع الحبيبة في ركن مقهى وهما في حالة اِنسجام تامّ ثمّ صوّر لنا جلوسه في نفس المكان وحيدا مشتاقا إلى ذكرى الجلسة الأولى وقد بدأ القصيدة قائلا:

أخطأت النادلة

فأحضرت لنا كأسيْــن

كأنّ بها حــــــــوَلا

غير أنّ القصيدة تنزاح انزياحا غريبا عندما نعلم أنّ الشّاعر كان من الاِنسجام والتآلف والتّوحّد مع حبيبته حتّى صار – وهما الإثنان – واحدا:

نحن واحـــد متّحـــد، فكيف رأتنا اثنيْــن؟

الطّرف يأخذ بالطّرف

والنّبض مشوب بالنّبض

والعين تسيـــــــح في العين

والجزء يذوب في الجزء… والصّوت صدى

روحان في جسد… جسدٌ في روحيْــــن

لذلك تعجّب الشّاعر من النّادلة عندما أحضرت لهما كأسين إثنتين! وهنا يكمن الوقع الشّديد في التّعبير بالصّورة والرّمز عن قوّة الاِنصهار بين الحبيبن كقول بِشَارة الخُوري:

لو مرّ سيف بيننا لم نكن نعلمُ هل أجرى دمى أم دمَكْ

ثمّ تعجّب الشّاعر ثانيةً عندما عاد مرّة أخرى وحده في حالة نفسيّة متدهوة عبّر عنها بصورة القمر المهترئ القديم وبتعجّب النّادلة الّتي عوض أن تُقدّم إليه كأسا فإنّها سارعت حيرى تبحث عن كوب مشطور إلى نصفين رمزا للفراق أو كناية عن البُعد بينه وبين حبيبته:

تقف النّادلة

ثمّ تُولّي مدبرة حيرى

تبحث في السلّة عن شيء يشبهني

كوب مشطور نصفــــــيْن.

فالقصيدة اِتّخذت من السّرد والرّمز والمفاجأة عناصر أساسيّة للتّعبير عن الحالة النّفسيّة للشّاعر في حالتيْ الاِئتلاف والِاختلاف مع حبيبته وقد ركّز على حضور النّادلة وتصرفها العجيب في المناسبة الأولى والثّانية وفي كلّ مرّة يكون ردّ فعلها عاكسا لوجدان الشّاعر.

يمكن أن نعتبر القصيدة إنجازا شعريّا جديد بما فيها من إضافة وبحث

***

سوف عبيد ـ تونس

فكرة لفلم سينمائي

يبدأ المشهد بلقطة تظهر فيها شوارع كربلاء بآلاف حاملي الكاميرات والمراسلين من جنسيات مختلفة.. عراقية وعربية واجنبية، تركز على جواد بوشاح اخضر عليه رجل وقور في الخمسينات من عمره وخلفه جماهير يغص بها الشارع ترفع اعلاما عراقيا ورايات خضراء.. ويهزجون (لبيك يا حسين).. وامرأة تسحب (شيلتها) وتهزج (اليوم يومك يبو سكينة).

ترافق الكاميرات المسيرة من كربلاء الى بغداد مشيا على الأقدام وتصور ما يحصل من احداث فيها مفارقات ومفاجئات وصولا الى اسوار المنطقة الخضراء، لتكون المشاهد من هنا تراجيديا في كوميديا سوداء.. كالآتي:

يقف السياسيون السنّة والكرد من سكنة الخضراء موقف المتفرج.. يراقبون، وحين يدعونهم شركاؤهم السياسيون الشيعة الى ان يتخذوا موقفا، يردّون عليهم: ( الحسين امامكم وانتم وأياه تنجازون!)

تمشي الجماهير وراء الحسين.. لها أول وليس لها آخر وتصل قريبا من اسوار الخضراء.

 يتشاور حكّام الشيعة بوجوه مرعوبة من خطورة الموقف، ويتفقون على تشكيل وفد يتفاوض مع الحسين.

 يلتقي الوفد بالحسين فيرد عليهم بالأصرار على الأصلاح.

يذهب الوفد ثم يعود الى الحسين حاملين له رسالة تخيره بين ان يعود من حيث أتى أو القتال.

يلتفت الحسين الى العراقيين ويقول قولا مماثلا لقوله: (ان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين.. السلة او الذلة وهيهات منا الذلة) فماذا تقولون؟.

 يجيبونه بحماس (فوت بيها وعا الزلم خليها!)..

 و(يفوت بيها).. فيواجه عشرات آلاف المسلحين من الفصائل والميلشيات المسلحة، وألافا اخرى من حمايات فلان وفلان، ودبابات وراجمات وصواريخ ما رآها في حياته، تحذره ان تقدم خطوة فسيطلقون النار..

و.. .يخطو الخطوة فتشتعل جهنم!

يلتفت وراءه فلا يرى من تلك الملايين غير مئات من شباب رافعين لافتات (نريد وطن)..

يتوقف الحسين فيتذكر يوم خذله العراقيون عند بيعتهم له وقتل رسوله وسفيره اليهم، مسلم بن عقيل.. فيستعيد خطبته عليهم:

(تبا لكم ايها الجماعة وترحا، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين سللتم علينا سيفا.. وحششتم علينا نارا اوقدناها على عدونا وعدوكم..)

يدير ظهره نحو الشباب الذين ما يزالون رافعين راية (نريد وطن) فيخاطبهم:

 (تعالوا يا أنصاري.. لا اريد لكم ان تقتلوا كما قتل من ناصرني.. تعالوا يا احبتي).

يحتضن صاحب الراية ويعطي ظهره للخضراء عائدا بهم الى كربلاء!.. وتصدح هلاهل زوجات (الحسينيين) المنتصرين، فيما السنّة والكرد ينظرون الى بعضهم فرحين غير مصدقين!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

أليست الوحدة أجمل بكثير من ضجيج البشر؟.. العزلةُ لا تعني المعاناة في كل الأحوالِ، فقد يستهويني ذلك الهدوء، الصمت، السكون ..

*

يثلج صدري وتسترخي أعصابي في اعتزال العالم الوقح الذي يجتاح التأملات. إنه يجتاح النوايا الطيبة في أكثر الأحيان، وإن لم تكن في كل الأحيان.

*

لقد ذقت مرارة الضجيج والصخب، ولم أعد أطيقه أبداً فهو مزعج ومرهق. اخبرت نفسي أني سأجلب لها الراحة، السكينة، الطمأنينة.. وأخبرتها أن الوحدة ستحقق كل أمنياتنا وكل طموحاتنا!

*

لكن!!

ومع إني فشلت في أكثر من مرة في جلب احتياجات نفسي لنفسي، إلا أني سأناضل وأُجاهد في سبيل تحقيق ما أرنو له، لعل صبري سيكون صديقي ورفيقي الوحيد وأنا أخوض ذلك، الصراع بين العزلة والوحدة وبين الضجيج والصخب ..

***

سراب سعدي

ظلت الأغنية المصرية منذ نشأتها محكومة بالتيار العاطفي الذاتي، والوطني العام، لكن ذلك لم يمنع الظهور القوي لتيار آخر يغازل بكل الطرق غرائز المستمع الجنسية بحثا عن الرواج السريع، وفي ذلك السياق لم تخل حتى أغنيات أم كلثوم في بداية حياتها من طقطوقة عام 1926 تقول فيها: " الخلاعة والدلاعة مذهبي.. من زمان أهوى صفاها والنبي"، وسبقت ذلك الست نعيمة المصرية في أغنيتها: " هات القزازة واقعد لاعبني.. دي المزة طازة والحال عاجبني"، وأغنيات نعيمة المصرية من نوع:" ما تخافش عليا أنا واحده سيجوريا.. في العشق واخده البكالوريا". كما غنت منيرة المهدية سلطانة الطرب: " بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة". ولم يخل تاريخ الأغنية قط من ذلك اللون الذي يغازل لدي المستمع الغريزة والمخدرات والخمور إما صراحة أو تلميحا ، هذا كله مفهوم بحكم أن الأغنية أكثر الأشكال الموسيقية انتشارا وربحية، في الظروف التي لم تنتشر فيها الأشكال الموسيقية الأخرى مثل الباليه والسيمفونية وقطع الموسيقا البحت. مفهوم إذن اتساع نطاق ما يسمى " تيار الأغاني الهابطة" وركائزه، لكن ليس مفهوما ولا بأي حال ما نسمعه الآن من التغني بالكراهية والشماتة والمذلة، فلم يسبق قط أن تغنى أحد بكلمات مغناة تقول: " اللي يزعلني حوت يبلعه داهية تولعه.. تتلم عليه الناس والدنيا وفين يوجعه.. وفي كل طريق تطلع له الحاجة اللي توقعه"! ويسبح حتى مطرب معروف مثل راغب علامة في تيار الكراهية والشماته حين يغني: " اللي سابنا قفلنا بابنا.. واللي ما بيعرفش قيمتنا خد معاه الشر وراح"! فهل يمكن لمثل هذه المشاعر السوداء أن تغدو مادة للفن وللتغني بها؟. ذلك يشبه الكتابة عن شخص بالغ البخل، ضن على ابنه بأموال العلاج، وعلى زوجته بنفقات الطعام، ثم فقد ذلك الشخص أمواله فجأة في حريق، وأصبح مطلوبا من الأديب أن يستدر العطف عليه، وهذا مستحيل، مهما بلغت عبقرية الأديب، لسبب بسيط أن الفن هنا يدافع عن قضية خاسرة، أي البخل، والدفاع عن الكراهية في الفن قضية خاسرة تسقط كل إبداع. الوجه الآخر للشماتة هو أغنيات المذلة من نوع: " اتعودت انك تهدمني.. وبتدمرني.. وتكسرني". وهما وجهان لعملة واحدة: الروح والعقل المشوه المريض. وما من حل إزاء تلك الأورام الغنائية إلا أن تبرز وتظهر وتعم النماذج التي تتغنى بالحب، وبالحياة، والأمل، وأن نعمل على نشر مراكز الموسيقا في المناطق الشعبية، والرجوع إلى حصص الموسيقا في المدارس، وأكشاك الموسيقا في الحدائق التي تبث روائع الموسيقا العربية، وتوسيع نطاق حضور الفنون في الجامعات، وفتح الأبواب أمام الشبان من الفنانين، وما من سبيل آخر لكسر شوكة ذلك التيار الذي يغترف ما يظنه تجديدا من بئر سوداء.

***

د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري

ترجمة وإعداد: إسماعيل مكارم

في  أيام الخريف الجميلة، في موسم ذهب الغابات،  بهذا العام  سيحتفل المجتمع الروسي على المستويين الأكاديمي والشعبي بالذكرى ال 128 لولادة الشاعر الروسي الكبير سيرغي يسينين.

سوف تقام في روسيا الندوات العلمية، والمؤتمرات ذات الطابع الأكاديمي، وسوف تعقد جلسات بحث لدارسي، ومتابعي، ومحبي أرث هذا الشاعر الروسي الكبير. تجدر الإشارة أن معهد غوركي للآداب العالمية، وجامعة ريازان الحكومية بالتعاون مع متحف يسينين في كونسطانطينوفو - ضيعة يسينين - هذه الجهات كلها تقيم كل عام في اواسط أيلول مؤتمرا علميا لدراسة إرث يسينين. من حسن حظي أني منذ عام 2017 أشارك كل عام في أعمال هذا المؤتمر، الذي ينجز أعماله على مراحل: الاولى في موسكو، والثانية في ريازان، والثالثة في كونسطانطينوفو. نحن ليس للمرة الأولى نتكلم عن عبقرية هذا الشاعر الفذ، وعن أشعاره وحياته، بل سبق لنا أن قمنا بنشر قصائد له مترجمة إلى لغتنا العربية على صفحات صحيفة  " الأسبوع الأدبي" الدمشقية و" صحيفة المثقف" الغراء، كما في الدوريات الروسية.

لاشك أن من اطلع على نتاج مشاهير الأد ب الروسي في القرنين التاسع عشر، والعشرين، ومن درس بعمق هذا الأدب وخاصة ما قدمه الشعراء الروس في العصرين:   الذهبي،  و الفضي سيصل إلى نتيجة مفادها:

أنّ قمة الشعر الروسي في العصر الذهبي - هي أشعار الكساندر بوشكين بأشكالها المختلفة، وقمة الشعر الروسي في العصر الفضي - هي أشعار سيرغي يسينين. إنّ ما يميّز الشعر لدى يسينين هو قرب هذا النتاج من روح الشعب، وتجذره وارتباطه المتين بالأرض الروسية، وانصهاره، لا بل تآخيه مع الطبيعة، إلى جانب دفاع الشاعر عن الإنسان ووجوده أمام خطر هجوم الثورة الصناعية، وزحف العمران المدائني، والخوف من ولادة انسان من نمط  جديد، قد اقتلِعَ من جذوره، وأرضه، وبيئته، ونسيَ ماضيه وعاداته، كما نسي أعياده والتقويمَ الذي عاش عليه أجدادُهُ ومجتمعه.

رأينا اليوم من واجبنا أن نقدم للقراء الكرام مجموعة من قصائد يسينين التي كتبها في مرحلة العشرينيات من القرن الماضي.. وهي مرحلة نضوجه ككاتب وكإنسان. نعتقد أن القارئ الكريم يعرف أن عمر  شاعرنا كان  قصيرا جدا، إذ ولِدَ في  الحادي والعشرين من أيلول عام 1895م (حسب التقويم القديم) أي(3 أكتوبر، في التقويم الحالي)،  وتوفاه الله في 28 كانون أول من عام 1925م في مدينة لينينغراد، ودفن في موسكو، غير أنه ترك لمجتمعه الروسي وللمكتبة العالمية إرثا غنيا وكبيرا، وهذا الإرث العظيم جدير بالدراسة والترجمة.

***

ليسَ غريباً عليّ هذا الشّارع

«Эта улица мне знакома…»

ليسَ غريباً عليّ هذا الشّارعْ

ليس غريباً عليّ هذا البَيتُ المُتواضِعْ.

ولا هذا السّقفُ من عيدان القشّ

الذي تدَلتْ قصَلاتهُ على النافِذة.

**

لقد عِشنا سَنواتٍ قاسِية ً

رأينا فيها قوى قوية جَبّارة.

لا زلتُ أذكرُ أيامَ الطفولةِ في القرية

لا يزال في خلدي ذلك البَهاءُ الأزرَقُ.

**

لم أبحثْ يوماً عن الشّهرةِ والعيش ِ الرغيدْ

إذ أني أعرفُ ما هي الشهرة، صاحِبة السَعادة.

حين أغمضُ عينيّ  في هذهِ الأيامْ

لا أرى سوى بيت الأهل ِ.

**

أرى ذلكَ البُستانَ في أيام المَطرْ

وكيفَ شهْرُ آب يَحنو على السّياج

كيف تحْتضِنُ أشجارُ الزيزفون

تلك الطيورَ وتغريدَها ووَشوَشاتِها .

**

كم أحْبَبتُ هذا البَيتَ الخشبيّ

ففي جذوع الشّجر تلك قوة ٌعظيمة

أما فرنُ البيتِ فقد كان يُصدِرُ أصواتا غريبَة

في ليالي الشتاءِ القاسية.

**

كانَ صوته جَهوريا، كأنه نشيجٌ

على أحدٍ ما قد فقدَهُ أحِباؤه.

ماذا تراءى لجمل ِ الآجُرّ هذا

في زخةِ المَطر وهو يُوَلول؟

**

ربما قد رأى بُلدانا بَعيدة

أو رأى في المَنام مَوْسِماً آخرَ جَميلا

أو رمالَ بلادِ الأفغان ِ الذهبية

أو سَماءَ بُخارى الزجاجية الغبراء.

**

آه، أنا أيضا أعرفُ  تلكَ البُلدان

فقد اجتزتُ دروبا ليستْ قصيرَة ً هناك

ولكني كنتُ مشدودا دوما نحو ديارنا

لذا أرَدْ تُ اليومَ أن أعودْ.

**

غير أنّ تلكَ الغفوة الجَميلة قد انتهتْ

كلُّ شيء قد انتهى وذهَبَ مَعَ الدّخان ِ الأزرق ِ.

سَلامٌ إلى عيدان ِ القش البرّي

سَلامٌ  لكَ أيها البيتُ الخشبيُّ.

1923

***

بقِيَ لي شَكلٌ واحِدٌ للمَرح

«Мне осталась одна забава…»

بقي لي شكلٌ واحدٌ للمَرَح:

وهو أن أقومَ بالصّفير كالفِتيان.

تدِحرَجَتِ الأحاديثُ عن سُلوكي السيِّئ

قالوا أني رجُلُ قصْفٍ وشتائِمَ.

**

آه إنها لخَسارة مُضحِكة !

كم في الحياة من خَسائِرَ  تدعو إلى الضّحِكْ.

إني خَجلٌ لأني كنتُ مُؤمِناً بالله.

وأتمَرمَرُ  اليَومَ لأني لا أؤمِنُ بالله.

**

إنها الأبعادُ الذهبية !

هذه الحَياة ُالتعيسة ُ تحرقُ كلَّ شيء.

لقد قصَفتُ وشتمْت ُ..

كلُّ ذلك كي أحْترقَ أكثرْ.

**

مَوهِبة ُ الشاعر في أن يُداعِبَ ويُخَربشَ

إنها سِمَتهُ، وصارتْ قدرًا له.

حاولت أن أجمع بين وَرْدَةٍ بيضاءَ وضفدع أسودَ

أردت أنْ أزاوج بينهما.

**

لنقل أن ذلك لم يَحصلْ، لم يَحد ثْ

غير أنه كان وليدَ أفكار تلك الأيام ِ الوَرديّة.

إذا الشياطين قد عشّشتْ في الروحْ..

ذلك يعني أن للمَلائِكةِ مَكانا فيها.

**

بسببِ مداعبتي تلك الحُثالة

تراني اليومَ مُتوَجّهاً برفقتِها إلى عالم آخر.

ولي طلبٌ: عندما تحل ساعتي

أرجو مِمّن سيكونون بقربي −

**

لأجل التكفير عن ذنوبي الثقيلة

وبما أني قد كفرْتُ  بالنِعْمَةِ ...

أن يَكفنوني بقميص ٍ روسيّ

ويَجعلوني أموت تحْتَ الأيقوناتْ.

1923

***

اجْلِسي بقربي يا غالية

«Дорогая, сядем рядом…»

اجْلِسي بقربي ياغالية

ليَنظرْ كلّ مننا إلى عيون الآخر.

أريد من خِلال نظرتِكِ الحانِية

أن أشعُرَ بعاصِفةِ الوَجْد.

**

ذهَبُ الخريفِ الأصْفر ُ هذا

وضَفيرة ُ الشعر بلون ِ السّنبلة

كلّ هذا بُعِثَ كيَدٍ مُدّ تْ

لانقاذِ شابٍ  طائش نزق ٍ.

**

لقد غادَرتُ ديارَنا مُنذ ُ سِنين

حيث تزهِرُ الأجَماتُ هناكَ والمُروجُ.

شدّني التوقُ إلى أضواءِ المَدينةِ، ونحوالشهرةِ

فعشتُ كإنسان ٍ ضائِعْ.

**

أرَدْتُ من هذا القلب أن يَتذكرَ قليلا

بُستاننا .. و أيامَ الصّيفِ

حَيثُ على أنغام نقيق ِ الضفادِعْ

حَضَّرتُ نفسي كي أصْبحَ شاعِرًا.

**

الدّنيا الآنَ هُناكَ خريفٌ أيضاً

أشجارُ القيقبِ، والزيزفون تشْخَصُ أمامَ نوافذ ِ البيتْ

ترسِل أغصانها كما الأيادي

تبْحَثُ عمّن تعرفهم هُناكْ.

**

لقد رِحَلوا عن هذهِ الدّنيا مُنذ ُ سِنين.

ها هو القمَرُ في سَماءِ المَقبرَةِ

يَرسُمُ بأشعتِهِ على الصُّلبان ِ

أننا قريبا سَنكونُ عِندَهم

**

وأننا بَعْدَ أن نعيشَ زمَنَ الخوف ِ

سَننتقِلُ إلى ذاكَ المَكانْ.

كلُّ الدّروبِ الصّعبَةِ

تهدي الفرَحَ للأحْياء.

**

اجْلِسي بقربي يا غالية

لينظرْ كلّ مننا إلى عيون الآخر.

أودّ من خلال  نظرتِك ِ الحانِية

أن أشعُرَ بعاصِفةِ الوَجدْ.

أكتوبر عام 1923

***

ها هو الغابُ قد ختمَ كلامَه

«Отговорила роща золотая…»

ها هو الغابُ قد ختمَ كلامَه

حَدثتنا باسمِهِ شجَرَة البَتولا بلغةٍ باسِمَة

ها هي طيورُ الغرنوق ترحَلُ حَزينة

غير آسفةٍ على أحَدْ.

**

لا سَبَبَ للتأسّفِ على الناس، فكلّ واحِدٍ ضيفٌ

يَعبُرُ... يَدخلُ البَيتَ، ثم يُغادرُه.

شجَيرَة ُ القنب ترى في المنام من رَحَلوا

هناكَ قربَ البُحيرَةِ الزرقاء، حَيث يُساهِرُها القمَرْ.

**

أقفُ وحيدا في هذا السّهبِ العاري

والريحُ تدفعُ أسرابَ الغرنوق بَعيدا

وفي البالِ ذكرياتُ الشبابِ الجَميلة

غير أني لسْتُ مُتأسّفا على أيّ أمر مَضى.

**

لستُ نادِما على العُمر الذي ضاعَ عَبَثا

ولا متأسفٌ على زهر الليلكِ

شجَرة ُ "ريابينا" تشعِلُ مَوقِدَها الأحْمَرَ في البُستان (1)ِ

لكنهُ لا يَمنحُ الدّفءَ لأحَدْ.

**

لن تحْترقَ عظامُ "ريابينا"

وهذا الاصفِرارُ لن يُبيدَ العُشبَ

ها هي الأشجار تودّع أوراقها برقةٍ

مثلما أنا أبَعثِرُ كلِماتي الحَزينة.

**

إذا الوَقتُ أدّى إلى جمعها، بقوةِ الريح

في كومةٍ واحدةٍ, فقولوا:

ها هو الغابُ الذهبيُّ

قد ختمَ كلامَهُ بلسان ٍعَذبٍ وَجَميلْ.

1924

***

كم يَخطِرُ على بالي

«Я помню, милая, помню…»

كم يَخطِرُ على بالي يا غالية...

جَمالُ شعركِ الحَرير

كم كانَ صَعباً عليّ ومرّا

أمْرُ وداعِكِ آخر مَرّة.

**

تعودُ إلى الذاكرة ليالي الخريفِ تلك

وحَفيفُ أغصان ِ البَتولا، كأنها أشباح،

الأيامُ حينها كانتْ قصيرة

أما القمَرُ فكانَ كريماً بأشعتِهِ الفِضّية.

**

أذكرُ كلامَكِ حين وشوشتِني:

" سوف تمرّ هذه الأعوامُ الزرقاءُ

وسوفَ تنساني يا حبيبي

وتعشقُ امرأة ً أخرى".

**

أزهارُ شجرةِ الزيزفون تحْيي اليَومَ

في الذاكرة تلكِ المَشاعِرَ

حين كنتُ أنثرُ الزهورَ

على ضفيرةِ الشعر الأجْعَدْ.

**

هذا الفؤادُ لا يُريدُ أن يَهدَأ

أراهُ يُلاطِفُ امرأة ً أخرى حَزيناً

كأني به بهذِهِ القِصّة...

إنما يَعودُ بالذاكِرَةِ إليكِ من جَديدْ.

1925

***

النجوم تغفو

«Заря окликает другую….»

النجومُ تغفو في لحَظاتِ الفجْرالأولى

وحُقولُ الشوفان يُغطيها الندى...

خَطرْتِ على بالي أيّتها الغالية

خطرتِ على بالي يا أمي العَجوز.

**

حين تمشين كعادتِك ِ نحوَ الرّابية

ويَدُك ِ تمسِكُ العكازَ بشدّة

ترينَ كيفَ القمَرُ يَستحِمُّ

في مياه النهر الغافي.

**

أعْرفُ ...تظنين بمرارةٍ وقلق

وحزن ٍ كبير أنّ ..

ابنك لا يبالي أبدا بموطِنِه

وروحُه ُ لا تقلقُ على دياره.

**

ثم تقودُ كِ قدماكِ نحو المَقبرةِ

تقفين قرْبَ السّياج والحَجَر

فتتنهدين بعَطفٍ وحَنان ٍ

إذ يَخطرُ على بالِكِ إخوتي وأخواتي.

**

لنقل أننا كنا مُشاغبين

أما أخواتي فكانَ صباهُما أيّارْ

وَد دْ تُ لو أنّ هذا الشَّجن

يُغادرُ يوماً عَينيكِ الحَزينتينْ.

**

كفاكِ حُزنا !  كفاكِ !

لقد حانَ وقتُ أخذِ العِبَرْ

فشجَرَة ُ التفاح تتألم أيضاً

لفقدان أوراقِها النحاسِية.

**

ما أحوجنا إلى الفرح

فهو جَميلٌ كأجراس ِ الصّباح،

أفضّل ُ أن أحْترقَ في مَهبّ الرّيح ِ

على أن أبقى على الغصْن ِ وأتعَفنْ.

1925

***

.........................

هوامش ومصادر:

1) ريابينا: هي شجَرة ُ "غبَيْراء" (بضم الغين)، تعطي في الخريف حبات حمراء اللون، فضّلنا الحفاظ على الاسم الروسي في متن النص حفاظا على الطبيعة الروسية.(المُترجم).

2) هذه  النصوص ترجمت من النص الروسي الأصلي راجع المصدر:

1. Есенин С.А. Собрание сочинений: В 2 т. Т.2.− М.: Сов. Россия: Современник, 1990.

2. Есенин С.А. Собрание сочинений: В 2 т. Т.1.− М.: Сов. Россия: Современник, 1991

عندما تلتقي الأرض والقمر في لحظة سحرية على مسافة قريبة جدًا، يُظهران لنا جمال الكون وروعته بطريقة لا تُضاهى. إنهاظاهرة "الاقتراب الكبير للقمر"، تلك الفترة التي يُقترب فيها القمر منا بقرب يجعله يبدو أكبر حجمًا وأكثر إشراقًا في سماءالليل.

في هذه الأوقات الفريدة. يمكننا التمتع بمشهد يأسر القلوب حيث يظهر القمر كأنه عملاق فضائي يطل من السماء. وعلىالرغم من أن الفرق في حجمه ليس بالضرورة واضحًا للعيان، إلا أن هذه الظاهرة تُلهمنا بأن نقف للحظات ونتأمل في عظمةالكون.

ليس هذا فحسب، فالاقتراب الكبير للقمر يلقي بظلاله على الأرض أيضًا. بسبب الجاذبية المتزايدة في هذه الفترة، يمكن أن يتسبب القمر في ارتفاع طفيف في مستوى المد والجزر في المناطق الساحلية. يضفي هذا التأثير الخفي لمسة إضافية من الجمال على هذه الظاهرة.

ولمحبي مشاهدة السماء، تُعتبر هذه اللحظات فرصة لا تُضاهى لاكتشاف روعة القمر بكل تفاصيله. يمكن استخدام التلسكوبات للتمتع بتفاصيل سطحه الغامض أو حتى مراقبته بالعين المجردة والانغماس في جماله.

في النهاية، تجسد ظاهرة الاقتراب الكبير للقمر تلاقيًا مثاليًا بين الكون والأرض. إنها تذكير بأننا جزء من نسيج أكبر منالزمان والمكان، وأن هناك دائمًا جمال ينتظرنا في أعماق السماء اللامتناهية.

***

بقلم فاطمة العيسى

تعد الصداقة من الجوانب البشرية الأساسية التي تتخذ أبعادًا جديدة ومغايرة عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين في بلدان المهجر. تحمل الصداقة في هذا السياق دورًا استثنائيًا في تعزيز عمليات التكيّف والاندماج الاجتماعي والثقافي للأفراد الذين يعيشون بين ثقافات جديدة ومحيطات مختلفة.

عندما يتخلى المهاجرون عن بيئتهم الأصلية ويبحثون عن حياة أفضل في بلاد المهجر، يندرج تكوين الصداقات في مقدمة التحديات التي يواجهونها. لكنه في نفس الوقت يُظهر فرصًا لتوسيع دائرة المعارف وتكوين علاقات تساهم في بناء جسور تواصل مع المجتمع المحلي.

من المهم أن نشير إلى دور الصداقات في تسهيل عملية التكيف النفسي للمهاجرين. إذ يمكن للصداقات أن تكون مصدرًا للدعم العاطفي والانفتاح على فهم الثقافة واللغة المحلية. إن المشاركة في الأنشطة الاجتماعية مع أصدقاء جدد يمكن أن تساهم في تخفيف الضغوط النفسية وتقليل الشعور بالعزلة.

وفيما يتعلق بالاندماج الاجتماعي، تلعب الصداقات دورًا حاسمًا. فهي تعزز من فرص المهاجرين للانخراط في الحياة المحلية، سواء من خلال مشاركتهم في الفعاليات المحلية أو التواصل مع الجيران وزملاء العمل. بالتالي، تعمل الصداقة كجسر بين الثقافات والتقاليد المختلفة، مما يؤدي إلى فهم أفضل وتعايش أكثر سلاسة بين المجتمعات المختلفة.

في الختام، يبدو أن الصداقة تمثل مفتاحًا أساسيًا في رحلة المهاجرين نحو الاندماج وبناء حياة جديدة في بلاد المهجر. إن تبني أفراد المجتمعات المحلية والمهاجرون للصداقة والتعايش يعزز من التفاهم الثقافي ويسهم في خلق مجتمعات متنوعة ومزدهرة.

***

بقلم: فاطمة العيسى

مغتربة في بلاد المهجر

تاريخ النشر: 31 أغسطس 2023

أيها القمر.. أنا أعرفك منذ  فجر نعومتي، لقد عرفتك في طفولتي عندما كنت في حضن أمي، وهي تشير إليك ببنانها وكانت تقول لي بأنني اشبهك في الجمال. أيها القمر.. هل تعرف بأنني أشبهك تمامًا.. أنت تحيا وحيدًا في كبد السَّماء، برغم كثرة النجوم حولك مثلي تمامًا تعتريني الوحدة في الأرض برغم كثرة من الناس والزحام. عندما كنت صغيرة كنت أقول لنفسي كم سلمًا سأحتاج لأصل إليك. كم تمنيت أن أكون مكانك لأرى ما ترى لأرى انعكاس ضوئك على البحر والنهر كالمرآة لأرى الطرقات التي طالما مشى فيها البائسين الذين يحملون هموم الحياة.

أيها القمر.. لم أكن يوما غريبا عليك.. أنت قريب وجئت إليك مشتاقا.. كاد الحنين إليك يقتلني.. انني انحني امام عظمتك.. وكم من الأقوام اندثروا وكم من الحضارات زالت وأنت لا تزال تتلأ كما أنت في طفولتي.. انحني إليك اجلالا واحتراما أيها القمر المنير..

أيها القمر.. إنني حينما أراك صامتاً محلقاً فوق السهول المقفرة والجبال العالية، وكلما أراك تتبعني أينما سرت خطوة خطوة، وكلما نظرت الكواكب تتلألأ في السماء، أقول وأنا سابح في بحار من التفكير لم هذا الضوء الساطع والنور الكثير؟ وما معنى هذه الوحدة العظيمة! أيها القمر.. سبحان من خلقك وأبدع في جمالك، أرى نفسي والسماء في اعماقك وأرى وجهك يتلألأ كوجه جميلة تنتظر حبيبها، أرى أوراق الشجر على وجهك الجميل تسير تائهة كقلوب العاشقين حيارى لا تدري أين تروح.

أيها القمر.. لقد طال بي سهري، وهل سألت النجوم عن خبري، ما زلت في وحدتي أسامرها، حتى سرت فيك نسمة السحر، وأنا أسبح في دنيا تراءت لعيوني، قصة أقرأ فيها صفحات من شجوني، بين ماضِ لم يدع لي غير ذكرى عن خيالي. إن روحي لا تزال في مذهب الحس كـأنها تجهش للبكاء مادامت هذه الدمعة فيه تجيش وتتبدر، كأنها معنى غزلي يحمله النظر الفاتر، فلا تلقها على الأرض، فإن الأرض لا تقدس البكاء، وكل دموع الناس لا تبل ظمأ النسيان.

يولد الإنسان بالتعب والعناء، فيكون عرضة للعرض، ثم طعمة للموت. يحس أول حياته الألم والشقاء، فيبدأ أبواه يعزبانه عن ميلاده من يوم أن يوجد في المهد، فإذا نما وترعرع شرعا في مساعدته حتى يكبر، فيبذلان جهدهما في إعداده لما ينتظره من هموم الحياة، بالأقوال والأفعال، فإذا أصبح رجلاً تركاه ليحمل نصيبه من أعباء الحياة.

وليس لي أيها القمر إلا البكاء.. لأنه يخيل إلي أن حقائق كثيرة تغتسل بدموعي، فما افديت من كل ذلك ما افديته من دمعة تفور في صبيبها كأنها روح عاشق يطاردها الموت، فإن في هذه الدمعة ثواب كل آلامي، ويقظة كل الحقائق من أحلامي.. ولعمري أيها القمر، أليك اشكوا بثي وحزني، وأناجيك بأحلام الإنسانية.

***

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة عالية، كولكاتا - الهند

يشير العمل عن بعد، إلى ممارسة العمل خارج فضاءات المكاتب التقليدية، غالبًا من البيت أو من أي مكان آخر بعيدًا عن الجدران الأربعة للإدارات والشركات.

يتيح العمل عن بعد للموظفين القيام بمسؤولياتهم الوظيفية باستخدام التقنيات الرقمية، مثل أجهزة الكمبيوتر والإنترنت وأدوات الاتصال، دون الحاجة إلى التواجد الفعلي في المكتب بشكل يومي.

تعود جذور مفهوم العمل عن بعد إلى أواخر القرن العشرين، لكنه اكتسب زخمًا كبيرًا في السنوات الأخيرة بسبب التقدم التكنولوجي والتغيرات في ثقافة العمل.

لقد بدأت فكرة العمل عن بعد في التبلور منذ السبعينات من القرن الماضي حيث أتاحت التكنولوجيا الاتصالات إنجاز إجراءات العمل بشكل أكثر مرونة. كما ساهمت أزمة النفط والحاجة إلى تقليل التنقل في النقاشات المبكرة حول إمكانيات العمل عن بعد.

ومع ظهور أجهزة الكمبيوتر الشخصية والإنترنت في التسعينات ، أصبح العمل عن بعد أكثر جدوى. فقد بدأت بعض الشركات في تجربة ترتيبات العمل عن بعد، على الرغم من أنها كانت غير شائعة نسبيًا.

وقد أدى انتشار الإنترنت عالي السرعة وأدوات الاتصال العالية الدقة وبرامج التعاون في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى جعل العمل عن بعد أكثر جدوى ويمكن الوصول إليه بيسر. وبدأت الشركات في إدراك الفوائد المحتملة، بما في ذلك توفير التكاليف وتحسين التوازن بين العمل والحياة.

وشهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ارتفاعا كبيرا في العمل عن بعد، مدفوعًا بعدة عوامل بما في ذلك التقدم في الحوسبة السحابية، وتكنولوجيا الهاتف المحمول، وتغيير المواقف تجاه العمل. غالبًا ما قادت الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا الطريق في اعتماد سياسات العمل عن بعد. اكتسب هذا المفهوم المزيد من الاهتمام مع ظهور "اقتصاد العمل الحر" وتوافر العمل المستقل والعمل التعاقدي الذي يمكن القيام به عن بعد.

كان لجائحة كوفيد-19، التي ظهرت أواخر عام 2019 واستمرت حتى أوائل عام 2020، تأثيرا هاما للغاية على وظيفة العمل عن بعد. فقد أجبرت عمليات الإغلاق وإجراءات التباعد الاجتماعي العديد من الشركات على الانتقال بسرعة إلى إعدادات العمل عن بعد لضمان سلامة موظفيها. كما أظهرت هذه الفترة أن العمل عن بعد لم يكن ممكنًا فحسب، بل يمكن أن يكون مثمرًا أيضًا للقيام بالعديد من الأدوار.

لقد أدى هذا الوباء إلى تسريع قبول العمل عن بعد ودفع العديد من الشركات إلى التفكير في ترتيبات عمل أكثر مرونة حتى بعد الأزمة. من المحتمل أن يظل العمل عن بعد جزءًا مهمًا من المشهد العام، مع زيادة انتشار النماذج الهجينة (مزيج من العمل عن بعد والعمل داخل المكتب).

ومن المرجح أن يستمر مستقبل العمل عن بعد في التطور مع تغير التكنولوجيا وثقافة العمل والظروف العالمية حيث يتوقع العديد من الخبراء أن تصبح نماذج العمل الهجينة هي القاعدة السائدة . وهذا يعني أن الموظفين سيتمتعون بالمرونة للعمل عن بعد وفي مكاتبهم ، مما يحقق التوازن بين فوائد العمل عن بعد (المرونة، وتقليل التنقل، وتحسين التوازن بين العمل والحياة) والتعاون الشخصي.

من جانب آخر يمكن أن يؤدي التقدم المستمر في أدوات الاتصال والواقع الافتراضي والواقع المعزز إلى جعل التشارك عن بعد أكثر سلاسة. قد تصبح الاجتماعات الافتراضية أكثر نشاطا وحيوية، وتحاكي إلى حد بعيد الشعور بالتواجد في نفس الغرفة مع الزملاء.

أيضا من المرجح أن تحول الشركات تركيزها من مراقبة ساعات العمل إلى قياس المخرجات والنتائج. حيث يتيح هذا المنهج القائم على النتائج للموظفين العمل بالسرعة التي تناسبهم وفي البيئات المفضلة لديهم مع ضمان الوفاء بجودة العمل والمواعيد النهائية.

ومن المتوقع من أصحاب العمل أن يولوا المزيد من الاهتمام لرفاهية الموظفين. كما يمكن أن يؤدي العمل عن بعد إلى محو الخطوط الفاصلة بين العمل والحياة الشخصية، لذلك من المرجح أن تزداد الجهود المبذولة لمساعدة الموظفين على وضع الحدود والحفاظ على توازن صحي بين العمل والحياة.

ومع تزايد قبول العمل عن بعد، يمكن للشركات الاستفادة من مجموعة المواهب العالمية، وتوظيف أفضل المرشحين بغض النظر عن موقعهم الجغرافي. وهذا يمكن أن يؤدي إلى فرق أكثر تنوعا وتخصصا.

كما قد تتحول المساحات المكتبية الفعلية إلى مراكز تعاون بدلاً من مساحات عمل يومية. وقد تصبح أماكن لممارسة الأنشطة التي تتطلب التفاعل الشخصي.

سيظل الأمن السيبراني وخصوصية البيانات أمرًا بالغ الأهمية حيث ستحتاج الشركات إلى الاستثمار في تدابير أمنية قوية لحماية المعلومات الحساسة وضمان الوصول الآمن عن بعد إلى شبكات الشركة.

وسيكون التعلم المستمر وتحسين المهارات ضروريًا للعاملين عن بعد للبقاء على صلة بسوق العمل سريع التغيير. وستلعب منصات وموارد التعلم عبر الإنترنت دورًا مهمًا في مساعدة العمال على اكتساب مهارات جديدة.

على مستوى التكيف الإداري والقيادي سيحتاج المديرون إلى تكييف أساليب قيادتهم لإدارة الفرق البعيدة بشكل فعال. ستصبح الثقة والتواصل الواضح والتفاهم أكثر أهمية.

ومن المرجح أن يستمر المشهد القانوني والتنظيمي المحيط بالعمل عن بعد في التطور. قد تكون هناك حاجة إلى معالجة القضايا المتعلقة بالضرائب وعقود العمل وحقوق العمال.

أما من جانب الأثر البيئي يمكن أن يساهم تقليل التنقل واستهلاك الطاقة المكتبية بسبب العمل عن بعد بشكل إيجابي في جهود الاستدامة البيئية.

مما لاشك فيه أن مستقبل العمل عن بعد سيتأثر بعوامل مختلفة، بما في ذلك التقدم التكنولوجي، والظروف الاقتصادية، وثقافات الشركة، والتغيرات المجتمعية. فقد أدت جائحة كوفيد-19 أيضًا إلى تسريع اعتماد العمل عن بعد وأثرت على كيفية رؤية الشركات والموظفين لجدوى هذا العمل وفوائده. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يتشكل المسار الدقيق للعمل عن بعد من خلال مجموعة من هذه العوامل في السنوات المقبلة.

***

عبده حقي

إننا كثيرا ما ننشغل بالاهتمامات المادية وبناء المنشآت الضخمة وتزيين المحيط وتخصيص أماكن طبيعية للنزهة والاستجمام ثم نكتشف بعد مدة الخراب الذي يلحق بهذه الأماكن، تحطيم الكراسي ورمي القاذورات والكتابة على جدران البنايات ثم نتساءل ما السبب؟ والسبب في الحقيقة واضح كوضوح الشمس هو إهمال فقه بناء الإنسان، كيفية امتلاك خطة تربوية استراتيجية لتربية هذا الإنسان وإعداده وتكوينه وتزويده بكل المهارات الحياتية التي تجعله يساهم في بناء صرح مجتمعه وأمته، إنسان قاعدته الصلبة  " اقرأ " و" ثيابك فطهر والرجز فاهجر "، إنسان يعتني بعقله ومظهره وجوهره، يجتنب كل الآثام والسيئات التي تعيقه على الانطلاق في دروب الإنجاز..

يقول الكاتب محمد العبدة: " إن توجيهات القرآن الكريم تدعو إلى بناء الإنسان من الداخل، قلبه ومشاعره وإرادته، حتى إذا استقام حاله على توازن واعتدال واستقر على هدى من الله، استطاع أن يواجه المصاعب والأزمات وما يتعرض له من امور الدنيا من غنىً او فقر أوصحة ومرض وغير ذلك".

عندما نهمل بناء الإنسان يحل الخراب بالأمة والمجتمع فيستعد هذا الإنسان الفارغ من الداخل، الذي لا يملك فكرا ولا تربية أن يبيع وطنه وولاءه للأجنبي بحفنة دولارات أو اوروات فحصانة الاوطان لا تكون إلا ببناء الإنسان وتحضرني هنا قصة بناء سور الصين العظيم لحماية البلد وتحصينها ولكنهم نسوا بناء الإنسان الذي يحمي البلاد وإليكم القصة:

"ﻋﻨﺪﻣﺎ ﺃﺭﺍﺩ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﻮﻥ ﺍﻟﻘﺪﺍﻣﻰ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﺸﻮﺍ ﻓﻲ ﺃﻣﺎﻥ، ﺑﻨﻮﺍ ﺳﻮﺭ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ﻭﺍﻋﺘﻘﺪﻭﺍ ﺑﺄﻧﻪ ﻻ‌ ﻳﻮﺟﺪ ﻣﻦ ﻳﺴﺘﻄﻴﻊ ﺗﺴﻠﻘﻪ ﻟﺸﺪﺓ ﻋﻠﻮﻩ، ﻭﻟﻜﻦ ..! ﺧﻼ‌ﻝ 100 ﺳﻨﺔ ﺍﻷ‌ﻭﻟﻰ ﺑﻌﺪ ﺑﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺗﻌﺮﺿﺖ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﻟﻠﻐﺰﻭ ﺛﻼ‌ﺙ ﻣﺮﺍﺕ ! ﻭﻓﻰ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺟﺤﺎﻓﻞ ﺍﻟﻌﺪﻭ ﺍﻟﺒﺮﻳﺔ ﻓﻰ ﺣﺎﺟﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﺧﺘﺮﺍﻕ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﺃﻭ ﺗﺴﻠﻘﻪ ..! ﺑﻞ ﻛﺎﻧﻮﺍ ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺮﺓ ﻳﺪﻓﻌﻮﻥ ﻟﻠﺤﺎﺭﺱ ﺍﻟﺮﺷﻮﺓ ﺛﻢ ﻳﺪﺧﻠﻮﻥ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺒﺎﺏ.

ﻟﻘﺪ ﺍﻧﺸﻐﻞ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﻮﻥ ﺑﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻮﺭ ﻭﻧﺴﻮﺍ ﺑﻨﺎﺀ من يحرسه"

فلنحرص على بناء من يحرس الوطن قبل أي بناء.

***

الكاتب والباحث في التنمية البشرية

 شدري معمر علي

......................

المرجع:

1- محمد العبدة، بناء الشخصية الإنسانية في القرآن، موقع إسلام أونلاين.

فى قاعة صغيرة بمسجد آل رشدان بمدينة نصر أقيم عزاء الشاعر محمود قرنى. ووقف ابنه أحمد فى أول طابور طويل يستقبل المعزين ويصافحهم.

فى القاعة ساد الصمت، رغم أن معظم المثقفين الحاضرين يعرفون بعضهم البعض، صمت وحزن غمره فى قرارة الروح شعور عميق بالذنب، فقد ظل قرنى ثلاث سنوات مريضًا يسعى لعلاج كبده من دون أن ترتجف بأقل بادرة استجابة الهيئات الثقافية الرسمية: اتحاد الكتاب، والمجلس الأعلى، ووزارة الثقافة وغير ذلك. وتكررت أمام أعين وضمائر الجميع حادثة الشاعر فتحى عامر، الذى فارق عالمنا فى يناير ٢٠٠٥ قبل أن يتم الخمسين عامًا، ولم يكن لديه هو الآخر ما يكفى من العلاقات والأموال لعلاج الكبد أو زراعة آخر.  وعندما اجتمع بعض أصدقاء فتحى عامر قبل شهرين من وفاته وقرروا أن يصدروا نداءً للتبرع من أجل علاجه، رفض فتحى بشدة قائلًا بغضب: لا تشحذوا باسمى.

محمود قرنى أيضًا رفض بشدة كل عروض الأصدقاء التى تقدموا بها لمعاونته ماليًا، وقال لى فى حديث تليفونى: شكرًا جزيلًا. لكن صدقنى ليست هناك حاجة. المسائل ماشية.

بهذا التعفف وبهذه الكبرياء وقف قرنى على حافة الموت، يحدق ليس بصحته، لكن بكرامته. يرحل محمود قرنى، وفتحى عامر، وغيرهما ممن يحسبهم الناس «من التعفف» أغنياءً، يرحلون إلى الحقيقة التى تضم من لا يتواثبون إلى أى لقاء وكل ندوة وشاشة وميكروفون وأخبار الصحف، ويبقون فى الحقيقة شطرة من القصيدة العظيمة التى تكبر تحت افتتاحية المتنبى: " فلا عبرت بى ساعة لا تعزنى، ولا صحبتنى مهجة تقبل الظلما " !

رحل محمود قرنى فجر الأحد ٢ يوليو، قبل ذلك بساعات كتب الأستاذ نبيل عبدالفتاح على صفحته فى «فيسبوك» أن قرنى راقد بخير يستعد للعملية فى الصباح. كتبت له فى المحادثة أقول إنه إذا كانت الأجهزة الثقافية الرسمية قد قصرت معه، فإننا أيضًا مقصرون، لماذا لا نتحرك لتوفير نفقات علاجه؟. واستحسن نبيل عبدالفتاح الفكرة، بل وتخيرنا فيما بيننا عماد أبوغازى لبدء حملة جمع الأموال.  ولم تمر سوى ساعات حتى رحل عنّا محمود قرنى، تاركًا ذلك الشعور العميق بالذنب، والعجز، وبأن رحيله كان قصيدته الأخيرة، المشبعة بالتعفف، والكبرياء، واجتناب الضوضاء الزائفة، والبعد عن الصغائر، أو التقرب لأصحاب القرار، رحل شاعرًا، كما عاش. وقد صدمنى الخبر طويلًا، كما تهبط الحقيقة بكل ثقلها على رأس الإنسان، فلا يسعه الحركة أو النطق. ولم أجد ما أكتبه على صفحته بعد رحيله سوى «حقك علينا». أما القصيدة فسوف نظل نقرأها طويلًا، ونرى فى كل بيت منها أحوال الذين وهبوا أعمارهم للفن، والفكر، والوطن، وماتوا غرباء، على الطريق الطويل للثقافة المصرية. "حقك علينا يا محمود. حقك علينا ".

***

د. أحمد الخميسي قاص وكاتب صحفي مصري

كتب الباحثون العرب كثيرا حول التأثير العربي الاسلامي على بعض الادباء الروس، وانعكاس هذا التأثير في نتاجاتهم الادبية المتنوعة، مثل بوشكين وليرمنتوف وتولستوي وبونين ...الخ، وتوسّع الباحثون العرب في كتاباتهم هذه جدا وأضافوا لها اجتهادات ذاتية اكثر مما يجب (وبعض تلك الاضافات لا يعرفها حتى هؤلاء الادباء الروس انفسهم، كما علّق احدهم مرّة ضاحكا!)، ولا مجال هنا للحديث تفصيلا عن هذه الاضافات طبعا، ولكننا نود ان نشير، الى ان غوغول – ويا للغرابة - لم يكن بين هؤلاء الادباء الروس، الذين كتب عنهم الباحثون العرب في هذا المجال، رغم ان غوغول هو الاديب الروسي الوحيد عبر تاريخ الادب الروسي كله، الذي ترتبط باسمه محاضرة ألقاها شخصيا عن الخليفة العباسي المأمون، ولم يخطر ببال هؤلاء الباحثين طرح سؤال مهم في هذا الخصوص، وهو - لماذا اختار غوغول هذه الشخصية من التاريخ العربي بالذات، ولم يتحدث عن شخصية اخرى من الشخصيات الكبيرة، التي يزخر بها تاريخ العالم الواسع ؟، ولماذا ألقى غوغول محاضرة عن المأمون في جامعة بطرسبورغ، والتي استمع اليها كبار المثقفين الروس آنذاك مثل بوشكين وجوكوفسكي؟. ولازال هذا الموضوع غير واضح المعالم في اذهان القراء العرب عموما لحد الان، وحتى بالنسبة لهؤلاء القراء العرب الذين يتابعون اخبار الادب الروسي، رغم بعض الكتابات العربية (القليلة نسبيا) عن ذلك الموضوع، التي ظهرت هنا وهناك في بعض بلدان عالمنا العربي .

 نود في مقالتنا هذه الكلام عن محاضرة غوغول حول الخليفة العباسي الشهير المأمون وانعكاساتها في الاوساط الروسية آنذاك قبل كل شئ، اذ لم تكن روسيا آنذاك تمتلك علاقات واسعة مع العالم العربي (الذي كان اصلا تحت السيطرة العثمانية، كما هو معروف)، وذلك كي نرى، كيف تقبّل المثقفون الروس انفسهم محاضرة غوغول عن خليفة عباسي، هذه المحاضرة الفريدة في تاريخ الادب الروسي، و التي بدأت الاوساط العربية تتحدث عنها في القرن العشرين ليس الا، اي بعد مرور اكثر من قرن ونصف على القاء غوغول لمحاضرته تلك في جامعة بطرسبورغ .

ألقى غوغول محاضرته تلك عام 1834، عندما كان يريد ان يصبح استاذا جامعيا لمادة التاريخ، ولكن غوغول لم يستطع - في نهاية المطاف - تحقيق خططه في هذا المجال، ونشر تلك المحاضرة في كتاب له صدر عام 1835 . لقد حاولنا البحث في بعض المصادر الروسية حول تلك المحاضرة، واندهشنا، اذ تبيّن ان هذا الموضوع لازال ينتظر الباحثين الروس انفسهم، ولم نجد – مثلا – جوابا محددا في تلك البحوث الروسية عن سؤال – لماذا اختار غوغول بالذات الخليفة المأمون موضوعا لمحاضرته آنذاك؟ بل وجدنا اشارات صريحة تؤكد، ان موضوع (غوغول المؤرّخ)، والذي يدخل ضمن موضوع اكثر شمولية، وهو (غوغول المفكّر) تتطلب الدراسة الواسعة و العميقة لها في روسيا لحد الان، وان هذا الجانب في مسيرة غوغول لم يدرس (بضم الياء) كما يجب سابقا في المصادر الروسية، ولم نعثر على (بقايا !) الرأي السوفيتي، الذي كنّا نسمعه اثناء دراستنا للادب الروسي في الجامعات السوفيتية بستينيات القرن العشرين، والذي كان يقول . ان سبب اختيار غوغول لشخصية الخليفة العباسي يكمن في رغبة غوغول بانتقاد القياصرة الروس، لانهم لم يقوموا بتحقيق تلك الجوانب الثقافية الرائعة، التي قام بها المأمون، وان غوغول اراد ان يقول للقياصرة الروس (عبر محاضرته تلك) كيف يجب على القياصرة ان يتصرّفوا، اي انه اراد انتقاد القياصرة الروس ولكن بشكل غير مباشر، وهو اجتهاد سياسي قبل كل شئ، اذ كانت وجهة النظر السوفيتية عموما ترى، ان كل الادباء الروس الكبار قبل ثورة اكتوبر 1917، من بوشكين الى بقية الاسماء اللامعة الاخرى بعده، هم (معارضون !) للنظام القيصري بشكل او بآخر، ونظن ان هذا الرأي (رغم منطقية صياغته، ولهذا كنّا نتقّبله عندما كنّا طلبة في جامعاتهم) لا يتناسق ولا ينسجم واقعيا مع مسيرة الادب الروسي وأعلامه عموما في تلك الفترة، وكذلك لا يتناغم هذا الرأي ايضا مع واقع غوغول بالذات ومواقفه الفكرية، اذ انه (اي غوغول) كان ارثذوكسيا متشددا جدا، وبالتالي فانه كان ينظر الى القياصرة (مثل بقية هؤلاء المتشددين) باعتبارهم حماة تلك المفاهيم الدينية اصلا . هذا وقد اوضح احد الاساتذة الروس لنا مرّة، ان سبب اختيار غوغول لشخصية المأمون يمكن تفسيره، بان غوغول كان مثقفا كبيرا، وانه اطلع على دور المأمون في تعزيز الثقافة، وكان معجبا جدا به، ولهذا اراد في محاضرته التعبير عن اعجابه الكبير بهذه الشخصية، ولم يرغب ان ينتقد القياصرة الروس بذلك، ولم يرد هذا التفسير السوفيتي عن سبب اختيار غوغول للمأمون الا في بدايات العصر السوفيتي فقط، اذ ان كل انسان يرى الشئ الذي يريد ان يراه، ويمكن القول، ان هذا الرأي قد اختفى بالتدريج وبمرور الزمن مثل الشعارات المتطرفة الاخرى في مجالات الحياة كافة، ونظن، ان كلام الاستاذ الروسي هذا هو ألاقرب الى المنطق السليم .

ختاما لهذه السطور نرى، انه من الضرورة الاشارة الى ان هذه المحاضرة قد ترجمها عن الروسية المترجم الكبير كامران قره داغي في سبعينيات القرن العشرين ونشرها في مجلة (آفاق عربية) ببغداد، وبهذا، فان محاضرة غوغول عن المأمون كانت ولازالت ترتبط في العراق باسم كامران قره داغي، هذا المترجم الموهوب الذي كان يمكن ان يعطي لنا مكتبة عربية متكاملة حول الادب الروسي لو استمر بعمله الترجمي هذا، الا ان (السياسة !!!) جذبته، وانغمر في مدّها وجزرها، وكم اتمنى ان يجمع كامران تلك المقالات حول الادب الروسي، التي ترجمها آنذاك، في كتاب، اذ ان تلك المقالات (بما فيها محاضرة غوغول عن المأمون) لازالت تمتلك اهميتها للقارئ العربي لحد الان.

***

ا. د. ضياء نافع

القمر هو المنظر الجميل الذي يأخذ الأذهان إلى ما هو يسحر العقول، وما أجمله عندما يكتمل بدراً، في الليل زينة السماء، وفي الليل يزدان القمر بأشكاله المختلفة، يعكس ضوء الشمس بخجل واضح، ويتلاشى تدريجياً تاركاً للنجوم مكانه. الليل يلبس ثوب الظلمة ليبقي الناس يحلمون بأمانيهم وآمالهم، والليل يعرف أن الأحلام تحترق في الشمس وتتلاشي في الضوء، وأكثر ما ترى النور في الظلمة.

القمر الذي يظهر مساءً ويمزّق دياجي الليل ما هو إلّا وجه حبيبة قد أطلّت على عاشقها لترسم على وجهه الابتسامة وتمدّه بألوان الحنين والدفء والراحة. عندما يسدلُ الليلُ ستائرهِ بألوانها السوداءِ المخملية، ويُقبل القمرُ مختالاً مرتدياً عباءتهُ الفضيةَ، والقمر الساكن في أفق الليل هو خير صديقٍ تُوْدِعهُ النفس آلامها وأحزانها.

عندما يظلم الليل، يطلع القمر مع النجوم الساحرة برشاش من النور تتحدر قطرات دقيقة منتشرة كأنها أنفاس تتثاءب الأمواج المستيقظة في بحر النسيان، تحمل إلى الغيب تعبا وترحا، ونحن لا نعرف من كلام النجوم وهي تخلق قوة التصور حتى تستحوذ عليها أحلام اليقظة، يطلع القمر ليملأ الدنيا أحلاما.

 وفي كل قلب إنسان هناك أحلام لم تر النور، ولم يشرق الشمس عليها بالظهور،ولكنه على الرغم من كل شيء، يعيش الإنسان الأحلام ليلا ونهارا، صباحا ومساء، حتى يجن عليه الليل ويصيب بخيبة في الظلمة، ثم يطلع القمر المنير ويتجدد معه الأمل في الحياة والعمل، حينئذ يعرف الإنسان معنى الكون والحياة، يعرف الإنسان أن معنى الحياة هو أن يموت ضاحكا.

 عندما يطلع القمر المنير، ينظر الإنسان إلى الحياة ومعناها، وإلى الموت ومعناه، أما الحلم فهو ابن الحاضر الأبدي، يبحث الإنسان عن حبه في أرض الأحلام الضائعة، والقمر أول من تخلع حجاب الظلمة في مواكب الفجر، فما أنت أيها القمر إلا بيت الأحلام، ولكن هذا البيت لا تقام فيه الحفلات إلا أثناء الليل، هل ترى الرجل الذي يحلم وهو مستيقظ، هل ترى رجل وهو لا يخطو عن الحياة إلا فوق القبر.

***

الدكتور معراج أحمد معراج الندوي

الأستاذ المساعد، قسم اللغة العربية وآدابها

جامعة عالية ،كولكاتا - الهند

لَجَّت مواضِعُ التَّفاصلِ، وثجَّتْ مَواقعُ التَّواصلِ، بتأويلٍ للدّاعيةِ "محمد الغَزالي"، ذَكَرَ فيهِ معاني {عربيٌّ، عُرْبٌ، أعرابٌ)} في الإستعمال، فأوردَ أن لفظةَ {العربيِّ} هي {الخلوُّ من النَّقصِ والعيب بالتَّمامِ والكمالِ}، وليسَ هي العرق والنَّسب بإشتمال، كأعراقٍ من هندٍ وسندٍ وإفرنجةَ وإسبانٍ ومن برتغال، ولذلكَ -والكلامُ للغزالي- فقد وصفَ الحقُّ ذو الكبرياء والجلال قرآنَهُ (قُرْآناً عَرَبِيًّا): أي قُرْآناً بتمامٍ وكمال، مثلما وصفَ الحورَ العين (عُرُبًا أَتۡرَابࣰا) أي حوراً تامَّاتٍ كاملاتٍ غوالي، وهنَّ من العيوبِ خوالي ، فلا فكوكَ في فيهنَّ بارزاتٍ عوالي، ولا فيهنَّ عيونٌ جاحظاتٌ ولا فيهنَّ عرجٌ ولا دوالي.

ولا أرى تفسيراً لهكذا تفسيرٍ مُتعسفٍ من مفكّرِنا الغالي "الغزالي" إلّا أنَّهُ جاءَ ليمدحَ القرآنَ وليبعدَ عنهُ شُبهةَ ذَمِّ الْأَعْرَابِ {أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} فقدحَ بإستماتةٍ وبإنفعال، فتراهُ يقولُ :"حاشا لله أن يَذمَّ النَّاسَ مِن مُنطلقٍ عرقيٍّ وبمَنطقٍ عنصريٍّ"، وفاتَهُ أنَّهُ دَرَأَ شُبهةً صُغرى بشُبهةٍ كُبرى وضِيزى بإختلال ورُبَّما عن إستغفال، وأنّ عيونَ {العربيَّةِ) قد عَمِيَتْ بعدَما إرادَت أناملُ الغزاليّ لرموشِها الإكتحال.  وما كان لعَربيٍّ أبداً أن يأتيَنا وَارِداً مشتملاً بسؤال، فيسألَ عن معنى (عَربَ يعربُ) أو (نامَ ينامُ) أو (شَرِبَ يَشْرَبُ) بإنفعالٍ أو بتَعَسّفٍ وإيغالِ؟ لأنَّهُ أبداً لن ينالَ جوابَاً عن ذا سؤالِ. ذاكَ أنَّ لفظةَ (عربَ، نامَ، شَرِبَ) وكذا مَثيلاتِها في سائرِ ألسنةِ الأمَمِ والأَنْجال، هنَّ لبناتٌ وآياتٌ من آياتِ اللهِ في اخْتِلَافِ أَلْسِنَتِنَا وَأَلْوَانِنا، وعلاماتٌ لقدرةٍ قائمةٍ مدى الدَّهرِ لهدايةِ الأجيالِ، ولقد عَلَّمَ اللهُ آدمَ اللبناتِ كلَّها وقَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ بتبيانٍ وبإجمال.

ولو أنَّ ذا صَنعةٍ بلسانِ الضَّادِ جدَّ السَّيرَ بجوابٍ عن هكذا سؤالِ، فسوف يأتي جوابُهُ كمَن فسَّرَ الماءَ الزّلالَ بعدَ جهْدٍ جهيدٍ بالماءِ الزّلالِ، ولكنَّ لا حرجَ على ذي الصَّنعةِ لو أنَّهُ جالَ وصالَ في مشتقّاتِ (شَرِبَ)، فقالَ: المِشْرَبةُ إناءٌ يُشْرَبُ فيهِ على إستمهالِ، وكذا الشَّوارِبُ شُعيراتٌ (سالَتْ) على الفَمِ بأَسدال، ولكن إياهُ أن يقربَ اللبناتِ فيُحَلِّقَ بنا في عنانِ عجاجةٍ على أجنحَةِ فيلٍ من الأفيالِ، فيَتَقَوَّلَ بمَجاجةِ من أقوال، بإنَّ الشّرْبَةَ: قِرْبَةٌ، والشَواربَ تاتي بمعنى الرجال، وبلا تبصرةٍ منهُ وعلى إستعجال، وكذا يقول بسذاجةِ مَن قال: السّلطانُ تأتي بمعنى الحجَّة والبرهان بأعلال.

كلّا فألفاظُ: السّلطانُ، والحجَّةُ، والبرهانُ، وكلٌّ لفظٍ من ألفاظِ الضَّادِ يتمخترُ في مضارب الضَّادِ عن أخيهِ بأنَفةٍ وبإستقلال، ولا يُجيدُ إستحضارَهُ إلّا أهلُ المعاني والكَلم العَوالي، و(إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـٰذَا) أي: من حجّةٍ وبرهانٍ مُتسلّطٍ مُبينٍ ومهيمن على ما أنزلَ الكبيرُ المتعال، أم قلوبُكمُ غُلْفٌ أقفِلَت بأقفال.

وبعيداً عمّا رَوَتْ نواميسُ اللسانِ العربيِّ مِن نَثرٍ وشِعرٍ ومن أمثال، وبعيداً عمّا ما طَوَتْ قراطيسُ مُعْجَمِ بيانهِ من تحصيلٍ لمَعانٍ بتَأصيلٍ وإبدَال، وذلكَ بيانٌ أسرٌ نفيسٌ ساحرٌ ونيسٌ وَحدهُ ذلكَ اللسانُ مَلَكَهُ في حلٍّ وفي تِرحال، وكانَ اللسانُ العربيِّ (كَأَنَّ كَلاَمَ النَّاسِ جُمِّعَ حَوْلَهُ فَأُطْلِقَ فِيْ إِحْسَانِهِ يَتَخَيَّرُ) بإمتثال. أقولُ فيما ههُنا بعيداً عن ناموسٍ وقاموسٍ وبتؤدَةٍ وبلا إستعجال، وبوجيزِ حرفٍ وبلا أزيزٍ في الإسترسال، وبلا تطريزِ مافي المَعاجِمَ من شَرْحٍ لسردٍ نفيسٍ وبسطورٍ طوال، لكيلا أثقِلَ على ضيوفِ ذَرْفيَ بِغَرْفيَ ممَّا حوى نفيسُ التُّراثِ بمِكيالي:

" رغمَ أنَّهُ لا ثّمةَ لشُبهةِ ذمٍّ عرقيٍّ في آيةِ (الْأَعْرَاب) البتّة بل منَ المُحال، فإنَّ محاولةَ الغزاليّ لكنسِ الشُّبهةِ بإستبسال، قد أحالَتهُ لشُّبهةٍ كُبرى إستناداً لفهمِهِ للفظة (العربيِّ) بإفتعال. شُبهةٌ صيَّرَتنا نحنُ العَرَب دونَ سَائرِ الأُممِ الجِنْسَ (التَّمامَ والكمَالَ والخَاليَ مِن النَّقصِ والعَيْبِ) على مدى الأجيال، وعنواناً للخَلْقِ الكامِلِ قبلَ الإسلامِ وبعدَهُ، ومعصومينَ مِن كلِّ عيبٍ وإختلال، وغيرَ ملزمينَ بآيةِ (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) في سائرِ الأحوالِ، ذاكَ أنَّ التَّمامَ والكمالَ فينا هو جِبِلَّةٌ فلا حاجةً لنا لتَضَرّعٍ وإبتهال، وإذاً فنحنُ العربُ وبفهمِ الغزاليّ (شَعْبُ اللهِ المُختارِ) بلا تعجرفٍ ولا إستفحال، وذلكَ لَعمري فهمٌ سمجٌ ماتَداوَلَتهُ فَصاحَةُ الأعرابِ قطّ في بَدوٍ حذوَ كثبانِ التِّلال، وعِلمٌ مجٌّ ماتَنَاولَتهُ بلاغَةُ العَرَبِ قَطُّ في شَدوٍ بينَ أحضانِ الظِلال، وإنّما أهلونا العَرَبُ والأعرابُ هُمُ أهلُ بيانٍ هوَ أصفَى وأوفَى مِن أن تَتَخَطَّفَهُ طُيورُ التَّكَلّفِ بإغتيال، وأحلى وإعلى مِن أن تَتَقَطَّفَهُ بثورُ التَّعسُّفِ بشَذَرٍ مَذَرٍ في إدبارٍ وإقبال. ذاكَ شَذَرٌ مَذَرٌ ما سَلِمَ منهُ مُفَكِّرٌ من مفكّري أمَّتنا المُعاصرينَ بإخختزالٍ أو إعتزال.

و[إنَّما جُمْعُ الأعراب أعاريب، والنسب إلى الأعراب: أعرابي، وقال سيبويه إنما قيل في النسب إلى الأعراب أعرابي لأنه لا واحد له على هذا المعنى، وليسَ الأعرابُ جَمعاً لعَرب، وإنَّما العربُ اسم جنس] فتأمَّلْ يا ذا عزٍّ في ذا طويلاً فهيَ المفتاحُ وحسب لإستيضاحِ كبوةِ الغزالي.

فإن قيلَ لكَ إنَّ {العربيَّ} هو لسانٌ وليسَ عرقاً وهكذا قصدَ فقالَ الشيخُ الغزالي، فعلامَ التّجني ودفعُ الكلامِ الى تهي ترهاتٍ بجهالةٍ أو بتَعال، فلهُ قلْ؛

"وهلِ اللسانُ إلّا إنسانٌ محمولٌ على قدمينِ بتجوال، فإن كانَ اللسانُ ذا كمالٍ كانَ الإنسانُ منعوتاً بالكمال، وإن كانَ اللسانُ ذا جهالةِ كانَ الإنسانُ موصوفاً بالجهال". ثمَّ قلْ لهُ إنَ الله جلَّ في علاهُ قال {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}وهل تذكرنيَ الأمم إلّا بنعتِ (العَربِيِّ)على مدى الأجيال والأحوال.

وأمّا قيل الغزالي أنَّ (ألفَ التَّعدي في كلمةِ الأعراب قد نَقلت المَعنى الى النَّقيضِ (ألفَ السَّلب) كما في قَسَطَ: ظَلَمَ وأقسَطَ: عَدَلَ، وعربَ: تمَّ وخَلا مِنَ العَيبِ، وأَعرَبَ: نَقَصَ وشَملهُ العَيبُ، والأعرابُ جماعةٌ تَتَّصِفُ بصفةِ النَّقصِ في الدَّينِ)، فذاك قيلٌ لا يُرَدُّ عليهِ ولا يستحقُ إشتغالي، وأولى تركهُ بإهمال، إذ لن تجدَ صبيّاً عربيّاً ينطقُ مثلما فهمَ الغزالي:" لُعبتيَ كانت {عَربيةً} وأنيقةً، لكنَّها قد {أعربَتْ} وباتَتْ عتيقةً بإبتذال" . ذاكَ هو لدى الصبيانِ خبالٌ وضربٌ منَ ضروبِ المُحال.

ثمَّ مالي من خاتمةٍ بعدما خُضتُ فيما ههُنا في قيلٍ وقال، إلّا أن أستَعيرَ نًصحَ الشَّيخِ (أبن باز) في قضيةٍ ما للداعيةِ الغزالي:

(أنْ هذا لو عدَّلتهُ، وهذا لو قلتَ فيهِ، وهذا لو ما قلتَ، وفي هذا بعض المؤاخذة)، حتى خرجَ الشَّيخُ الغزاليُّ وهو يقولُ: جئتُكم مِن عندِ رجلٍ من بقيةِ علماء السَّلف بأتصالٍ بلا إنفصال.

***

علي الجنابي

يبحث الإنسان منذ القدم عن السعادة وهو مطلب إنسانيّ وضرورة روحيّة، ينتظرها الكبير والصغير، المسلم والكافر، أبوابها كثيرة ولكن أحيانا يقف البشر عند الباب المغلق ولا ينتبهون الى الأبواب الأخرى المفتوحة رغم ان أبواب السعادة عديدة ولا تحصى. ومسالك الحياة تتجدد. ولا يختلف اثنان على ضرورة وجوده السعادة وعن ألوان المتع المادية فيها، وصنوف الشهوات الحسية فما وجدوها وحدها تحقق السعادة أبدًا او مع كل جديد. ويتحرّى طُرقها وكيفيّة تحقيقها، .. لعل في اعطاء البنون حلم جميل وشهوة محببة إلى النفس، لذا نرى جميع الناس يسعون إليها، وتتعلق قلوبهم بها، ويظهر ذلك جليًّا في من حرم من هذه النعمة، وعقم عن الإنجاب، فإنه يدفع أغلى الأثمان والآلاف المؤلفة من الاموال باحث عن تحقيق هذا الهدف، من أجل الحصول على المولود، حتى أن الأنبياء الذين اختبرهم الله بعدم الإنجاب، رفعوا أيديهم بالدعاء لله رب العالمين، قال الله تعالى: ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰرَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ الكهف 80.

في علم النفس تعرف السعادة ' هو الشعور بالغبطة والرضا في الحياة، والشعور بالمشاعر الممتعة والامتنان والعرفان بالجميل والرضا والعواطف التي يتم إنتاجها بشكل متكرر ' . عن الامام علي عليه السلام يقول عن السعادة لها سبعة ابواب: 1- لا تكره أحد مهما أخطا في حقك. 2- لا تقلق مهما بلغت الهموم. 3- عش في بساطة مهما علا شأنك. 4- توقع خيرا مهما بلغ البلاء. 5- أعط كثيرا ولو حرمت. 6-ابتسم، ولو القلب يقطر دما، 7- لا تقطع الدعاء لأخيك المسلم بظهر الغيب؟ ويبذُل الانسان ساعياً من اجل ذلك كلّ ما في وسعه اذا كان مخلصاً لتحقيق هذه الامنية، بكلّ ما لديه من عقلٍ وفكرٍ ومادّة لإيجادها، لكنّها تَبقى سرّاً لم يدرك ماهيّتها إلّا القليل؛ فهي شُعورٌ داخليّ يَشعرُ به الإنسان ليمنحه راحة النفس، والضمير، وانشراح الصدر، وطمأنينة القلب.

تكمُنُ مشكلة الإنسانُ الأساسيّة مع السعادة التي يُعانيها منذ الأزل بكونه لا يعلمُ أدوات تحقيقها، فيُحاول أن يُجرّب الماديات والأمور الملموسة ليَصل للسعادة فتجده لا يصل اليها في كثير من الأحيان .

لقد عرفُ أرسطوالسّعادة بأنها (اللذة، -أو على الأقل أنها تكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باللذة-واللذة بدورها يتمّ تفسيرها باعتبارها غياباً واعياً للألم والإزعاج)، والله المتعالي يجمع السياق القرآني في أحب شهوات الأرض إلى نفس الإنسان، والتي يعتقد أنها سر سعادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا ؛لأنها خلاصة الرغائب الأرضية، يقول النبي صلى الله عليه واله وسلم – أنّ الإنسان السعيد الذي بعد عن الفتن ووفّق لزوم بيته، وكرّر الجملة ثلاثًا للمبالغة والتأكيد، ويمكن أن يكون التكرار باعتبار أوّل الفتن وآخرها، ومن ابتلي وامتحن بالفتن فصبر على ظلم الناس له، وتحمّل أذاهم ولم يدفع عن نفسه ولم يحاربهم، فهو السعيد الذي حاز السعادة الحقة.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)ال عمران 14 وتعرف السعادة على أنها هي الشعور بالاستمتاع العميق بلذات الحياة والرضا عن التصالح مع الذات وراحة الضمير الناتجة من حسن السلوك الظاهر والباطن الذي ينبع من استقراره، نظراً لوجود أسباب وعوامل تقف وراء شعوره بذلك الإحساس،  وذلك من منطلق أنّ السعادة تنتقل بالعدوى حسب علم النفس، وإن وجود الشخص في محيط مستقرنفسيّاً يساعده على الاستقرار ويزيد من راحته النفسية، ويجعل انفعالاته منطقية ومناسبة للمواقف والظروف التي يمرّ فيها، فقد قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، وقال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا).

السعادة الحقيقية للإنسان هي التسامح مع الاخرين، والدليل قول الحكيم الهندي أوشو 'أن السعادة الحقيقية هي تلك التي يعيشها ويستمتع بها الأطفال الصغار قبل أن تتلوث عقولهم بأفكار الكبار'.

من عوامل السعادة ينبع عن استقرار داخلي وخارجي لدى الشخص السعيد، نظراً لوجود أسباب وعوامل تقف وراء شعوره بذلك الإحساس،، قال تعالى ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّامَتَاعُ الْغُرُورِ﴾20 الحديد .

السعادة لها ابواب، ولذلك عليك العمل لكي تكون سعيدا لأن أبواب السعادة شتى، ومنافذ الحظ لا تحصى، ومسالك الحياة تتجدد مع الدقائق، كن سعيدا دوما واستبشر على كل حال ولكن رغم ذلك فالسعادة بيد الله، فهو جلّ وعلا ميسر الأمور وشارح الصدور والمعين والهادي والموفق، بيده ـ جلّ وعلا ـ كلّ الأمور يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعزّويذلّ، ويقبض ويبسط، ويهدي ويضل ويغني ويفقر، ويضحك ويبكي سبحانه وتعالى

***

عبد الخالق الفلاح- باحث واعلامي

(لا تتكلم لمجرد الكلام وكن مسؤولاً عن كل كلمة وعن كل حرف يطلقه لسانك وتتفوه به.. لاشيء يأتي من عدم ولاشيء يذهب إلى عدم).

قلما تبدأ المقالات والكتابات سواء كانت الأدبية أو النقدية بحرف جر لكني مضطر للبدء هنا بحرف جر لأثير فضول المهتمين ولأزيل الغمام عن بعض القضايا العالقة تاركا التخمينات للقارىء الجميل والمتلقي.

في مكان ما وفي زمان ما قيل لا يجوز للفنان أن يتخذ دور ناقد معللين السبب بعدم قدرة الفنان على اتخاذ موقف حيادي من التجارب وذلك لتأثره بتجربته الشخصية.. في مكان ما وفي زمان ما كررت تلك العبارة مرارا الفنان أهم من الناقد و الإبداع أهم من النقد وأنا هنا أقول بعيداً عن خلفيات ما قيل الإنسان سواء كان عتال أو عامل بسيط أو فلاح هو أهم من كليهما وأقصد الناقد والفنان أهمية أي كائن معقودة على ما يتسم به من صفات إنسانية أما الإبداع فهو كالجواهر النفيسة التي لا حصر لأنواعها ياقوت زمرد الدر واللؤلؤ وغيرها مما أدركناه ولم ندركه وهي موزعة ضمن محطات واستراحات على قارعة الطرق الكثيرة المؤدية إلى قمة الهرم

(النقد.. الفن.. الأدب.. الشعر.. الموسيقا.. الرقص.. التمثيل الإخراج وكافة المهن الحياتية) وطالما الحياة مستمرة وفضولنا لكشف ماهيتها وسر وجودنا مستمر سنظل نمضي في طريقنا الذي اخترناه بأنفسنا وستبقى تلك القمة على بعد أميال منا تبتعد كلما اقتربناز

وأجيب هنا عما قيل من أحدهم (لا يجوز للفنان أن يتخذ دور ناقد) ودون النبش في أسباب ومسببات ادعاءاته مستدعيا كل حروف الجر في مكان ما وزمان ما علها تستطيع أن توسع دائرة المهتمين داعيا للقراءة وللإنصات بقلوبكم النقية وأرواحكم الطاهرة الذكية  أنصتوا لكل ما كتبته وأكتبه ثم احكموا كونوا حذرين من إعمال العقل لأن العقل المخرب أناني يقودنا لأطماع دنيوية لا يمكن للعقل أن يبدع هو فقط قادر على الحفظ وعلى استدعاء ما قدمه المبدعون عبر التاريخ لتسخيره وفق أهواءه انصتوا ثم احكموا.. أولا ماهي مهمة الناقد... الناقد هو صلة وصل بين الفنان ولوحته من جهة وبين الفنان والمتلقي من جهة أخرى

الفنان أمام عمله هو الناقد الأول ولا يمكن له أن يتطور بغير ذاك النقد الذاتي وأمام أعمال الآخرين يستطيع أن يقدم بعض الملاحظات الشفوية غير المسؤولة لأنه قد يطرحها من وجهة نظر ذاتية متأثرا بتجربته الشخصية

فقط حين يمتلك الفنان القدرة على تقمص تجارب الفنانين الآخرين ومشاعرهم اللحظية حين العمل حين يستطيع سبر أغوارهم وأغوار العمل حين يستشف من خلال أعمالهم وتكنيكهم الخاص وأدواتهم المستخدم حين يستشف من خلال ما ذكرته الطريقة التي يفكرون بها وحين يكون له أسلوبيته الخاصة والمميزة ويمتلك  ناصية اللغة والكلمات ثم يستدعي المناسب من المفردات  حينها وحينها فقط يمكنه أن يكون الوسيط بين الفنان والمتلقي ويسهم بدور أساسي وجوهري في الارتقاء بالذائقة التشكيلية للمتلقي لتستطيع مواكبة الحداثة ومواكبة كل جديد هنا تكمن أهمية دور الناقد القادر على تقديم الفنان للمتلقي وتبرير عمله له كما أنه يستطيع من جهة أخرى أن يسبق الفنان بخطوة ويقوم عمل الفنان استنادا لرؤيته الشمولية وقدرته على المرور على كافة التجارب والأساليب

وتبقى نصائحه مجرد اقتراحات قد تخطيء إن لم يأخذ بها الفنان أو تصيب حين يأخذ بها وهي بكافة الأحوال وجهات نظر صحيحة

رغم أهمية دور الناقد الحضاري ورغم ما يبذله من جهد ووقت في ذاك الزمن الصعب فهو لايأخذ حقه كما يجب ولايوجد عندنا تلك المؤسسات التي تنظم عمله وتدعمه تحميه وكنت قد دعوت سابقا ً لاجتماع لجمعية النقاد السوريين لأطرح معهم خطة عمل تعود بمردود للناقد والفنان ولكن مع الأسف ذهب صوتي أدراج الرياح.

مما تقدم أقول إن لم يمتلك الناقد تلك الشخصية الجامعة بين فنان مبدع ومتمكن يمتلك عين حساسة وسعة اطلاع على التجارب الفنية ويتحلى بموهبة التحليل وسبر أغوار الذات من خلال اللوحات إن لم يكن كذلك.

ستبقى كتاباته سطحية ومجرد استعراض للسير الذاتية وتفخيم أو تضخيم لا يستند لمبررات ولا أساس له سوى وقوع من يدعي النقد في شبكة المصالح والعلاقات لذلك سيبدو نتاجه هزلي بلا معنى

وبالمقابل أيضاً أقول الغيرة على الفن في عالمنا تفرض علينا الاهتمام بالناقد الحقيقي وتقديم العون له ومساعدته لأهمية دوره الحضاري في الارتقاء بالفن والذائقة الفنية وخصوصا كوني أرى معظم إدارات الصحف الورقية العربية القادرة على إنصاف الناقد وإعطاءه حقه لا يبذلون جهداً في استقطاب الكلمات الجادة بقدر ما تسيطر عليهم في خضم عملهم المصالح والعلاقات ليصير المكثرون المقلون هم الأقرب إليهم بحكم ركيزتهم المادية التي تمكنهم من طباعة الكتب على نفقتهم الشخصية وبحكهم قدرتهم على التحرك والسفر وبناء العلاقات.

***

حسين صقور

بهدوء ودفق وحرارة يتساقط رذاذ أنطوان القزي الصيفي، فيزهر ويثمر قلمه قصائد تتنفس بين ثنايات جديده الذي أعطاه أسم "رذاذ صيفي"، فنراه أحياناً شاكرا،ً قانعاً، مفتخراً،آسفاً وغاضباً أحيانأً أخرى لمَ آلت أليه حال ألأمة، والتي تنعكس على أبنائِها رحيلاً وهروبًا لا مستقر له، لأن الخروج والسفر لا يبعد ألم الحنين والمعاناة النفسية التي تنعكس في حياتنا رمهما كانت الازمنة متباعدة ورغم ما توفره المغتربات من الآمان أقتصادياً ومادياً.

الكتاب الصادر عن مؤسسة الجذور الثقافية يقع  في 106 صفحات من القطع الصغير، تصميم الغلاف والأخراج الفني الدكتور علي أبو سالم.

الإهداء يختصر رحلة العذاب والمعاناة التي لم تفقد الشاعر الأمل والحلم والتصميم فكانت أكسير الحياة للشاعر.

 يزرع أنطوان قبلاته قبل الرحيل، ودمعته الحمراء ترصد العيد، وترسم الحلم رغم جفاف الصيف وحره اللاهب، لكن الغيمة البيضاء جسدت الحلم قطرات ثلاث أنعشت جفافَ أيامه برذاذٍ عبأ منها الشاعر خوابي القلب على مسافات الهروب والرحيل وأطفأ ضمأ البعاد والغياب.

رغم أستقراره في أستراليا لأكثر من ثلاثة عقود لا يزال أنطوان القزي هارباً ومرتحلاً فهذه الشامة على خده ما زالت تذكره بما لا يذكر يقول: وعلى خدي شامةٌ لا تُنسى/ ذكرتني بما لا يذكر(ص45).

 الرحيل والهروب هاجس يرافق الكاتب فعلى صفحات الكتاب يردد تعبير الرحيل والهروب بشكل مباشر وصريح أكثر من عشرين مرة رغم أنه حاول أن يروض هذا الهروب الذي يصفه بالبركان حيث يقول: من يُمسكُ هذا البركان/ يروّضُ الهروبَ…(ص74)

يقول: تزرع قبلتين وترحل (ص7) قبل أن يأتي القطارُ… ويرحل (ص13) ترسم الرحيل وتندم. كم يسرقُ الجفن دموعاً هاربة (ص30) ترصد غلائلَ الضباب الهارب… تعصر ألآس دمعاً للغيوم/ وأغصاناً للرحيل/ وتولم للمرايا التائهة…(ص 35) أطوي المساءَ شراعاً وأرحل (ص39) أن روحي هاربة/ فوق أرضٍ سائبة (ص41) ما للأرغنِ الموجوع يرصدُ غمام الرحيل (ص61) تعانق أحلامي الهاربة (ص73).

لكن رغم هذا الرحيل والهروب فإن الشاعر لم ييأس ونراها يتصدى لمشاكل الأمة ولا يتوارى خلف التعتيم والتورية ويوجز المأساة التي نعيشها في بحثنا عن مكان بين الأمم فيقول:ليس في تاريخ العَرَبِ/ سوى "نحنُ كنّا" وليس في حاضرهم / سوى خيولٍ أصيلة (ص34).

وفي ص 72 يقول: ليس للسماءِ أن تقول/ والناس في "داحس والغبراء"…وليس لها ان تلهبَ الشموس/ فالجهالة شمسُ الحاقدين/ وليس لها ان تنثرَ الحروف/ فلغة الموت سلطانةُ القواميس.

لحواضر الشرق حضورها فيخصص قصيدة لكل من بغداد (ص53) الشام (ص76) وبيروت (ص81).

الحب له حضوره ففي قصيدة للصمتِ كل القصور، ينذر قصائده لاجلِ عينيها وينثر أبياته ويقول: لأجل عينيكِ/ نثرت أبياتي/ شقائق سفوح/ وشققتُ صدري/ عروقً الغدائر/ وبنيتُ للكلامِ كوخاً وللصمت كلُّ القصور( ص48).

وفي قصيدة الى أمّي يصارح أمه بأنه لم يبلغ سن الفطام مقدراً دور سلطانة الحنان في حياته  ويقول: لن يكبر الطفل يا أمي ويرسم لها الشروق قبلتين ويسألها ان تدعه العودة والركوع والصلاة في هيكل أسرارها ويختم القصيدة بالطلب منها: دعيني أغمرك..كي أعيش‼(ص52).

يحتفي أنطوان القزي بنصر تموز عام2006  بقصيدة بعنوان" شموس تموز" (ص97) ويقول: رصدوا ظلالهم مواقيتّ الصلاة/ دروب عاملية تغربلُ الأبطال/ ترفل رذاذّ الأحداق/ تلملمُ متون الليل/ على سطوح عيترون… وردي المناديل/ عن وجوه تهزم الشموس/ وعيون تؤرق الأقباس/ قومي ننازل الذئاب/ نربك الأزمنة السوداء/ نسطر الامجادَ… وينشرُ تموزُ شموس الجنوب/ فوق سطوحٍ سافرة/ ليذوب.. صقيعُ هذا العالم.

أخيراً، نترك للقارئ أن يسبر صفحات الكتاب حتى يلمس بنفسه كم هو غني بما قد يتشارك كل منا مع الكاتب بأحداثه والمحطات التي توقف فيها لانه من الصعب تلخيص الديوان "رذاذ صيفي" ولا يمكن أن يأخذ حقه الا بالقراءة.

***

عباس علي مراد - أستراليا

لقد سارت حركة الأدب في العراق ببطئ قبل الحرب الأخيرة فقد كانت الناس مشغولة بهموم المأكل والملبس أيام الحصار، ولم يمنع ذلك من وجود نتاجات ادبية في تلك الحقبة وأن كانت قليلة، وتركز الأدب في الوقت الماضي على الشعر ولعل السبب في ذلك هو السيطرة السياسية في ذلك الحين و تقييد حركة الرواية واختيار موضوعاتها فقد تركزت موضوعاتها على الحروب ونقل ما يجري في المعارك هو محور موضوعات الروايات آنذاك وبالتأكيد لم تخلو من روايات اجتماعية ورومنسية لكن بشكل أقل من تلك التي لا تخلو من الحروب. ومن ابرز الكُتاب في تلك الفترة هم فؤاد التكرلي وعبد الخالق الركابي وعالية ممدوح و بختيار علي وميسلون هادي وغيرهم، وبعد عام 2003 ظهرت الرواية بشكل آخر مختلف بعض الاختلاف لكن فيه تحيز للحروب والثورات أيضاً وهذا امر لابد منه بسبب الوضع الراهن في تلك الفترة وبعد الاستقرار النسبي الذي شهده العراق بدأت الرواية تنفتح على العالم أكثر وبرزت اسماء كثيرة في كتابة الرواية وبمواضيع مختلفة منها الاجتماعي والرومنسي والرعب والفنتازيا ... الخ، واصبحت الساحة تزخر بالأعمال الادبية وهناك مساحات كثيرة لاختيار موضوعاتها وكذلك ظهر ما يعرف بأدب المغترب فقد نزح الكثير من المثقفين والكُتاب والادباء إلى خارج البلاد في فترة حرب 2003 وظهور الطائفية والحروب الاهلية في تلك الفترة، وسمحت هذه الفترة بظهور اقلام تكتب بجرأة وبدون خوف للوقوف على المشاكل وحلها فكانت الرواية العراقية تتصدر المشهد العربي والعالمي حيث بدأ الكثير من الروائيين بترجمة اعمالهم إلى لغات مختلفة، اما ما احدثه التطور التكنولوجي على الرواية فقد كان كبيرا جداً من خلال نشر النتاجات الادبية بطريقة أكثر سهولة وفي أي بلد من بقاع العالم، فوجود المواقع الالكترونية ساهم في النشر والاعلان عن وجود ادباء بمختلف المجالات وليس فقط الرواية للتعرف على اعمالهم وتذوق كلماتهم وتعابيرهم الشيقة، الرواية هي مرآة المجتمع في كل عصر فهي تنقل التراث والفكر وتسجل تاريخ الاحداث وتستقرأ المستقبل من خلال سطر الكاتب لأفكاره على ورق أبيض ناصع فيقرأها المتشوق للفن العريق..

***

سراب سعدي

في المثقف اليوم